Professional Documents
Culture Documents
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
2021 ـة
– جويلي02 العدد08 المجلد
mais112@gmail.com
2021 /08/31 :تاريخ النشر 2021 /06/19 :تاريخ القبول 2021 /05/23 :تاريخ االستالم
:ملخص البحث
Abstract:
ظلت العالقة بين األدب والبيئة مثار تساؤل فيما
The relationship between literature and
the environment remains an essential issue عرف بـ "النقد البيئي" ال سيما بعد توجه عدد من النقاد
glossed as “eco-criticism”. Several critics لقراءة أعمال أدبية يتمثل فيها اإلحساس بالدور املدمر
launched a new era investing new trends in
literary masterpieces in which environmental
من هنا يحاول.الذي يقوم به اإلنسان تجاه الطبيعة
awareness is exemplified. From this هذا البحث طرح هذه العالقة من خالل رواية "طوق
perspective, this research tries to question . معتمدا على النقد البيئي النسوي،الحمام" لرجاء عالم
this relation through Raja’a Alem’s novel
The Dove’s Necklace with reference to ويفترض أن في هذه الرواية وعيا بيئيا يربط بين تدمير
feminist eco-criticism. It is assumed that وتدمير املرأة،البيئة واملكان (مكة املكرمة) من جهة
there is an environmental awareness in this
novel that connects the destruction of the وبذلك تعيد هذه الرواية.واستغاللها من جهة أخرى
environment and place (Mecca) on the one صياغة العالقة بين البشري وغير البشري من خالل
hand, and the destruction and exploitation of
،اختيارات فنية نحو اختيار الراوي ووجهات النظر
Woman on the other hand. For this reason,
the novel reformulates the relationship وأخرى موضوعاتية من خالل عدد من الثنائيات نحو
between the human and the non-human الطبيعة لتبرز في/ واملرأة، الحيوان/ثنائية اإلنسان
through artistic choices with reference to the
narrator preferences and attitude. Besides, it .النهاية وحدة الكون الكبرى
shapes the themes through a number of غير، بشري، نسوي، بيئي:الكلمات المفتاحية
dualities, the Human/animal and the
woman/nature duality to substantially reveal . تكامل، طبيعة،بشري
a universe unity.
Keywords: Environmental, feminine, human,
non-human, nature, complementarity
* املؤلف املراسل
- 39 -
د .ميساء الخواجا
- 40 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
بين التشكيل الجمالي في العمل وبين الثيمات التي معظم نقاد هذا االتجاه دافعا مشتركا هو الوعي
يمكن أن تبرز في عمل ما ،األمر الذي يعني أن املقلق بأننا في عصر دمرت فيه أفعال اإلنسان البيئة
التفاعل بين الشخصيات واألنواع واألنظمة البيئية وأنا نرى نتائج ذلك ،وهذا ما يضع دورا على عاتق
في النصوص األدبية عادة ما يتطلب مقاربة ما بين األدب ودارس ي اإلنسانيات والتاريخ لكشف ذلك
التخصصات للوصول إلى تحليل عميق .إنه ال يعني وتمثيله .من ثم ينطلق النقاد من أسئلة نحو :كيف
ببساطة دراسة الطبيعة ،بل الصلة بين اإلنساني يتم تمثيل البيئة في هذه "السونيت"؟ هل تتماش ى
وغير اإلنساني .وهو ليس الحديث عن األرض القيم املمثلة في املسرحية مع حكمة الطبيعة ؟ كيف
والطيور والنبات بل عن العالقة معهم ،فاإلنسان تؤثر استعارات األرض على طريقة تعاملنا معها ؟
يمكنه أن يتحدث عن نفسه في صلتها مع الطبيعة .6 كيف يمكن أن نشخص كتابة الطبيعة باعتبارها
يكاد يتفق الدارسون على أن مفهوم النقد جنسا ؟ باإلضافة إلى العرق والطبقة والجنس هل
البيئي يرجع إلى مقال كتبه ويليام روكيرت (William يمكن أن يكون املكان صنفا نقديا جديا ؟ هل يكتب
)Rueckertعام 1978بعنوان " األدب وعلم البيئة الرجال عن البيئة بطريقة مختلفة عن ما تكتبه
– تجربة في النقد البيئي " وبدأ هذا املصطلح في النساء ؟ وإلى أي حد أثر األدب على عالقة اإلنسان
االنتشار الحقا وتعددت دراساته ،لكن هذا النقد بالعالم الطبيعي ؟ 4وغير ذلك من األسئلة التي
أصبح حركة مستقلة واتجاها في النقد األدبي في فتحت الباب لدراسات بينية تربط بين النقد األدبي
التسعينيات من القرن العشرين ،حيث كان مركز وعلم البيئة واألحياء ،وتحاول أن تعزز وعي اإلنسان
تجمع النقاد األمريكيين الذين يتعاملون مع األدب بالبيئة وأن هناك قوى خارج األدب يمكن أن تؤثر
األمريكي حصرا ،وأسسوا جمعية لهم باسم " فيه وفي تشكيله.
جمعية دراسة األدب والبيئة " ( )ASLEوعقدت ينطلق النقد البيئي من االقتناع بأن فنون الخيال
مجموعة من املؤتمرات التي استقطبت عددا من ودراستها ،بحكم فهمها لقوة الكلمة والقصة
النقاد وساهمت في انتشار هذا النقد وتطبيقاته في والصورة في تعزيز االهتمام البيئي وإحيائه وتوجيهه،
مناطق متعددة من العالم 7.ومن نقاد البيئة األكثر يمكن أن تسهم بشكل كبير في فهم املشاكل البيئية،
شهرة الذين أسسوا ملفاهيمه وتطبيقاته لورانس بول واألشكال املتعددة للتفكك البيئي الذي يصيب كوكب
( ، ) Lawrence Bullفقد ذكرت دانا فيليبس األرض اليوم .ومن ثم تطرقت الدراسات املتعلقة
( )Dana Phillipsأن عمله يمكن ان يشكل أرضية باألدب البيئي إلى مسائل ذات طابع جمالي على
ملا ينبغي أن يكون عليه الوعي البيئي في قراءة امتداد مراحل تطورها ،كما أسهمت في فهم عدد من
النصوص األدبية ال سيما في عمله " مخيلة البيئة " ، األنواع نحو :الكتابة البيئية الواقعية أو كتابة
وترى أنه يمكن أن يحل بعض اإلشكاالت النظرية ، الطبيعة ،وفي الشكل والطريقة الشعرية ،وفي الدراما
وهو ما يمكن أن يحدث فقط إذا تمت مقاربة واملسرح والسرد العلمي وغيرها 5.ويتضح من ذلك أن
النظرية األدبية دون مقدمات الشك املنطقية تجاهها هذا النقد يسعى إلى دراسة تمثالت البيئة في
،ألنه يعطي اعتبارا للنظرية ويجادل في أن هناك النصوص األدبية ،وكيف يعمل الخيال على تشكيلها
حاجة إلعادة تقييم بعض املقدمات التحليلية أو على تحفيز الوعي بها ،وبذلك يجمع النقد البيئي
- 41 -
د .ميساء الخواجا
التراتبية هي ما يحكم العالقات األساسية في املجتمع املستعملة من قبل قراء األدب املدربين ،وأن الحاجة
،وهي التي تحدد عددا من السمات التي توصف بها إلى املخيلة البيئية ترغمنا على مساءلة مقدمات
املرأة بحيث تغدو التصنيفات ثقافية في جوهرها النظرية األدبية عند استخدام مصادرها لعرض
8
وليست بيولوجية .وتجادل النسويات في أن املرأة قد حدود إعادة التمثالت األدبية.
فقدت كثيرا من املزايا التي كانت تتمتع بها سابقا ، إن النقد البيئي ليس نظرية باملعنى الصحيح ،
وذلك بفعل التطور الحضاري واالنتقال من املجتمع فعمله يمكن أن يجذب عددا من االتجاهات
الرعوي إلى الزراعي ثم الصناعي . والنظريات مثل النسوية واملاركسية وما بعد البنيوية
وفيما يخص النقد البيئي ترى بعض النسويات أن والتحليل النفس ي والتاريخي ،وهذا يطرح إشكالية
البيئة غالبا ما شبهت باملرأة ،وكما فقدت املرأة تصاحب هذا النقد عند من لم يقبلوا به ،إذ إنهم
مزاياها فقدت البيئة أيضا كثيرا من مظاهرها وتم يرون أن تحليل النصوص يمكن أن يسير بشكل
تشويهها وتدميرها .ومن هنا فإن الترابط بين النسوية عشوائي وبوسائل ومفاهيم ضبابية زخرفت من
والبيئة يكمن في البنيات املفهومية للهيمنة غير املبررة مصطلحات مستعارة ،نحو " :العضوية " " ،البرية
،وقد تتحدد بالثنائية القيمية املؤذية ،والتراتبات " " ،النظام البيئي " فهي كلمات يمكن أن تستعمل
القيمية على أساس النوع ووجود أزواج مفرقة بشكل مجازي دون اإلقرار بحالتها االستعارية ،وكأن
يستبعد أحدها اآلخر ،واستعارات مكانية على نمط طرق الكالم البيئية واألدبية أكثر توافقا مما هي عليه
أعلى – أدنى ( تراتبيات قيمية ) تعطي منزلة أو قيمة في الحقيقة ،وكأنه يمكن تجاوز الفروق فيما بينها
أكبر ألحد الطرفين على حساب اآلخر ،على نحو : بسهولة 9.تطرح االعتراضات السابقة إشكاليات
الثقافة /الطبيعة ،اإلنسان /الطبيعة ،العقل/ جوهرية تخص هذا النقد سواء تعلقت بصعوبة
العاطفة ،الرجل /املرأة ،الذكر /األنثى .ويبرر منطق الجمع بين قضايا األدب والبيئة أو بصعوبة توظيف
الهيمنة اإلخضاع ملن يقع في املرتبة األدنى .وهذه مصطلحات أحد الحقلين في مجال الحقل اآلخر .كما
األطر البطريركية وما انبثق عنها من سلوكيات هي ترتبط أيضا بغياب منهجية محددة يمكن أن يستند
املسؤولة عن إدامة الترابطات بين النساء كآخر ، إليها نقاد النقد البيئي ،ومن ثم يمكن أن نجد
والطبيعة كآخر ،ومن ثم استغالل النساء والطبيعة مداخل عدة له ينبغي التأكد منها واإلحالة إليها قبل
وعدم احترامهما ،وجعل عملهما وإنتاجهما غير بدء الدراسة.
