Professional Documents
Culture Documents
أدوات تحليل الخطاب
أدوات تحليل الخطاب
( )
هباء الدين حممد مزيد
من اليسري أن نقع يف أشراك املصطلحات ومتاهات التأصيل واألخذ والرد ،لكن ألن الغاية هنا هي التبسيط وبلورة جمموعة من
األدوات الساحنة املواتية للتعامل مع خمتلف أنواع النصوص اللغوية (املكتوبة والشفهية) وغري اللغوية ،يف خمتلف احلقول املعرفية وجماالت
التواصل اإلنساين ،فال مفر من جتاوز تلك األشراك واختزال اجلدل املفاهيمي يف تعريفني جامعني.
ﺃﺩﻭﺍﺕ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ:
من العالمات اللغوية تضبط استخدامها قواعد وعادات لغوية مرعية متعارف عليها وتنتج أوال:
ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ :اخلطاب هو كل جمموعة
ﻓﺼﻮﻝ
وسياقات ثقافية واجتماعية .أصل الكلمة يف الثقافة الغربية يفيد معىن
ﺍﻟﻌﺎﻣﺔفيةﻟﻠﻜﺘﺎﺏ
حقول معر مستقبل يف
ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ عان تنتقل من مرسل إىل ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ دالالت وم
ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ:
انتقال رسالة من كاتب إىل قارئ أو من متكلم إىل سامع أو مستمع .يف موضوع -و
ﻣﺤﻤﺪ ﻣﺰﻳﺪ،حول
ﺑﻬﺎﺀ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ":اللف والدوران"
ﺍﻟﻤؤﻟﻒوهناك " -
"اجلري هنا
ﻉ 97األمر ،أي اخلطب بتسكني الطاء .واخلطب هو األمر الذي تقع فيه املخاطبة واخلطاب. تبط الكلمة ابلشأن أو أصلها العريب ،تر
ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ/ﺍﻟﻌﺪﺩ:
ﻧﻌﻢ
خاطبه ابلكالم خماطبة وخطااب ،واما يتخاطبان" (لسان العرب). ﻣﺤﻜﻤﺔ":مراجعة الكالم ،وقد
واملخاطبة هي
2016 ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ:
اثنيا :النص -وأصله العريب يفيد معىن الرفع واإلبراز أو التنصيب -هو جمموعة من العالمات اللغوية وغري اللغوية -خصوصا
ﺧﺮﻳﻒ ﺍﻟﺸﻬﺮ:
90ابط -واألصل الغريب للمصطلح يفيد معىن النسج والنسيج -فيه سبك وحبك ،وله نسيج -مرت
املرسومة -اليت ينتظمها 134 املكتوبة أو
ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ:
774517أو مقام معلوم ،يتصل مبا قبله من نصوص من خالل التقاليد اللغوية والتواصلية.
:MDت مقصودة أو تحتملة ،يف سياﺭﻗﻢدالال
داللة أو
ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ واخلطاب ابلكالم أو اللغة املنطوقة ،غري أن املصطلحني اليوم يتبادالن املواقع
ﺑﺤﻮﺙاملكتوبة،
ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ :لعقود متعاقبة ابللغة
ﻧﻮﻉارتبط النص
Arabicأفعال الكالم واالفرتاض املسبق والتضمني والتعدي والسبك واحلبك وما إليه -بينهما يف ﺍﻟﻠﻐﺔ:وتتنقل أدوات التحليل -ومنها
ويتداخالن
AraBase ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ:
حرية ومرونة .ما جيمع املصطلحني هو جتاوزاما مستوى املفردة واجلملة ،وخروجهما من ضيق الرتاكيب اللغوية (منزوعة السيا ) إىل
ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻻﺩﺑﻴﺔ ،ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻻﺩﺑﻲ ،ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺎﺕ ﺍﻷﺩﺑﻴﺔ ،ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ،ﺍﻟﺘﺮﺟﻤﺔ ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ:
ابلوظيفة التواصلية والغرض البالغي ال البىن العالقة بني اللغة واملوقف أو املقام أو السيا الذي تستعمل فيه ،وانشغاهلما
http://search.mandumah.com/Record/774517 ﺭﺍﺑﻂ:
رحابة
والرتاكيب وحدها ،وابملعىن املتداول يف مواقف ومقامات خمتلفة ال املعىن املعجمي وحده.
قد يقال :إن اخلطاب يستلزم وجود خماطب بكسر الطاء وخماطب بفتحها .كذلك النص يستلزم وجود انص ومنصوص له -
معلوم أو متوهم -ومنصوص (عليه) .يرجع كثري من اخلالف واالختالف حول تعريف النص واخلطاب إىل أن الكالم عن النص يغلب
أن تكون فيه اللغة – وغريها من األنظمة اإلشارية الداللية -هي نقطة االنطال ،ويف الكالم عن اخلطاب يغلب أن تكون نقطة
االنطال من السيا الذي حييط ابلكالم أو غريه من العالمات .إذن ،تصلح األدوات اليت يرد تفصيلها هنا يف تناول "اخلطاب" ،
مبعىن الكالم ،كما تصلح يف تناول النصوص املكتوبة والنصوص غري اللغوية.
