Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 50

‫الفصل التمهيدي‪ :‬التعريف بالشاعر والديوان‬

‫المبحث األول‪ :‬حياة الشاعر محمود شريف‪.‬‬


‫المطلب األول‪ :‬مولده ونشأته‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬حياته ال ِعلمية وال َعملية‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬تجربته األدبية وبيئته وعصره‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التعريف بديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬تسميه‪:‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬قصائده‪:‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬موضوعاته وأغراضه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الفصل التمهيدي‪ :‬التعريف بالشاعر والديوان‪:‬‬
‫إن التطرق لحياة الشاعر‪ ،‬وتتبع مراحل نشأته هو بحث في تاريخ األدب‪ ،‬لكنه مؤثر بشكل‬
‫كبير على نتاجه األدبي‪ ،‬فمن خالل تتبع نشأته‪ ،‬والتعرف على بيئته‪ ،‬واإلحاطة بمحيطه‬
‫نخلُص إلى تحليل نصوصه الشعرية‪ ،‬بل ونعلل لكل ظاهرة في شعره‪ ،‬لذا‪ ،‬كان البد من‬
‫الوقوف على حياة محمود شريف لمعرفة مدى تأثير البيئة التي عاش فيها على شعره‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬حياة الشاعر محمود شريف‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬مولده ونشأته‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مولده وحياته االجتماعية‪:‬‬

‫الشاعر هو محمود شريف محمد نور‪ ،‬شاعر تشادي الجنسية‪ ،‬من قبيلة القرعان‪،‬‬
‫وينتمي إلى فرع الكريدا‪ ،‬من بطن يوردا من عشيرة النجوم‪ ،‬ووالدته فاطمة عبد الرحمن‬
‫عيسى‪ ،‬وهي ابنة عم والده‪.‬‬

‫ولد محمود شريف يوم الخميس‪ 71 1‬أبريل ‪7891‬م‪ ،‬بمدينة جدة‪ ،‬بالمملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬وله عشرة إخوة‪ ،‬أربعة بنين‪ ،‬وست بنات‪ ،‬وهو الثالث في ترتيب إخوته‪.‬‬

‫الشاعر محمود شريف متزوج وأب لطفلين (معاوية وشريف)‪.2‬‬

‫ثانيا‪ :‬نشأته‪:‬‬

‫نشأ محمود حيث ولد‪ ،‬في مدينة جدة‪ ،‬حيث عاش طفولته هناك‪ ،‬وكان لألسرة دورها‬
‫الكبير في الدفع به في المسار األكاديمي‪ ،‬وتنمية مواهبه‪ ،‬ثم عادت األسرة إلى تشاد حيث‬
‫استقرت بالعاصمة أنجمينا‪.3‬‬

‫ثالثا‪ :‬أخالقه‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫بشارة‪ ،‬يوسف عبدالرحمن‪ ،‬االتجاهات الشعرية عند محمود شريف‪ ،‬من خالل ديوانه "ظالل القوافي"‪ ،‬بحث أعد لنيل درجة دبلوم الدراسات‬
‫المعمقة في األدب والنقد‪ ،‬جامعة الملك فيصل‪ ،‬كلية الدراسات العليا‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬جمهورية تشاد‪/‬أنجمينا‪ ،‬العام الجامعي ‪1121-1122‬م‪،‬‬
‫ص‪.1‬‬
‫‪2‬‬
‫سيرة ذاتية للشاعر بخط يده ص‪.2‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.2‬‬

‫‪2‬‬
‫محمود شريف شاب دمث األخالق‪ ،‬طيب الطباع‪ ،‬هادئ سكوت ال يتكلم فيما ال يعنيه‪،‬‬
‫يحترمه كل من حوله‪ ،‬غزير العلم إن تحدث أقنع‪ ،‬ملم باللغة والتاريخ‪ ،‬يعتبر قدوة للكثير من‬
‫الشباب الناشئين المحيطين به‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬مهاراته وهواياته‪:‬‬

‫‪-1‬مهاراته‪:‬‬
‫أ‪ -‬البرمجيات‪:‬‬

‫‪ -‬برنامج وورد‪ :‬ممتاز‬

‫‪ -‬برنامج إكسل‪ :‬متوسط‪.‬‬

‫ب‪ -‬اللغات‪:‬‬

‫‪ -‬اللغة العربية‪ :‬ممتاز‬

‫‪ -‬الفرنسية‪ :‬مبتدئ‪.‬‬

‫‪ -‬اإلنجليزية‪ :‬مبتدئ‪.‬‬

‫‪ -‬التركية‪ :‬مبتدئ‪.1‬‬

‫‪ -2‬هواياته‪:‬‬

‫يهوى محمود شريف –إلى جانب القراءة والكتابة‪ -‬لعب كرة القدم ومشاهدتها‪ ،‬واللعب‬
‫باأللعاب اإللكترونية‪ ،‬كما يحب رسم شخوص الرسوم المتحركة‪ ,2‬والذي نبع حتما من‬
‫مشاهدته للرسوم المتحركة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪2‬‬
‫مراسلة إلكترونية مع الشاعر‪ ،‬عبر تطبيق واتساب‪ 11 ،‬أغسطس ‪1112‬م‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫العملية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المطلب الثاني‪ :‬حياته العلمية و َ‬
‫أوال‪ :‬حياته ِ‬
‫العلمية‪:‬‬

‫‪-1‬تعليمه الديني‪:‬‬
‫بدأ محمود شريف تعليمه بالقرآن الكريم‪ ،‬تعلم القرآن بحلقة أنس بن مالك بمدينة جدة‬
‫على يد المقرئ الشيخ محمد جمال وهو سوري الجنسية‪ ،‬بمسجد أنس بن مالك رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬وكان ذلك عام ‪2991‬م‪ ،1‬وق أر عليه من سورة الفاتحة إلى سورة النمل‪ ،‬وبعد السفر‬
‫إلى تشاد في أواخر ‪7889‬م أكمله على يد الشيخ سليمان محمد بن محمد بشارة في حارة‬
‫وجي بالعاصمة التشادية أنجمينا‪.2‬‬
‫ُق ّ‬

‫والتحق أيضا بدروس الشيخ يحيى خليل بمسجد معاذ بن جبل‪ ،‬ودرس على الشيخ آدم‬
‫محمد علي في حلقته بمسجد أسامة بن زيد‪ ،‬وواظب على درس الشيخ عبد هللا محمد زين‬
‫ثال ث سنوات‪ ،‬كما درس على الدكتور شريف علي جبريل‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن بن يوس‬
‫الرحمة‪ ،‬والشيخ صالح هارون أبكر‪ ،‬وغيرهم من المشايخ‪ ،‬وتنوعت الدروس بين العلوم‬
‫الشرعية‪ ،‬ودورس اللغة العربية‪.3‬‬

‫‪ -2‬تعليمه األكاديمي‪:‬‬
‫في عام ‪7881‬م التحق بالتعليم األكاديمي وبعد المعاينة ُ‬
‫س ّجل في الصف الثاني‬
‫االبتدائي ‪ ،‬لمعرفته المسبقة لقواعد القراءة والكتابة األولية‪.4‬‬
‫ولم يزل في هذه المدرسة حتى الصف الرابع االبتدائي‪ ،‬وفي عام ‪2991‬م سافرت‬
‫العائلة إلى تشاد‪ ،‬فلم يستقر به المقام حتى انتسب إلى المركز اإلسالمي الكويتي والذي ُ‬
‫غير‬
‫اسمه فيما بعد إلى المركز الكويتي‪ ،‬وحينما تقدم للتسجيل قُ ِبل في الصف الثالث االبتدائي‬
‫رغم أنه يحمل شهادة الصف الرابع االبتدائي‪ ،‬وزال عجبه حينما علم أن القسم االبتدائي‬
‫بالمركز الكويتي افتتح مؤخرا‪ ،‬ولم تكتمل فصوله الستة بعد‪ ،‬وواصل الدراسة النظامية في‬
‫‪1‬‬
‫االتجاهات الشعرية عند محمود شريف‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫‪2‬‬
‫سيرة ذاتية للشاعر‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫‪4‬‬
‫االتجاهات الشعرية عند محمود شريف‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.1‬‬

‫‪4‬‬
‫هذه المرحلة حتى نال شهادتها االبتدائية عام ‪1111‬م‪ ،‬وتعد دفعته هي األولى للقسم‬
‫االبتدائي لهذه المرحلة ومن الطريف أنه درس الصف الخامس والسادس معا ً في عام واحد‬
‫يحضر هذا مرة وهذا مرة‪ ،‬وبعد ذلك واصل دراسته بالقسم اإلعدادي بالمركز ‪ ،‬وامتحن‬
‫الشهادة اإلعدادية‪ ،1‬وحصل على شهاداته على النحو التالي‪:‬‬

‫‪ -‬االبتدائية‪ :‬ثانوية المركز الكويتي عام ‪2000‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلعدادية‪ :‬ثانوية المركز الكويتي عام‪ 2004‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الثانوية‪ :‬ثانوية الملك فيصل عام ‪2005‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الجامعية‪ :‬جامعة الملك فيصل بتشاد‪ ،‬كلية الشارقة للعلوم التربوية – قسم التاريخ‬
‫والجغرافيا‪ ،‬عام‪ 2009‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الماجستير‪ :‬جامعة الملك فيصل بتشاد‪ ،‬كلية الدراسات العليا – قسم التاريخ والحضارة عام‬
‫‪2011‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الدكتوراه‪ :‬جامعة الزعيم األزهري – كلية التربية – قسم التاريخ‪ ،‬الخرطوم‪ /‬السودان عام‬
‫‪2171‬م‪.2‬‬

‫العملية‪:‬‬
‫ثانيا‪ :‬حياته َ‬
‫عمل الشاعر خطيبا ً بمسجد أنس بن مالك بحي قوز التور منذ عام ‪1111‬م وحتى ‪1122‬م‪.‬‬

‫‪ -‬وفي عام ‪1122‬م عمل معلما ً متعاونا ً بمدرسة زيد بن ثابت التابعة لجماعة أنصار السنة‬
‫المحمدية بتشاد بحي دقيل رياض‪ 3‬حتى عام ‪2172‬م‪.4‬‬

‫‪ -‬محاضر جامعي لمواد‪( :‬تاريخ األمم القديمة)‪ ،‬و(الحضارة اإلسالمية)‪ ،‬و(الحركات‬


‫اإلصالحية في العالم اإلسالمي)‪ ،‬بجامعة الملك فيصل بتشاد‪ ،‬كلية الدراسات العليا (متعاون‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫‪2‬‬
‫سيرة ذاتية للشاعر‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫‪3‬‬
‫االتجاهات الشعرية عند محمود شريف‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪4‬‬
‫سيرة ذاتية للشاعر‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.1‬‬

‫‪5‬‬
‫منذ ‪ 2121 -2171‬م)‪ ،‬وتم تحويله عبر الوظيفة العامة إلى المعهد العالي بأبشة قسم‬
‫التاريخ ‪2122‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مدرس مواد التربية اإلسالمية بثانوية المركز الكويتي ‪2171 /2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مدرس األدب والنصوص والعروض والتاريخ بثانوية المجد منذ ‪2171‬م حتى ‪2122‬م‪،‬‬
‫بسبب انتقاله للتدريس بأبشة‪.1‬‬ ‫وتوق‬

‫ثالثا‪ :‬حياته الثقافية‪:‬‬

‫للشاعر اهتمام كبير باألنشطة الثقافية‪ ،‬حيث كان عضوا في العديد من المؤسسات الثقافية‪:‬‬

‫‪ -‬عضو تأسيسي للرابطة األدبية للجيل الجديد ‪2111‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مسئول أمانة الثقافة والتعليم بمنظمة النهضة الشبابية التشادية ‪2178 – 2172‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مسؤول أمانة التعليم بمنظمة النهضة الشبابية التشادية ‪2178‬م وحتى اليوم‪.‬‬

‫‪ -‬مسؤول أمانة اإلعالم والثقافة بجمعية تطوير التعليم في تشاد عام ‪2172‬م‪.‬‬

‫‪ -‬رئيس تحرير صحيفة الشروق ‪2171 - 2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مسؤول اللجنة الثقافية لحملة اق أر الموسم الثالث ‪2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬عضو المكتب التنفيذي لمجمع اللغة العربية بتشاد منذ تأسيسه حتى اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬رئيس اللجنة العلمية للملتقى الدولي للمنظمات الشبابية لدول وسط إفريقيا ‪2179‬م‪.‬‬

‫‪ -‬رئيس اللجنة العلمية لمؤتمر النهضة الرابع ‪2178‬م‪.‬‬

‫‪ -‬عضو تأسيسي ورئيس صالون عيسى عبد هللا األدبي ‪2178 – 2172‬م‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.2‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -‬عضو اللجنة العلمية للمؤتمر الدولي األول لمجمع اللغة العربية بتشاد ‪2121‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مقدم دورات في الكتابة اإلبداعية والتقنيات الشعرية‪.1‬‬

‫مشاركاته الثقافية‪:‬‬

‫‪ -‬ملتقى شباب وسط إفريقيا الدولي أنجمينا ‪2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬منتدى نبضات األدبي الخرطوم ‪2172‬م‪.‬‬

‫‪ -‬ملتقى بحر الغزال الشبابي الرابع مسورو ‪2172‬م‪.‬‬

‫‪ -‬ملتقى النهضة األول‪ ،‬تحت شعار‪ " :‬تطوير أداء المؤسسات"‪ .‬أنجمينا ‪2172‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الندوة الدولية التي نظمتها جامعة الملك فيصل بتشاد تحت عنوان‪ " :‬األدب في إفريقيا‬
‫الماضي والحاضر والمستقبل"‪ ،‬أنجمينا ‪2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الملتقى اإلعالمي األول‪ ،‬نظمته رابطة الصحفيين التشاديين بالتعاون مع وكالة تيكا‬
‫التركية‪ ،‬أنجمينا ‪2171‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الدورة التمهيدية األولى لخبراء بيت المقدس‪ ،‬تونس ‪2179‬م‪.‬‬

‫‪ -‬المؤتمر الدولي الذي نظمته جامعة الملك فيصل بتشاد بالتعاون مع مركز األبحاث‬
‫للتاريخ والفنون والثقافة اإلسالمية بتركيا (‪ ،)IRCICA‬أنجمينا ‪2178‬م‪.‬‬

‫‪ -‬المؤتمر الدولي األول لمجمع اللغة العربية بتشاد تحت عنوان " التعريب في تشاد‪:‬‬
‫الوسائل ـ اإلشكاالت ـ الحلول"‪ ،‬أنجمينا ‪2121‬م‪.‬‬

‫‪ -‬ورشة تدريبية نظمها المركز التشادي للتمكين المدني تحت عنوان " قواعد نمو المنظمات‬
‫والجمعيات المدنية"‪ ،‬أنجمينا ‪2127‬م‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.4 ،2‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ -‬الجوائز التي حصل عليها‪:‬‬

‫‪ -‬حائز على الترتيب الثاني في المسابقة الشعرية بجامعة الملك فيصل بتشاد ‪2111‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حائز على جائزة إبراهيم الكانمي للشعر ‪2118‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حائز على جائزة ولقب شاعر الجامعة –جامعة الملك فيصل‪2171 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حائز على الترتيب الثالث في مسابقة اإلمام مهدي فضله (فرع الشعر) ‪2172‬م‪.1‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬تجربته األدبية وبيئته وعصره‪.‬‬

‫أوال‪ :‬تجربته األدبية‪:‬‬

‫‪ -1‬الشعر‪:‬‬

‫يقول الشاعر عن نفسه‪" :‬تعود بداياتي الشعرية إلى العام الدراسي ‪2112 /2112‬م‪ ،‬حيث‬
‫قررت اقتحام عوالم الشعر والكتابة الشعرية‪ ،‬وكان للبيئة الثقافية‪ 2‬التي هيأتها مدرسة المركز‬
‫اإلسالمي الكويتي في تلك الفترة دورها الكبير في التجرؤ على محاولة كتابة الشعر واالنتظام‬
‫في سلكها‪.‬‬

‫وكان اهتمامي بالشعر العربي الكالسيكي (العصر الجاهلي‪ ،‬واألموي‪ ،‬والعصر العباسي‪،‬‬
‫واألندلسي)‪ ،‬ولم يكن لي اهتمام بالشعر الحداثي إال في فترة متأخرة‪ ،‬وكان تأثري بالمتنبي‬
‫كشاعر‪ ،‬وبالبعث واإلحياء كمدرسة يقودها البارودي وحافظ وشوقي ومن ساروا على‬
‫نهجهم فيما بعد‪ ،‬وهذا ال يعني أني أهملت بقية رموز الشعر العربي المعاصر كالشاعر‬
‫البردوني‪ ،‬ودرويش‪ ،‬ونزار قباني‪ ،‬والفيتوري‪ ،‬وكان لبرنامج أمير الشعراء الذي يبث من‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫‪2‬‬
‫المطارحات الشعرية التي تحرص المدرسة على عقدها في كل مناسبة ثقافية آنذاك‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أبو ظبي أكبر األثر في االستمرار في هذا المجال‪ ،‬وكان ومازال يمثل الوقود والمحفز‬
‫لمواصلة السير"‪.1‬‬

‫ومع اإلمعان في دراسة األشعار عزم في يوم من األيام على كتابة الشعر‪ ،‬وكان‬
‫ذلك عام ‪2112‬م‪ ،‬وبالفعل خاض عدة تجارب شعرية كانت نهايتها الفشل‪ ،‬إذ أنها لم‬
‫تكن ناضجة طبعاً ‪ ،‬وجاءت أبياتها كلها ضعيفة التراكيب‪ ،‬قلقة القوافي‪ ،‬ركيكة‬
‫األساليب‪ ،‬نافرة الكلمات‪ ،‬غير موزونة‪ ،‬وكان شاعرنا الممثل المفضل لفصله ومجموعته‬
‫في كل المنافسات الشعرية بفضل ما يحفظه من أشعار وقصائد‪ ،‬وكان النصر حليفه في‬
‫أغلب هذه المسابقات إن لم تكن كلها‪ ،‬وبحكم هذه الظروف رأى ضرورة دراسة علم‬
‫العروض‪ ،‬وفهم قوانينه‪ ،‬وكيفية تطبيق بحوره‪ ،‬وأخذ في قراءة كتب العروض والقوافي‪،‬‬
‫وأمضى فيها شهو اًر عدة‪ ،‬وكانت النتيجة أن تمكن بما فهم من العروض‪ ،‬قرض قصيدة‬
‫في رثاء الشهيد الفلسطيني ‪ /‬أحمد ياسين‪ ،‬وهي على البحر الوافر ‪ -‬همزية القافية‪ ،‬ومن‬
‫نعم هللا عليه‪ ،‬أنه لم يدرس العروض على أحد‪ ،‬ولم يتلقه عن معلم‪ ،‬وإنما تعلمه بجهده‬
‫الشخصي ‪.‬‬

‫‪-2‬النثر‪:‬‬
‫يقول محمود شريف‪" :‬يعتبر اهتمامي بالنثر الفني تاليا للشعر‪ ،‬وكنت أق أر وأستمتع‬
‫أنواعها دون التفكير في الدخول في تجربة أو‬ ‫بالقصص القصيرة والروايات بمختل‬
‫محاولة ذلك‪ ،‬فما زلت أرى أني أعطي في الشعر ما ال أستطيع في النثر‪ ،‬ولكن لدي‬
‫بعض الموضوعات التي ال يمكن معالجتها شعريا لما تحتاجه من تفصيل وإسهاب‪،‬‬
‫ولعلي في قادم األعوام أعود إلى النثر عودة مضطر ثم أرجع إلى وكري الشعري‬
‫ثانية‪ ،‬وال أنفصل عنه إال إذا كان ال يتسع لبعض القضايا التي أروم معالجتها‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪2‬‬
‫سيرة ذاتية للشاعر‪ ،‬ص‪.5‬‬

‫‪9‬‬
‫كما للشاعر مقاالت أدبية في جريدة أنجمينا الجديدة‪ ،‬وأخرى عبر صفحته على‬
‫منصة فيسبوك‪.‬‬
‫‪-3‬إنتاجه األدبي‪:‬‬
‫للشاعر أعمال أدبية شع ار ونثرا‪ ،‬ما بين مخطوط ومطبوع‪:‬‬

‫(مشاركة في الندوة الدولية‬


‫َ‬ ‫‪ -‬النزعة الصوفية في الشعر العربي التشادي وإشكالية التطويع‬
‫التي نظمتها جامعة الملك فيصل بتشاد تحت عنوان‪" :‬األدب في إفريقيا الماضي والحاضر‬
‫والمستقبل"‪ ،‬أنجمينا‪/‬تشاد‪2171 ،‬م)‪( ،‬مطبوع مع أعمال المؤتمر)‪.‬‬

‫‪ -‬ترميم سيرة الشاعر إبراهيم الكانمي (مخطوط)‪ ،‬هو كتاب سيرة ذاتية‪.‬‬

‫‪ -‬وجوه ال تعكسها المرايا (ديوان شعر)‪( ،‬مطبوع)‪.1‬‬

‫‪ -‬عمود بجريدة أنجمينا الجديدة يحمل عنوان‪( :‬إضاءات تاريخية)‪ ،‬عام ‪2121‬م‪ ،‬يتحدث‬
‫فيه عن سيرة الشاعر إبراهيم الكانمي‪.2‬‬

