Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 46

‫أدوات حتليل اخلطاب‬

‫( ‪)‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬
‫من اليسري أن نقع يف أشراك املصطلحات ومتاهات التأصيل واألخذ والرد‪ ،‬لكن ألن الغاية هنا هي التبسيط وبلورة جمموعة من‬
‫األدوات الساحنة املواتية للتعامل مع خمتلف أنواع النصوص اللغوية (املكتوبة والشفهية) وغري اللغوية‪ ،‬يف خمتلف احلقول املعرفية وجماالت‬
‫التواصل اإلنساين‪ ،‬فال مفر من جتاوز تلك األشراك واختزال اجلدل املفاهيمي يف تعريفني جامعني‪.‬‬
‫ﺃﺩﻭﺍﺕ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬
‫من العالمات اللغوية تضبط استخدامها قواعد وعادات لغوية مرعية متعارف عليها وتنتج‬ ‫أوال‪:‬‬
‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪ :‬اخلطاب هو كل جمموعة‬
‫ﻓﺼﻮﻝ‬
‫وسياقات ثقافية واجتماعية‪ .‬أصل الكلمة يف الثقافة الغربية يفيد معىن‬
‫ﺍﻟﻌﺎﻣﺔفيةﻟﻠﻜﺘﺎﺏ‬
‫حقول معر‬ ‫مستقبل يف‬
‫ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ‬ ‫عان تنتقل من مرسل إىل ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ‬ ‫دالالت وم‬
‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬
‫انتقال رسالة من كاتب إىل قارئ أو من متكلم إىل سامع أو مستمع‪ .‬يف‬ ‫موضوع ‪ -‬و‬
‫ﻣﺤﻤﺪ‬ ‫ﻣﺰﻳﺪ‪،‬حول‬
‫ﺑﻬﺎﺀ ﺍﻟﺪﻳﻦ‬ ‫ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪":‬اللف والدوران"‬
‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒوهناك " ‪-‬‬
‫"اجلري هنا‬
‫ﻉ‪ 97‬األمر‪ ،‬أي اخلطب بتسكني الطاء‪ .‬واخلطب هو األمر الذي تقع فيه املخاطبة واخلطاب‪.‬‬ ‫تبط الكلمة ابلشأن أو‬ ‫أصلها العريب ‪ ،‬تر‬
‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫ﻧﻌﻢ‬
‫خاطبه ابلكالم خماطبة وخطااب‪ ،‬واما يتخاطبان" (لسان العرب)‪.‬‬ ‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪":‬مراجعة الكالم ‪ ،‬وقد‬
‫واملخاطبة هي‬
‫‪2016‬‬ ‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪:‬‬
‫اثنيا‪ :‬النص ‪ -‬وأصله العريب يفيد معىن الرفع واإلبراز أو التنصيب ‪ -‬هو جمموعة من العالمات اللغوية وغري اللغوية ‪ -‬خصوصا‬
‫ﺧﺮﻳﻒ‬ ‫ﺍﻟﺸﻬﺮ‪:‬‬
‫‪90‬ابط‪ -‬واألصل الغريب للمصطلح يفيد معىن النسج والنسيج ‪ -‬فيه سبك وحبك ‪ ،‬وله‬ ‫نسيج ‪-‬مرت‬
‫املرسومة ‪ -‬اليت ينتظمها ‪134‬‬ ‫املكتوبة أو‬
‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫‪ 774517‬أو مقام معلوم ‪ ،‬يتصل مبا قبله من نصوص من خالل التقاليد اللغوية والتواصلية‪.‬‬
‫‪:MD‬ت مقصودة أو تحتملة ‪ ،‬يف سيا‬‫ﺭﻗﻢدالال‬
‫داللة أو‬
‫ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ واخلطاب ابلكالم أو اللغة املنطوقة ‪ ،‬غري أن املصطلحني اليوم يتبادالن املواقع‬
‫ﺑﺤﻮﺙاملكتوبة‪،‬‬
‫ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪ :‬لعقود متعاقبة ابللغة‬
‫ﻧﻮﻉارتبط النص‬
‫‪Arabic‬أفعال الكالم واالفرتاض املسبق والتضمني والتعدي والسبك واحلبك وما إليه ‪ -‬بينهما يف‬ ‫ﺍﻟﻠﻐﺔ‪:‬وتتنقل أدوات التحليل ‪ -‬ومنها‬
‫ويتداخالن‬
‫‪AraBase‬‬ ‫ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪:‬‬
‫حرية ومرونة ‪ .‬ما جيمع املصطلحني هو جتاوزاما مستوى املفردة واجلملة‪ ،‬وخروجهما من ضيق الرتاكيب اللغوية (منزوعة السيا ) إىل‬
‫ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻻﺩﺑﻴﺔ‪ ،‬ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻻﺩﺑﻲ‪ ،‬ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺎﺕ ﺍﻷﺩﺑﻴﺔ‪ ،‬ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ‪ ،‬ﺍﻟﺘﺮﺟﻤﺔ‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬‬
‫ابلوظيفة التواصلية والغرض البالغي ال البىن‬ ‫العالقة بني اللغة واملوقف أو املقام أو السيا الذي تستعمل فيه‪ ،‬وانشغاهلما‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/774517‬‬ ‫ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬
‫رحابة‬
‫والرتاكيب وحدها‪ ،‬وابملعىن املتداول يف مواقف ومقامات خمتلفة ال املعىن املعجمي وحده‪.‬‬
‫قد يقال‪ :‬إن اخلطاب يستلزم وجود خماطب بكسر الطاء وخماطب بفتحها‪ .‬كذلك النص يستلزم وجود انص ومنصوص له ‪-‬‬
‫معلوم أو متوهم ‪ -‬ومنصوص (عليه)‪ .‬يرجع كثري من اخلالف واالختالف حول تعريف النص واخلطاب إىل أن الكالم عن النص يغلب‬
‫أن تكون فيه اللغة – وغريها من األنظمة اإلشارية الداللية ‪ -‬هي نقطة االنطال ‪ ،‬ويف الكالم عن اخلطاب يغلب أن تكون نقطة‬
‫االنطال من السيا الذي حييط ابلكالم أو غريه من العالمات‪ .‬إذن‪ ،‬تصلح األدوات اليت يرد تفصيلها هنا يف تناول "اخلطاب" ‪،‬‬
‫مبعىن الكالم ‪ ،‬كما تصلح يف تناول النصوص املكتوبة والنصوص غري اللغوية‪.‬‬
‫هذه الدراسة‬
‫ألننا نعيش يف عامل من النصوص ‪ ،‬وألن اللغة هي الناقل الرمسي لألفكار والقيم واملعتقدات‪ ،‬وألهنا كذلك وسيلة انجعة منجزة‬
‫يف تشويه الوعي وتدمري القيم والرتويج للمقابح والتحريض واالستقطاب وتفتيت اجملتمع وتشتيته وإهلائه‪ ،‬وألن مواقع التواصل االجتماعي‬
‫فتحت مزيدا من منافذ النشر والكتابة والتعبري‪ ،‬ال مفر من أن تعود املدرسة واجلامعة واملؤسسات واملنابر الثقافية إىل أتدية دورها يف‬
‫تنمية الوعي ‪ ،‬ومن أسباب حتقيق هذه الغاية التدريب على تطبيق أدوات حتليل اخلطاب‪.‬‬
‫فيما بقي من هذه الدراسة تبسيط جمموعة من أدوات حتليل اخلطاب على اختالف أنواعه ‪ -‬والتبسيط ينطلق من كتاب‬
‫© ‪ 2021‬ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫للقارئ‬ ‫ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ دليال‬
‫ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ‬ ‫ﻃﺒﺎﻋﺔ أنﻫﺬﻩتكون‬
‫الدراسة‬ ‫ﻳﻤﻜﻨﻚ غاية‬
‫ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ‬ ‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬متباينة‪.‬‬
‫وخطاابت‬ ‫نصوص‬
‫ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‬ ‫على‬
‫ﺟﻤﻴﻊ‬ ‫تطبيقات‬
‫ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ‬ ‫ﺃﺻﺤﺎﺏ‪ -‬مع‬
‫ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪،‬‬ ‫‪)1122‬‬ ‫‪( Gee‬‬
‫ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ‬ ‫)لبولﻋﻠﻰجي‬
‫ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ‬ ‫اخلطاب‬
‫ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ‬ ‫حتللﺍﻟﻤﺎﺩﺓ‬
‫(كيف ﻫﺬﻩ‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺩﺍﺭ‬
‫ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬

‫(‪)‬أستاذ اللغوايت والرتمجة ‪ ،‬كلية األلسن ‪ ،‬جامعة سوهاج ‪ ،‬مصر‪.‬‬


‫‪09‬‬
‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫( ‪)‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬
‫من اليسري أن نقع يف أشراك املصطلحات ومتاهات التأصيل واألخذ والرد‪ ،‬لكن ألن الغاية هنا هي التبسيط وبلورة جمموعة من‬
‫األدوات الساحنة املواتية للتعامل مع خمتلف أنواع النصوص اللغوية (املكتوبة والشفهية) وغري اللغوية‪ ،‬يف خمتلف احلقول املعرفية وجماالت‬
‫التواصل اإلنساين‪ ،‬فال مفر من جتاوز تلك األشراك واختزال اجلدل املفاهيمي يف تعريفني جامعني‪.‬‬
‫أوال‪ :‬اخلطاب هو كل جمموعة من العالمات اللغوية تضبط استخدامها قواعد وعادات لغوية مرعية متعارف عليها وتنتج‬
‫دالالت ومعان تنتقل من مرسل إىل مستقبل يف حقول معرفية وسياقات ثقافية واجتماعية‪ .‬أصل الكلمة يف الثقافة الغربية يفيد معىن‬
‫"اجلري هنا وهناك " ‪" -‬اللف والدوران" حول موضوع ‪ -‬وانتقال رسالة من كاتب إىل قارئ أو من متكلم إىل سامع أو مستمع‪ .‬يف‬
‫أصلها العريب ‪ ،‬ترتبط الكلمة ابلشأن أو األمر‪ ،‬أي اخلطب بتسكني الطاء‪ .‬واخلطب هو األمر الذي تقع فيه املخاطبة واخلطاب‪.‬‬
‫واملخاطبة هي "مراجعة الكالم ‪ ،‬وقد خاطبه ابلكالم خماطبة وخطااب‪ ،‬واما يتخاطبان" (لسان العرب)‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬النص ‪ -‬وأصله العريب يفيد معىن الرفع واإلبراز أو التنصيب ‪ -‬هو جمموعة من العالمات اللغوية وغري اللغوية ‪ -‬خصوصا‬
‫املكتوبة أو املرسومة ‪ -‬اليت ينتظمها نسيج مرتابط‪ -‬واألصل الغريب للمصطلح يفيد معىن النسج والنسيج ‪ -‬فيه سبك وحبك ‪ ،‬وله‬
‫داللة أو دالالت مقصودة أو تحتملة ‪ ،‬يف سيا أو مقام معلوم ‪ ،‬يتصل مبا قبله من نصوص من خالل التقاليد اللغوية والتواصلية‪.‬‬
‫ارتبط النص لعقود متعاقبة ابللغة املكتوبة‪ ،‬واخلطاب ابلكالم أو اللغة املنطوقة ‪ ،‬غري أن املصطلحني اليوم يتبادالن املواقع‬
‫ويتداخالن وتتنقل أدوات التحليل ‪ -‬ومنها أفعال الكالم واالفرتاض املسبق والتضمني والتعدي والسبك واحلبك وما إليه ‪ -‬بينهما يف‬
‫حرية ومرونة ‪ .‬ما جيمع املصطلحني هو جتاوزاما مستوى املفردة واجلملة‪ ،‬وخروجهما من ضيق الرتاكيب اللغوية (منزوعة السيا ) إىل‬
‫رحابة العالقة بني اللغة واملوقف أو املقام أو السيا الذي تستعمل فيه‪ ،‬وانشغاهلما ابلوظيفة التواصلية والغرض البالغي ال البىن‬
‫والرتاكيب وحدها‪ ،‬وابملعىن املتداول يف مواقف ومقامات خمتلفة ال املعىن املعجمي وحده‪.‬‬
‫قد يقال‪ :‬إن اخلطاب يستلزم وجود خماطب بكسر الطاء وخماطب بفتحها‪ .‬كذلك النص يستلزم وجود انص ومنصوص له ‪-‬‬
‫معلوم أو متوهم ‪ -‬ومنصوص (عليه)‪ .‬يرجع كثري من اخلالف واالختالف حول تعريف النص واخلطاب إىل أن الكالم عن النص يغلب‬
‫أن تكون فيه اللغة – وغريها من األنظمة اإلشارية الداللية ‪ -‬هي نقطة االنطال ‪ ،‬ويف الكالم عن اخلطاب يغلب أن تكون نقطة‬
‫االنطال من السيا الذي حييط ابلكالم أو غريه من العالمات‪ .‬إذن‪ ،‬تصلح األدوات اليت يرد تفصيلها هنا يف تناول "اخلطاب" ‪،‬‬
‫مبعىن الكالم ‪ ،‬كما تصلح يف تناول النصوص املكتوبة والنصوص غري اللغوية‪.‬‬
‫هذه الدراسة‬
‫ألننا نعيش يف عامل من النصوص ‪ ،‬وألن اللغة هي الناقل الرمسي لألفكار والقيم واملعتقدات‪ ،‬وألهنا كذلك وسيلة انجعة منجزة‬
‫يف تشويه الوعي وتدمري القيم والرتويج للمقابح والتحريض واالستقطاب وتفتيت اجملتمع وتشتيته وإهلائه‪ ،‬وألن مواقع التواصل االجتماعي‬
‫فتحت مزيدا من منافذ النشر والكتابة والتعبري‪ ،‬ال مفر من أن تعود املدرسة واجلامعة واملؤسسات واملنابر الثقافية إىل أتدية دورها يف‬
‫تنمية الوعي ‪ ،‬ومن أسباب حتقيق هذه الغاية التدريب على تطبيق أدوات حتليل اخلطاب‪.‬‬
‫فيما بقي من هذه الدراسة تبسيط جمموعة من أدوات حتليل اخلطاب على اختالف أنواعه ‪ -‬والتبسيط ينطلق من كتاب‬
‫(كيف حتلل اخلطاب)لبول جي ‪ - )1122( Gee‬مع تطبيقات على نصوص وخطاابت متباينة‪ .‬غاية الدراسة أن تكون دليال للقارئ‬

‫(‪)‬أستاذ اللغوايت والرتمجة ‪ ،‬كلية األلسن ‪ ،‬جامعة سوهاج ‪ ،‬مصر‪.‬‬


‫‪09‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫وأن تكون إطارا ميكن من خالله تدريب الطالب والطالبات يف املرحلة اجلامعية على قراءة خمتلف النصوص والتعامل مع خمتلف أنواع‬
‫اخلطاب ‪ .‬ال سبيل إىل حتقيق "األمن الفكري" وهتذيب الذائقة وتنمية الوعي من غري قدرة على التعامل مع النصوص واخلطاابت ‪.‬‬
‫إمجاال‬
‫" أن منارس النقد‪ ،‬معناه أن نشارك يف دورة احلياة لثقافتنا‪ ،‬معناه أن ننتج حياة هذه الثقافة‪ ،‬لتنتج بدورها حياتنا الفضلى"‬
‫(ميىن العيد‪ :‬يف معرفة النص)‬
‫كل نص وكل خطاب ينتج دالالت ‪ ،‬ذلك ألن فيه‪ ،‬والكالم أللتون بيكر ‪ ،)1111( Becker‬بقليل من التصرف ‪)2( ،‬‬
‫بناء‪ :‬عبارات ومجل وفقرات وغري ذلك‪ )1( ،‬تذكر‪ :‬نصوص و خطاابت سبقت أو حوادث وقعت أو حاالت سلفت أو كل‬
‫ذلك‪ )3(،‬تعبري‪ :‬ابألصوات أو احلروف أو اخلطوط أو األلوان أو غريها من العالمات ‪ )4( ،‬تفاعل‪ :‬بني املؤلف والنص وبني املؤلف‬
‫واملتلقي وبني الشخصيات يف النص‪ ،‬أو بني املتكلم واملستمع ‪ )5( ،‬إشارة أو إحالة‪ :‬إىل العامل اخلارجي الذي حييط ابلنص أو اخلطاب‬
‫‪ ،‬وإىل العامل داخل النص أو اخلطاب ‪ ،‬وإىل أجزاء النص أو اخلطاب السابقة والالحقة‪ .‬بعبارة أخرى ‪ ،‬يف كل خطاب أو نص‬
‫عالقات وارتباطات صنفها بيكر إىل العالقات البنائية‪ ،‬مث العالقات النوعية (عالقة النص أو اخلطاب بغريه من النصوص ‪ ،‬واخلطاابت ‪،‬‬
‫وعالقته جبنسه أو نوعه)‪ ،‬مث العالقات الوسائطية (عالقة النص أو اخلطاب ابلوسيط أو الوسيلة اليت ينتقل هبا إىل املتلقي)‪ ،‬فالعالقات‬
‫اإلنسانية والعالقات اإلشارية والعالقات الصامتة املسكوت عنها‪.‬‬
‫هذا نص قصري نستطيع أن نتناوله من خالل اإلطار النظري الذي طرحه بيكر أعاله ‪" .‬اليوم كنا معا ابنتظار املصعد‪ ..‬أان‬
‫وامرأة منقبة ‪ ..‬عند وصول املصعد رفضت املرأة مرافقيت ‪ ،‬وفضلت انتظار املصعد اآلخر ‪ . .‬خيل إيل أهنا كانت ختاطبين‪ " :‬أنت رجل‬
‫عدمي الشرف ‪ ..‬بال أخال ‪ ..‬أخاف على نفسي منك‪" .‬كان شعورا مريراً ابإلهانة‪ .‬مع عجز عن الرد (إسالم أبو شكري‪ ،‬من‬
‫صفحته على الفيسبوك‪ 15 ،‬فرباير ‪ .)1125‬حني نتناول العالقات البنائية نتناول األفعال وأزمنتها ودالالهتا‪ ،‬خصوصا األفعال اليت‬
‫حترك األحداث أو توقفها حنو "رفضت مرافقيت"‪ ،‬و"خيل إيل" ‪ ،‬والضمائر وعالقتها مبضمراهتا ‪ "-‬أان" تشري إىل املتكلم الذي يصبح‬
‫فيما بعد طرفا خماطبا يف مواجهة متخيلة " أنت رجل عدمي الشرف " – وحظ اجلمل من البساطة أو التعقيد‪ ،‬ومن الطول والقصر‪،‬‬
‫واألمساء وما يرتبط هبا من صفات ‪" -‬امرأة منقبة" و"املصعد اآلخر" و"رجل عدمي الشرف"‪ .‬ينتمي النص إىل السرد؛ ففيه أحداث‬
‫وشخصيتان ‪ ،‬وسبك‪ ،‬وحبك وتعاقب أفعال ‪ ،‬ومكان ‪ -‬أمام املصعد‪ -‬وزمان ‪" -‬عند وصول املصعد" ‪ ،‬ويف النص القصري صراع‬
‫وتوتر عابر بني سلوكني ‪ ،‬سلوك املتكلم وسلوك الغائبة اليت يشري إليها السرد‪.‬‬
‫اختار الكاتب "حائطه" على الفيسبوك لنشر هذه اخلاطرة السردية ‪ ،‬وال بد أن وجودها يف هذا السيا سوف يسمح‬
‫بتعليقات ومداخالت عليها‪ .‬ويف النص عالقة إنسانية تتسم من جهة املرأة ابلنفور واالجتناب ‪ ،‬ال األلفة واالقرتاب ‪ .‬كان ميكن هلذه‬
‫العالقة أن ختتلف لو أن اليت كانت تنتظر املصعد مع الكاتب امرأة ال ترفض االختالط وال حتجم عن الكالم مع غريب ‪ .‬ليس هناك‬
‫قرائن على ما كان يدور يف عقل السيدة ‪ ،‬وال عن مربرات رفضها مصاحبة الرجل يف مصعد واحد‪ .‬رمبا اخلوف أو اخلجل ‪ ،‬أو جتربة‬
‫مريرة سابقة أو غري ذلك ‪ .‬مل حيدث حوار بني املتكلم واملرأة ‪ ،‬غري أنه توهم حوارا من جهة واحدة ‪" -‬خيل إيل أهنا كانت ختاطبين‬
‫‪:‬أنت رجل عدمي الشرف ‪ ..‬بال أخال ‪ ..‬أخاف على نفسي منك"‪.‬‬
‫هذا احلوار املتخيل يرتبط إىل حد بعيد ابلصورة النمطية اليت حييل إليها "النقاب" ‪ .‬على أساس هذه الصورة النمطية وعلى‬
‫أساس رفض املرأة مصاحبة الرجل يف مصعد واحد تصور املتكلم ما كان يدور يف عقل املرأة وما كانت تضمر من نفي ورفض وجتنب‪.‬‬
‫كالمها املتخيل جاء عنيفا مهينا‪ ،‬لكن ظل الرجل عاجزا عن الرد ألهنا ببساطة مل تقله‪ .‬عنف متبادل‪ ،‬عنف التنميط والقولبة من جهة‬

‫‪09‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫الرجل ‪ ،‬وعنف النفور ورفض الصحبة واإلساءة املفرتضة من جهة املرأة‪ .‬صدقت ابرابرا كروجر‪ -‬إذن ‪ -‬حني قالت "إن معظم العنف‬
‫الذي يقع بني البشر مرده إىل األفكار اخلاطئة والصور النمطية اليت رسخت يف أذهان بعضهم عن بعض"‪.‬‬
‫(‪ )1‬أداة اإلشارة‬
‫"ذات ليلة شتائية استضفت زميل دراسة ‪"..‬‬
‫(إمساعيل فهد إمساعيل‪ :‬الكائن الظل ‪ ،‬ص ‪)6‬‬
‫تعابري اإلشارة والضمائر ‪" -‬هنا" و"هناك" و" أان" و"أنت" واألماكن والتواريخ وصيغ املخاطبة واألمساء ‪ -‬وما إليها تضع‬
‫اخلطاب يف سيا اترخي ثقايف بعينه‪ .‬وهي اخلطوة األوىل يف فهم سيا اخلطاب ومقاصده ودالالته وفهم ما فيه من عالقات ‪ .‬هذه‬
‫خامتة ابب من أبواب كتاب (الرسائل ) للجاحظ‪" :‬وقد اختصرت كتايب هذا لئال ميله القارئ ‪ ،‬وابهل التوفيق‪ .‬مت كتاب مفاخرة‬
‫‪.‬اجلواري والغلمان ‪ ،‬وهللا املستعان‪ ،‬وعليه التكالن ‪ ،‬وال إله إال هو‪ .‬يتلوه إن شاء هللا تعاىل كتاب القيان من كالم أيب عثمان عمرو بن‬
‫حبر اجلاحظ أيضا‪ ،‬وهللا املوفق للصواب‪ .‬واحلمد هل أوال وآخرا‪ ،‬وصلواته على سيدان تحمد نبيه وآله وصحبه وسالمه (اجلاحظ‪:‬‬
‫الرسائل‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪ .)224‬تعود التاء األخرية يف "اختصرت" على املتكلم وتشري الياء يف هناية "كتايب" إىل عالقة‬
‫انتساب بني الكتاب ‪ " ،‬هذا" أي الذي بني أيدينا اآلن‪ ،‬والكاتب ‪ .‬أما القارئ فيأيت معرفا أبل ألن املقصود هو من يقرأ هذا الكتاب‪.‬‬
‫مث تشري اهلاء يف يتلوه إىل اجلزء الذي انتهى من الكتاب وهو "مفاخرة اجلواري والغلمان"‪ .‬ويبدو أن اجلاحظ كان حريصا على حقو‬
‫امللكية الفكرية وحذرا من سطو السارقني على كتابه ‪ ،‬فأردف قائال "من كالم أيب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ أيضا"‪.‬‬
‫وهذا النص من مقدمة ابن خلدون فقرة عنواهنا‪" :‬يف معين التجارة ومذاهبها وأصنافها" ‪" -‬اعلم أن التجارة تحاولة الكسب‬
‫بتنمية املال ‪ ،‬بشراء السلع ابلرخص ‪ ،‬وبيعها ابلغالء‪ ،‬أاي ما كانت السلعة ‪ ،‬من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش ‪ .‬وذلك القدر النامي‬
‫يسمى رحبا‪ ،‬فاحملاول لذلك الربح‪ :‬إما أن ختزن السلعة ويتحني هبا حوالة األسوا من الرخص إىل الغالء‪ ،‬فيعظم رحبه ‪ ،‬وإما أبن ينقله‬
‫إىل بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشرتاها فيه‪ ،‬فيعظم رحبه ‪ .‬ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار‪ ،‬لطالب‬
‫الكشف عن حقيقة التجارة‪ :‬أان أعلمها لك يف كلمتني ‪ ،‬اشرتاء الرخيص وبيع الغايل‪ .‬فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إىل املعىن‬
‫الذي قررانه ‪ .‬وهللا سبحانه وتعاىل أعلم ‪ ،‬وبه التوفيق ‪ ،‬ال رب سواه "‪( .‬ابن خلدون ‪ :‬املقدمة ‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪.)111‬‬
‫هناك عالقة ترادف وتفسري بني عنوان الفقرة ومتنها‪ ،‬فغاية الفقرة هي تعريف "التجارة" وهذا ما ينبئنا به العنوان‪ .‬أول الكالم‬
‫فعل األمر "اعلم"‪ ،‬وهو يشري إىل ضلعني من أضالع اخلطاب اما املتكلم ‪ ،‬الذي يطلب ‪ ،‬واملتلقي احملتمل الذي يراد منه أن "يعلم"‪.‬‬
‫يشري فعل األمر إىل غرض الكاتب وهو "التعليم"‪ .‬الكالم يف الفقرة عن نشاط بشري معروف هو التجارة اليت ترد معرفة‪ ،‬ألن املقصود‬
‫هبا ذلك النشاط البشري مجلة ال تفصيال‪ .‬ويف الفقرة كالم عن "احملاول" لذلك الربح وهو التاجر‪ ،‬وفيها كالم عما يتصل بذلك من‬
‫سلع وربح وأسوا وأمثان‪ .‬حني نتتبع مفرديت "السلع" و"السلعة" جنداما تردان على سبيل التعميم يف املرة األوىل والثانية ‪ ،‬مث ترد معرفة‬
‫مبا سبقها من سيا ‪ ،‬أبداة التعريف "ال" العهد الذكري ‪ ،‬أي اليت أصبحت معرفة بعد أن عهدها القارئ مما سبق‪ ،‬فتشري إىل ما ختار‬
‫التاجر من متاع يقصد به املتاجرة" من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش "‪ .‬مث تعرج الفقرة على مثلث خطاب متضمن املتكلم فيه‬
‫"بعض الشيوخ من التجار"‪ ،‬واملستمع هو "طالب الكشف عن حقيقة التجارة" ‪ -‬من غري ما تستلزم الدراسات العلمية املعاصرة من‬
‫توثيق كاف ‪ -‬وإليهما تشري "أان" وكاف املخاطب يف "أان أعلمها لك يف كلمتني"‪ .‬يف تعليق ابن خلدون على ما قال بعض شيوخ‬
‫التجار عودة إىل النص اإلطار‪ ،‬أو إىل مثلث اخلطاب الكبري‪ ،‬ففي "إشارة منه بذلك إىل املعىن الذي قررانه" تعود اهلاء يف "منه" على‬
‫التاجر املذكور‪ ،‬و"ذلك" على ما قال للسائل عن حقيقة التجارة ‪ ،‬و "ان" يف "قررانه" على "ابن خلدون"‪ ،‬مث اهلاء األخرية على ما‬
‫"قرر" ابن خلدون قبل أن يقتبس كالم التاجر الكبري‪.‬‬
‫‪05‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ال بد من وقفة مع "ان" املتكلمني يف هذا املوضع ‪ .‬يستطيع القارئ أن جيد فيها نوعا من تفخيم الذات يف الكالم عنها بصيغة‬
‫اجلمع‪ ،‬ويستطيع أن جيد فيها نوعا من التفاعل بني الكاتب والقارئ ‪ ،‬على معىن أن النص ليس تحاضرة من جهة واحدة ‪ ،‬بل مناقشة‬
‫وتفاوضا بني الكاتب والقارئ‪ .‬تنتهي الفقرة إبشارة إىل "هللا سبحانه وتعاىل" فهو "أعلم‪ ،‬وبه التوفيق ‪ ،‬ال رب سواه" وهنا اعرتاف‬
‫حبدود العلم البشري منسواب إىل علم هللا تعاىل ودعوة مبطنة أن يغض القارئ الطرف عما قد جيد يف الفقرة من قصور‪ ،‬وكذلك إشارة إىل‬
‫انتماء الكاتب وخلفيته الدينية اإلسالمية‪.‬‬
‫استطراد (‪ :)1‬عن أضالع مثلث اخلطاب ومفهوم التقريب‬
‫وتقول عزة قد مللت ‪ ،‬فقل هلا‬
‫أميل شيء نفسه فأملها؟‬
‫(كثري عزة)‬
‫لكل خطاب نقطة ينطلق منها هي " مركز اإلشارة " فيه وهي "أان" اليت تتكلم يف اخلطاب و"هنا" اليت تكون فيها "األان"‪،‬‬
‫و"اآلن" اليت يقع فيها احلدث‪ .‬يف النص‪" :‬أان مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق "ثالثة تعابري إشارية هي‪" :‬أان"‬
‫و"بعد" و"هذا" ‪ .‬مركز اخلطاب هو املتكلم – وهو مذكر لغياب اتء التأنيث من "مرهق" ‪ -‬ومكانه يف مكتب خانق وزمانه يف هناية‬
‫يوم عمل طويل – وال بد أن يوم العمل يتباين معناه من ثقافة إىل غريها‪ .‬على حدود هذه الدائرة قد يكون هناك خماطب أو مستمع ‪-‬‬
‫"أقول لك‪ :‬أان مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق" ‪ ،‬وقد يشري اخلطاب إىل ضلع اثلث غائب ‪ " -‬أقول لك‪ :‬أان‬
‫مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق مع هذا املدير األمحق البليد"‪ ،‬هذا هو مثلث اخلطاب يف أكثر تصوراته بساطة‪:‬‬
‫"أان" و" أنت" و "هو"‪.‬‬
‫من سورة (هود) من كالم هللا عز وجل يف ذكر شعيب وقوله‪ :‬لقومه ( َوَاي قَ ْوِم َال َْجي ِرَمنَّ ُك ْم ِش َقاقِي) ‪ -‬أي ال حتملنكم عداويت‬
‫وبغضي‪ ،‬وفرا الدين الذي أان عليه ‪ ،‬على اإلصرار على ما أنتم عليه من الكفر ابهل ‪ ،‬وعبادة األواثن‪ ،‬وخبس الناس يف املكيال وامليزان‬
‫صالِح) و من الرجفة‪ ،‬و‬ ‫اب قَ ْوَم نُوح) من الغر ‪ ،‬أو (قَ ْوَم ُهود) من العذاب ‪ ،‬أو (قَ ْوَم َ‬ ‫َص َ‬
‫ِ‬
‫‪ ،‬وترك اإلانبة والتوبة – فيصيبكم (مثْ ُل َما أ َ‬
‫"ما قوم لوط" وما انهلم من العذاب ‪ِ ( ،‬مْن ُك ْم بِبَعِيد)؛ أي أن ما وقع عليهم ميكن أن يقع عليكم‪.‬‬
‫نستطيع أن نتصور مثلثني للخطاب‪ :‬األول املتكلم فيه هو اخلالق عز وجل وله املثل األعلى واملخاطب هو الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم ومن تبعه من املؤمنني ‪ .‬أما الغائب فيشمل كل من يرد ذكرهم أو اإلشارة إليهم يف القرآن الكرمي‪ ،‬ومنهم األنبياء‪ ،‬ومنهم‬
‫شعيب عليه السالم ‪ .‬أما املثلث الثاين فاملتكلم فيه هنا هو نيب هللا شعيب واملخاطب هم قومه ‪ .‬والغائب فيه يشمل من ورد ذكرهم من‬
‫أنبياء وأقوامهم‪.‬‬
‫ليس فيما سبق إضافات ذات ابل‪ ،‬لكن من انشغاالت حتليل اخلطاب خصوصا اخلطاب السياسي ‪ -‬الراهنة الكالم عن‬
‫اإلشارة والتقريب )‪ (proximization‬ابملعىن الذي يرد عند كاب ‪ .)1124( Cap‬واملقصود ابلتقريب هنا هو أن الكاتب أو‬
‫املتكلم يعمد إىل أحداث أو شخصيات أو حاالت أو موجودات بعيدة عن مركز اخلطاب الراهن وبعيدة عن تحيطه وتحيط املستمع أو‬
‫القارئ فيقرهبا من ابب الرتهيب أو الرتغيب‪ .‬ويكون التقريب يف (‪ )2‬الزمان ويف (‪ )1‬املكان وكذلك يف (‪ )3‬القيم الثقافية (وتشمل‬
‫املعتقدات والسلوك والتوجهات)‪.‬‬
‫فعل هذا جورج بوش مرارا وتكرارا بعد احلادي عشر من سبتمرب فاستدعى هتلر من التاريخ لريهب األمريكان من صدام ‪ ،‬وبن‬
‫الدن ‪ ،‬وأشار إىل اختالف القيم األمريكية عن قيم "اإلسالم املتطرف"‪ ،‬وانتهى ابألمريكان إىل اإلحساس أبن اإلرهابيني على أبواب‬
‫خمادعهم‪ .‬يف سيا مغاير جند نيب هللا شعيبا خوف قومه من عواقب خمالفته والكفر مبا جاء به من رسالة‪ ،‬فيستدعي مصري قوم لوط‬
‫‪09‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫ويلفتهم إىل أن قوم لوط ليسوا منهم (بِبَعِيد) ‪ -‬واملقصود هنا ابلبعد البعد يف الزمان واملكان كما ذهب املفسرون‪ .‬وكأن نيب هللا شعيبا‬
‫يقول لقومه‪ :‬لقد فعل قوم لوط ما فعلتم من خمالفة أوامر هللا تعاىل وهم ليسوا بعيدين عنكم ال يف الزمان وال يف املكان ‪ ،‬فقد ينالكم ما‬
‫انهلم إذا مل تثوبوا إىل رشدكم‪ .‬يف النهاية نستطيع أن خنرج من مثلث اخلطاب الضيق ‪ -‬شعيب وقومه ‪ -‬إىل املثلث األوسع الذي‬
‫خاطب فيه هللا عز وجل رسوله ومن تبعه ممن آمنوا برسالته فيصد عليهم ما صد على قوم شعيب من الرتهيب والتحذير‪.‬‬
‫استطراد (‪:)2‬‬
‫"الزمان مكان سائل ‪ ،‬واملكان زمان متجمد"‬
‫(ابن عريب)‬
‫كل زمان يرتبط أبماكن تثريه وتعيده وختلده يف الذاكرة‪ .‬حني تستعرض ذكرايت طفولتك وصباك تراها يف مشاهد كل مشهد‬
‫يف مكان ‪ ،‬فكل ما يكون يكون يف مكان ‪ .‬هكذا يعرب شريط األماكن أمام عينيك فيصبح املكان سائال متحركا‪ .‬وحني تسرتجع‬
‫حلظات أثرية تسرتجعها يف مشاهد‪" :‬هنا مسعتها"‪" ،‬هنا رأيتها" ‪" ،‬هنا قالت يل" ‪" ،‬هنا ضحكت" ‪ .‬وكأنك جتلس يف قطار ال تتحرك‬
‫من مكانك بينما متر أمام عينيك احلقول واألهنار والبناايت وسائر األماكن‪ .‬كذلك املكان جامد يف ذاته ‪ ،‬لكنه سائل متحرك ابعتبار‬
‫نشأته ووجوده وزمن بقائه وما يتعلق به من أحداث وأزمنة‪ .‬تنظر إىل البناايت فال تراها إال جامدة ولو راجعت اترخها لوجدت أهنا‬
‫كانت يوما ما قفرا بلقعا‪ ،‬مث أرضا صاحلة للبناء‪ ،‬مث بناء يعلو ويعلو‪ ،‬فطالء وأتثيثا‪ ،‬فسكنا‪ .‬وقد تنهار بناية وختتفي من على األرض‪.‬‬
‫وأنت ترى بناية تعلو‪ ،‬أو ترى بناية تنهار تدرك أن املكان ليس ابجلمود الذي يتوامه الناس‪ .‬التاريخ جغرافيا تتحرك وتتبدل وتتواىل عليها‬
‫األحداث والبشر والذكرايت‪ .‬واجلغرافيا اتريخ يتجمد فيصبح بناايت وطرقا وآاثرا‪ .‬وحني يتسع نطا النظر نتذكر أن األرض اليت نستقر‬
‫عليها ما هي إال كوكب يسبح يف ملكوت هللا الواسع‪ .‬أتمل قول هللا عز وجل يف سورة النمل وانظر كيف يصري الليل (وهو زمن) سكنا‬
‫ك َآلَ َايت لَِق ْوم يُ ْؤِمنُو َن‬ ‫ِ‬ ‫وكيف متر اجلبال الراسخة الشاخمة مر السحاب‪( :‬أََمل ي روا أ ََّان جع ْلنَا اللَّيل لِيس ُكنُوا فِ ِيه والنَّهار مب ِ‬
‫صًرا إِ َّن ِيف َذل َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫ََ ْ َ َ ْ‬ ‫ْ ََ ْ‬
‫اجلِبَ َال َْحت َسبُ َها‬ ‫ِ‬ ‫ض إَِّال َم ْن َشاءَ َّ‬ ‫ات َوَم ْن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫الصوِر فَ َف ِز َ ِ‬
‫(‪َ )68‬ويَ ْوَم يُْن َف ُخ ِيف ُّ‬
‫ين (‪َ )68‬وتَ َرى ْ‬ ‫اَّللُ َوُكلٌّ أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ‬ ‫ع َم ْن يف َّ َ َ‬
‫اَّلل الَّ ِذي أَتْ َق َن ُك َّل َش ْيء إِنَّهُ َخبِريٌ ِمبَا تَ ْف َعلُو َن (‪)66‬‬ ‫ج ِام َد ًة وِهي متَُُّر مَّر َّ ِ‬
‫اب صْنع َِّ‬
‫الس َح ُ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫(‪ )2‬أداة ملء الفراغات‬
‫"آلة كسولة تتطلب من القارئ القيام بعمل مشرتك متواصل مللء البياضات غري املقولة أو األشياء اليت قيلت لكنها ظلت‬
‫بيضاء" (إيكو‪ ، 2791 ،‬ص ‪ ،19‬عن النص األديب)‬
‫املقصود هنا هو فراغات اخلطاب أو النص واملسكوت عنه فيه‪ .‬ما الذي يعوز اخلطاب ليجنبه الغموض وااللتباس ؟ ماذا بني‬
‫السطور؟ أي افرتاضات مسبقة يتأسس عليها اخلطاب؟ وماذا يفهم املتلقي ‪ -‬أو قد يفهم ‪ -‬من غري أن يقال ‪ :‬تصرحيا يف النص أو‬
‫اخلطاب ؟ إذا قيل‪" :‬حرب أمريكا على اإلرهاب فشلت للمرة الثانية" ‪ ،‬فاملفروض أن القارئ يعرف أمريكا‪ ،‬ويعرف حرهبا األوىل على‬
‫اإلرهاب‪ ،‬ويعرف معىن اإلرهاب ويصد أن أمريكا كان هلا حرب أوىل على اإلرهاب وأن اخلصم يف تلك احلرب كان "إرهابيا"‪.‬‬
‫من صفحة واحده من مستخدمي الفيسبوك من تونس‪(" :‬أ) توحشتك! (ب) ابهي‪ .‬هات الكذبة اللي بعدها"‪.‬‬
‫من الواضح أن املتكلم (أ) مذكر ألن رد (ب) فيه "هات" من غري "ايء" ومن الواضح أن املستمعة (ب) ال تصد ما قال‬
‫املتكلم ‪ .‬هي ال تصفه ابلكذب ‪ ،‬لكن "الكذبة اللي بعدها" ال ترتك جماال للريبة يف أهنا ال تصد أن غياهبا قد أوحشه‪ ،‬فال بد لكل‬
‫"بعد" من "قبل" وإال فقدت داللتها وسبب وجودها يف النص ‪ .‬مل تقل " أنت تكذب" على سبيل التصريح ‪ ،‬غري أن اجلملة اليت تلي‬
‫"ابهي" مفادها أنه كذب يف " توحشتك" وسوف يكذب فيما بعدها‪.‬‬