هذه الدراسة
ألننا نعيش يف عامل من النصوص ،وألن اللغة هي الناقل الرمسي لألفكار والقيم واملعتقدات ،وألهنا كذلك وسيلة انجعة منجزة
يف تشويه الوعي وتدمري القيم والرتويج للمقابح والتحريض واالستقطاب وتفتيت اجملتمع وتشتيته وإهلائه ،وألن مواقع التواصل االجتماعي
فتحت مزيدا من منافذ النشر والكتابة والتعبري ،ال مفر من أن تعود املدرسة واجلامعة واملؤسسات واملنابر الثقافية إىل أتدية دورها يف
تنمية الوعي ،ومن أسباب حتقيق هذه الغاية التدريب على تطبيق أدوات حتليل اخلطاب.
فيما بقي من هذه الدراسة تبسيط جمموعة من أدوات حتليل اخلطاب على اختالف أنواعه -والتبسيط ينطلق من كتاب
© 2021ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ .ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ.
للقارئ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ دليال
ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﻃﺒﺎﻋﺔ أنﻫﺬﻩتكون
الدراسة ﻳﻤﻜﻨﻚ غاية
ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ.متباينة.
وخطاابت نصوص
ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ على
ﺟﻤﻴﻊ تطبيقات
ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ -مع
ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ، )1122 ( Gee
ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ )لبولﻋﻠﻰجي
ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ اخلطاب
ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ حتللﺍﻟﻤﺎﺩﺓ
(كيف ﻫﺬﻩ
ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ ،ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺩﺍﺭ
ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ.
09
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
الرجل ،وعنف النفور ورفض الصحبة واإلساءة املفرتضة من جهة املرأة .صدقت ابرابرا كروجر -إذن -حني قالت "إن معظم العنف
الذي يقع بني البشر مرده إىل األفكار اخلاطئة والصور النمطية اليت رسخت يف أذهان بعضهم عن بعض".
( )1أداة اإلشارة
"ذات ليلة شتائية استضفت زميل دراسة "..
(إمساعيل فهد إمساعيل :الكائن الظل ،ص )6
تعابري اإلشارة والضمائر " -هنا" و"هناك" و" أان" و"أنت" واألماكن والتواريخ وصيغ املخاطبة واألمساء -وما إليها تضع
اخلطاب يف سيا اترخي ثقايف بعينه .وهي اخلطوة األوىل يف فهم سيا اخلطاب ومقاصده ودالالته وفهم ما فيه من عالقات .هذه
خامتة ابب من أبواب كتاب (الرسائل ) للجاحظ" :وقد اختصرت كتايب هذا لئال ميله القارئ ،وابهل التوفيق .مت كتاب مفاخرة
.اجلواري والغلمان ،وهللا املستعان ،وعليه التكالن ،وال إله إال هو .يتلوه إن شاء هللا تعاىل كتاب القيان من كالم أيب عثمان عمرو بن
حبر اجلاحظ أيضا ،وهللا املوفق للصواب .واحلمد هل أوال وآخرا ،وصلواته على سيدان تحمد نبيه وآله وصحبه وسالمه (اجلاحظ:
الرسائل ،نسخة موقع الورا ،ص .)224تعود التاء األخرية يف "اختصرت" على املتكلم وتشري الياء يف هناية "كتايب" إىل عالقة
انتساب بني الكتاب " ،هذا" أي الذي بني أيدينا اآلن ،والكاتب .أما القارئ فيأيت معرفا أبل ألن املقصود هو من يقرأ هذا الكتاب.
مث تشري اهلاء يف يتلوه إىل اجلزء الذي انتهى من الكتاب وهو "مفاخرة اجلواري والغلمان" .ويبدو أن اجلاحظ كان حريصا على حقو
امللكية الفكرية وحذرا من سطو السارقني على كتابه ،فأردف قائال "من كالم أيب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ أيضا".
وهذا النص من مقدمة ابن خلدون فقرة عنواهنا" :يف معين التجارة ومذاهبها وأصنافها" " -اعلم أن التجارة تحاولة الكسب
بتنمية املال ،بشراء السلع ابلرخص ،وبيعها ابلغالء ،أاي ما كانت السلعة ،من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش .وذلك القدر النامي
يسمى رحبا ،فاحملاول لذلك الربح :إما أن ختزن السلعة ويتحني هبا حوالة األسوا من الرخص إىل الغالء ،فيعظم رحبه ،وإما أبن ينقله
إىل بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشرتاها فيه ،فيعظم رحبه .ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار ،لطالب
الكشف عن حقيقة التجارة :أان أعلمها لك يف كلمتني ،اشرتاء الرخيص وبيع الغايل .فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إىل املعىن
الذي قررانه .وهللا سبحانه وتعاىل أعلم ،وبه التوفيق ،ال رب سواه "( .ابن خلدون :املقدمة ،نسخة موقع الورا ،ص .)111
هناك عالقة ترادف وتفسري بني عنوان الفقرة ومتنها ،فغاية الفقرة هي تعريف "التجارة" وهذا ما ينبئنا به العنوان .أول الكالم
فعل األمر "اعلم" ،وهو يشري إىل ضلعني من أضالع اخلطاب اما املتكلم ،الذي يطلب ،واملتلقي احملتمل الذي يراد منه أن "يعلم".