‫ثانيا‪ :‬بيئته‪:‬‬
‫عاش الشاعر سنوات طفولته األولى ‪-‬الثلث األول من عمره حتى اآلن‪ -‬في المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬ونشأ في بيئة دينية محافظة‪ ،‬حتى تعليمه بدأه بحفظ القرآن الكريم‪ ،‬كما نشأ في‬
‫أسرة محافظة مهتمة بالتعليم على الصعيدين الديني واألكاديمي‪ ،‬وحتى حين انتقال أسرته‬
‫إلى تشاد لم تختلف البيئة العلمية كثيرا‪ ،‬حيث واصل االلتصاق بالبيئة الدينية‪ ،‬واألكاديمية‪،‬‬
‫كما أنه التحق بأفضل المدارس آنذاك‪ ،‬ونشأ محاطا بمشايخ الدين حتى اآلن‪ ،‬وقد عمل‬
‫خطيبا‪ ،‬ما يجعلنا نخلص إلى أن الشاعر نشأ في بيئة دينية محافظة‪.‬‬
‫أما عن محيطه الثقافي‪ ،‬فكما أسلفنا الذكر كان مهتما جدا باألنشطة الثقافية‪ ،‬ومشاركا‬
‫في الكثير منها منذ التحاقه بالمدرسة إلى حصوله على الدكتوراه‪ ،‬أي طيلة مسيرته‬
‫الدراسية‪ ،‬وحتى بعد أن عمل وصار معلما والتزم بوظيفة لم يبتعد عن األنشطة الثقافية‪ ،‬كما‬
‫أنه قارئ نهم في الثقافة العامة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واألدب واللغة‪ ،‬وعلوم أخرى؛ ما ساهم في إثراء‬
‫ذهنه بالمعارف‪ ،‬والمتصفح لشعر شريف يلتمس فيه تلك المعرفة فضال على المتمعن‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫‪2‬‬
‫مراسلة إلكترونية عبر تطبيق واتساب مع الشاعر‪ 11 ،‬سبتمبر ‪1112‬م‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ثالثا‪ :‬عصره‪:‬‬
‫تتناول هذه الدراسة شخصية نعاصرها اآلن‪ ،‬وبحسب قول األديب سامي كيالي‪:1‬‬
‫"حين نقول األدب المعاصر نريد أدب العصر الذي نعيش في خضمه‪ ،‬ونحيا في‬
‫ظالله‪ ،‬ونستمتع بروائعه‪ ،‬ونرى أنفسنا في كلماته‪ ،‬في شعره‪ ،‬ونثره‪ ،‬وفي قصصه‬
‫وحكاياته"‪.2‬‬
‫تتكون مرحلة المعاصرة –في تشاد‪ -‬أساسا من الشعراء الذين ولدوا أثناء الحرب‬
‫العالمية الثانية أو بعدها بقليل‪ ،‬وبدأ نتاجهم في الظهور منذ أوائل الستينات وما بعدها‪،‬‬
‫كما يقول الدكتور عبدهللا حمدنا هللا‪.3‬‬
‫فهذه المرحلة وثيقة الصلة بمرحلة االنتباهة الثانية التي سبقتها إذ أن أثر تلك المرحلة‬
‫مازال باقياً‪ ،‬وهو المعهد العلمي بأبشة‪ ،‬كما أن تواريخ ميالد شعراء المرحلتين ال‬
‫يتفاوت كثيرا ً وإن اختلفت فيما بينها فهم في الجملة تواكبوا وتزاملوا في الدراسة‪ ،‬وإن‬
‫سبق بعضهم بعضا ً بمسافات قصيرة‪ ،‬وبذلك يمكن تقسيمهم إلى فئتين حسب ظهور‬
‫نتاجهم‪ ،‬فبعضهم ظهر نتاجه منذ السبعينيات من القرن العشرين أمثال حسين إبراهيم‬
‫أبي الذهب وعباس محمد عبد الواحد ومحمد جرمة خاطر‪ ،‬وعلي أحمد طه وعلي آدم‬
‫بحر‪ ،‬وعيسى عبد هللا‪ ،‬وبعضهم ولد بعد الستينيات وبدأ نتاجه منذ الثمانينات وما بعدها‬
‫أمثال محمد عمر الفال وعبد القادر محمد أبه‪ ،‬وحسب هللا مهدي فضله‪ ،‬وأحمد عبد‬
‫الرحمن إسماعيل وعبد الواحد حسن السنوسي وموسي حسن شاري وغيرهم‪.4‬‬
‫ولعل كلمة غيرهم التي أوردها الدكتور حامد هارون في كتابه‪ :‬الشعر العربي المعاصر‬
‫في تشاد؛ تشمل الشاعر محمود شريف‪ ،‬إذ تنطبق عليه مواصفات هذه الفئة األخيرة إال‬
‫أنه يصغرهم قليال في العمر‪ ،‬كما أن نضجهم الشعري عاصر بداياته الشعرية‪.‬‬
‫وجميعهم ينقسمون من حيث قوة التأثير الفكري واألدبي‪ ،‬إلى ثالث فئات‪ ،‬تمثل الفئة‬
‫األولى مدرسة المحافظين‪ ،‬وتمثل الفئة الثانية مدرسة المجددين‪ ،‬وفئة ثالثة تمثل‬
‫الخضرمة بين المحافظة والتجديد‪.5‬‬
‫أما من حيث تقسيم مرحلة المعاصرة إلى فئتين‪ ،‬فالبد أن محمود شريف ال ينفك عن‬
‫رواد الفئة الثانية‪ ،‬كما أنه ال ينتمي إليها كليا‪ ،‬هو‪ ،‬والكثير من أقرانه الشعراء الشباب‬

‫‪1‬‬
‫سامي كيالي هو أديب سوري‪ ،‬وباحث عربي‪ ،‬رفد المكتبة العربية بعشرات الكتب‪ ،‬ومئات المقاالت األدبية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والتاريخية‪ /‬متصفح‬
‫ويكيبيديا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫كيالي‪ ،‬سامي‪ ،‬من األدب المعاصر‪ ،‬مطابع الحديث‪2951 ،‬م‪ ،‬حلب‪ /‬شارع بارون‪ ،‬ص‪.141‬‬
‫‪3‬‬
‫محمد‪ ،‬حامد هارون‪ ،‬الشعر العربي المعاصر في تشاد‪ ،‬اتجاهاته الموضوعية والفنية‪ ،‬دراسة – تحليل – نقد‪ ،‬ط‪ ،2‬الدار العالمية للنشر‬
‫والتوزيع‪1111 ،‬م‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.2‬‬

‫‪11‬‬
‫المزاحمون له في العمر والتجربة الشعرية‪ ،‬والذين أطلق عليهم الدكتور حامد هارون‬
‫هامش اسم‪( :‬المبدعون)‪.1‬‬
‫ونرى من خالل هذه التصنيفات أن مرحلة المعاصرة تنقسم إلى ثالثة أقسام‪ :‬الفئة‬
‫األولى‪ ،‬الفئة الثانية‪ ،‬فئة المبدعين‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التعريف بديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬تسميته‪:‬‬
‫ديوان وجوه ال تعكسها المرايا حمل عدة أسماء عندما كان مخطوطا‪ ،‬ومر بعدة‬
‫أطوار وتقلبات حتى رسى الشاعر على شاطئ الطباعة‪ ،‬فسماه بهذا االسم‪.‬‬
‫في أول جمع للقصائد قبل أكثر من خمسة عشر عاما حمل الديوان اسم مناهل الصفا‪ ،‬ثم‬
‫تمت تسميته بظالل القوافي قبل عشر سنوات‪ ،‬ثم حمل اسم كاهن الكلمات‪ ،‬وأخيرا‬
‫خلص الشاعر إلى تسميته بوجوه ال تعكسها المرايا‪.2‬‬
‫الوجوه التي ال تعكسها المرايا بحسب ما يقوله الشاعر‪ :‬هذا البلد الذي ال يستطيع أن‬
‫يظهر على شخصيته الحقيقية‪ ،‬رغم ما تنطوي عليه من إمكانيات وقدرات‪ ،‬وهذا الشعب‬
‫الذي لم يتمكن من أن ينعم بخيرات بلده والعيش منعما بها‪.3‬‬
‫يثب هذا القول لمن قرأ الديوان‪ ،‬فكل قصائده مرتبطة بشكل أو بآخر بالوطن‪،‬‬
‫الوصف منها والرثاء والغزل ما عدا قصيدة واحدة‪ ،‬فالشاعر عكس من خالل ديوانه‬
‫مالمح هذا الوطن فخرا ورثاء وغزال ووصفا‪ ،‬ولفظ المرآة تكرر أربع مرات في أربع‬
‫قصائد‪ ،‬ثالث منها متتالية‪ ،‬وهذا إصرار خفي من الشاعر أن هذه القصائد إنما هي‬
‫انعكاس لوجوه ومالمح خفية ال تعكسها المرايا‪.‬‬
‫ومن يعرف محمود شريف عن قرب‪ ،‬يرى أن هذه الوجوه كلها في داخله‪ ،‬فهذا الكم‬
‫الهائل من الكلمات القوية التي تنبيك عن ابن الصحراء والليل‪ ،‬والخائض غمار الحياة‪،‬‬
‫بل وابن البادية والطبيعة‪ ،‬ال تتوافق وشخصية محمود الهادئة‪ ،‬وكأنه حين يقف أمام‬
‫المرآة تعكس المرآة صورته الظاهرية فقط‪ ،‬أما هذه القصائد فهي تعكس وجوها ال‬
‫تتبدى للرآئي‪ ،‬وكأنك حين تسمع القصائد دون أن ترى محمود تتخيل شخصا حركيا‪،‬‬
‫وحين ترى الشاعر ترى شخصا وقورا هادئ الطبع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مقابلة مع الدكتور حامد هارون محمد‪ ،‬بمبنى كلية اللغة العربية‪ /‬استراحة األساتذة‪ ،‬بجامعة الملك فيصل‪ ،‬الثالثاء ‪ 11‬يونيو ‪1112‬م‪ ،‬الساعة‬
‫‪ 22:21‬صباحا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫لقاء مع الشاعر‪ 12 ،‬أغسطس ‪1112‬م‪ ،‬الساعة الخامسة مساء بمقر منظمة النهضة الشبابية التشادية‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫رسالة نصية من الشاعر عبر تطبيق واتساب الجمعة ‪ 11‬سبتمبر ‪1112‬م‪ ،‬الساعة ‪ 19:11‬صباحا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫إننا حينما ننظر بزاوية أخرى إلى مراحل تطور الديوان بالرجوع إلى المخطوطات‬
‫األولى منذ أقدم اسم حمله‪ ،‬وأقدم قصيدة فيه والتي كانت في ‪1115‬م؛ أي بعد عام من‬
‫البداية الشعرية للشاعر نرى أن عقدين من الزمان يذكراننا بشعراء الحوليات‪ ،‬فكأنما‬
‫الشاعر لم يكتب قصيدة حولية‪ ،‬بل ديوانا كامال في عشرين سنة‪ ،‬األمر الذي يتيح‬
‫للشاعر التنقية والتنقيح‪ ،‬وإذا كان اسم الديوان لوحده قد تغير أربع مرات‪ ،‬فما بالنا‬
‫بالقصائد‪ ،‬والتي قد تخضع ‪ -‬مع كل مخطوط ‪ -‬للتنقيح هي األخرى‪.‬‬
‫وهذا األمر يتذبذب بين السلبي واإليجابي في دراسة شاعر معاصر‪ ،‬ألن الشاعر‬
‫المعاصر ‪-‬خاصة صغير السن‪ -‬لم تكتمل لديه التجربة الشعرية بعد‪ ،‬فهو على قيد الحياة‬
‫وقابل للتعديل مرة أخرى‪ ،‬فما أدرانا لو قام الشاعر بتغيير جزء من هذا الديوان أو‬
‫حذف بعض من قصائده أو زيادتها الحقا كما حصل مع المخطوطات؟!‬
‫أما ما هو إيجابي في األمر هو أن أي دراسة للديوان في مرحلة تغييره تدفع الباحثين‬
‫الحقا لدراسة أسباب التغيير وتتبع مراحل التطور‪.‬‬
‫ومن هذا الباب يحث بعض النقاد ومتخصصي البحث العلمي إلى تناول الشخصيات‬
‫الراحلة‪ ،‬أو مكتملة التجربة‪ ،‬كي يتخلص البحث من الميوالت العاطفية‪ ،‬والمصالح‬
‫الشخصية‪ ،‬فربما قام باحث بتناول شخصية تملقا ولمصلحة ما‪ ،‬وكم من باحث مسلط‬
‫على شخصية ما فقام بالقذع فيها دون وجه حق فقط ليغيض عدوه‪ ،‬كما حصل بين العقاد‬
‫وأحمد شوقي‪ ،‬وكل هذه الميوالت تنتفي عند رحيل الشخصية‪ ،‬ويصبح الباحث بعدها‬
‫محايدا موضوعيا في بحثه‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬قصائده‪:‬‬
‫كان الديوان في نسخه المخطوطة يحتوي على عدد كبير من القصائد‪ ،‬وآخر‬
‫مخطوطة له –كاهن الكلمات‪ -‬قد احتوت على أربعين قصيدة إال أن الشاعر عندما قرر‬
‫طباعة الديوان اصطفى بعض القصائد لوجوه ال تعكسها المرايا‪ ،‬واحتفظ بالبقية‬
‫إلصدارها في ديوان أو دواوين أخرى‪.1‬‬
‫هذه الطبعة صدرت عن‪)....‬‬
‫احتوى الديوان تسعة عشر قصيدة‪ ،‬كلها عمودية ما عدا قصيدة واحدة‪ ،‬وهي ليست‬
‫بقصائد طوال‪ ،‬بل غلب على الديوان قصائد دون العشرين بيتا‪ ،‬والجدول التالي يبين‬
‫عناوين هذه القصائد وبعض بياناتها من حيث عدد األبيات والكلمات ونوع القصيدة‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫نوع القصيدة‬ ‫عدد الكلمات‬ ‫عدد األبيات‬ ‫عنوان القصيدة‬

‫عمودية‬ ‫‪213‬‬ ‫‪12‬‬ ‫برقيات شاعر مغمور‬

‫عمودية‬ ‫‪172‬‬ ‫‪29‬‬ ‫عشرون سنبلة‬

‫إلى‬ ‫اشتعاالت (رحلة‬


‫عمودية‬ ‫‪132‬‬ ‫‪22‬‬
‫بورت سودان)‬

‫عمودية‬ ‫‪47‬‬ ‫‪4‬‬ ‫يوميات متكررة (‪)01‬‬

‫لم يحن بعد‬


‫عمودية‬ ‫‪161‬‬ ‫‪21‬‬ ‫(آدم عبدهللا يوم قال للحياة‪:‬‬
‫كفى)‬

‫مرسلة‬ ‫‪225‬‬ ‫‪ 12‬مقطعا‬ ‫غائب آن له أن يعود‬

‫عمودية‬ ‫‪191‬‬ ‫‪29‬‬ ‫غربة قلم‬

‫عمودية‬ ‫‪40‬‬ ‫‪5‬‬ ‫يوميات متكررة (‪)02‬‬

‫عمودية‬ ‫‪153‬‬ ‫‪29‬‬ ‫عودة الكانمي‬

‫عمودية‬ ‫‪174‬‬ ‫‪21‬‬ ‫أنا والشعر‬

‫عمودية‬ ‫‪80‬‬ ‫‪9‬‬ ‫أحاديث الطفولة‬

‫عمودية‬ ‫‪49‬‬ ‫‪5‬‬ ‫يوميات متكررة (‪)03‬‬

‫عمودية‬ ‫‪147‬‬ ‫‪21‬‬ ‫بقية نصل‬

‫عمودية‬ ‫‪169‬‬ ‫‪19‬‬ ‫أبجديات األرض‬

‫مرآة‬ ‫على‬ ‫انعكاسات‬


‫عمودية‬ ‫‪183‬‬ ‫‪21‬‬
‫الماضي‬

‫عمودية‬ ‫‪529‬‬ ‫‪59‬‬ ‫ذكرى المحرقة‬

‫عمودية‬ ‫‪70‬‬ ‫‪7‬‬ ‫يوميات متكررة (‪)04‬‬

‫‪14‬‬
‫عمودية‬ ‫‪233‬‬ ‫‪27‬‬ ‫معلقة ثامنة‬

‫سيرة أخرى لشاعر‬


‫عمودية‬ ‫‪247‬‬ ‫‪24‬‬ ‫الصحراء عبدالواحد حسن‬
‫السنوسي‬

‫‪ 21‬عمودية‬ ‫‪21125‬‬ ‫‪ 221‬بيتا ‪+‬‬


‫وواحدة‬ ‫‪ 19‬قصيدة‬
‫كلمة‬ ‫‪ 12‬مقطعا‬
‫مرسلة‬
‫جدول رقم (‪ ،)12‬أسماء القصائد وعدد أبياتها وعدد كلماتها وأنواعها‪.1‬‬

‫من خالل هذا الجدول وهذا اإلحصاء نقف على تقييم الديوان من حيث الحجم‪ ،‬فهو ديوان‬
‫صغير الحجم‪ ،‬وقصائده قليلة‪ ،‬وكلماته قليلة أيضا مقارنة بكثير من الدواوين الشعرية‬
‫الوطنية والعربية األخرى‪ ،‬فمن خالل عدد األبيات القليل نرى مدى قدرة الشاعر على‬
‫مناقشة قضية ما بقليل من األبيات‪ ،‬وقدرته على تكييف الصور البالغة في اإليجاز‬
‫والشمول‪.‬‬
‫كما أننا نقف من خالل معرفة عدد كلمات كل قصيدة على ضيق وسعة قاموس‬
‫الشاعر‪ ،‬والتعرف على الحالة النفسية للشاعر من خالل تكرراه لكلمات بعينها‪،‬‬
‫ومعرفة إذا ما كان تكراره للكلمات هو تكرار بسبب ضيق قاموسه اللغوي‪ ،‬أم تكرار‬
‫بسبب تأثر ما‪ ،‬أو نتيجة حالة نفسية معينة‪ ،‬أو إصرار الشاعر على إيصال فكرته بهذا‬
‫التكرار‪ ،‬فمن غير العادي مثال أن يكرر الشاعر ذكر كلمة معينة لخمس مرات خالل‬
‫قصيدة لم تصل للعشرين بيتا وببحر قصير‪.‬‬
‫لذا كان البد من اإلحاطة بكل هذه اإلحصاءات لمعرفة مدى تأثيرها في الفصول‬
‫القادمة‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬موضوعاته وأغراضه‪:‬‬
‫الغرض في الشعر هو الموضوع‪ ،‬وقد اعتادت القصيدة العربية القديمة منذ العصر‬
‫الجاهلي على االنتقال بين الموضوعات المتعددة داخل القصيدة الواحدة فيما يشبه التقليد‬
‫األدبي الصارم‪ ،‬حيث كانت القصيدة الجاهلية تبدأ بالوقوف على األطالل‪ ،‬ثم تنتقل إلى‬
‫موضوعات أخرى هامشية مثل وصف الرحلة‪ ،‬والصيد‪ ،‬والنسيب‪ ،‬قبل االنتقال للغرض‬
‫الرئيسي من القصيدة‪ ،‬مما جعل أنصار التجديد الشعرى يتهمون القصيدة الكالسيكية‬

‫تمت عملية اإلحصاء من ديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪ ،‬محمود شريف‪ ،‬دار موسو للطباعة والنشر‪ ،‬مكتبة األسرة العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫‪1111‬م‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫عموما بالتفتت‪ ،‬وعدم الوحدة الموضوعية‪ ،‬وإمكان التقديم والتأخير بين أبياتها دون‬
‫حدوث خلل في بنائها المتداعي وعلى الرغم من القبول النظري للرأي السابق‪ ،‬فإن‬
‫مهارة الشاعر وموهبته الفنية المتميزة تضمن له السيطرة المحكمة على بنية القصيدة‬
‫المتعددة األغراض داخل نسق شعوري وفكري واحد‪.1‬‬
‫لعل أقدم من حاولوا تقسيم الشعر العربي جاهليا وغير جاهلي إلى موضوعات وألف‬
‫فيها ديوانا ً هو أبو تمام المتوفى حوالى سنة ‪ ۲۳۲‬للهجرة‪ ،‬فقد نظمه في عشرة‬
‫موضوعات‪ :‬هي الحماسة‪ ،‬والمراثي‪ ،‬واألدب‪ ،‬والنسيب‪ ،‬والهجاء‪ ،‬واألضياف ومعهم‬
‫المديح‪ ،‬والصفات‪ ،‬والسير‪ ،‬والنعاس‪ ،‬وال ُملح‪ ،‬ومذمة النساء‪.‬‬
‫وهى موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن األضياف إما أن يدخل في‬
‫المديح أو فى الحماسة والفخر‪ ،‬والسير والنعاس يدخالن في الصفات‪ ،‬كما تدخل مذمة‬
‫النساء في الهجاء‪ ،‬أما ال ُملح فغير واضحة الداللة‪ .‬ووزع قدامة في كتابه نقد الشعر هذا‬
‫الفن على ستة موضوعات‪ :‬هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشبيب‬
‫وحاول أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما‪ :‬المدح والهجاء‪ :‬فالنسيب مديح‬
‫وكذلك المراثي‪ ،‬ومضى يعين المعاني التي يدور حولها المديح‪ ،‬وهي فى رأيه الفضائل‬
‫النفسية‪ .‬ويقول أبو هالل العسكري‪ ( :‬وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة ‪:‬‬
‫المديح والهجاء والوصف والتشبيب والمراثي‪ ،‬حتى زاد النابغة فيها قسما ً سادسا وهو‪:‬‬
‫االعتذار فأحسن فيه‪.2‬‬
‫لقد أسلفنا الذكر أن الديوان صغير الحجم‪ ،‬قليل األبيات والكلمات‪ ،‬وبالتالي فهو لم‬
‫يتناول كثيرا من الموضوعات‪ ،‬بالرغم من أنه عالج كل ما تناوله ببالغة فائقة‪ ،‬إال أن‬
‫القلة التي فيه تجعل موضوعاته أيضا قليلة‪ ،‬وأغراضه أشد قلة‪ ،‬فأغراض الديوان لم‬
‫تخرج عن ثالث‪ :‬الوصف‪ ،‬والرثاء‪ ،‬والغزل‪ ،‬ويكاد الوصف هو السمة الطاغية في‬
‫الديوان‪ ،‬وليس بمبالغة إذا صنفنا الديوان كله بغرض واحد فقط وهو الوصف نظرا ألن‬
‫الرثاء جاء في قصيدة واحدة‪ ،‬وكذلك الغزل‪.‬‬
‫وفي داخل القصائد نجد الكثير من األبيات التي تخرج عن اإلطار العام للقصيدة‪ ،‬مثلما‬
‫كانت تتعدد األغراض في القصيدة القديمة‪ ،‬فنجد عند محمود شريف فخرا‪ ،‬وحماسة‪،‬‬
‫وعتابا‪ ،‬ومدحا‪ ،‬وشوقا وحنينا‪ ،‬وسيأتي التفصيل عنها الحقا في فصل الموضوعات‬
‫واألغراض الشعرية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫بوابة الشروق‪ ،‬منصة على شبكة اإلنترنت‪ ،‬مقال كتب بواسطة‪ :‬أحمد مجاهد‪ ،‬منشور بتاريخ األحد ‪ 11‬يونيو ‪ 1:52 - 1119‬م‪ ،‬منقول بتاريخ‪:‬‬
‫الجمعة ‪ 11‬سبتمبر‪1112‬م – ‪ 19:21‬م‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ضيف‪ ،‬شوقي‪ ،‬تاريخ األدب العربي‪ /‬العصر الجاهلي‪ ،‬د‪ .‬الطبعة الثانية والعشرون‪ ،‬دار المعارف‪1111 ،‬م‪ ،‬جمهورية مصر العربية‪ ،‬ص‬
‫‪.291-291‬‬

‫‪16‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الدراسة الموضوعية لديوان وجوه ال تعكسها المرايا‬
‫تمهيد‬
‫المبحث األول‪ :‬األغراض‬
‫المطلب األول‪ :‬الوصف‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الرثاء‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬المدح‪.‬‬
‫المطلب الرابع‪ :‬الفخر‪.‬‬
‫المطلب الخامس‪ :‬الغزل‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الموضوعات‬


‫المطلب األول‪ :‬الشكوى والحنين‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الفلسفة والحكمة‬
‫المطلب الثالث‪ :‬الوطنية‬

‫‪17‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الدراسة الموضوعية لديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪:‬‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫قال الدكتور وهب أحمد رومية‪ :1‬ال يخلو كتاب من نقدنا القديم ـ فيما أعرف ـ من التعرض‬
‫الصريح لفهوم "الغرض الـشـعـري" أو مـن اإلشـارة أو اإليماءة إلـيـه‪ ،‬ويـتـفـق أولـئـك‬
‫النقاد على أن القصيدة العربية المركبة ـ بتعبير حازم القرطاجني ـ مكـونـة من مجموعة من‬
‫األغراض الشعـريـة المخـتـلـفـة كـاألطـالل والـغـزل ووصـف الصحراء ومشـهـد الـصـيـد‬
‫والـفـخـر والـهـجـاء والمـدح والحـكـمـة وسـواهـا‪.2‬‬

