Professional Documents
Culture Documents
اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان
اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان
ً
خطابا عام 2019بمناسبة الذكرى السبعين النتصار الثورة الرئيس الصيني يلقي
الصينية .تصوير جيسون لي ،رويترز.
على مدار شهرين من الحرب في أوكرانيا ،حضرت الصين كعنوان رئيس شبه يومي في
ً
وامتدادا للتماهي التام التغطية اإلعالمية للصراع في وسائل اإلعالم الغربية والعربية الكبرى.
بين خطاب هذه الصحف ومحطات التلفزة ورواية الواليات املتحدة -سواء حول الحرب أو
ً
عموما عن الصين هو ذاته ما تقوله حول أي ش يء آخر ً
تقريبا -بدا أن ما تنقله هذه املؤسسات
ص ّدرت الصين كطرف في الصراع ألنها ،كما ُي َنقل عن «مسؤولين كبار في الواليات املتحدة عنهاُ .
الواليات املتحدة» ،كانت على دراية بنوايا روسيا قبل بدء التدخل العسكري .كما ُح ّملت
مسؤولية «إنجاح» العقوبات الغربية على موسكوً ،
نظرا إلى أنها لن تكون «فعالة» إذا لم تلعب
ً
الصين معنا ،كما زعمت الواليات املتحدة مرا ًرا ،مهددة بـ«عواقب» محاولة الصين مساعدة
روسيا في االلتفاف على العقوبات.
ص ّورت على أنها تغرد وحدها خارج «املجتمع الدولي» وعلى
لكن األهم هو أن الصين ُ
تضاد معه ،ألنها لم تدن «الغزو» ورفضت االنضمام لجوقة مناهضة روسيا ً
دوليا أو املشاركة
أبدا ،فقد رفض العديد من دول في ردعها ومعاقبتها .في الواقع ،لم تكن الصين وحيدة ً
الجنوب والبلدان النامية السير على هوى الواليات املتحدة .كان رئيس الوزراء الباكستاني
السابق ،عمران خان ،أبرز ضحايا هذا الرفض ،فيما أعربت الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا
كذلك عن رفضها املشاركة في العقوبات على روسيا .كما امتنعت 35دولة 17 ،منها
إفريقية ،عن إدانة روسيا في األمم املتحدة ،وتحدث بعضها بصراحة عن مسؤولية الواليات
1
ً
املتحدة عن توسع الناتو شرقا وتمهيد الطريق للحرب .لكن هؤالء على ما يبدو ليسوا أعضاء
شرعيين في «املجتمع الدولي».
أمام هذه املحاوالت ،نشط الدبلوماسيون واملتحدثون الصينيون لتوضيح موقف
كثيرا ما ُيبالغ في
بالدهم ،إال أن قدرة الصين على التحكم بالتغطية اإلعالمية املتعلقة بها ً
َ
تقديرها .حين يتحدث البعض عن إهمال الصين وروسيا «املعركة على الرأي العام العاملي»
وعدم محاولتهما منافسة الغرب فيها ،يدور الحديث في الغالب حول مسائل تقنية بحتة:
االستثمار في تكوين مؤسسات إعالمية ،التنويع في األشكال ،الترجمة ،التحدث بـ«لغة جديدة».
لكن في الحقيقة ،ال يمكن لدولة مثل الصين ،رغم إرثها وحجمها وقوتها االقتصادية ،منافسة
الغرب في التأثير على اإلعالم العاملي .فالتاثير ال يبنى على هذه املسائل التقنية بقدر ما هو
محصلة هياكل وبنى تحتية ،من جامعات ومؤسسات وشبكات واسعة من الخبراء واملثقفين
ً
عموما في فضاءات رأسمالية استعمارية أو شبه استعمارية. واملترجمين واإلعالميين ،تشكلت
من أين ستأتي الصين بأدوات ووسائل الهيمنة ،وهي التي لم تستعمر دولة قط ،ولم تحكم
شعوب العالم بجيشها ودوالرها و«نموذجها» ،ولم تفرض لغتها كلغة «عاملية» ،ال بل كانت قبل
َ
مستعمرة في العالم الثالث ،أذلها الغرب باملدافع واألفيون ومعيار عقود أكبر دولة فقيرة شبه
الفضة؟
خالل الحرب في أوكرانيا ،بدا ما تقوله وسائل اإلعالم الغربية والعربية الكبرى عن
الصين هو ذاته ما تقوله عنها الواليات املتحدة.