مرئيين 10.من هنا تتضمن الخصائص األساسية النقد البيئي النسوي:
للنقد النسوي البيئي في النصوص العربية بذل جهد كثيرا ما يجادل النقد النسوي في عدد من
إلضاءة العالقة بين البشر عبر االختالفات االجتماعية القضايا التي يمكن اعتبارها مركزا أساسيا فيه ،
والثقافية واالقتصادية والسياسية ،وبين اإلنسان ومن ذلك إعادة النظر في عالقات الهيمنة في
والطبيعة ،واكتشاف الطرق التي تشكل فيها تلك املجتمعات والثقافات املختلفة على اعتبار أن القيم
العالقات عالقتنا مع الطبيعة ،وكيف تتأثر بها املرأة الذكورية هي ما يهيمن على عدد من املجتمعات ،
أو تؤثر عليها وعلى تصورها ومكانتها في املجتمع ،مع حيث يتم النظر إلى النساء باعتبارهن " آخر" أدنى
التأكيد على ضرورة اإلسراع بنقد أشكال اإلقصاء وأقل منزلة من الرجل .وتجادل النسويات في أن تلك
- 42 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
وحدة الكون (تماهي الكائنات) -1 والتراتبية ،ونقض عالقات الهيمنة ،وكل أشكال
ينتقل االهتمام النقدي في النقد البيئي – اإلقصاء .
كما يرى بعض دارسيه – من الوعي الباطني إلى يرجع مصطلح "النسوية البيئية" إلى النسوية
الخارجي ،ويرفض االعتقاد القائل إن كل ش يء مبني ( Françoise الفرنسية فرانسواز دوبون
اجتماعيا أو لغويا ،ويعتقد بأن الطبيعة توجد )d’Eaubonneفي عام 1974لتمثيل إمكانيات املرأة
حقيقة فيما وراء ذواتنا ،لكنها فينا وتؤثر علينا للتحريض على ثورة بيئية تستتبع عالقات جديدة
وربما بشكل قاتل إن أسأنا التعامل معها12.وقد بين النساء والرجال ،وبين الناس والطبيعة باسم
يصلح هذا املفهوم مدخال للنظر في رواية " طوق بقاء اإلنسان .وجادل النقد النسوي البيئي ،كما
الحمام " التي يهيمن عليها نوع من اإليمان بوحدة سبقت اإلشارة ،بأن استغالل الطبيعة واستغالل
الوجود ،وبالتماهي بين ما هو إنساني وغير إنساني . املرأة مرتبطان بشكل وثيق ،فهناك تماثل في تفكير
تتماهى شخصيات الرواية مع عناصر الطبيعة الحية الرجال بحقهم في استغالل الطبيعة من جهة
والجامدة في وحدة كلية تطمس الحدود بين اإلنساني واستخدامهم النساء من جهة أخرى ،ومن ثم فإن
وغير اإلنساني .ويتبدى ذلك على مستويات الوصف النضال في معركة البقاء البيئي يرتبط بشكل جوهري
واللغة واختيار السارد بحيث يبدو التفاعل بين مع النضال من أجل تحرير املرأة وغير ذلك من
الطبيعة والثقافة واللغة والواقع متشابكا جدا بحيث أشكال العدالة االجتماعية ،على اعتبار أن التنوع هو
تتبادل فيه تلك العناصر التأثيرات فيما بينها ،كما أساس الوجود .وقد ربطت بعض األبحاث النسوية
تتبادل املواقع والرؤى واألدوار . البيئية الحديثة بين املرأة والطبيعة بشكل صارم ،
/1أ -اللغة الكونية: وبحثت بعض النسويات عن تجلي الجنس في مظاهر
تختار الساردة ما يمكن تسميته باللغة الطبيعة 11.هكذا يمكن أن يتوسع النقد البيئي
الكلية ( الكونية ) التي يتضح فيها هذا التماهي بين النسوي لبحث كل ما له صلة بأنواع التمييز أو
الكائنات ،إذ يبنى السرد في مجمله على لغة تشترك الهيمنة ،وتحليل الصالت بين خداع النساء وغير
في التعبير عن اإلنسان والحيوان والجماد فتتماهى البشري وكل ما في الطبيعة ،أو محاولة اكتشاف
الكائنات سواء عبر اللغة الشعرية وتوظيف الصور االختالفات بين تصوير النساء والرجال للطبيعة
واالستعارات ،أو عبر لغة الوصف التي تصف باإلضافة إلى الكيفية التي يبرز فيها الخطاب اإلبداعي
البشري بما هو غير بشري أو العكس .حليمة التي ال العالقة بين النساء والبيئة ،ويناقش أشكال الهيمنة
تعرف القراءة عندما شاهدت أوراق ابنها تبدت لها واألشكال املختلفة من الظلم االجتماعي .وسنركز هنا
الكلمات كائنات حية ،وكأنها تعود إلى الفطرة األولى على الجانب األخير الذي يقيم صلة بين تدمير البيئة
حين توحدت الكائنات كلها في الطبيعة عند اإلنسان من جهة والظلم الذي يتجلى على املرأة من جهة
البدائي األول " :الصفحات التي تتدفق منها الكلمات أخرى كما تجلى في رواية رجاء عالم " طوق الحمام "
وتغيب في األفق كقافلة جمال محملة بأحطاب ، ،وذلك عبر محاور رئيسة :وحدة الكون ( تماهي
وتلك التي يترك وتترك بقعا ،أزعجتها تلك الكلمات الكائنات ) ،املرأة /الطبيعة ( الطبيعة األنثى ) ،
التي تقفز كالقطط في موسم التزاوج ،تنتف أذناب قتل البيئة وتدميرها .
- 43 -
د .ميساء الخواجا
ليصب طميها في هذه اللحمة الكونية /.بهذا املركز بعضها ،وتنثر الكثير من الحبر واملواء ...أذهلتها
البركاني /.صارت الكرة األرضية مالحة معدنية عشرات الصفحات من ورق أكياس اإلسمنت
متمركزة على حوضه /،كلما أراد النفاذ إلى مركزها/، الطافحة بآثار عجالت ،مسودة بالفحم ،وبكائنات
رده من جسده انهيار ( يا هللا كيف اجتمعتا عليه: بين البشر والدراجات النارية " 13.تمثل حليمة الفطرة
14
الرغبة وانهياراتها!!) ". األولى واإلنسان األول الذي يرى الحياة في كل ش يء ،
يعيد النص صياغة عالقة البشري بغير وهي بذلك تمثل وعي الساردة التي ترى الكون شيئا
البشري ،ليطرح تساؤالت حول العالقة بينهما ،وهل واحدا ،ومن ثم فإن اللغة عنصر أساس ي في تمثيل
يمكن أن تتغير الرؤى بتغير املوقع؟ أين نحن من تلك الوحدة والتعبير عنها ،ومن ثم فهي لم تر
العناصر األخرى وما عالقتنا بها؟ ولعل هذا السؤال الحروف بقدر ما رأت كائنات حية تتحرك أمامها ،
هو ما يحدد بدءا اختيارات السرد ومن ذلك اختيار ومرة أخرى قد يرجعنا ذلك إلى اللغة البدئية حين
الراوي .تختار الساردة الحكي على لسان الزقاق استعار اإلنسان بالرسم وبالرموز للتعبير عن نفسه .