‫ب فَي ُْر َمى فِي ِه‪َ ،‬و ْال َج ْم ُع أ َ ْغ َراض‪ .‬وغ ََر ُ‬
‫ضهُ َك َذا أَي‬ ‫ف الذِي يُ ْن َ‬
‫ص ُ‬ ‫ض لغة ‪ُ :‬ه َو ْال َه َد ُ‬ ‫و ْالغ ََر ِ‬
‫ص َد َك‪.3‬‬‫ض َك‪ ،‬أَي قَ ْ‬‫غ َر َ‬‫َحا َجتُهُ وبَ َغ ْيتُهُ‪َ ،‬وفَ ِه ْمتُ َ‬
‫وفيما يخص التداخل بين مصطلح "الغرض" و"القصيدة" فإن مرده حسب قول ابن خلدون‬
‫عن الشاعر بأنه ‪":‬يستطرد للخروج من فن إلى فن‪ ،‬ومن مقصود إلى مقصود"‬
‫ومصطلح "الغرض" الذي يعد األكثر شيوعا‪ ،‬وإضافة إلى مصطلح "المقصود" الذي‬
‫استعمله ابن خلدون نجد مصطلحات مرادفة‪ ،‬هي‪" :‬بيوت الشعر" ‪" ،‬أركان الشعر"‪" ،‬فنون‬
‫الشعر"‪ " ،‬ضروب أو أصناف الشعر"‪" ،‬معاني الشعر" ‪ " ،‬اتجاهات الشعر "‪ " ،‬موضوع‬
‫الشعر"‪ ،‬الرموز"‪ ،‬وكلها تستعمل بدال من " أغراض الشعر"‪.‬‬

‫إذن الغرض في الشعر هو الهدف الذي قيل من أجله‪ ،‬وهو المتعارف عليه عادة باسم‬
‫"موضوع النص" أي الفكرة األساسية الكبرى التي اتخذها المبدع محتوى لرسالته‪.4‬‬
‫أما مصطلح "بيوت الشعر" فقد أورده ابن سالم في قوله ‪ :‬وقد قالوا إن بيوت الشعر أربعة‪:‬‬
‫فخر ومديح ونسيب وهجاء‪.5‬‬
‫ولم يقف ابن سالم عند تسمية ضروب الشعر فقط‪ ،‬بل تعداها إلى ذكرها‪ ،‬وحصرها في‬
‫أربعة أغراض‪.‬‬

‫‪ 1‬باحث وأكاديمي سوري ولد في الالذقية عام ‪2944‬م‪ ،‬تخرج من جامعة دمشق‪ ،‬حاز على شهادة الدّكتوراه في األدب القديم من ّ‬
‫كليّة اآلداب‪-‬‬
‫جامعة القاهرة عام ‪ 1977‬بمرتبة ال ّشرف األولى‪ ،‬مع التّوصية بطباعة ال ّرسالة‪ ،‬وتبادلها مع الجامعات ‪ ،‬رئيس قسم اللغة العربية بجامعة‬
‫صنعاء سابقاً‪ .‬أستاذ األدب القديم بجامعة دمشق ‪.‬عميد كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بجامعة دمشق ‪ -‬سابقاً‪ .‬عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق‪،‬‬
‫انظر متصفح ويكيبيديا الموسوعة الحرة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫رومية‪ ،‬وهب أحمد‪ ،‬شعرنا القديم والنقد الجديد تأليف ‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون‬
‫واآلداب‪ /‬الكويت‪ ،‬صدرت السلسلة في يناير ‪2911‬م بإشراف أحمد مشاري العدواني ‪2912‬ـ ‪2991‬م‪ ،‬العدد ‪ ،111‬ص‪.241‬‬
‫‪3‬‬
‫لسان العرب البن منظور‪ ،‬مادة (غرض)‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫داوود‪ ،‬محمد‪ ،‬الغرض الشعري‪ ،‬المصطلح والمفهوم عند القدماء والمحدثين‪ ،‬مجلة دراسات‪ ،‬العدد الخامس‪ ،‬جامعة ابن خلدون‪/‬تيارات‪/‬‬
‫الجزائر‪1124 ،‬م ص‪.11‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع السابق ص ‪.59‬‬

‫‪18‬‬
‫وقال بذلك أيضا ال َم ْر ُزباني في الموشح‪" :‬قيل للبطين‪ :‬أكان ذو الرمة شاعرا متقدما؟ فقال‬
‫البطين‪ :‬أجمع العلماء بالشعر على أن الشعر وضع على أربعة أركان؛ مدح رافع‪ ،‬أو هجاء‬
‫واضع‪ ،‬أو تشبيه مصيب‪ ،‬أو فخر سامق‪.1‬‬
‫فالمرزباني يسمي األغراض الشعرية أركانا‪.‬‬
‫والمعاصرون من نقادنا يستعملون مصطلحات مختلفة للداللة على الغرض‪ ،‬فمصطفى هدارة‬
‫سد فإنه يختار مصطلح "موضوع" بدال من‬ ‫يستعمل مصطلح "اتجاهات"‪ ،‬أما نور الدين ال ّ‬
‫المصطلحات األخرى بما فيها الغرض‪ ،‬وذلك لشعوره بعدم دقتها كمصطلحات نقدية قادرة‬
‫على تحديد الظاهرة الفنية بموضوعية بعيدا عن االرتجال والتسطح‪ ،‬ومن هنا يضيف السد‪:‬‬
‫"نرى أن استخدام مصطلح موضوعات القصيدة العربية أكثر دقة ومواءمة في التعبير عما‬
‫نهدف إليه"‪.2‬‬
‫األمر‪:‬‬
‫َ‬ ‫ضع‬
‫ض َع‪ ،‬و َ‬
‫هذا بالنسبة للغرض‪ ،‬أما الموضوع فهو في اللغة‪ :‬اسم المفعول من َو َ‬
‫ضوعات و َمواضي ُع‪ ،‬والموضوع‪ :‬مادة بيني عليها الكاتب أو‬‫قَدّمه ُمفَصالً‪ ،‬الجمع‪َ :‬م ْو ُ‬
‫الخطيب أو المحدث كالمه‪ ،‬ومادة يبحث العلم عن عوارضها‪.3‬‬
‫يقول الديب حنا الفاخوي‪ :4‬أما موضوعات األدب العربي ونزعاته فمن موحيات البيئة‬
‫ومعطيات األحوال‪ ،‬وكانت موضوعات أدب الخالفة الراشدة خطبا ً ورسائال في أمور‬
‫الحرب والفتح واإلدارة وما إلى ذلك؛ فيما كانت موضوعات أدب الخالفة األموية‬
‫تنازعات سياسية وحزبية وتنافرات شعرية لقيام األحزاب والشيع‪ ،‬وتناحر أهل الطمع‬
‫والطموح‪ ،‬ولهذا راج الفخر والهجاء‪ ،‬وتبسط الشعراء في بذيء القول وسافل الكالم‪.‬‬

‫وكانت موضوعات أدب الخالفة العباسية علما ً واجتماعا ً ومديحا ً وهجاء ولهوا ً وما إلى‬
‫ذلك‪ ،‬النبساط رقعة الدولة‪ ،‬وتوافر المال في الخزينة‪ ،‬ورغبة الناس في سماع اإلطراء؛‬
‫ثم الندفاق السيول األعجمية على البالد العربية‪ ،‬ولميل الناس إلى ترجمة كتب اليونان‬
‫والفرس والهنود وغيرهم في الفلسفة والعلم والحكمة والفنون‪.‬‬

‫رزوباني‪ ،‬أبو عبيدة محمد بن عمران‪ ،‬الموشح في مآخذ العماء على الشعراء‪ ،‬عُنيت بنشره جمعية الكتب العربية‪ ،‬يطلب من المطبعة السلفية‬‫‪ 1‬ال َم ُ‬
‫ومكتباتها‪2242 ،‬هـ‪ ،‬ص‪.211‬‬
‫‪2‬‬
‫الغرض الشعري‪ ،‬المصطلح والمفهوم عند القدماء والمحدثين‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪3‬‬
‫قاموس ومعجم المعاني على شبكة اإلنترنت‪ ،‬مادة موضوع‪.https://www.almaany.com ،‬‬
‫‪4‬‬
‫حنا الفاخوري أديب ولغوي عربي ومؤرخ لبناني ولد األب حنا الفاخوري سنة ‪ 2924‬في زحلة‪ ،‬كتـب أكثـر من مئـة كـتاب في اللغة واألصول‬
‫واإلنشاء واألدب والفلسفـة والدين‪ ،‬واشتـهر في كتابه «تاريـخ األدب العربي»‪ ،‬وضع سالسل مدرسية عديدة حول األدب واللغة‪ ،‬كما حقق في‬
‫الكثير من مؤلفات التراث شارحا ً معلّقا ً‪ .‬محاضر في جامعات أوروبية عدة وفي مؤسسات تونسية ومغربية‪ .‬يحمل أوسمة مختلفة من وطنه لبنان‬
‫ومن إيران ومن البرازيل‪ .‬متصفح ويكيبيديا الموسوعة الحرة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وراحت الموضوعات في القرن التاسع عشر وما بعده تتسع آفاقا ً النفتاح أجواء المدنية‪،‬‬
‫وتشمل العلم واالجتماع وتحليل النفوس وما إلى ذلك‪.1‬‬
‫والمعادل الموضوعي‪ :‬مصطلح مستمد من مقالة لـ ت‪ .‬س إليوت ‪ T.S.Eliot‬بعنوان هاملت‬
‫ومشكالته ‪ Hamlet and his problems‬صدرت عام ‪2929‬م‪ ،‬ويعني ما يوظفه المبدع‬
‫من األحداث والموضوعات‪ ،‬والوقائع‪ ،‬والمواقف التي يمكن أن تبعث لدى القارئ االستجابة‬
‫العاطفية المالئمة التي يهدف إليها المؤلف دون أن يلجأ إلى تقرير مباشر لهذه األحاسيس‪.2‬‬
‫ومن هنا وهناك‪ ،‬ومن أراء المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬يخلص البحث إلى أن كثيرا من‬
‫المصطلحات األدبية أو العلمية‪ ،‬أو أية علوم أخرى؛ البد من أن تمر بمراحل نشأة ثم‬
‫تتطور‪ ،‬وغالبا ما تنتقل من التعميم إلى التخصيص‪ ،‬وال شك أن المصطلحات األدبية قد‬
‫مرت بالمراحل نفسها‪ ،‬وقد رأينا فيما تقدم كيف تنقّل مصطلح الغرض الشعري بين عدة‬
‫أراء من األدباء‪ ،‬وحمل اسما ال يتفق تماما كما أنه ال يختلف كثيرا عن اآلراء األخرى‪،‬‬
‫وأراني أميل (يميل البحث) (تميل الباحثة) إلى الرأي األخير رأي األديب حنا الفاخوري‪،‬‬
‫الذي نقل الموضوع من الدائرة الضيقة للمعنى من مدح وهجاء ونسيب إلى الموضوعات‬
‫االجتماعية والسياسية واالقتصادية؛ كي نتناول األغراض والموضوعات كال على حدة‪ ،‬ما‬
‫يعني أننا نفصل بين األغراض والموضوعات‪ ،‬فاألغراض هي الموضوعات القديمة للشعر‬
‫هي أبوابه الرئيسية من هجاء ومديح ونسيب وهجاء ووصف‪ ،‬والموضوعات هي التوسع‬
‫لهذه العناوين الرئيسة من اجتماعيات وسياسة ووطنيات‪....‬إلخ‪ ،‬فالغرض بحسب هذه‬
‫الدراسة هو الموضوع األساسي أو الرئيسي المرجو من القصيدة‪ ،‬والموضوع هو ما تدور‬
‫حوله القصيدة‪ ،‬إذا افترضنا لقصيدة ما المدح كغرض رئيسي‪ ،‬فقد يكون موضوع القصيدة‬
‫سياسيا إذا مدح شخصية سياسية أو أشاد ببادرة سياسية معينة‪ ،‬أو يكون اجتماعيا إذا أشادت‬
‫القصيدة بعادة اجتماعية معينة‪ ،‬وربما تكون قصيدة مدحية في غرضها وتناولت أراء فلسفية‬
‫في موضوعها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الفاخوري‪ ،‬حنا‪ ،‬الجامع في تاريخ األدب العربي األدب القديم‪ ،‬مؤسسة خليفة للطباعة‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ص ‪.21-21‬‬
‫‪2‬‬
‫معجم مصطلحات األدب‪ ،‬اإلشراف العام األستاذ فاروق شوشة والدكتور محمود علي مكي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار الجمهورية للصحافة‪ ،‬مجمع اللغة‬
‫العربية‪ /‬القاهرة ‪2411‬هـ ‪1111 -‬م‪ ،‬ص‪.241‬‬

‫‪20‬‬
‫المبحث األول‪ :‬األغراض‪:‬‬
‫سم أبو تمام (ت ‪121‬هـ) وهو أقدم من قسم الشعر حسب موضوعاته إلى عشرة‬ ‫ق ّ‬
‫موضوعات في ديوانه (الحماسة) وهي‪ :‬الحماسة‪ ،‬والمراثي‪ ،‬واألدب‪ ،‬والنسيب‪ ،‬والهجاء‪،‬‬
‫واألضياف ومعهم المديح‪ ،‬والصفات والسير‪ ،‬والنعاس‪ ،‬والملح‪ ،‬ومذمة النساء‪.‬‬

‫ووزع قدامة بن جعفر (‪211 - 111‬هـ) في كتابه نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات‬
‫وذلك في نعوته ألهم أغراض الشعراء‪ ،‬وهي‪ :‬المديح‪ ،‬والهجاء والنسيب‪ ،‬والمراثي‪،‬‬
‫والوصف‪ ،‬والتشبيب‪.‬‬

‫كما حاول أن ير ّد الشعر كله إلى موضوعين أو بابين‪ ،‬هما المديح والهجاء‪ .‬فمن المديح‬
‫النسيب‪ ،‬والمراثي‪ ،‬واالفتخار‪ ،‬والشكر‪ ،‬واللطف‪ .‬ومن الهجاء الذم والعتاب‪ ،‬واالستبطاء‪،‬‬
‫والتأنيب‪.‬‬
‫أما أبو هالل العسكري ( ت ‪295‬هـ) فقد جعل أقسام الشعر خمسة‪ ،‬حيث قال‪ :‬وإنما كانت‬
‫أقسام الشعر في الجاهلية خمسة‪ ،‬المديح‪ ،‬والهجاء‪ ،‬والوصف والتشبيب‪ ،‬والمراثي‪ ،‬حتى‬
‫زاد النابغة فيها قسما سادسا وهو االعتذار‪.‬‬
‫وقال الرماني علي بن عيسى‪ :‬أكثر ما تجري عليه أغراض الشعر خمسة‪ ،‬النسيب‪،‬‬
‫والمديح‪ ،‬والهجاء‪ ،‬والفخر‪ ،‬والوصف‪.‬‬
‫وقال عبد الكريم النهشلي‪ :‬يجمع أصناف الشعر أربعة‪ ،‬المديح والهجاء والحكمة واللهو‪ ،‬ثم‬
‫تتفرع من كل صنف من ذلك فنون‪ ،‬فيكون من المديح‪ ،‬المراثي ‪ ،‬واالفتخار‪ ،‬والشكر‪،‬‬
‫ويكون من الهجاء الذم والعتاب واالستبطاء‪ ،‬ومن الحكمة‪ ،‬األمثال والتزهد والمواعظ‪،‬‬
‫ويكون من اللهو الغزل والطرد وصفة الخمر‪.1‬‬
‫فيكاد يجمع األدباء ‪-‬باستثناء أبو تمام‪ -‬على أن األغراض الرئيسية للشعر خمسة‪( :‬المدح‪،‬‬
‫الهجاء‪ ،‬الفخر‪ ،‬الوصف‪ ،‬والغزل)‪ ،‬وبقية التصنيفات إنما هي تتفرع من هذه األصول‪ ،‬وهذا‬
‫ما ستعمل به هذه الدراسة‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الشعر العربي المعاصر في تشاد‪ .‬اتجاهاته الموضوعية والفنية‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص ‪.214‬‬

‫‪21‬‬
‫المطلب األول‪ :‬الوصف‪:‬‬
‫الوصف‪ :‬أحد العناصر الحيوية المهمة في الشعر‪ ،‬وفي األجناس األدبية األخرى بشكل أقل‪،‬‬
‫ويقوم على استعمال األلفاظ واالستعارات والتشبيهات لتقويم وتصوير األشياء والناس‬
‫والسلوك والمشاهد‪ ،‬ويعتمد نجاح األديب في الوصف على مدى قدرته على إحضار الشيء‬
‫في ذهن السامع كأنه يراه أو يشعر به‪ ،‬وباب الوصف عند العرب أكبر فنون الشعر‪ ،‬ذلك‬
‫ألنه يأتي في أكثر أغراض الشعر ممتزجا بها‪ ،‬وق ّل أن نجد قصيدة بنيت على موضوع‬
‫الوصف وحده‪ ،‬اللهم إال في الصغار‪.1‬‬
‫والوصف أشمل صفة تطلق على الشعر‪ ،‬ويكاد الشعر كله يكون وصفا‪ ،‬فالمدح وصف‬
‫لشعور اإلعجاب‪ ،‬والهجاء وصف لشعور الكره‪ ،‬والعتاب والشكوى والحنين‪ ،‬كل هذه‬
‫األغراض والموضوعات إنما هي وصف لحالة الشاعر النفسية تجاه شيء ما‪.‬‬
‫كما يكاد ديوان محمود شريف يكون كله وصفا‪ ،‬لما فيه من تصوير‪ ،‬وما لصورته البيانية‬
‫من حبكة‪ ،‬فهو إما أن يأخذك حيث أراد‪ ،‬أو يحضره حيث أنت‪.‬‬
‫نجد تجلي الوصف حينما اعتمده في قصيدة‪( :‬اشتعاالت‪ :‬رحلة إلى بورتسودان)‪ ،‬حيث قام‬
‫بوصف المدينة السودانية (بورتسودان)‪ ،‬وهي مدينة ساحلية تقع شمال شرق السودان على‬
‫الساحل الغربي للبحر األحمر‪ ،‬وهي الميناء البحري الرئيسي في السودان‪ ،‬تعرف‬
‫بورتسودان قبل قيام الحكم الثنائي ببناء ميناء بحري حديث فيها باسم مرسى الشيخ برغوت‪،‬‬
‫كان قرار اإلنجليز في بناء ميناء بحري جديد ليحل محل ميناء سواكن مرده رغبتهم في أن‬
‫يكون لهم ميناء تحت السيادة البريطانية المصرية المشتركة بدالً عن سواكن التي كانت‬
‫تخضع رسميا ً لحكم الخديوي وليس للحكم الثنائي‪ ،‬إال أن السبب المباشر يكمن في عدم‬
‫صالحية ميناء سواكن الستقبال البوارج‪ 2‬والسفن الحديثة بسبب الشعاب المرجانية الكثيرة‬
‫رسوها‪ ،‬على خالف مرسى الشيخ برغوت الواقع على‬ ‫ِّ‬ ‫فيه والتي تعيق إبحار تلك السفن أو‬
‫خليج طبيعي ممتاز خال من تلك المعوقات وفي منتصف الساحل السوداني تقريبا ً ‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وفي هذه القصيدة يأخذنا الشاعر إلى ساحل تلك المدينة مستهال‪:‬‬
‫َه َّدهُ األر ُ‬
‫ق‬ ‫أَعْيا‬ ‫النجم‬
‫ِ‬ ‫ُمسافِ ُر‬ ‫ق‬ ‫صبَا َحكَ ش َْم ُع اللّي ِل ُم ِ‬
‫حتر ُ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ش ِع ْل‬
‫ق‬‫ضفي ُخشوعا على ِمحرابها الشف ُ‬ ‫يُ ْ‬ ‫والشمس تسج ُد في األمواجِ ها َمتُها‬ ‫ُ‬

‫‪1‬‬
‫نصار‪ ،‬نواف‪ ،‬معجم المصطلحات األدبية عربي ‪ -‬إنجليزي‪ ،‬دار المعتز للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ /‬األردن‪ ،‬الطبعة األولى‪1119 ،‬م‪ ،‬ص‪.212‬‬
‫‪2‬‬
‫البارجة أو الدارعة‪ :‬هي سفينة حربية كبيرة مدرعة ببطارية رئيسية تتكون من َمدافع من عيار كبير‪ .‬خالل أواخر القرن التاسع عشر وأوائل‬
‫القرن العشرين‪ ،‬كانت البارجة أقوى نوع من السفن الحربية‪ ،‬وكان األسطول المتمركز حول البارجة جز ًءا من السيادة البحرية لعدة عقود‪.‬‬
‫ويكيبيديا الموسوعة الحرة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫متصفح ويكيبيديا‪ ،‬مقال‪ :‬بورتسودان‪ ،‬تاريخ النقل‪/11 :‬أبريل‪1114/‬م‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫هنا يصور لنا الشاعر هذه المدينة من بعيد ويصف ساحلها الذي يعكس أشعة الشمس‬
‫ممتزجة بشفق الفجر‪ ،‬حيث أنك لن ترى جمالها ليال‪ ،‬لذلك أشعل صباحك حتى ترى هذه‬
‫اللوحة الفنية‪.‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫ق‬‫الس ْفن ت َنطل ُ‬ ‫هذي‬ ‫ِباسمكَ‬ ‫تَ ُ‬
‫جوب‬ ‫(بَرغوت) في َمرساهُ أدعية‬ ‫ِلظ ِ ّل‬
‫ق‬ ‫نَ َز ُ‬ ‫إِجالله‬ ‫على‬ ‫ب‬
‫العُبا ِ‬ ‫َوفي‬ ‫الجبا ِل وقار من َمهابَتِه‬ ‫على‬
‫ق‬
‫تهتدي الطر ُ‬ ‫هذي‬ ‫سن‬
‫ل ِقبلة ال ُح ِ‬ ‫ق تائهة‬ ‫الطر ِ‬
‫ْ‬ ‫ال َجما ِل جميع‬ ‫عن‬

‫وبرغوت فقيه إسالمي يدعى‪ :‬الشيخ برغوت (أو بارود)‪ .‬والذي كان مدفونا ً في قبة‬
‫(ضريح) يزورها البحارة والصيادين‪ ،‬وكان المكان كله معروفا أيضا لقرون طويلة باسم‬
‫مرسى الشيخ برغوت تبركا ً بهذا الرجل الصالح‪.1‬‬
‫وعن جمال المدينة يؤكد شريف اللقب الذي أُطلق عليها وهو‪ :‬عروس البحر األحمر وثغر‬
‫السودان الباسم‪.‬‬
‫أما تلك السفن المذكورة فهي تاريخ هذه المدينة‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫ق‬
‫ع ِب ُ‬ ‫َ‬ ‫على القرون ومازال ال َمدى‬ ‫ِمن خلفها يفتح التاريخ نافذة‬
‫غ ِرقوا‬ ‫َ‬ ‫غرقوا فيه وما‬ ‫ِ‬ ‫كأنهم‬ ‫محطمة‬ ‫وأساطير‬ ‫سفائِن‬
‫َ‬
‫ق‬‫بعث به األ َ َل ُ‬ ‫ألن سيفي لم يُ ْ‬ ‫اوي" يُالئمني‬
‫س ْيفي "بِ َج ّ‬
‫أحتاج َ‬