يشري فعل األمر إىل غرض الكاتب وهو "التعليم" .الكالم يف الفقرة عن نشاط بشري معروف هو التجارة اليت ترد معرفة ،ألن املقصود
هبا ذلك النشاط البشري مجلة ال تفصيال .ويف الفقرة كالم عن "احملاول" لذلك الربح وهو التاجر ،وفيها كالم عما يتصل بذلك من
سلع وربح وأسوا وأمثان .حني نتتبع مفرديت "السلع" و"السلعة" جنداما تردان على سبيل التعميم يف املرة األوىل والثانية ،مث ترد معرفة
مبا سبقها من سيا ،أبداة التعريف "ال" العهد الذكري ،أي اليت أصبحت معرفة بعد أن عهدها القارئ مما سبق ،فتشري إىل ما ختار
التاجر من متاع يقصد به املتاجرة" من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش " .مث تعرج الفقرة على مثلث خطاب متضمن املتكلم فيه
"بعض الشيوخ من التجار" ،واملستمع هو "طالب الكشف عن حقيقة التجارة" -من غري ما تستلزم الدراسات العلمية املعاصرة من
توثيق كاف -وإليهما تشري "أان" وكاف املخاطب يف "أان أعلمها لك يف كلمتني" .يف تعليق ابن خلدون على ما قال بعض شيوخ
التجار عودة إىل النص اإلطار ،أو إىل مثلث اخلطاب الكبري ،ففي "إشارة منه بذلك إىل املعىن الذي قررانه" تعود اهلاء يف "منه" على
التاجر املذكور ،و"ذلك" على ما قال للسائل عن حقيقة التجارة ،و "ان" يف "قررانه" على "ابن خلدون" ،مث اهلاء األخرية على ما
"قرر" ابن خلدون قبل أن يقتبس كالم التاجر الكبري.
05
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ال بد من وقفة مع "ان" املتكلمني يف هذا املوضع .يستطيع القارئ أن جيد فيها نوعا من تفخيم الذات يف الكالم عنها بصيغة
اجلمع ،ويستطيع أن جيد فيها نوعا من التفاعل بني الكاتب والقارئ ،على معىن أن النص ليس تحاضرة من جهة واحدة ،بل مناقشة
وتفاوضا بني الكاتب والقارئ .تنتهي الفقرة إبشارة إىل "هللا سبحانه وتعاىل" فهو "أعلم ،وبه التوفيق ،ال رب سواه" وهنا اعرتاف
حبدود العلم البشري منسواب إىل علم هللا تعاىل ودعوة مبطنة أن يغض القارئ الطرف عما قد جيد يف الفقرة من قصور ،وكذلك إشارة إىل
انتماء الكاتب وخلفيته الدينية اإلسالمية.
استطراد ( :)1عن أضالع مثلث اخلطاب ومفهوم التقريب
وتقول عزة قد مللت ،فقل هلا
أميل شيء نفسه فأملها؟
(كثري عزة)
لكل خطاب نقطة ينطلق منها هي " مركز اإلشارة " فيه وهي "أان" اليت تتكلم يف اخلطاب و"هنا" اليت تكون فيها "األان"،
و"اآلن" اليت يقع فيها احلدث .يف النص" :أان مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق "ثالثة تعابري إشارية هي" :أان"
و"بعد" و"هذا" .مركز اخلطاب هو املتكلم – وهو مذكر لغياب اتء التأنيث من "مرهق" -ومكانه يف مكتب خانق وزمانه يف هناية
يوم عمل طويل – وال بد أن يوم العمل يتباين معناه من ثقافة إىل غريها .على حدود هذه الدائرة قد يكون هناك خماطب أو مستمع -
"أقول لك :أان مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق" ،وقد يشري اخلطاب إىل ضلع اثلث غائب " -أقول لك :أان
مرهق بعد يوم طويل من العمل يف هذا املكتب اخلانق مع هذا املدير األمحق البليد" ،هذا هو مثلث اخلطاب يف أكثر تصوراته بساطة:
"أان" و" أنت" و "هو".
من سورة (هود) من كالم هللا عز وجل يف ذكر شعيب وقوله :لقومه ( َوَاي قَ ْوِم َال َْجي ِرَمنَّ ُك ْم ِش َقاقِي) -أي ال حتملنكم عداويت
وبغضي ،وفرا الدين الذي أان عليه ،على اإلصرار على ما أنتم عليه من الكفر ابهل ،وعبادة األواثن ،وخبس الناس يف املكيال وامليزان
صالِح) و من الرجفة ،و اب قَ ْوَم نُوح) من الغر ،أو (قَ ْوَم ُهود) من العذاب ،أو (قَ ْوَم َ َص َ
ِ
،وترك اإلانبة والتوبة – فيصيبكم (مثْ ُل َما أ َ
"ما قوم لوط" وما انهلم من العذاب ِ ( ،مْن ُك ْم بِبَعِيد)؛ أي أن ما وقع عليهم ميكن أن يقع عليكم.
نستطيع أن نتصور مثلثني للخطاب :األول املتكلم فيه هو اخلالق عز وجل وله املثل األعلى واملخاطب هو الرسول صلى هللا
عليه وسلم ومن تبعه من املؤمنني .أما الغائب فيشمل كل من يرد ذكرهم أو اإلشارة إليهم يف القرآن الكرمي ،ومنهم األنبياء ،ومنهم
شعيب عليه السالم .أما املثلث الثاين فاملتكلم فيه هنا هو نيب هللا شعيب واملخاطب هم قومه .والغائب فيه يشمل من ورد ذكرهم من
أنبياء وأقوامهم.