املسمى "أبو الرووس" ،وتقدم األحداث في الجزء تختار الساردة تلك اللغة الشعرية التي
األول واألكبر من الرواية على لسانه ،فهو راو مشارك تحمل سمات صوفية وابتهاال غامضا يتجلى فيه
وشاهد يعرف أدق التفاصيل ويعرف ما ال تعرفه أيضا ذاك التماهي العميق بين اإلنسان والطبيعة
الشخصيات األخرى ،يمسك بخيوط الحكي ولعبة بكل مكوناتها الحية وغير الحية .يقرأ املحقق ناصر في
الغموض التي ترتبط باكتشاف جثة امرأة مقتولة مذكرات "يوسف" رسالة غريبة بخط غريب ،وتحيل
فيه .يحكي الزقاق "أبو الرووس" عن نفسه وعن تلك الغرابة إلى نوع من التشويش الذي يصيب
ساكنيه ،وتقوم الساردة بأنسنته فهو يحمل اسما ، القاريء في محاولة تحديد موضوع املذكرات ،
ويشارك في األحداث ويبدي وجهة نظره فيها ،وحين وتحديد كاتبها ،هل هو يوسف أم هي الساردة التي
يحكي عن األزقة األخرى يسميها بأسمائها ،فهي تماهت معه ،أم هو" أبو الرووس " الذي يستلم
كائنات حية لها مالمحها ،تحس وتشعر وتتنافس الحكي أحيانا ؟ هل الحكي عن " مشبب " و" عزة "
فيما بينها كما يتنافس البشر ويحسون ،ويحدد " أبو أم عن " يوسف " و" مكة " ؟ ويصير اللقاء بين
الرووس" موقعه منها ،يترفع عن بعضها حينا، العنصرين الجوهريين في الكون :املذكر واملؤنث ،
ويطرح الفرق بينه وبين بعضها اآلخر أحيانا أخرى اإلنسان واألرض ،لقاء كونيا تتحد فيه عناصر
15.بل إن الزقاق يتماهى مع بعض شخصيات الرواية الطبيعة كلها " :كحجر ساقط / ،ما كان فيها وإنما
ويتفاعل معها كما يفعل عندما يتحدث عن املحقق " في البئر /في رقدته بين مصباتها الثالثة / ،وهو
ناصر " :لست متأكدا كيف أتناول توق ناصر لتملك يشرب ال كالحمام وال كالقطط وال كالدواب فقط
حتى زقاق مثلي ،والذي لطول ما تردد علي صار ينظر وإنما أيضا كنبات ،وكحجر بكمال مداخله ،بقشرته
إلى منعطفاتي وبؤس ي كامتداد لجسده هو ،نعم وقلبه معا /.يشرب ملوحة على مذاق معدن ،
خدعته لينظر إلى ذاته كواحد من رؤوس ي ،ألهيه للكاحل وأعلى ،من ذا الذي ال يستطيع أن يكون في
بفتات أفكاري بينما أبقيه خارج حاوية أسراري مكانين في ذات اآلن ؟ /متوج بامللوحة ومحجل /
وآثامي " 16.ال يبدو الزقاق هنا مجرد راو ،بل هو حين انوجد في طميها سقطت كل الجرار بحمامه ،
- 44 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
الطبيعة .وقد يتم تمثيلها على أنها مفصولة عن فاعل سردي –على حد تعبير جريماس -يقوم
البشر بحدود أساسية ،أو تتضام العالقة بين الناس بالتحفيز ويتحكم في اإلنجاز ،ويقوم بدور مهيمن في
والحيوانات ،أو تكون مجازية مع العالقات كشف خيوط الجريمة على مدى الرواية بأكملها .أو
االجتماعية بين الفئات االجتماعية غير املتكافئة . في تشويش املعلومة وإبهامها ليمتد الحدث ويتراكم
وقد يذهب بعض الدارسين إلى اعتبار أن البشر في ومن ثم يقوم بتحويله صوب وجهات أخرى .
األساس من الحيوانات ويظلون متوحشين في بعض يمتلك " أبو الرووس "دورا خفيا في عالقته
خصائصهم األساسية 19 .وتنطلق رواية " طوق بالبشر الساكنين فيه وال سيما النساء ،فكأن نساءه
الحمام " من هذه الرؤية إلى حد كبير ،فتظهر فيها يعانين من لعنة ما كما تقول " عائشة " " :هل ألبو
ثنائية اإلنسان /الحيوان بصورة واضحة ،وهي الرووس مشكلة مع البنات ؟ ربما هي أن الحياة بيض
ثنائية التناقض أحيانا ،وثنائية التناغم والتماهي في عقرب ينبعث على ظهر أمه فما إن يفقس ويكبر حتى
أحيان أخرى .فكثيرا ما تصف البشر بأوصاف يلدغها حتى املوت "17.ومن هنا لم يكن غريبا أن تراه
الحيوانات وتطلق عليهم ألقابهم ،كما تفعل العكس مثل قنفذ ،وأن تراه أفعى متعددة الرؤوس " كل
فيغدو الحيواني بشريا ويحمل كثيرا من سمات البشر حركة نأتيها هي لدغة ألبو الرووس ،لرؤؤسه املتعددة
.وهي رؤية تنطلق أساسا من اإليمان بوحدة الكون وأذرعه األخطبوطية .هل تعرف كم رأسا تنبت مكان
كما سبقت اإلشارة ومن ثم تتداخل أفعال اإلنسان الرأس التي تجرؤ على قطعها ؟ " 18ويتضح هنا هذا
والحيوان ،كما يتداخل اإلنسان والطبيعة وعوامل التماهي بين البشري وغير البشري ،وكيف يؤثر
البيئة في كل متكامل . أحدهما في اآلخر ،كما يتضح أيضا كيف تختلف
تتبدى ثنائية اإلنسان /الحيوان في السرد العالقة باختالف املوقع ،لتبدو الطبيعة عنصرا
في الذات حاكية عن نفسها أو واصفة لها ،وفي مهيمنا وفاعال يعيد صياغة العالقات البشرية
الذات موصوفة ومحكيا عنها .ولعل أبرز مظهر لهذه ويتحكم فيها ،وكأن رجاء عالم تعيد صياغة تلك
الثنائية يأتي مع املحقق " ناصر " الذي يتكرر وصفه العالقات حين تغير املواقع وتجعلنا نراها من وجهة
بحيوانين أساسين هما " الذئب " و" الكلب البوليس ي نظر البيئة املحيطة لنكتشف مدى تأثيرها فينا
" ،وهو وصف يتفق مع طبيعة مهنته التي ساعدته وعلينا ،وأنها ليست شيئا جامدا ،وليست مجرد
على تطويع بعض غرائزه وتطويرها " :مثل كلب موقع يمارس اإلنسان فيه تأثيره من زاوية واحدة
بوليس ي نادر درب ناصر حدسه لكي يذهب وراء وباتجاه واحد .
الشخصيات التي ال تترك أثرا . 20 " ...وال يقف السرد /1ب :ثنائية اإلنسان /الحيوان:
عند حدود التشبيه بل يصل إلى حد التماهي " الرجل كثيرا ما تتشابك املناقشات النقدية للمكان
الكلب ،حاسة الكلب " ...وما إلى ذلك مما يرتبط مع رمز الحيوان الذي لعب دورا مهما في حد ذاته في
بسير التحقيق وإصرار ناصر على مالحقة املجرم / الفكر البيئي ،ويرتبط رمز الحيوان في الخيال البيئي
الصيد أو الفريسة ،وكلها تعبيرات تستعير من ،أكثر من غيره من املجازات والرموز ،بالتوترات
الحيواني لوصف البشري أو العكس .ويتردد كثيرا ، الكامنة والتناقضات الصارخة ،إذ ترتبط الحيوانات
وعلى مدى الرواية كاملة وعلى مستوى الشخصيات بالبشر ارتباطا وثيقا أكثر من أجزاء أخرى من
- 45 -
د .ميساء الخواجا
للنسوية واملذهب البيئي على حد سواء 22 .والناظر املختلفة ،هذا الربط بين اإلنسان والحيوان ،فنرى
في رواية " طوق الحمام " يرى هذا التفاعل الجوهري الرجل الوطواط ،ولقب الولد الذي ربته " أم السعد
بين املرأة والطبيعة فيتبادالن املواقع واألوصاف " هو " تيس األغوات " ،وهي تحزن على أي أذى
واألدوار .فكيف يكتب التخييل السردي الطبيعة يصيب الحيوانات األخرى " وذلك باعتبارها " أما
باعتبارها فضاء نسويا ؟ أو كيف يكتبها باعتبارها لتيس " ،وتعلن الحداد على قطعان اإلبل التي
امرأة ؟ تسممت في وادي الدواسر .أما " معاذ " فيتعاطف
يبرز في الرواية ربط واضح بين املرأة مع الخروف الذي نذرته التركية للذبح ،لم يطق
والطبيعة ،أو التعبير عن إحداهما بصفات األخرى ، النظر في عينيه املبللتين بالدمع ،ومشهد الذبح جعله
فتغدو الطبيعة أو األرض أما لكل ما عليها .ولعل هذا يستحضر مشهد القصاص وصورة " مشاري " الذي
الربط بين األرض واألم هو ربط قديم عرفته يقص الرقاب ،ليقول إن املوت واحد ،والقتل واحد
الحضارات البشرية األولى حين وصفت األرض بأنها أيضا " .يوسف " رضع مباشرة من ضرع املاعز حين
األم الكبرى والعودة إليها هي عودة إلى الرحم يئسوا من فطامه من ثدي أمه حليمة ،فأطلقته إلى
والبدايات األولى .وفي " طوق الحمام " عندما يصف بستان " مشبب " يرضع مع صغار املاعز 21 .وكل
الطبيب األملاني نفسه في رسائله لعائشة تغدو األرض ذلك يعيد تشكيل وعي بيئي حول عالقة اإلنسان
أكثر حنانا من األم البشرية ":طوال النهار أتجول بالكائنات حوله ،وأنها ال تسير في اتجاه واحد بل هي
بعيدا عن اللمسة البشرية ،تطعمني الغابة وبناتها ، عالقة تفاعلية قد يخضع فيها اإلنسان أحيانا لهيمنة
بينما أمي قد فقدت قلبها حين تربت كيتيمة " . 23 قوى الطبيعة وتأثيرها فيه لتعيد تشكيل سلوكه
وقد تمتلك األرض القدرة السحرية على إعادة ورؤاه ملا يحيط به ،وهو ما يحيل إلى رؤية الكاتبة
تشكيل العناصر ،فهي األرض األم ،وهي أصل ووعيها تجاه ما يحيط بها ،فانطلق النص السردي
الوالدة األولى ،فبستان " مشبب " يمتلك قوة من خالل شخصياته ومن خالل قضية بسيطة في
سحرية على توحيد الكائنات ،وهو الذي يحرر " عزة ظاهرها ( اكتشاف جثة المرأة مجهولة في الزقاق )
" ،وحين تدخله تشعر أن داخلها يتفتح كوردة ،حتى للغوص في تساؤالت أكثر عمقا ترتبط بعالقة اإلنسان
رائحتها تتغير ،تلك الرائحة التي يسميها مشبب " روح بالكون وبما يحيط به من موجودات ومن منطلق
الوالدة " 24.تقيم الساردة هنا ربطا رمزيا وأسطوريا إنساني يتجاوز الحدود بين الكائنات الحية والجماد ،
بين البستان واملرأة ،كالهما يحمل الخصب والتجدد بين اإلنسان وغير اإلنسان .