‫والنافذة التي تُفتح على التاريخ هي وجود حطام سفن الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث يرقد‬
‫قبالة بورتسودان على بعد ‪ 11‬ميل حطام البارجة اإليطالية (أمبريا) التي غرقت أو أ ُغرقت‬
‫بأمر ربانها في عام ‪ 2941‬م‪ ،‬كما تذهب بعض الروايات‪ ،‬حتى ال تقع في يد البريطانيين‬
‫الذين كانوا يرابطون في بورتسودان إبان الحرب العالمية الثانية وكانت في طريقها من‬
‫إيطاليا إلى مستعمرتها إريتريا محملة بكميات كبيرة من سيارات الفيات وزجاجات النبيذ‬
‫والذخيرة‪ .‬هذه األشياء كلها ال تزال على متنها ويمكن للغواص مشاهدتها على عمق ‪21‬‬
‫متر‪.2‬‬
‫فكأننا حينما نقرأ األبيات نرى صورة هذه السفينة بصورة مجهرية تحت المياه‪ ،‬خاصة أن‬
‫كل ما في السفينة مايزال على متنها‪ ،‬كأن الذين غرقوا مع هذه السفينة لم يغرقوا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫اوي" يُالئمني)‪ ،‬بجاوي نسبة إلى البجة أو البجا أو البجاة‪ ،‬اسم يطلق‬
‫س ْيفي "بِ َج ّ‬
‫(أحتاج َ‬
‫‪1‬‬
‫على الشعب الذي يسكن ما بين ساحل كسال والبحر األحمر ونهر النيل في السودان ‪.‬‬
‫وقد امتازت هذه القبائل بالشجاعة‪ ،‬وتتم تنشئة الصغار منذ نعومة أظافرهم على تعلم مهارة‬
‫مؤثرا‪ ،‬وفي ذات الوقت كيف يصد‬
‫ً‬ ‫المبارزة ( الضرب والصرف)‪ ،‬أي كيف يضرب ضربا ً‬
‫ضربات اآلخرين‪ ،‬ويغرس في نفوسهم أهمية حمل هذه األسلحة والتحلي باليقظة والحذر في‬
‫كل األوقات وكل األماكن‪ ،2‬و"السيف حاضر بقوة في المناسبات االجتماعية واالحتفاالت‬
‫القومية السودانية‪ ،‬ويعطي أي مناسبة قيمة عالية‪ ،‬وهو عنصر للتفاخر والتباهي خاصة عند‬
‫قبائل (البجا)‪ ،‬حيث نجده مالزما للرجل بصورة بائنة في صلوات األعياد الدينية‪ ،‬تشكل‬
‫لوحة جمالية‪ ،‬ممزوجة بالقيم الدينية واالجتماعية"‪.3‬‬
‫واشتهرت قبائل البجة بالسيوف‪ ،‬اشتهرت كذلك باإلبل البجاوية‪ ،‬قال الحريري‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ِبجا ِوي‬ ‫وراكب‬ ‫كقوله ْم‬
‫ِ‬ ‫الوا ِو‬ ‫بع َد‬ ‫مر‬
‫ض ُ‬‫وتارة ت ُ ْ‬

‫وفي الوصف تناول الشاعر قصيدة واحدة بأربع مقاطع متفرقة داخل الديوان‪ ،‬وهي‬
‫قصيدة (يوميات متكررة) ُمر ِقّما كل واحدة برقم حسب أولوية تسلسل ورودها‪ ،‬وهذه‬
‫القصيدة تصف الحياة اليومية لشخص يعيش في هذه البالد‪ ،‬ولذلك سماها بيوميات متكررة‪،‬‬
‫والمتمعن بهذه القصيدة قد ال يتفق تماما مع حكم أنها قصيدة واحدة‪ ،‬وذلك لعدة أسباب منها‪:‬‬
‫‪ -‬عدم تتابع مقاطع القصيدة‪ ،‬وورود كل مقطع بعد عدة قصائد داخل الديوان‪.‬‬
‫‪ -‬اختالف البحور‪ ،‬فقد جاءت المقاطع األربعة من بحرين مختلفين‪.‬‬
‫اختلف روي القصيدة في كل مقطع‪ ،‬وهو مقبول إذا‬‫َ‬ ‫‪ -‬اختالف قوافي المقاطع‪ ،‬حيث‬
‫كانت القصيدة متتابعة المقاطع‪ ،‬أما مجيء كل مقطع بعد عدة قصائد أخرى أفقدها‬
‫الوحدة العضوية‪.‬‬
‫سلّم أنها واحدة‪،‬‬
‫رغم هذا االختالف؛ إال أن الوحدة الموضوعية للقصيدة تجعلنا نُ ِ‬
‫والعنوان الموحد ألربعة قصائد ال يمكن أن يكون سببه إفالس الشاعر من العناوين‪ ،‬أما‬
‫علة تقطيعه للقصيدة‪ ،‬ونثرها في أماكن مختلفة من الديوان ربما هو فن جديد يريد أن‬
‫يتبناه شريف‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫حامد إبراهيم‪ ،‬مقال بعنوان‪ :‬سالح البجاوي ‪ ..‬يعود إلى غمده‪ ،‬منشور بصحيفة الراكوبة اإللكترونية‪ ،‬بورتسودان‪ ،‬بتاريخ ‪ 11‬يناير‪1121 ،‬م‪،‬‬
‫تم النقل بتاريخ‪( :‬األربعاء‪ 21 ،‬أبريل ‪1114‬م)‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫مقال منشور بوكالة األنباء اإللكترونية ‪/ SUPTNIK‬عربي ‪ ،‬تحت عنوان‪ :‬السيف في يد السوداني ‪ ..‬رمزية قومية وعالمة على الشجاعة وفخر‬
‫بالقبيلة‪ ،‬نشر بتاريخ ‪( GMT 30.03.2019 21:55‬تم التحديث‪ ،)GMT 12.01.2022 21:21 :‬تاريخ النقل‪( :‬األربعاء‪ 21 .‬أبريل ‪1114‬م)‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫الحريري‪ ،‬أبو القاسم بن علي‪ ،‬ملحة اإلعراب‪ ،‬مطبوعات أحمد محمد سعد الحبال وأوالده‪ ،‬جدة‪ /‬السعودية‪ ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪24‬‬
‫لقد وصفت هذه القصيدة حال المواطن بدقة‪ ،‬خاصة الموظف‪ ،‬ففي المقطع األول‬
‫(يوميات متكررة (‪ ))1‬المتكون من خمسة مقاطع يقول الشاعر‪:‬‬
‫ِإيابا‬ ‫لي‬ ‫يُو ِق ُ‬
‫ظ‬ ‫الصب َح‬ ‫لع َّل‬ ‫السحابا‬ ‫أ ُهش النج َم أم أ َ َرعى‬
‫أ َ َجابَا‬ ‫فما‬ ‫الشروقَ‬ ‫يمنَحنِي‬
‫ِل ْ‬ ‫رحْ ِلي‬ ‫طلُول اللي ِل‬ ‫ُ‬ ‫وقفتُ على‬
‫الت َرابَا‬ ‫أطأ ُ‬ ‫أم‬ ‫ْ‬
‫األفق‬ ‫أ َ َمس‬ ‫أ ُبالي‬ ‫ال‬ ‫المشاه ُد‬ ‫ت‬
‫تشاب َه ِ‬
‫ال ِكتابَا‬ ‫َحوا ِدثنَا‬ ‫من‬ ‫يُ َؤ ُ‬
‫لف‬ ‫فسيح‬ ‫َك ْون‬ ‫سطور نح ُن في‬ ‫ُ‬
‫سرابَا‬ ‫ُخطاي ك ْي أص َل ال َّ‬ ‫أ ُحث‬ ‫صفو‬ ‫تركتُ الما َء خ ْلفي و ْهو‬

‫وبالضبط هذه هي اليوميات المتكررة للمواطن التشادي‪ ،‬فهو يعيش على أمل الغد‬
‫األفضل لكن دون أن يحرك ساكنا‪ ،‬كما أن يومياته متكررة المشاهد منذ طلوع الشمس‬
‫حتى غروبها‪ ،‬ال يبالي إذا ارتقى فيها إلى أعلى المراتب‪ ،‬أو كان في أدناها‪ ،‬فاليوميات‬
‫متكررة برتابة‪ ،‬وحينما قال الشاعر‪:‬‬

‫س َرابَا‬
‫ال َّ‬ ‫أ َ ِص َل‬ ‫َك ْي‬ ‫ُخ َ‬
‫طاي‬ ‫أ ُحث‬ ‫صفو‬ ‫و ْهو‬ ‫خ ْل ِفي‬ ‫الما َء‬ ‫تركتُ‬

‫صور تماما الموظف الحكومي الذي يترك كل أبواب الرزق الواسعة‪ ،‬وينحشر في‬
‫زاوية الوظيفة العامة‪ ،‬كمن يترك الماء الصافي ويلحق السراب‪.‬‬
‫وقصيدة (يوميات متكررة (‪ ))2‬أيضا تكونت من خمسة مقاطع‪ ،‬وهي كذلك ال تختلف‬
‫عن سابقتها في تصوير حياة الكادحين اليومية‪:‬‬
‫صلَّى‬ ‫ُم َ‬ ‫بها‬ ‫النخي ِل‬ ‫وأقبيةَ‬ ‫ديرا‬ ‫البيداء‬ ‫مجاهل‬ ‫ت َ ِخ ْذتُ‬
‫ِط ْف َال‬ ‫ظ َّل يحْ بُو في‬ ‫ونَ ْخ ِلي‬ ‫باسقات‬ ‫نخل‬ ‫ألف‬
‫َ‬ ‫أمامي‬
‫ظ َّال‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫عن ت َ ْك ِفي ِه‬ ‫النخ ُل‬ ‫ويَ ْنضُو‬ ‫اف نَ ْه ِري‬ ‫ثوبَهُ الشفّ َ‬ ‫ويخل ُع‬
‫قَتْ َال‬ ‫ُو ِه ْبتُ‬ ‫كف الحيا ِة‬ ‫ِّ‬ ‫ومن‬ ‫ظمئْتُ ماء‬ ‫ِ‬ ‫الغمام‬
‫ِ‬ ‫ِرئ َ ِة‬ ‫ومن‬
‫ت َ َجلَّى‬ ‫ص ِعقُوا عليه وما‬ ‫ُ‬ ‫و ُه ْم‬ ‫الجب ُل األشم بوادي ُموسى‬ ‫هوى‬

‫وهذه األبيات اختصار واضح لحياة المواطن البائس الذي تمتاز بالده بالثروات‬
‫والخيرات دون أن يكون له منها نصيب‪ ،‬فهو يعيش في حياة تقشفية‪ ،‬يسكن الصحراء‪،‬‬
‫مبان أفضل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ويتخذ من أقبية‪ 1‬النخيل مصلى‪ ،‬رغم ما في بالده من إمكانات إليوائه في‬
‫(ومن رئة الغمام ظمئت ماء)‪ ،‬كأنه يصور حالة البترول المتدفق في أرضه وعدم‬
‫حصوله على شيء منه‪ ،‬كمن يعيش تحت الغمام وال يصيبه شيء من هطول األمطار‪،‬‬
‫فهو ضمآن رغم الغيث‪ ،‬وميت رغم كل مؤهالت الحياة حوله‪.‬‬

‫من التقبية‪ ،‬ويقصد بها القُبة‪ :‬والقُبةُ ‪ :‬بنا ٌء‬


‫‪1‬‬
‫مستدير مقوس‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪25‬‬
‫وفي يوميات متكررة (‪ )3‬ذات الخمس مقاطع أيضا يتكرر الوصف‪ ،‬وهو ال يختلف عما‬
‫سبقه‪:‬‬
‫بصحراء‬
‫ِ‬ ‫صحراء‬ ‫يدف ُع‬ ‫والتيهُ‬ ‫العمر دائرة‬ ‫ِ‬ ‫في فَلوا ِ‬
‫ت‬ ‫أجو ُل‬
‫الماء‬ ‫ِ‬ ‫طفَتْ في يديه أ َ ْعيُ ُن‬ ‫ان َ‬ ‫حتى‬ ‫الجفاف ينابيعي ليخنُقَها‬ ‫طال‬
‫"خنساء"‬ ‫ِ‬ ‫القصائ ُد فينا عين‬ ‫وذي‬ ‫صخر" فينا كل حادثة‬ ‫ُ‬ ‫"‬ ‫كأنما‬
‫لنجالء‬
‫ِ‬ ‫ال ت ُ ْن َمى‬ ‫طعانُك‬ ‫وال‬ ‫س ْي ِفكَ ال يُعزى لعنترة‬ ‫ِل َ‬ ‫فما‬
‫بسيناء‬
‫ِ‬ ‫صب ِْحك لم توقد‬ ‫ُ‬ ‫ونار‬
‫ُ‬ ‫لَ ْيلَ ِك لم تعبا بأ َ ْن ُج ِم ِه‬ ‫تركتَ‬

‫فالروتين هو هو‪ ،‬والمشاهد ذاتها‪ ،‬وال شيء متجدد‪ ،‬فالزال الجفاف‪ ،‬وال زال الكدح‬
‫والفقر كما هو‪ ،‬وكأنه يقول فقدنا العيش الكريم كما فقدت الخنساء صخرا‪ ،‬وهذا المواطن‬
‫المتكرر العادي ال سيفه كسيف عنترة فيتميز‪ ،‬وال يطعن هذا السيف طعنات نجالء واسعة‪،‬‬
‫وال حتى ناره يوجد شيء يميزها كما تميزت نار موسى بسيناء‪.‬‬
‫ويستمر الشاعر في مقطعه األخير يوميات متكررة (‪ )4‬الذي يصل إلى سبعة أبيات‬
‫بوصف الحال ذاته‪ ،‬إال أنه يتناول جانبا آخرا من حياة الشعب فيقول‪:‬‬
‫قلق‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫أ ْغشاه‬ ‫األمن‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫وموطن‬ ‫الخوف أ َ ْط ِويها بال َو َجل‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫مدائن‬

‫قد يحمل هذا القول معان كثيرة‪ ،‬منها الهجرة‪ ،‬فالمهاجر رغم ما في طريق الهجرة من‬
‫مخاطر إال أنه مطمئن البال مستعد للمجازفة من أجل لقمة العيش‪ ،‬فيقطع الصحاري‬
‫والبحار دون خوف‪ ،‬ولكنه قد يكون في غير مأمن وهو في عقر داره‪ ،‬وال يأمن على نفسه‬
‫وال على دابته وهو يسير ليال في بلده من الحي المجاور حتى بيته مثال‪ ،‬وهذه حقيقة محضة‬
‫صورها الشاعر بأبرع ما يكون من دقة الوصف‪.‬‬

‫فكم يُكا ِبد خطوي قسوةَ الط ُر ِ‬


‫ق‬ ‫ق ولم أَ ْبلُغ نهايتها‬
‫طال الطري ُ‬
‫ق‬‫ثوب الليل لم َي ِف ِ‬
‫َ‬ ‫ظي تدث َّر‬
‫َح ِ ّ‬ ‫تبعثر بل خطوي تعث َّ َر بل‬
‫َ‬ ‫صوتي‬
‫َ‬

‫يستمر هذا الكادح في العيش‪ ،‬ويرسم حلما ال يبلغه‪ ،‬ويتصور حياة ال يستطيع أن يصل‬
‫إليها‪ ،‬وكل ذلك بسبب حظه العاثر في هذه الحياة‪ ،‬هذا الحظ النائم الذي تدثر بثوب الليل‬
‫وأطال النوم ولم يستفق‪.‬‬
‫ثم يعاتب قائال‪:‬‬
‫والورق‬
‫ِ‬ ‫الظ ِ ّل‬ ‫بين‬ ‫ِب َر ِبّكَ‬ ‫ماذا‬ ‫الجذور وإن أ َ ْب َدتْ ُم َخا َ‬
‫ص َمة‬ ‫ُ‬ ‫هذي‬

‫‪26‬‬
‫ت قاسية معي فأنا ابنك‪ ،‬ماذا بربك يمكن أن يكون بين‬
‫وكأنه يقول‪ :‬يا أيتها األرض وإن كن ِ‬
‫ورقة على الفرع‪ ،‬وظل في األرض يظهر نهارا ويختفي ليال؟ وكأنه يقول‪ :‬ال تخاصميني‬
‫يا بالدي‪.‬‬
‫وال يفقد األمل من االستمرار في الحياة على أرضه التي بعثرت آماله‪:‬‬
‫ق‬ ‫ُم ْن َ‬
‫ط ِل ِ‬ ‫غير‬
‫َ‬ ‫نصيبا‬ ‫ستحث‬ ‫وأ َ ْ‬ ‫مبعثرة‬ ‫آماال‬ ‫أُ ُ‬
‫رتب‬ ‫أ َ ْبقَى‬
‫الفلق‬
‫ِ‬ ‫ويقرأ َ الصب ُح فيه آيةَ‬ ‫الطير نغ َمتُهُ‬
‫ِ‬ ‫يعو َد لهذا‬ ‫حنى‬

‫ولم يخرج محمود شريف من هذه اليوميات المتكررة‪ ،‬ففي الصياغ ذاته قصيدة أخرى‬
‫في ختام الديوان تحمل عنوان‪( :‬معلقة ثامنة) يواصل فيها الحديث عن الكادحين‪ ،‬ويصف‬
‫حالهم وتخبطهم في الحياة‪ ،‬كأن ليس له قضية إال هذه الطبقة من المجتمع‪ ،‬التي ينتمي إليها‬
‫جل الشعب التشادي‪ ،‬المقيمون منهم والمهاجرون‪.‬‬
‫ما تعانيه طبقة الكادحين من شظف وسوء حال يجعل من يسمع شريف يصفهم يشفق عليهم‬
‫فهم من سوء حظهم‪:‬‬
‫صدى بعد ال ُ‬
‫طبو ِل‬ ‫شوا في ال َّ‬
‫وعا ُ‬ ‫أ َقاموا في الثرى قبل ال ُحقو ِل‬
‫الدخو ِل‬ ‫إلى‬ ‫سبي َل‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫ْ‬
‫ولكن‬ ‫دون قُ ْفل‬‫َ‬ ‫َرأ َ ْو باب الحقيق ِة‬

‫وقال‪:‬‬
‫َدلي ِل‬ ‫بال‬ ‫للصباح‬
‫ِ‬ ‫وساروا‬
‫ُ‬ ‫شوا ِظماء‬
‫ب َم ْ‬ ‫على أ َم ِل ال َّ‬
‫سرا ِ‬

‫كأنه هنا يصور حالة الهجرة التي اتجهت أفكار الناس إليها‪ ،‬فبالكاد يوجد شاب ال يفكر‬
‫بالهجرة‪ ،‬هذا البيت وصف حالة المهاجرين بدقة‪ ،‬على أمل وهمي كالسراب رضوا بحياة‬
‫التقشف حتى يهاجروا‪ ،‬ومعروف أنهم يسيرون بال هدى‪ ،‬وبال دليل‪.‬‬
‫البَ ِخي ِل‬ ‫ِهب ِة‬ ‫عن‬ ‫الخبز‬
‫ِ‬ ‫بِعه ِد‬ ‫َ‬
‫طعام‬ ‫أ َ ْغوى‬ ‫إذا‬ ‫استغنوا‬
‫ْ‬ ‫ق ِد‬

‫تماما هذه هي حالة المهاجرين‪ ،‬تغريهم اللقمة‪ ،‬كيف ال؟! وسفرهم كله من أجل لقمة العيش‪.‬‬
‫عو ِل‬
‫الو ُ‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫بِعادا ِ‬ ‫أ َخذوا‬ ‫وق ْد‬ ‫يوما‬ ‫الشال ُل‬ ‫أ ْغوا ُه ُم‬ ‫وما‬

‫من المعلوم أن الشالل ينساب على المرتفعات من أعلى ألسفل‪ ،‬أما هم فقد أخذوا بعادة‬
‫الوعول وهي صعود المرتفعات‪ ،‬والتي قد تقارب فيها بعض المرتفعات الزاوية القائمة‪،‬‬
‫وهي أشق وأصعب‪ ،‬فكأنهم يتعمدون أن يسلكوا من الطرق أوعرها‪.‬‬
‫ثم تتجلى دقة وصف حالة المهاجرين الذين يستوطنون بالد الغربة فيقول‪:‬‬
‫‪27‬‬
‫ال َمغو ِل‬ ‫في‬ ‫تَ َ‬
‫ش َّك َل‬ ‫َكبَ ْغداد‬ ‫ت قَاموا‬ ‫سحقوا على ال ُ‬
‫ط ُرقا ِ‬ ‫إذا ُ‬

‫وهذا من شدة االنتماء‪ ،‬فربما استوطن بعض المهاجرين بالد الغربة فصاروا من الشعب‪،‬‬
‫وحصلوا على الجنسيات‪ ،‬كالمغول الذين استوطنوا بغداد بعد غزوها‪ ،‬فصاروا جزءا منها‪،‬‬
‫بل ودافعوا عنها‪ ،‬وحاربوا في جيشها‪.‬‬
‫ويعطيهم الشاعر الحق في نحوهم هذا معلال بقوله‪:‬‬
‫الر ِحي ِل‬‫َّ‬ ‫إلى‬ ‫يَأ ْنَسون‬ ‫ت َراه ْم‬ ‫ِلهذا‬ ‫ُموحشة‬ ‫األوطا ُن‬ ‫هي‬
‫ُ‬
‫القفو ِل‬‫ُ‬ ‫َخارطةَ‬ ‫منهُ‬ ‫َوأ َ ْلغَ ْوا‬ ‫ق إلى ال َمنَافِي‬‫سموا الطري َ‬ ‫وق ْد َر َ‬

‫وفي قصيدة (غائب آن له أن يعود) ‪-‬وهي من ال ُح ّر‪ -‬يصف محمود شريف الشعر العربي‬
‫التشادي‪ ،‬كيف كان وإلى أي مآل آل‪ ،‬وقد وصفه من خالل حديثه عن الشاعر التشادي‬
‫"إبراهيم الكانمي"‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫الشعر َ‬
‫طفال‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫الرم َل ك ْم قَ ْد َح َبا‬
‫ج ّ‬ ‫على َو َه ِ‬
‫ي‪..‬‬
‫يَ ِخف له الكا ِنم ّ‬
‫هوى ُم ْط ِربا في يديه‪..‬‬

‫غوص أَوائ ُل أ َ ِ‬
‫شعار ِه‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫تَ‬

‫وتأْبى القوافي على ِ‬


‫اإلنحناء‪..‬‬
‫س ّجل للشعر العربي التشادي‪ ،‬في زمن الكانمي‪ ،‬وكأنه ُولد في زمن‬
‫وذلك بداية أقدم تاريخ ُ‬
‫الكانمي‪ ،‬فشبهه بالطفل الذي يحبو‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك يحاول أن يثبّت قدميه في عالم‬
‫الشعر العربي‪ ،‬وتأبى القوافي على اإلنحناء‪.‬‬
‫لكن هذا الشعر بعد الكانمي‪:‬‬
‫َ‬
‫غفَا تحتَ ِظ ِ ّل النَّخي ِل‪..‬‬
‫ساقطتْ ُرطب من قصيد على قَب ِْر ِه‪..‬‬
‫َوقَ ِد ا َّ‬
‫لعل الشاعر هنا يشير إلى فترة االنقطاع التي كانت بين إبراهيم الكانمي ومرحلة االنتباهة‬
‫األولى للشعر التشادي مشيرا إلى موت الشعر بعده‪.‬‬
‫وربما نضجت بعض القصائد ثم اندثرت وماتت‪ ،‬فال يتساقط إال الناضج من الثمار‪ ،‬لكنها‬
‫اساقطت على قبر الكانمي‪ ،‬ولعل ذلك يرمز إلى موتها من جديد‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫والشاعر يلتمس آثار تلك القصائد وال يجدها‪ ،‬لكنه موقن أنها فترة البد أن يكون الشعر قد‬
‫مر بها‪ ،‬وعدم وصولها إلينا ليس دليال على عدم وجودها‪.‬‬
‫الحروف‪..‬‬
‫ْ‬ ‫أشُم على الرم ِل ِري َح‬
‫الو ُرو ْد ‪..‬‬
‫الدرب نحو ُ‬
‫َ‬ ‫وال أُب ِ‬
‫ْص ُر‬