رغم أن الصين عبرت عن موقفها بوضوح من الصراع الروس ي الغربي ،حتى قبل اندالع
الحرب ،إال أن محاوالت وسم موقفها بـ«الرمادي» وتصويرها على أنها تلعب على كل األحبال لم
تتوقف .في 23شباط ،قالت املتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ،هوا تشون ينغ ،ر ًدا على
سؤال حول األزمة األوكرانية« :إن املنطق والسببية ّ
مهمان عند محاولة فهم األشياء .هناك
سياق تاريخي معقد لقضية أوكرانيا والوضع الحالي هو نتيجة تفاعل العديد من العوامل ()..
على بعض الدول أن تسأل نفسها :عندما قادت الواليات املتحدة خمس موجات من توسع
ً ً ً
الناتو شرقا وصوال إلى عتبة روسيا ،ونشرت أسلحة استراتيجية هجومية متقدمة ،منتهكة
التطمينات التي قدمتها لروسيا ،هل فكرت ً
يوما في العواقب؟» .في ردها على سؤال آخر ،قالت
2
هوا إن من «ربط العقدة هو املسؤول عن فكها» ،وهي الفكرة التي رددها بأشكال
مختلفة العديد من املسؤولين والدبلوماسيين الصينيين خالل الحرب.
كان الرئيس ش ي جينبينغ أحد هؤالء حين أعاد التذكير بموقف بالده من الحرب ،في
ّ ً
اجتماع عبر الفيديو جمعه بنظيره األمريكي ،قائال إن «من علق الجرس في عنق النمر عليه أن
ينزعه» .لكن تصريحات ش ي لم تكد تظهر في اإلعالم السائد ،الغربي أو العربي ،الذي تناقل
ملخصات البيت األبيض حول مجريات االجتماع تحت عناوين مثل «بايدن يحذر» ،و«بايدن
ً
اجتماعا بين يتوعد» ،وكأن اللقاء الذي دام ساعة ونصف كان محاضرة ألقاها بايدن ،ال
رئيس ي دولتين كبريين( .من املفيد أن نالحظ هنا أن قناة الجزيرة القطرية ،وتحت شعار «الرأي
والرأي اآلخر» ،تفتح الهواء لصهاينة محتلين يتوعدون املقاومين الفلسطينيين على شاشتها
بالقتل ،وتمتنع ،باملقابل ،عن استضافة محلل أو مسؤول صيني).
تغريدة للمتحدث باسم الخارجية الصينية ،جاو ليجيان ،بكاريكاتير من صحيفة الغلوبال تايمز الصينية ،يظهر فيها «العم سام»
ً
قائال «ملاذا ال تستطيع الصين أن تفعل املزيد للمساعدة في إخماد الحريق؟».
3
باملحصلة ،يبدو أن الصين اليوم ،على عكس ما ُت َّ
صور ،مفعمة بالسياسة وتنشط فيها
كثيرا ّ
عما بتنا نراه في نقاشات عدة حول الكثير من قضايا البلد والعالم ،على نحو يختلف ً
الغرب الذي يمنع أي اختالف بخصوص روسيا ،وال يقبل سوى بالهتاف بسقوط بوتين.
نحو ناتو آسيوي؟
ً
جسرا بين أوكرانيا وتايوان. منذ بداية الحربّ ،
مدت اإلمبراطورية األمريكية وإعالمها
حرص الخبراء والدبلوماسيون والصحفيون على تحذير التايوانيين :إذا لم تتحركوا وتعملوا
بجد ،فمصيركم من مصير األوكرانيين؛ هذه نتيجة مخاطر العيش بجوار جار مستبد وتوسعي.