والوالدة " .مشبب " /العنصر الذكوري عنين لكن املرأة الببيةة (الببيةة انأنى)): -2
األرض /البستان هي املصدر الحقيقي للخصوبة ، ترى بعض النسويات ،كما سبقت اإلشارة ،
وعزة تتماهى به ،وكالهما يمثل العنصر األنثوي ، أن الطبيعة امرأة ،وأنه قد أس يء استغالل الطبيعة
األرض ،األم /اإللهة الكبرى .وهو ما يتأكد مع " واملرأة على حد سواء ،كما أنهما قد خضعا لعالقات
عائشة " ،الشخصية املحورية الثانية التي قد تمثل الهيمنة ذاتها .وترى بعض النسويات املهتمات بالنقد
الوجه اآلخر لعزة ،فهي أيضا ترتبط باملاء والخصب البيئي النسوي ضرورة فهم الترابطات بين النساء –
ولغة الجسد ،وهي تتحول إلى فاكهة وثمرة ناضجة اآلخر البشري – والطبيعة ،وأن ذلك مهم بالنسبة
- 46 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
مذكراته .28ويالحظ أن " عائشة " ترتبط أيضا حين ألبستها التركية فستان عرسها 25.من هنا فإن
بالحمام ،ومعاذ حين رأى امرأة في العرس أعادت له املرأة تشكل القوة الحيوية والفاعلة ،وقد تكون
29
ذكرى حمامة تلوي رقبتها على رقبة وليفها . املبادرة وصاحبة الرغبة ،وتعلن عن رغبتها تلك على
وعائشة حين تحاول تجاوز املكان الذي يحاصر املرأة خالف السائد ،كما في شخصية " عطرة " التي مرت
ويحجبها عبر الكتابة مرة ( رسائلها لطبيبها األوروبي ) عابرة في الرواية ،لكنها حضرت لتؤكد القوة الفاعلة
وعبر التخيل مرة أخرى تحس بالطيور تخترق وسادتها للمرأة ،فهي تزوجت نصف دزينة من الرجال " :
" :عقب صالة الفجر أترك للطيور أن تسبح على يقولون إنها تنظر مباشرة إلى ماء الرجل ،وتخترقه
جسدي ،صوت الشفاء الذي يغوص عميقا بالدماغ عبر عموده الفقري ،وإنها تعرف نقاط املس التي
" . 30والحمام يختفي أو يختنق حين تختفي عزة تتحكم بالحيويات 26."...ويبدو أن الساردة هنا تقلب
وحين تهدم املباني في مكة .ويعود حرا في ذاكرة " األدوار لتعيد شيئا من التوازن إلى النظام الكوني
معاذ " حين تفتتح " نورة " ( عزة سابقا ) مرسمها ونظام الطبيعة ،لكن ذلك يظل استثناء ،فالزقاق
وقد غيرت اسمها وخلعت الحجب عنها " :الطيور ما ورجاله ما فتئوا يقمعون املرأة ويستغلونها لتنتهي
هي إال إرادة الحرية في الطبيعة ،تتجسد في حفنات مقتولة وجثة مجهولة أو تختفي دون أن يعرف
مجنحة عرفناها كطيور لكنها الحرية ..تخرج من مصيرها ،وغالبا ما يمثل العنصر املذكر مصدر
أجسادنا مثل تلك الحفنات حين نلتقط صورة القمع للمرأة والتشويه لألرض ،وهو ما يعيد إلى
للحلم الذي ظل يكبر فينا ،ونجري وراءه أينما ذهبنا الذهن أنظمة الهيمنة وتمثالت الطبيعة واملرأة التي
، ... ،رأيت كل ذلك في عشرات اللقطات التي حاولت تجادل حولها النسويات كما سبقت اإلشارة .
تصويرها لبنات وأوالد أبو الرووس في ركضنا وراء يبني النص تماهيا آخر بين املرأة والطبيعة ،
حلم .هل رأيت مثل هذه الطيور تخرج من جسد وهو التماهي بين املرأة والطير وتحديدا بين عزة
الفنانة في هذا االفتتاح ؟ " .31الحرية ال تتحقق إال والحمام ،فكلما حضرت عزة ،وهي الشخصية
بتحرر الطبيعة وتحرر اإلنسان معا ،لكن ذاك لم املحورية في الرواية ،يحضر معها الحمام ،فهما
يتحقق فعليا حيث ظلت الشخصيات معلقة ش يء واحد ويحمالن كثيرا من الصفات املتشابهة " :
بذاكرتها ومحكومة لقوانين خارجة عنها ،هي قوانين قاطعت نوم يوسف تلك الخطوات الخاطفة تعبر
الطفرة املالية التي حاول أصحابها اكتساح كل ش يء الزقاق كحمامة تطير قريبا من األرض ،من على
بشريا كان أو غير بشري ،ففقد " أبو الرووس " سطحهم ملح يوسف الفتاة تركض في عباءتها صوبه .
هويته ،وفقدت مكة مالمحها وضاعت عزة تحت " 27ترتبط ذاكرة يوسف بعزة والحمام معا ،وال
اسمها الجديد. يقتصر األمر عليه ،فأبوها يرى فيها صفات الطير
ينفتح النص السردي في طوق الحمام على أيضا ،وغالبا ما يراها يوسف حمامة تحاول الطيران
تماثالت جوهرية أخرى تعيد تشكيل العالقة بين وهو يحاول تحريرها فيعجز عن ذلك ،فالولد يحاول
عناصر الطبيعة ،فالطبيعة أنثى ،واملدينة ( مكة ) تحرير البنت مثل حمامة لكي يمسد عنقها ويخترق
امرأة تنسب الشخصيات إليها كما ينتسب األبناء إلى عوالم النساء املحرمة ،لكن عين الحمامة ( عزة )
أمهاتهم ،ويرد في النص بعض التصورات لم تلتفت إلى الوراء قط كما يروي يوسف في
- 47 -
د .ميساء الخواجا
بناء تصور رؤية اإلنسان للكون وللباس من خالل واملعتقدات املرتبطة بمكة وانتساب أبنائها لها ،وهي
منظور املرأة التي يمارس عليها ما يمارس على معتقدات تحيل إلى التصورات البدائية األولى وإلى
الطبيعة واملكان من حجب وإقصاء . الوحدة الكلية للوجود ،فمن يريد إثبات نسبه عليه
وكما ارتبط الحمام بعزة وباملرأة يقيم النص أن يصعد إلى غار وأن يدخل من شق ضيق بشكل
ارتباطا آخر بين الحمام ومكة ،وغالبا ما يكون يعيد إلى الذهن جسد املرأة والرحم وعملية الوالدة ،
يوسف عاشق عزة ومكة في الوقت نفسه هو ما ويوسف يدخل إلى ذلك الشق بنص يعيد بشكل
يربط بينهما ،ففي وصف مباشر يقول " :مكة رمزي هذا الربط بين املدينة /مكة واملرأة بما هو
حمامة تطوق عنقها ألوان متجاوزة لتدرجات الطيف أشبه بالوالدة الجديدة " :شعر يوسف كما بمواجهة
البشري " 34.وحين يتعرض للصدمات الكهربائية في موت ،بدا الشق أضيق من أن يسمح بولوج جسد
جسده في مستشفى شهار تبدو له الجروح كخطو بشري ..حبس يوسف أنفاسه وبدفعة قوية
حمامة ،وحين يذهب إلى الحرم يرى نظرات الحمامة لجمجمته في الصخر اضطرب كامل الجبل ،وجاشت
النارية تصوبها عميقا إلى عينيه ،وحين اختفى حيوانيته ،وتجسدت أنوثتها في ذلك املخاض ،
يوسف ومفتاح الكعبة أسراب الحمام تجمدت على وانعجن جسد يوسف بالقمر الذي التم حوله ثخينا
أقواس األروقة 35 .وبذلك يبنى النص على هذا بينما تلقته دوامات ذلك الشق ،أغمض عينيه
التماهي الذي يقيمه يوسف بين مكة والحمام ،وعلى مركزا حيوياته لتدفع أعمق ،وفي لولبة خارجة عن
تماه آخر يقيمه يوسف أيضا بين مكة وعزة ليتشكل إرادة جسده انزلق فكان في ذاك الرحم الحيواني .