‫فَال َد َ‬
‫ار أ ْبكي بِها‪..‬‬
‫أو ُ‬
‫طلُول ت ُ ْ‬
‫جيب‪..‬‬
‫شعري‪..‬‬
‫فيا ليت ِ‬
‫سلَ ْك؟؟‬
‫أي ِ تِيه َ‬
‫إِلى ّ‬
‫ثم يقول‪:‬‬
‫عري‪..‬‬
‫ش ِ‬‫سناب ُل ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫غدَتْ َيابسات‪..‬‬
‫وق ْد ك َُّن ُخ ْ‬
‫ضرا‪..‬‬
‫ْ‬
‫العزيز؟؟‬ ‫فَه ْل هو تأوي ُل ُرؤيا‬
‫هل يا تُرى اضمحالل الشعر بعد ازدهاره كبقرات العزيز السمان التي يأكلهن العجاف‪،‬‬
‫وكذلك السنبالت الخضر واليابسات‪ ،‬هل الشعر التشادي سيأتيه عام فيه يغاث الناس وفيه‬
‫يعصرون؟‬
‫وإذا تتبعنا القصيدة مقطعا مقطعا لن نمل من روعة وصف شريف لحالة الشعر التشادي‪،‬‬
‫فالقصيدة كلها وصف دقيق ممتع‪ ،‬رغم مأساوية الحال‪ .‬إنه يتأمل قائال‪:‬‬
‫أن يُبتعَ ْث‪..‬‬
‫لق ْد آن للميْت ْ‬

‫للنازحين الرجوعْ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫لقد آن‬
‫فهذا أوانِي‪..‬‬

‫بماء الذَّ ْ‬
‫هب‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ش ْع ِري‬
‫كتب َ‬
‫ِأل َ‬
‫العرب‪..‬‬
‫ْ‬ ‫علّقتْ فوقَ َب ْي ِ‬
‫ت‬ ‫ُمعلقة ُ‬
‫سوق ا ْلعُكا ْظ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫عاريب‬
‫ُ‬ ‫يمي ُل إليها أ َ‬
‫‪29‬‬
‫َو َو ْف ُد األ َ ْ‬
‫دب‪..‬‬
‫ومن وصف حالة الشعر العربي التشادي ينتقل محمود شريف إلى وصف اللغة العربية في‬
‫تشاد في قصيدة (غربة قلم)‪ ،‬وكما الشعر؛ ال تختلف حالة اللغة العربية كثيرا‪ ،‬فقضيتها في‬
‫تشاد تتقلب مع الزمان من حال لحال‪ ،‬قضية صراعها مع الفرنسية باعتبار البلد ثنائية اللغة‪،‬‬
‫ثم صراع العربية بين مثق فيها أنفسهم‪ ،‬أو ربما يقصد حتى صراع الفصحى والعامية‪ ،‬فمن‬
‫الملفت إجادة وصف الشاعر لهذا الوضع وصفا دقيقا ال يدع مجاال للسامع أن يذهب ذهنه‬
‫إلى منحى آخر‪ ،‬فهو يحدثنا عن حالة اللغة العربية التي صارت غريبة أو مضطربة‪ ،‬فقد‬
‫كانت ذات مجد تليد‪ ،‬وتاريخ عظيم‪ ،‬ولغة الحكم والسلطان‪:‬‬

‫ترجع ولم ت َ ُؤ ِ‬
‫ب؟‬ ‫ْ‬ ‫ماذا أصابكَ لم‬ ‫القلم الممت ِ ّد ُ‬
‫غربتُهُ‬ ‫ِ‬ ‫يا غربةَ‬

‫ها هو يصور التيه الذي تمر به اللغة العربية فيقول‪:‬‬


‫ب‬ ‫ُجفونَها ويد َاإلظال َم في ال َّ‬
‫طلَ ِ‬ ‫سبلة‬ ‫واألنوار ُم ْ‬
‫ُ‬ ‫نظرتُ نحوكَ‬
‫ب‬
‫ط ِ‬ ‫ح ّمالةَ الكتْب أو ح ّمالةَ ال َح َ‬ ‫ولم ت َعُ ْد أ َحرفي ت َدري ُه ِويت َها‬
‫ب‬‫ثم استقَر فال في العج َم والعر ِ‬ ‫ب آونة‬ ‫في العجْ م يوما وفي األعرا ِ‬
‫ب‬ ‫يا ليت شعري بما في غفو ِة ال ُح ُج ِ‬ ‫الحروف على أرض ُمحجبة‬ ‫ُ‬ ‫تمشي‬

‫إلى أن يقول‪:‬‬
‫س َحري أ َ ْلقى وال َ‬
‫طر ِبي‬ ‫واآلن ال َ‬ ‫س َحرا‬
‫أنغام ِه َ‬
‫ِ‬ ‫لحن َ‬
‫طربتُ على‬

‫ثم يستأنف حسرته على غربة اللغة العربية التي سماها مجازا بالقلم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ب‬
‫س ِ‬ ‫الحرف من رحم ومن نَ َ‬‫ِ‬ ‫َوشائ ُج‬ ‫نساب وارت َفَعتْ‬
‫ُ‬ ‫طعتْ دونه األ َ‬‫ت َقَ َّ‬
‫ب‬ ‫ضيعةَ ْ‬
‫الدم ِع َمسفُوحا على العَت َ ِ‬ ‫يا َ‬ ‫دامعَهُ‬
‫ب الماضي َم ِ‬ ‫عت َ ِ‬
‫ذري على َ‬‫يُ ِ‬
‫ب‬‫طنُ ِ‬ ‫على ِعماد ولم يُم َد ْد على ُ‬ ‫نهض َكوا ِهلُهُ‬
‫ْ‬ ‫متى البنا ُء؟ ولم ت َ‬

‫ويختم قصيدته ببصيص أمل بعد أن تقطعت األسباب واألنساب بهذه اللغة بقوله‪:‬‬

‫عدتُ ألم ها هنا َوأ َ ِ‬


‫ب‬ ‫فاليو َم ُ‬ ‫إلن بَقيتُ بال ظل وال شجر‬

‫ال يزال الوصف السمة السائدة بديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪ ،‬وال تزال القصائد الالحقة‬
‫فيه كثيرة‪ ،‬ويتكرر وصفه لجوانب عدة من وطنه‪ ،‬ففي قصيدة (أبجديات األرض) يتحدث‬
‫عن الجمجمة "توماي" التي زعم علماء اآلثار المضللون أنها جمجمة ألقدم تشادي وجد في‬
‫هذه البالد‪ ،‬وأن أصله قرد‪ ،‬وإليه ينسب التشاديون‪ ،‬وزعموا أن هذه الجمجمة قديمة قدم‬
‫التاريخ‪ ،‬فيسخر شريف من هذا ال ِقدم والذي يقاربه إلى األسطورة سندباد فيقول‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫ُباب‬
‫وع ْ‬ ‫وشراع‬ ‫سندباد‬ ‫يكن ث َ َّم بها‬
‫ْ‬ ‫سندباد!! ل ْم‬
‫َ‬
‫الخراب‬
‫ْ‬ ‫لما قبْل‬ ‫وتعداها‬ ‫ِعمرانها‬ ‫َوطوى األيا َم في‬

‫وها هو يصف المآمرات التاريخية على تاريخ هذه البالد بقوله‪:‬‬


‫سياب‬
‫ْ‬ ‫ِلمجاري الش ِّر في الخيْر ا ْن‬ ‫ف ت ِ ّل أَخضر‬
‫ها هنا َخ ْل َ‬

‫ثم يقول توماي هذا‪:‬‬


‫جواب‬
‫ْ‬ ‫ار فيه َو‬ ‫ك ْم سؤال َح َ‬ ‫آبا ِئ ِه‬ ‫األنساب في‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َحار ِ‬
‫اإلياب‬
‫ْ‬ ‫عتْ في المدى َخ ّ‬
‫ط‬ ‫وأضا َ‬ ‫آدما‬ ‫األوها ُم فيه‬ ‫ت‬‫َجاز ِ‬
‫راب"‬‫آثر المأوى إلى أرض "ال ُج ْ‬ ‫َمالَهُ؟‬ ‫ْ‬
‫ولكن‬ ‫الدنيا‬ ‫ومشى‬

‫هذه الجمجمة ال يُعرف لها أصل‪ ،‬وال عرق‪ ،‬وال نسب‪ ،‬والكثير من التساؤالت تحوم حول‬
‫ناس آخرون‪ ،‬وإذا كان في مجموعة بشرية فأين هي‬ ‫توماي هذا؟ من والديه؟ أال يوجد معه أ ُ ٌ‬
‫آثارهم؟ وعلى الرغم من أن هذه التساؤالت طالت "نبينا آدم" أيضا‪ ،‬إال أن التساؤالت التي‬
‫طالت توماي قد جاوزتها‪ ،‬وأرض ال ُجراب هي "منخفض ُجراب" الذي ُزعم وجود‬
‫الجمجمة فيه‪.‬‬
‫قصيدة ذكرى المحرقة‬
‫يخرج محمود شريف من الوطن الصغير "تشاد" إلى عالمه الكبير‪ ،‬وهو العالم اإلسالمي‪،‬‬
‫فيصف حاله في قصيدتين‪( :‬بقية نصل) التي كانت األوضاع في فلسطين وسوريا دافعا له‬
‫لكتابتها‪ ،‬وقصيدة (انعكاسات على مرآة الماضي) التي وصف فيها حالة العالم اإلسالمي‬
‫أجمع‪ ،‬فيقول في (بقية نصل) متحدثا عن النصر الذي كان مالزما للعالم اإلسالمي‪:‬‬
‫قاطعُ ْه‬
‫يُ ِ‬ ‫وحينا‬ ‫ِحينا‬ ‫يُواصلُهُ‬ ‫ويُطا ِلعُ ْه‬ ‫ال َق َنا‬ ‫بيْن‬ ‫يُراقبُهُ‬
‫طالئعُ ْه‬ ‫ب‬
‫ق الغيا ِ‬ ‫ْ‬
‫أف ِ‬ ‫فتَمتد في‬ ‫صب ِْح ِه‬‫ُ‬ ‫باشير‬
‫َ‬ ‫يُري ِه على َنأْي ت َ‬
‫َمطا ِلعُ ْه‬ ‫وتَبْلى‬ ‫أُخراهُ‬ ‫ت َ َج َّد ُد‬ ‫ِنصالُهُ‬ ‫َدبَّجتْهُ‬ ‫شَعر‬ ‫كأنكَ‬

‫مشيرا إلى تقلبات األوضاع السياسية في فلسطين وسوريا‪ ،‬وذلك من خالل الصد والرد بين‬
‫حركات المقاومة والمحتلين في فلسطين‪ ،‬والصد والرد بين الحزب الحاكم والمعارضين في‬
‫سوريا‪ ،‬فمن يتابع األخبار يرى تباشير النصر مرة‪ ،‬والهزيمة مرة أخرى‪ ،‬كأن النصر لم‬
‫يثبت على حال‪ ،‬فهو يتراءى حينا‪ ،‬ويختفي حينا آخر‪.‬‬
‫إلى أن يقول‪:‬‬
‫ع ْه‬
‫ُمطا ِو ُ‬ ‫و َي ْعصي‬ ‫عاصي ِه‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫يُطاو ُ‬ ‫صروفُهُ‬
‫ُ‬ ‫للدهر كيف‬
‫ِ‬ ‫فَيا َ‬
‫ع َجبا‬

‫‪31‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫دامعُ ْه‬
‫َم ِ‬ ‫البالء‬
‫ِ‬ ‫َه ْو َل‬ ‫َ‬
‫اختزلتْ‬ ‫قد‬ ‫حر خ ِ ّد ِه‬
‫َجرى "بَ ْردَى" دمعا على ِ ّ‬

‫"بر دى" نهر بسوريا‪ ،‬يقول الشاعر عن جريانها إنما هو دمع من شدة التحسر على ما مرت‬
‫ْ‬
‫به البالد من ويالت الحرب‪ ،‬وهذه الدموع هي أبلغ وصف لما عانته سوريا وما تعانيه‪.‬‬
‫ع ْه‬
‫وشوار ُ‬
‫ِ‬ ‫حا ِل ِه‬ ‫عن‬ ‫تُحدثُنا‬ ‫ي ِ بُيُوتُهُ‬
‫الحزن الشج ّ‬
‫ِ‬ ‫يَكا ُد من‬
‫ع ْه‬ ‫على حلب والرو ُم فيها ت ُ ِ‬
‫صار ُ‬ ‫َ‬
‫سيف الدول ِة اليوم قائما‬
‫َ‬ ‫ولم أ َ َر‬

‫ليس النهر وحده من يبكي البالد‪ ،‬بل الشوارع‪ ،‬واألحياء‪ ،‬والبيوت المتهدمة كلها تتحدث من‬
‫الفجائع والمأساة‪ ،‬كأن حلب التي شهدت سيف الدولة الذي حارب فيها الروم ليست حلب‬
‫اليوم‪.‬‬
‫ومن هول مصيبة العالم اإلسالمي‪ ،‬وعظم فاجعتها‪ ،‬وهوانها على الناس‪ ،‬وانكسار شوكتها‪:‬‬
‫وتُمانِعُ ْه‬ ‫أكفانُهُ‬ ‫عهُ‬ ‫تُ ِ‬
‫ناز ُ‬ ‫ضريح ِه‬
‫ِ‬ ‫الدين تحتَ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫كأن صال َح‬

‫للعودة مرة أخرى إلى الحياة‪ ،‬ونصرة اإلسالم‪ ،‬ورفع رايته التي سقطت‪ ،‬وهذا كناية عن‬
‫الشهيد‪ ،‬فالشهيد ال يموت‪.‬‬
‫ع ْه‬
‫صار ُ‬
‫نان َم ِ‬
‫الج ِ‬
‫ِ‬ ‫شَهيد على َمر َمى‬ ‫ير سيّد‬
‫غ ُ‬‫س ِل ال َح ْو َر هل في ظ ِلّهَ َ‬
‫َ‬

‫أما شريف‪ ،‬فال يفارقه األمل في وصف كل حال سيء في أن يتحسن‪ ،‬ألنه يختم أغلب‬
‫تحسراته بآمال فيختتم قائال‪:‬‬
‫المعُ ْه‬
‫ِ‬ ‫ال ُم َّ‬
‫ؤز ِر‬ ‫للنصر‬
‫ِ‬ ‫إذا ارت َّد‬ ‫السيف نحو قِرا ِب ِه‬
‫ُ‬ ‫سيرتَد هذا‬
‫ْ‬
‫َمرابِعُ ْه‬ ‫و ِت ْلكَ‬ ‫َم ْغناهُ‪،‬‬ ‫فهاتِيكَ‬ ‫ضا إِهابة‬ ‫َ‬
‫غ ًّ‬ ‫ُهنا َرتَ َع التاري ُخ‬

‫ثم يستمرا ي اإلطار ذاته في قصيدة (انعكاسات على مرآة الماضي) في وصف ما آلت إليه‬
‫شوه معالمها من حروب‪ ،‬ودمار ويقول‪:‬‬
‫األمة اإلسالمية من انكسار‪ ،‬وخذالن‪ ،‬وما ّ‬
‫َحما َها كفها ال َم ِ‬
‫احي‬ ‫إال َّ بقايا‬ ‫راحي‬ ‫ْ‬
‫بأف ِ‬ ‫الحزن ك ْم أو َدتْ‬
‫ِ‬ ‫مشاه ُد‬
‫احي‬
‫ص ِ‬ ‫ع ِهدت ُك يوما ذاتَ إِ ْف َ‬ ‫َ‬ ‫أ َ َما‬ ‫ُمعجمة‬ ‫واآلثار‬
‫ُ‬ ‫بالدار‬
‫ِ‬ ‫أ َ ُمر‬
‫احي‬‫حركتْ في ث َرى األ َ ْطال ِل أشبَ ِ‬ ‫ت َ َّ‬ ‫ب أندلس‬ ‫طرتْ في القل ِ‬ ‫وكلَّ َما خ َ‬
‫احي‬ ‫صبَ ِ‬
‫ظالم ِم ْ‬
‫اإل ِ‬ ‫ِ‬ ‫سبُ ِل‬
‫ُ‬ ‫و َ‬
‫ض َّل في‬ ‫ض ْعتُ في ال ِت ّي ِه ِنيرانِي و ُه َّن ُهدى‬ ‫أَ َ‬

‫‪32‬‬
‫ما نشاهده اليوم على شاشات األخبار من مآس ومجازر‪ ،‬ومحارق‪ ،‬كفيل بأن يمحو الفرحة‬
‫من النفس‪ ،‬فقد أودت بأفراح الشاعر ومسراته‪ ،‬حتى المعالم المعروفة صارت غريبة اليوم‪،‬‬
‫فيعاتبها بحزن‪ :‬أما عهدتك يوما ذات إفصاحي‪ ،‬وهذا الشطر مليء بالحزن واألسى‪.‬‬
‫هذه قصيدة واضحة المعاني‪ ،‬وقريبة للذهن‪ ،‬ال تحتاج إلى جهد لفهم مرادها ومقصودها‪،‬‬
‫فشريف لم يترك مجاال إلساءة الفهم من دقة الوصف‪.‬‬
‫يقول متحدثا بلسان العالم اإلسالمي‪:‬‬
‫ْباحي‬
‫ميناء ِإص ِ‬ ‫ِ‬ ‫النجوم إلى‬
‫ِ‬ ‫س ْف َن‬
‫ُ‬ ‫هذا اللي َل ُم ْمت َ ِطيا‬ ‫متى أ ُ ُ‬
‫جاوز‬
‫الراحِ‬
‫الحزن ال من سكر ِة َّ‬
‫ِ‬ ‫من َحيْر ِة‬ ‫ي مضطربا‬ ‫في ج ْنب َّ‬ ‫القلب‬
‫ُ‬ ‫ترنّح‬
‫ُمجْ تَاحِ‬ ‫َي ْغتالُ ِني في طري ِقي لي ُل‬ ‫الضوء أتبعُهُ‬ ‫ِ‬ ‫ورا َء‬ ‫طو‬ ‫وحين أخ ُ‬
‫سيَّاحِ‬‫ُ‬ ‫إعجاب‬
‫َ‬ ‫صورتُها‬
‫ُ‬ ‫تُ ُ‬
‫ثير‬ ‫أنقاض مملكة‬ ‫ُ‬ ‫سوى‬ ‫لم يَبْقَ مني‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الرثاء‪.‬‬


‫الرثاء لغة‪ :‬من (رث َ ْيتُ ) الميت من باب رمى و ( مرثية ) أيضا و (رثوتُهُ) من باب عدا إذا‬
‫ْت َمحا ِسنَهُ وكذا إذا نظمت فيه شعرا‪.1‬‬ ‫بكيتهُ و َ‬
‫ع َدد َ‬
‫)رثأ) مهموز ( لُغَةٌ فِي َرث َى الميت) المعتل‪َ ،‬رث َأتُ الرجل بعد موته رثأ ً‪ :‬مدحته‪ ،‬وكذلك‬
‫ت ‪ ،‬وهي ال َم ْر ِثئَةُ‪ ،‬وقالت امرأة من العرب‪َ :‬رثَأْتُ زَ ْوجي‬
‫رثأت المرأة زوجها‪ ،‬في َرث َ ْ‬
‫ت‪ ،‬أرادت َرثَ ْيتُه‪ .‬قاله الجوهري والصاغاني نقالً عن ابن السكيت‪ :‬وأصله‬ ‫بأبيات ‪ ،‬وه َمزَ ْ‬
‫غير مهموز‪ ،‬قال الفراء ‪ :‬وهذا من المرأة على التوهم ‪ ،‬ألنها رأتهم يقولون َرثَأْتُ اللبن ‪،‬‬
‫فظنت أن المرثية منها‪.2‬‬
‫وقد عرفت اللغة الفرق بين الرثاء والتأبين فقالوا‪ :‬إن التأبين هو الثناء على الشخص بعد‬
‫موته‪ ،‬أما الرثاء‪ :‬فبكاء الميت‪ ،‬وتعديد محاسنه‪ ،‬ونظم الشعر فيه‪ ،‬ويقال‪ :‬النائحة ترثي‬
‫الميت‪ :‬تترحم عليه‪ ،‬وتندبه‪ ،‬والندب كالرثاء‪ :‬بكاء الميت وتعديد محاسنه‪.3‬‬
‫لم يحت ِو ديوان (وجوه ال تعكسها المرايا) إال على مرثية واحدة‪ ،‬وهي قصيدة (لم يحن بعد)‪،‬‬
‫التي رثى فيها عميد الصحافة التشادية "آدم عبدهللا" مؤسس ومدير جريدة أنجمينا الجديدة‬
‫يوم قال للحياة كفى وفارقها‪ ،‬الرجل الذي كانت وفاته صدمة ثقافية للصحافة العربية في‬
‫تشاد‪ ،‬وهو األخ األصغر لعميد األدب العربي‪ ،‬الشاعر الراحل "عيسى عبدهللا"‪ ،‬وقد كان‬
‫الشاعر محمود شريف على احتكاك به‪ ،‬فرثاه بهذه القصيدة التي تبدو تأبينية أكثر منها‬
‫مرثية‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الرازي‪ ،‬محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر‪ ،‬مختار الصحاح‪ ،‬مادة (ر ث ا)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫الزبيدي‪ ،‬مرتضى‪ ،‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬باب الهمزة فصل الراء‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫بدوي‪ ،‬أحمد أحمد‪ ،‬أسس النقد عند العرب‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬الطبعة التاسعة‪1122 ،‬م‪ ،‬الجيزة‪ /‬مصر‪ ،‬ص ‪.119‬‬

‫‪33‬‬
‫نَ ْكبُ ُر‬ ‫في ِه‬ ‫ُكلما‬ ‫فيه‬ ‫ونصغُ ُر‬ ‫العمر كالخي ِل يَ ْعث ُ ُر‬
‫ُ‬ ‫ت َ َر َّج ْل فهذا‬
‫سو َوت ُ ْب ِح ُر‬ ‫َهذي الس ْفنُ ت َ ْر ُ‬ ‫وخلفَكَ‬ ‫غير ساحل‬ ‫البحر في ِ‬
‫ِ‬ ‫َرمى بكَ مو ُ‬
‫ج‬

‫كان "آدم عبدهللا" كبيرا في العمر‪ ،‬وهزيل البنية‪ ،‬كث ُ َر ْ‬


‫ت أمراضه في أواخر عمره‪ ،‬يقول‬
‫شريف‪:‬‬
‫وقَلَّ َل منها عز ُمهُ وهي ت َ ْكث ُ ُر‬ ‫وك ْم َدفَ َع األسقا َم وهي شديدة‬
‫ص ُر‬ ‫العزم قَ ْي َ‬
‫ِ‬ ‫الصدر ق ِ ّديس وفي‬
‫ِ‬ ‫وفي‬ ‫الصبر أيوب وفي الظ ِ ّل َمريم‬
‫ِ‬ ‫من‬