‫‪09‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ال مفر‪ ،‬إذن‪ ،‬من أن يذهب الكالم عن ملء الفراغات والبحث عن املسكوت عنه يف نص أو خطاب إىل االفرتاضات‬
‫املسبقة واملعلوم من اللفظ أو العبارة ابلضرورة والتضمني‪ .‬وفيها ‪ -‬مجيعا ‪ -‬انتهاك قواعد املبدأ التعاوين يف احلوار اليت تناوهلا بول جرايس‬
‫وهي الصد والكفاية واملالئمة وعدم اخلروج عن النص والوضوح‪ ،‬على معىن أنك إذا سئلت سؤاال‪ ،‬فينبغي أن تكون إجابتك شافية‬
‫وافية صادقة واضحة مناسبة‪ .‬حني تنتهك هذه القواعد "املثالية" يكون االفرتاض والتضمني وغرياما من ضروب املسكوت عنه يف‬
‫اخلطاب والنص‪ .‬يف مجلة "ال بد أن تتوقف عن اإلساءة إىل جريانك" ‪ -‬افرتاض ال نستطيع إثبات صدقه من كذبه أن املخاطب يسيء‬
‫إىل جريانه‪ .‬ويف كالم أنور السادات يف الكنيست اإلسرائيلي ومنه ‪" :‬أمحل إليكم رسالة شعب مصر الذي ال يعرف التعصب" ‪-‬‬
‫افرتاض ‪-‬ال ميكن إثباته ابلدليل أن شعب مصر "ال يعرف التعصب"‪ .‬يشري االفرتاض املسبق ‪ ،‬إذن‪ ،‬إىل التسليم بصحة مقولة أو فكرة‪،‬‬
‫ودعوة السامع أو القارئ إىل التسليم هبا‪ ،‬بينما ينشغل بتلقي خرب أو إسناد آخر‪.‬‬
‫يف قول بعضهم‪" :‬عملية السالم يف الشر األوسط حتتاج دفعة قوية" ‪ ،‬اخلرب هو مجلة "حتتاج دفعة قوية"‪ .‬بينما نتلقى هذا‬
‫اخلرب‪ ،‬ونتساءل‪ :‬هل هي حقا حتتاج دفعة قوية ‪ ،‬ال نتساءل‪ :‬هل هناك حقا عملية سالم يف الشر األوسط؟ وهنا يكمن اخلطر‬
‫اجلسيم ‪ ،‬إذ يستخدم الساسة واملروجون والدعائيون ما ال حصر له من االفرتاضات املسبقة لتمرير مقوالت أيديولوجية ملتبسة ‪ ،‬وكأن‬
‫علينا حني نطالع عنواان حنو "التطرف اإلسالمي خطر يهدد الغرب" أن نسلم بوجود "تطرف إسالمي" بينما ننشغل بتلقي خرب هتديده‬
‫الغرب‪ .‬أما املعلوم من مكتوب أو ملفوظ ابلضرورة فهو أشد التصاقا ابملكتوب أو امللفوظ ‪ ،‬ورمبا هلذا السبب ال جند له التأثريات‬
‫البالغية نفسها اليت للتضمني‪ ،‬وال األامية نفسها يف دراسات حتليل اخلطاب‪ .‬إذا قلنا إن عليا لديه ثالثة أوالد‪ ،‬فمن املعلوم ابلضرورة أن‬
‫له ولد وولدين‪ ،‬ومن املعلوم ابلضرورة أنه تزوج مرة واحدة على األقل‪ .‬على أننا ال ينبغي أن نغفل السيا ‪ ،‬ألن ما هو معلوم ابلضرورة‬
‫يف ثقافة ما‪ ،‬ليس معلوما ابلضرورة يف غريها دائما‪ ،‬فليست كل الثقافات تضع الزواج شرطا لإلجناب‪ .‬من السيا يكون استنتاج ما‬
‫يرتكه التضمني من فراغات وثقوب يف النص أو اخلطاب‪.‬‬
‫(‪ )3‬أداة التغريب‬
‫سأمسيك الصباح‬
‫ألقول‪ :‬صباح اخلري أيها الغيب الغايف يف دمي‬
‫سأمسيك املساء ألخطف من مساء الروح جنمة وأعلقها على جبني احلكاية‬
‫سأمسيك الغياب ألشتاقك حاضرا يف القلب‬
‫سأمسيك احلياة وأتلو عليك مزامريها ‪..‬‬
‫سأمسيك البداية ألرقيك من حر النهاايت ‪..‬‬
‫سأمسيك األان وأقول‪ :‬كن خبري اي أاني ‪..‬‬
‫(ورود املوسوي)‬
‫حيسن أن يكون التعامل مع النص من وجهة نظر غريب عليه ال ألفة بينك وبينه‪ .‬اقرأ قصة أو قصيدة كما لو كنت طبيبا أو‬
‫مهندسا‪ ،‬واقرأ نصا علميا من وجهة نظر شاعر أو انقد أديب ‪ ،‬وانظر ما يسقط من املعىن والداللة ‪ ،‬وانظر ما ينبغي عليك أن تعرف‬
‫لكي تفهم مقاصد اخلطاب وأغراضه‪ .‬نح عواطفك واحنيازاتك املسبقة جانبا ‪ -‬احنيازاتك إىل نوع أديب دون غريه ‪ ،‬أو مؤلف دون‬
‫سواه‪ ،‬أو مدرسة فكرية أو أدبية أو توجه سياسي بعينه ‪ ،‬أو جمموعة معتقدات وثوابت ‪ ،‬أو طريقة خاصة يف الكتابة أو التعبري‪.‬‬
‫يف أبيات ورود املوسوي تعبري شعري شفيف عن هذه املسافة ‪ ،‬إذ تعيد الشاعرة‪ /‬املتكلمة يف النص تسمية العامل من حوهلا‬
‫لتضفي عليه ما تريد من انفعاالت وصفات ‪ ،‬وتدخل معه فيما تريد من تفاعالت‪ .‬إىل أن يبلغ التغريب منتهاه فتنشطر الذات إىل ذات‬
‫‪02‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫متكلمة ‪ ،‬وذات يقع عليها فعل التسمية وتتطابق مع املخاطب ‪ ،‬وتتلقى معه األمنيات الطيبة‪" :‬سأمسيك األان‪ ،‬وأقول ‪:‬كن خبري اي‬
‫أاني"‪ .‬وقد وصف تحمود شاكر (‪ )2767‬ثالثة أزمنة يف حتليله قصيدة لتأبط شرا‪ ،‬وهي "زمن احلدث" و"زمن التغين"‪ ،‬وما بينهما‬
‫"زمن النفس"‪ ،‬نفس الشاعر اليت مير فيها احلدث مث خرج يف ثوبه الشعري القشيب يف زمن التغين؛ أي زمن الكتابة أو التأليف‪ .‬وهذا‬
‫هو املقصود مبصطلح التغريب )‪(de- familiarization‬يف النقد األديب احلديث خصوصا الشكلية ‪ -‬أو الشكالنية ‪ -‬الروسية ‪،‬وترد‬
‫إشارة إىل معناه يف كتاابت الشاعر اإلجنليزي شيلي ‪ ،)2211 -2971( Shelley‬فاألشياء اليت مير عليها الشاعر وغريه من‬
‫املبدعني مير عليها غريهم ‪ ،‬غري أهنا إما أن تذهب أدراج الرايح ‪ ،‬أو يسردها من مروا هبا سرد األخبار من غري أن متر على زمن النفس‪،‬‬
‫ومن غري أن تتفاعل مع غريها من مشاهد وخربات وأساطري ونصوص‪.‬‬
‫يف وصفه قصيدة اهلايكو العربية يكتب تحمود الرجيب‪" :‬صنارة صيد سحرية‪ /‬تصطاد ما جيري وترتك ما جرى‪ /‬فرتى يف املشهد‬
‫ما ال يرى"‪ .‬الصيادون يف الواقع ال يقيمون عالقة بني أدواهتم وأدوات الشعراء‪ ،‬لكن الشاعر مزج عاملني دالليني‪ ،‬اما عامل الصيد وأدواته‬
‫‪ ،‬وعامل الشعر وأدواته‪ ،‬فكان هذا الفضاء الداليل االستعاري اجلديد‪ ،‬صنارة صيد سحرية ال تلتقط األمساك ‪ ،‬بل تلتقط املشاهد‬
‫واخلربات واحلاالت الشعورية اإلنسانية‪.‬‬
‫ما ينبغي يف قراءة الشعر ينبغي كذلك يف قراءة النصوص املشحونة ابلدالالت السياسية والقضااي اخلالفية‪ .‬يف صفحة من‬
‫صفحات الفيسبوك نقرأ‪" :‬ابن الفالح ينفع ميوت ع احلدود بس ما ينفعش يدخل نيابة حىت لو أول دفعته"‪ .‬إذا قرأت النص بعيين "ابن‬
‫الفالح" ‪ ،‬أو "ابن القاضي" ‪ ،‬أو عيين من يوزع املناصب ‪ ،‬فريسل هذا إىل احلدود ويرسل ذاك إىل مكتب وكيل النائب العام ‪ ،‬فأغلب‬
‫الظن أنك لن حتسن تقييم رسالة النص‪ .‬سوف تشعر ابملرارة وظلم اجملتمع يف احلالة األوىل‪ ،‬وسوف تشعر حبقد الداماء والغوغاء يف‬
‫احلالة الثانية ‪ ،‬وقد تشعر جبهل العامة وعدم إنصافهم ونكراهنم يف احلالة الثالثة‪ .‬ال بد لك من أن خترج من الدائرة وتعاين املشهد لتقرر‬
‫حجم الصد والكذب ومطابقة الواقع يف النص‪.‬‬
‫(‪ )4‬أداة اكتشاف املوضوع أو الغرض‬
‫" وقال أبرويز لكاتبه‪ :‬اعلم أن دعائم املقاالت أربع ‪ ،‬إن التمس هلا خامسة مل توجد‪ ،‬وإن نقصت منها واحدة مل تتم‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫سؤالك الشيء‪ ،‬وسؤالك عن الشي ء‪ ،‬وأمرك ابلشيء‪ ،‬وإخبارك عن الشيء‪ .‬فإذا طلبت فأسجح‪ ،‬وإذا سألت فأوضح ‪ ،‬وإذا أمرت‬
‫فأحكم ‪ ،‬وإذا أخربت فحقق ‪ .‬وأمجع الكثري مما تريد يف القليل مما تقول"‪.‬‬
‫(العقد الفريد البن عبد ربه األندلسي ‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪.)295‬‬
‫ملاذا يدور اخلطاب حول موضوع بعينه؟ ملاذا يتناول النص مثال موضوع الكراهية أو الثأر؟ ملاذا يتناول نص علمي موضوع‬
‫تلوث البيئة؟ ما اخليارات اليت جتاهلها النص ومل يتناوهلا وملاذا جتاهلها؟ وكيف يتناول النص املوضوع من انحية تنظيم املعلومات والتقدمي‬
‫والتأخري واملسند إليه واملسند أو املبتدأ واخلرب؟‬
‫يف فاحتة اخلطط املقريزية إشارات بليغة إىل موضوعها وغرضها ومنهجها وطريقة من ألفها يف مجع معلوماهتا وكتابتها‪" :‬فقيدت‬
‫خبطي يف األعوام الكثرية ومجعت من ذلك فوائد قل ما جيمعها كتاب ‪ ،‬أو حيويها لعزهتا وغرابتها إهاب‪ ،‬إال أهنا ليست مرتبة على مثال‬
‫‪ ،‬وال مهذبة بطريقة ما نسج على منوال ‪ ،‬أردت أن أخلص منها أنباء ما بداير مصر من اآلاثر الباقية عن األمم املاضية والقرون اخلالية‬
‫‪ ،‬وأنثر خالل ذلك نكتا لطيفة ‪ ،‬وحكما بديعة شريفة‪ ،‬من غري إطالة وال إكثار‪ ،‬وال إجحاف خمل ابلغرض وال اختصار‪ ،‬بل وسط بني‬
‫الطرفني ‪ ،‬وطريق بني بني‪ ،‬فلهذا مسيته ‪ ...‬وإين ألرجو أن حيظى إن شاء هللا تعاىل عند امللوك ‪ ،‬وال ينبو عنه طباع العامي والصعلوك ‪،‬‬
‫وجيله العامل املنتهي ‪ ،‬ويعجب به الطالب املبتدي‪ ،‬وترضاه خالئق العابد الناسك‪ ،‬وال ميجه مسع اخلليع الفاتك ‪ ،‬ويتخذه أهل البطالة‬
‫والرفاهية مسرا‪ ،‬ويعده أولو الرأي والتدبري موعظة وعربا‪ ،‬يستدلون به على عظيم قدرة هللا تعاىل يف تبديل األبدال‪ ،‬ويعرفون به عجائب‬
‫‪02‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫صنع ربنا سبحانه من تنقل األمور من حال إىل حال ‪ ،‬فإن كنت أحسنت فيما مجعت وأصبت يف الذي صنعت ووضعت ‪ ،‬فذلك من‬
‫عميم منن هللا تعاىل ‪ ،‬وجزيل فضله وعظيم أنعمه علي وجليل طوله ‪ ،‬وإن أان أسأت فيما فعلت ‪ ،‬وأخطأت إذ وضعت ‪ ،‬فما أجدر‬
‫اإلنسان ابإلساءة والعيوب إذا مل يعصمه وحيفظه عالم الغيوب ‪ ...‬فليسبل الناظر يف هذا التأليف على مؤلفه ذيل سرته إن مرت به‬
‫هفوة وليغض جتاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة أو نبوة ‪ ،‬فأي جواد وإن عنق ما يكبو‪ ،‬وأي عضب مهند ال يكل وال ينبو‪،‬‬
‫السيما واخلاطر ابألفكار مشغول‪ ،‬والعزم اللتواء األمور وتعسرها فاتر تحلول‪ ،‬والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل ‪ ،‬والقلب‬
‫لتوايل احملن وتواتر اإلحن عليل ‪."..‬‬
‫ال تكتفي هذه املقدمة ابلكالم عن جنس الكتاب ‪ -‬وهو التأريخ أو الكتابة التأرخية ‪ ،‬عن "أنباء ما بداير مصر" ‪ -‬وأسلوبه‬
‫‪" -‬من غري إطالة وال إكثار وال إجحاف" ‪ -‬والتعبري عن التوتر بني مدح الذات والكتاب من انحية‪ ،‬والتوسل إىل هللا تعاىل أن حيقق‬
‫الكتاب القبول وإىل القارئ أن يغض الطرف عما جيد فيه من قصور من الناحية األخرى‪ ،‬بني الوعي مبا بذل املؤلف من جهد‪ ،‬وتربير‬
‫ما ميكن أن يقع يف الكتاب من قصور‪ ،‬بل تتجاوز ذلك إىل اإلشارة إىل انتماء الكاتب وخلفيته الدينية اإلسالمية ‪" -‬عجائب صنع‬
‫ربنا سبحانه" و"فذلك من عميم منن هللا تعاىل وجزيل فضله وعظيم أنعمه علي وجليل طوله" و"إذا مل يعصمه وحيفظه عالم الغيوب" ‪.‬‬
‫(انظر تطبيق ذلك على وصية أمامة بنت احلارث ‪ ،‬يف مزيد ‪.)1121‬‬
‫وراء كل خطاب غرض ويف كل نص قصد ونية‪ .‬رمبا جند يف اخلطاب أو النص ما يشري إىل قصد منتجه ‪"-‬أريد أن أسألك"‪،‬‬
‫نرجو أن حنيطكم علما"‪" ،‬على سبيل االعتذار" ‪ -‬مع ضرورة توخي احلذر‪ ،‬ألن املقاصد احلقيقية رمبا ال تنسجم مع ظاهر األقوال‪.‬‬
‫حني ينتفي الكالم عن غاية النص أو اخلطاب وقصد منتجه يصبح الكالم عن االختيارات اللغوية ودالالهتا ومضامينها بال معىن‪ .‬كيف‬
‫يضع القارئ يده على غرض النص وموضوعه؟ يف الرتاث البالغي العريب تصنيفات مهمة يتفرع فيها غرض قصيدة إىل مدح أو هجاء‬
‫أو فخر أو غزل أو نصيحة وحكمة‪ .‬وقد جتتمع يف قصيدة واحدة أغراض شىت‪ .‬كيف يدرك املتلقي غرض النص؟ فيما يلي بعض‬
‫عالمات الطريق اليت تعني يف الوقوف على غرض النص وموضوعه أو مدار انشغاله ‪ ،‬وهي تناسب النصوص السردية أكثر من قصائد‬
‫الشعر (وولف‪:)1113 ،‬‬
‫(أ) حاجات الشخصيات ورغباهتا ‪ :‬إذا كانت شخصية من شخصيات السرد تعرب عن حاجتها إىل املال مرارا وتكرارا‪ ،‬فال‬
‫بد أن يكون املال موضوعا من موضوعاته ‪ ،‬أو على أقل تقدير عنصرا مهما من عناصر موضوع آخر ذي صلة‪ ،‬كالطمع‪ ،‬أو السعادة ‪،‬‬
‫أو الفقر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫(ب) الصراعات بني الشخصيات أو يف داخلها‪ :‬ملاذا تتصارع تلك الشخصيات ؟ وما الغنائم اليت تسعى إىل كسبها من‬
‫وراء الصراع؟ رمبا يتصارع رجالن على حب امرأة أو امرأاتن على حب رجل‪ ،‬فيصبح احلب موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف‬
‫السرد‪ .‬ورمبا يتصارع زميالن على منصب يف العمل فتكون السلطة أو النفوذ موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف السرد‪ .‬ورمبا‬
‫يكون الصراع داخليا بني دافعني أو رغبتني أو حالني‪ ،‬بني احلب والواجب‪ ،‬أو بني ما يتمىن املرء وما يستطيع وما هو عليه يف الوقت‬
‫الراهن؛ فيكون ذلك التوتر موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف السرد‪.‬‬
‫(ج) الصور والرموز واألماكن واألزمنة‪ :‬إذا وجدان أن شخصية تحورية يف النص ترتدد على مكان ما يف الوقت نفسه كل يوم‬
‫أو كل شهر أو كل سنة ‪ ،‬فالبد أن هلذا املكان عالقة مبوضوع النص‪ .‬وإذا ما لفت نظران إسهاب املؤلف يف وصف مكان ما؛ فال بد‬
‫أن للمكان عالقة جوهرية مبا حيدث فيه‪ .‬وإذا ورد رمز يف النص مرارا وتكرار فال بد أن هلذا الرمز داللة مهمة ومكاان ابرزا يف رسالة‬
‫النص ومعناه الكلي‪ .‬ومن ذلك صوت الكروان يف (دعاء الكروان)‪ ،‬واملاء والصحراء يف (هاتف املغيب) ل مجال الغيطاين والواحة يف‬
‫(واحة الغروب) ل هباء طاهر والليل يف (القلق السري) ل فوزية رشيد‪.‬‬
‫‪09‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫(د) النصوص املتضمنة من حوارات وحماداثت والرموز واإلحاالت ‪ :‬إذا كثرت يف نص اإلحالة إىل صالح الدين وحطني‬
‫واألندلس وما إليها؛ فالبد أن من انشغاالته التوتر بني ماضي املسلمني الزاهر وحاضرهم املرتبك ‪ .‬وإذا كثرت اقتباسات شخصية روائية‬
‫من (هاملت)؛ فالبد أن هناك عالقة بينها وبني هاملت الشخصية واملسرحية‪.‬‬
‫ومن املالئم عند النظر يف غرض النص النظر يف أغراض مجله وتراكيبه الصغرى كل على حدة‪ .‬هنا قد حيتاج املتلقي تصنيف‬
‫األفعال اليت تؤديها اللغة ‪ ،‬أو اليت نؤديها حنن ابللغة ‪ ،‬وفيما يلي تصنيف سريل (‪ ،)2767‬الذي يتأسس على تصنيف أوسنت‬
‫(‪ ،)2761‬هذه األفعال (راجع مزيد‪ ،)1121 ،‬حيث نستطيع ابللغة أن‪:‬‬
‫‪ ‬نقرر"‪ ،‬و"نعتقد" ‪ ،‬و"جنزم " ‪ ،‬و"خنرب" ‪ ،‬و"خنتتم"‪ ،‬و"نقر"‪ ،‬و"ننكر" ‪ -‬وكلها تنتمي إىل فئة اإلخبار أو التقرير أو متثيل الواقع‬
‫‪ Representatives‬واملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل ‪ represent‬ويعين "ميثل"‪ ،‬أو "يعرض"‪.‬‬
‫‪" ‬أنمر"‪ ،‬و "ننهى"‪ ،‬و"نطلب"‪ ،‬و"نرجو"‪ ،‬و"نسأل"‪ ،‬و"نتوسل "‪ ،‬و"نتضرع "‪ ،‬و"ندعو"‪ ،‬و"نصر"‪ ،‬و"نلح" ‪ -‬وكلها تنتمي إىل‬
‫فئة األمر والنهي ‪ Directives‬واملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل ‪ direct‬ويعين "يوجه" ‪ ،‬أو "أيمر"‪.‬‬
‫‪" ‬نعد" ‪ ،‬و"نتعهد" ‪ ،‬و"نقسم" ‪ ،‬و"حنلف" ‪ ،‬و"نلتزم"‪ ،‬و "نتحمل"‪ ،‬و"حنمل" وزرا أو مسؤولية ‪ ،‬أو "أنخذ على عواتقنا" ‪-‬‬
‫وكلها تنتمي إىل فئة التعهد أو االلتزام ‪ Commissives‬واملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل‪ commit‬ويعين "يلزم" ‪ ،‬أو‬
‫"يلتزم"‪.‬‬
‫‪" ‬نعتذر" ‪ ،‬و "أنسف" ‪ ،‬و"هننئ" ‪ ،‬و"نعزي" ‪ ،‬و "نشكر"‪ ،‬و"نرحب" ‪ ،‬و"نشكو"‪ ،‬و"مندح" ‪ ،‬و"نذم"‪ ،‬و"جنامل" ‪،‬‬
‫و"نتلطف" ‪ ،‬و"نندم" ‪ ،‬و"مننت" ‪ - ،‬وكلها تنتمي إىل فئة التعبري‪ ،‬أو البوح ‪Expressives‬واملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل‬
‫‪express‬ويعين "يعرب"‪.‬‬
‫‪ ‬نعلن "(حراب مثال)‪،‬و"نزوج"‪ ،‬و"نطلق"‪ ،‬و"نسمي"‪ ،‬و"حنكم"‪( ،‬بغرامة مثال)‪ ،‬و"نشهد"‪ ،‬و"نوقع (عقدا)" ‪ ،‬و"نعني" ‪ ،‬أو‬
‫"نفصل" من العمل ‪ ،‬و"مننح" لقبا ‪ ،‬أو درجة ‪ ،‬و"نبيع"‪ ،‬و"نرهن"‪ ،‬و"نقرض" ‪ -‬وكلها تنتمي إىل فئة اإلعالن ‪ ،‬أو املنح‬
‫واملنع ‪ Declarations‬واملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل ‪ declare‬ويعين "يعلن"‪ ،‬أو "يصدر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬أداة النغمة والتنغيم‬
‫عشر ما يقع يف احلياة اليومية من صراع وشجار مرده إىل اختالف الرأي أو املصلحة ‪ .‬تسع أعشار ذلك مرره إىل سوء‬
‫استعمال نربة الصوت والتنغيم ‪-‬‬
‫(ترمجة من اإلجنليزية ‪ ،‬نص جمهول املؤلف)‬
‫يف الكالم يؤدي التنغيم ودرجة الصوت ومستوايته ولغة اجلسد دورا مهما يف نقل املعىن ويف لفت نظر املتلقي إىل األفكار‬
‫املهمة ‪ .‬يف الكتابة تؤدي هذا الدور عالمات الرتقيم والتعليقات الشارحة – حنو "قال يف دهشة ظاهرة"‪" ،‬أعرب عن أسفه"‪" ،‬صرخ يف‬
‫وجهها"‪" ،‬امس معاتبا" حني تتناول نصا مكتواب اقرأه بصوت عال وتصور لو كنت أنت مؤلفه‪ .‬أين يرتفع صوتك ؟ وأين ينخفض ؟‬
‫وأين تبتسم ؟! وأين تعبس أو تتجهم ؟ وهكذا‪ .‬يرتبط الكالم عن النغمة والتنغيم ابلكالم عن طريقة األداء أو نقل املعىن بني سخرية‬
‫وهزل وجد ووقار أو حياد‪.‬‬
‫بكم طريقة تستطيع سيدة مصرية أن تقول "نعم"؟ سوف تتضاعف الطرائق حني تضيف إىل "نعم" تعابري من قبيل "اي‬
‫ادلعدي" و "اي روح أمك" وما شاهبها‪ ،‬وبكم طريقة تستطيع أن تقول "ال"؟ وكيف يتغري املعىن مع تغيري الطريقة ؟ وأنت تقرأ (فَتَ بَ َّس َم‬
‫ك ِيف‬ ‫ضاهُ َوأ َْد ِخ ْل ِين بَِر ْمحَتِ َ‬
‫ي وأَ ْن أَعمل ِ‬
‫صاحلًا تَ ْر َ‬
‫ِ‬ ‫اح ًكا ِمن قَوِهلَا وقَ َال ر ِ‬
‫ب أ َْوِز ْع ِين أَ ْن أَ ْش ُكَر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ك الَِّيت أَنْ َع ْم َ‬
‫ضِ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َوال َد َّ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ني) (سورة النمل‪ )27 :‬تستطيع أن تتصور املشهد‪ .‬سيدان سليمان يبتسم بعد أن مسع النملة تنصح صاحباهتا ابالختفاء‬ ‫ِعب ِاد َك َّ ِِ‬
‫الصاحل َ‬ ‫َ‬
‫‪09‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ويتجه ببصره إىل السماء يسأل هللا أن يعينه على شكر نعمته ‪ .‬سيا النص وما فيه من تعليقات شارحة وإشارات إىل لغة اجلسد هي‬
‫اليت تعني املتلقي يف تصور مشهد كهذا املشهد وهي اليت تعني خمرجا مسرحيا أن ينقل مسرحية "مكتوبة" إىل "عرض" مسرحي‪.‬‬
‫وال بد أنك تستطيع بسهولة ويسر أن تتصور املشهد ‪ -‬مشهد املرأة الفاتنة ظاهرة الثراء‪ ،‬واحلمال الذي ينتظر الفرج فتنفتح‬
‫أمامه أبواب السماء فيهرول وراء الفاتنة ميين نفسه بصحبة سيدة فاتنة وكسب وفري‪ ،‬وذلك أضعف اإلميان – وأنت تقرأ أول حكاية‬
‫"احلمال مع البنات" يف (ألف ليلة وليلة)‪" :‬كان إنسان من مدينة بغداد وكان محاال‪ .‬فبينما هو يف السو يوما من األايم متكئا على‬
‫قفصه إذ وقفت عليه امرأة ملتفة إبزار موصلي من حرير مزركش ابلذهب وحاشيتاه من قصب فرفعت قناعها فبان من حتته عيون سوداء‬
‫أبهداب وأجفان‪ ،‬وهي انعمة األطراف كامله األوصاف ‪ ،‬وبعد ذلك قالت حبالوة لفظها‪ :‬هات قفصك واتبعين ‪ .‬فحمل احلمال‬
‫القفص وتبعها إىل أن وقفت على ابب دار فطرقت الباب فنزل له رجل نصراين ‪ ،‬فأعطته دينارا وأخذت منه مقدارا من الزيتون وضعته‬
‫يف القفص وقالت له‪ :‬امحله واتبعين ‪ ،‬فقال احلمال‪ :‬هذا وهللا هنار مبارك ‪ .‬حرير مزركش ابلذهب وعيون سوداء هدابء وأطراف انعمة‬
‫وأوصاف كاملة ولفظ حلو عذب ‪ -‬مجال وثراء وقلب قد يلني ‪ -‬فلماذا ال يهتف احلمال ‪ " :‬هذا وهللا هنار مبارك"؟‬
‫وال بد أن يتسع مفهوم النغمة يف اخلطاب ليتناول حاله من اهلزل واجلد‪ ،‬والوقار واجملون‪ ،‬والسخرية واالستهزاء‬
‫(‪ )6‬أداة األفعال ال األقوال‬
‫خرقاء يلعب ابلعقول حباهبا‬
‫كتلعب األفعال ابألمساء‬
‫(أبو متام ‪ ،‬يصف اخلمر)‬
‫ال يطيب قلب امرأة حتبها‪،‬‬
‫إال قول طيب ير الصخر له‪،‬‬
‫متبوعا بفعل أطيب منه‪.‬‬
‫(أمحد الشهاوي‪)1125 ،‬‬
‫الفعل ابملعين النحوي هو قلب اللغة النابض‪ .‬وهو نقطة ارتكاز مهمة يف حتليل اخلطاب خصوصا عند توظيف أداة اكتشاف‬
‫األفعال ‪ .‬فتش عن األفعال‪ .‬أول خطوة هي الوقوف عند األفعال مث تصنيفها‪( :‬أ) أفعال كينونة وصريورة أو حتويل (أفعال إسناد) (ب)‬
‫أفعال مادية (ج) أفعال لفظية‪ /‬كالمية (د) أفعال ذهنية نفسية (ه ) أفعال سلوكية (و) أفعال وجودية كما يف "على الطاولة كوب" ‪" ،‬‬
‫هناك قصور واضح"‪.‬‬
‫ما جدوى تصنيف األفعال هبذه الطريقة ؟ هو عالمة على طبيعة النص وحظه ‪ ،‬وحظ من فيه من الشخصيات من الفعل ‪،‬‬
‫واحلركة ‪ ،‬والتأثري‪ ،‬والتأمل ‪ ،‬والتقرير‪ ،‬واإلخبار‪ ،‬والقدرة ‪ ،‬والعجز‪ ،‬والرتدد‪ ،‬وغري ذلك من حاالت ‪.‬‬
‫قاعدة يف اخلطاب ابالسم واخلطاب ابلفعل‪ :‬االسم يدل على الثبوت واالستمرار‪ ،‬والفعل يدل على التجدد واحلدوث ‪ ،‬وال‬
‫اعْي ِه) ‪ -‬لو قيل "يبسط" مل يفد الغرض ‪ ،‬ألنه يؤذن‬ ‫حيسن وضع أحداما موضع اآلخر‪ ،‬فمن ذلك قوله ‪ :‬تعاىل ‪( :‬وَك ْلب هم اب ِس ٌ ِ‬
‫ط ذ َر َ‬ ‫َ ُُْ َ‬
‫مبزاولة الكلب ابلبسط وأنه يتجدد له شيئا بعد شيء‪ ،‬فباسط أشعر بثبوت الصفة‪( .‬السيوطي‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن ‪ ،‬نسخة موقع‬
‫الورا ‪ ،‬ص ‪)112‬‬
‫ال تغرنك كثرة األفعال وفخامتها وصرامتها بل انظر حظها من النفي واإلثبات والسلب واإلجياب‪ .‬إذا مسعت سياسيا خطب‬
‫قائال "سوف نبين" و"سوف نواجه" و"سوف نشيد" و "سوف مننح" فانتظر حىت تقع هذه األفعال وإال فصنفها حتت بند األماين‬
‫والوعود‪ .‬قس على ذلك ما يقع يف اخليال والوهم وما يرد يف صيغة الدعاء واألمر‪ .‬أما اإلجياب والقبول فمسألة فيها نظر‪ .‬كيف ترى‬
‫‪00‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫فعل القتل ؟ هل هو فعل إجياب أم فعل سلب؟ تحمود أم مذموم ؟ فصل آخر من فصول الكالم عن الفعل هو ما حييط به من نواسخ‬
‫تفيد وقوعه أو ال تفيد وقوعه ومن دالالت على الشروع أو املقاربة أو غري ذلك ويندرج بعضها يف اللغات الغربية حتت فئة األفعال‬
‫املساعدة أو الناقصة‪ .‬فليست مجلة "كان حيرص على زايره أهله" كجملة "ما زال حيرص على زايرة أهله"‪ ،‬وال قولنا " انتهى من إعداد‬
‫رسالته" كقولنا " أوشك على االنتهاء من إعداد رسالته" ‪ ،‬أو قولنا "شرع يف إعداد رسالته" ‪ ،‬أو "شرع يعد رسالته"‪.‬‬
‫ينبغي أال خنلط بني ما يفعل املتكلم ابللغة يف اخلطاب وبني األفعال يف اجلمل اليت يشتملها اخلطاب ‪ .‬انظر ما يريد املشاركون‬
‫يف اخلطاب أن يفعلوا ابللغة ‪ ،‬وما يريد أن يفعله املؤلف ابللغة‪ ،‬يريد أن خربك أو ينصحك أو ينهاك أو يعلمك أو يتالعب بعقلك أو‬
‫يضللك أو يؤانسك ويضحكك أو يبكيك ‪ ،‬وغري ذلك ‪ .‬يف النص سوف جتد أخبارا وأوامر وتنبيهات ‪ ،‬وترغيبا وترهيبا ولوما وعتااب‬
‫وشكرا وتعزية وتعاطفا وس خرية ونقدا وتعضيدا‪ ،‬وإقناعا ومدحا وذما وغري ذلك‪ .‬لكن تذكر أن اجلملة الواحدة قد تؤدي أكثر من فعل‬
‫‪ .‬وتذكر أن العالقة بني ظاهر اجلملة وابطنها ليست مباشرة يف كل األحوال ‪ ،‬فقد يقصد ابلسؤال التوبيخ ال االستفهام ‪ ،‬وقد يقصد‬
‫ابخلرب الطلب ال جمرد اإلخبار‪ .‬سوف جتد نفسك مضطرا يف كل مرة إىل العودة إىل سيا اخلطاب وعالقات املشاركني فيه لتقف على‬
‫األفعال اليت تؤديها اللغة‪.‬‬
‫استطراد (‪ :)3‬اشتقت إليك‬
‫اشتقت إليك فعلمين أال أشتا‬
‫علمين كيف أقص جذور هواك من األعما‬
‫علمين كيف متوت الدمعة يف األحدا‬
‫علمين كيف ميوت احلب وتنتحر األشوا‬
‫ال شيء حيدث يف كلمات نزار قباين من قصيدة (رسالة من حتت املاء)‪ .‬يف األبيات نسيج استعاري شفيف بديع ‪ .‬وراء هذا‬
‫النسيج توتر بني تصور احلب شعورا ال راد له‪ ،‬وال سلطان عليه وبني تصوره سلوكا ميكن ترويضه وتعديله وتغيريه‪ .‬الشو نزوع القلب‬
‫إىل من حتب وما حتب‪ .‬يف األبيات يطلب احملب املشتا من تحبوبه أن يعلمه أال يشتا وكأن القلب عضلة ينمو فيها الشو ابلرتك‬
‫ويضمر ابلقمع ‪ .‬مث يطلب منه أن يعلمه كيف جيتث جذور حبه من أعماقه‪.‬‬
‫ويف هذا تصور احلب نبتا ينمو وتتعمق جذوره وتضرب يف أعما القلب‪ .‬على املنوال نفسه يطلب احملب من تحبوبه أن يعلمه‬
‫كيف مييت دموعه يف أحداقها وكيف مييت حبه ويدفع أشواقه إىل االنتحار‪ .‬ثالث استعارات متعاقبة عن الدموع واحلب واألشوا‬
‫بوصفها كائنات حتيا ومتوت‪ .‬يبقى السؤال عالقا‪ :‬هل حتيا األشوا ومتوت من تلقاء نفسها من غري سلطان لصاحبها عليها أم يستطيع‬
‫أن يسوسها ويطوعها؟ املتكلم يف هذه األبيات ال ميلك القدرة على سياسة أشواقه أو دموعه أو هواه ويطلب املعونة والنصيحة ‪ ،‬إال أن‬
‫املفارقة الشيقة هي أنه يطلب العون ممن كان سببا فيها مجيعا‪.‬‬
‫يف حتليل السرد ينبغي التمييز بني األفعال اليت تقع يف العامل واألفعال اليت يؤديها السرد‪ .‬على سبيل اإلجياز هذه بعض األسئلة‬
‫اليت ينبغي على التحليل التداويل أن جييب عنها يف تناوله أفعال السرد (فان دايك‪:)2721 ،‬‬
‫‪ ‬ما األفعال البالغية اليت ينجزها النص – أفعاله الكربى ‪ ،‬حنو اهلجاء واملدح والسخرية والتهنئة والنصح والتعليم والبوح‬
‫والتأريخ ‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وما يشتمل النص من أفعال صغرى‪.‬‬
‫‪ ‬ما هي شروط بالغة تلك األفعال وأتثريها؟ على سبيل التمثيل ال احلصر يف حالة األمر‪ ،‬ينبغي أن يكون اآلمر أعلى مكانة‬
‫وأكثر قوة من املأمور إال يف حاالت خاصة يف مقام السخرية أو التهكم‪.‬‬

‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ما مكوانت املقام أو السيا اليت تكتسب من خالهلا تلك الشروط داللتها وأاميتها؟ يف حالة األمر ترتبط عالقات القوة‬ ‫‪‬‬
‫والنفوذ ابلسيا االجتماعي الذي ختلف من مكان إىل مكان ومن زمان إىل زمان ‪ ،‬ولنقارن مكانة املعلم يف املاضي واحلاضر‬
‫ومكانة رجل الشرطة أو الوالد يف الشر والغرب ‪.‬‬
‫كيف ترتبط األفعال البالغية وسياقاهتا أببنية النص ‪ -‬الكربى والصغرى ؟ كل فعل بالغي حتمله بنية لغوية؛ فلألمر صياغته‬ ‫‪‬‬
‫وللسؤال صياغته وللخرب صياغته‪ .‬يف حاالت كثرية يقع التباين بني البنية اللغوية والوظيفة البالغية وهذا مدار انشغال مبحث‬
‫اخلرب واإلنشاء يف اللغة العربية فليس كل سؤال استفهاما وليس كل خرب خربا‪.‬‬
‫ما وجوه الشبه واالختالف بني تلك األفعال البالغية وسياقاهتا واألبنية النصية اليت حتملها من انحية وغري ذلك من ضروب‬ ‫‪‬‬
‫التواصل البشري من الناحية األخرى ؟ على سبيل املثل قد تؤدي إشارة ابليد ما يؤديه فعل أمر وقد تنتج ابتسامة الداللة‬
‫نفسها اليت تنتجها مجلة خربية‪.‬‬
‫(‪ )7‬أداة حتليل املفردات‬
‫تعجبين الكلمات اجلزلة القوية ذات الداللة‪.‬‬
‫(لويزا ماري ألكوت‪ :‬نساء صغريات)‬
‫املفردات هي اللبنات األوىل اليت ينشأ منها النص أو اخلطاب ‪ ،‬ينتظمها رسم هندسي هو بناء النص أو اخلطاب ‪ ،‬وتتالحم‬
‫من خالل عوامل وحروف معان وروابط ‪ .‬يف حالة النصوص اإلجنليزية من املفيد أن تناقش أصول املفردات هل هي جرمانية أم التينية ؟‬
‫فليس بني ‪ liberty‬و ‪ freedom‬وال بني ‪ begin‬و‪ commence‬تحض ترادف‪ .‬املفردات اجلرمانية أكثر "عفوية" وتلقائية‪ ،‬أما‬
‫املفردات الالتينية فأكثر "لياقة" وأميل إىل العلوم منها إىل األدب ‪ .‬قائمة املرتادفات اجلرمانية والالتينية يف اللغة اإلجنليزية ليس هذا مقام‬
‫إيرادها‪ ،‬لكن يسهل العثور عليها ابلبحث يف الشبكة "العنكبوتية"‪.‬‬
‫يف النصوص العربية تستطيع أن تتناول املفردات من جهة غرابتها ووحشيتها وابتذاهلا‪ ،‬أيها ينتمي إىل فصحى الرتاث ‪ ،‬وأيها‬
‫ينتمي إىل فصحى العصر‪ ،‬وأيها ينتمي إىل عامية املثقفني ‪ ،‬وأيها ينتمي إىل عامية املتنورين ‪ ،‬وأيها ينتمي إىل عامية األميني ‪-‬‬
‫والتصنيف الشهري للسعيد بدوي ‪ ، -‬أيها عريب أصيل وأيها مستعار أو معرب أو مرتجم ؟ وما داللة اختيار مفردات من مستو دون‬
‫غريه على غاايت النص وعالقات املشاركني فيه؟ وما دالالت الرتمجة أو االستعارة من مفردات أجنبية يف نص أو خطاب؟‬
‫قبل الوصول إىل استنتاجات هنائية ‪ ،‬ينبغي أن نالحظ أن املفردة قد تكون غريبة أو مألوفة ابلنظر إىل سيا إنتاج النص ‪،‬‬
‫وليس ابلنظر يف سياقات تلقيه ‪ ،‬فقد جتد يف قصيدة جاهلية مفردات وعرة تشق على أذن مستمع معاصر‪ ،‬لكنها مل تكن كذلك على‬
‫أذن من عاشوا يف زمن أتليفها‪ .‬من املهم يف تناول املفردات كذلك إكتشاف ما قد ينتظمها من "حقول داللية"‪ ،‬واحلقل الداليل هو‬
‫جمموعة من املفردات تنتمي إىل جمال واحد من جماالت املعىن أو الداللة ‪ ،‬أو "فضاء داليل واحد"‪ ،‬على سبيل املثل "الفتحة" و"‬
‫الضمة" و"الكسرة" عالمات إعراب ‪ ،‬و"التني" و"الزيتون" و"السرو" و"النخل" و"الصفصاف" أشجار‪ ،‬وهكذا‪( .‬ال تكتمل متعة‬
‫الكالم عن احلقول الداللية يف اللغة العربية من غري قراءة رائعة أيب منصور الثعاليب‪ :‬فقه اللغة)‪.‬‬
‫هذا جانب ال يطرقه كثري ممن يتناولون النص على ما له من أامية ‪ ،‬فاحلقول الداللية أداة مهمة من أدوات تشكيل الصورة‬
‫واجملاز‪ .‬إذا كان اجملاز هو انتقال عبارة أو مفردة من جمال استعماهلا إىل جمال مغاير‪ ،‬فهي ال تنتقل مبفردها بل تنقل معها بعض‬
‫صاحباهتا من اجملال القدمي نفسه إىل اجملال اجلديد لتكتمل االستعارة أو اجملاز‪ .‬يف بيت شعر أغلب الظن أنه لزهري ابن أيب سلمى ‪-‬‬
‫"لدى أسد شاكي السالح مقذف ‪ ...‬له لبد أظفاره مل تقلم " ‪ -‬وصف رجل وتشبيهه أبسد‪ .‬كان ال بد أن تنتقل مع كلمة "أسد"‬
‫كلمات أخرى تنتمي إىل عامل األسد نفسه وهي "لبد" و"أظفار" و"تقلم"‪ .‬واحلقول الداللية أداة مهمة من أدوات إنتاج الفكاهة من‬
‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫خال التورية ‪ .‬من أين أتيت الفكاهة يف هذا النص من دعاء مدرس اللغة العربية ‪" :‬اللهم اجعلين فاعال للخري‪ ،‬ومرفوعا عن الشر‪،‬‬
‫وبعيدا عن النصب ‪ ،‬ومضافا لعبادك الصاحلني ‪ ،‬وجمرورا لتقواك"؟ من انتقال مفردات من جمال "النحو" إىل الكالم عن "بشر"‪ .‬إذا‬
‫أردان أن نستبدل مبدرس اللغة العربية مدرس علوم ‪ ،‬فال بد أن نستعري مفردات من جمال العلوم‪ ،‬وهكذا‪ .‬سوف جتد كثرياً من نصوص‬
‫الكاريكاتري والطرف والنوادر واملزح تستند يف حتقيق بالغتها وفكاهتها إىل تنقل املفردات بني احلقول الداللية‪ .‬تصور زوجة مجيلة تقول‬
‫لزوج انتهت صالحيته وهو رجل أعمال تسأله "هل كل رجال األعمال متعثرون مثلك ؟ "تكمن الفكاهة هنا يف ازدواج معىن‬
‫"متعثرون" ويف انتقاهلا املؤقت من الكالم عن رجال األعمال واملشروعات إىل الكالم عن زوج قليل الباءة ‪ .‬ومن الكالم عن املفردات‬
‫كذلك الكالم عن الرتادف والطبا واجلناس وغري ذلك من عالقات داللية ال يقتصر دورها على حتقيق الرتابط بني أجزاء اخلطاب أو‬
‫النص بل يتجاوز ذلك إىل أتكيد رسالته وجتلية بعض غاايته وتشكيل صوره وجمازاته‪ .‬من اليسري أن نكتشف الدور البالغي املهم الذي‬
‫تؤديه املفردات يف أبيات تحمود درويش (فكر بغريك )‪:‬‬
‫وأنت تعد فطورك ‪ ،‬فكر بغريك‬
‫ال تنس قوت احلمام‬
‫وأنت ختوض حروبك ‪ ،‬فكر بغريك‬
‫ال تنس من يطلبون السالم‬
‫وأنت تسد فاتورة املاء‪ ،‬فكر بغريك‬
‫من يرضعون الغمام‬
‫وأنت تعود إىل البيت ‪ ،‬بيتك ‪ ،‬فكر بغريك‬
‫ال تنس شعب اخليام‬
‫وأنت تنام وحتصي الكواكب ‪ ،‬فكر بغريك‬
‫مثة من مل جيد حيزاً للمنام‬
‫وأنت بتحر نفك ابالستعارات ‪ ،‬فكر بغريك‬
‫من فقدوا حقهم يف الكالم‬
‫وأنت تفكر ابآلخرين البعيدين‪ ،‬فكر بنفسك‬
‫قل‪ :‬ليتين مشعة يف الظالم‬
‫من ترادف بني "فكر" و "ال تنس"‪ ،‬إىل حقول داللية ‪" -‬فطورك" و"قوت احلمام"‪" ،‬املاء" و"الغمام"‪" ،‬البيت" و"اخليام"‪،‬‬
‫"االستعارات" و"الكالم" ‪ -‬إىل عالقات داللية بني "حروبك" و"السالم" ‪ ،‬و"تنام" و"املنام"‪ ،‬و"مشعة" و"الظالم"‪ ،‬تتجلى رسالة‬
‫القصيدة يف التأكيد على "العالقة" ابآلخر وضرورة اإلحساس "بغريك" خصوصا إذا كان يف حاجة إىل التعاطف ‪..‬‬
‫(‪ )8‬أداة التساؤل‪ :‬ملاذا تبدو األشياء على ما هي عليه؟‬
‫"وقال‪ :‬أمل يكفكما التسافه يف جملس احلكم‪ .‬واإلقدام على هذا اجلرم‪ .‬حىت تراقيتما من فحش املقاذعة‪ .‬إىل خبث املخادعة؟"‬
‫(مقامات احلريري ‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪)75‬‬
‫ملاذا ترد العبارات واجلمل يف اخلطاب على اهليئة اليت ترد عليها؟ ملاذا يغلب على النص النفي أو البناء للمجهول على سبيل‬
‫التمثيل ال احلصر؟ ملاذا ينسحب الفاعلون احلقيقيون لصاحل مفعول مطلق أو ضمري مسترت؟ ملاذا يقال ‪" :‬مصرع عشرة"‪ ،‬وال يقال ‪:‬‬

‫‪995‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫"قتلت جهة كذا أو كذا عشرة ؟" وملاذا يقال ‪" :‬احلرب مع العرا "‪ ،‬وال يقال ‪" :‬اعتداء الوالايت املتحدة على العرا " ؟ قد ختفي‬
‫الفاعل ألنه جمهول وقد ختفي ألنه مرهوب اجلانب‪.‬‬
‫ملاذا تنحاز بعض العناوين الدعائية إىل املركبات االمسية على حساب األفعال واملركبات الفعلية فيقال‪" :‬زايدة األجور يف مايو"‪،‬‬
‫وال يقال ‪" :‬احلكومة تناقش زايدة األجور" يف مايو؟ ال بد أن "وراء األكمة ما وراءها"‪ ،‬فلكل نص غاية وغاايت ‪ ،‬ولكل مؤلف غرض‬
‫وأغراض ‪ ،‬واألمساء من طبعها الثبات والرسوخ ‪ ،‬بينما األفعال من طبعها التغري والتحول ‪ ،‬ومن مسات األمساء االختزال‪ ،‬أما األفعال‬
‫فتبحث عن "فاعلني" و"مفعول هبم" أو "ألجلهم" أو "معهم"‪ ،‬وليس هذا مما ميكن التصريح به يف كل حال ‪ .‬وليس معىن " مع العرا‬
‫اهو َن) كداللة (يف صالهتم ساهون)‪ .‬لو كانت "يف صالهتم"‪ ،‬ما‬ ‫" كمعىن "على العرا "‪ ،‬شتان ‪ .‬وليست داللة (عن ِِ‬
‫ص َالهت ْم َس ُ‬
‫َْ َ‬
‫صعدت إىل السماء صالة من معظم املصلني ‪ ،‬لكن هللا بعباده رحيم‪.‬‬
‫ملاذا تبدو أبيات درويش (فكر بغريك) اليت وردت أعاله يف احلديث عن املفردات على ما هي عليه ؟ الحظنا أن رسالة‬
‫القصيدة تكمن يف "التأكيد" على " العالقة" ابآلخر وضرورة اإلحساس "بغريك" خصوصا إذا كان يف حاجة إىل التعاطف‪ .‬التأكيد‬
‫يلزمه تكرار ‪ -‬تكرار تراكيب وتكرار مفردات وعبارات ‪ -‬والعالقة اإلنسانية املرجوة تشري إليها عالقات داللية ‪ ،‬واآلخر املختلف اجلدير‬
‫ابلتعاطف نراه يف الطبا مع املخاطب الذي يعيش حياة هانئة مستقرة‪ .‬هنا ينتهي بنا الكالم إىل أداة وثيقة الصلة من أدوات حتليل‬
‫اخلطاب وهي أداة النظر يف التأليف والصياغة‪.‬‬
‫(‪ )9‬أداة النظر يف التأليف والصياغة‬
‫" ‪ ...‬واملعاين مطروحة يف الطريق يعرفها العجمي والعريب ‪ ،‬والبدوي والقروي ‪ ،‬واملدين‪ ،‬وإمنا الشأن يف إقامة الوزن ‪ ،‬وختري‬
‫اللفظ‪ ،‬وسهولة املخرج ‪ ،‬وكثرة املاء‪ ،‬ويف صحة الطبع وجودة السبك"‪-.‬‬
‫(اجلاحظ ‪ :‬احليوان ‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪)127‬‬
‫كيف تنتظم املعلومات واألفكار يف مجل وعبارات ؟ ما العناصر اليت تكتسب حبكم موقعها النحوي أامية خاصة يف النص أو‬
‫اخلطاب؟ ماذا يستفاد من النظر يف ترتيب األفكار والعناصر يف الوقوف على غاايت النص أو اخلطاب ؟ ما املوضوع وما احملمول يف‬
‫كل مجلة ويف النص إمجاال؟ ما املسند إليه وما املسند؟ تذكر مطلع قصيدة روبرت فروست " ‪"Whose woods are these I‬‬
‫‪think I know" .‬ملاذا احنرفت اجلملة عن طبيعتها املألوفة?‪ I think I know whose woods are these‬بعد أن تطالع‬
‫القصيدة سوف تكتشف أن من بني موضوعاهتا وأفكارها املهمة فكرة "امللكية" أو "احليازة" وحقو أصحاهبا‪ .‬لذلك كان أول ما يطالع‬
‫القارئ يف القصيدة ضمري ملكية‪.‬‬
‫يف نص قصري لسعدية مفرح ‪" -‬تغيب ‪ ...‬فأسرج خيل ظنوين" ‪ -‬توتر بني احلضور والغياب‪ ،‬بني احلركة والسكون ‪ ،‬بني الظن‬
‫واليقني ‪ .‬وفيه عالقة أتثري وأتثر بني املخاطب الذي يغيب واملتكلمة اليت تسرج خيل ظنوهنا إثر غيابه‪ .‬ويف النص استعارة بديعة هي‬
‫الظنون بوصفها خيوال ‪ -‬ويف الظنون ما يف اخليول من مجوح وقوة وحترر وانطال ‪ ،‬انطال قد يكون مدمرا أحياان‪ .‬ال تكتفي الفاء يف‬
‫النص ابإلشارة إىل الرتتيب والتعقيب ‪ ،‬بل تشتمل كذلك معىن السببية فسرج اخليول بعض نتائج الغياب‪ .‬وألن العالقة سببية؛ فالبد أن‬
‫اخليول سوف تنطلق وراء من غاب حتاول أن تكتشف أين مضى أو أين استقر‪ .‬وبني الغياب والظنون عالقة داللية أخرى هي فقدان‬
‫اليقني‪ :‬يف حالة الغياب يصبح فقدان اليقني مطلقا أو يكاد‪ ،‬ويف حالة الظنون يبقى نسبيا‪ .‬ليس يف النص يقني إال على سبيل‬
‫االستنتاج والقياس‪" :‬تغيب فأسرج خيل ظنوين"؛ ال تغيب فال أسرج خيل ظنوين‪.‬‬

‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫(‪ )11‬أداة النظر يف تتابع فقرات النص‬
‫"ومن اجملاز‪ :‬زدت يف كالمه أو شعره فقرة وهي فصل أو بيت شعر‪ ،‬وما أحسن فقر كالمه أي نكته وهي يف األصل حلي‬
‫تصاغ على شكل فقر الظهر"‬
‫(الزخمشري‪ :‬أساس البالغة ‪ ،‬نسخه موقع الورا ‪ ،‬ص ‪.)356‬‬
‫تتصل أبداة النظر يف التأليف والصياغة أداة النظر يف تتابع فقرات النص الكربى وتتابع مكوانت اجلمل ‪.‬يف تطبيق هذه األداة‬
‫يعمد املتلقي إىل تقسيم النص إىل فقرات أو أجزاء على أساس ما فيه من أفكار أو على غري ذلك من أسس‪ .‬املهم هنا هو االتسا‬
‫واملنهجية يف التقطيع والتقسيم‪ .‬مث النظر يف داللة هذه القسمة ودورها يف توصيل رسالة النص وحتقيق غاايته‪ .‬من ذلك ما جند يف‬
‫املعلقات وشروحاهتا ومقاطعها وداللة تقطيعها‪ -‬من وقوف على األطالل ‪ ،‬مث رحلة ووصف طريق‪ ،‬مث وصف دابة‪ ،‬فوصف ظعائن‪ ،‬مث‬
‫مدح أو فخر أو هجاء أو غري ذلك‪ .‬لكل جنس أديب وخطايب مسات منها توزيع أفكاره وغاايته على أجزاء أو مقاطع ‪ ،‬وال بد أن‬
‫يكون النتهاك تلك السمة وإعادة النظر فيها غاايت بالغية جديدة‪.‬‬
‫يف هذه اآلايت من القرآن الكرمي ‪ ،‬سورة (األنعام)‪ ،‬يستطيع املتلقي أن يتنقل بني مراحل اهلداية واليقني يف قصة سيدان إبراهيم‬
‫عليه السالم وأن يتعامل مع النص من وجهة نظر موضوعه أو أفكاره ‪ -‬من رفضه آهلة اآلابء‪ ،‬إىل رؤيته كوكبا‪ ،‬مث رؤيته القمر‪ ،‬مث رؤيته‬
‫الشمس مث وصوله إىل احلقيقة الكربى ‪ .‬وبعد اهلداية أييت الصدام واملقارنة مع من ظلوا علي آهلتهم عاكفني‪َ ( :‬وإِ ْذ قَ َال إِبْ َر ِاه ُيم ِألَبِ ِيه‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ات و ْاألَر ِ ِ‬ ‫ك نُِري إِب ر ِاهيم ملَ ُكوت َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني‬
‫ض َوليَ ُكو َن م َن الْ ُموقن َ‬ ‫الس َم َاو َ ْ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫ض َالل ُمبِني (‪َ )87‬وَك َذل َ‬ ‫ك ِيف َ‬ ‫صنَ ًاما آَهلَةً إِِين أ ََر َاك َوقَ ْوَم َ‬‫آََزَر أَتَتَّخ ُذ أَ ْ‬
‫ني (‪ )88‬فَلَ َّما َرأَى الْ َق َمَر َاب ِز ًغا قَ َال َه َذا َرِيب فَلَ َّما أَفَ َل‬ ‫(‪ )87‬فَلَ َّما ج َّن علَي ِه اللَّيل رأَى َكوَكبا قَ َال ه َذا رِيب فَلَ َّما أَفَل قَ َال َال أ ُِح ُّ ِِ‬
‫ب ْاآلَفل َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َْ ُْ َ ْ ً‬
‫ت قَ َال َاي قَ ْوِم إِِين‬ ‫س َاب ِز َغةً قَ َال َه َذا َرِيب َه َذا أَ ْكبَ ُر فَلَ َّما أَفَلَ ْ‬ ‫َّم َ‬ ‫ني (‪ )88‬فَلَ َّما َرأَى الش ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قَ َال لَئ ْن َملْ يَ ْهدِين َرِيب َألَ ُكونَ َّن م َن الْ َق ْوم الضَّال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ِريء ِممَّا تُ ْش ِرُكو َن (‪ )86‬إِِين و َّجهت وج ِهي لِلَّ ِذي فَطَر َّ ِ‬
‫اجهُ قَ ْوُمهُ قَ َال‬ ‫ني (‪َ )87‬و َح َّ‬ ‫ض َحني ًفا َوَما أ ََان م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َْ َ‬ ‫َ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اج ِوين ِيف َّ‬
‫اف‬
‫َخ ُ‬ ‫فأَ‬ ‫اف َما تُ ْش ِرُكو َن به إَّال أَ ْن يَ َشاءَ َرِيب َشْي ئًا َوس َع َرِيب ُك َّل َش ْيء ع ْل ًما أَفَ َال تَتَ َذ َّك ُرو َن (‪َ )68‬وَكْي َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫اَّلل َوقَ ْد َه َدان َوَال أ َ‬ ‫أ َُحتَ ُّ‬
‫َح ُّق ِابْأل َْم ِن إِ ْن ُكْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن (‪)68‬‬ ‫َي الْ َف ِري َق ْ ِ‬ ‫ما أَ ْشرْكتم وَال َختافُو َن أَنَّ ُكم أَ ْشرْكتم ِاب َِّ‬
‫َّلل َما َملْ يُنَ ِزْل بِِه َعلَْي ُك ْم ُس ْلطَ ً‬
‫ني أ َ‬ ‫اان فَأ ُّ‬ ‫ْ َ ُْ‬ ‫َ َ ُْ َ َ‬
‫وال أبس بتناول النص على أساس اآلايت وما فيها من أفكار‪ ،‬وكيف تتصل مبا قبلها وما بعدها ‪ .‬ال أبس بتقطيع نص على‬
‫أسس كمية أو كيفية ‪ .‬املهم هو االتسا وتوضيح املربرات اليت جرى على أساسها التقطيع‪.‬‬
‫(‪ )11‬أداة رصد املنجزات‬
‫"جنز وجنز الكالم ‪ :‬انقطع ‪ .‬وجنز الوعد ينجز جنزاً‪ :‬حضر‪ ،‬وقد يقال ‪ : :‬جنز‪ .‬قال ابن السكيت‪ :‬كأن جنز فين وانقضى‪،‬‬
‫وكأن جنز قضى حاجته‪ ،‬وقد أجنز الرعد ووعد انجز وجنيز وأجنزته أان وجنزت به‪ .‬وإجنازكه‪ ، :‬وفاؤك به‪ .‬وجنز هو أي وىف به ‪ ،‬وهو مثل‬
‫قولك حضرت املائدة‪ .‬وجنز احلاجة وأجنزها‪ :‬قضاها ‪ .‬وأنت على جنز حاجتك وجنزها‪ ،‬بفتح النون وضمها ‪ ،‬أي على شرف من‬
‫قضائها ‪ ...‬وجنزت احلاجة إذا قضيت ‪ ،‬وإجنازكها ‪ :‬قضاؤها‪ .‬وجنز حاجته ينجزها ‪ ،‬ابلضم‪ ،‬جنزا ‪ :‬قضاها ‪ ،‬وجنز الوعد‪ .‬ويقال‪ : :‬أجنز‬
‫حر ما وعد‪ .‬ابن السكيت‪ :‬جنز فين‪ ،‬وجنز قضى حاجته ‪ .‬قال أبو املقدام السلمي‪ :‬أجنز عليه وأوجز عليه وأجهد"‬
‫(ابن منطور‪ :‬لسان العرب)‪.‬‬
‫ما الذي حيدث يف النص ؟ ما الذي تنجز الشخصية أو الشخصيات يف اخلطاب ؟ زواج ‪ ،‬أو جناح يف دراسة ‪ ،‬أو سفر‪ ،‬أو‬
‫حصول على عمل‪ ،‬أو اخرتاع ‪ ،‬أو استقالة ‪ ،‬أو انتصار‪ ،‬أو عودة ‪ ،‬أو غري ذلك ‪ .‬هذا بعض ما قد جتد يف نص ‪ .‬ليست األفعال‬
‫وحدها هي املهمة هنا‪ ،‬بل من مينح تلك األفعال مشروعيتها وحيدد أشراطها‪ ،‬فالزواج مير مبؤسسة دينية وعادات وأعراف اجتماعية‬
‫واعتبارات مادية ‪ ،‬والنجاح يف دراسة مير عرب قوانني ولوائح املؤسسة التعليمية ومسات التعليم واملعلمني واملتعلمني يف جمتمع من اجملتمعات‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫‪ ،‬والسفر خضع العتبارات قانونية وسياسية ومالية وإنسانية وأتشريات وجوازات سفر وما إليها‪ ،‬واحلصول على عمل قد خضع للكفاءة‬
‫وقد خضع للثقة والعالقات وقد مير مبراحل معلومة ومعلنة وقد ال مير‪ ،‬وهكذا‪ .‬هنا ال بد من العودة إىل أداة األفعال ال األقوال فليس‬
‫كل فعل مقبول بغض الطرف عن فاعله ‪ .‬تصور متهما يف قفص يف تحكمة يعلن على املأل‪" :‬حكمت على احملامي ابلسجن عشر‬
‫سنوات مع الشغل والنفاذ"‪ ،‬هل يكون لكالمه من وقع أو حلكمه من عواقب إال السخرية منه ومعاقبته مبا يليق ؟ ويتباين الناس يف‬
‫تقييمهم ما يقع حوهلم ألسباب تتعلق بذواهتم وحتيزاهتم ومبوضوع التقييم والظروف اليت حتيط به‪.‬‬
‫يف هناية قصة (النافذة) ل أمني صاحل يرد تقييم السيد تحاوالت اخلادمة الغنائية الربيئة يف قوله‪" :‬تنبحني كالكلبة"‪ .‬هكذا مسع‬
‫السيد غناء اخلادمة اليت ال يراها أكثر من آلة تعمل وجسد متاح للمتعة اجملانية ‪ .‬احتماالت ثالثة أقرهبا إىل املنطق من خالل بقية‬
‫القصة هو االحتمال الثالث ‪ )2(:‬قد يكون صوهتا قبيحا حقا (موضوع التقييم)‪ )1( .‬وقد يكون السيد يف ظروف نفسية أو اجتماعية‬
‫سيئة (السيا )‪ )3( .‬وقد يكون السبب احتقاره اخلادمة على العموم (حتيزات املتلقي)‪.‬‬
‫وهذا حوار شيق بني اجلاحظ وقارئ مفرتض يرد فيه اجلاحظ عن نفسه هتمة مفرتضة تتصل ابملزح والفكاهة اليت ترد يف كتاب‬
‫غاايته "املوعظة والتعريف والتفقيه والتنبيه"‪" :‬وهذا كتاب موعظة وتعريف وتفقه وتنبيه ‪ ،‬وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده ‪،‬‬
‫وتتفكر يف فصوله ‪ ،‬وتعترب آخره أبوله‪ ،‬ومصادره مبوارده ‪ ،‬وقد غلطك فيه بعض ما رأيت يف أثنائه من مزح ال تعرف معناه ‪ ،‬ومن بطالة‬
‫مل تطلع على غورها؛ ومل تدر مل اجتلبت‪ ،‬وال ألي علة تكلفت ‪ ،‬وأي شيء أريد هبا‪ ،‬وألي جد احتمل ذلك اهلزل ‪ ،‬وألي رايضة‬
‫جتشمت تلك البطالة ؛ ومل تدر أن املزاح جد إذا اجتلب ليكون علة للجد‪ ،‬وأن البطالة وقار ورزانة‪ ،‬إذا تكلفت لتلك العاقبة ‪ ،‬وملا قال‬
‫اخلليل ابن أمحد‪ :‬ال يصل أحد من علم النحو إىل ما حيتاج إليه‪ ،‬حىت يتعلم ما ال حيتاج إليه ‪ ،‬قال أبو مشر‪ :‬إذا كان ال يتوصل إىل ما‬
‫حيتاج إليه إال مبا ال حيتاج إليه ‪ ،‬فقد صار ما ال حيتاج إليه حيتاج إليه ‪ ،‬وذلك مثل كتابنا هذا؛ ألنه إن محلنا مجيع من يتكلف قراءة هذا‬
‫الكتاب على مر احلق ‪ ،‬وصعوبة اجلد‪ ،‬وثقل املئونة ‪ ،‬وحلية الوقار‪ ،‬مل يصرب عليه مع طوله إال من جترد للعلم ‪ ،‬وفهم معناه ‪ ،‬وذا من‬
‫مثرته ‪،‬واستشعر قلبه من عزه ‪ ،‬وانل سروره على حسب ما يورث الطول من الكد‪ ،‬والكثرة من السآمة ‪( " ...‬اجلاحظ‪ :‬احليوان ‪ ،‬موقع‬
‫الورا ‪ ،‬ص ‪.)21‬‬
‫(‪ )12‬أداة اكتشاف اهلوية‬
‫"أان لغيت"‬
‫(تحمود درويش)‬
‫من الذي يفعل ويتكلم يف النص وما‪ ،‬هويته‪ -‬هويته الدينية (مسلم أو مسيحي أو غري ذلك) والعرقية (عريب أو آسيوي أو‬
‫إفريقي أو غري ذلك)‪ ،‬والسياسية (تحافظ أو ليربايل أو غري ذلك)‪ ،‬واملهنية (طبيب أو معلم أو مهندس أو عامل أو عامل أو غري ذلك)‪،‬‬
‫واالجتماعية (احلضر والريف والبدو والطبقات االجتماعية)‪ .‬هويتك هي "من أنت" و"إيل أي البالد تنتمي"‪ ،‬و "ما تعمل"‪ ،‬و "ما‬
‫متلك"‪ ،‬و"كيف تبدو"‪ ،‬و" أي لغة تتكلم أو تكتب" ‪ ،‬و"كيف تتكلم وتتصرف" و" كيف يراك اآلخرون" ‪ ،‬و"فيم تعتقد"‪.‬‬
‫‪ ‬السن ‪ :‬ليس األطفال كاملراهقني وال كالبالغني ‪ ،‬ال يف لغتهم وال يف تصرفاهتم ‪ .‬لكل سن لغته اليت تنسجم مع ثقافته وتوجهاته ‪،‬‬
‫وحني يقع االرتباك يف التطابق بني اللغة والفئة العمرية اليت ينتمي إليها صاحبها ‪ -‬حني يتكلم الصغار كالم الكبار وحني يتكلم‬
‫الكبار كالم الصغار‪ -‬ال بد من البحث وراء الغاايت البالغية والنصية هلذا االرتباك ‪.‬‬
‫‪ ‬النوع‪ :‬كالم الرجال ليس ككالم النساء‪ ،‬وال كالم األوالد ككالم البنات وانشغاالت اإلانث يف استعمال اللغة ليست‬
‫كانشغاالت الذكور‪ .‬قد تتقاطع اللغتان ألسباب تتعلق بغاايت النص وقد يلح املؤلف على إظهار الفرو بينهما ألسباب‬
‫أخرى‪ .‬على أن االنشغال ابلنوع كثريا ما يتجاوز اإلشارة إىل متكلم أو متكلمة إىل البحث عن خطاب ذكوري أو خطب أنثوي‬
‫‪992‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫أو نسائي يف النص ‪ .‬يتشكل اخلطاب من أفعال وأقوال‪ -‬وأفعال تقوم مقام األقوال وأقوال تقوم مقام األفعال‪ -‬وتصورات عن‬
‫العامل ‪ ،‬منها تصورات عن املرأة والرجل أو األنثى والذكر‪ ،‬أداوراما وعالقتهما املتبادلة والتوتر فيما بينهما‪.‬‬
‫الوظيفة‪ :‬لكل مهنة لغتها و"سيمها" ومفرداهتا وأساليبها وأهل كل مهنة قد يستخدمون اللغة إلقصاء من ال ينتمون إىل املهنة أو‬ ‫‪‬‬
‫للتأكيد على تفرد املهنة وخصوصيتها‪ .‬وقد يستخدمون اللغة لغاايت عملية ال يقصد هبا اإلحسان إىل أنفسهم أو اإلساءة إىل‬
‫غريهم‪ .‬طبيبان يناقشان حالة مريض ويتكلمان ابللغة اإلجنليزية ويف كالمهما كثري من املصطلحات الطبية ‪ .‬مشهد مألوف ال‬
‫يقصد به اإلساءة إىل املريض الذي ال يعرف اإلجنليزية ‪ ،‬بل قد يقصد به جتنيبه مساع ما ال يروقه من أخبار عن حالته الصحية ‪،‬‬
‫وقد يكون تحض عادة أو ضرورة طبيه‪ .‬وقد يقع اختالط بني لغات مهن خمتلفة ألغراض فكاهية ‪ ،‬فرتى الطبيب يتكلم لغة جزار‬
‫أو املدرس يتكلم لغة اتجر وهكذا‪" .‬واعلم أن بين اإلنسان ‪ ...‬متفاوتو الدرجات تفاوات بعيدا جدا‪ ،‬وذلك أن من الناس من ال‬
‫يفهم إال لغة واحدة‪ ،‬وال يعرف أيضا من معين تلك اللغة ‪ ،‬من األشياء واأللفاظ واألقاويل ‪ ،‬إال شيئا قليال‪ .‬ومن الناس من‬
‫يفهم عدة لغات وحيسن أن يقرأ عدة كتاابت‪ ،‬ويفهم من كل لغة أمساء وألفاظا وأقاويل كثرية ‪ ،‬ويفهم معاين دقيقة‪ ،‬ما ال يفهم‬
‫غريه من الناس"‪(.‬رسائل إخوان الصفا‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪)544‬‬
‫التعليم ‪ :‬ليس كالم املثقفني ككالم املستنريين املتعلمني ‪ ،‬وال ككالم األميني الذين ال حيسنون القراءة والكتابة‪ .‬يف كثري من‬ ‫‪‬‬
‫النصوص إشارات لغويه إىل فرو يف املستوى التعليمي ‪ ،‬من املفردات إىل الرتاكيب واألساليب واإلحاالت واالقتباسات ‪ ،‬وقد‬
‫يكون التعليم أو غيابه موضوعا للصراع يف اخلطاب‪ .‬وال بد أن املستوى التعليمي يف نص سردي يرتبط مبجموعة أخرى من‬
‫العالمات غري اللغوية منها امللبس والسلوك واألماكن والبيئة احمليطة واملمتلكات وغري ذلك‪ .‬صورة "النظارة"‪ ،‬واحللة والكتب اليت‬
‫حيملها املتعلمون "بتوع املدارس" مشهورة يف األفالم القدمية يف السينما املصرية‪.‬‬
‫اخللفية االجتماعية‪ :‬من تحددات اهلوية وأركاهنا الطبقة االجتماعية وهلا أبعاد اترخية واقتصادية وجغرافية ‪ -‬بني بدو وحضر‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وصعيد وحبري‪ ،‬بني أغنياء وفقراء وبينهما درجات وسطى ‪ ،‬وسود وبيض ‪ ،‬و"براامة " و" كشرتية" و"ويش" و" شودرا" ‪-‬‬
‫الطبقة األوىل خلقت من وجه اإلله ‪ ،‬واألخرية من قدميه كما يعتقد أهل اهلند‪ .‬ال يكاد نص سردي خلو من أثر أو آاثر للفرو‬
‫االجتماعية من (رد قليب) إىل (دعاء الكروان) إىل قصة (النافذة) اليت ترد إشارة إليها يف غري هذا املوضع ‪ ،‬وغريها من نصوص‬
‫روائية ‪ .‬وال بد أن يكون من انشغاالت حتليل اخلطاب السردي الوقوف على العالقة بني اخلطاب واجملتمع ‪ -‬كيف تشري‬
‫االختيارات اللغوية وغري اللغوية يف اخلطاب إىل عالقات اجتماعية خارج اخلطاب‪.‬‬
‫الداينة‪ :‬من املفردات والتعابري يف كل لغة ما يشري بال مواربة إىل داينة مستخدميها ومنها ما ينسحب على خمتلف الدايانت وال‬ ‫‪‬‬
‫يشري إىل هوية مستخدميها الدينية أو املذهبية ‪ .‬قد تسمع يف اللغة العربية " واملسيح احلي" وقد تسيم " اي حسني "‪ .‬عندها‬
‫تكتشف هوية املتكلم الدينية أو املذهبية‪ .‬يف بعض النصوص يربز الدين موضوعا ومدار انشغال ويرتبط بذلك بروز فرو لغوية‬
‫تشري إىل الداينة كما جند يف رواية (خاليت صفية والدير) ل هباء طاهر ويف عنواهنا إشارة الفتة إىل عالقة بني داينتني اما اإلسالم‬
‫واملسيحية‪.‬‬
‫العر واجلنسية‪ :‬ال بد أن قدرا كبريا من اخلطاب يتشكل من خالل االنتماء العرقي أو القومي أو كليهما معا‪ .‬وال بد أن قدرا‬ ‫‪‬‬
‫كبريا من اهلوية العرقية والقومية أو كليهما معا يتشكل من خالل اخلطاب ‪ ،‬خصوصا السرد والرواية ‪ .‬قدر كبري من خطاب‬
‫الكتاب األمريكيني يتشكل من االنتماء إىل اجلانب األسود من الفردوس األرضي املوعود‪.‬‬
‫التوجه السياسي ‪ :‬يف حلظات االرتباك السياسي والفنت والصراعات ويف حاالت االستقطاب اليت عاينها العامل العريب يف السنوات‬ ‫‪‬‬
‫األخرية ‪ ،‬تربز اهلوية السياسية ‪ .‬وال بد أن نالحظ اشتباك اهلوية السياسية بعوامل اقتصادية ودينية – فهذا "انصري " ‪ ،‬وهذا‬
‫‪992‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫"اشرتاكي" ‪ ،‬وهذا "رأمسايل"‪ ،‬وذلك "ليربايل" ‪ ،‬وتلك "علمانية"‪ ،‬وغريها "دميقراطية" ‪ ،‬وغريها "مجهورية" ‪ ،‬أو "ملكية" ‪ ،‬أو‬
‫"إقطاعية"‪ ،‬أو "برجوازية"‪.‬‬
‫‪ ‬احلالة االجتماعية ‪ :‬عزب‪ /‬عزابء أو متزوج‪ /‬متزوجة أو أرمل ‪ /‬أرملة أو مطلق ‪ /‬مطلقة ‪ ،‬أو يف عالقة مغلقة أو مفتوحة ‪ ،‬معلنة‬
‫أو سرية‪ .‬يف كل ثقافة تصورات عن هذه احلاالت وعن أصحاهبا تظهر أصداؤها يف اخلطاب الذي تنتجه هذه الثقافة ‪ ،‬من‬
‫ذلك‪ ،‬صورة املطلقة يف جمتمعها‪.‬‬
‫قد تعاين الشخصية يف النص متزقا بني انتماءات وهوايت متباينة متصارعة وفد تفقد هوايهتا‪ :‬هكذا تكلم الصاغ تحمود يف‬
‫(واحة الغروب) ل هباء طاهر‪ " :‬املشكلة هي أنت ابلضبط اي حضرة الصاغ ‪ ،‬ال ينفع يف هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف‬
‫شرير‪ ،‬نصف وطين ونصف خائن ‪ ،‬نصف شجاع ونصف جبان ‪ ،‬نصف مؤمن ونصف عاشق ‪ ،‬دائما يف منتصف شيء ما"‪ .‬وقد‬
‫سلف أن جزءا مهما من هوية املشاركني يف اخلطاب أو النص تبلوره عالقاهتم ابآلخرين‪ -‬كيف يرون اآلخرين وكيف يروهنم ؟ ويف مفردة‬
‫اهلوية تذكري جبانب من جوانب النفس أو الذات الثالثة يف التحليل النفسي ‪" -‬أان" و"األان العليا" و "هو" ‪ -‬فيما يشري إىل أامية‬
‫اآلخرين يف تشكيل اهلوية والتعرف إليها‪.‬‬
‫ماذا نقرأ يف عنوان هذا الكتاب للراحلة رضوى عاشور‪" :‬الرحلة‪ :‬أايم طالبة مصرية يف أمريكا"؟ نقرأ أن املتكلمة أنثى وأهنا يف‬
‫مرحلة ما بعد الدراسة اجلامعية األوىل وأهنا مصرية وأهنا متعلمة تعليما عاليا‪ ،‬فهي يف بعثة إىل الوالايت املتحدة‪ .‬ونتوقع أن حيدث توتر‬
‫بني هويتني وثقافتني ‪ .‬هذا ما جند يف أربع كلمات وحرف جر‪ .‬على أن اهلوية ال تستكشف من خالل اللغة وحدها‪ ،‬بل من خالل‬
‫جمموعة متجانسة أو متنافرة من العالمات منها امللبس والسلوك واملالمح والطقوس والشعائر واألماكن وغريها‪ .‬وليست اهلوية مفهوما‬
‫اثبتا ال يتغري وال هي مفهوم يسبح يف فراغ‪.‬‬
‫وقد تسمع من يصر على تفرده ورفضه التصنيف واالختزال والتنميط ويطلب منك أن تراه هو كما هو ال كما تفرض عليه‬
‫ثوابت هويته وثقافته ‪ :‬من فضلك ال تصنفين على أساس وزين أو طويل أو مالتحي (فقد تكون حاالت عارضة مردها إىل املرض أو‬
‫ضغوط احلياة)‪ ،‬وال الطبقة االجتماعية اليت أنتمي إليها (فقد يكون انتمائي إليها مريااث ال صلة يل فيه)‪ ،‬وال على أساس مهنيت (فما مينع‬
‫الطبيب أن يكتب الشعر وما مينع احملامي أن يكون خبريا يف العناية ابلنبااتت ؟)‪ ،‬وال نوعي (الذكورة واألنوثة مفهومان بيولوجيان ال‬
‫يفرضان سلوكا وال أخالقا)‪ ،‬وال انتمائي العرقي‪ ،‬وال جنسييت (فليس كل أهل بريطانيا يتصفون ابلربود وال كل نساء ابريس عاهرات)‪،‬‬
‫وال سين‪ ،‬وال داينيت ‪ ،‬وال تعليمي ‪ ،‬وال دائرة أصدقائي ‪ ،‬وال أسلوب حيايت ‪ ،‬وال مقدار ما أدخر أو أكسب من املال ‪ ،‬وال نوعية‬
‫مالبسي‪ ،‬وال الكتب اليت أقرأ‪ ،‬وال أين أتسو ‪ ،‬وال كيف أرتب األشياء يف بييت ‪ ،‬وال ما أشاهد من برامج تليفزيونية ‪ ،‬وال كيف أقضي‬
‫أوقات فراغي‪ ،‬وال ما أمارس من أنشطة رايضية ‪ ،‬وال نوع سياريت‪ ،‬وال املوسيقى اليت أفضل االستماع إليها‪ ،‬وال املأكوالت واملشروابت‬
‫اليت أحبها‪ ،‬وال ما أراتد من أماكن ‪ ،‬وال كيف أقضي عطليت املومسية‪ ،‬وال طريقة كالمي أو هلجيت أو لكنيت (فليس كل من حيسن لكنة‬
‫القاهريني قاهري السلوك)‪ ،‬وال ما أقول ‪ ،‬وال ما أفعل ‪ ،‬وال ما أعتقد‪ .‬أان أان من غري صفات حتددين أو تقيدين ‪( .‬بتصرف وتفسري من‬
‫كتاب كن براون‪ :‬الثقافة واهلوية ‪ ،1123 ،‬وقد أسقطت عن عمد تحددا مهما من تحددات اهلوية يتناوله أهل الغرب اليوم من غري‬
‫حرج هو "امليل اجلنسي" ‪" -‬طبيعي" أو "مثلي" أو مزيج بينهما‪ .‬ويف الرتاث العريب كالم عن اللواطة والغلمان والسحا واملخنثني)‬
‫(‪ )13‬أداة اكتشاف العالقات‬
‫"‪ ...‬ملاذا سادة وعبيد بني متضادين من املفرتض أن الطبيعة أوجدهتما هكذا ليتكامال‪ ،‬ال ليسود أحداما اآلخر ‪ ..‬ما احلكمة‬
‫يف هذا واحلياة تعبث ابالثنني معا وتكيد هلما ابلتساوي يف امتحان وجودي ال ذرة فيه لالحنياز ألي منهما؟ "‬
‫(فوزية رشيد‪ :‬القلق السرى ‪ ،‬ص ‪)17‬‬
‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫ال خلو نص أو خطاب من عالقات – عالقات بني بشر أو بني بشر وكائنات وموجودات وعالقات بني أفكار‪ ،‬غري أن‬
‫العالقات بني البشر هي اليت ترتك أثرها على اللغة واحلوار‪ :‬عامل ومتعلم ‪ ،‬طبيب ومريض ‪ ،‬والد وولده ‪ ،‬أم وابنتها‪ ،‬زوج وزوجة ‪ ،‬حاكم‬
‫وتحكوم ‪ ،‬صديق وصديق ‪ ،‬زميل وزميل ‪ ،‬غريب وشرقي ‪ ،‬خادم وسيد‪ ،‬مستخدم ومستخدم ‪ ،‬مستعمر ومستعمر‪ ،‬إىل غري ذلك من‬
‫أدوار‪ .‬يف الغالب تكون للشخصية يف النص أدوار عده وسوف جتد أثر ذلك يف اللغة ‪ -‬لغة الكلمات ولغة اجلسد واحلركات ‪-‬‬
‫فاحلاكم قد تتغري لغته حني خلع رداء احلكم ويرتدي رداء الزوج ‪ ،‬والشيخ الوقور قد يتخلى عن وقاره حني ينزل من على املنرب ليلعب‬
‫دور الوالد أو اجلد‪.‬‬
‫وجيدر أن نالحظ كذلك العالقة بني مؤلف النص واملتلقي املفرتض ‪ .‬كيف يرى املؤلف املتلقي وأي مكان ومكانة يريد له أن‬
‫يكون فيه وفيها‪ :‬يف مقام املتعلم أو احملاور أو اخلصم العنيد أو املأمور أو املنصوح أو الندمي املؤانس أو الباحث عن املتعة ‪ ،‬كذا ينبغي أن‬
‫ننظر يف العالقة بني مؤلف النص وما فيه من شخصيات‪ :‬هل يتكلم أحد بلسانه يف النص ؟ وهل املؤلف هو املتكلم يف النص ؟ سوف‬
‫نعود هنا لنؤكد على أن املؤلف ليس هو ابلضرورة األان املتكلمة يف النص ‪ ،‬فليس كل من كتب قصة حب وقع فيها‪.‬‬
‫فلنطالع اآلن قصة قصرية العالقة احملورية فيها هي عالقة سيد مع خادمة‪" :‬وأيمرها السيد أبن تكنس الغرفة مرة أخرى فتحتج‬
‫صامتة ألن الغرفة نظيفة وألن هذا جمرد عذر لكي يتطلع إىل جسمها اجلميل‪ .‬تفتح النافذة ‪ ،‬بعد أن خرج السيد‪ ،‬تصافح اهلواء الذي‬
‫يستقبلها بضحكة عذبة‪ .‬تطريين ؟"أطري‪ .‬أيخذها إىل مكان تزهو فيه األلوان وتومض حتدث انعكاسات يف اجلدول حيث املاء نقي‬
‫وشفاف‪ .‬النساء تستحم والرجال يقطفون مثار األشجار واألطفال ميرحون على العشب‪ .‬تسأل طفال‪" :‬تلهو منذ وقت طويل أال تشعر‬
‫جبوع ؟" يضحك الطفل‪ :‬عم تتحدثني ؟ فتقول له ‪ :‬سوف مترض إذا مل أتكل‪ .‬يهز الطفل رأسه ‪" :‬لست جائعا ومل أمرض قط‪.‬‬
‫تقول‪" :‬ولكن املوت‪ .‬يضحك عاليا‪ .‬تسأله‪" :‬ملاذا تفتح فكيك هكذا وتطلق هذا الصوت الغريب ؟" جييبها بدهشة‪ :‬أان أضحك ‪ .‬مث‬
‫جيري بعيدا عنها‪ .‬حتاول أن تفعل مثله ‪ .‬تفتح فكيها وتدفع صوات ممزقا من صدرها ماذا تفعلني؟ تغلق النافذة بسرعة ‪ .‬كان السيد‬
‫يتأمل ظهرها‪ .‬تنبحني كالكلية‪( .‬أمني صاحل‪ :‬النافذة‪)2795 ،‬‬
‫من املمكن تقسيم العالقات اإلنسانية إىل‪:‬‬
‫‪ ‬الصداقة أو العداوة أو "العداقة" (أصدقاء أو أعداء أو "أعدقاء")‪ .‬وتنقسم الصداقة على أساس النوع إىل‪:‬‬
‫‪ ‬صداقة بني ذكر وذكر‪.‬‬
‫‪ ‬صداقة بني ذكر وأنثى ‪ ،‬وفيها مكامن أخطار والتباس وتباين من ثقافة إىل أخرى ومن زمن إىل زمن‪.‬‬
‫‪ ‬صداقة بني أنثى وأنثى‪.‬‬
‫‪ ‬عالقات احلب ‪ :‬أوله اجنذاب ‪ ،‬فوقوع فيه ‪ ،‬فنمو‪ ،‬فدوام واستمرار‪ .‬أو كما أنشد شوقي ‪" :‬نظرة فابتسامة فسالم فكالم فموعد‬
‫فلقاء"‪ .‬أركان احلب ثالثة هي ‪ :‬األلفة والرغبة وااللتزام ‪ .‬ومن احلب ما ال يشتمل رغبة جسدية ويقال‪ :‬له يف الغرب احلب‬
‫"األفالطوين" ويف الثقافة العربية احلب "العذري"‪.‬‬
‫‪ ‬عالقات الزواج واألسرة والقرىب اليت تنشأ منهما أو تتصل هبما‪ .‬من ذلك عالقة اآلابء ابألبناء والبنات وعالقة األزواج واألصهار‬
‫واألجداد واألحفاد وما إليها‪.‬‬
‫‪ ‬عالقات اجلرية ‪ -‬اجلريان وأهل احلي أو املنطقة أو اجلرية أو احلارة أو الشارع‪.‬‬
‫‪ ‬عالقات العمل ‪ ،‬وفيه عالقات بني‪:‬‬
‫‪ o‬مستخدم وموظف ‪ ،‬مرؤوس ورئيس – عالقة اخلادمة وسيدها يف قصة (النافذة)‪ .‬ومن ذلك عالقة املوظف الثري خبادمتيه‬
‫الشقيقتني يف (دعاء الكروان) يغرر ابألوىل مث يقع يف غرام الثانية اليت ذهبت إليه تنتقم ألختها‪.‬‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫‪ o‬شركاء ‪ -‬متفقون أو متشاكسون أو بني ذلك‪.‬‬
‫‪" o‬زبون" أو "عميل" وصاحب عمل أو جتارة أو حريف ‪ -‬مع ضرورة االنتباه إىل أن األدوار تتبدل وتتغري فتتغري معها طبيعة العالقة‬
‫كما يف ثالثية جنيب تحفوظ حيث نرى السيد أمحد عبد اجلواد اتجرا يف النهار عاشقا يف الليل ‪ .‬وقد جتور عالقة الليل على عالقة‬
‫النهار فتشرتي احلبيبة من غري أن تدفع ويصبح ما اشرتت "بضاعة أتلفها اهلوى"‪.‬‬
‫‪ o‬وكيل وموكل ‪ -‬يف احملاماة وأعمال املقاوالت وما إليها‪.‬‬
‫‪ o‬مالك ومستأجر ‪ -‬وقد تتطور العالقة إىل حب أو مصاهرة أو عشق كما حدث بني شفاعات والشاب الريفي الربيء يف (شباب‬
‫امرأة)‪.‬‬
‫هذا ابإلضافة إىل العالقات العابرة الطارئة اليت تنشأ يف وسائل املواصالت واحملافل والتظاهرات والتجمعات‪ ،‬ومنها ما قد يتطور‬
‫إىل عالقة ممتدة ومنها ما ال يتطور‪ .‬وحيسن أن تنقسم العالقات اليوم مع تطور مواقع التواصل االجتماعي إىل عالقات واقعية وعالقات‬
‫افرتاضية وعالقات جتمع بني الواقع والعامل االفرتاضي‪.‬‬
‫يف حتليل نص سردي حيسن أن نتعقب ما فيه من عالقات ‪ ،‬كيف تنشأ؟ وعلى أي أساس تنشأ ؟ وكيف تتطور وإىل أين‬
‫تنتهي ؟ فيما يلي تصور نظري لبناء عالقة واهندامها أو هدمها ميكن أن يكون دليال وتبسيطا مفيدا‪ .‬على أن احلذر واجب ‪،‬‬
‫فالعالقات اإلنسانية ال ختضع للقوانني الرايضية وال ميكن اختزاهلا يف معادلة رايضية أو كيميائية ‪ ،‬وكل عالقة هلا خصوصيتها‪ .‬يف‬
‫الشكل ‪ -‬وهو ترمجة إطار نظري طرحه مارك انب ‪ -Knapp‬مراحل مخس لنشأة العالقات املختلفة وتطورها مث مراحل مخس أخرى‬
‫الهنيارها‪.‬‬