في النهاية مكون سردي دائري تبنى عناصره من مكة حين ولج تيس األغوات من الباب الواسع للغار رأى
وعزة والحمام وليحيل كل عنصر إلى اآلخر بصورة أمامه لحمة يوسف عارية ،وقد تساقطت ثيابه عنه
مباشرة وغير مباشرة .تصير عزة هي مكة ،وحين وبدا مثل علقة ولدت عكسيا لترجع للرحم 32. "...هي
ينطق يوسف اسمها ينطقه بذات العمق " :الطريقة والدة جديدة كان ال بد أن يمر بها يوسف لينتمي مرة
التي تعطي االسم ذاك البعد السحيق ،ينطقه كمن أخرى إلى املدينة املرأة .ويبني النص السردي هذه
يضرب أرض مكة ويحفر فيها بئر زمزم أو يوم قيامة الرؤية التي تربط بين مكة واملرأة في أكثر من موضع ،
36. "..وهو ما ينسحب أيضا على " عائشة " الوجه ويالحظ أنه يقدمها من خالل السارد العليم مرة
اآلخر لعزة فهي أيضا تتحد باملدينة وبالطبيعة ، واصفا لحظة الوالدة واالنتساب كما في املقطع
لتصير هي املدينة والحمامة أيضا ،فعندما تلبس السابق ،أو من خالل راو مشارك يروي عن يوسف
ثوب عرسها تعيد تمثيل املشهد الذي روته " التركية أيضا ،تنقل عائشة عن يوسف في الفصل املعنون
" عندما خاطت لها ثوبها وعندما زفت إلى زوجها ، بـ" غشاء مطاطي" " :كيف نضت الكعبة أول ثوب
لكنه تمثيل مختلف تمتليء فيه اللغة بمحموالت خلعه عليها امللك تبع الحميري ،والذي كسا البيت
رمزية " :وقفت على برميل صغير يمثل تلك املنصة املسوح واألنطاع فانتفض البيت فزالت تلك الثياب
األولى ،وتركت لليل مكة أن يتناوب والدانتيل على عنه ...صدقني هناك ثياب للعذاب " 33فتقيم
لعق جذعي ،ارتديته على الجلد ورفعت بذراعي عائشة توازيا بين فرض ثياب على الكعبة لحجبها
الحفيفتين عاليا في السماء متأهبة للطيران واقفة وفرض لباس على املرأة لحجبها أيضا ،ومن ثم تعيد
- 48 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
الكائنات الحية الفردية .أو بشكل أكثر تحديدا هو كما في نومي " ، 37.فيوضح اختيار اللغة هنا ذلك
يشمل املكونات غير الحية ،الحيوية ( الفيزيائية التماهي العميق بين املرأة واملدينة والطائر ،بين
والكيميائية ) والعالقات املتبادلة مع املكونات الحية البشري وغير البشري فال ينفصل أحدهما عن اآلخر .
39
األخرى " . ولعل هذا التبادل في األدوار واملواقع والدالالت بين
تحمل رواية " طوق الحمام " هذا الهاجس الذي املرأة ومكة والحمام هو ما يشكل جوهر الرواية
يحاول مساءلة عالقة اإلنسان باملكان وبالبيئة والخيط الذي يجمع بين أجزائها ،لتغدو قصة
املحيطة ،تحديدا " مكة " وعواملها وأحيائها والبشر الجريمة والفتاة املقتولة جزءا من قتل أكبر هو قتل
الساكنين فيها .ويتضح هذا الهاجس من عتبة النص البيئة ،وهو ما سنراه في املحور التالي .
األولى أي العنوان ( طوق +الحمام ) .فالطوق يمكن قتل البيئة أو تشويهها: -3
أن يكون سجنا وقيدا وقتال ،والحمام يمكن أن يعنى النقد البيئي بالعالقة بين اإلنسان
يكون املرأة أو مكة كما سبقت اإلشارة .ومما يسند والبيئة ،وكيف يمثل النص التعامل مع العالم غير
هذا التأويل التمهيدي عتبة النص الثانية املتمثلة في البشري وعالقتنا به .وفي إطار التعامل مع الطبيعة
اإلهداء ( لبيت جدي عبد اللطيف ) ،هذا البيت هناك من يرى أن الهدف األساس ي لها هو خدمة
املعد لإلزالة بسبب دخول السيارات /املدنية اإلنسان ،وأن اإلنسان هو سيد الطبيعة ،ويؤيد
الحديثة ،حيث صار عدد السيارات يفوق عدد االستخدام املنظم ملصادرها من أجل استدامة
البشر في مكة " :وها هي الجبال تنقض وتتالش ى املستقبل .وهناك من يحاول تحدي هذه الحوارية
وتبتلع العمارة العريقة ،ومعها بيت جدي القائم على من أجل الحفاظ على الطبيعة دون تدخل اإلنسان
قمة ما كان يعرف بشرفات الحرم باسطنبول مكة . على اعتبار أنه من حق الطبيعة أن تحيا ،فكل
كل ذلك املاض ي الساذج غاب اآلن ،ولم يعد له املوجودات لها قيمها الداخلية وال أحد يسود اآلخر ،
وجود سوى في هذا الكتاب " . 40فهل كانت الكاتبة وبالتالي فإن للموجودات كلها حقوقا متساوية .من
تحاول االحتفاظ بتاريخ مكة أم أنها كانت تحاول هنا فإن النقد البيئي ،في أحد جوانبه ،ال يتعلق
إعادة وعي القاريء بما جرى فيها وكيف تم تحويل بكيفية عمل األنظمة البيئية بل بكيفية عمل
وجهها وقتله بشكل تال ؟ يطرح النص هذه املسألة األنظمة األخالقية :كيف نتصرف مع الطبيعة األم ،
38
على لسان " نورة " في الجزء األخير منه حين رأت وكيف يبني العمل السردي هذا الوعي وينميه فينا .
الحمام في مدريد تذكرت حمام مكة " :أيضا الحمام وبعبارة أخرى كيف يعيد النص األدبي صياغة رؤيتنا
املطوق في صحن الحرم /يلف فوطة حول عنقه للعالم وللبيئة بكل مكوناتها ،وذلك من أجل إعادة
ليذهب لالغتسال / .حتى إذا جاء املساء /يلف االزدهار إلى األرض ،ذلك الذي فقدته بفعل تدخل
وشاحا ويذهب إلى عرس / .كبرنا على أن هذا املطوق اإلنسان غير املنظم واعتدائه األناني على مكونات
الرمادي والذي يطير في دوائر حول الكعبة :مقدس . الطبيعة .وفي هذا السياق يمكن إعادة صياغة
/... /ألننا حين كنا صغارا أقنعونا بأن هذا حمام مفهوم املكان وعالقة اإلنسان به ليتجاوز األمر مجرد
بيت هللا .من كل األرض ال يحيا ويخدم إال في حرم املكونات املادية املحيطة باإلنسان إلى أن املكان هو "
مكة / .ال تؤذوه / .باألمس رأيت هذا املطوق في الجمع بين الظروف الخارجية التي تؤثر على حياة
- 49 -
د .ميساء الخواجا
بالبشر ومحاولة التأثير على بعض مجريات حياتهم . أفالم هوليود في كل مكان / .أهو الحمام يهاجر
يحكي " أبو الرووس " من الصفحات األولى عن نفسه ويشيع ،أم هي بيوت هللا في كل مكان ؟ /... /فما
ُ
وعن إهمال اإلنسان وتشويهه للبيئة " :فحيث إنه ضر لو حشرتنا جميعا في هذه الكلمات ،وحشرت
لم ُيعتن بتنويري قط فلقد تعلمت أن أجلس في الكلمات في كتاب ،والكتاب للحياة ؟" 41.فهل تحاول
العتم مخدرا وأسحب نفسا عميقا من األنف ( معبأ الكاتبة حصر تاريخ مكة وحكاية أهلها من خالل
بخمائر فضالت ونز بالوعات ونشاز أصوات ،كشأن حكاية " أبو الرووس " وجريمة قتل املرأة الغامضة ؟
روائح الحواري املنسية ) ،وأحبسه لدقائق قبل إن ما ورد في عتبات النص األولى وما ورد
إطالقه بتأن من الفم في هيئة إشاعات وخرافات من تساؤالت حول مكة وحمامها في الجزء األخير من
ومحظورات أخنق بها سكاني " . 43ويبدو فعل الرواية يغلق دائرة األحداث ،ودائرة حكاية غزو
التدمير هنا متبادال ،فالزقاق ( البيئة والطبيعة ) اإلنسان للبيئة واستباحته لألرض واملكان واإلنسان (
يعاقب ساكنيه على توحشهم وإهمالهم .لكل ش يء ال سيما املرأة ) باسم الحضارة واملدنية والتقدم ،
ثمنه واإلنسان ال بد أن يدفع الثمن .ويعزز السرد مخالفا بذلك هاجس األجداد في الحفاظ على البناء
من صورة التشويه التي يعاني منها الزقاق حين واألرض ،ذلك الهاجس الذي جعلهم يتركون بيوتهم
يشترك املحقق " ناصر " في الحكي ويتفاعل مع وقفا ال يحق لنسلهم غير سكنه وتأجيره دون البيع
املشكالت البيئية التي يعاني الزقاق منها " يتنصت والتصرف في الثمن " ،حكمة تتعرض اآلن للتآكل ،
على أكياس القذارة التي تمتص وقع خطواته ،يفتش بهذه الفراغات الكبيرة في خارطة الوقف " . 42لكن
املداخل الكئيبة التي ال تكاد تمرر بشرا ،واألحواش اإلنسان قام بقتل البيئة وتشويهها باسم الحضارة
املسكونة بالدواب الضالة والجن ...تلفت ناصر بحثا والرغبة في التوسع العمراني والطمع في الثراء املادي .