ليس فيما سبق إضافات ذات ابل ،لكن من انشغاالت حتليل اخلطاب خصوصا اخلطاب السياسي -الراهنة الكالم عن
اإلشارة والتقريب ) (proximizationابملعىن الذي يرد عند كاب .)1124( Capواملقصود ابلتقريب هنا هو أن الكاتب أو
املتكلم يعمد إىل أحداث أو شخصيات أو حاالت أو موجودات بعيدة عن مركز اخلطاب الراهن وبعيدة عن تحيطه وتحيط املستمع أو
القارئ فيقرهبا من ابب الرتهيب أو الرتغيب .ويكون التقريب يف ( )2الزمان ويف ( )1املكان وكذلك يف ( )3القيم الثقافية (وتشمل
املعتقدات والسلوك والتوجهات).
فعل هذا جورج بوش مرارا وتكرارا بعد احلادي عشر من سبتمرب فاستدعى هتلر من التاريخ لريهب األمريكان من صدام ،وبن
الدن ،وأشار إىل اختالف القيم األمريكية عن قيم "اإلسالم املتطرف" ،وانتهى ابألمريكان إىل اإلحساس أبن اإلرهابيني على أبواب
خمادعهم .يف سيا مغاير جند نيب هللا شعيبا خوف قومه من عواقب خمالفته والكفر مبا جاء به من رسالة ،فيستدعي مصري قوم لوط
09
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
ويلفتهم إىل أن قوم لوط ليسوا منهم (بِبَعِيد) -واملقصود هنا ابلبعد البعد يف الزمان واملكان كما ذهب املفسرون .وكأن نيب هللا شعيبا
يقول لقومه :لقد فعل قوم لوط ما فعلتم من خمالفة أوامر هللا تعاىل وهم ليسوا بعيدين عنكم ال يف الزمان وال يف املكان ،فقد ينالكم ما
انهلم إذا مل تثوبوا إىل رشدكم .يف النهاية نستطيع أن خنرج من مثلث اخلطاب الضيق -شعيب وقومه -إىل املثلث األوسع الذي
خاطب فيه هللا عز وجل رسوله ومن تبعه ممن آمنوا برسالته فيصد عليهم ما صد على قوم شعيب من الرتهيب والتحذير.
استطراد (:)2
"الزمان مكان سائل ،واملكان زمان متجمد"
(ابن عريب)
كل زمان يرتبط أبماكن تثريه وتعيده وختلده يف الذاكرة .حني تستعرض ذكرايت طفولتك وصباك تراها يف مشاهد كل مشهد
يف مكان ،فكل ما يكون يكون يف مكان .هكذا يعرب شريط األماكن أمام عينيك فيصبح املكان سائال متحركا .وحني تسرتجع
حلظات أثرية تسرتجعها يف مشاهد" :هنا مسعتها"" ،هنا رأيتها" " ،هنا قالت يل" " ،هنا ضحكت" .وكأنك جتلس يف قطار ال تتحرك
من مكانك بينما متر أمام عينيك احلقول واألهنار والبناايت وسائر األماكن .كذلك املكان جامد يف ذاته ،لكنه سائل متحرك ابعتبار
نشأته ووجوده وزمن بقائه وما يتعلق به من أحداث وأزمنة .تنظر إىل البناايت فال تراها إال جامدة ولو راجعت اترخها لوجدت أهنا
كانت يوما ما قفرا بلقعا ،مث أرضا صاحلة للبناء ،مث بناء يعلو ويعلو ،فطالء وأتثيثا ،فسكنا .وقد تنهار بناية وختتفي من على األرض.
وأنت ترى بناية تعلو ،أو ترى بناية تنهار تدرك أن املكان ليس ابجلمود الذي يتوامه الناس .التاريخ جغرافيا تتحرك وتتبدل وتتواىل عليها
األحداث والبشر والذكرايت .واجلغرافيا اتريخ يتجمد فيصبح بناايت وطرقا وآاثرا .وحني يتسع نطا النظر نتذكر أن األرض اليت نستقر
عليها ما هي إال كوكب يسبح يف ملكوت هللا الواسع .أتمل قول هللا عز وجل يف سورة النمل وانظر كيف يصري الليل (وهو زمن) سكنا
ك َآلَ َايت لَِق ْوم يُ ْؤِمنُو َن ِ وكيف متر اجلبال الراسخة الشاخمة مر السحاب( :أََمل ي روا أ ََّان جع ْلنَا اللَّيل لِيس ُكنُوا فِ ِيه والنَّهار مب ِ
صًرا إِ َّن ِيف َذل َ َ َ َ ُْ ََ ْ َ َ ْ ْ ََ ْ
اجلِبَ َال َْحت َسبُ َها ِ ض إَِّال َم ْن َشاءَ َّ ات َوَم ْن ِيف ْاأل َْر ِ السماو ِ الصوِر فَ َف ِز َ ِ
(َ )68ويَ ْوَم يُْن َف ُخ ِيف ُّ
ين (َ )68وتَ َرى ْ اَّللُ َوُكلٌّ أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ ع َم ْن يف َّ َ َ
اَّلل الَّ ِذي أَتْ َق َن ُك َّل َش ْيء إِنَّهُ َخبِريٌ ِمبَا تَ ْف َعلُو َن ()66 ج ِام َد ًة وِهي متَُُّر مَّر َّ ِ
اب صْنع َِّ
الس َح ُ َ َ َ َ َ
( )2أداة ملء الفراغات
"آلة كسولة تتطلب من القارئ القيام بعمل مشرتك متواصل مللء البياضات غري املقولة أو األشياء اليت قيلت لكنها ظلت
بيضاء" (إيكو ، 2791 ،ص ،19عن النص األديب)
املقصود هنا هو فراغات اخلطاب أو النص واملسكوت عنه فيه .ما الذي يعوز اخلطاب ليجنبه الغموض وااللتباس ؟ ماذا بني
السطور؟ أي افرتاضات مسبقة يتأسس عليها اخلطاب؟ وماذا يفهم املتلقي -أو قد يفهم -من غري أن يقال :تصرحيا يف النص أو
اخلطاب ؟ إذا قيل" :حرب أمريكا على اإلرهاب فشلت للمرة الثانية" ،فاملفروض أن القارئ يعرف أمريكا ،ويعرف حرهبا األوىل على
اإلرهاب ،ويعرف معىن اإلرهاب ويصد أن أمريكا كان هلا حرب أوىل على اإلرهاب وأن اخلصم يف تلك احلرب كان "إرهابيا".