‫يف البدء يكون اللقاء والتعارف ‪ .‬قد جيد الطرفان أو أحداما يف اآلخر ما يلفت النظر وقد يسعى إىل تطوير العالقة فيكون‬
‫التجريب وجس النبض للتحقق من التوافق واالنسجام ‪ ،‬ابلسؤال عن اهلواايت واألفكار وتفاصيل احلياة اليومية‪( .‬وعندان عادات خاصة‬
‫قد تنتهي إىل عواقب وخيمة ‪ ،‬منها السؤال عن احلالة االجتماعية من أول وهلة ومن غري سابق إنذار)‪ .‬وقد ال جيد الطرفان شيئا‬
‫حيرضهما على تطوير العالقة فتنتهي حيث بدأت‪ .‬إذا انتهت مرحلة جس النبض إىل قبول وانسجام تطورت العالقة وقويت ‪ ،‬ومن‬
‫عالمات قوهتا يف هذه املرحلة "الفضفضة" والبوح وتبادل احلكاايت اخلاصة واألسرار‪ .‬قد يكون من عواقب البوح انكشاف أمر أحد‬
‫الطرفني أو التحقق من قلة صدقه وقلة جدارته ابلثقة فتقف العالقة عند هذا احلد‪( .‬حتكني حكاية لصديقتك فتجدينها بعد ساعات‬
‫على ألسنة اجلميع)‪ .‬قد مير الطرفان من هذه املرحلة بسالم فيحدث التكامل ‪ ،‬ومن عالماته البقاء معا لفرتات طويلة حىت تصبح‬

‫‪990‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫العالقة ظاهرة يراها احمليطون مجيعا‪ .‬مث يكون االرتباط "الرمسي" ابلزواج أو الشراكة أو التعاقد‪ .‬هذا تصور فيه كما سلف كثري من‬
‫التبسيط املخل فقد يقع االرتباط من غري كل هذه املقدمات وقد حيدث احلب "من أول نظرة"‪ .‬ومن الناس من يثق يف اآلخرين من غري‬
‫جهد وال جتريب ‪ ،‬فينتقل من التعارف إىل البوح والفضفضة من غري متهيد‪ .‬ومنهم من يطيل التجريب والتمهيد ويصعب أن مينح أحدا‬
‫ثقته‪ ،‬وقد ينعقد الزواج من غري مرور بكل ما سبق من مراحل إال بعض التعارف األسري االجتماعي‪ ،‬وقد تنعقد شراكة من غري ما‬
‫يكفي من متهيد‪.‬‬
‫قد تبقى العالقة اثبتة مستقرة بعد أن حدث االرتباط فرتة تطول أو تقصر‪ .‬وقد يقع الشقا واخلالف ويتذكر كل طرف نفسه‬
‫ويدافع عنها فتختفي "حنن" و"بيتنا" و"حياتنا" وتظهر "أان" و"أنت" و"حيايت" و"حياتك" و"أنت فعلت كذا" "ال بل أنت فعلت كذا‬
‫وكذا" ‪ .‬قد ينتهي الشقا إىل تقليص فرتات احلوار واالبتعاد عن الكالم يف األمور الشخصية ويقتصر على الكالم عن العمل أو أمور‬
‫"العيال" أو الشئون العامة ‪ .‬وقد تطول الفرتة فتنتهي إىل حالة من الركود والفتور تربد فيها املشاعر وتسيطر على الطرفني حالة من‬
‫الالمباالة ‪ .‬وقد تتفاقم املسألة فتنتهي إىل االجتناب واالعتزال فيبتعد كل طرف عن األماكن اليت يتواجد فيها الطرف الثاين‪ .‬مث يقع‬
‫االنفصال املعلن الصريح‪ .‬قد تبقى احلياة راكدة فاترة مملة من غري انفصال معلن أو صريح‪ ،‬محاية "للعيال"‪ ،‬أو حفاظا على السمعة‬
‫والشكل االجتماعي أو حفاظا على مصاحل مادية مشرتكة‪ .‬وقد يعاود الطرفان املكاشفة واملصارحة والبوح وتعود العالقة لتتطور من‬
‫جديد‪.‬‬
‫معظم ما يقع من تطور أو اهنيار يف عالقات البشر تشري إليه اللغة وتعابري اجلسد‪ .‬الحظ مثال االنتقال من املناداة ابللقب‬
‫وحده مث ابالسم مسبوقا ابللقب مث ابالسم وحده مث ابسم تودد و"دلع"‪ .‬الحظ ما يصاحب ذلك من قرب جسدي وفكاهة ومزاح ‪.‬‬
‫يف حلظات التوتر تعود األلقاب ويعود النفور ويعود التحفظ واجلدية‪.‬‬
‫(‪ )14‬أداة اكتشاف وجهة النظر‬
‫"أيها القارئ"‬
‫هذه مقاالت خمتلفة يف مواضيع شىت كتبت يف أوقات متفاوتة ‪ ،‬ويف ظروف وأحوال ال علم لك هبا وال خرب على األرجح ‪.‬‬
‫وقد مجعت اآلن وطبعت وهي تباع اجملموعة منها بعشرة قروش ال أكثر ! ولست أدعي لنفسي فيها شيئا من العمق أو االبتكار أو‬
‫السداد‪ ،‬وال أان أزعمها ستحدث انقالابً فكرايً يف مصر أو فيما هو دوهنا‪ ،‬ولكين أقسم أنك تشرتي عصارة عقلي وإن كان فجا‪ ،‬ومثرة‬
‫اطالعي وهو واسع‪ ،‬وجمهود أعصايب وهي سقيمة‪ ،‬أبخبس األمثان ! وتعال نتحاسب! ويف الكتاب عيب هو الوضوح فاعرفه! وستقرؤه‬
‫بال نصب ‪ ،‬وتفهمه بال عناء مث خيل إليك من أجل ذلك أنك كنت تعرف هذا من قبل وأنك مل تزد به علما! فرجائي إليك أن توقن‬
‫من اآلن أن األمر ليس كذلك وأن احلال على نقيض ذلك" (إبراهيم عبد القادر املازين‪ :‬حصاد اهلشيم ‪ ،‬املقدمة ‪ ،2714 ،‬القاهرة‪:‬‬
‫طبعة مكتبة األسرة‪ ،1112 ،‬ص ص ‪.)4-3‬‬
‫يف كل نص وجهة نظر أو وجهات نظر وموقف وتوجه ‪ -‬من الدعوة إىل الرأمسالية أو إىل عقيدة دينية‪ ،‬إىل تفضيل اللون‬
‫األخضر على األزر ‪ ،‬ومن الكالم عن احلرية والعدالة االجتماعية ‪ ،‬إىل كراهية النوم يف الظهرية‪ ،‬أو تفضيل القهوة على الشاي ‪ ،‬كلها‬
‫وجهات نظر ومواقف تصلنا عرب اللغة واحلوار والوصف والتعليقات الشارحة ‪ .‬على أي جانب يقف املؤلف‪ ،‬ومع أي طرف ينحاز؟ أم‬
‫تراه ال ينحاز إىل جهة أو طرف؟ أين يقف من يكتب خاطرة عن الدستور؟ أم تراه ال ينتمي؟ وكيف جتيب عن هذه التساؤالت؟ نقطة‬
‫االنطال هي اليقني أبن اإلنسان كائن بفطرته منحاز‪ ،‬غري أن احنيازاته قد تكون خفية أو متغرية ‪ ،‬وقد تكون أاننية أو فئوية ضيقة وقد‬
‫تكون إنسانية جامعة‪ .‬على سبيل املثل ‪ ،‬أين كان يقف شكسبري وهو يكتب مسرحية (هاملت)؟ وأين جتد هباء طاهر يف (خاليت صفية‬
‫والدير)؟‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫يف تناول وجهة النظر ال مفر من حتليل اإلشارة اليت ورد تفصيلها فيما سبق‪ .‬هذه قصة ومضة ل مجال اجلزيري عنواهنا (هناك)‪:‬‬
‫سأهلا بعفوية‪" :‬من أين أنت؟" تلعثمت‪ .‬ردت حبياد‪ " :‬من هنا" ‪ ،‬وعيناها تشردان بعيدا‪ .‬عنوان الومضة "هناك" حييل إىل مكان بعيد‬
‫‪ -‬بعيد من نقطة احلدث ‪ ،‬من حيث الغائب الذي يشري إليه الضمري املسترت "هو" والغائبة اليت يشري إليها الضمري املتصل "ها" يف‬
‫"سأهلا" واتء التأنيث يف "تلعثمت" و"ردت" والضمري املتصل "ها" يف "عيناها"‪ .‬وقد يكون بعيدا منك وأنت تقرأ فيشري إىل حيث يقع‬
‫احلدث ‪ /‬احلوار‪ .‬إجابتها مل تكن عفوية كما كان سؤاله فقد تلعثمت قبل أن جتيب‪ .‬إجابتها يف ظاهرها بسيطة شافية كافية ‪" -‬من‬
‫هنا"‪ .‬من املفرتض أن يفهم السائل أن املسئولة تنتمي إىل املكان الذي يقع فيه احلوار‪ ،‬من النقطة اليت مجعته هبا‪ .‬غري أن لغة اجلسد‬
‫وتعبري العينني يربك حساابته وحساابت القارئ‪ .‬كيف ميكن أن تتصاحل اللغتان لغة احلروف والكلمات ولغة العينني؟ هل تريد أن تقول‬
‫"أان من هنا حقا لكنين أتطلع إىل هناك‪ .‬ال أنتمي إىل هنا بل إىل مكان بعيد" ؟ أم تريد أن تقول "أان حقا من هناك‪ ،‬من مكان بعيد‪،‬‬
‫غري أنه مين قريب ‪ -‬فتشري إليه وكأهنا تعيش فيه "هنا"؟ ال أبس أبي من التفسريين ولعل بالغة الومضة تكمن يف بقاء اإلشارة عالقة‬
‫بني " هنا" و"هناك" ‪ ،‬بني مكان ينتمي إليه اجلسد ومكان يهفو إليه القلب والروح‪ .‬هل حتقق أمنياتك الكربى من غري أن تنظر إىل‬
‫أمنيات اآلخرين ؟ أم تكتفي أبمنيات صغرية تتحقق معها أمنيات كثري من اآلخرين؟‬
‫الكالم عن وجهة النظر حقل ألغام ال مناص من اقتحامه ‪ ،‬ففي الثقافة العربية عادات قرائية قبيحة يتطابق فيها املؤلف مع‬
‫املتكلم يف النص تطابقا يعرض األول لكثري من االهتامات والظنون وقد يضعه حتت طائلة الرقابة والقانون‪ .‬ليست الذات اليت يف نص‬
‫شعري هي ابلضرورة ذات الشاعر وال هي ذات واحدة ال تتغري وال تتشظى من أول النص إىل آخره‪ .‬ويف كثري من النصوص التفات‬
‫يؤدي دوره يف دفع املاللة والسأم ‪ ،‬ويؤدي أدوارا أخرى منها حتويل بؤرة السرد ومتكني السارد من التنقل من مقام املتكلم املنفرد إىل مقام‬
‫املخاطب بكسر الطاء ومقام املتأمل بكسر امليم ‪ .‬يسمح االلتفات كذلك للسارد أن يعلن عن مقاصده وأن يوجه وعي املتلقي إىل‬
‫حيث يريد‪ .‬وبينما يوجه املتلقي ‪ ،‬تتبدى هويته وفاعليته ال بوصفه شخصية تسعى على أرض الواقع فحسب ‪ ،‬بل كذلك بصفته سارد‬
‫"يقدر يف السرد"‪ ،‬ويصل األحداث بعضها ببعض ‪ ،‬ويعيد ترتيبها‪ ،‬ويلفت إىل مواطن الداللة فيها‪ ،‬ويشارك يف بلورة شروط تلقيها‪.‬‬
‫(‪ )15‬أداة إعادة اكتشاف السياق‬
‫تطريز ثوبك صامت ‪ ...‬ويقول‬
‫األخضر املبحوح اني انعم‬
‫مسته كف الريح والراعي‬
‫وأزرقه دفوف حوهلا شعل وأمحره طبول‬
‫ومنمنمات رسومه امس وإصغاء‬
‫وغامقها به نعس‬
‫وفاحتها له نفس وفارجها خجول‬
‫(مريد الربغوثي‪ :‬رنة اإلبرة)‬
‫فيما سبق من أدوات حتليل اخلطاب إشارات إىل سيا النص ‪ -‬زمانه ومكانه وما فيه من شخوص وما بينها من عالقات‬
‫وغري ذلك ‪ .‬ليس هذا كل ما يقال‪ :‬عن السيا أو املقام ‪ .‬تقول العرب لكل مقام مقال ‪ ،‬فهل يبقى املقال حني ختلف املقام؟‬
‫ال بد أن يف كل نص ما يعني القارئ على تصور سياقه واجلنس أو النوع الذي ينتمي إليه ‪ .‬السؤال املهم بعد اكتشاف مالمح‬
‫السيا ونوع النص أو جنسه هو ما يبقى ‪ ،‬وما ختفي أو يتبدل من الشروط املتعارف عليه من قبل هلذا اجلنس أو النوع من اخلطاب‪-‬‬

‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫ماذا يبقى يف القصيدة من شروط القصيدة ‪ -‬من إيقاع وتقفية وتصوير واستعارة وغموض ‪ -‬وماذا يبقى يف السرد من أركان السرد‪ ،‬حنو‬
‫املكان والزمان واألحداث والشخصيات واحلبكة وتعاقب األحداث ومفاصل السرد‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫وحني ينتهك النص تقاليد النوع الذي ينتمي إليه ‪ ،‬ما تفسري هذا االنته اك وما غاايته البالغية والتواصلية؟ وحني خرج النص‬
‫"عن النص"‪ ،‬ما تفسري هذا اخلروج ومربراته؟‬
‫"األصدقاء األحبة ألف احلمد هل ‪ . . .‬أبلف خري اآلن ‪ ...‬ممتنة لكم وحملبتكم ‪ ،‬ال أراكم هللا مكروها ‪ ...‬غاابت تحبة‬
‫لقلوبكم النبيلة وأرواحكم الغالية"‪.‬‬
‫(مىن العاصي)‬
‫"عليك اللهفة"‬
‫(أحالم مستغامني)‬
‫"غاابت احملبة" اليت ترسلها السيدة العربية املقيمة يف أورواب ليس هلا من أتثري يف الوجدان العريب‪ .‬هي تشبه بيت الشعر العريب‬
‫القدمي املشهور عن الكلب يف حفظه الود والتيس يف قراع اخلطوب‪ .‬غاابت احملبة يف السيا الذي تعيش فيه الكاتبة تشبه ابقات احملبة‬
‫أو أزهارها أو ورودها عندان ‪ .‬ويف عنوان كتاب مستغامني الشعري حتل " اللهفة" تحل "اللعنة" فينتهي األمر إىل عبارة عالقة بني داللتني‬
‫داللة اللعنة ‪ ،‬وداللة اللهفة ‪ ،‬وكأنه هلفة احلب لعنة ومعاانة‪ ،‬وكأن لعنه احلب خفف من وقعها ما فيه سن هلفة وحنني‪.‬‬
‫حني ينتقل اخلطاب أو النص من لغة إىل لغة على جسر الرتمجة تتضاعف األسئلة‪ .‬هنا ينبغي لنا أن نعرج على بعض ما يناط‬
‫بدراسات الرتمجة وهى تتناول األساليب البالغية والتداولية املختلفة‪( .‬وهل الرتمجة اجلميلة األمينة إال مهارة وقدرة على التنقل بني تلك‬
‫األساليب‪ ،‬وما حيملها من مفردات وتراكيب مبا يناسب السيا ؟) من األامية مبكان أن تتناول تلك الدراسات عالقات القوة واهليمنة‬
‫واأليديولوجيا يف النص األصلي ‪ ،‬وحتوالهتا يف النص املرتجم‪ .‬كيف تنتقل عالقات القوة والتأثري من األصل إىل الرتمجة؟ هل يبقى الفاعل‬
‫فاعال‪ ،‬واملنفعل منفعال‪ ،‬واملفعول به مفعوال به ؟ هل يبقى القاتل قاتال‪ ،‬والضحية ضحية؟ هل ترتجم ‪ Jone Killed Mary‬إىل‬
‫"جون قتل مارى"‪ ،‬أم "لقيت ماري حتفها"‪ ،‬أم "قتلت ماري"؟ و ما داللة ذلك على غاايت الرتمجة ‪ ،‬وسياقها‪ ،‬والعوامل املؤثرة فيها؟‬
‫وكيف ترتجم وجهة نظر النص األصلي ومؤلفه؟ هل يبقى التهكم هتكما‪ ،‬والسخرية سخرية ‪ ،‬والنقد نقدا‪ ،‬أم يتجمل النص يف الرتمجة ؟‬
‫وما هو حظ الرتمجة من اليقني ابلنسبة إىل األصل ؟ هل تظل أفعال الكالم على حاهلا يف الرتمجة ‪ ،‬فيبقى الطلب طلبا‪ ،‬واألمر أمرا‪،‬‬
‫والنهي هنيا‪ ،‬واخلرب خرباً‪ ،‬واحلكم حكما؟ أين مباشرة "افتح الباب" من مداراة "‪"Would you please open the door‬‬
‫وتلطفها؟ وأين كياسة " ممكن لو مسحت تسكت؟" من فظاظة "‪ ، "!Shut up‬وهل ترتتب على "أان أعلنكما زوجا وزوجة " يف‬
‫الثقافة العربية احلقو والواجبات نفسها اليت ترتتب على "‪ "I declare you man and wife‬يف الثقافة اإلجنليزية؟ (مزيد‪،‬‬
‫‪ .)1121‬وهذا كله غيض من فيض األسئلة املمكنة يف تفصيل بعض ما تستطيع دراسات الرتمجة أن تفعل يف سيا التداولية‪.‬‬
‫(‪ )16‬أداة تسييس اخلطاب أو النص‬
‫ينبغي أن نفهم "التسييس" مبعناه الرحب ‪ ،‬فكل إدارة أو تدبري سياسة ‪ ،‬وكل توجيه سياسة ‪ ،‬وكل ميل إىل جهة على حساب‬
‫غريها سياسة ‪ ،‬وكل كالم عن الصواب واخلطأ سياسة ‪ ،‬وكل كالم عن "الصاحل العام" و"مصلحة البلد"‪ ،‬واخلري والشر‪ ،‬والفضيلة‬
‫والرذيلة سياسة ‪ ،‬وكل أمر وهني سياسة ‪ ،‬ومن أكثر أدوات السياسة نفعا وأتثريا اخلوف والطمع‪ .‬من كالم اجلاحظ يف (الرسائل ‪،‬‬
‫نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪" :)14‬فالرغبة والرهبة أصال كل تدبري‪ ،‬وعليها مدار كل سياسة "‪ .‬من هنا ينبغي النظر يف كيف "يسوس"‬
‫اخلطاب أو النص املتلقي‪ ،‬على معىن ماذا يريده أن ختار؟ وأي وجهة يريد له أن يويل؟ وأي حزب يريد له أن يساند؟ وأي عقيدة أو‬
‫مذهب يريد له أن يتبىن؟ وأين يرى اخلري والشر ؟ وأين يرى "الصاحل العام"؟ وأين يرى الفضيلة والرذيلة؟‬
‫‪995‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ليس منتجو النصوص واخلطاب سواء يف سياستهم القراء واملتلقني‪ ،‬فمنهم من يسوسهم تصرحيا‪ ،‬ومنهم من يسوسهم تلميحا؛‬
‫منهم من "يقرع" ابلعبارات القاطعة الساطعة واألوامر والنواهي‪ ،‬والرتغيب والرتهيب‪ ،‬ومنهم من يكتفي ابإلشارة؛ منهم من يكشف عن‬
‫نفسه ومنهم من يضع كالمه على لسان بعض املشاركني يف اخلطاب‪ .‬هذه فقرة ابللغة اإلجنليزية من امتحان الصف الثاين من املرحلة‬
‫اإلعدادية يف إدارة من إدارات مصر التعليمية‪ ،‬يناير ‪ 1125‬ترمجتها احلرفية‪" :‬كان هناك خروف كبري‪ .‬كان يريد أن يصبح الناس مجيعا‬
‫خرافا مثله ‪ .‬وكان يغضب كثريا حني يناديه الناس ابخلروف‪ .‬أخذ هو وقطيعه من اخلرفان يهامجون كل من يناديهم هبذا االسم‪ .‬اجتمع‬
‫الناس وذهبوا إىل األسد يطلبون منه أن يقيهم شر اخلرفان وخطرهم ‪ .‬سجن األسد اخلرفان مجيعا يف حديقة احليوان غري أن بعضهم‬
‫هرب إىل مزرعة أخرى"‪ .‬وهذه أبيات من قصيدة نصار عبد هللا (حكاية ما حدث للغزالني الثكالنني مع ملك الغابة)‬
‫هذان اثنان غزاالن عليالن‪،‬‬
‫وهذا ملك الغابة أسد‪..‬‬
‫يف قوة صخر صلب‪ ،‬لكن يف حكمة إنسان ‪،‬‬
‫وهذان غزاالن أليفان ضعيفان ‪..‬‬
‫سجدا واما يرجتفان ويرجتفان ‪..‬‬
‫واشتكيا لألسد القادر من غدر الذئب الغادر ‪..‬‬
‫‪...................‬‬
‫قليب يتمز حزان من حزنكما‬
‫قليب من مأساتكما ذاب‬
‫‪.....................‬‬
‫وأان ال أملك كي أأنى بكما من كل ذائب الدنيا‬
‫بل من كل عذاب الدنيا‬
‫إال أن أدنو بكما مين‬
‫ستصريان أبحشائي أقرب يل من كل الكون ‪..‬‬
‫بل أقرب يل مين‪.‬‬
‫إين حكم عدل فامتين‬
‫أيتها الغابة للعدل امتين‪.‬‬
‫صوراتن لألسد ملك الغابة إذن‪ .‬يف قصيدة نصار عبد هللا‪ :‬صورة األسد الذي حيتال على الغزالني الثكالنني ويقنعهما أن‬
‫أفضل مكان ختبئان فيه من خطر الذئب هو "بطن األسد" ‪ .‬هذه طريقة الشاعر الساخرة يف نقل املعلومة البسيطة وهي أن األسد قرر‬
‫التهام الغزالني ‪ ،‬وقد ذهبا لفرط سذاجتهما إليه يطلبان العدل واحلماية ‪ ،‬كما تذهب الشعوب "الربيئة" "الطيبة" إىل القوى الكربى‬
‫تطلب عندها العدل واحلماية بعضها من بعض‪ .‬فلننح السخرية جانبا‪ ،‬أليست هذه صورة األسد اليت نعرفها؟ وهل يعرف إنسان حقيقة‬
‫األسد وال يتقيه وال يرهبه ويفر منه؟‬
‫أليس األسد يف عقولنا كناية عن كل ما ينبغي الفرار منه؟ يف القصة اليت وردت يف امتحان اللغة اإلجنليزية أعاله‪ ،‬يصبح األسد‬
‫‪ -‬حلاجة يف نفس مؤلفها غري احملنك يف ظروف اترخية ثقافية خاصة قدوة يف العدل ‪ ،‬ال حتدثه نفسه أن يلتهم اخلراف والبشر‪ .‬أما‬
‫اخلراف فتصبح خطرا جسيما يهدد حياة البشر ويقض مضاجعهم‪ .‬أي عقل يقبل هذا التشويه املقصود والتحريف الساذج ؟ قد يقبل‬
‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫القارئ قصة كهذه يف سيا فكاهي ساخر‪ ،‬وقد يقبله يف سيا تصوير مدينة فاضلة ختفي فيها الشر وتصبح مجيع الكائنات ‪-‬‬
‫مجيعها مبا يف ذلك "اخلرفان" ‪ -‬خرية طيبة ‪" ،‬وال جيري بينهم إال املصادقة وحسن املعاشرة واملرافقة فتمحى من لوح صدورهم نقوش‬
‫العداوة واملنافقة فيطري القطا مع العقاب ويبيت العصفور مع الغراب ويرعى الذئب مع األرنب ويتآخى الديك والثعلب ويف اجلملة ال‬
‫يتعدى أحد على أحد فتأمن الفارة من اهلرة واخلروف من األسد" (ابن عربشاء‪ :‬فاكهة اخللفاء ومفاكهة الظرفاء‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪،‬‬
‫ص ‪.)234‬‬
‫يستطيع املتلقي أن يتسامح مع خمالفة املنطق والعقل يف نص "فاكهة ومفاكهة" كهذا النص ‪ ،‬أو يف فيلم على قناة أطفال ‪ ،‬أما‬
‫يف القصة التعليمية اليت وردت يف االمتحان ‪ -‬وليس هلا أصل يف أي كتاب قصص أو خرافات ‪ -‬فالتفسري الوحيد احملتمل هو الغرض‪،‬‬
‫غرض املؤلف ورغبته يف سياسة طالبه وطالباته وتوجيههم حيث يريد‪.‬‬
‫(‪ )17‬أداة اكتشاف السبك واحلبك‬
‫اي عذبة العيون‬
‫ال تبعدي‬
‫فالكون حني تبعدين ال يكون‬
‫الكون أنت كافه والنون‬
‫وأنت واو الوصل والوصول‬
‫وسره املكنون‬
‫وجسدي املسكون ابملخافة‬
‫يكابد ارجتافه‬
‫وصارخا يقول‪:‬‬
‫توحدي ‪ ..‬توحدي‬
‫توحدي يب‪ ،‬فازدواجنا خرافة‬
‫تكاد اي حبيبيت تقتلين املسافة‬
‫(سعد مصلوح)‬
‫كيف ترتابط أجزاء النص وما الدالالت اليت تنتجها أدواة السبك والرتابط بني تلك األجزاء‪ -‬املفردات والعبارات واجلمل‬
‫والفقرات‪ .‬انظر مثال "هو فقري لكنه راض سعيد" ‪".‬لكن حرف استدراك‪ .‬ومعىن االستدراك أن تنسب حكما المسها‪ ،‬خالف احملكوم‬
‫عليه قبلها‪ .‬كأنك ملا أخربت عن األول ‪ ،‬خبرب‪ ،‬خفت أن يتوهم من الثاين مثل ذلك ‪ ،‬فتداركت خبربه ‪ ،‬إن سلبا‪ ،‬وإن إجيابيا‪ .‬ولذلك‬
‫ال يكون إال بعد كالم ‪ ،‬ملفوظ به ‪ ،‬أو مقدر‪" ".‬وال تقع لكن إال بني متنافيني"‪ ،‬بوجه ما‪ .‬فيكون ما قبلها نقيضا ملا بعدها‪ ،‬أو ضدا‬
‫أو خالفا‪ ،‬وتتوسط بني "كالمني متغايرين‪ ،‬نفيا وإجيااب‪ .‬فتستدرك هبا النفي ابإلجياب‪ ،‬واإلجياب ابلنفي" (املرادي‪ :‬اجلىن الداين يف‬
‫حروف املعاين ‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪ ،215‬بتصرف)‪ .‬ال تقتصر وظيفة "لكن" يف "هو فقري لكنه راض سعيد" على ربط‬
‫اجلملتني بل تتجاوز ذلك إىل الداللة على االعتقاد الدارج أن الفقر والسعادة نقيضان أو متغايران‪.‬‬
‫تبدأ أبيات سعد مصلوح خبطاب احملبوبة ‪" -‬اي عذبة العيون" ‪ -‬ويظل اخلطاب هو الصيغة اليت هتيمن على بقية األبيات ‪-‬‬
‫"تبعدي" ‪" ،‬تبعدين"‪" ،‬أنت" ‪" ،‬وأنت" ‪" ،‬توحدي" ‪" ،‬توحدي" ‪" ،‬توحدي يب"‪" ،‬اي حبيبيت" ‪ -‬يقع التفات عن هذه الصيغة مرتني‪:‬‬
‫مرة إىل ضمري املتكلم يف "وجسدي املسكون ابملخافة" ‪ ،‬ومرة إىل املتكلم واملخاطب‪ ،‬وقد مجعتهما "ان" املتكلمني بعد طول انتظار‪.‬‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫ومن عجب أن الكلمة اليت تتصل هبذا الضمري هي كلمة "ازدواج" وكأن الضمري جيتهد يف قهر املسافة بينهما‪ ،‬ومن أسباب السبك يف‬
‫األبيات اجلناس بني "الكون" و"يكون" و"الكاف والنون" و"املكنون" وبني "الوصل" و"الوصول" وتكرار فعل الطلب "توحدي" ‪ -‬إىل‬
‫ما يف األبيات من إيقاع ظاهر وتقفية بني "العيون" و"يكون" و"النون" و"املكنون" وبني "ارجتافه" و"املخافة" و"خرافة" و"املسافة"‪.‬‬
‫ترتابط األبيات كذلك من خالل عالقات السببية – ومن معاين الفاء اجلوابية الربط ‪ ،‬والسببيه‪ ،‬والرتتيب‪ ،‬والتفسري‪ ،‬يف "ال تبعدي ‪،‬‬
‫فالكون" "توحدي يب‪ ،‬فازدواجنا خرافة"‪.‬‬
‫تبدأ األبيات بطلب القرب ‪ ،‬وتنتهي برهبة "املسافة" اليت تكاد تقتل العاشق املستهام‪ .‬وبني البداية والنهاية يتكرر طلب‬
‫التوحد‪ .‬االزدواج بني احملبني "خرافة"‪ ،‬فاألصل هر التوحد فهما روح وقلب توزعا على جسدين ‪ .‬ويف احلب ختزل الكون يف شخص‬
‫احملبوب إليه ينتهي ومنه يبدأ‪ .‬يصري احملبوب كاف الكون ونونه ويصري واو الوصل والوصول الوصول إىل اليقني والتحقق واالكتمال‪.‬‬
‫والوصل ضد اهلجران ‪ .‬والوصل خالف الفصل ‪ .‬والكاف والنون اما آلة اخللق‪.‬‬
‫استعاراتن لغويتان‪ ،‬األوىل‪ :‬احملبوبة هي الكاف والنون ‪ ،‬والثانية‪ :‬هي واو الوصل والوصول ‪ -‬تنقالن اخلطاب من مستوى‬
‫احلب البشري إىل آفا عرفانية روحانية أعلى ‪ ،‬فيصري احلب اباب للتوحد واكتمال الروح واستكناه سر الكون املكنون وبه تنتهي رجفة‬
‫الشك واخلوف سكوان ويقينا‪ .‬مع احلب قد تنتهي املفارقة ويسكن التضاد والطبا بني االزدواج والتوحد‪ ،‬بني "ال تبعدي" واملسافة‪،‬‬
‫بني خرافة االنفصال وسر الوصل والوصال‪.‬‬
‫يتصل ابلكالم عن السبك يف النص الكالم عما فيه من حبك‪ .‬يف الكالم عن السبك نبحث عن ترابط البناء‪ .‬أما يف الكالم‬
‫عن احلبك فنبحث عن ترابط املعىن‪ .‬بعبارة أخرى ‪ :‬ترابط املبىن وترابط املعىن‪ ،‬على الرتتيب‪ .‬درجت شروحات القصائد العربية على‬
‫البحث عما فيها من وحدة عضوية ‪ ،‬وال ابس ابلكالم عن الوحدة العضوية يف حتليل النصوص املعاصرة على أن يتسع املفهوم ليستطيع‬
‫استيعاب ما شهدت النص من تشظ وتفتيت واهنيار السردايت الكربى لصاحل ذوات متعددة وإعادة النظر يف البىن التقليدية يف‬
‫القصيدة والقصة والرواية‪.‬‬
‫(‪ )18‬أداة اكتشاف الشفرة‬
‫أي لغة ترد يف اخلطاب أو النص ؟ وهل ترد فيها عالمات غري لغوية ‪ :‬صور أو رموز أو ألوان أو غري ذلك ؟‪ .‬يف (البيان‬
‫والتبيني) يقرر اجلاحظ أن "مجيع أصناف الدالالت على املعاين من لفظ وغري لفظ‪ ،‬مخسة أشياء ال تنقص وال تزيد‪ :‬أوهلا اللفظ ‪ ،‬مث‬
‫اإلشارة ‪ ،‬مث العقد‪ ،‬مث اخلط ‪ ،‬مث احلال اليت تسمى نصبة‪ ،‬والنصبة هي احلال الدالة‪ ،‬اليت تقوم مقام تلك األصناف ‪ ،‬وال تقصر عن‬
‫تلك الدالالت"‪ .‬مخسة أنواع من الدوال هي الوحدات األساسية اليت تتشكل منها معظم األنظمة العالماتية اليت حتيط بنا‪ :‬اللفظ (اللغة‬
‫املكتوبة واملنطوقة)‪ ،‬واخلط (الرسم واألشكال التوضيحية وما إليها)‪ ،‬والعقد (األرقام والرموز الرايضية وما ينتج عنها من معادالت وصيغ‬
‫)‪ ،‬واحلال (النصبة " الناطقة بغري اللفظ واملشرية‬
‫بغري "اليد" واليت تقوم مقام بقية منتجات الداللة وال تقصر عنها أو بعبارة أخرى هي داللة اجلوامد والصوامت)‪" ،‬وذلك ظاهر يف خلق‬
‫السماوات واألرض ‪ ،‬ويف كل صامت وانطق ‪ ،‬وجامد وانم‪ ،‬ومقيم وظاعن‪ ،‬وزائد وانقص ‪ ،‬فالداللة اليت يف املوات اجلامد‪ ،‬كالداللة‬
‫اليت يف احليوان الناطق‪ ،‬فالصامت انطق من جهة الداللة ‪ ،‬والعجماء معربة من جهة الربهان" (ص ‪ - )15‬واإلشارة (اإلمياء وحركة‬
‫اليدين والعينني واحلاجبني والشفتني يف غري كالم وحتريك السيف والسوط واملنكبني)‪ .‬هذه لفتة ابرعة من اجلاحظ تفتج أبوااب جديدة‬
‫يف البالغة العربية‪ ،‬فالكالم عن الرسم ينقلنا إىل بالغة الصورة والنصوص البصرية ‪ ،‬والكالم عن اإلشارة ينقلنا إىل الكالم عن لغة‬
‫اجلسد‪.‬‬

‫‪992‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫من تطورات الدراسات اللغوية الغربية جتاوزها اللغة مبعناها التقليدي إىل اللغة مبعىن كل ما ينتج داللة أو معىن‪ .‬مل يعد من‬
‫املستغرب اليوم الكالم عن بالغة الصورة واالستعارة البصرية‪ .‬العالقة بني الكلمة والصورة عالقة قدمية ‪ .‬كانت البداايت البشرية األوىل‬
‫مع الرسم على جدران الكهوف واملعابد وظلت الرسومات تبتعد عن املطابقة بني الرسم واملرسوم وتزداد جتريدا ورمزية حىت انتهت إىل‬
‫حفنة من احلروف يف كل لغة‪ .‬مل تفقد الكلمات صلتها جبذورها التصويرية ‪ ،‬وظلت غاية مهمة من غاايت من يكتب أن يرسم "صورة‬
‫فنية" انبضة حية‪ ،‬وظل "الرسم ابلكلمات" ‪ -‬بعبارة نزار قباين ‪ -‬خالصا حني تنغلق كل األبواب‪.‬‬
‫أال تستطيع أن "تتصور" املشهد الذي يصفه امرؤ القيس حني يقول‪" :‬كأين غداة البني يوم حتملوا‪ /‬لدى مسرات احلي انقف‬
‫حنظل "قافلة احلبيبة تتأهب للرحيل واحملب البائس تنهمر دموعه وكأنه يقطع نبات احلنظل؟ ومن فرط مرارة احلنظل تنهمر دموع احملب‬
‫اهنمارا‪ .‬صورة معربة غري انفرة عن بيئتها اللغوية ‪ ،‬وال عن بيئتها الثقافية املادية ‪ ،‬وقد تعدل صورة امرأة معاصرة تقف يف املطبخ وتنهمر‬
‫دموعها وهي "تقشر" البصل تقشريا ‪ .‬مشهد آخر "نراه" يف أبيات عصام أبو زيد يف قصيدة (مدينة ) من ديوان (احلياة السردية‬
‫للمجنون األخضر) يف قاع العامل توجد ألف مدينة فارغة ومسحورة‪ /‬سكاهنا األشباح يرقصون ويعزفون موسيقى ‪ /‬أربعون عاما أحاول‬
‫الوصول إليهم ‪ /‬أعرف أنين واحد منهم‪ /‬شبح مار أغواه النور" ‪ .‬من عالمات بالغة القصيدة وأتثريها أن "يتصور" املتلقي "مشهد"‬
‫األشباح يف املدينة املسحورة يرتاقصون ومشهد الشبح الذي هرب من املدينة وضل طريقه إىل عاملنا‪ ،‬غري أنه ظل ممسوسا بسحر املدينة‬
‫الفارغة‪ .‬وقد ترد على اخلاطر يف هذه اللحظة صورة "وادي عبقر" حيث يولد الشعراء‪.‬‬
‫دارت األايم دورهتا وانقلب احلال واجتهد دارسو البالغة احلديثة يف الغرب يف العثور على مصطلحات ومفردات للكالم عن‬
‫الصورة ‪ ،‬أي ترمجة الصورة إىل كلمات ‪ .‬تعرف هذه الرتمجة ابلرتمجة بني الشفرات أو بني األنظمة التعبريية‪ ،‬حنو ترمجة قصيدة إىل‬
‫مقطوعة موسيقية ‪ ،‬أو ترمجة لوحة إىل قصيدة أو شرحها بنص لغوي‪ .‬من هنا تطورت دراسات لغوية حتليلية تعرف ابلدراسات متعددة‬
‫الوسائط )‪ (multimodal‬؛ أي الدراسات اليت ال تقتصر على حتليل الكلمات بل تتجاوزها إىل حتليل كل ما حييط ابلكلمات من‬
‫العالمات وطرائق إنتاج الداللة اليت خلصها اجلاحظ يف (البيان والتبيني) ووردت إشارة إليها فيما سبق‪.‬‬
‫أين جند تعريفا مالئما لبالغة الصورة من الرتاث البالغي العريب ؟ أركان البالغة اللغوية هي اللفظ واملعين والتأليف ‪ -‬أو‬
‫الصياغة أو النظم‪ .‬فلنستبدل ابللفظ العالمة أو الصورة لنحصل على تعريف إجرائي أويل قابل للتطوير نستخدمه يف حتليل النصوص‬
‫البصرية املختلفة ولنرتك مؤقتا هذا احلشد من املصطلحات العالماتية يف الكتب املرتمجة عن دي سوسري‪ ،‬وبريس ‪ ،‬وإيكو‪ ،‬وتشاندلر‪،‬‬
‫وسونيسون وغريهم‪ .‬إذا أركان بالغة الصورة هي‪ :‬الدال ‪/‬الصورة أو الرسم‪ ،‬واملدلول‪ /‬املعىن ‪ ،‬وأتليف أو صياغة النص البصري‪ .‬حني‬
‫نتناول الدال نناقش عناصر احلجم والشكل واللون والعالقة مع الواقع والسيا احمليط به وما إىل ذلك ‪ .‬وحني نتناول املعىن البد أن‬
‫نقف على الداللة احلرفية أو القريبة ‪ ،‬وكذا الدالالت اإلحيائية واجملازية واألسطورية ‪ ،‬كما ينبغي أن نتناول ما يتضمنه الدال أو الدوال‬
‫من استعارة أو تشبيه إن وجد‪ .‬أما النظم والصياغة أو التأليف فيشمل العالقات بني الدوال (الدمج واالختيار) والعالقات بني النص‬
‫البصري والنص اللغوي إن وجد‪ .‬وكما هو احلال يف البالغة التقليدية ينبغي أن يتسلح من يريد قراءة الصورة مبا يكفي من معارف‬
‫ومهارات وأدوات منها معرفة دالالت األلوان وأساسيات التصميم ‪ .‬تستطيع أن تتذو قصيدة من غري أن تكون انقدا‪ ،‬لكنك ال‬
‫تستطيع أن تكتب عنها دراسة نقدية رصينة من غري أن تلم مبفاهيم النقد األديب وأدواته وطرائقه ‪ .‬تستطيع كذلك أن تتذو صورة أو‬
‫لوحة ‪ ،‬لكنك ال تستطيع أن تكتب عنها دراسة نقدية من غري إتقان أدوات التحليل البصري واستيعاب مفاهيمه‪.‬‬
‫ماذا تقرأ يف الصورة التالية (صورة رقم ‪)2‬؟ تستطيع أن تبدأ من األلوان فتقف على دالالت التباين بني األبيض واألسود من‬
‫جهة ‪ ،‬وبقية األلوان من اجلهة األخرى ‪ ،‬بني بداوة األبيض واألسود وفقراما وثراء بقية األلوان‪ .‬تستطيع كذلك أن تالحظ احلجم ‪،‬‬
‫فتقف على رحابة األبيض واألسود (الواقع‪ /‬هنا‪ /‬اآلن) وضيق النافذة اليت تطل على األلوان الزاهية ‪ .‬تستطيع كذلك أن تتناول لغة‬
‫‪992‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫جسد الصيب يف الصورة وقد أدار ظهره للواقع الكئيب وهب وشب بتطلع إىل واقع آخر ال يعيشه وال يستطيع الوصول إليه إال ابلنظر‪.‬‬
‫تستطيع كذلك أن تتناول كل عالمة من زاوية دالالهتا احلقيقية ودالالهتا اجملازية‪ .‬ماذا تعين "النافذة" يف املعجم ؟ فتحة تطل منها على‬
‫العامل اخلارجي ؟ لكنها يف النص البصري الراهن تتجاوز تلك الداللة احلقيقية إىل التعبري عن التطلع واألمل ‪ .‬إذن تستطيع أن ترتجم‬
‫الصورة إىل كلمات ‪ ،‬بل تستطيع أن تستلهم بيت الطغرائي وتسمع الصيب الفقري يهتف "أعلل النفس ابآلمال أرقبها‪ /‬ما أضيق العيش‬
‫لوال فسحة األمل"‪ .‬وإذن ‪ ،‬تصلح مصطلحات البالغة التقليدية للكالم عن بالغة الصورة ‪ ،‬فتستطيع أن ترى يف مالبس الصيب‬
‫"كناية" عن الفقر‪ ،‬وأن ترى "ترادفا" بني النافذتني يف فضاء األبيض واألسود‪ ،‬و"طباقا" بني عامل الصيب الراهن والعامل الذي يصبو إليه‪.‬‬

‫صورة رقم (‪)1‬‬


‫اهنيار احلدود والفواصل بني النخبوي والشعيب‪ ،‬أو بني الثقافة العالية والثقافة الدارجة املبتذلة مسة من مسات احلداثة وما بعدها‪.‬‬
‫جتد ذلك يف غناء اللميب "حب إيه" بطريقته اللمباوية إىل معاجلاته اللمباوية روائع الدراما والسينما املصرية يف "فيفا أطاطا"‪ .‬وجتد ذلك‬
‫بفداحة يف اإلعالانت ‪ -‬من إعالن جهينة وعندها "خرب احلليب اليقني" إىل "حسابك معااي عصري" و "من حق الفاكهة تغري وتطلب‬
‫ابلتغيري"‪ .‬ليس كل اهنيار من هذا النوع مرذوال وليست غاايته جتارية يف كل األحوال‪ .‬وقد تقدم أان نعيش زمن الباروداي (احملاكاة‬
‫الساخرة) مبعىن الكلمة‪.‬‬

‫صورة رقم (‪)2‬‬


‫يف النص أعاله اسم ونص لغوي ونص بصري‪ .‬العالمة الوحيدة يف النص البصري هي صورة الزعيم "مصطفى كامل" وهي‬
‫عالمة أيقونية‪ ،‬أي أن العالقة بني الدال (الصورة) واملدلول (الشخص الذي تشري إليه) عالقة تطابق‪ .‬النص اللغوي اسم أغنية ملطرب‬
‫معاصر امسه "مصطفى كامل" ‪" .‬عم قول اي رب" ‪ .‬الصورة صورة الزعيم الراحل‪ ،‬واألغنية أغنية املطرب املعاصر‪ ،‬أما االسم فهو نقطة‬
‫االلتقاء بني العاملني وبني الزمنني ‪ ،‬فهو اسم الزعيم واملطرب معا (تشابه االمسني كان مربرا للفكاهة يف مشهد جيمع "حزلقوم" و‬

‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫"جريمني" يف فيلم "ال تراجع وال استسالم")‪ .‬وبني العاملني تطابق آخر ضمين‪ ،‬هو التطابق بني رسالة األغنية اليت تدعو إىل األمل وترك‬
‫اإلحباط واليأس ومقولة رائجة للزعيم الراحل هي مقولة "ال أيس مع احلياة وال حياة مع اليأس"‪.‬‬
‫(‪ )19‬أداة اكتشاف املعاين احملتملة واملعاين السياقية‪.‬‬
‫ماذا تعين كلمة "قطة"؟ قد ختطر على ابلك صورة الكائن األليف ‪ ،‬أو صورة الكائن املخيف الذي ينشب أظفاره يف من‬
‫يهاجم صغاره ‪ ،‬أو صورة قطه شاردة متوء مواء مؤثراً وقد يذهب بك اجملاز إىل تصورات استعارية عن امرأة أو فتاة‪ .‬وقد ختطر على‬
‫ابلك تعابري "القطط السمان"‪ ،‬و "القط والفأر"‪ ،‬و "من دخلت النار يف هرة "‪ ،‬والسياقات اليت تتصل بتلك التعابري‪ .‬تبقى معاين‬
‫املفردات والعربات عالقة غائمة ال جيليها إال ورودها يف سيا ‪ ،‬وهذا بعض ما جند يف إشارة اجلاحظ املهمة‪" :‬املعاين القائمة يف صدور‬
‫الناس املتصورة يف أذهاهنم واملتخلجة يف نفوسهم ‪ ،‬واملتصلة خبواطرهم‪ ،‬واحلادثة عن فكرهم‪ ،‬مستورة خفية ‪ ،‬وبعيدة وحشية‪ ،‬تحجوبة‬
‫مكنونة ‪ ...‬وإمنا حييي تلك املعاين ذكرهم هلا‪ ،‬وإخبارهم عنها‪ ،‬واستعماهلم إايها‪ ،‬وهذه اخلصال هي اليت تقرهبا من الفهم ‪ ،‬وجتليها‬
‫للعقل‪ ،‬وجتعل اخلفي منها ظاهراً‪ ،‬والغائب شاهدا ‪ ،‬والبعيد قريبا‪ ،‬وهي اليت تلخص امللتبس ‪ ،‬وحتل املنعقد‪ ،‬وجتعل املهمل مقيدا‪،‬‬
‫واملقيد مطلقا‪ ،‬واجملهول معروفا‪ ،‬والوشي مألوفا‪ ،‬والغفل موسوما‪ ،‬واملوسوم معلوفا‪ ،‬وعلى قدر وضوح الداللة وصواب اإلشارة ‪ ،‬وحسن‬
‫االختصار‪ ،‬ودقة املدخل ‪ ،‬يكون إظهار املعىن ‪ ،‬وكلما كانت الداللة أوضح وأفصح ‪ ،‬وكانت اإلشارة أبني وأنور‪ ،‬كان أنفع وأجنع"‬
‫(البيان والتبيني ‪ ،‬ص ‪.)13‬‬
‫ماذا خطر ببالك حني تسمع مفردات "القمح" و"الرغيف" و "الطحني"؟ اقرأ هذه القصيدة مث انظر ما يبقى من خواطرك اليت‬
‫سبقتها عن تلك املفردات‪:‬‬
‫طحني ضائع‬
‫أموت كل ليلة وحدي‬
‫وأنت يف سريرك‪،‬‬
‫تسردين اترخا‪،‬‬
‫أو حترقني ما مضى‪،‬‬
‫أو حتيني ميتا يف الذاكرة‪.‬‬
‫هل تعرفني ما معىن أن أشم قمحك‬
‫دون أن أراين يف رغيفك؟‬
‫(أمحد الشهاوي)‬
‫(‪ )21‬أداة اكتشاف اللهجات اخلاصة وجماالهتا‬
‫كيف تشري لغة النص إىل اخللفية االجتماعية للمشاركني ‪ -‬ابلكالم أو الكتابة ‪ -‬فيه؟ وهل تتباين اخللفيات االجتماعية‬
‫للمشاركني يف اخلطاب يف النص ؟ وكيف حيدث التفاعل بني خمتلف الطبقات االجتماعية من خالل اللغة ‪ -‬يف حوار بني سيدة من‬
‫طبقة راقية وسائق من طبقة دنيا على سبيل املثل ؟وكيف تتنوع املفردات والرتاكيب من حقل معريف إىل غريه ‪ -‬لغة الطب واهلندسة‬
‫والكيمياء وغريها؟ هذه اقتباسات ثالثة من ثالثة كتب خمتلفة‪ .‬ليس من العسري اكتشاف نوع اخلطاب أو احلقل املعريف الذي ينتمي إليه‬
‫كل اقتباس‪:‬‬
‫‪" .2‬جرجا جبيمني ‪ -‬األوىل مكسورة ‪ -‬بينهما راء قرية بصعيد مصر يف غريب النيل هلا هنر مفرد وليست بشارفة على النيل وكانت هبا‬
‫وقعة بني حباشة صاحب بين عبيد وبني أصحاب املقتدر يف سنة ‪."311‬‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫‪" .1‬والصداع قد ينقسم من جهة مواضعه‪ ،‬فإنه رمبا كان يف أحد شقي الرأس وما كان من ذلك معتادا الزما‪ ،‬فإنه يسمى شقيقة ‪،‬‬
‫ورمبا كان يف مقدم الرأس‪ ،‬ورمبا كان يف مؤخر الرأس‪ .‬ورمبا كان تحيطا ابلرأس كله‪ ،‬وما كان من ذلك معتادا الزما‪ ،‬فإمنا يسمى‬
‫بيضة ‪ ،‬وخوذة تشبيها ببيضة السالح اليت تشتمل على الرأس كله"‪.‬‬
‫‪ " .3‬مث أشرفنا على القدس الشريف آخر ذلك النهار‪ ،‬ودخلنا بعد غروب مشسه ‪ .‬وأستقر منزل موالان قاضي القضاة ‪ ....‬ابملدرسة‬
‫املعمورة ‪ ،‬وابلقايتبائية مشهورة ‪ ،‬أسكن هللا ابنيها يف اجلنان أعلى القصور ‪ ...‬ولعمري مل تشهد العني أحسن من بنائها وال أعلى‬
‫‪ ،‬ومل يتمتع النظر أبلطف من رونقها وال أحلى‪ ،‬فكأهنا من حسنها وهبائها بنيت قواعدها على األفالك‪ ،‬ال سيما إذا وافتها‬
‫الشمس حبسن املقابلة من املشر يكاد سنا برقها يذهب ابألبصار ويف احلقيقة من نظر حق النظر علم أن هذا احلسن إمنا‬
‫أكتسبته من عطف اجلوار‪ .‬مث بيتنا ليلة الوصول مع حضرة املفيت يف أرض احلرم الشريف ورحبته الفسيحة‪ ،‬لنتدارك أماكن للنزول‬
‫يف الصبيحة"‬
‫يف االقتباس األول لغة واتريخ‪ ،‬غري أن تحور االقتباس هو وصف "موضع" يف صعيد مصر وحتديد موقعه بني غريه من املواضع‪.‬‬
‫إذن االقتباس من كتاب جغرافيا ‪-‬هو على سبيل التحديد من كتاب (معجم البلدان) لياقوت احلموي‪ ،‬نسخة موقع الورا ‪ .‬ملاذا‬
‫التأريخ يف كتاب جغرافيا؟ ألن املكان والزمان ال ينفصالن‪ ،‬فال شيء "يكون" أو يقع إال يف "مكان" وزمان ‪ .‬وال تثريب على احلموي‪،‬‬
‫وحنن نرى موسوعة ويكيبيداي حني تتناول مكاان تبدأ ابلتعليق على امسه مث تتناول جغرافيته واترخه وغري ذلك من مساته وصفاته‪.‬‬
‫يف االقتباس الثاين كالم عن وجع من أوجاع الرأس‪ ،‬هو الصداع‪ ،‬ومتييز أنواعه ‪ .‬هو كالم يف الطب‪ ،‬لكنه ليس ككالم األطباء‬
‫اليوم ‪ ،‬واالقتباس من كتاب (القانون يف الطب) البن سينا‪.‬‬
‫يف االقتباس الثالث ال يقتصر الكالم على األماكن‪ ،‬بل يتجاوز ذلك إىل الكالم عن االنتقال من مكان إىل مكان يف لغة‬
‫مسجوعة تشبه لغة املقامات‪ ،‬مبا يرشح االقتباس لالنضواء حتت "أدب الرحالت" االقتباس من كتاب تحب الدين احلموي‪ :‬حادي‬
‫األظعان النجدية إىل الداير املصرية‪( ،‬نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪ .)4‬ولعلنا نالحظ التنقل بني اجلمل اخلربية التقريرية يف الكالم عن‬
‫جرجا والكالم عن الصداع ‪ ،‬مث العودة إىل املاضي يف سرد واقعة اترخية‪ ،‬ويف سرد تفاصيل الرحلة‪.‬‬
‫(‪ )21‬أداة اكتشاف التناص‬
‫الشاعر املعلم‬
‫إبراهيم طوقان‬
‫شوقي يقول وما درى مبصيبيت‬
‫قم للمعلم وفه التبجيال‬
‫اقعد فديتك هل يكون مبجال‬
‫من كان للنشء الصغار خليال‬
‫ويكاد يفلقين األمري بقوله‬
‫كاد املعلم أن يكون رسوال‬
‫لو جرب التعليم شوقي ساعة‬
‫لقضى احلياة شقاوة ومخوال‬
‫حسب املعلم غمة وكآبة‬
‫مرأى الدفاتر بكره وأصيال‬
‫‪990‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫مئة على مئة إذا هي صلحت‬
‫وجد العمى حنو العيون سبيال‬
‫ولو أن يف التصليح نفعا يرجتى‬
‫وأبيك مل أك ابلعيون خبيال‬
‫كن أصلح غلطة حنوية‬
‫مثالً واختذ الكتاب دليال‬
‫مستشهدا ابلغر من آايته‬
‫أو ابحلديث مفصال تفصيال‬
‫وأغوص يف الشعر القدمي فأنتقي‬
‫ما ليس ملتبسا وال مبذوال‬
‫وأكاد أبعث سيبويه من البلى‬
‫وذويه من أهل القرون األوىل‬
‫فأرى (محارا) بعد ذلك كله‬
‫رفع املضاف إليه واملفعوال‬
‫ال تعجبوا إن صحت يوما صيحة‬
‫ووقعت ما بني البنوك قتيال‬
‫اي من يريد االنتحار وجدته‬
‫إن املعلم ال يعيش طويال‬
‫يف االقتباس أعاله من كتاب (حادي األظعان)نقرأ "يكاد سنا برقها يذهب ابألبصار" وهذا تنويع على جزء من آية يف القرآن‬
‫الكرمي (النور‪.)43 :‬بني الكتاب والقرآن الكرمي يف هذا املوضع إذن "تناص"‪ .‬والتناص تفاعل أي عالقة بني نصني ‪ .‬وقد ذهب جريار‬
‫جينيت (‪ -)2779‬يف مزيد (‪ - )1121‬إىل أن عالقات النص بنفسه وبغريه من النصوص ميكن تصنيفها إىل ما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬التناص ‪ : intertextuality‬قد يرد شامال كل ما يلي من أنواع التناص ‪ .‬وقد يشري على سبيل التحديد إىل اقتباس نص يف نص‬
‫غريه‪.:‬‬
‫‪ ‬النص املوازي ‪ : paratext‬املقدمات‪ ،‬واهلوامش‪ ،‬والشروحات‪ ،‬والعناوين الرئيسية والفرعية‪ ،‬واملراجع ‪ ،‬واإلهداءات ‪ ،‬وما إليها مما‬
‫حييط ابلنص‪.‬‬
‫‪ ‬املعمار النصي ‪ ،‬أو اجلنس اخلطايب ‪ architext‬الذي ينتمي إليه النص ‪ :‬كل نص ينتمي إىل نوع أو جنس أديب ‪ .‬من النصوص‬
‫ما تنتهك أشراط النوع الذي تنتمي إليه أو تتقاطع مع غريه من أنواع على حنو ما جند يف قصيده النثر والنثر الفين واملقامات‬
‫والقصة الشعرية‪.‬‬
‫‪ ‬النص الشارح ‪ – metatext‬من ذلك ما جند يف تعليقات نص على نفسه‪ .‬على حنو ما تقرأ يف نصوص اجلاحظ اليت ترد إشارات‬
‫إليها يف غريها هذا املوضع ‪.‬‬
‫‪ ‬النص الالحق ‪ ، hyper‬وعالقته بنص سابق ‪ ، hypo‬رمبا على سبيل احملاكاة الساخرة أو النقض أو املعارضة‪.‬‬