خالل زيارته إلى أستراليا في آذار املنصرم ،قال األدميرال جون أكويلينو ،رئيس قيادة «املحيطين
الهندي والهادئ» في الجيش األمريكي ،إن الغزو الروس ي ألوكرانيا يظهر أن على الدول اآلسيوية
أن تأخذ احتمال وقوع هجوم صيني على تايوان على محمل الجد ،وإنه «يجب أن نكون
مستعدين في جميع األوقات» .على الفور ،ردت السلطات التايوانية على الرسائل األمريكية،
حيث طمأن وزير خارجية تايوان وسائل اإلعالم األجنبية بشأن استعدادات الجزيرة للقتال،
ً
مؤكدا أن قتال األوكرانيين وشجاعتهم كانا «مصدر إلهام للشعب التايواني».
يبدو أن دبلوماسيي تايوان تحمسوا بعض الش يء على وقع التصفيق الغربي ألوكرانيا
و«مقاومتها» ،إال أن تصريحاتهم متسقة مع حالة التصعيد التي تشهدها عالقة الجزيرة مع البر
الرئيس ي منذ تولي تساي إنغ ون ،رئيسة الحزب الديمقراطي التقدمي ،السلطة في تايوان عام
ً
وجوديا» للواليات تهديدا ،2016ووصول ترامب للبيت األبيض بعدها بأشهرً ،
معلنا الصين « ً
ً
وتماشيا مع االستراتيجية األمريكية لـ«احتواء الصين» باستخدام ورقة «استقالل املتحدة.
تايوان» ،يقول الباحث الصيني جانغ ويدونغ إن تساي اتخذت مجموعة من الخطوات
والتصريحات التي أدت إلى تدهور العالقات عبر املضيق بسرعة لم ُيشهد لها مثيل منذ
التسعينيات.
ً
جوهريا عن رغم محاوالت الغرب املساواة بينهما ،إال أن قضية تايوان تختلف
قضية أوكرانيا .فتايوان جزء من الصين ،وهذا ما تعترف به جميع الدول التي تقيم
ً
عالقات دبلوماسية معها ،انطالقا من مبدأ «صين واحدة» ،ومن بينها الواليات املتحدة.
4
في السنوات القليلة املاضية ،عملت السلطات التايوانية على تعديل الكتب املدرسية
يجيا من متحف القصر الوطني في وأغلفة جوازات السفر ،وأزالت العناصر الصينية تدر ً
تايبيه .كما قيدت العالقات التجارية ،وعارضت مبدأ «صين واحدة» ،ولم تدخر ً
جهدا للهجوم
على نموذج «دولة واحدة ونظامان» ،ومضت ً
قدما في «االعتماد على الواليات املتحدة في السعي
لالستقالل» ،كما يقول جانغ .لكن التصعيد بلغ درجة جديدة في تشرين األول من العام
املاض ي ،حين فجرت تساي في مقابلة مع «س ي إن إن» قنبلتين :األولى حين اعترفت ألول مرة بأن
الواليات املتحدة تنشر قوات في تايوان ،والثانية حين دعت «الشركاء الديمقراطيين
ً
[عسكريا]: اإلقليميين» (اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا) إلى املساعدة في دعم الجزيرة
ُ
ظهر األنظمة االستبدادية نزعات توسعية ،فعلى الدول الديمقراطية أن تتحد «عندما ِ
ت
للوقوف ضدها .وتايوان في الخطوط األمامية».
في أيار من العام املاض ي ،وصفت مجلة اإليكونومست البريطانية تايوان بـ«أخطر مكان
عما تسوقه اإليكونومست .ففي على وجه األ ض» .يبدو الوصف ً
دقيقا ،وإن ألسباب تختلف ّ ر
ظل مساعي الواليات املتحدة لتطويق الصين بناتو «آسيوي» ،بالتعاون مع شركائها في تايوان،
ً
وإحاطتها بتكتالت تعمل على عسكرة املنطقة ،تصبح الحرب احتماال وار ًدا أكثر فأكثر.