من صفحة واحده من مستخدمي الفيسبوك من تونس(" :أ) توحشتك! (ب) ابهي .هات الكذبة اللي بعدها".
من الواضح أن املتكلم (أ) مذكر ألن رد (ب) فيه "هات" من غري "ايء" ومن الواضح أن املستمعة (ب) ال تصد ما قال
املتكلم .هي ال تصفه ابلكذب ،لكن "الكذبة اللي بعدها" ال ترتك جماال للريبة يف أهنا ال تصد أن غياهبا قد أوحشه ،فال بد لكل
"بعد" من "قبل" وإال فقدت داللتها وسبب وجودها يف النص .مل تقل " أنت تكذب" على سبيل التصريح ،غري أن اجلملة اليت تلي
"ابهي" مفادها أنه كذب يف " توحشتك" وسوف يكذب فيما بعدها.
09
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ال مفر ،إذن ،من أن يذهب الكالم عن ملء الفراغات والبحث عن املسكوت عنه يف نص أو خطاب إىل االفرتاضات
املسبقة واملعلوم من اللفظ أو العبارة ابلضرورة والتضمني .وفيها -مجيعا -انتهاك قواعد املبدأ التعاوين يف احلوار اليت تناوهلا بول جرايس
وهي الصد والكفاية واملالئمة وعدم اخلروج عن النص والوضوح ،على معىن أنك إذا سئلت سؤاال ،فينبغي أن تكون إجابتك شافية
وافية صادقة واضحة مناسبة .حني تنتهك هذه القواعد "املثالية" يكون االفرتاض والتضمني وغرياما من ضروب املسكوت عنه يف
اخلطاب والنص .يف مجلة "ال بد أن تتوقف عن اإلساءة إىل جريانك" -افرتاض ال نستطيع إثبات صدقه من كذبه أن املخاطب يسيء
إىل جريانه .ويف كالم أنور السادات يف الكنيست اإلسرائيلي ومنه " :أمحل إليكم رسالة شعب مصر الذي ال يعرف التعصب" -
افرتاض -ال ميكن إثباته ابلدليل أن شعب مصر "ال يعرف التعصب" .يشري االفرتاض املسبق ،إذن ،إىل التسليم بصحة مقولة أو فكرة،
ودعوة السامع أو القارئ إىل التسليم هبا ،بينما ينشغل بتلقي خرب أو إسناد آخر.
يف قول بعضهم" :عملية السالم يف الشر األوسط حتتاج دفعة قوية" ،اخلرب هو مجلة "حتتاج دفعة قوية" .بينما نتلقى هذا
اخلرب ،ونتساءل :هل هي حقا حتتاج دفعة قوية ،ال نتساءل :هل هناك حقا عملية سالم يف الشر األوسط؟ وهنا يكمن اخلطر
اجلسيم ،إذ يستخدم الساسة واملروجون والدعائيون ما ال حصر له من االفرتاضات املسبقة لتمرير مقوالت أيديولوجية ملتبسة ،وكأن
علينا حني نطالع عنواان حنو "التطرف اإلسالمي خطر يهدد الغرب" أن نسلم بوجود "تطرف إسالمي" بينما ننشغل بتلقي خرب هتديده
الغرب .أما املعلوم من مكتوب أو ملفوظ ابلضرورة فهو أشد التصاقا ابملكتوب أو امللفوظ ،ورمبا هلذا السبب ال جند له التأثريات
البالغية نفسها اليت للتضمني ،وال األامية نفسها يف دراسات حتليل اخلطاب .إذا قلنا إن عليا لديه ثالثة أوالد ،فمن املعلوم ابلضرورة أن
له ولد وولدين ،ومن املعلوم ابلضرورة أنه تزوج مرة واحدة على األقل .على أننا ال ينبغي أن نغفل السيا ،ألن ما هو معلوم ابلضرورة
يف ثقافة ما ،ليس معلوما ابلضرورة يف غريها دائما ،فليست كل الثقافات تضع الزواج شرطا لإلجناب .من السيا يكون استنتاج ما
يرتكه التضمني من فراغات وثقوب يف النص أو اخلطاب.
( )3أداة التغريب
سأمسيك الصباح
ألقول :صباح اخلري أيها الغيب الغايف يف دمي
سأمسيك املساء ألخطف من مساء الروح جنمة وأعلقها على جبني احلكاية
سأمسيك الغياب ألشتاقك حاضرا يف القلب
سأمسيك احلياة وأتلو عليك مزامريها ..
سأمسيك البداية ألرقيك من حر النهاايت ..
سأمسيك األان وأقول :كن خبري اي أاني ..