عن مهرب ،لكن الزقاق حاصره مثل قنفذ يسفر عن ومن ثم نشأت عالقات جديدة بين اإلنسان وتلك
أشواك أطباق استقبال البث الفضائي " . 44هنا البيئة كان ال بد أن يدفع ثمنها في النهاية وأن تمتد
يتفاعل البشري مع غير البشري ،الحي مع الجماد لتمس عالقته بالبشر املحيطين كما مست عالقته
لتقديم صورة عن بيئة مشوهة ،ولعل الربط بين باملكان .
أشواك القنفذ وأطباق استقبال البث الفضائي جاء يبدأ النص بمحاولة إعادة الوعي بالتشويه
مقصودا ليؤكد أن هذا التشويه قد جاء مرتبطا الحاصل في البيئة من خالل اختيار الراوي ،حيث
بدخول الحضارة ،لكنه دخول شكلي حيث يستقبل يأتي السرد على لسان الزقاق املسمى " أبو الرووس "
الناس الفضاء لكن الزقاق في العمق ميت ومليء وتهيمن وجهة نظره على سرد األحداث .ويحتل سرد
بالوحشة وبالقاذورات .لقد استوطن الناس املكان " أبو الرووس الجزء األول واألكبر من الرواية .
وعملوا على تدميره ،والسرد يحكي عن هذا الفعل واختيار السرد على لسان الزقاق يسهم في إعادة
اإلنساني التدميري ،فـ " أبو الرووس " يحكي لناصر : تكوين وجهة النظر تجاه األشياء التي يراها اإلنسان
" أتسمع دوي الدماء في عروق الرجال الذين من املسلمات في الحياة العادية .يتحول الزقاق إلى
استدرجتهم من أطراف األرض بأحالم الذهب األسود راو مشارك وشاهد على األحداث ،إلى كائن حي
،خلفوا وراءهم األهل واألوالد وجاؤوا كالقمل لسكنى ينفعل بما يجري ويكون له دوره أيضا في التربص
- 50 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
في مدة أقصاها شهر ". 49الزقاق والبيوت وآالت رؤوس ي ،يمتصون دمي بينما ألتهم أعمارهم
الهدم كلها كائنات حية ،والسرد بهذا التصوير يعيد وأحالمهم في خرائبي ،وصنادقي العشوائية ...
تصور العالم ،ويعيد تشكيل رؤيتنا في أن ما نراه أقايضهم شبابهم مقابل عفني " . 45إنه العنف
جمادا ليس كذلك ،ويدين بذلك الفعل اإلنساني املتبادل بين اإلنسان والبيئة ،والثمن الذي ال بد من
التدميري ملا يحيط به بحثا عن مال أو ثراء أو تطور دفعه ،فالزقاق (البيئة ) ليس مجرد مستقبل سلبي
مزعوم . ،والحضارة والتطور لهما ثمنهما أيضا ،وهو ما يشير
لقد سبقت اإلشارة إلى أن الرواية تنطلق من إليه دارسو النقد البيئي الذين يتحدثون باستمرار
اإليمان بوحدة الوجود والكائنات ،وأن مكة واملرأة عن األزمة البيئية ،وعن ضعف العالقة بين اإلنسان
والحمام وجوه لش يء واحد ،ويتكرر في النص التعبير والطبيعة بفعل الحضارة والتطور الصناعي ،لكن
عن مكة بأنها امرأة ،وأنها تحيا من خالل امرأة " : البيئة هنا ال تستسلم لهجمة اإلنسان بل تقايضه
نجح يوسف في تحوير رؤية ناصر ملكة ،صار يراها وتعاقبه على تدميرها ،وكأن النص بذلك يأخذ دورا
كأنثى ،لقد سلبه حتى مكة التي عرفها وضحى عمره استشرافيا ودورا آخر تحذيريا ملا يمكن أن تؤول إليه
في حراستها ،وقع ناصر في شبكة العقود التي عقدت األمور لو استمر اإلنسان في تدمير ما يحيط به .
وفصمت في أبو الرووس ،يدوخه يوسف " :كلما تقوم الشخصيات في الرواية بتدمير الزقاق
شربتها امرأة ،هاجر وزبيدة عطشت مكة لتموت ّ عبر إهماله ،وتدمير مكة عبر تغيير مالمحها وهدم
وفاطمة . 50 " ...هذه املدينة األنثى يمارس عليها بيوتها القديمة لتحل محلها عمارات حديثة ،تلك
العنف كما يمارس على املرأة تماما .وهي الرؤية ذاتها العمارات التي ال تحتفظ بمالمح خاصة بها ،فاملباني
التي تنطلق منها بعض أطروحات النقد النسوي ،كما يراها ناصر ،متناسخة ومحصورة في صف
البيئي ،فهناك خصائص مشتركة وسمات متشابهة عمودي " :الشارع أشبه بجثة تنفخ بخارا ،بال قدم
بين استغالل النساء والطبيعة حيث تجري عليهما تحييها ،فقط صف من العربات على الجانبين لركاب
هيمنة غير مبررة ،ويشتركان في مالمح اإلقصاء أشباح ال يظهرون لعين " . 46ويتكرر في النص التعبير
والحجب .ويقيم النص نوعا من التوازي بين القمع عن التغيير بـ" املوت واالختناق " ،فيوسف يتحدث
الذي يمارس على املرأة ( نساء الزقاق الالتي يمثلن دوما عن اختناق مكة باختناق جبالها ،وعن اختناق
نساء مكة ) والقمع الذي يمارس على مكة وعلى الكعبة والنبوءة التي تتحدث عن اختفائها ،فإما أن
أبنيتها ،فمكة املدينة األنثى يحجب وجهها باألبنية تختنق أو يجرفها املطر الذي سينزلق من قمم
الجديدة ،وتحاصر بالتغييرات والهدم العشوائي ، ناطحات السحاب املحيطة . 47كما تتكرر مفردات
كما يحجب وجه املرأة وتقص ى إلى الظالم خلف العنف في وصف عمليات الهدم والتغيير " :وفي املرآة
األستار واأللبسة .املرأة تكشف وجهها في الحرم ، راقب الرجالن الجرافات ،تغرس خطمها في بستان
والحرم جوهر مكة ووجهها الذي يخاف عليه من مشبب ،وتغوص لتبقر األقبية املستترة من كل
الحجب ،وهو وحده الذي يصارع من أجل البقاء صوب " " ، 48لم يسقط الزقاق دفعة واحدة ،
بمالمحه األصلية. 51 الفراغات في أبو الرووس جاءت مثل أسنان تسقط ،
قبل أسبوع تسلم من بقي من األهالي إنذار باإلخالء
- 51 -
د .ميساء الخواجا
نشرب الدم ..قل لي :لم تتملك البنت املعشوقة يعتقد الكثيرون في النقد النسوي البيئي أن
رغبة في االنتحار " . 54لقد وقف رجال الزقاق الصلة بين تبعية املرأة وتدمير النظم البيئية ال تنبع
عاجزين عن حماية نسائه ،كما عجزوا عن وقف من التعرف على النساء اللواتي يعانين من وضع غير
محاوالت اإلخالء وشراء البيوت وهدمها من أجل بناء إنساني بل من وضع املرأة االجتماعي ،مع إدراك
عمارات جديدة .وبنات أبو الرووس اختفين خلف وجود عالقة جوهرية بين إضفاء الطابع الخارجي على
الجدران كما اختفت عائشة في مخبئها السري املظلم املرأة واستغاللها وإساءة استخدام املوارد الطبيعية
وعاشت مع أوهامها ومذكراتها وانتهت باالختفاء أو .52هنا يمكن الكشف عن التداخل الذي تطرحه
املوت .أو يتم سلبهن هويتهن وتحويل مالمحهن " . الرواية بين تشويه وجه مكة وحجبها وقتلها باسم
خالد الصبيخان " الثري الذي تسلل إلى الزقاق وأخذ التطوير والتحضر وبين أشكال الظلم االجتماعي الذي
عزة خلسة وسافر بها إلى مدريد بعد أن أسلمته يقع على نساء " أبو الرووس " ،كيف أسهمت
وغيرها ّ
وغير اسمها إلى " نورة " جسدها مقابل املال ّ ، سياسات التطوير التي تعرضت لها املدينة في قتلها
وعاد بها إلى جدة بمالمح جديدة باعتبارها فنانة ، وفي قتل نساء الزقاق معنويا وماديا .وإذا كان النقد
وافتتح لها معرضا تقابل فيه الناس بوجه جديد البيئي النسوي يتحدث عن إسهام سياسات التطوير
ودون غطاء ،وهو من أسلمها ألصدقائه كي ترفه وممارسات البشر فيما يخص الطبيعة في عجز
غير وجه مكة أو كما يرى عنهم ،هو نفسه الذي ّ النساء عن التزود بما يكفي أنفسهن وعائالتهن على
يوسف متحدثا عنه وعن الزقاق ،هو الجرافات التي اعتبار أنهن الفئة األضعف ،والفئة املستهلكة ال
جرفت واألختام التي نزعت امللكيات ..يوسف ،عزة املنتجة ،فإن رواية " طوق الحمام " تتجاوز ذلك إلى
،أبو الرووس ،مجرد نقاط أزيلت على خارطة إبادة طرح تهميش املرأة وقتلها ( جثة املرأة الغامضة التي
جماعية . 55لقد قتلت عائشة فعليا ،وقتلت عزة قد تكون عائشة ) واستباحتها وتحويلها إلى وجه آخر
معنويا كما قتلت مكة والزقاق على يد الصبيخان كما حصل مع " عزة " التي تحولت إلى " نورة ".