بدأت هذه التكتالت مع مجموعة الحوار األمني الرباعي ،املعروفة بـ«الكواد» ،والتي
تشمل الواليات املتحدة وأستراليا واليابان والهند .ظل الكواد يراوح مكانه لسنوات ،لكن مع
ازدياد ما تسميه الواليات املتحدة «التوتر تجاه الصين» ،أعيد إحياء املجموعة في السنوات
األخيرة ،لتشارك الدول األربعة في مناورات ماالبار البحرية عام 2020في خليج البنغال وبحر
العرب.
ً كان أوباما أول رئيس ّ
يحول التركيز االستراتيجي للواليات املتحدة شرقا إلى الصين بعد
الحرب الباردة ،عبر استراتيجية «االستدارة نحو آسيا» .ثم تحولت إدارة ترامب من استراتيجية
«آسيا واملحيط الهادئ» إلى استراتيجية «املحيطين الهندي والهادئ» ،في محاولة لإلقرار
بأهمية الهند وضرورة وضع إطار استراتيجي يشملها ،بوصفها «العضو الحيوي والحاسم في
الكواد» .يعكس هذا التحول ً
أيضا التأكيد األمريكي على ضرورة املض ي ً
قدما في «السيطرة على
املحيطات» وعرقلة تقدم الصين في بناء قوة بحرية ،وهي التي جاءتها معظم هجمات العدوان
5
اإلمبريالي في العصر الحديث من البحر ،وتمر أكثر من نصف وارداتها وصادراتها عبر ممرات
مائية تسيطر عليها البحرية األمريكية ،فيما تحيط بها القواعد العسكرية األمريكية من كل
جهة (تملك اإلمبراطورية األمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وجزيرة غوام وأستراليا وحدها
254قاعدة عسكرية ،تضم أكثر من 87ألف جندي أمريكي).
جاء إعالن البيت األبيض في أيلول ،2021عن إطالق «أوكوس» ،أو «الشراكة األمنية
الثالثية» التي تشمل أستراليا واململكة املتحدة والواليات املتحدة ،ليعزز هذه العسكرة .كان
الهدف املباشر دعم أستراليا للحصول على «غواصات مدعمة ً
نوويا» ،لكن جهود «أوكوس»
تركز ً
أيضا ،بحسب البيت األبيض ،على «القدرات السيبرانية ،والذكاء االصطناعي،
وتكنولوجيات الكم ،وقدرات بحرية أخرى» .الدعوات األمريكية لزيادة تسليح املنطقة لم تكن
مواربة ،ففي نسخة 2021من التمارين العسكرية البحرية السنوية في آسيا (،)ANNUALEX
والتي شملت 35سفينة حربية و 40طائرة من الواليات املتحدة واليابان وأستراليا وكندا ،وألول
مرة ،أملانيا ،قال كارل توماس قائد األسطول األمريكي السابع إن القوى املشاركة في التدريبات
ً تمثل « ً
كما هائال من القوة» ،لكن «حين نفكر بالقتال ،فإننا أمام مساحة مائية كبيرة ،وأربع
حامالت طائرات عدد جيد ،لكن ستة أو سبعة أو ثمانية سيكون أفضل».
منذ بداية العام ،عملت تايوان على تحديث جيشها وإعادة هيكلته واالتجاه نحو قيادة
أكثر المركزية ،بشكل يمكن أن يرفع من قدرة قواتها على الصمود في القتال .وأجرت منذ بداية
آذار فقط عدة تدريبات تحاكي وقوع حرب مع الصين ،من بينها تمارين بالذخائر الحية في
جزيرتين قرب سواحل البر الصيني ،وتد ًيبا ُ
استخدمت فيه صواريخ جافلين األمريكية املضادة ر
ً
مؤخرا حاكت فيه للدروع ،التي استخدمت بكثافة في أوكرانيا ،إضافة إلى تدريب واسع
مرتقباُ ،
واستخدمت فيه طائرات F16وأباتش ي أمريكية .في ً ً
صينيا ً
هجوما الطائرات الحربية
هذا اإلطار ،طرح الكونغرس عدة مقترحات للتمويل العسكري ]1[،تصل قيمتها اإلجمالية إلى
سنويا بين عامي 2023و ،2027بهدف «تسريع نشر تايوان للقدرات ً ثالثة مليارات دوالر
الدفاعية املطلوبة لردع غزو من قبل الصين أو هزيمته إن دعت الحاجة» ،وهو ما قد يرفع
تايوان إلى مرتبة «إسرائيل» من حيث تلقيها لهذه املساعدات األمريكية .فيما بلغت قيمة
صفقات شراء السالح األمريكي التي وقعتها تايوان منذ 2019قرابة 17مليار دوالر.