(ورود املوسوي)
حيسن أن يكون التعامل مع النص من وجهة نظر غريب عليه ال ألفة بينك وبينه .اقرأ قصة أو قصيدة كما لو كنت طبيبا أو
مهندسا ،واقرأ نصا علميا من وجهة نظر شاعر أو انقد أديب ،وانظر ما يسقط من املعىن والداللة ،وانظر ما ينبغي عليك أن تعرف
لكي تفهم مقاصد اخلطاب وأغراضه .نح عواطفك واحنيازاتك املسبقة جانبا -احنيازاتك إىل نوع أديب دون غريه ،أو مؤلف دون
سواه ،أو مدرسة فكرية أو أدبية أو توجه سياسي بعينه ،أو جمموعة معتقدات وثوابت ،أو طريقة خاصة يف الكتابة أو التعبري.
يف أبيات ورود املوسوي تعبري شعري شفيف عن هذه املسافة ،إذ تعيد الشاعرة /املتكلمة يف النص تسمية العامل من حوهلا
لتضفي عليه ما تريد من انفعاالت وصفات ،وتدخل معه فيما تريد من تفاعالت .إىل أن يبلغ التغريب منتهاه فتنشطر الذات إىل ذات
02
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
متكلمة ،وذات يقع عليها فعل التسمية وتتطابق مع املخاطب ،وتتلقى معه األمنيات الطيبة" :سأمسيك األان ،وأقول :كن خبري اي
أاني" .وقد وصف تحمود شاكر ( )2767ثالثة أزمنة يف حتليله قصيدة لتأبط شرا ،وهي "زمن احلدث" و"زمن التغين" ،وما بينهما
"زمن النفس" ،نفس الشاعر اليت مير فيها احلدث مث خرج يف ثوبه الشعري القشيب يف زمن التغين؛ أي زمن الكتابة أو التأليف .وهذا
هو املقصود مبصطلح التغريب )(de- familiarizationيف النقد األديب احلديث خصوصا الشكلية -أو الشكالنية -الروسية ،وترد
إشارة إىل معناه يف كتاابت الشاعر اإلجنليزي شيلي ،)2211 -2971( Shelleyفاألشياء اليت مير عليها الشاعر وغريه من
املبدعني مير عليها غريهم ،غري أهنا إما أن تذهب أدراج الرايح ،أو يسردها من مروا هبا سرد األخبار من غري أن متر على زمن النفس،
ومن غري أن تتفاعل مع غريها من مشاهد وخربات وأساطري ونصوص.
يف وصفه قصيدة اهلايكو العربية يكتب تحمود الرجيب" :صنارة صيد سحرية /تصطاد ما جيري وترتك ما جرى /فرتى يف املشهد
ما ال يرى" .الصيادون يف الواقع ال يقيمون عالقة بني أدواهتم وأدوات الشعراء ،لكن الشاعر مزج عاملني دالليني ،اما عامل الصيد وأدواته
،وعامل الشعر وأدواته ،فكان هذا الفضاء الداليل االستعاري اجلديد ،صنارة صيد سحرية ال تلتقط األمساك ،بل تلتقط املشاهد
واخلربات واحلاالت الشعورية اإلنسانية.
ما ينبغي يف قراءة الشعر ينبغي كذلك يف قراءة النصوص املشحونة ابلدالالت السياسية والقضااي اخلالفية .يف صفحة من
صفحات الفيسبوك نقرأ" :ابن الفالح ينفع ميوت ع احلدود بس ما ينفعش يدخل نيابة حىت لو أول دفعته" .إذا قرأت النص بعيين "ابن
الفالح" ،أو "ابن القاضي" ،أو عيين من يوزع املناصب ،فريسل هذا إىل احلدود ويرسل ذاك إىل مكتب وكيل النائب العام ،فأغلب
الظن أنك لن حتسن تقييم رسالة النص .سوف تشعر ابملرارة وظلم اجملتمع يف احلالة األوىل ،وسوف تشعر حبقد الداماء والغوغاء يف
احلالة الثانية ،وقد تشعر جبهل العامة وعدم إنصافهم ونكراهنم يف احلالة الثالثة .ال بد لك من أن خترج من الدائرة وتعاين املشهد لتقرر
حجم الصد والكذب ومطابقة الواقع يف النص.
( )4أداة اكتشاف املوضوع أو الغرض
" وقال أبرويز لكاتبه :اعلم أن دعائم املقاالت أربع ،إن التمس هلا خامسة مل توجد ،وإن نقصت منها واحدة مل تتم ،وهي:
سؤالك الشيء ،وسؤالك عن الشي ء ،وأمرك ابلشيء ،وإخبارك عن الشيء .فإذا طلبت فأسجح ،وإذا سألت فأوضح ،وإذا أمرت
فأحكم ،وإذا أخربت فحقق .وأمجع الكثري مما تريد يف القليل مما تقول".