غير خارطة مكة ووجهها بماله تحت مسمى الذي ّ ويبدو هذا الربط مباشرا على لسان إحدى
التطوير والتوسع العمراني .وترافق ذلك مع قتل شخصيات الرواية حين يقول تيس األغوات " :عاملنا
رمزي وفني اختارته الساردة وهو قتل " أبو الرووس " مات عندما ماتت بنات أبو الرووس ،من غيرهن
على مستوى الحكي ،فاختفى " أبو الرووس " الراوي يحلم بفئران مثلنا ؟ بل سمعت بأنه حتى الكعبة
املشارك في الجزء الثاني من الرواية ليحل محله راو يحبسونها وراء املتاريس منذ ضياع املفتاح " . 53لقد
عليم يحكي بضمير الغائب ،وتراجع " أبو الرووس " مارس رجال الزقاق /املجتمع الذكوري الهيمنة على
إلى خلفية املشهد مع حضور ذلك الراوي لتتقدم " نسائه ،كما مارسوا هيمنة من نوع آخر على املدينة :
نورة " أيضا إلى الواجهة وكأنها تقدم الوجه الجديد " بنات أبو الرووس عشن في رعب أن يتحولن إلى
ملكة بعد أن فرت مع الصبيخان ،وظل وجه مكة لحم ودم حقيقي ...خوفا من الفضيحة احتضن
القديم ذاكرة تحتفظ بها ويعيدها لها الحمام كلما املوت .ويلحقن التهمة برجال مثل يوسف أو خليل أو
رأته .بذلك تكتمل املعادلة فتدمير البيئة هو تدمير تيس األغوات أو حتى أنت ابن اإلمام حافظ القرآن ..
لإلنسان إذ يدين النص ما حدث في مكة من تشويه علينا أن نحمل ذنب الفريسة هذا من دون أن
- 52 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
باختالف املوقف ،وارتبط قتله أو تشتيته بقتل على كافة األصعدة ،للبشري وغير البشري ،ورغم
املدينة واملرأة وتشويه وجههما. أن " عزة " تحررت ظاهريا بعد أن تغير اسمها
املرأة الطبيعة ،هي العنصر الفاعل واملحرك وتغيرت هويتها إال أن الثمن كان مدفوعا من خالل
للحدث في الرواية ،فمن هذه املرأة الكلية أو األنثى انسالخها التام عن املاض ي وعن الزقاق وأهله وعن
الكونية تتناسل الثنائيات األصغر :املرأة /املدينة ، مكة حين عادت إلى جدة وحيدة يستغلها الصبيخان
املرأة /الحمام ،املرأة /اإلنسان ،وعليها كلها تجري ويتالعب بها كيف شاء لتصبح امرأة جديدة بال هوية
عالقات الهيمنة غير املبررة التي أدت إلى تدمير املدينة كما هي مكة التي اختفت مالمحها القديمة وفقدت
( مكة ) وخنقها وتشويه مالمحها ،كما أدت إلى قتل مفتاحها وأسرارها حين هدمت بيوتها وهزم "أبو
املرأة ماديا ومعنويا بتغيير اسمها وهويتها وشكل الرووس " ليحل محله العمارات واملباني الحديثة .
حياتها. خاتمة:
هكذا يمكن القول إن رواية " طوق الحمام " تنطلق تنطلق رواية " طوق الحمام " والتخييل
من وعي بيئي ،وتستجيب لبعض مفاهيم البيئية البيئي فيها من اإليمان بوحدة الكائنات ،وأن العالقة
النسوية ،وتحاول من خالل اختيار شخصياتها ( بين املوجودات عالقة تكاملية ،ال فرق بين البشري
البشرية وغير البشرية ) إعادة الوعي بأهمية البيئية وغير البشري ،بل إن الجمادات تحيا وتتنفس وتشعر
ورفض بعض املسلمات التي ترى األمكنة والشوارع وتتألم وتغضب .وانطالقا من هذا جاء السرد فيها
والجمادات أشياء ميتة ال قيمة لها .كما تدين بشكل على لسان الزقاق " أبو الرووس " الذي قام بدور
ضمني الطفرات املالية والتطور العشوائي الذي يقوم الراوي الشاهد واملشارك ليقدم وجهة نظر األشياء
بالهدم والتدمير تحت مسمى الحضارة والتطوير . التي يعتبرها اإلنسان في العادة ميتة وال أهمية لها .