6
يدرك قادة الصين أن استقالل تايوان في الوضع الحالي يعني أنها ستتحول إلى جزيرة
ً
غوام جديدة ،التي باتت منذ احتالل األمريكيين لها منطلقا لعملياتهم العسكرية في املحيط
الهادئ ،وتضم 54قاعدة أمريكية.
ومع اندالع الحرب في أوكرانيا ،ناقشت تايوان مع الواليات املتحدة الدروس العسكرية
املستفادة من الصراع ،وأنشأت مجموعة عمل لدراسة التكتيكات املستخدمة فيها .يقول الري
دايموند ،الزميل األول في معهد هوفر بجامعة ستانفورد ،إنه «يتعين على تايوان فعل الكثير
ً
تحديدا عبر تعزيز مرونتها إذا أرادت صد غزو بنجاح كما فعلت أوكرانيا»،
العملياتية .رحب خبراء أمريكيون بمساعي تايوان إلعادة التفكير في تجنيدها اإلجباري ،الذي
نظرا لكون مدته أربعة أشهر فقط .كما دعوها اعتبر أقرب لـ«معسكر صيفي»ً ، كثيرا ما ُ
ً
إلى التعلم من «إسرائيل» التي «استخدمت الخدمة العسكرية اإلجبارية املطولة والتقدم
التكنولوجي واملساعدة األمريكية لتعزيز أمنها اإلقليمي» (يمكننا هنا أن نعرف الكثير عن
تايوان وأوكرانيا وغيرهما من الدول التي َتقدم لنا على أنها تسعى للتحرر واالستقالل ،بالنظر
ً
نموذجا يحتذى به)]2[. التخاذها «إسرائيل»
أيضا أن تتعلم الكثير من الحرب .من أهم هذه الدروس، في املقابل ،يمكن للصين ً
كما يقول أحد ّ
الكتاب الصينيين ،هو أنه حين يكون العدو أحد وكالء الواليات املتحدة ،فال
معنى للحرب للخاطفة الساعية ّ
لشل البلد بهجوم مفاجئ ،فالحرب تدور تحت أعين أجهزة
االستخبارات األمريكية .وفي ظل الفجوة الهائلة في القوة العسكرية بين الصين أو روسيا من
جهة وهؤالء الوكالء من جهة أخرى ،فإن املستشارين األمريكيين سيعملون على تجنب القتال
التقليدي بين جيشين وتصميم مجموعة من التكتيكات الفريدة التي تهدف إلى إطالة أمد
املعركة ورفع الخسائر .في هذه الحالة ،فإن الخيار األفضل هو التعبئة الكاملة للجيش
والشعب واالستعداد لحرب طويلة« :إذا أردنا استخدام القوة لتحرير تايوان في املستقبل،
يجب أن نتخلى عن أي وهم [في القدرة على الحسم] بضربة قاصمة مفاجئة».
ً
بعيدا عن الدروس املستفادة ،ورغم محاوالت الغرب املساواة بينهما ،إال أن قضية
ً
جوهريا عن قضية أوكرانيا .فتايوان جزء من الصين ،وهذا ما تعترف به جميع تايوان تختلف
ً
الدول التي تقيم عالقات دبلوماسية معها ،انطالقا من مبدأ «صين واحدة» ،ومن بينها
7
ً
عضوا في األمم املتحدة ،وال تعترف معظم دول العالم بها الواليات املتحدة ]3[.وتايوان ليست
كدولة .لذا ،فإن محاوالت إسقاط السيناريو األوكراني على تايوان ّ
محملة بأهداف سياسية.