(العقد الفريد البن عبد ربه األندلسي ،نسخة موقع الورا ،ص .)295
ملاذا يدور اخلطاب حول موضوع بعينه؟ ملاذا يتناول النص مثال موضوع الكراهية أو الثأر؟ ملاذا يتناول نص علمي موضوع
تلوث البيئة؟ ما اخليارات اليت جتاهلها النص ومل يتناوهلا وملاذا جتاهلها؟ وكيف يتناول النص املوضوع من انحية تنظيم املعلومات والتقدمي
والتأخري واملسند إليه واملسند أو املبتدأ واخلرب؟
يف فاحتة اخلطط املقريزية إشارات بليغة إىل موضوعها وغرضها ومنهجها وطريقة من ألفها يف مجع معلوماهتا وكتابتها" :فقيدت
خبطي يف األعوام الكثرية ومجعت من ذلك فوائد قل ما جيمعها كتاب ،أو حيويها لعزهتا وغرابتها إهاب ،إال أهنا ليست مرتبة على مثال
،وال مهذبة بطريقة ما نسج على منوال ،أردت أن أخلص منها أنباء ما بداير مصر من اآلاثر الباقية عن األمم املاضية والقرون اخلالية
،وأنثر خالل ذلك نكتا لطيفة ،وحكما بديعة شريفة ،من غري إطالة وال إكثار ،وال إجحاف خمل ابلغرض وال اختصار ،بل وسط بني
الطرفني ،وطريق بني بني ،فلهذا مسيته ...وإين ألرجو أن حيظى إن شاء هللا تعاىل عند امللوك ،وال ينبو عنه طباع العامي والصعلوك ،
وجيله العامل املنتهي ،ويعجب به الطالب املبتدي ،وترضاه خالئق العابد الناسك ،وال ميجه مسع اخلليع الفاتك ،ويتخذه أهل البطالة
والرفاهية مسرا ،ويعده أولو الرأي والتدبري موعظة وعربا ،يستدلون به على عظيم قدرة هللا تعاىل يف تبديل األبدال ،ويعرفون به عجائب
02
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
صنع ربنا سبحانه من تنقل األمور من حال إىل حال ،فإن كنت أحسنت فيما مجعت وأصبت يف الذي صنعت ووضعت ،فذلك من
عميم منن هللا تعاىل ،وجزيل فضله وعظيم أنعمه علي وجليل طوله ،وإن أان أسأت فيما فعلت ،وأخطأت إذ وضعت ،فما أجدر
اإلنسان ابإلساءة والعيوب إذا مل يعصمه وحيفظه عالم الغيوب ...فليسبل الناظر يف هذا التأليف على مؤلفه ذيل سرته إن مرت به
هفوة وليغض جتاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة أو نبوة ،فأي جواد وإن عنق ما يكبو ،وأي عضب مهند ال يكل وال ينبو،
السيما واخلاطر ابألفكار مشغول ،والعزم اللتواء األمور وتعسرها فاتر تحلول ،والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل ،والقلب
لتوايل احملن وتواتر اإلحن عليل ."..
ال تكتفي هذه املقدمة ابلكالم عن جنس الكتاب -وهو التأريخ أو الكتابة التأرخية ،عن "أنباء ما بداير مصر" -وأسلوبه
" -من غري إطالة وال إكثار وال إجحاف" -والتعبري عن التوتر بني مدح الذات والكتاب من انحية ،والتوسل إىل هللا تعاىل أن حيقق
الكتاب القبول وإىل القارئ أن يغض الطرف عما جيد فيه من قصور من الناحية األخرى ،بني الوعي مبا بذل املؤلف من جهد ،وتربير
ما ميكن أن يقع يف الكتاب من قصور ،بل تتجاوز ذلك إىل اإلشارة إىل انتماء الكاتب وخلفيته الدينية اإلسالمية " -عجائب صنع
ربنا سبحانه" و"فذلك من عميم منن هللا تعاىل وجزيل فضله وعظيم أنعمه علي وجليل طوله" و"إذا مل يعصمه وحيفظه عالم الغيوب" .
(انظر تطبيق ذلك على وصية أمامة بنت احلارث ،يف مزيد .)1121
وراء كل خطاب غرض ويف كل نص قصد ونية .رمبا جند يف اخلطاب أو النص ما يشري إىل قصد منتجه "-أريد أن أسألك"،
نرجو أن حنيطكم علما"" ،على سبيل االعتذار" -مع ضرورة توخي احلذر ،ألن املقاصد احلقيقية رمبا ال تنسجم مع ظاهر األقوال.
حني ينتفي الكالم عن غاية النص أو اخلطاب وقصد منتجه يصبح الكالم عن االختيارات اللغوية ودالالهتا ومضامينها بال معىن .كيف
يضع القارئ يده على غرض النص وموضوعه؟ يف الرتاث البالغي العريب تصنيفات مهمة يتفرع فيها غرض قصيدة إىل مدح أو هجاء
أو فخر أو غزل أو نصيحة وحكمة .وقد جتتمع يف قصيدة واحدة أغراض شىت .كيف يدرك املتلقي غرض النص؟ فيما يلي بعض
عالمات الطريق اليت تعني يف الوقوف على غرض النص وموضوعه أو مدار انشغاله ،وهي تناسب النصوص السردية أكثر من قصائد
الشعر (وولف:)1113 ،
(أ) حاجات الشخصيات ورغباهتا :إذا كانت شخصية من شخصيات السرد تعرب عن حاجتها إىل املال مرارا وتكرارا ،فال
بد أن يكون املال موضوعا من موضوعاته ،أو على أقل تقدير عنصرا مهما من عناصر موضوع آخر ذي صلة ،كالطمع ،أو السعادة ،
أو الفقر ،وهكذا.
(ب) الصراعات بني الشخصيات أو يف داخلها :ملاذا تتصارع تلك الشخصيات ؟ وما الغنائم اليت تسعى إىل كسبها من
وراء الصراع؟ رمبا يتصارع رجالن على حب امرأة أو امرأاتن على حب رجل ،فيصبح احلب موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف
السرد .ورمبا يتصارع زميالن على منصب يف العمل فتكون السلطة أو النفوذ موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف السرد .ورمبا
يكون الصراع داخليا بني دافعني أو رغبتني أو حالني ،بني احلب والواجب ،أو بني ما يتمىن املرء وما يستطيع وما هو عليه يف الوقت
الراهن؛ فيكون ذلك التوتر موضوعا أو عنصرا من عناصر موضوع يف السرد.