‫ثم يقول‪:‬‬
‫ط ُر‬ ‫ف أ َس ُ‬ ‫ق في رم ِل الصحا ِئ ِ‬ ‫ور ُ‬‫َفت ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫صخ ِر اليراعِ َمنا ِبعا‬ ‫ت ُف ِ ّج ُر في‬
‫معبر‬
‫ُ‬ ‫ت ال ُمحا ِو ِل‬‫جف من تح ِ‬‫َّ‬ ‫إذا‬ ‫طرية‬ ‫َ‬
‫طريقا‬ ‫لآلتي‬ ‫ت ُه ّ‬
‫ي ِ ُء‬
‫نبر‬
‫َم ُ‬ ‫وكفكَ‬ ‫محراب‬ ‫فقلبُكَ‬ ‫سي َم ُخطة‬ ‫ويأ ْ ِوي إليكَ الضا ُد إن ِ‬

‫وضع "آدم عبدهللا" على عاتقه هم اللغة العربية‪ ،‬وحاول أن يدعمها بصحيفته (أنجمينا‬
‫الجديدة)‪ ،‬فقد كان يستقطب ال ُكتّاب من هنا وهناك‪ ،‬وعمل بجهد وتعب متواصل دون كلل أو‬
‫ملل من أجل هذه الصحيفة‪ ،‬وحرص بشكل كبير على تميزها وتفردها‪ ،‬ف َه ُّم اللغة العربية‬
‫كان شغله الشاغل‪ ،‬وقد ازدهرت الصحافة العربية في عهده أيما ازدهار‪ ،‬حتى أن بعض‬
‫مثقفي العربية ينتظر صدور العدد الجديد بلهفة‪ ،‬وقد كانت الجريدة تتناول مواضيع عدة في‬
‫كثير من المجاالت‪ ،‬ما يجعلها جريدة ممتعة لكثير من الميول والمزاجيات‪ ،‬ويصدق قول‬
‫ط ُر)‪ ،‬كناية عن ازدهار الصحافة العربية عبر‬ ‫ف أَس ُ‬
‫ق في رم ِل الصحائِ ِ‬ ‫شريف فيه‪( :‬فَت ُ ِ‬
‫ور ُ‬
‫جريدته‪.‬‬

‫ال ُمت َ َك ِ ّ‬
‫س ُر‬ ‫َوج ُهها‬ ‫فيه‬ ‫تَ َ‬
‫ش َّك ُل‬ ‫ُهنا الضا ُد في َمرآتِ ِه ُ‬
‫صورة لها‬

‫من شدة تعصب "آدم عبدهللا" للغة الضاد تكاد حين تراه ال يتبادر لذهنك إال الضاد‪ ،‬ونصرة‬
‫العربية‪ ،‬والدفاع عنها‪ ،‬حتى يكاد إذا نظر إلى المرآة ال يرى انعكاس صورته‪ ،‬بل يرى‬
‫اللغة العربية متمثلة فيه‪ ،‬فهو انعكاس لها وهي انعكاس له‪.‬‬
‫ص ُر‬
‫ليس يُ ْب َ‬
‫َ‬ ‫ب ما‬
‫وراء الغ ْي ِ‬
‫ِ‬ ‫يَرى من‬ ‫قلبُهُ‬ ‫النبو َء ِة‬ ‫ِبمشكا ِة‬ ‫يُشع‬

‫أما هذا البيت فيكاد يكون حقيقة‪ ،‬ألن العم "آدم" كانت لديه فراسة حول األشخاص والواقع‬
‫المعاش‪ ،‬فال يكاد يمر حدث ما‪ ،‬أو واقعة تثير المجتمع‪ ،‬إال وكان له تحليله ووجه نظره‬
‫وتعليله لألحداث‪ ،‬وكأنه يتنبأ بمآالت ما حدث‪ ،‬لقد كانت لديه دائما تحليالته السياسية‬
‫الخاصة‪ ،‬ونظرته المجتمعية المستوعبة‪ ،‬وثقافته الواسعة التي تجعله يعمل بمقولة‪ :‬التاريخ‬
‫يعيد نفسه‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫كما كان يتنبأ بال مواهب‪ ،‬من جيد ورديء‪ ،‬فعندما تمر عليه موهبة على العتبات األولى لسلم‬
‫الكتابة‪ ،‬كان يت نبأ بقدرة صاحب الموهبة على االستمرار أو التوقف‪ ،‬فكان يعبر أحيانا بقوله‪:‬‬
‫فالن سيصبح ذا شأن في المجال الفالني‪ ،‬أو أن يقول‪ :‬فالن ليس له من الكتابة نصيب‪.‬‬
‫صد ُُق تنبؤاته وكأنه يعلم شيئا من الغيب‪ ،‬وما هي إال شدة الفراسة‪.‬‬
‫وكانت ت َ ْ‬
‫ومؤلم البيت الذي اختتم به شريف القصيدة‪ ،‬كأنه يبين أن هذا الرجل لم يوقر كما يجب‪ ،‬ولم‬
‫يحصل على مكانته المستحقة‪ ،‬وكأن رحيله مبكر‪:‬‬
‫يَتَأ َ َّخ ُر‬ ‫أنهُ‬ ‫لو‬ ‫راحال‬ ‫ويا‬ ‫َمنازل‬ ‫سعَفَتْهُ‬
‫أ ْ‬ ‫لو‬ ‫قمرا‬ ‫فَيا‬

‫المطلب الثالث‪ :‬المدح‪.‬‬

‫سنَ الثناء عليه‪َ ،‬ك َمد َحهُ ْ‬


‫وامت َ َد َحهُ وت َ َمد َحهُ‪.‬‬ ‫المدح من‪َ :‬م َد َحهُ‪ ،‬كمنعه‪َ ،‬م ْد ًحا َو ِم ْد َحةً‪ :‬أ َ ْح َ‬
‫والم ْد َحةُ واألمدُو َحةُ ‪ :‬ما ي ُْم َد ُح به‪ ،‬ج‪ :‬مدائح وأماديح‪ .‬و ُم َمد ٌح‪َ ،‬ك ُم َحم ٍد ‪َ :‬م ْمدُو ٌح‬ ‫وال َمدِي ُح ِ‬
‫ف أَن ي ُْم َد َح ‪ ،‬وا ْفتَخ ََر ‪ ،‬وتَشَب َع بما ليس ِع ْن َدهُ‪.1‬‬
‫جدًا ‪ .‬وت َ َمد َح ‪ :‬ت َ َكل َ‬
‫المدح (لغويا)‪ :‬مديح‪ ،‬تقريظ‪ ،‬تمجيد‪ ،‬إبراز الحسنات‪.‬‬
‫ال مدح (أدبيا)‪ :‬فن من فنون األدب‪ ،‬السيما في الشعر‪ ،‬وقد راج في كثير من العصور‬
‫القديمة‪ ،2‬والمدح‪ :‬خطاب أو قصيدة تلقى بشكل علني‪ ،‬يكون محورها اإلشادة بمناقب‬
‫ومحاسن وإنجازات شخص‪ ،‬أو جهة أو مؤسسة‪ ،‬أو هيئة‪.3‬‬
‫احتوى ديوان شريف على قصيدة مدحية واحدة فقط‪ ،‬وهي‪( :‬عشرون سنبلة)‪ ،‬والتي‬
‫كتبها بمناسبة مرور عشرين عام على تأسيس منظمة النهضة الشبابية التشادية‪.‬‬
‫يقول شريف متحدثا بلسان المنظمة‪:‬‬
‫س ُجونَا‬
‫َم ْ‬ ‫يَ َز ْل‬ ‫ل ْم‬ ‫يسافر‬
‫ْ‬ ‫لم‬ ‫من‬ ‫نين لك ْي أرى‬
‫الزمن ال َج ِ‬
‫ِ‬ ‫سافرتُ في‬

‫إنه يتحدث عن نشأة المنظمة التي كانت في زمن لم يولد بعد‪ ،‬وربما يقصد به والدة منظمة‬
‫كهذه في زمن ال يولد فيه مثيالتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫غصو َنا‬ ‫البقاء‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫ُجذور‬ ‫َخ َذلَتْ‬ ‫الجفاف وطا َل َما‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫أورقتُ في عه ِد‬

‫‪1‬‬
‫الفيروزأبادي‪ ،‬مجد الدين محمد بن يعقوب‪ ،‬القاموس المحيط‪ ،‬مادة (م‪ ،‬د‪ ،‬ح)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫فارس‪ ،‬خالد محمد‪ ،‬معجم الفنون األدبية‪ ،‬دار أسامة للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪1121 ،‬م‪ ،‬عمان‪ /‬األردن‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.2211‬‬
‫‪3‬‬
‫نصار‪ ،‬نواف‪ ،‬معجم المصطلحات األدبية‪ ،‬عربي – إنجليزي‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪( ،‬مصطلح "مدح")‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وهنا يقصد اإلنجازات التي قامت بها المنظمة خالل أعوامها العشرين‪ ،‬فهي رغم الحياة‬
‫ت لنفسها قوة ومكانة جعلتها ظال ظليال للكثير من‬ ‫الصعبة‪ ،‬وقلة اإلمدادات والدعم‪ ،‬أوج َد ْ‬
‫األنشطة الثقافية‪ ،‬والمشاريع الخيرية‪ ،‬ولها من اإلنجازات العظيمة الكثير‪.‬‬
‫وعُيونَا‬ ‫َجذوة‬ ‫المواق َد‬ ‫تُعطي‬ ‫وجمرة‬
‫ْ‬ ‫الرما ِد‬ ‫لي نهضة تحتَ‬

‫من اسمها نشأ حالها‪ ،‬فاسمها منظمة النهضة‪ ،‬وما تقوم به هو النهضة بعينها‪ ،‬فقد حرصت‬
‫المنظمة على التطوير‪ ،‬والنماء‪ ،‬والدعم للمواهب واستقطابها‪ ،‬فكل ما تقوم به هو في مجمله‬
‫نهضة‪.‬‬
‫سكونَا‬
‫ُ‬ ‫المدار‬
‫ِ‬ ‫مع‬ ‫أستطي ُع‬ ‫ال‬ ‫ألنني‬ ‫الهال ِل‬ ‫إلى‬ ‫انتميتُ‬ ‫إني‬

‫فالمدار الفلكي ثابت‪ ،‬والهالل متحرك‪ ،‬وما تقوم به المنظمة من إنجازات يجعل أعضاءها‬
‫في حركة دائمة كالهالل المتنقل في السماء طوال العام‪ ،‬وليس كالمدار الساكن‪ ،‬فهذا السكون‬
‫ال يليق بهم‪ ،‬وال يشبههم أن يكونوا مكتوفي األيدي تجاه الوضع المجتمعي حولهم‪ ،‬بل البد‬
‫أن تكون لهم بصمتهم في تحسين الواقع المعاش‪.‬‬
‫وقمة الفخر في هذه المثابرة تتمثل في قدرة المنظمة على العطاء‪ ،‬واالستمرار فيه‪ ،‬على‬
‫عكس المؤسسات المماثلة التي يسطع نجمها لسنة أو سنتين ثم يأفل وتمحى آثارها وتُنسى‬
‫أحيانا‪ ،‬فالنهضة رغم كل الظروف المتماثلة في هذا النوع من المجاالت كسرت العادة‪،‬‬
‫وحافظت على استمرارية عطائها‪ ،‬فقال شريف على لسانها متفاخرا‪:‬‬
‫الضعاف َم ِتينا‬
‫ِ‬ ‫صحوا ومن َدع َْوى‬ ‫ت ال َك َرى‬ ‫وخرجتُ من كل احتماال ِ‬
‫ُجفُونَا‬ ‫اهر َ‬
‫ين‬ ‫س ِ‬ ‫ال َّ‬ ‫لي َل‬ ‫ومنحتُ‬ ‫ِحين ليَ ْنبُتُوا‬
‫وسقَيْتُ يو َم الكاد َ‬

‫ثم يمدح أعضاء المنظمة بقوله‪:‬‬


‫عَري َنا‬ ‫وال َمرا َم‬ ‫ُجندا‪،‬‬ ‫ق‬‫والح َّ‬ ‫غاية‬ ‫المبادئ َ‬
‫َ‬ ‫في فِتْية صا ُ‬
‫غوا‬
‫يَ ِقي َنا‬ ‫الشكوك‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫َ‬
‫والعائدين‬ ‫َج ِليلَة‬ ‫ك ِ ّل‬ ‫مار‬
‫ِغ َ‬ ‫الخا ِئ َ‬
‫ضين‬

‫وفوق العشرين عام التي قضتها المنظمة‪:‬‬


‫ِألَكُو َنا‬ ‫سي ِْر َها‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫ع ََّو ْقتُها‬ ‫الزمان دقائق‬
‫ِ‬ ‫إن يبقَ في ِرئ َ ِة‬

‫وهذا عزم من المنظمة على البقاء والثبات واالستمرار‪ ،‬حتى إذا بقيت من الحياة بضعة‬
‫دقائق ستحرص على إعاقتها عن االنقضاء كي تكون كما ينبغي‪.‬‬
‫كما أن مشوار األلف ميل يبدأ بخطوة فمنظمة النهضة كذلك‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫ِعش ِْرينَا‬ ‫ال َمدى‬ ‫في‬ ‫تَزر ُ‬
‫ع‬ ‫واليو َم‬ ‫البدء كانتْ شتلة من ُخطوة‬
‫ِ‬ ‫في‬

‫المطلب الرابع‪ :‬الفخر‪.‬‬


‫طع و( فَ ْخرا) بفتحتين‪،‬‬ ‫لغة‪( :‬الفَخ َُر) بسكون الحاء وفتحها (اال ْف ِتخار) وع ُّد القديم و بابُهُ قَ َ‬
‫فاخ ُر) كالخصيم المخاصم‪ ،‬و(ال ِف ِ ّخ ُ‬
‫ير)‬ ‫ير ) ( ال َم ِ‬‫و(أفتخر) أيضا و(تفاخر) القو ُم‪ ،‬و( الفَ ِخ ُ‬
‫بوزن الس ِ ّكيت الكثير ال َف ْخ ِر‪ ،‬و(فاخره) ففَخ ََرهُ من باب قطع و(فخرا ً) أيضا بفتحتين أي كان‬
‫أكرم منه أبا وأما‪ ،‬و( ال َم ْف َخ َرة ُ ) بفتح الخاء وضمها المأثرة‪.1‬‬
‫اصطالحا‪:‬‬
‫افتخارا بالقبيلة وتاريخها وأمجادها‪ ،‬وما يتحلى به رجالها من‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ما يقال من شعر‬
‫المآثر واإلخالص العاليين‪ ،‬والعراقة والسرعة إلى النجدة‪ ،‬والكرم والجاه وحسن‬
‫الجوار‪.‬‬
‫‪ -‬ما يقوله الشاعر فخرا ً بنفسه من عفة وكرم وبسالة وشجاعة ونسب‪ ،‬وقد يفخر‬
‫الشاعر بشعره وتفوقه فيه‪.2‬‬
‫ألن الوصف مأل الديوان‪ ،‬لم يترك مجاال لباقي األغراض األخرى أن تستوفي حقها‪ ،‬فيكاد‬
‫تكون لكل أغراض شريف قصيدة واحدة فقط‪ ،‬وهكذا الحال مع غرض الفخر‪ ،‬ال توجد‬
‫بديوان وجوه ال تعكسها المرايا إال قصيدة واحدة فقط ‪.‬‬
‫قصيدة (أنا والشعر)‪ ،‬هي القصيدة الفخرية الوحيدة التي كتبها شريف‪ ،‬ولهذه القصيدة قصة‬
‫قديمة‪ ،‬تصل ألكثر من خمسة عشر عاما‪ ،‬حيث كان محمود شريف في مسابقة شاعر‬
‫الجامعة – جامعة الملك فيصل‪ ،-‬وطلبت لجنة التحكيم من المتسابقين ارتجال بيت من‬
‫الشعر‪ ،‬فارتجل آخر بيتين في القصيدة وهما‪:‬‬
‫س‬ ‫سو َخةَ األ ُ ُ‬
‫س ِ‬ ‫ليستْ بها آمة َمر ُ‬ ‫بالشعر أ َ ْلحانا ُم َ‬
‫ط َّر َبة‬ ‫ِ‬ ‫ص ْغتُ‬
‫ُ‬ ‫قد‬
‫الرهان وال تَحْ ِم ْل على الفَ َر ِس‬
‫َ‬ ‫دعِ‬ ‫س ِبقَنِي‬ ‫الفرس العادِي ِليَ ْ‬
‫ِ‬ ‫راكب‬
‫َ‬ ‫يا‬

‫وقد كان شريف في المرحلة األخيرة من المسابقة‪ ،‬وكان على وشك الفوز باللقب‪ ،‬فارتجل‬
‫هذين البيتين من وحي اللحظة‪ ،‬وقد كان شعور الفوز مسيطر عليه‪ ،‬ألنه واثق من أنه صاغ‬
‫شعرا مطربا ليس به آمة‪ ،‬أي ليس به عيبا‪ ،‬وهو ما ظهر جليا في هذين البيتين‪ ،‬حتى أنه‬
‫يزجر منافسيه بكل ثقة بقوله‪ :‬أنكم وإن كنتم تمتطون أعدى الخيل وأقواها عليكم أن‬
‫تتراجعوا‪ ،‬وال تتعبوا خيولكم‪ ،‬فالنتيجة واضحة‪ ،‬والفوز لي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مختار الصحاح‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬مادة (ف‪ ،‬خ‪ ،‬ر)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫نصار‪ ،‬نواف‪ ،‬معجم المصطلحات األدبية‪ ،‬عربي – إنجليزي‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪( ،‬مصطلح "فخر")‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ثم بنى باقي القصيدة بعد هذين البيتين‪ ،‬مفتخرا بمقدرته الفذة على نظم الشعر‪ ،‬و ُحق له أن‬
‫يتفاخر بذلك‪ ،‬فقد حصد لقب شاعر الجامعة في تلك المسابقة‪.‬‬
‫استهل شريف القصيدة بحيازته للحرف فقال‪:‬‬
‫س‬‫ش ََو ِار ُد اللّحْ ِن نَ ِاري بَ ْع ُد ِذي أ ُ ْن ِ‬ ‫أرضي بع ُد ذي يَبَ ِس‬
‫ِ‬ ‫ف‬‫الحر ِ‬
‫ْ‬ ‫ب‬
‫سحائِ ُ‬
‫ض ْوء من القَ َب ِس‬ ‫قَ ْبض من الرم ِل أو َ‬ ‫شفَ ِتي‬
‫الحرف في َ‬
‫ِ‬ ‫ونار‬
‫ُ‬ ‫ص ْوتي‬
‫كأن َ‬ ‫َّ‬

‫وعلى الرغم من حيازته للحرف اليزال صوته كالشعراء التشاديين‪ ،‬فصوتهم ما يزال غير‬
‫مسموع‪ ،‬وشعرهم كأنه حفنة رمل من صحراء واسعة‪ ،‬أو ضوء من بعيد ال يكاد يرى‪.‬‬
‫ثم يقول من شدة حبي للقصائد‪:‬‬
‫س ِس‬ ‫والنجْ ُم في األ ُ ْف ِ‬
‫ق ق ْد َملَّتْ ِم َن ا ْل َع َ‬ ‫ُم َر َّددَة‬ ‫قَوافي َها‬ ‫َملَ ْلتُ‬ ‫فما‬

‫أي مهما طال عهدي بالشعر لن أم ّل قوافيه‪ ،‬لن أم ّل سماعه‪ ،‬ولن أم ّل قوله وكتابته‪ ،‬ربما‬
‫ق على عهد‬ ‫ت َ َم ُّل النجوم من عسعسة الليل‪ ،‬وامتداد الظالم فتغادر في الصباح‪ ،‬أما أنا با ٍ‬
‫الشعر غير منفكٍ عنه‪.‬‬
‫ثم يقول لقد‪:‬‬

‫ُم ْخت َ ِل ِ‬
‫س‬ ‫َخ ْط َو‬ ‫َخ ْطوتُ إليه‬ ‫وما‬ ‫أقالمي َوعاطفَتِي‬ ‫ِ‬ ‫للشعر‬
‫ِ‬ ‫أ َبَحْ تُ‬
‫س‬‫غير ذي َح َر ِ‬ ‫َ‬ ‫أ َ ْلقى لي القَ ْو َل َوحْ يا‬ ‫شيْطانُهُ و ْهو في ثَ ْو َب ْي َمالئكة‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫الد ُر ِ‬ ‫ِل ْْل َ ْر ُ‬
‫س ِم‬ ‫َم ْرثِيَّتِي‬ ‫ودم ُع‬
‫ْ‬ ‫للطير ما لَ َحنَتْ ‪ ،‬للظ ْبي ِ ما َ‬
‫غ َز َلتْ‬ ‫ِ‬

‫أنا ال أتكلف الشعر‪ ،‬بل يأتيني طواعية‪ ،‬يكفي أن تلفت مشاعري قضية ما‪ ،‬فينساب مني‬
‫الشعر دون تكلف‪ ،‬وكأنه يقول أنه شاعر بديهة‪ ،‬وليس شاعرا مصنوعا يتكلف شعره‪،‬‬
‫وينقحه كما يفعل أصحاب الحوليات‪ ،‬يأتيني شيطان شعري كأنه َملَك يوحي إلي دون تكلف‪،‬‬
‫فسليقتي طبيعية كطبيعة الطير في شدوها‪ ،‬وطبيعة التغزل بالظبي‪ ،‬أما أنا أستطيع أن أكتب‬
‫مرثية لألطالل دون تكلف‪.‬‬
‫فهذه هي عالقتي بالشعر‪:‬‬
‫س‬ ‫األ ُ ُ‬
‫س ِ‬ ‫سو َخةَ‬
‫َمر ُ‬ ‫آمة‬ ‫بها‬ ‫ليستْ‬ ‫بالشعر أ َ ْلحانا ُم َ‬
‫ط َّربَة‬ ‫ِ‬ ‫ص ْغتُ‬
‫ُ‬ ‫قد‬