لكن ،إذا استمرت «قوى استقالل تايوان» بالتعاون مع الواليات املتحدة لتغيير الوضع
عمليا بـ«نظرية الدولتين» ،فإن مقولة «اليوم أوكرانيا ً
وغدا تايوان» ليست القائم والدفع ً
مستبعدة على اإلطالق .في ظل إدراك الصين لكلفة مثل هذه املواجهة ،هل يمكن أن تختار
القتال وتتخلى عن «الصعود السلمي» ،بعدما باتت على بعد سنوات من أن تصبح أكبر
اقتصاد في العالم؟
عن الصراع والسالم
كثي ًرا ما تخبرنا النخب في بالدنا عن مدى تجذر قيم ومبادئ الثورة الفرنسية وحضورها
املستمر في الثقافة السياسية في فرنسا ،لكن يصعب أن نتخيل أن يقال مثل هذا الكالم عن
ماض انتهى كل أثر له مع صور الثورة الصينية كحدث الصين .فعلى العكسُ ،ت ّ
ٍ
ُ
وفاة ماو تسيتونغ وبداية عصر اإلصالح ،وتقدم العالقة بين صين ما قبل اإلصالح وما بعده
ُ
كعالقة قطيعة وانقالب ،ال استمرارية فيها؛ بين «الصين املاوية» التي تصور كديك مقاتل،
و«الصين اإلصالحية» املساملة البراغماتية التي تخش ى الصدام .تتطابق هذه الثنائية مع النظرة
التي تقسم تاريخ البالد بعد الثورة إلى قسمين :صين فقيرة واشتراكية ،وصين غنية ورأسمالية،
في تجاهل للتحوالت االجتماعية واالقتصادية الهائلة التي حققتها املرحلة املاوية ،والتي بدونها
ً
ال يمكن أصال الحديث عن صين حديثة ومستقلة وقوية وذات سيادة ،لقد قامت التجربة
معا .لذا ،فإن الفصل التام بينهما الصينية بعد الثورة على استمرارية وانقطاع هاتين املرحلتين ً
سيؤدي ً
حتما إلى إساءة فهم الصين).
تهتز هذه الثنائية أمام ما يعكسه اإلجماع على مسألة تايوان ،فقد تمسكت الصين في
فترتيها املاوية واإلصالحية بمبدأ «إعادة التوحيد» .كان ماو أول من طرح الحل السلمي ملسألة
تايوان عام ،1956قبل سنوات من صياغة دنغ شياو بينغ لنموذج «دولة واحدة ونظامان».
ً
وردا على زيارة رئيس تايوان السابق لي تنغ هوي للواليات املتحدة ،أكد جيانغ زيمين ،الرئيس
الصيني السابق ،على معارضة استقالل تايوان ،وعلى أن تدمير الوضع
السلمي سيقود الستخدام القوة لحل املسألة .حدث ذلك عام ،1995خالل شهر العسل مع
8
األمريكان ،وعبر تصريحات لوسائل إعالم أمريكية .لكن ش ي جينبينغ ذهب أبعد من أي
مسؤول صيني سابق منذ عام ،1979حين ّ
صرح عام 2019بأن القضية ال يمكن «تناقلها من
جيل إلى جيل» ،وبأن الصين لن تستبعد استخدام القوة.