‫‪959‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫‪ ‬النص الفائق ‪ ،hypertext‬مبعناه اإللكرتوين الذي جنده على صفحات "الشبكة العنكبوتية" أو اإلنرتنت‪.‬‬
‫إن حديث التناص وما يتصل به حديث يطول ‪ ،‬من توظيف النصوص ألغراض إعالنيه تروجيية ‪" -‬عند جهينة اخلرب‬
‫اَّللُ َع َملَ ُك ْم َوَر ُسولُهُ َوالْ ُم ْؤِمنُو َن) يف‬
‫اليقني" (إعالن حليب جهينة) ‪ -‬إىل توظيفها لتحقيق غاايت سياسية ‪َ ( -‬وقُ ِل ْاع َملُوا فَ َسيَ َرى َّ‬
‫احلمالت االنتخابية ‪ -‬إىل "التشيري" أو املشاركة على الفيسبوك‪ ،‬إىل "السرقات األدبية" ‪ -‬وال بد من إعادة النظر يف صفة‬
‫"األدبية"‪ ،‬ألن السرقة ال ميكن أن تكون "أدبية"‪ ،‬وألهنا تقع يف األدب ويف غريه من أجناس اخلطاب‪ .‬يف البالغة العربية تصنيف‬
‫طريف لتلك السرقات إىل "نسخ"‪ ،‬و"مسخ"‪ ،‬و"سلخ" ‪ -‬وتعين على الرتتيب‪ :‬سرقة اللفظ والفكرة معا‪ ،‬وسرقة بعض اللفظ‪،‬‬
‫وسرقة املعىن دون اللفظ ‪ .‬ويتصل بذلك مثانية أمور هي (‪" )2‬االقتباس" ‪ -‬إعادة إنتاج جزء من نص سابق أو معاصر يف نص‬
‫آخر ‪ -‬و (‪" )1‬التضمني" ‪ – embedding‬وهو اقتباس فيه حتوير أو اجتزاء وفق ظروف النص احلديد – و (‪" )3‬العقد"‬
‫‪ -versification‬وهو نظم النثر ‪ -‬و(‪" )4‬احلل" – وهو نثر النظم ‪ -‬و (‪" )5‬التلميح" ‪ -allusion‬أي اإلشارة إىل مكان‬
‫أو شخص أو قصة معلومة – و (‪ )6‬االبتداء ‪ -‬أو براعة االستهالل ‪ -‬و (‪ )9‬التخلص ‪ -‬اخلروج من املقدمة إىل املوضوع – و‬
‫(‪ )2‬االنتهاء ‪ -‬أو حسن اخلامتة (اهلامشي‪ ،2777 ،‬ص ‪ -)333-315‬إىل ما سبق‪ ،‬ال بد أن نضيف احملاكاة الساخرة ‪ ،‬أو‬
‫الباروداي – ‪ parody‬تحاكاة نص سابق ومعاصر بغرض السخرية منه‪ ،‬أو من مؤلفه ‪ ،‬أو من سياقه ‪ ،‬أو من بعض ما يتناول‬
‫النص اجلديد‪ ،‬أو من هؤالء مجيعا‪ ،‬كما جند يف الشعر "احللمنتيشي" يف مصر مثال ‪ -‬واملعارضات والنقائض‪.‬‬
‫من أسئلة البحث عن التناص ‪ :‬كيف يبدأ النص أو اخلطاب وكيف ينتهي ؟ ما االقتباسات واإلحاالت اليت ترد فيه‪ -‬من‬
‫الكتب السماوية ومن الشعر ومن أدب احلكمة ومن أقوال مأثورة أو حكم دارجة ومن وسائل إعالم ومن أقوال آخرين ؟ الوقوف على‬
‫ما يف اخلطاب من اقتباسات وإحاالت خطوة مهمة‪ ،‬لكنها ليست كافية ‪ ،‬فال بد من تفسريها وتربير وجودها يف اخلطاب من خالل‬
‫الرجوع إىل سياقه وإىل سيا اإلحاالت واالقتباسات وإىل طبيعة املتكلم وانتمائه وغاايته السياسية والبالغية‪ .‬من أسئلة التناص ‪ :‬كيف‬
‫يستخدم النص أو اخلطاب نصا سابقا ‪ -‬على سبيل األسلبة أو تقليد األسلوب أو اقتباس األفكار أو العبارات واجلمل ؟ وهل يشري‬
‫النص الالحق إىل النص السابق؟ وما حظ النص أو اخلطاب من انتهاك حقو امللكية الفكرية لغريه من النصوص ؟ هل التناص‬
‫اختياري أم اضطراري؟ إذا كتبت قصة فال بد فيها من مكان وزمان وشخصيات وأحداث وحبكة وسرد‪ ،‬وإذا كتبت قصيدة خليلية فال‬
‫بد فيها من وزن وتشطري وتقفية‪ .‬ال مناص ‪ .‬أما ما ختتار من نصوص تقتبسها أو رموز وشخصيات حتيل إليها‪ ،‬فهذا اختيارك‪.‬‬
‫ومن أمثلة التناص تقاطع رواية (الكائن الظل) إلمساعيل فهد إمساعيل مع "لزوميات االنضباط من تعاليم عثمان اخلياط"‬
‫واقتباساهتا املباشرة منه‪" :‬مل تزل األمم يسىب بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزوا ‪ ،‬وما أيخذونه غنيمة ‪ ،‬وذلك من أطيب الكسب ‪ ،‬وأنتم‬
‫يف أخذ مال الغدرة والفجرة أعذر‪ ،‬فسموا أنفسكم غزاة ‪" ،"...‬ارعوا حرمة التحية ‪ ،‬وال تبدأوا األذى مبن بدأكم السالم ‪ ،‬حىت وإن‬
‫كان صاحب جاه أو غىن"‪ ..." ،‬ما سرقت جارا وإن كان عدوا‪ ،‬وال أخليت بكرمي‪ ،‬وال كافأت غادرا بغدره "‪ ... " ،‬ما خنت وال‬
‫كذبت منذ تفتيت" ‪( .‬بص ‪ .)45 -43‬وكذا االقتبار من (حيل اللصوص) للجاحظ‪" :‬اللص النجيب ال يقتل إال إذا حتقق أنه ميت‬
‫ال تحالة ‪ ،‬وعليه ‪ -‬إن وقع احملذور‪ -‬أن ينأى انفضا يده من الصنعة خمافة املطالبة ‪ ..‬ولو أخذان احملتال ‪ . .‬هو الذي ال يعمل إال‬
‫إبعمال عقله وابتداع وسائل تتوالد عن وسائل يقنع هبا ضحيته كي ينال بغيته‪ ،‬وهو إىل جانب فطنته وذكائه يكون لطيف املعشر دمثا‬
‫حلو اللسان ‪( "...‬ص ‪.)59‬‬
‫يف الكالم عن التناص ال مفر من استعارة النص بوصفه جسدا‪ .‬حني ينتقل عضو من جسد إىل جسد ال تنتظم حياه اجلسد‬
‫املنقول إليه إذا مل تنسجم خالاي العضو الوافد وصفاته معه‪ .‬وتبقى االقتباسات غري املربرة انفرة عن النص اجلديد‪ .‬اقرأ هذا النص القصري‬
‫وأتمل كيف ينسجم العضو اجلديد ‪ -‬كلمات من أغنية ألم كلثوم ‪ -‬مع النص الذي انتقل إليه ‪ ،‬والحظ كيف تتجانس أغنية ألم‬
‫‪959‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫كلثوم فيها ذكر "الشو " مع حالة الكاتبة الراهنة‪ ،‬يف عملية جراحية دقيقة ابرعة‪" :‬امسع أم كلثوم اآلن‪" :‬طول عمري أبقول‪ ،‬ال أان قد‬
‫الشو وليايل الشو ‪ ،‬وال قليب قد عذابه " اشتقت للقاهرة"‪( .‬خلود املعال‪ ،‬من صفحتها على الفيسبوك ‪ 22‬يناير ‪.)1125‬‬
‫ومن ابب أداء األماانت ‪ ،‬ال بد من التعريج على ما يف التناص من مهالك ومزالق ‪ ،‬أوهلا زعم من يستلهم نصا أن النص الذي‬
‫يستلهمه يصد عليه كما كان يصد على من نزل عليه ‪ ،‬فرتى بعضهم‪ ،‬وهو ال حيسن الصالة وال قراءة القرآن ‪ ،‬يتجرأ ويقتبس "‬
‫ك الْ ُق ْرآَ َن لِتَ ْش َقى" ‪ ،‬وكأنه املراد ابخلطاب يف النص القرآين الكرمي ‪ ،‬وحجته يف ذلك أن "العربة بعموم اللفظ ال‬ ‫طه ‪َ .‬ما أَنْ َزلْنَا َعلَْي َ‬
‫خبصوص السبب"‪ .‬ال أبس‪ .‬لكن انتقال اللفظ من سياقه القدمي إىل سيا جديد يستلزم أتهيال وهتيئة للسيا اجلديد كما يتهيأ جسد‬
‫ص ْرُك ْم َويُثَبِ ْ‬
‫ت أَقْ َد َام ُك ْم " يف محلة‬ ‫اَّللَ يَْن ُ‬ ‫مريض الستقبال عضو من جسد صحيح ‪ .‬هل ترى "اتجر املخدرات" الذي حيمل " إِ ْن تَ ْن ُ‬
‫ص ُروا َّ‬
‫انتخابية جسدا مناسبا النتقال الن القرآين؟‬
‫ومن مهالك التناص ‪ ،‬أن النصوص األدبية العربية اليت اختارت العودة إىل التاريخ واملوروث جتد نفسها يف مواجهة تحنة من‬
‫ثالث على األقل‪ .‬األوىل ‪ ،‬االهتام الساذج ابالنتحال والسرقة "األدبية"‪ ،‬الثانية ‪ ،‬االصطدام ابملقدسات وما ينتج عنه من احتماالت‬
‫التكفري واملصادرة ‪ ،‬الثالثة‪ ،‬جهل أكثر العرب مباضيهم القريب والبعيد مما يزيد من صعوبة القراءة ‪ ،‬حبيث تصبح املهمة مزدوجة‪ :‬االنتباه‬
‫إىل اإلحاالت واالقتباسات وفهم وظيفتها يف النص الراهن فضال عن التعامل مع هذا النص نفسه‪ .‬يف مثل هذا السيا القرائي املعقد‪،‬‬
‫تصبح املصادرة واالهتام ابلكفر واجلهل بطبيعة النص األديب واقتالع امللفوظات من سياقاهتا النصية أمورا متوقعة ومنطقية‪ .‬لكي تقف‬
‫على ما يتهدد املبدعني جراء ضيق أفق كثري من القراء اقرأ ما كتب أحدهم تعليقا على قصيدة (األربعون الزائفة) لتقى املرسى ‪ ،‬وليس‬
‫يف القصيدة ما يشني األربعني النووية وال السن النبوية‪" :‬إىل كل من حيارب التشيع يف مصر‪ ...‬ميسون السويدان تشيع الفحش والزندقة‬
‫والتشيع يف صالوهنا‪ .‬أين أنتميا حزب النور ‪ ..‬أين أنتميا خفافيش أمن الدولة ‪ ....‬األربعون ‪...‬ليست النووية ‪ ...‬ولكن ‪...‬الزائفة‬
‫‪"!...‬‬
‫(‪ )22‬أداة حتليل اخلطاب مبعناه الواسع‬
‫ال يقتصر اخلطاب مبعناه الواسع على طرائق التعبري اخلاصة بل يتجاوزها إىل السلوكيات غري اللغوية اليت تتصل هبذه التعابري‪.‬‬
‫من األصوات اليت تسمع أو احلروف اليت تقرأ وما يتشكل منها من كلمات فعبارات ‪ ،‬فجمل‪ ،‬فنصوص مكتوبة أو منطوقة ‪ ،‬إىل ما‬
‫حييط هبا من سيا أو موقف‪ ،‬ومن يشارك فيها من بشر وكائنات وموجودات‪ ،‬وما حييط هبا من بيئة وثقافة ‪ ،‬وما يسبقها من نصوص‬
‫‪ ،‬و طرائق إنتاجها وتلقيها ومقاصدها وغاايهتا‪ ،‬والتفاعالت اليت تشتمل واليت حتيط هبا‪ .‬قد تبدأ قراءة نص من اخلارج فتبدأ مقاربة‬
‫أبيات للمتنيب (‪ 354-313‬ه ‪ 765-725 /‬م) على سبيل التمثيل من مراجعة سريته وحياته ‪ -‬نبوغه وغروره ‪ ،‬وعالقاته املتقلبة‬
‫أبصحاب النفوذ خصوصا سيف الدولة وكافور‪ ،‬وترحاله‪ -‬والظروف اليت أحاطت بتأليف األبيات – موت "فاتك" وحنقه على كافور‪.‬‬
‫ال بد أن تتوقف املقاربة عند مكانة املتنيب الذي شغل اجلميع وسهر اخللق ختصمون يف أبيات شعره وظل يف قلب املشهد‬
‫الشعري العريب يف كل عصوره حىت أصبح رمزا له ودليال عليه‪ .‬وال بد أن يشار إىل غاايت شعره ومنها املدح وقد قيل إنه رمبا "مدح‬
‫بدون العشرة واخلمسة من الدراهم" ‪ ،‬وحتوالته الغريبة من املدح إىل اهلجاء ‪ -‬وقد وصف كافور يوما وانداه " أاب املسك " مث هجا لونه‬
‫وأصله وخسته ‪ .‬مث ينتقل التحليل إىل املعاين الكربى والغرض الشعري الذي ينتظم األبيات وهو الراثء الذي يشتمل التعبري عن مرارة‬
‫الفقد وذكر تحاسن الفقيد ومناقبه ‪ .‬وقد يرى يف األبيات خروجا من مقام الرضا إىل السخط ومعاتبة القدر‪.‬‬
‫املرثي يف األبيات هو فاتك الرومي (‪ 351‬ه ‪ 762‬م) وعنه جند يف (األعالم) للزركلي (نسخة موقع الورا ‪ ،‬ص ‪)953‬‬
‫بتصرف ‪ :‬امللقب ابجملنون لشجاعته ‪ ،‬ويقال ‪ :‬له فاتك الكبري‪ :‬أخذ من بالد الروم صغرياً‪ ،‬وتعلم اخلط يف فلسطني‪ .‬وكان يف خدمة‬
‫اإلخشيد فاعتقه واقطعه الفيوم وأعماهلا‪ ،‬فأقام هبا وتعرف ابملتنيب الشاعر‪ ،‬فأرسل إليه هدية قيمتها ألف دينار واتبعها هبدااي أخرى ‪،‬‬
‫‪955‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫فاتصلت املودة بينهما‪ ،‬ومدحه املتنيب‪ .‬وملا مات فاتك راثه املتنيب بقصيدة أوهلا‪" :‬احلزن يقلق والتجمل يردع" ‪ -‬القصيدة كاملة هنا‬
‫‪www.adab.com‬‬
‫اجملد أخسر واملكارم صفقة‬
‫من أن يعيش هلا الكرمي األروع‬
‫والناس أنزل يف زمانك منزال‬
‫من أن تعايشهم وقدرك أرفع‬
‫قبحا لوجهك اي زمان ؟ فإنه‬
‫وجه له من كل قبح برقع‬
‫أميوت مثل أيب شجاع فاتك‬
‫ويعيش حاسده اخلصي األوكع؟‬
‫أيد مقطعة حوايل رأسه‬
‫وقفا يصيح هبا‪ :‬أال من يصفع‬
‫أبقيت أكذب كاذب أبقيته‬
‫وأخذت أصد من يقول ويسمع‬
‫وتركت أننت رحية مذمومة‬
‫وسلبت أطيب رحية تتضوع‬
‫مث تنتقل املقاربة إىل معاين األبيات إمجاال‪ .‬وهذا شرح الواحدي يف (شرح ديوان املتنيب ‪ ،‬نسخة موقع الورا ) بتصرف ‪ :‬يقول‬
‫الشاعر صفقة املكارم واجملد أخسر وحظها انقص من أن يعيش هلا هذا املرثي يعين أن املكارم كانت حتيا به‪ .‬ويقول إن الناس يف زمان‬
‫الفقيد أقل قدرا من أن يكون فيما بينهم فيخالطهم ويعاشرهم وقدره أجل من أن يعايش أهل ذلك الزمان ‪ .‬ويقول قبح هللا وجهك اي‬
‫زمان فإن وجهك وجه اجتمعت فيه القبائح فكأنه اختذ القبائح برقعا‪ .‬والقبح ضد احلسن ‪ .‬يلي ذلك استفهام تعجب فقد مات هو يف‬
‫جوده وفضله وعاش حاسده يعين كافورا‪ ،‬واألوكع هو اجلايف الصلب ‪ .‬مث يصف الشاعر غرميه فيقول إن األيدي اليت حول اخلصى‬
‫مقطعة ألن قفاه يصبح أال من يصفع فلو مل تكن تلك األيدي مقطعة لصفعنه‪ .‬مث خاطب الزمان فيقول له أبقيت أكذب الكاذبني‬
‫الذين أبقيتهم أي هو أكذب من بقي من الكاذبني يعين اخلصي وأخذت أصد القائلني والسامعني يعين أصد الناس وهو املرثي‪.‬‬
‫ويقول إن الزمان قد ترك صاحب "أننت رحية" ‪ -‬يريد كافورا ‪ -.‬وأخذ صاحب "أطيب رحية" يريد فاتكا‪.‬‬
‫ليس يف الشرح إال تقريب املعىن الشعري يف قالب منثور وال يعول عليه يف اكتشاف كثري من مجاليات األبيات‪ .‬هنا يكون‬
‫الرتكيز على األبيات بيتا بيتا‪ ،‬وحتليل الرتاكيب واألبنية والصور الشعرية واحملسنات‪ ،‬وما بني األبيات والدالالت من سبك وحبك‬
‫ووحدة عضوية ‪ ،‬على أن يظل سيا القصيدة وغاايهتا البالغية وغرضها الشعري نصب األعني‪ .‬من جهة لغتها وصورها وتراكيبها‪ ،‬ال‬
‫تفار األبيات مقصدها‪ ،‬من نسليع اجملد واملكارم يف "أخسر" وصفقة " إىل اجلناس بني " أنزل و"منزال" و"قبحا" و"قبح" وبني‬
‫"أكذب" و "كاذب"‪ -‬إىل جتسيد الزمان بشرا له "وجه" قبيح وجتسيد القبح يف هيئة "براقع" ‪ ،‬إىل الطبا بني "ميوت" و" يعيش" وبني‬
‫" أكذب " و" أصد " وبني " أننت " و" أطيب" وبني "يقول" و"يسمع" ‪ ،‬وبني "فاتك " و" اخلصي األوكع"‪ .‬يف الصور واحملسنات‬
‫ما يؤكد غرض األبيات ‪ ،‬وهو راثء فاتك ومدحه من جهة وهجاء كافور من جهة أخرى ‪ ،‬مبا يستلزم هتويل تحاسن املمدوح وهتويل‬
‫مقابح املهجو املذموم‪ .‬ويف غمرة احلزن على الفقيد يبالغ الشاعر فال يقتصر على ذم كافور بل يرى مجيع الناس يف زمان الفقيد أقل من‬

‫‪959‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫أن يعاشرهم أو يعيش معهم ‪ .‬هذا ما يف األبيات ‪.‬يبقى اخلروج من األبيات إىل عالقتها مبا بقي من القصيدة وعالقتها بشعر املتنيب‬
‫وشعر غريه على وجه العموم ‪.‬‬
‫من أسباب فساد التحليل‬
‫أحياان يصبح حتليل اخلطاب نوعا من شرح النصوص أو تلخيصها دون تفسري أو أتويل ‪ ،‬وأحياان يقتصر على جمرد مثل من‬
‫هنا وآخر من هناك لتأكيد مالحظة أو فرضية ‪ ،‬دون تحاولة اكتشاف األنسا الكربى والظواهر الدالة يف اخلطاب‪ .‬ورمبا يعيب التحليل‬
‫االحنياز املسبق إىل وجهة نظر أو تفسري‪ -‬أو االنكفاء على منوذج أو نظرية ال تصلح للتعامل مع ما يتناوله التحليل من نصوص‪ .‬وقد‬
‫يعيب دراسات حتليل اخلطاب أن تكتظ ابالقتباسات املطولة من النصوص موضوع التحليل دون مربر أو تفسري‪ .‬وقد تقع بعض‬
‫دراسات حتليل اخلطاب يف شرك التعميم واالعتماد أبن ما يصد على سيا يصد على غريه ‪ .‬هذا بعض ما ميكن أن يقع فيه حتليل‬
‫اخلطاب من مزالق‪ .‬جند شرح هذه األخطاء وتوضيحها ابألمثال يف دراسة تشارلز أنتاكي ‪ Antaki‬وآخرين (‪. )1113‬‬
‫وهذا كالم ابن خلدون يف الصفحة األوىل من (املقدمة) يتناول عددا من أسباب فساد الرواية وكذب اخلرب والتفسري تصد‬
‫كذلك على حتليل اخلطاب والنص‪" :‬اعلم أنه ملا كانت حقيقة التاريخ أنه خرب عن االجتماع اإلنساين الذي هو عمران العامل ‪ ،‬وما‬
‫يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض‪ ،‬وما ينشأ عن‬
‫ذلك من امللك والدول ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البشر أبعماهلم ومساعيهم من الكسب واملعاش والعلوم والصنائع ‪ ،‬وسائر ما حيدث يف‬
‫ذلك العمران بطبيعته من األحوال ‪ .‬وملا كان الكذب متطرقا للخرب بطبيعته وله أسباب تقتضيه‪ .‬فمنها‪ )2( :‬التشيعات لآلراء‬
‫واملذاهب‪ ،‬فإن النفس إذا كانت على حال االعتدال يف قبول اخلرب أعطته حقه من التمحيص والنظر حىت تتبني صدقه من كذبه ‪ ،‬وإذا‬
‫خامرها تشيع لرأي أو حنلة قبلت ما يوافقها من األخبار ألول وهلة ‪ ،‬وكان ذلك امليل والتشيع غطاء على عني بصريهتا عن االنتقاد‬
‫والتمحيص‪ ،‬فتقع يف قبول الكذب ونقله ‪ .‬ومن األسباب املقتضية للكذب يف األخبار أيضا (‪ )1‬الثقة ابلناقلني ‪ ،‬ومتحيص ذلك يرجع‬
‫إىل التعديل والتجريح ‪ .‬ومنها (‪ )3‬الذهول عن املقاصد‪ ،‬فكثري من الناقلني ال يعرف القصد مبا عاين أو مسع‪ ،‬وينقل اخلرب على ما يف‬
‫ظنه وختمينه فيقع يف الكذب ‪ .‬ومنها (‪ )4‬توهم الصد وهو كثري‪ ،‬وإمنا جييء يف األكثر من جهة الثقة ابلناقلني‪ .‬ومنها (‪ )5‬اجلهل‬
‫بتطبيق األحوال على الوقائع ألجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع ‪ ،‬فينقلها املخرب كما رآها‪ ،‬وهي ابلتصنع على غري احلق يف نفسه ‪.‬‬
‫ومنها (‪ )6‬تقرب الناس يف األكثر ألصحاب التجلة واملراتب ابلثناء واملدح وحتسني األحوال وإشاعة الذكر بذلك ‪ ،‬فتستفيض األخبار‬
‫هبا على غري حقيقة‪ ،‬فالنفوس مولعة حبب الثناء‪ ،‬والناس متطلعون إىل الدنيا وأسباهبا من جاه أو ثروة ‪ ،‬وليسوا يف األكثر براغبني يف‬
‫الفضائل وال متنافسني يف أهلها‪ .‬ومن األسباب املقتضية له أيضا وهي سابقة على مجيع ما تقدم (‪ )9‬اجلهل بطبائع األحوال يف العمران‬
‫‪ ،‬فإن كل حادث من احلوادث ذاات كان أو فعال ال بد له من طبيعة ختصه يف ذاته وفيما يعرض له من أحواله ‪ ،‬فإذا كان السامع عارفا‬
‫بطبائع احلوادث واألحوال يف الوجود ومقتضياهتا‪ ،‬أعانه ذلك متحيص اخلرب على متييز الصد من الكذب ‪ ،‬وهذا أبلغ يف التمحيص"‪.‬‬
‫تطبيقات‬
‫أ‪ .‬قيس وليلي‬
‫من نصوص اجلزء األول من األعمال الكاريكاتريية الكاملة للراحل صالح جاهني يف ابب "قيس وليلى" نص جيلي كثريا من‬
‫جوانب اخلطاب‪ .‬بعض مفاتيح هذا النص اإلحالة إىل قصة اترخية معروفة والعالقة بني النص السابق والنص الالحق ‪ ،‬وهي عالقة‬
‫تناص‪ ،‬ومستوايت اللغة العربية يف النص ‪ -‬بيت الشعر الفصيح والتعليق ابلعامية ‪ -‬واقتباس بيت من الشعر‪ ،‬وهو من قبيل التناص‬
‫كذلك ‪ ،‬والتورية )‪ . (pun‬التورية عن الشيء‪ ،‬وهو الكناية عنه ‪ ،‬أن حتمل كلمة أو مجلة معنيني أحداما أقرب إىل الذهن لكنه غري‬
‫املقصود ‪ ،‬والثاين بعيد إذ أنه املقصود يف كتاب (اإلتقان يف علوم القرآن) لإلمام السيوطي‪ " :‬اإليهام ويدعى التورية أن يذكر لفظ له‬
‫‪959‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫معنيان ‪ ،‬إما ابالشرتاك أو التواطؤ أو احلقيقة واجملاز‪ ،‬أحدها قريب واآلخر بعيد‪ ،‬ويقصد ابلبعيد ويوري عنه ابلقريب فيتوامه السامع من‬
‫أول وهلة"‪ .‬ويف (أساس البالغة) للزخمشري‪" :‬قيل‪ :‬األمساء ضرابن أمساء األشباح وهي اليت أدركتها الرؤية واحلس ‪ ،‬وأمساء األعمال وهي‬
‫اليت ال تدركها الرؤية وال احلس ‪ ،‬وهو كقوله ‪:‬م ‪ :‬أمساء األعيان وأمساء املعاين ‪ ".‬حني تتجاوز التورية املفردة إىل عموم انئص تصبح نضا‬
‫كنائيا )‪(allegory‬كما جند يف مزرعة احليوان ل جورج أورويل‪ ،‬وكليلة ودمنة ل ابن املقفع‪ ،‬ورحالت جليفر ل جواناثن سويفت ‪،‬‬
‫وغريها‪.‬‬