‫‪38‬‬
‫المطلب الخامس‪ :‬الغزل‪.‬‬
‫ْ‬
‫واغتزلت ُه‪ ،‬فهو غ َْزل‪ ،‬بالفتح أي‪ :‬مغزول‪ .‬ونسوة ُ‬
‫غز ٌل‬ ‫ت القطن تغزله‬ ‫الغزل لغة‪ :‬غزلَ ِ‬
‫كر ّكع‪ ،‬وغوازل‪ .‬وأغزل‪ :‬أدار‪ .‬ومغازلة النساء‪ :‬محادثتهن‪ .‬واالسم‪ :‬الغَزَ لُ‪ ،‬والتغزل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪1‬‬
‫التكلف له‪ .‬وغازل األربعين‪ :‬دنا منها ‪.‬‬
‫أما اصطالحا‪ :‬الحديث عن جمال المرأة والتغني بمحاسنها ومفاتنها‪ ،‬ويغلب على شعر‬
‫الغزل طابع الرقة والعذوبة‪.2‬‬
‫وردت قصيدة غزلية واحدة أيضا بديوان وجوه ال تعكسها المرايا‪ ،‬وهي القصيدة التي اختتم‬
‫بها شريف ديوانه‪( :‬سيرة أخرى لشاعر الصحراء "عبدالواحد حسن السنوسي")‪ ،‬ومن‬
‫عنوان القصيدة قد يتبادر للذهن أنها مرثية لشاعر الصحراء عبدالواحد حسن السنوسي‪،‬‬
‫ولكنها في الحقيقة هي قصيدة غزلية بحتة‪ ،‬وقد اختار أن تكون قصيدته سيرة أخرى لعبد‬
‫الواحد ألن عبد الواحد كان أكثر من تغزل من الشعراء التشاديين في أوانه‪ ،‬وها قد فارق‬
‫الحياة‪ ،‬وها هي قصيدة شريف تكون بمثابة إحياء لغزليات عبدالواحد‪.‬‬
‫يعرف عن محمود شريف شدة التحفظ في هكذا أمور‪ ،‬لذلك يمكننا أن نعتبره من شعراء‬ ‫ُ‬
‫التيار المحافظ‪ ،‬فألفاظه مهذبة تمتاز بالتحفظ الشديد‪ ،‬وربما يعود ذلك إلى نشأته الدينية‪،‬‬
‫لدرجة أنه يتحفظ حتى في صياغة عنوان القصيدة‪ ،‬ويلبسها ثوب الرثاء‪ ،‬فمن يقرأ اسم‬
‫عبدالواحد يتبادر لذهنه مباشرة أن شريف يرثيه‪ ،‬وحتى في هذه القصيدة الغزلية التي من‬
‫المتوقع أن تحتوي على ألفاظ متحررة قليال‪ ،‬نجد شريف يستخدم ألفاظا مهذبة جدا‪ ،‬كشاعر‬
‫عذري يحب بعفة‪ ،‬ولعل األمر عائد إلى نشأته الدينية المحافظة‪.‬‬
‫لكن كل ذلك التهذيب الذي يتبناه شريف ال يساوي شيئا أمام قدرته الفذة على التعبير‪،‬‬
‫فهو بقدرة سيطرته على حروفه يهز قلب السامع هزا‪ ،‬واصفا الحب والعشق والهوى‬
‫بوصف ال يقل عن شعراء الغزل أنفسهم‪.‬‬
‫افتتح القصيدة بأقوى وصف لحالة اإلنسان حينما يجتاحه الحب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫التَّوت ُ ُر‬ ‫من ك ّل ا ِت ّ َزانِي‬ ‫ليدخ َل‬ ‫يف ثَباتِي في الرياحِ وأ َ ْعبُ ُر‬ ‫أ ُ ِض ُ‬
‫ا ْل ُمد ََّو ُر‬ ‫ت‬
‫في ك ّل الجها ِ‬ ‫ل َي ْفتح‬ ‫ق دَورةَ ُحبّه ْم‬ ‫ستَ ْك َم َل العُشا ُ‬
‫وما ا ْ‬

‫ما أقواه من وصف لحالة المرء حينما يجتاحه الحب‪ ،‬فأنا رغم ثباتي واتزاني وجالدتي‬
‫حينما وقعتُ في الحب توترت واضطربتُ وفقدت توازني‪ ،‬فقد هزني العشق هزا حتى‬

‫‪1‬‬
‫القاموس المحيط‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬مادة (غ‪ ،‬ز‪ ،‬ل)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫نصار‪ ،‬نواف‪ ،‬معجم المصطلحات األدبية‪ ،‬عربي – إنجليزي‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪( ،‬مصطلح "غزل")‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫اختلطت علي الجهات األربعة‪ ،‬كأنه يدور في دوامة‪ ،‬يدور في دائرة العشق التي ال تحمل‬
‫زوايا‪ ،‬وال جهات‪.‬‬
‫ثم يقول لمحبوبته‪:‬‬
‫الحب في الجرحِ يَ ْكبُ ُر‬
‫ّ‬ ‫نَخيال‪ ،‬فه َذا‬ ‫ت أ َ ْرت َ ِقي‬
‫الجراحا ِ‬
‫ِ‬ ‫أَت َ ْيت ُ ِك َنبْتا في‬

‫ربما يقصد الشاعر هنا أن استعار الحب ال يكون في الوصول إلى المحبوبة‪ ،‬بل يستعر في‬
‫عدم الحصول عليها‪ ،‬يستعر الحب في البعد‪ ،‬والمنع‪ ،‬وذلك ما يولد الشوق‪ ،‬فهذه جروح‬
‫المحبين التي تزيد قوة التعلق‪ ،‬ومصداق ذلك أن شعراء الغزل الذين قالوا أجود قصائد‬
‫الغزل؛ كانت محبوباتهم في نأي عنهم‪ ،‬فلو أنهم نالوهن بيسر وسهولة ما كانت تلك القصائد‬
‫قد خرجت من أعماقهم بهذه العاطفة الجياشة من الصدق في تصوير صدق المشاعر‪.‬‬
‫ال يختلف شريف عن غيره من شعراء الغزل في التفكر في محبوباتهم‪ ،‬فها هو يتفكر فيها‬
‫في كل أحواله‪ ،‬سلمه وحربه‪ ،‬فيلمح لمعة ابتسامتها في لمعة التقاء السيوف والرماح عند‬
‫القتال‪ ،‬وك ّل يومه ال يميز ليله من نهاره إال عبرها‪ ،‬فال شروق لصباحي إال عندما يَ ْفتَ ُّر‬
‫ثغرها بابتسامة كأنها شمس طلعت‪ ،‬وال أعرف أنني في الليل إال عندما أرى انسياب شعرها‬
‫الكثيف‪:‬‬

‫والرم ُح في الرمحِ يُ ْك َ‬
‫س ُر‬ ‫ْ‬ ‫إذا ا ْلتَقَيَا‪،‬‬ ‫والسيف ث َ ْغ َر َها‬
‫ِ‬ ‫السيف‬
‫ِ‬ ‫وأ َ ْلم ُح بين‬
‫ين َف ْرع ُِك‪ 2‬يُ ْم ِط ُر‬
‫وال اللي ُل إال ِح َ‬ ‫حين ت َ ْفت َر‪َ 1‬و ْقتُهُ‬
‫َ‬ ‫وما الص ْب ُح إال‬

‫كما يعجز الشاعر عن وصف محبوبته‪ ،‬وال يجد ما يشبهها به‪ ،‬فكل حروف التشبيه على‬
‫رأسها الكاف ال تعينه على اختيار مثيل لها ليشبهها به‪ ،‬وال يجد من المجازات ما يعينه‪ ،‬فال‬
‫حمرة العناب تقارن بحمرة يديها المخضبتان بالحناء‪ ،‬وال جيد دمية الخشب الممتد يقارب‬
‫جيدها‪ ،‬وال حتى تشبه الغزال‪ ،‬وال يوجد مثيل لضحكتها‪ ،‬وال يشعر بمرور الوقت عندما‬
‫يلقاها‪ ،‬فهو عاجز تماما عن وصفها‪:‬‬
‫ط ُر‬ ‫س ُ‬ ‫ت أَ ْ‬ ‫ْض ال َمجازا ِ‬ ‫وتقصر عن قب ِ‬ ‫ُ‬ ‫كَافُهُ‬ ‫شفَ ِة التّشبِي ِه يَ ْظ َمأ ُ‬
‫َ‬ ‫وفي‬
‫لف ال َبراقع ُج ْؤ َذ ُر‬ ‫وال ط َّل من َخ ِ‬ ‫دُمية‬ ‫الجي ُد‬ ‫عنَّاب‪ ،‬وال ِ‬ ‫فَما الكَف ُ‬
‫س ُر‬ ‫يُفَ َّ‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫ِلْلَوت َ ِار‬ ‫يُأ َ ّ ِو ُل‬ ‫ُم ْع َجم‬ ‫الطير‬
‫ِ‬ ‫ِل ِضحْ َكتِ َها من َم ْن ِ‬
‫طق‬
‫ض ُر‬ ‫فار ْقت َ َها و ْه َو أ َ ْخ َ‬
‫َ‬ ‫ض إن‬ ‫وي ْن َه ُ‬ ‫لقَا ِئ َها‬ ‫جف هُناكَ الوقتُ عن َد‬ ‫َي ّ‬

‫حتى حبه لها‪ ،‬وشوقه إليها ليس له مثيل‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫االفترار عن األسنان‪ :‬اإلبانة عنها بتبسم حسن‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫فرع المرأة‪ :‬شعرها‪ ،‬ويراد به الشعر الكثيف دون الخفيف‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫سر‬‫ف ت َ ْخ ُ‬‫س ْو َ‬ ‫من َوادي ا ْلغَ َ‬
‫ضا َ‬ ‫إذا ك ْنتَ ْ‬ ‫أ َقُو ُل ِل َج ْمر في الضلوعِ ُم َؤ َّجج‬
‫ق في خ ِ ّد القَصي ِد وت َ ْق ُ‬
‫ط ُر‬ ‫ور ُ‬‫ست ُ ِ‬ ‫ع وإِنّما‬ ‫شب في عَينِي الدمو ُ‬‫وت ُ ْع ُ‬

‫أشجار الغضا التي ال تغيب عن دواوين الشعر العربي‪ ،‬والتي يستخدمها الشعراء في‬
‫معرض الحب واالشتياق‪ ،‬والحنين إلى الديار‪ ،‬يقول شريف للشوق عامة‪ :‬حتى إذا كنت من‬
‫وادي الغضا فإنك ستخسر مقارنة بشوقي‪.‬‬
‫ثم يقول‪:‬‬
‫ين ِخ ْن َج ُر‬ ‫سا َل في َج ْن ِ‬
‫ب ال ُمحبِ َ‬ ‫إذا َ‬ ‫عها)‬ ‫ِخدا ُ‬ ‫(ولي شيمة ت َأ ْبَى عل َّ‬
‫ي‬
‫ْس يُ ْغفَ ُر‬
‫ق ما لي َ‬ ‫فَق ْد َي ُ‬
‫غفر العشا ُ‬ ‫غد َْرها‬‫َ‬ ‫تَخو ُن ولكنّي أ ُ ُ‬
‫ساير‬

‫يقول بأنه يعرف حاالت العشاق والمحبين‪ ،‬وتخون ولكن معنى الخيانة هنا يقصد به مثال‬
‫تعمدها في الغياب عنه أو نحوه‪ ،‬وهو يعلم أنها تفعل ذلك قصدا‪ ،‬ولكنه يساير هذه‬
‫التصرفات منها‪ ،‬فقد يغفر العشاق لمحبوباتهم ما ال يغفرونه للناس اآلخرين‪.‬‬
‫ثم يتحدث عن العشاق ويذكر أحوالهم‪ ،‬ويذكر ما يمرون به من تقلبات األحوال‪ ،‬وكيف‬
‫يخرجون عن المألون ويخالفون الطبيعة‪ ،‬فكل شيء يفعلونه ليس منطقيا أبدا‪ ،‬وكل‬
‫تصرفاتهم غير متوقعة‪:‬‬
‫طروا‬ ‫وأم ُ‬‫ْ‬ ‫ماء‬
‫الظ ِ‬
‫ِ‬ ‫وق ْد ن َكثوا عه َد‬ ‫س ِه ْم‬‫سوا والغي ُم فوقَ ُرؤو ِ‬ ‫َي ِب ُ‬ ‫ِل ِم ْن‬
‫موطنا فتأ َّخ ُروا‬ ‫ْ‬ ‫وظنوا المنافِي‬ ‫بابيك عودة‬ ‫ش ِ‬ ‫خلف ال ّ‬ ‫َ‬ ‫علّقُوا‬ ‫ْ‬
‫لمن‬
‫ب وكبَّ ُروا‬ ‫ت اإليا ِ‬ ‫دون ميقا ِ‬ ‫َ‬ ‫أتوا‬
‫ْ‬ ‫ُر ُكو َ‬
‫ع ُه ْم‬ ‫أ ّجلُوا للقا ِد ِمي َن‬ ‫لمن‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫المنابع أ ْن ُه ُر‬
‫ِ‬ ‫ض َل‬‫كرتْ ف ْ‬ ‫وق ْد أ ْن َ‬ ‫حب ُم َؤ َّمل‬ ‫ٌّ‬ ‫ِّ‬
‫الشك‬ ‫بع َد هذا‬ ‫فما‬

‫وها هو يقول بأنه أيضا ليس له مثيل بين العاشقين‪ ،‬وليست هي فقط المتفردة‪:‬‬
‫ِم ْز َه ُر‬ ‫ويَ ْب ِكي ِه‬ ‫نَاي‬ ‫لهُ‬ ‫يَئِن‬ ‫ْ‬
‫فلن ت َ ْكتُبُوا بعدِي تَباري َح شاعر‬

‫‪41‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الموضوعات‪:‬‬
‫لقد أسلفنا الذكر في مدخل هذا الفصل بالقول‪" :‬وأراني أميل إلى الرأي األخير رأي األديب‬
‫حنا الفاخوري‪ ،‬الذي نقل الموضوع من الدائرة الضيقة للمعنى من مدح وهجاء ونسيب إلى‬
‫الموضوعات االجتماعية والسياسية واالقتصادية؛ كي نتناول األغراض والموضوعات كال‬
‫على حدة‪ ،‬ما يعني أننا نفصل بين األغراض والموضوعات‪ ،‬فاألغراض هي الموضوعات‬
‫القديمة للشعر من هجاء ومديح ونسيب وهجاء ووصف‪ ،‬والموضوعات هي التوسع لهذه‬
‫العناوين الرئيسة من اجتماعيات وسياسة ووطنيات‪....‬إلخ‪ ،‬فالغرض بحسب هذه الدراسة‬
‫هو الموضوع األساسي أو الرئيسي المرجو من القصيدة‪ ،‬والموضوع هو ما تدور حوله‬
‫القصيدة"‬
‫وعلى هذا النحو نقسم الموضوعات التي تناولها محمود شريف في ديوانه (وجوه ال تعكسها‬
‫المرايا) على النحو التالي‪:‬‬
‫المطلب األول‪ :‬الشكوى والحنين‪:‬‬
‫إنها ت عنى التوجع من شيء تنوء به النفس‪ ،‬كالمرض‪ ،‬والشيخوخة‪ ،‬والموت‪ ،‬والدهر‪،‬‬
‫والحرب‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والغدر‪ ،‬والظلم‪ ،‬والكذب‪ ،‬والفقر‪ ،‬والديْن‪ ،‬وغير ذلك من المظاهر‬
‫والحاالت التي قد تعرض للشخص‪ ،‬فتكدر عليه صفو حياته‪ ،‬ويشعر إزاءها بالهموم وشدة‬
‫اليأس‪ ،‬ويقوم هذا التعريف على أسس شاكٍ ‪ ،‬ومشكو إليه‪ ،‬وموضوع الشكوى ‪ ،‬ثم هدف‬
‫الشكوى وغايتها‪.‬‬
‫وتتجلى فيما يبثه صاحب الشكوى إلى اآلخرين من المعاناة ‪ ،‬وهي إلى هذا تعكس لنا خوف‬
‫الشاكي من اإلخفاق في تكوين عالقات متوازنة مع الواقع ‪ ،‬كما أنها تكون بسبب وجود خلل‬
‫ما في المجتمع‪ ،‬وما قد يطرأ على العالقات اإلنسانية الرفيعة من االنحراف في بعض‬
‫األحيان‪ ،‬وهي وليدة الحرمان‪ ،‬والظلم االجتماعي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬وانعدام حياة العدل‪،‬‬
‫والمساواة‪ ،‬والشعور بالحيف وعدم الوفاء وهي بعد ذلك صرخة تعبير عن العواطف‬
‫المحرومة ومظهر لالضطراب النفسي‪ ،‬والتشاؤم الذاتي‪ ،‬هذا باإلضافة إلى أن للشكوى‬
‫رغبات غير معلنة تكمن في أنها قد تعمل على تجاوز الواقع السيء‪ ،‬وإعالن رفضه‬
‫والتمرد عليه لتحقيق الذات‪ ،‬والعدل‪ ،‬والمساواة‪.1‬‬

‫‪1‬‬
‫الشهري‪ ،‬ظفر عبدهللا علي‪ ،‬الشكوى في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري‪ ،‬رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في األدب العربي‪،‬‬
‫جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية‪ ،‬كلية اللغة العربية‪ ،‬قسم الدراسات العليا‪ ،‬فرع األدب‪ ،‬العام الجامعي (‪2991-2919‬م)‪ ،‬ص ‪.4‬‬

‫‪42‬‬
‫يرتبط الحنين ارتباطا وثيقا بالشعراء‪ ،‬فكل استذكار للماضي والتحسر عليه هو حنين‪ ،‬أما‬
‫الشكوى فقد ارتبطت بالحنين‪ ،‬فال تتم الشكوى إال من الماضي ووقائعه‪.‬‬
‫كما يعتبر موضوع الشكوى والحنين أحد المواضيع التي تتخلل القصائد الشعرية‪ ،‬فقد تكون‬
‫قصيدة رثائية يشكو فيها الشاعر فقد المرثي‪ ،‬وقد تكون غزلية يحن فيها الشاعر لمحبوبه‬
‫ويشكو بُعده‪.‬‬
‫لم تغب ظاهرة الشكوى عن شعر محمود شريف‪ ،‬فقد وردت في مواضع عدة في قصائده‬
‫رغم اختالف أغراضها‪.‬‬
‫في قصيدة (برقيات شاعر مغمور)‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫أ َ ْن َدلُ ُ‬
‫س‬ ‫الدمع‬
‫ِ‬ ‫بَقايا‬ ‫ْ‬
‫من‬ ‫و ُمورق‬ ‫مازا َل في د َِمنا الخنسا ُء نائِحة‬

‫ذاكر‬
‫ٌ‬ ‫لقد كانت هذه القصيدة بمناسبة اليوم العالمي للشعر‪ ،‬وهو يتحدث على لسان الشعراء‬
‫أننا مازلنا على العهد القديم مع الشعر‪ ،‬فالخنساء الزالت في شعرنا‪ ،‬ومازلنا نستذكر‬
‫األندلس ونبكيه بعد أن كان أكبر ازدهار حضاري للمسلمين‪ ،‬فكأنه يحن إلى ذلك الماضي‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫س‬ ‫ْاأل ُ ُ‬
‫س ُ‬ ‫َخانَ ِ‬
‫ت‬ ‫ْ‬
‫لكن‬ ‫قف‬
‫س ِ‬‫عنايةُ ال ّ‬ ‫سه ْم‬
‫حر ُ‬ ‫نا ُموا على ثق ِة ا ْلبُ ِ‬
‫نيان ت َ ُ‬

‫وهنا يشكوا غربة الشعراء‪.‬‬


‫أما قصيدته (يوميات متكررة) بمقاطعها األربعة‪ ،‬وقصيدة (معلقة ثامنة) فقد كانت كلها‬
‫شكوى من سوء الحال والمآل‪ ،‬وضعف المعيشة‪ ،‬وقلة الحيلة‪.‬‬
‫وفي قصيدة (غربة قلم)‪ ،‬يشكو وحشة اللغة العربية وغربتها في بيئة كانت فيها أساسا‪ ،‬فقد‬
‫تعرضت للكثير من الصراعات اللغوية‪.‬‬
‫أما قصيدة (أحاديث الطفولة) فقد كانت القصيدة مليئة بالشوق والحنين أليام الصبا‪،‬‬
‫وأحاديث الطفولة‪.‬‬
‫ص َبا‬
‫ال ِ ّ‬ ‫صبَا أم زما ُن‬ ‫نسي ُم ال َّ‬ ‫ش َذى‬‫روض نَ ْف ُح ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫أَ َ‬
‫ط َّل على الّ‬
‫الر َبى‬ ‫ارنَا في‬ ‫س أَ ْ‬
‫س َم َ‬ ‫ولم ت َ ْن َ‬ ‫عتْها الرما ُل‬ ‫َو َ‬ ‫فَ ِلي ذِكريات‬

‫يحن الشاعر إلى حياة األطفال البريئة‪ ،‬التي يبنون فيها بيوتا من الرمال‪ ،‬ومنتهى غربتهم‬
‫وهو حد الحمى‪ ،‬على عكس اليوم‪ ،‬فالمرء يبتعد عن أهله بلدانا وقارت‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫البِنَا‬ ‫وت َ ْط ِوي‬ ‫ح‬‫الريا ُ‬ ‫فَتَأْتِي‬ ‫سوارنا‬ ‫أَ ْ‬ ‫ب‬
‫الت ْر ِ‬ ‫َم َن‬ ‫ونَ ْبنِي‬
‫الح َمى‬‫ِ‬ ‫َح َّد‬ ‫نُ َجا ِو ُز‬ ‫فَل ْ‬
‫سنا‬ ‫َخ ْط ِونَا‬ ‫ُمنت َهى‬ ‫الح َمى‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫وأن‬

‫ويحن الشاعر ألحاديث الطفولة‪ ،‬وتساؤالت األطفال البريئة‪ ،‬وقلوبهم الصافية النقية‪،‬‬
‫وقناعتهم بأبسط األشياء‪ ،‬ومسابقاتهم وجريهم‪ ،‬وقذفهم للحجارة بال هدف وال مرمى‪ ،‬فقط‬
‫للتسلية‪:‬‬
‫ُهنا؟‬ ‫و َماذا‬ ‫ْف؟‬
‫وكي َ‬ ‫ِلماذا؟‬ ‫نثير السؤَا َل‬
‫ُ‬ ‫ك ِ ّل شَيء‬ ‫ف ِفي‬
‫صفَا؟‬‫ال َّ‬ ‫َ‬
‫وأين‬ ‫الوفا ُء؟‬ ‫َ‬
‫فأين‬ ‫ي‬ ‫الطير صاف َوفِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ك َما‬ ‫وقلب‬
‫َر َمى‬ ‫ما‬ ‫فَ ِ‬
‫يض ِه‬ ‫ْ‬
‫من‬ ‫ونأ ُخذُ‬ ‫َ‬
‫بالعيش ما ق ْد أتا َح‬ ‫ِ‬ ‫ونَقنَ ُع‬
‫صى‬ ‫بال َح َ‬ ‫َهدف‬ ‫بال‬ ‫ونَ ْر ِمي‬ ‫َ‬
‫ن ْبت َ ِغي‬ ‫َ‬
‫غاية‬ ‫ال‬ ‫نُساب ُ‬
‫ق‬

‫ويختم متعلال بهذا التذكر أن ينسيه شيئا من ضيق الحال في هذه األيام‪:‬‬
‫ال ُمنَى‬ ‫لَ َ‬
‫وال‬ ‫ْش‬
‫العي َ‬ ‫أَضيقَ‬ ‫فَما‬ ‫لَحظة‬ ‫صبَا‬
‫ال ِ ّ‬ ‫أَ ُ‬
‫عيش‬ ‫لَع ِلّي‬

‫وفي (انعكاسات على مرآة الماضي) يشكو الشاعر على لسان العالم اإلسالمي ما آلت إليه‬
‫األمة فيقول‪:‬‬
‫ْواحي‬
‫بأد ِ‬ ‫ِظال ِلي ل ْم ت َ ْن َه ْ‬
‫ض‬ ‫إال‬ ‫وارفة‬‫ِ‬ ‫الظال ِل ت َ َمدَّتْ و ْهي‬
‫ِ‬ ‫كل‬
‫احي‬
‫صبَ ِ‬
‫إِ ْ‬ ‫يناء‬
‫وم ِإلى ِم ِ‬ ‫س ْف َن الن ُج ِ‬
‫ُ‬ ‫جاوز هذا اللَّي َل ممت َ ِطيا‬‫َمتى أ ُ ُ‬

‫ولمسة العتاب نجدها في بيت مؤلم في قصيدة (ذكرى المحرقة)‪:‬‬


‫ارا؟‬
‫ِم َر َ‬ ‫سأ َلُها‬
‫أَ ْ‬ ‫َ‬
‫اآلن‬ ‫فَ َما ِلي‬ ‫س َؤا ِلي‬
‫ُ‬ ‫على‬
‫َ‬ ‫ت َرد‬ ‫َما‬ ‫وقِ ْدما‬