تعرف الصين أن الحرب ،إن وقعت ،لن تكون مع تايوان وحدها .لذا ،فهي ال تقول هذا
الكالم باستخفاف .فقد أدركت منذ الثورة ضرورة إرساء السالم من أجل البناء والتنمية ،لكن
ً
مقرونا بشرط أال َيمس بالسيادة واألمن االجتماعي ،وهو الشرط الذي يكسره ذلك كان ً
دوما
«استقالل تايوان» بوضوح .عرف الصينيون بالتجربة أن تحقيق السالم املستدام يتطلب
ُ
القتال والتضحيات ،وأن التسويات والتنازالت التاريخية ستبقي باب الحرب والعدوان
مفتوحا .كان هذا الدرس الذي مثلته الحرب الكورية عام 1950؛ ففي ذلك الوقتُ ،بعيد
ً
انتصار الثورة ،كانت الصين «بحاجة ماسة إلى بناء السالم» كما يقول ماو ،إال أن فهمه
لطبيعة الواليات املتحدة جعله يدرك أن تحقيق ذلك ال يمكن أن يمر عبر تجاهل ما يجري في
كوريا« .اآلن ،يتجه العدوان اإلمبريالي األمريكي مباشرة إلى الشمال الشرقي من بالدنا ،وإذا
غالبا تحت تهديده ،وسيكون من الصعب أسقط كوريا الشمالية ..فإن شمال شرقنا سيعيش ً
تحقيق البناء السلمي ..ستوضع ثالث سكاكين حادة على أجسادنا :واحدة من كوريا الشمالية
على رؤوسنا ،وواحدة من تايوان على الخصر ،وواحدة من فيتنام على أقدامنا».
ً
حاضرا في مسألة تايوان اليوم .إذ يدرك قادة الصين أن استقالل يبقى هذا الدرس
تايوان في الوضع الحالي يعني أنها ستتحول إلى جزيرة غوام جديدة (التي باتت منذ احتالل
ً
ومنطلقا لعملياتهم العسكرية في املحيط الهادئ ،وهي التي األمريكيين لها موطئ قدم مهم لهم،
تضم 54قاعدة أمريكية رغم أن مساحتها أقل من 550كلم مربع) .لكنها ستكون في الصين ،ال
على بعد آالف الكيلومترات منها .لهذا السبب ،فإن كل قادة عصر اإلصالح من دنغ شياو بينغ
إلى ش ي جينبيغّ ،
ماويون فيما يتعلق بتايوان.
بين الحاجة للسالم وإدراك املاهية اإلمبريالية للواليات املتحدة ،صاغ ماو مبدأ
«التعاون والصراع» الذي حكم العالقة الصينية األمريكية منذ عقود ،دون أوهام عن إمكانية
قيام «سالم أبدي» مع الواليات املتحدة أو تحويلها لحليف ،كما يشرح الكاتب جيانغ
ّ
يونغ .فبسبب حاجة الصين الستقرار يمكنها من تطوير مشروعها التنموي ،فإن التعاون
9
السلمي سيظل ضرورًيا .لكن بسبب الطبيعة العدوانية للواليات املتحدة وتناقض مصالحها
ً
حتميا .بكلمات أخرى ،فإن مع نهوض الصين ،فإن وجود فترات من الصراع سيكون كذلك
التعاون والصراع متالزمان في هذه العالقة ،ولم تكن املسألة مجرد انتقال من مرحلة صراع إلى
مرحلة تعاون ،كما ُتصور سردية القطيعة بين املاوية واإلصالحية .فقد تعاون الثوار الصينيون
مع األمريكيين عام 1944أثناء الحرب مع اليابانيين ،قبل أن يقاتلوهم في كوريا بعد سنوات ،في
حرب قدموا فيها أكثر من 197ألف مقاتل ،كان من بينهم ماو آنينغ ،أكبر أبناء ماو تسيتونغ.
ومع اندالع أزمة مضيق تايوان األولى عام ،1954توترت العالقات أكثر ،لكن االجتماعات بين
الطرفين استمرت لتجنب الحرب .وحين تم تطبيع العالقات عام 1972مع زيارة نيكسون
ً
اجتماعا .وبعد انهيار العالقات للصين ،بلغ عدد هذه االجتماعات املتعلقة بتايوان 136
الصينية السوفييتيةّ ،أمن التعاون السلمي إمكانية نقل املعرفة والتكنولوجيا من أجل تطوير
ً
املشروع الصناعي الصيني .في هذا اإلطار ،مثال ،جاءت خطة ماو املعروفة باسم «أربعة
وثالثة» في أوائل السبعينيات التي سعت الستيراد معدات وأجهزة بقيمة 4.3مليار دوالر (ومن
هنا جاء اسمها) ،من ستة دول غربية ،من بينها الواليات املتحدة ،باإلضافة إلى اليابان.