‫هذا هو بيت الشعر الذي حيتل قلب املشهد يف كاريكاتري صالح جاهني‪:‬‬
‫مىن النفس ليلى قريب فاك من فمي ‪ ...‬كما لف منقاريهما غردان‬
‫خلفية الصورة‪ /‬البيت صحراء فيها بعض التفاصيل من خنيل وتالل ومشس مشرقة‪ .‬قيس طريح بينما ليلى تسكن "بيت" شعر‬
‫حتاول االنطال من أسرها مقبلة على قيس‪ .‬هنا توريتان‪ :‬تورية ليلى بوصفها مفردة تشري إىل "شبح" بعبارة الزخمشري وهي اسم علم‬
‫يشري إىل امرأة نعرفه ا مث "ليلى" بوصفها كلمة مكتوبة أو ملفوظة‪ -‬حروف أو أصوات‪ ،‬التورية الثانية هي تورية "بيت" تشري أوال إىل‬
‫بناية نسكنها وتشري اثنيا إىل سطر من الشعر ينقسم إىل شطرين كما يظهر يف الصورة‪.‬‬
‫تحاولة ليلى االنعتا واخلروج من بيت الشعر وتعليقها "خالص مش طايقة أعيش يف البيت دا بعد كده" حيسمان قدرا كبريا‬
‫من داللة النص‪ .‬يف بيت الشعر ابإلضافة إىل ما سبق طلب هو "قريب فاك من فمي" وتشبيه متثيلي يف "كما لف منقاريهما غردان" ال‬
‫يفيدان اإلخبار عن شيء قد وقع بل أمنية عالقة معلقة تنتظر التحقق ‪ .‬ويف تعليق ليلى تشري عبارة "البيت ده" إىل البيت الذي نراه يف‬
‫النص حيث حتلم ليلى أن خترج من "املىن" و"الطلب" و"التشبيه" إىل واقع ملموس تحسوس يتحقق وإىل أبيات شعر قيس إمجاال فلم‬
‫تعد تقنع ابلشعر وتريد أن تصبح ابلفعل ال على سبيل التشبه طائرا يقبل تحبوبه ويقبله‪" .‬خالص" و "مش طايقة" تؤكدان ضيق ليلى‬
‫ببقائها أسرية بيت من الشعر ونفاذ صربها على عذرية قيس‬
‫التوتر يف هذا النص ويف غريه من نصوص ابب قيس وليلى يف أعمال جاهني الكاريكاتريية توتر بني من يعيش احلب "ابهلمس"‬
‫ومن تريد أن تعيشه " ابللمس" ‪ -‬بعبارة سكينة يف مسرحية (راي وسكينة) ‪ -‬بني حب عذري يتعفف وحب مقبل يتلهف‪.‬‬

‫‪952‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫ال داعي للتعميم وال للخروج مبقوالت جامعة مانعة عن الفرو بني اجلنسني يف النظرة إىل احلب‪ .‬املقوالت اليت وردت أعاله‬
‫ترتبط بسيا واحد تحدد وهو سيا نص صالح جاهني (وهو سيا مصري كما تشري "مش طايقة" و"بعد كده") الذي يعيد إنتاج‬
‫سيا قصة قيس وليلى ‪ .‬أما االنطال من هذا الكاريكاتري واهلتاف مبقوالت ساحقة ماحقة حنو "املرأة العربية كذا" و"الرجل العريب كذا‬
‫وكذا" فهو من قبيل التعميم الذي ال يقوم على أساس ‪ ،‬على األقل ال ينبغي أن تقوم على أساس هذا النص‪.‬‬
‫ب‪ .‬زبرجدة اخلازابز‬
‫يف قصيدة (زبرجدة اخلازابز) ل حسن طلب ولع ابللغة ال يستغرب منه ملن عرف شعره ‪ ،‬لكنه ليس ولعا جمانيا‪ ،‬بل ولع يوظفه‬
‫الشاعر لنقل رسالة وحتقيق غاايت بالغية‪ .‬مدار انشغال القصيدة يتبدي من عنواهنا فهي زبرجدة – زبرجدة بكل ما يف الكلمة من‬
‫معىن ‪ -‬عن اخلازابز‪ .‬هي زبرجدة على معىن إحكامها وندرهتا‪ .‬وهي حجر نفيس كرمي‪ .‬الزبرجد قريب الزمرد‪ .‬يقال ‪ :‬إن األفعى تسيل‬
‫عينها إذا هي وقعت على الزمرد ويقال‪ :‬إنه يشفي من اجلذام إذا شربت نشارته‪ .‬يف املاضي كانت مجيع األحجار الكرمية ذات اللون‬
‫املائل لألخضر تسمى الزبرجد‪ ،‬لونه األخضر ال خفت ليال عرفته مصر القدمية ‪ ،‬وعرف قيمته اإلغريق والرومان ‪ .‬ويقال ‪ :‬إن يف عرش‬
‫سليمان منه قدر وفري‪ .‬واحتفت به اخلالفة العثمانية ‪ ،‬ومجع سالطينها أكرب جمموعة من األحجار الكرمية يف العامل كما تقول املوسوعة‬
‫احلرة‪.‬‬
‫تنتهي مقاطع القصيدة الزبرجدة بقافية تشبه قافية "اخلازابز" ‪ .‬هذا أول ما نعرف من القصيدة‪ .‬بداية القصيدة صادمة مبا فيها‬
‫من مفردات مهجورة ال يتوقع أن يفهمها قارئ من غري أن يعود إىل املعجم ‪ .‬من الصعب مقاومة إغراء الشرح والتبسيط يف مقاربة‬
‫قصيدة كهذه القصيدة ‪ .‬إال أن يف ذلك خطرا جسيما وهو أنه سيشغل املتلقي عن الشرك البالغي الذي يوقعه فيه الشاعر‪.‬‬
‫زبرجدة اخلازابز‬
‫ما مل يكن سيصح صح‬
‫ومل يكن سيجوز جاز ‪:‬‬
‫يبس السحاب‬
‫تبخر القاموس‬
‫كيف إذن سيحيا األنقليس؟‬
‫وكيف يفلت من إسار املرمريس اخلازابز؟‬
‫ال بد من شيء لينجو من هالك مقبل‬
‫هل يستعني حبسه الفطري ؟‬
‫أم خبياله احلفاز؟‬
‫من العنوان ‪ ،‬إىل القوايف ‪ ،‬إىل الصفات اليت تلتصق ابخلازابز ‪" -‬الرعوي" ‪" ،‬الرخوي" ‪" ،‬البدوي"‪" ،‬الصحراوي" ‪ -‬إىل أمساء‬
‫األماكن العربية والقبائل‪ ،‬إىل التوتر احملوري بني مستحداثت العصر وتراث اخلطابة واحلروب العربية وفقه اللذة وعودة الشيخ إىل صباه‪،‬‬
‫ال ترتك القصيدة يف نفس قارئها ريبة يف أن املعين هبا واملشار إليه ابخلازابز هو املواطن العريب املسلم ‪ -‬على وجه اخلصوص من يرفض‬
‫اخلروج من املاضي ‪ -‬والذي أصبح يهدده االنقراض يف ظل ما حييط به من أهوال ومستجدات يعجز عن فهم جمملها‪.‬‬
‫ال بد من شيء هلذا الكائن الرعوي‬
‫هل يتقمص الصحراء كي تسعى لواحته اجلداية؟‬
‫أم يقلد رقصة اليعسوب؟‬
‫‪952‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫يصرخ كي حيس أبنه ما زال حيا‬
‫أو حتس به الدواجن؟‬
‫هل يصرح ابلذي خشاه من مأساته‬
‫أم يكتفي ببالغة اإليعاز؟‬
‫ما مل يكن سيكون كان‬
‫فكيف ميكن أن يواجه ذلك الوضع املعاصر؟‬
‫ختفي عن كل عني خلف شوك القنفذ الربي‬
‫أو در السالحف؟‬
‫يستعري من النعامة رأسها‬
‫ومن القزيل قلبه؟‬
‫أم يستقل جناح ابز؟‬
‫فلنعد إىل املقطع األول وقد ألفنا القصيدة حيث اخلازابز هو نوع من احلشرات ‪ -‬لعلها ذاببة الفاكهة ‪ -‬يهدده االنقراض ألن‬
‫البيئة اليت ينمو فيها ويرتعرع إىل زوال‪ .‬لقد يبس السحاب وتبخر احمليط ("القاموس") ومل يعد يف مقدور ثعبان البحر ("األنقليس") أن‬
‫يعيش وقد جف املاء من حوله‪ .‬واملرمريس أرض رملية جدابء أرض ال تنبت شيئا لصالبتها‪ ،‬فكيف يفلت اخلازابز من مصريه احملتوم؟‬
‫خطر االنقراض دفع الشاعر إىل أن يكتب القصيدة بلغة انقرضت أو كادت ‪ ،‬لغة غرائبية غريبة تشبه غربة العريب اليوم وهو‬
‫يعيش مع من حوله من أهل األرض "اجلغرافيا" نفسها‪ ،‬لكنه ال يعيش معهم "التاريخ" نفسه ‪ .‬يعيش يف األساطري وهم يعيشون يف زمن‬
‫التلفاز وحرب الكواكب‪ .‬أسلحة العريب القدمية لن تسعفه اليوم ‪ -‬ال اخليل وال الليل وال الرمح وال القرطاس وال القلم ما دام ينفق مداده‬
‫يف حروب بالغية ‪ ،‬وشروحات ‪ ،‬وهوامش‪ ،‬وهوامش على اهلوامش‪ ،‬وعنرتايت ‪ ،‬وخطب‪ ،‬وتفاصيل تغر يف تفاصيل‪ ،‬من غري حركة‬
‫تذكر وال فعل يعول عليه‪.‬‬
‫لو كانت له أنياب صل الشام‬
‫أو منقار شاهني الرها‬
‫أو قرن كركدن عطربة‬
‫استدارة عني يعفور السماوة‬
‫أو زابين عقرب الدهناء‬
‫أو معشار حكمة بومة النيل‬
‫التفاتة إيل يف بعلبك إىل الذرى‬
‫أو عضو إخصاب لتيس من صفاقس وهو ينزو‬
‫بني متيوسائه‬
‫أو قفزة اإلطبا من منس الصعيد على فريسته‬
‫قوائم تيتل من أي هاتيك التياتل أو ذوات‬
‫الظلف لو كانت له جبميع ما جيتاز!‬

‫‪959‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫يف املقطع أعاله حقل داليل يشتمل حيواانت‪ ،‬وحقل آخر ألماكن تشتهر هبا‪ ،‬وكالاما يشري بال مواربة إىل بيئة عربية مل تعد‬
‫حية وال انبضة وانزوى كثري من مفرداهتا يف كتب التاريخ واألساطري‪ .‬وسوف ترد الحقا حقول داللية أخرى منها أمساء قبائل عربية‬
‫هالكة أو تكاد‪.‬‬
‫لكنها ليست له فعال‬
‫ولو عاش اهلنيدة لن تكون له‬
‫فما هو ‪ -‬يف حقيقة أمره‬
‫إال جمرد خازابز‪.‬‬
‫ويبدو أن اخلازابز العريب قد فقد صفاته األصيلة اليت طاملا تباهى هبا وتفاخر وقد أصبح مسخا عالقا بني زمنني‪ ،‬ال ماضيه‬
‫يصلح للتعايش مع حاضر اآلخرين ‪ ،‬وال هو قادر على أن يتعايش معهم حباضره يف حاضرهم ‪..‬‬
‫ماذا سيفعل ذلك اهلزيل يف حرب الكواكب؟‬
‫هل يلوذ بناقة عوجاء انجية عليها الصيعرية‬
‫تصمعل بنضوه‬
‫فيضيع يف الربع اخلراب‬
‫مرددا غب السرى والسري‬
‫ما حيدو به الرجاز؟‬
‫ال بد من شيء جينب ذلك البدوي أهوال‬
‫املصري الصعب‬
‫هل يغزو جبيش من أساطري ‪ ..‬مصنع الفوالذ؟‬
‫يشحذ عزمه ويريش سهما‬
‫مث يطلقه على القمر الصناعي احمللق يف‬
‫مساء بيوته‬
‫وفضاء غرفته؟‬
‫جيرد محلة كربى ليحتل البنوك وشاشة‬
‫التلفاز؟‬
‫أم هل جيرد محلة أخرى يكون شعارها؟‪:‬‬
‫حترير عكا‬
‫يستحل دم الذبيح وما أهل به لغري هللا‬
‫يشرب بوله كرها ويقتات الرباز؟‬
‫ال بد من أي من املوتني‪:‬‬
‫موت العجز بني القادرين‬
‫وموت االمشئزاز‪.‬‬
‫أم هل يهيئ خيمة األعراف الستقبال مؤمتر‬
‫‪959‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫لقمة جنسه‪:‬‬
‫غيظ بن مرة ‪ -‬قيس عيالن ‪ -‬الفدوكس ‪ -‬عك‪-‬‬
‫ضبة‪ -‬جحجيب‪ -‬أد بن طاخبة ‪-‬الرباجم – كلب‬
‫‪ -‬جحش ‪ -‬قريش ‪ -‬هبدلة ‪ -‬احليا‪ -‬سعد العشرية‬
‫‪ -‬شن ‪ -‬أزد شنوءة ‪ -‬الدئل ‪ -‬العطاعطة – اهلميسع‬
‫‪-‬عجل ‪ -‬عكل ‪ -‬هصيص ‪ -‬أفصى ‪ -‬حسل – عنس‬
‫‪ -‬جذام ‪ -‬عنز ‪ -‬تنوح ‪ -‬أنف الناقة ‪ -‬احلرماز؟‬
‫نعم الرعيل‬
‫ونعم أمساء القبيل‬
‫ونعم أعمال الرجال إذا تفوخر ابلفعال وعدد‬
‫اإلجناز!‬
‫أم األصح بقاؤه متلذذا مبجادالت األشعرية‬
‫يف جواز إمامة املفضول‬
‫أو جعل اخلالفة يف قريش؟‬
‫مناداي بوجوب أتسيس الفروع على األصول ؟‬
‫مقفيا بكتاب "أسباب النزول"‬
‫على كتاب "دالئل اإلعجاز" ؟‬
‫أم هل جيرب حيلة أخرى لفك الرمز؟‬
‫خلق منهجا حرا لتأويل اجملاز؟‬
‫أيؤلب الفصحى‬
‫لتخرج من معامجها إىل نظرية الكم اجلديدة؟‬
‫أو إىل علم التفاضل؟‬
‫كي تقايض من تشاء بضاعة ببضاعة‪:‬‬
‫فبحرف حىت‪ :‬معمل الكيمياء‬
‫ابلنعت‪ :‬الفلز‬
‫خبمسه األمساء‪ :‬علم وظائف األعضاء‬
‫ابملرتادفات‪ :‬مفاعالت الذرة اآلالت ابلعلل‬
‫املصانع ابملضارع واملضاف واجملرور‬
‫ابجلزم اجليولوجيا‬
‫بالم النصب أو واو املعيه أو أداة النهي ‪:‬هندسة‬
‫القوى‬
‫بعالمة التأنيث درفلة املعادن‬
‫‪950‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫ابملعلقة اجلهاز!‬
‫ليعرف من يريد ‪ ...‬حقيقة الوطين‪/‬‬
‫واجلاسوس‬
‫والسلفي ‪ /‬والسمسار‬
‫والثوري ‪ /‬والنهاز‬
‫البد من شيء يناقض كل شيء‬
‫مث يكسح أي شيء من قمامة هذه األشياء‬
‫ال يبقى على شيء‬
‫فقد يبس السحاب‬
‫وطال صرب العيس‬
‫سالت مهجة اليقطني‬
‫كيف إذن سيحيا األنقليس؟‬
‫وكيف يفلت من إسار املرمريس اخلازابز؟‬
‫ما احلدث الذي أاثر القصيدة ؟ ليس حداث واحدا بل رمبا أحداث ووقائع التقطها الشاعر وأدرك من خالهلا أن العريب املنغلق‬
‫على ذاته يعيش يف عامل غري العامل ‪ .‬من هنا مر املشهد املربك يف زمن نفس الشاعر فاستعادت املشاهد كلها من أايم القبائل إىل زمن‬
‫الضياع الكبري‪ .‬يف زمن التغين ميارس الشاعر ولعه ابللغة فينبش يف املعاجم ليجد املعادل املوضوعي للكالم عن كائن يعيش خارج‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫التفاصيل يف القصيدة مرهقة ‪ ،‬لكنها مألوفة يعرفها العريب املنصف عن نفسه ويعرفها غريه عنه‪ .‬فلنخرج من غواية الشرح‬
‫والتلخيص إىل شيء من التأويل‪ .‬وقد تقدم أن فكرة انقراض اخلازابز أو إقصائه إىل هامش التاريخ كانت مربرا بالغيا مهما ملا يف‬
‫القصيدة من مفردات غريبة وأمساء ليس لغالبها وجود اليوم‪.‬‬
‫ملاذا اختار الشاعر هذه اللغة املعجزة أحياان واملرهقة واليت تستعصي على فهم اخلاصة والعامة من غري جلوء إىل معجم أو‬
‫"قاموس"‪ .‬فكرة االنقراض الوشيك احملد سبب‪ .‬أما السبب الذي يتصل ابنشغال هذا اجلزء من هذا الكتاب فهو اللغة‪ .‬بني القارئ‬
‫واملعىن يف هذه القصيدة طبقة صلبة كثيفة من اللغة قد تصرفه عن تحتواها وعن رسالتها‪ .‬وال بد أن ينفق من وقته وجهده الكثري ال‬
‫لشيء إال ليفهم معاين املفردات قبل أن يفكر يف دالالت القصيدة الكلية املهمة‪.‬‬
‫هذا ما فعلت اللغة ابلكائن العريب البائس وما فعل هبا منذ عرفها وعرفته‪ .‬انشغل هبا وانشغلت به وتركا معا العامل من حوهلما‬
‫يتغري ويتطور وتدور به األايم ويدور هبا واما يف مكانيهما "تحلك سر" حىت انتهيا إىل هذه الغربة وهذا االغرتاب‪ .‬قرون بعد قرون‬
‫والكائن العريب "يلف ويدور" ويدخل يف حروب بالغية ال تنتهي‪ .‬يدبج اخلطب العصماء‪ ،‬وينظم الدرر الطوال من القصائد يف الفخر‬
‫مبا ال يستحق الفخر يف كثري من األحوال ومدح من ال يستحقون املدح والراثء وغريها من أغراض ‪ ،‬ويسهر وختصم يف أمور لغوية ‪،‬‬
‫وقضااي فقهية ‪ ،‬وشروحات بالغية‪ ،‬واستطرادات على االستطرادات ‪ ،‬وحواش على احلواشي ويعود إىل كل ما سبق مرارا وتكرارا‪ ،‬ال‬
‫يغادر اهلوامل وال حييط ابلشوامل‪ .‬يرتبص به الشيطان يف التفاصيل فيعيش فيها ال يفارقها‪.‬‬
‫هذا ابإلضافة إىل قضاايه الفقهية املفتعلة عن وجوب رجم القرد الزاين وجواز الوضوء بكذا وكذا ونقض الوضوء عند محل قربة‬
‫مملوءة فساء وغري ذلك‪ .‬بينه وبني من حوله أستار وراء أستار وحجب يف إثرها حجب من البهرج والزخرف واحملسنات البديعية ‪ ،‬فال‬
‫‪999‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫يكاد يصل منه إىل غريه شيء‪ ،‬وال يكاد يعي هو من كالم غريه شيء‪ .‬لن تستسيغ هذا الرتاث الكثيف الذي حيجب العريب عن العامل‬
‫وحيجب العامل عنه حىت تصرب على زبرجدة حسن طلب وتقرأها إىل هنايتها ‪ -‬بعد أن قاومت رغبتك يف التلخيص والبحث عن معاين‬
‫املفردات‪.‬‬
‫ج‪ .‬من حممد إىل اآلنسة فاطمة‬
‫هذه رسالة مكتوبة (من صفحة اللطائف املصورة)‪ ،‬ردا على رسالة ‪" -‬وأبلغك أنين بيد السرور تشرفت واستلمت كتابك‬
‫الكرمي ورسولك الصاد األمني فأكربته حني قرأته " ‪ -‬من تحب إىل تحبوبته يف ثالثينيات القرن املنصرم‪ .‬واملكان بين سويف يف مصر‪.‬‬
‫الرسالة حدث تواصلي بني زمنني ‪ ،‬زمن مضى فيه رسالة من احملبوبة ‪ ،‬وزمن ملا أيت بعد تشري إليه الرسالة كما يرد الحقا‪ .‬هذه ليست‬
‫رسالة إلكرتونية وال رسالة نصية وال رسالة عرب كتاب الوجوه (الفيسبوك)‪ ،‬بل رسالة ورقية محلها رسول صاد أمني لعله ساعي الربيد أو‬
‫"مرسال غرام" وليس ألي منهما مكان أو مكانة تذكر يف عامل اليوم ‪ .‬هذا عن الوسيط‪.‬‬
‫أما املشاركون يف احلدث التواصلي – الرسالة ‪ -‬فهما الكاتب املرسل ‪ -‬تحمد ‪ -‬واملرسل إليها ‪ -‬اآلنسة فاطمة‪ .‬يف خلفية‬
‫الرسالة شخصيات أخرى هي السيدة والدة تحمد والسيدة والدة فاطمة ‪" -‬أبلغك حتيات السيدة الوالدة واجلميع خبري حتيايت للسيدة‬
‫الوالدة" ‪ -‬والرسول الذي محل الرسالة ‪ ،‬ومعسكر خري ومعسكر شر‪ ،‬مالك حارس و"عوازل" حيسدون وشياطني قد تقرتب –‬
‫"ودعوت هللا عين وعنك أن جيعل لنا على الدوام ملكا طيبا من بني مالئكته يرقبنا وحيفظ لنا عهدينا وحيافظ علينا من شر حاسد إذا‬
‫حسد ومن شر شيطان إذا اقرتب"‪.‬‬
‫العالقة بني تحمد وفاطمة "عالقة حب" أيمل الكاتب أن يفضي إىل "زواج" – "حبيبيت الوحيدة"‪" ،‬وهبتك قليب فهل لك أن‬
‫تتبادلني اهلبة " ‪" ،‬قبليت وقبليت وقباليت"‪ .‬ويف هذا احلب شرطان يضمنان من وجهه نظر املرسل جناح الزواج املأمول ‪ ،‬اما الوفاء والطاعة‬
‫‪ .‬وهو حب "اجتماعي" معلن يف رعاية األسرتني ‪ ،‬على األقل تعرفه والدة تحمد ووالدة فاطمة ‪ .‬قصة احلب ‪ -‬اليت ال غاية هلا إال‬
‫الزواج ‪ -‬مل تبدأ مع هذه الرسالة ‪ ،‬فكما سلف‪ ،‬هذه رسالة يرد هبا تحمد على رسالة من فاطمة ‪ .‬ويف الرسالة كالم عن املاضي وكالم‬
‫عن املستقبل – هذا ما طالعته من وجهك الوضاء ‪ ..‬وبعد هذا سرتين الوفاء يتبادل ويطفح إانؤه ويعم فتسري السفينة حبمولتها متخر‬
‫عباب البحار رافعة شراعها تتيه دالال وعجبا على الزمان"‪" ،‬هذا ما شاهدته وملسته بيدي ‪ ..‬وبعد هذا ستكونني إن شاء هللا من أسعد‬
‫اخللق يف الدنيا واآلخرة"‪ .‬قدمت فاطمة الوفاء والطاعة‪ ،‬وتحمد يعدها أهتا ستجد جزاء ذلك سعادة يف زواجها‪ ،‬ويرسل مع الرسالة "قبلة‬
‫اإلخالص األبدي" ‪ .‬وينتظر "الرد"‪.‬‬
‫مع الوفاء والطاعة ظلت العالقة رمسية وقورة ‪ ،‬فالتحية يف أول الرسالة موجهة إىل "اآلنسة فاطمة" ال "بطة" وال "طمطم" وال‬
‫"فطومة" وال حىت "فاطمة" جمردة من اللقب ‪ .‬ويف الرسالة إشارة إىل "السيدة والدة" فاطمة و"السيدة والدة" تحمد ال ماما وال مامي وال‬
‫أمي وال حىت "والدتك" أو "والديت" من غري لقب "السيدة"‪ .‬ما يصد على صيغ املخاطبة واإلشارة يصد على اللغة يف الرسالة‬
‫كلها‪" -‬بيد السرور تشرفت واستلمت كتابك الكرمي " ال "وصلتين رسالتك" ‪ .‬الشعور" ابلتشريف" يتكرر يف هناية الرسالة" حىت‬
‫أتشرف برؤايك"‪ .‬قد تشري كلمة "تشرفت" يف أول الرسالة و"أتشرف" يف آخرها و"اآلنسة فاطمة" يف خماطبة احملبوبة إىل فرو اجتماعية‬
‫ليس يف الرسالة من أدلة أخرى أو قرائن عليها‪ .‬على أن الكالم عن الطاعة و"القبالت" اليت تزخر هبا الرسالة تضعف هذا الربهان على‬
‫فرو اجتماعية بني املتحابني‪.‬‬
‫وألن النص رسالة بريدية تقليدية ‪ ،‬يشتمل مقدمة وموضوعا وخامتة ‪ .‬يف املقدمة توجيه (اآلنسة فاطمة حبيبيت الوحيدة") وحتية‬
‫("أحييك أفضل حتية وأقبلك قبلة اإلخالص األبدي") وإشارة إىل نص سابق ويف اإلشارة تربير النص الراهن ‪ ،‬مث دعاء‪ .‬ويف اخلامتة‬
‫انتظار رد وسالم لألهل ووداع إىل لقاء مأمول‪.‬‬
‫‪999‬‬
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫يريد املرسل أن يؤكد تحبته ‪ ،‬ويريد أن يرسخ شرطي البقاء على العهد ‪ -‬الوفاء والطاعة – وقد وجد بذوراما من قبل يف تحبوبته‬
‫ورضي عنها ومأله الفخر والسعادة ملا رأى ‪ " -‬فخري وإعجايب هبذا" ‪" ،‬راحيت وسعاديت يف هذا" ‪-‬ويريد أن تبقى على ما وجدها‬
‫عليه ‪.‬يستعني يف تبليغ رسالته ابلتكرار مرتني مع "الوفاء" ومع "الطاعة"‪ ،‬وبوعد أن جتد احملبوبة جزاء وفائها وطاعتها يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ويف الكالم عن املستقبل صورة مركبة بديعة ‪" -‬الوفاء يتبادل ويطفح إانؤه ويعم فتسري السفينة حبمولتها متخر عباب البحار رافعة‬
‫شراعها تتيه دالال وعجبا على الزمان" ‪ -‬الزواج فيها إانء يطفح مبا يضع فيه الزوجان إن وفاء فوفاء وإن غري ذلك فغري ذلك‪ .‬واحلياة‬
‫الزوجية ‪ ،‬فيها رحلة يف حبر جلي متالطم األمواج‪ .‬مث صورة القلب الذي يتجسد هدية يرسلها احملب إىل تحبوبته وينتظر أن ترسل هي‬
‫بدورها قلبها إليه‪.‬‬
‫إىل هنا ننتهي من قراءة هذا الرسالة الطريفة لكن الكالم عنها مل ينته بعد‪ ،‬فباإلمكان مراجعة أفعال اللغة فيها للوقوف على ما‬
‫فيها من خرب وطلب ووعود‪ ،‬وحظ األفعال فيها‪ ،‬بني ما وقع منها وما ينتظر أن يقع‪ .‬سوف يبدو تحمد مقعرا متشدقا يف نظر أقرانه يف‬
‫يومنا هذا وسوف يذهله مقدار "النشا" الذي حتفل به رسالته ‪ .‬ال تثريب على تحمد‪ ،‬فهو يكسب بلغة عصره وخاطب فاطمته ال‬
‫فاطمتك أنت وال فاطمة غريك‪.‬‬
‫حب غري احلب يف زمن غري الزمن‪.‬‬

‫‪995‬‬
‫هباء الدين حممد مزيد‬ ‫أدوات حتليل اخلطاب‬
‫املراجع‬
.2776 ،‫ مطبعة املدين‬، ‫ جدة والقاهرة‬.2791 -2767 )‫ (جملة اجمللة‬،"‫ "منط صعب ومنط خميف‬:‫ تحمود‬،‫شاكر‬ -2
.46 -33 ‫ ص ص‬، ‫ عالمات‬،"‫ "احلد بني النص واخلطاب‬: ‫ ربيعة‬،‫العريب‬ -1
،‫ العلم واإلميان للنشر والتوزيع‬، ‫ دسو‬،‫ مصر‬،‫ النزعة اإلنسانية يف الرواية العربية وبنات جنسها‬:‫ هباء الدين تحمد‬،‫مزيد‬ -3
.1119
‫ دار مشس للنشر‬، ‫ القاهرة‬،‫ مصر‬، ‫ تبسيط التداولية‬: ‫ من أفعال اللغة إىل بالغة اخلطاب السياسي‬:‫ هباء الدين تحمد‬،‫مزيد‬ -4
.1121 ، ‫والتوزيع‬
.76 -52 ‫ ص ص‬،2 ‫ع‬،31 ‫ مج‬،1112 ،‫ عامل الفكر‬،"‫ "البالغة ومقولة اجلنس األديب‬:‫ تحمد‬، ‫مشبال‬ -5
.2777 ، ‫ مكتبة اإلميان‬، ‫ املنصورة‬، ‫ جواهر البالغة يف املعاين والبيان والبديع‬:‫ السيد أمحد‬، ‫اهلامشي‬ -6
7- Antaki, C„ Billig, M, Edwards D. &, Potter, J. (2003). "Discourse analysis means doing
analysis: A critique of six analytic shortcomings." Discourse Analysis Online, 1(1).
http://extra.shu.ac.uk/daol/previous/vl_nl.html
8- Becker, Alton. L. (2000). Beyond Translation: Essays Toward a Modern Philology. Ann
Arbor: University of Michigan Press.
9- Cap, P. (2013). Proximization: The Pragmatics of Symbolic Distance Crossing.
Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins.
10- Gee, James Paul (2011). How to do Discourse Analysis: A Toolkit. New York:
Routledge.
11- Genette, G. (1997): Palimpsests (trans. Channa Newman & Claude Doubinsky).
Lincoln, NB: University of Nebraska Press.
12- Knapp, M. L. (1984). Interpersonal Communication and
Human Relationships. Boston, MA: Allyn & Bacon.
13- Rothwell, J. Dan. In the Company of Others. 2nd ed. New York: McGraw Hill, 2004.
278-285.
14- Van Dijk, T. A. (1980). "The Pragmatics of literary communication. ''In: E. Forastieri -
Braschi, G. Guinness & H. Lopez -Morales (eds.), On Text and Context . Rio Piedras,
Puerto Rico: Editorial Universitaria, 1980, 3-16.
15- Wolf, P. (2003). "Why themes matter: Literary knowledge and the thematic example of
money.” In M. Louwerse and W. van Peer (eds.), Thematics: Interdisciplinary Studies
(pp. 341- 352). Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins.

999
‫فصول * اجمللد (‪ * )9/52‬العدد (‪ * )09‬خريف ‪5992‬‬
‫مراجع من موقع الوراق‬
‫‪ ‬إخوان الصفا‪ :‬رسائل إخوان الصفا‬
‫‪ ‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‬
‫‪ ‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‬
‫‪ ‬اجلاحظ‪ :‬الرسائل‬
‫‪ ‬احلريري‪ :‬مقامات احلريري‬
‫‪ ‬الزخمشري‪ :‬أساس البالغة‪.‬‬
‫‪ ‬السيوطي‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن‬
‫‪ ‬ابن خلدون ‪ :‬املقدمة‬
‫‪ ‬ابن عبد ربه األندلسي‪ :‬العقد الفريد‬
‫‪ ‬تحب الدين احلموي‪ :‬حادي األظعان النجدية إىل الداير املصرية‬
‫‪ ‬الواحدي‪ :‬شرح ديوان املتنيب‪.‬‬
‫‪ ‬الزركلي‪ :‬األعالم‬

‫‪999‬‬
‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like