‫‪44‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الفلسفة والحكمة‬
‫إن اإلنسان منذ أن أرسله هللا سبحانه وتعالى إلى هذه األرض ليكون خليفته بدأ يفكر في‬
‫حياته‪ ،‬وما يجب عليه القيام به‪ ،‬فيحصل من تجاربه العملية وتأمالته الكونية على أفكار‬
‫تخرج في شكل عظات مفيدة‪ ،‬وأقوال قصيرة تحمل في طياتها معان كثيرة؛ يتعظ بها الناس‬
‫ويسيرون في هداها‪ ،‬ثم تشتهر بينهم؛ فتكون مثالً سائرا ً بين أبناء المجتمع‪ ،‬تتوارثها األجيال‬
‫جيالً بعد جيل‪ ،‬وتتنقل بين المجتمعات من لغة إلى أخرى؛ ألن الهدف منها إنساني نبيل‪،‬‬
‫تد ّل ا إلنسان على طرق الخير والصالح في مسيرته الدنيوية‪ ،‬وتحقق له السعادة والطمأنينة‪،‬‬
‫وتشجعه على المثابرة في العلم والعمل‪ ،‬وقد كان للشعراء منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا‬
‫هذا نصيب فيهم‪ ،‬فكان كلما حدث أمر‪ ،‬أو نزل بالقوم خطب جادت قريحة الشاعر بالحكم‪،‬‬
‫ولهج لسانه بالموعظ ة؛ فزانت أشعاره باألقوال البليغة‪ ،‬والحكم العظيمة التي ما تزال‬
‫األلسنة بها ناطقة‪ ،‬والناس من معينها شاربة‪ ،‬والركبان بها سائرة‪ ،‬يتداولها العلماء على مر‬
‫العصور واألزمان‪ ،‬وتحتضنها بطون الكتب وثناياها‪ ،‬ويستشهد بها الخطباء والوعاظ في‬
‫خطبهم وأحاديثهم‪ .‬لهذا وغيره من األسباب زخر الشعر العربي بالحكم المستقاة من ظروف‬
‫حياة العربي وبيئته التي عاشها‪ ،‬وتنقالته وأسفاره‪ ،‬ومخالطته بالمجتمعات المجاورة له‪،‬‬
‫أضف إلى ذلك ما اطلع عليه الشاعر في بطون الكتب المترجمة الغنية باألمثال والحكم‬
‫واآلداب‪ ،‬فاقتبس منها ‪ ،‬ونظم على منوالها األشعار‪.1‬‬
‫يقول بن القيم الجوزية‪ :‬فالحكمة إذًا‪ :‬فع ُل ما ينبغي‪ ،‬على الوجه الذي ينبغي‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫ينبغي‪.2‬‬
‫ع ْم ٍر بأكمله‪.‬‬
‫الجميل في الحكمة اإليجاز واالختصار‪ ،‬وأن عبارة قصيرة تختزل تجربة ُ‬
‫بقصيدة (عشرون سنبلة) ورد بيت فيه من الحكمة ما فيه‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫س ُجونَا‬
‫سافر ل ْم يَ َز ْل َم ْ‬ ‫ْ‬
‫من ل ْم يُ ْ‬ ‫ين لك ْي أ َرى‬
‫الزمن الج ِن ِ‬
‫ِ‬ ‫سافرتُ في‬
‫َ‬

‫كلمة السجن وحدها تكفي لوصف حالة من لم يسافر‪ ،‬كأنه مكتوم الحرية‪ ،‬مقيد باألصفاد‪،‬‬
‫ممنوع من مغادرة حجرة مغلقة ال يعلم ماذا يجري خارج جدرانها‪.‬‬
‫وذلك مصداق لقول الشافعي في حكمة األسفار‪:‬‬
‫فَ َوائِ ِد‬ ‫سافِر فَ ِفي ْاأل َ ْ‬
‫سفَ ِار َخ ْم ُ‬
‫س‬ ‫َو َ‬ ‫ب ا ْلعُلَى‬ ‫ان فِي َ‬
‫طلَ ِ‬ ‫تَغَ َّر ْب عَن ْاأل َ ْو َ‬
‫ط ِ‬
‫‪1‬‬
‫اج ِد‬
‫َم ِ‬ ‫َو ِع ْلم ‪َ ،‬وآدَاب ‪َ ،‬وصُحْ بَةُ‬ ‫ساب َم ِعيشَة‬ ‫ج ُه ْم ‪َ ،‬وا ْك ِت ُ‬ ‫تَفَر ُ‬

‫‪1‬‬
‫‪DERŞEVİ , Muhammed Raşid, Arap Şiirinde Hikmet ve Felsefe, İhya Uluslararası İslâm Araştırmaları Dergisi‬‬
‫‪International Journal of Islamic Studies, Cilt / Volume: 10, Sayı / Issue: 1, S 112.‬‬
‫‪2‬‬
‫ابن القيم الجوزية‪ ،‬أبو عبدهللا محمد بن أبي بكر بن أيوب‪ ،‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪/‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.499‬‬

‫‪45‬‬
‫وقال أيضا‪:‬‬
‫ب‬ ‫ان َوا ْغت َ ِر ِ‬ ‫ْاأل َ ْو َ‬
‫ط َ‬ ‫ِم ْن َرا َحة فَدِعِ‬ ‫ب‬ ‫ع ْقل َوذِى أ َ َد ِ‬ ‫َما فِي ا ْل ُمقَ ِام ِلذِي َ‬
‫ب‬
‫ص ِ‬ ‫ْش فِي النَّ َ‬ ‫ص ْب فَ ِإ َّن لَذِي َذ ا ْلعَي ِ‬‫َوا ْن َ‬ ‫فارقُهُ‬ ‫ع َّم ْن ت ُ ِ‬ ‫سافِر ت َ ِج ْد ِع َوضا َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫اب َو ِإ ْن َل ْم يَجْ ِر لَ ْم َي ِط ِ‬ ‫ط َ‬ ‫سا َح َ‬ ‫ِإ ْن َ‬ ‫س ُد ُه‬ ‫اء يُ ْف ِ‬
‫وف ا ْل َم ِ‬ ‫ِإ ِنّي َرأَيْتُ ُوقُ َ‬
‫ق ا ْلقَ ْو ِس لَ ْم يُصب‬ ‫س ْه ُم لَ ْوال فِ َرا ُ‬‫وال َّ‬ ‫ستْ‬‫ض َما أَفَتَر َ‬ ‫ق ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ُد لَ ْوال فِ َرا ُ‬ ‫َو ْاأل َ ْ‬
‫ب‬ ‫اس ِم ْن عُجْ م َو ِم ْن ع ََر ِ‬ ‫لَ َملَّ َها النَّ ُ‬ ‫س لَ ْو َوقَ َفتْ فِي ا ْلفُ ْل ِك دَائِ ِمة‬ ‫َوالش َّْم ُ‬
‫طب‬ ‫والعُو ُد فِي أ َ ْر ِض ِه نَ ْوع ِم َن ا ْل َح َ‬ ‫ب ُم ْلقَى فِي أ َ َما ِكنِ ِه‬ ‫والتبر كَالت َّ ْر ِ‬
‫ُ‬
‫َذاكَ ع ََّز كَالذَّ َهب‬ ‫َوإِ ْن تَغَ َّر َ‬ ‫َمطلبُهُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َهذا ع ََّز‬ ‫َ‬ ‫فَ ِإ ْن تَغَ َّر َ‬
‫‪2‬‬
‫ب‬ ‫ب‬

‫وبيت آخر في قصيدة (لم يحن بعد)‪:‬‬


‫نَ ْكبُ ُر‬ ‫فِي ِه‬ ‫ُكلّما‬ ‫في ِه‬ ‫ونصغر‬
‫ُ‬ ‫العمر كالخي ِل يَ ْعث ُ ُر‬
‫ُ‬ ‫ت َ َر َّج ْل فَه َذا‬

‫وهكذا كل بشر‪ ،‬كلما ازداد عمره نقص‪ ،‬فكلما كبرنا صغرنا‪.‬‬


‫كما شهدت قصيدة (غربة قلم) بيتا من أجمل األبيات التي قالها شريف‪:‬‬

‫باللَّقَ ِ‬
‫ب‬ ‫ِاإل ْنت َا ُ‬
‫ج‬ ‫اقت َ َر َن‬ ‫إِ َذا‬ ‫إال َّ‬ ‫األلقاب خالدة‬
‫ُ‬ ‫فّ َما األ َ ِ‬
‫سامي وال‬

‫والبيت واضح جدا وال يحتاج لشرح‪.‬‬

‫أما ما أورده في قصيدة (عودة الكانمي)‪:‬‬


‫نَ ْ‬
‫ص ِل ِه‬ ‫ص ْب ُحهُ فِي‬
‫ُ‬ ‫يَ ْب ُدو‬ ‫َ‬
‫حين‬ ‫ِج ْل ُدهُ‬ ‫ضر ال ِغم َد لَيل‬ ‫ال يَ ُ‬
‫ص ِل ِه‬‫أَ ْ‬ ‫س َجايَا‬
‫َ‬ ‫الفَ ْر ُ‬
‫ع‬ ‫َح َم َل‬ ‫سهُ‬ ‫َم ْغ َر ُ‬ ‫َز َكى‬ ‫الفَ ْر ُ‬
‫ع‬ ‫و ِإ َذا‬

‫وهو اقتباس من شعر الكانمي نفسه في ثالثة قصائد مختلفة‪ ،‬أُوالها‪:‬‬


‫‪3‬‬
‫صا َمةُ الذَّ َك ُر‬ ‫اطنُ َها ال َّ‬
‫ص ْم َ‬ ‫َ‬
‫كان بَ ِ‬ ‫ْ‬
‫إن‬ ‫ِم َن األ َ ْغما ِد َحا ِل ُك َها‬ ‫فَال يَ ُ‬
‫س ْؤكَ‬

‫والثانية قوله‪:‬‬
‫َذ ْك َوانِ َها‬ ‫نَ َمانِي‬ ‫فَقَ ْد‬ ‫إِ ِنّي وإِ ْن أ َ ْلبَ َ‬
‫ستْنِي العُجْ ُم ُحلَّت َ َها‬
‫‪1‬‬
‫ُم َ‬
‫ض ُر‬ ‫إِلى‬
‫‪1‬‬
‫الشافعي‪ ،‬أبو عبدهللا محمد بن إدريس‪ ،‬ديوان الشافعي‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،‬الطبعة الثانية‪2915 ،‬م‪ .‬ص‪.14‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.54‬‬
‫‪3‬‬
‫عثمان‪ ،‬أحمد أبو الفتح‪ ،‬الشعر العربي في تشاد اتجاهاته وخصائصه الفنية في الفترة ما بين (‪1112-2151‬م) دراسة تحليلية وصفية‪ ،‬بحث لنيل‬
‫الدكتوراه في األدب والنقد‪1125 ،‬م‪ ،‬جامعة إفريقيا العالمية‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪46‬‬
‫واألخيرة‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َم ْه َما ت َ َج َّر َد ِم ْن أ َ ْخ َالقِ ِه السو ُد‬ ‫س ْؤ َد َدهُ‬
‫ُ‬ ‫ال ُحر‬ ‫يَنَا ُل‬ ‫لَ ْون‬ ‫ِب ُك ِ ّل‬

‫والقصة معروفة في كتب األدب التشادي‪ ،‬وكل مضمون األبيات سواء الكانمي أو شريف‬
‫مفادها أن سواد الشيء من خارجه ال يعني بالضرورة أن داخله أسود‪.‬‬
‫وفي التعلل باألماني وطول األمل للصبر على منغصات الحياة يقول شريف في‪( :‬أحاديث‬
‫الطفولة)‪:‬‬
‫ال ُمنَى‬ ‫لَ ْو َال‬ ‫العيش‬
‫َ‬ ‫أضيقَ‬ ‫فما‬ ‫لحْ ظة‬ ‫صبَا‬
‫ال ِ ّ‬ ‫أعيش‬
‫ُ‬ ‫لَع ِلّي‬

‫كما اشتملت قصيدة (بقية نصل) على حكمة معروفة لمثل متداول يضرب لالنتباه‬
‫واالحتراز من شيء حدث مرة وكانت عاقبته سليمة‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫اجعُ ْه؟‬
‫ض ِ‬‫َم َ‬ ‫وت َ ْه َدا‬ ‫ت َ َراقِي ِه‬ ‫ت َ ِقر‬ ‫ناجيا‬
‫ِ‬ ‫أَفِي ك ِ ّل حين يَسل ُم المر ُء‬

‫وقوله مقتبس من المثل السائد‪( :‬ليس كل مرة تسلم الجرة)‪.‬‬


‫وفي بيت آخر من القصيدة نفسها‪ ،‬في فلسفة المثابرة للوصول إلى الهدف‪ ،‬صورها شريف‬
‫بالمرابطة في سبيل القضية‪ ،‬فهو يرى أن السيوف ال يجب أن ترتد إلى أغمادها إال بعد أن‬
‫يتحقق النصر‪:‬‬
‫َال ِمعُ ْه‬ ‫ال ُم َؤ َّز ِر‬ ‫للنّ ِ‬
‫صر‬ ‫ا ْرت َ َّد‬ ‫إذا‬ ‫السيف نحْ َو قِرابِ ِه‬
‫ُ‬ ‫سيرت َد هذا‬

‫وح َك ٌم أخرى تتوالى في (ذكرى المحرقة) حيث قال‪:‬‬


‫ِ‬

‫َخفَ ُروا ال ِذّ َم َ‬


‫ارا‬ ‫أ َخانُوا العَ ْه َد أ ْم‬ ‫َخ ْيال‬ ‫العُ َّزا َل‬ ‫ت ُت َ ِبّ ُع‬ ‫وكيف‬
‫َ‬
‫ا ْعتِ َب َ‬
‫ارا‬ ‫عواقِ ِب َها‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫من‬ ‫فَت َأ ْ ُخ َذ‬ ‫ع ْقال‬‫َ‬ ‫األيا ُم‬ ‫ت ُ ْع ِطكَ‬ ‫أَلَ َّما‬
‫ارا؟‬‫الوقَ َ‬‫َ‬ ‫ِم ْن َها‬ ‫إ َذا ل ْم يُ ْكت َ َ‬
‫س ْب‬ ‫ع ْفوا‬ ‫السنين ت َ ُمر َ‬
‫ِ‬ ‫و َما َجد َْوى‬

‫واألبيات مشحونة باالستفهام االستنكاري‪ ،‬فهو يخاطب المستعمر خطاب العارف‪ ،‬يسأله‬
‫وهو يعلم أنه يعلم الجواب‪ ،‬فيستهزئ به ويستخف بعقله الذي ال يستوعب من التجارب‬
‫‪1‬‬
‫المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪47‬‬
‫السابقة ومن الماضي‪ ،‬ثم يستفهم باستنكار حول الذين تمر عليهم السنوات وهم بعقول ال‬
‫تنموا وال تكبر‪ ،‬فما جدوى العمر والسنوات تمر على المرء دون أن يتعلم ويستفيد منها‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬

‫صغَ َ‬
‫ارا‬ ‫َ‬ ‫البَا ِغي‬ ‫علَى‬
‫َ‬ ‫َج َّرتْ‬ ‫فَ َك ْم‬ ‫َو ِخيم‬ ‫َم ْرتَعُهُ‬ ‫الظلم‬
‫ِ‬ ‫ع ْقبَى‬
‫و ُ‬

‫ومفاد القول أن الظلم ظلمات‪ ،‬وال يهنأ الظالم ال في الدنيا وال في اآلخرة‪ ،‬والظلم ال يزيد‬
‫الظالم إال خباال‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫وجارا‬ ‫أعتى‬ ‫من‬ ‫كل‬ ‫تؤدب‬ ‫َح ْرب‬ ‫للبَا ِغ َ‬
‫يين‬ ‫األيَّا َم‬ ‫أَرى‬
‫ارا‬
‫ع َ‬‫أَ َ‬ ‫يأخذُ ما‬ ‫هر‬
‫ال َّد َ‬ ‫رأيتُ‬ ‫علَى الد ْن َيا فَ ِإ ِنّي‬ ‫َ‬ ‫سى‬‫وال تَأ ْ َ‬
‫َ‬

‫وكأنه يقول‪ :‬الزمن كفيل بأن يري الباغين عاقبة أمرهم‪ ،‬فال شك في أنهم سيرون عاقبة‬
‫سوء فعلهم ذات يوم مهما بلغوا من الطغيان والجبروت‪ ،‬فلكل جواد كبوة‪.‬‬
‫ثم يقول لهم ال تتشبثوا بالدنيا بهذا القدر‪ ،‬فالقوة التي تمتلكونها اآلن ستخسرونها يوما فإني‬
‫رأيت الدهر يأخذ ما أعار‪.‬‬

‫وختاما في‪( :‬سيرة أخرى لشاعر الصحراء) يقول‪:‬‬


‫يس يُ ْغفَ ُر‬
‫ق ما َل َ‬ ‫فق ْد ي ْغ ُ‬
‫فر العشا ُ‬ ‫َ‬
‫غد َْر َها‬ ‫أُسايُر‬ ‫ولك ِنّي‬ ‫تخو ُن‬

‫ولقد أصاب تماما‪ ،‬فللعشاق قوانين لهم وحدهم‪ ،‬وقد يغفرون ما ليس يغفر‪ ،‬وحري بهذا‬
‫البيت أن يصير مثال متداوال لشدة ما أصاب الوصف‪.‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬الوطنية‪:‬‬
‫الوطنية‪ :‬مصطلح يؤدي معنى الشعور بحب الوطن والذي هو الدولة التي تعيش فيها‪،‬‬
‫وهي أصغر من القومية‪ ،‬فالوطنية للعربي أن يحب قطره كسورية‪ ،‬ولبنان‪ ،‬ومصر‪.‬‬
‫والقومية هي أن يميل إلى األوطان العربية ووحدتها‪ ،‬وإلى القومية العربية التي ينتمي إليها‬
‫من المحيط إل ى الخليج ‪ .‬وتشتمل على ما يبثه الشاعر من حب‪ ،‬وشوق‪ ،‬ودفاع عنه ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وشعراء عصر النهضة كتبوا في الوطنية كثيراً‪ ،‬وأقبل الجمهور على ما يكتبون هم وما‬
‫يلقيه الخطباء‪ ،‬أو يكتبه الكتاب نثرا ً وعدوا إنتاجهم غذاء للدفاع عن الوطن‪.1‬‬
‫إن الشعر العربي في تشاد مثله مثل الشعر العربي والذي تأثر به كثيرا ً من حيث تناول‬
‫الشعراء ألغراضه ومواضعه المختلفة منها الوطنية‪ ،‬وال تكاد تخلو منها كل المراحل التي‬
‫بها الشعر العربي في تشاد بد ًءا من مرحلة البداية المتصلة والبداية المنقطعة مرورا ً‬
‫بالمرحلة التي تليها وهي مرحلة اليقظة واالزدهار‪.2‬‬
‫زخر ديوان (وجوه ال تعكسها المرايا) بهذه القضية – قضية الوطن‪ -‬وكما كان الوصف‬
‫أكثر غرض تناوله شريف في الديوان تكرر األمر كذلك في موضوع الوطنية؛ كأنه ال تخلو‬
‫قصيدة من هذا الوطن‪ ،‬وليس بالضرورة أن تكون الوطنية هي التغني بالوطن والدفاع عنه‪،‬‬
‫بل حتى تناول قضاياه المختلفة ينبيك عن اهتمام الشاعر بقضايا وطنه‪.‬‬
‫مهما اختلفت األغراض‪ ،‬فطالما كان الموضوع داخل إطار الوطن فهو موضوع وطني‪،‬‬
‫لقد استكثر شريف من قضية الطبقة الكادحة‪ ،‬وتناولها في أكثر من قصيدة من بداية الديوان‬
‫حتى نهايته‪.‬‬
‫وتنقسم القضايا الوطنية التي تناولها شريف على النحو التالي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬قضية الطبقة الكادحة‪:‬‬
‫ففي (برقيات شاعر مغمور) تعريض لهذه الطبقة على لسان الشعراء‪ ،‬وكذلك يومياته‬
‫المتكررة بمقاطع القصيدة األربعة‪ ،‬والمعلقة الثامنة‪ ،‬كلها قصائد تتحدث عن الحياة‬
‫المجتمعية للمواطن التشادي من مهاجر ومقيم وتصف حاله‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قضية مؤسسات المجتمع المدني‪:‬‬
‫وكان ذلك عبر عشرينية النهضة‪ ،‬فهي قصيدة تتحدث عن واقع مؤسسات المجتمع المدني‪،‬‬
‫من منظمات وجمعيات خيرية وثقافية‪ ،‬فضال على مدح المنظمة وما تقوم به من جهود في‬
‫المجتمع التشادي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬قضية اللغة العربية‪:‬‬
‫تناول شريف قضية اللغة العربية وصراعها الوجودي‪ ،‬وغربة حرفها بسبب الثنائية اللغوية‬
‫التي ال تنفك تخرج للسطح بين الفينة واألخرى‪ ،‬ففي رثاء شريف آلدم عبدهللا في قصيدة (لم‬

‫‪1‬‬
‫التنوجي‪ ،‬محمد‪ ،‬المعجم المفصل في األدب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪/‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪2999‬م‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.111‬‬
‫كندل‪ ،‬ثريا تجاني‪ ،‬الوطنية في الشعر العربي في تشاد عبد الواحد حسن السنوسي (نموذجاً)‪ ،‬مجلة بحوث کلية اآلداب‪ ،‬جامعة المنوفية‪ ،‬المادة‬
‫‪2‬‬

‫‪ ،15‬المجلد ‪ ،21‬العدد ‪ ،21122‬يوليو ‪1112‬م‪ ،‬ص‪.9‬‬

‫‪49‬‬
‫يحن بعد)‪ ،‬تناول قضية اللغة العربية‪ ،‬ورثى عمودا من أعمدة الدفاع عن اللغة العربية وهو‬
‫العم آدم رحمه هللا‪ ،‬وبيّن كيف كان حريصا على الرفع من شأنها عبر جريدته‪.‬‬
‫كما عادت القضية ذاتها في قصيدة (غربة قلم)‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬قضية الشعر العربي التشادي‪:‬‬
‫فقد تناوله في قصيدة (غائب آن له أن يعود)‪ ،‬من خالل شعر إبراهيم الكانمي سلط شريف‬
‫الضوء على المراحل التي مر بها الشعر العربي عبر فتراته المختلفة‪ ،‬والكانمي نفسه تناوله‬
‫في قصيدة أخرى وهي‪( :‬عودة الكانمي)‪ ،‬والتي كان قد نظمها بمناسبة تأسيس الرابطة‬
‫األدبية للجيل الجديد‪ ،‬كما أنه افتخر بشعره في (أنا والشعر)‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬قضية جمجمة توماي‪:‬‬
‫والتي تناولها عبر قصيدة (أبجديات األرض)‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬قضية محرقة موسورو‪:‬‬
‫التي فصلها تفصيال بقصيدة (ذكرى المحرقة)‪ ،‬فالقارئ لهذه القصيدة يتعرف على أحداث‬
‫هذه المحرقة عن كثب عبر شعر محمود شريف‪.‬‬
‫بعد كل هذا السرد ال يسعنا إال أن نقول أن هذا الديوان وطني بامتياز‪.‬‬

‫‪50‬‬

You might also like