صناعيا ر ً
ئيسا .وبحلول ً ً
مشروعا استخدمت هذه املعدات إلى جانب معدات محلية لبناء 26
عام ،1982تم تشغيل جميع هذه املشاريع ،لتصبح ً
أساسا ً
مهما للتنمية االقتصادية في الصين
خالل الثمانينيات ،تبنى عليه مشاريع الحقة .كانت قدرة الصين على تحقيق تنمية مستقلة
مرتبطة ً
دوما بتوفير شروط البناء والتطوير.
إذا استمرت «قوى استقالل تايوان» بالتعاون مع الواليات املتحدة لتغيير الوضع
عمليا بـ«نظرية الدولتين» ،فإن مقولة «اليوم أوكرانيا ً
وغدا تايوان» ليست القائم والدفع ً
مستبعدة على اإلطالق.
لكن الصينيين لم ينسوا الشق الثاني لهذا املبدأ ،والواليات املتحدة لم تسمح لهم
َ
بنسيانه ،حتى وإن خ ُف َت منذ الثمانينيات .فالقادة السياسيون في عصر اإلصالح ،كما ينقل
سمير أمين ،كانوا يدركون أن الواليات املتحدة ال يمكن إال أن تعادي الصين كأمة ودولة ،وأن
ً
احتماال ً
قائما ،وأن الصين قد تصل إلى مرحلة تجد نفسها فيها مجبرة تصاعد الصراع سيظل
على القتال ،وهو ما بات يتضح أكثر اليوم .فمنذ سنوات ،يتزايد بين الصينيين االعتقاد بأن
10
الوجه األبرز للمرحلة املقبلة سيكون الصراع ،وقد عززت الحرب الحالية في أوكرانيا هذا
االعتقاد .بالنسبة لكثيرين ،لم يعد السؤال هو هل ستحاربنا الواليات املتحدة ،بل ملاذا تأخرت
حتى اآلن .يقول جيانغ إنه «على الرغم من تدهور العالقات الصينية األمريكية ،ال تزال هناك
مصالح مشتركة ضخمة ومعقدة بين الصين والواليات املتحدة ..سيظل هناك تعاون وصراع
بين الصين والواليات املتحدة ،لكن الصراع أصبح السمة األساسية .إن دوامة التاريخ تعيد
إنتاج العالقات الصينية األمريكية قبل ً 30
عاما من اإلصالح واالنفتاح» .في اإلطار
ذاته ،يقول الكاتب لي غوانغمان إنه يجب أن يكون لدى الصين اليوم شعور أعمق باألزمة في
عالقتها بالواليات املتحدة« :إن عبا ة «األمة الصينية وصلت إلى أخطر أوقاتها» التي ُت ّ
غنى في ر
ُ
النشيد الوطني الصيني لم يعف عليها الزمن» ،يقول لي.
باملحصلة ،على وقع األصوات املنادية بـ«االستعداد للحرب» ،هناك في الصين من يرى
أن انتظار الهجمة قد ال يعود خيا ًرا في لحظة ما ،وأنه إذا كان الهدف الحفاظ على منجزات
التنمية الصينية ،فيجب تذكر أن هذه املنجزات لم تكن لتتحقق دون فرض السيادة وردع
الهيمنة الغربية ،وأنه حين تصبح هذه السيادة مهددة ،فإن كل املنجزات تصبح مهددة معها.
اليوم ،أصبحت تايوان مركز الصراع الصيني األمريكي ،والسكين األخير املتبقي في خاصرة
الصين من الخمسينيات ،الذي يبدو أنها لن تستطيع التعايش معه إلى األبد.
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-
%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-
%d8%a8%d8%b9%d9%8a%d9%88%d9%86-
%d8%b5%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a9/?utm_source=yarpp&utm_medium=post&utm_campaign
=related
11