رواية " طوق الحمام " هي ،في أحد وجوهها ،رواية وعندما تم تدمير البيئة وتشويه وجه املدينة تم قتله
االحتفاظ بذاكرة املكان وحكمة األجداد والفطرة فنيا ليختفي من واجهة السرد ويتراجع عن الحكي
األولى كما ورد في عتباتها وتجلى في أحداثها لصالح الراوي العليم الذي يراقب األشياء من الخارج
وشخصياتها. ويلتقط تفاصيل التحول في العالقات .بذلك تعيد
الرواية تشكيل وعي القاريء بأهمية البيئة املحيطة
وأهمية التفاعل اإليجابي معها وعدم تدميرها أو
تشويهها .ومن هنا كان االختيار اللغوي عنصرا فاعال
في هذا األمر حيث اختارت الكاتبة لغة تعتمد على
تمثيل التماهي بين الكائنات ،فتتبادل االستعارات
1
Lawrence Buell, Ursula K. Heise, and Karen
Thornber, Literature and Environment, Annu, واألوصاف واألدوار بشكل كبير .وقد برزت ثنائية
Rev. Environ .Resour, 2011, 36417-40, pp 422, اإلنسان /الحيوان على مدى الرواية على اعتبار أن
423
2حول هذا األمر ،انظر ،جيليكا توشيتش ،النقد البيئي " دراسة الحيوان أكثر الكائنات عالقة باإلنسان وربما أقربها
بينية في األدب والبيئة " ،ترجمة سناء عبد العزيز ،فصول ،النقد إليه .وكان للحمام دور مهيمن حيث شكل هوية
جامعة بين ذاته واملدينة واملرأة فتتبدل وجوهه
- 53 -
د .ميساء الخواجا
رواء جليل الجنابي ،نسق النسوية البيئية في رواية حديقة حياة األدبي وتداخل االختصاصات ،الهيئة املصرية العامة للكتاب،
للطفية الدليمي: القاهرة ،مجلد ( ،) 2/26العدد ( ،) 102شتاء ،2018ص،330
Route Educatonal & Social Science Journal , vol Muhammad Shoaib, Desecration of the Early
6 (2), January 2019 , pp 630 ، Paradise: An Ecocritical Reading of Mirza
Marijke Colle, Feminism and ecology: the Warheed's Novel (The Book of Gold Leaves),
same struggle? The shaping of ecofeminism. Journal of Research ( Humanities) , pp 80
Cadtm . org , 13May 2019 3انظر ،جميل حمداوي ،نظريات النقد األدبي والبالغة في مرحلة
Greta Gaard , Strategies for a Cross – Cultural of ما بعد الحداثة ( مرجع إلكتروني ) ( ، ) www.alukah.netص
Ecofeminist Literary Criticism, University of
Wisconsin –River falls , 2010 , pp 47, 48. ، 297 ، 296أبو الفضل بدران ،أهمية النقد األدبي البيئي في
11انظر ،لورنس مل ،أورسوال ك .هيس ،كارين ثورنبر ،األدب الدراسات النقدية ،املؤتمر الدولي الرابع للغة العربية ،دبي ،
والبيئة ،ص ،344إيمان السلطاني وآخرون ،نسق النسوية ، 192ص ،196 ، 195جيليكا توشيتش ،النقد البيئي ،ص 328
4
البيئية في رواية حديقة حياة للطفية الدليمي ، 737-633 ،جميل Cheryll Glofelty , What is Ecocriticism ,
Definding Ecocriticism of Theory and Practice ,
حمداوي ،نظريات النقد األدبي والبالغة في مرحلة ما بعد
Sixteen Position Papers From The 1994 Western
الحداثة ،ص :298 ، 297 Literature Association Meeting , Salt Lake City ,
Muhammad Shoaib , Desecration of the Earthly Utah , 6 October , 1994 , pp 100
Paradise ,pp 81 ، 5انظر ،لورنس بيل ،أورسوال ك هيس ،كارين ثورنبر ،األدب
Serpil Opperman, , Feminist Ecocritisism .The والبيئة ،ترجمة معتز سالمة ،فصول ،النقد األدبي وتداخل
New Ecofeminist Setlment , Feminism o/s 22 ,
December , 2013, pp 68. االختصاصات ،الهيئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،املجلد
12انظر : ( ، ) 2/26العدد ( ، )102شتاء ، 2018ص 338 ، 336
6
Sandip Kumar Mishra , Ecocriticism, pp169 Sandip Kumar Mishra , Ecocriticism :A Study
13
رجاء عالم ،طوق الحمام ،املركز الثقافي العربي ،بيروت ، of Environmental Issues in Literature , BRICS
– journal of Educational Research . October
الدار البيضاء ،ط ( ، 2010 ، ) 1ص 16 ، 15وانظر أيضا أمثلة
December 2016 , Vol -6 , Issue – 4 , pp 168
أخرى ،ص 64 ، 45 ، 43 ،34 ،19 ، 14وغيرها 7حول بدايات النقد البيئي وانتشاره ،انظر ،جميل حمداوي ،
14رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 316 نظريات النقد األدبي والبالغة في مرحلة ما بعد الحداثة ،ص 298
15انظر ،املصدر السابق ،ص 8 ، 7 ، 299 ،جيليكا توشيتش ،النقد البيئي ،ص ، 329 ، 328
16املصدر السابق ،ص 133وانظر أيضا حديث " أبو الرووس " Mohammad Shoaib , Desecration of the Earthly
عن " خليل" ص 92 Practice , pp 80 , Laurence Buell , Literature and
17املصدر السابق ،ص 53 Environment , pp 418
8
Dana Phillps , Ecocriticism , Literary Theory ,
18املصدر السابق ،ص ، 53وانظر ص 139 and the Truth of Ecology , New Literary
19انظر ،لورنس مل ،أورسوال ك .هيس ،كارين ثورنبر ،األدب History .Vol . 30 , No . 3 . Ecocriticism
والبيئة ،ص 353 ، 352 ( Summer 1991 ) pp 577-602, The Johns Hopkins
University Press , pp 583
20رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص ،42وانظر أيضا ص ، 43 ، 41 9
Dana Phillps , Ecocriticism , pp 578, 582 ,
50 ، 49 ، 47وغيرها Stephanie Sarver , What is Ecocriticism ,
21يمكن مالحظة األمثلة السابقة وغيرها في مواضع كثيرة من Definding Ecocriticism of Theory and Practice ,
Sixteen Position Papers From the 1994 Western
الرواية ،انظر على سبيل املثال ،ص ، 55-53 ، 51 ، 42 ، 41 Literature , Association Meeting , Salt Lake City ,
، 349 ، 260-257 ، 232 ، 231 ،161-158 ، 133 ، 124 ، 113 Utah , October 1994
، 350ومنه أيضا القصة األسطورية حول نشأة مكة التي تتماهى 10حول هذه الترابطات انظر ،كارين ج .وارين ،مدخل إلى النسوية
فيها الكائنات كلها ويتمازج اإلنساني والحيواني ،انظر ،ص ، 89 األيكولوجية ،maaber.50megs.comwww. ،تاريخ الدخول
90 (الثالثاء )2020/11/3إيمان مطر السلطاني ،زياد طارق العلي،
- 54 -
التخييل البيئي في رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم
49املصدر السابق ،ص ، 364وانظر أمثلة أخرى ،ص ، 345 22انظر ،كارين ج .وارين ،مدخل إلى النسوية اإليكولوجية
، 415 ، 389 ، 388وانظر أيضا إدانة يوسف ملا يحدث في مكة 23رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 55 ، 54وانظر أيضا صورة
واستنكاره له ،وكأن التعدي على مكة هو تعد على تاريخها وعلى أخرى في مذكرات يوسف للمرأة األم /التي ال تموت وترضع كل
الوحي الذي نزل فيها ،لتفقد البركة التي أحاطت بها جراء ما فعله البشر ،ص 103 ، 102
البشر ،ص 102 24انظر ،املصدر السابق ،ص 161-158
50املصدر السابق ،ص ، 324وانظر كيف تتحد مكة بأرضها 25انظر ،املصدر السابق ،ص ، 170 ، 163 ، 162وانظر أيضا
وينابيعها وحقولها واملرأة في امرأة كونية تجتمع كل عناصر وصف عائشة لجسد املرأة بأنه شافط للكون بينما ال يزيد جسد
الطبيعة وأشكال الحياة فيها ،ص 447 الرجل عن كونه مجرد قاذف ،ص 185
51انظر ،املصدر السابق ،ص ، 215 ، 214ولعل مفتاح الكعبة 26املصدر السابق ،ص 17
الذي سرق واختفى يمثل رمزيا سرقة وجه مكة ومالمحها ،انظر 27رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 65
ص 228 28املصدر السابق ،ص 20
52انظر ،لورنس مل ،أورسوال ك .هيس ،كارين ثورنبر ،األدب 29حول هذا الربط بين عزة وعائشة والحمام انظر ،املصدر
والبيئة ،ص 345 السابق ،ص 300 ، 284 ، 170 ، 135 ، 69 ، 31 ، 20 ، 13
53رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 535 30املصدر السابق ،ص 284
54املصدر السابق ،ص ، 538ويقول تيس األغوات أيضا :حين 31املصدر السابق ،ص 541 ، 540
تولد البنت يحبسونها في قالب مانيكان ،انظر ص 538 32املصدر السابق ،ص 302
55انظر ،املصدر السابق ،ص 559 ، 557 33املصدر السابق ،ص 174 ، 173
34املصدر السابق ،ص 30
املصادر واملـراجع: 35انظر ،رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 39-37 ، 34
املصادر: 36املصدر السابق ،ص 557
رجاء عالم ،طوق الحمام ،املركز الثقافي العربي، -1 37املصدر السابق ،ص 173 ، 172
38
Sandip Kumar Mishra , Ecocriticism , pp 168
بيروت ،الدار البيضاء ،ط ( 2010 ،) 1 39جيليكا توشيتش ،النقد البيئي "دراسة في األدب والبيئة" ،ص
املراجع الةربية: 331
أبو الفضل بدران ،أهمية النقد األدبي البيئي في -1 40رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 5
الدراسات النقدية ،املؤتمر الدولي الرابع للغة العربية ،دبي ، 41املصدر السابق ،ص 420
192 42املصدر السابق ،ص 28
إيمان مطر السلطاني ،زياد طارق العلي ،رواء -2 43رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 7
جليل الجنابي ،نسق النسوية البيئية في رواية حديقة حياة 44املصدر السابق ،ص 63
للطفية الدليمي: 45املصدر السابق ،ص ،65وانظر أيضا كيف تخاطب مخلفات
Route Educatonal & Social Science Journal , vol البيوت إحدى شخصيات الروية وتصرف البشر بأنهم "زبالة" ،ص
6 (2), January 2019 252
جميل حمداوي ،نظريات النقد األدبي والبالغة في -3 46املصدر السابق ،ص 141وانظر أيضا ما حصل من تغيرات في
مرحلة ما بعد الحداثة (مرجع إلكتروني): بيت اللبابيدي الذي يمثل أيضا أحد وجوه مكة القديمة وذاكرتها
)(www.alukah.net ال سيما من خالل الصور التي احتفظ بها أصحابه ،ص ، 154
جيليكا توشيتش ،النقد البيئي " دراسة بينية في -4 155
األدب والبيئة " ،ترجمة سناء عبد العزيز ،فصول ،النقد 47انظر ،املصدر السابق ،ص 159 ، 158
48رجاء عالم ،طوق الحمام ،ص 341
- 55 -
ميساء الخواجا.د
- 56 -