(ج) الصور والرموز واألماكن واألزمنة :إذا وجدان أن شخصية تحورية يف النص ترتدد على مكان ما يف الوقت نفسه كل يوم
أو كل شهر أو كل سنة ،فالبد أن هلذا املكان عالقة مبوضوع النص .وإذا ما لفت نظران إسهاب املؤلف يف وصف مكان ما؛ فال بد
أن للمكان عالقة جوهرية مبا حيدث فيه .وإذا ورد رمز يف النص مرارا وتكرار فال بد أن هلذا الرمز داللة مهمة ومكاان ابرزا يف رسالة
النص ومعناه الكلي .ومن ذلك صوت الكروان يف (دعاء الكروان) ،واملاء والصحراء يف (هاتف املغيب) ل مجال الغيطاين والواحة يف
(واحة الغروب) ل هباء طاهر والليل يف (القلق السري) ل فوزية رشيد.
09
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
(د) النصوص املتضمنة من حوارات وحماداثت والرموز واإلحاالت :إذا كثرت يف نص اإلحالة إىل صالح الدين وحطني
واألندلس وما إليها؛ فالبد أن من انشغاالته التوتر بني ماضي املسلمني الزاهر وحاضرهم املرتبك .وإذا كثرت اقتباسات شخصية روائية
من (هاملت)؛ فالبد أن هناك عالقة بينها وبني هاملت الشخصية واملسرحية.
ومن املالئم عند النظر يف غرض النص النظر يف أغراض مجله وتراكيبه الصغرى كل على حدة .هنا قد حيتاج املتلقي تصنيف
األفعال اليت تؤديها اللغة ،أو اليت نؤديها حنن ابللغة ،وفيما يلي تصنيف سريل ( ،)2767الذي يتأسس على تصنيف أوسنت
( ،)2761هذه األفعال (راجع مزيد ،)1121 ،حيث نستطيع ابللغة أن:
نقرر" ،و"نعتقد" ،و"جنزم " ،و"خنرب" ،و"خنتتم" ،و"نقر" ،و"ننكر" -وكلها تنتمي إىل فئة اإلخبار أو التقرير أو متثيل الواقع
Representativesواملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل representويعين "ميثل" ،أو "يعرض".
" أنمر" ،و "ننهى" ،و"نطلب" ،و"نرجو" ،و"نسأل" ،و"نتوسل " ،و"نتضرع " ،و"ندعو" ،و"نصر" ،و"نلح" -وكلها تنتمي إىل
فئة األمر والنهي Directivesواملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل directويعين "يوجه" ،أو "أيمر".
" نعد" ،و"نتعهد" ،و"نقسم" ،و"حنلف" ،و"نلتزم" ،و "نتحمل" ،و"حنمل" وزرا أو مسؤولية ،أو "أنخذ على عواتقنا" -
وكلها تنتمي إىل فئة التعهد أو االلتزام Commissivesواملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل commitويعين "يلزم" ،أو
"يلتزم".
" نعتذر" ،و "أنسف" ،و"هننئ" ،و"نعزي" ،و "نشكر" ،و"نرحب" ،و"نشكو" ،و"مندح" ،و"نذم" ،و"جنامل" ،
و"نتلطف" ،و"نندم" ،و"مننت" - ،وكلها تنتمي إىل فئة التعبري ،أو البوح Expressivesواملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل
expressويعين "يعرب".
نعلن "(حراب مثال)،و"نزوج" ،و"نطلق" ،و"نسمي" ،و"حنكم"( ،بغرامة مثال) ،و"نشهد" ،و"نوقع (عقدا)" ،و"نعني" ،أو
"نفصل" من العمل ،و"مننح" لقبا ،أو درجة ،و"نبيع" ،و"نرهن" ،و"نقرض" -وكلها تنتمي إىل فئة اإلعالن ،أو املنح
واملنع Declarationsواملصطلح اإلجنليزي أصله الفعل declareويعين "يعلن" ،أو "يصدر".
( )5أداة النغمة والتنغيم
عشر ما يقع يف احلياة اليومية من صراع وشجار مرده إىل اختالف الرأي أو املصلحة .تسع أعشار ذلك مرره إىل سوء
استعمال نربة الصوت والتنغيم -
(ترمجة من اإلجنليزية ،نص جمهول املؤلف)
يف الكالم يؤدي التنغيم ودرجة الصوت ومستوايته ولغة اجلسد دورا مهما يف نقل املعىن ويف لفت نظر املتلقي إىل األفكار
املهمة .يف الكتابة تؤدي هذا الدور عالمات الرتقيم والتعليقات الشارحة – حنو "قال يف دهشة ظاهرة"" ،أعرب عن أسفه"" ،صرخ يف
وجهها"" ،امس معاتبا" حني تتناول نصا مكتواب اقرأه بصوت عال وتصور لو كنت أنت مؤلفه .أين يرتفع صوتك ؟ وأين ينخفض ؟
وأين تبتسم ؟! وأين تعبس أو تتجهم ؟ وهكذا .يرتبط الكالم عن النغمة والتنغيم ابلكالم عن طريقة األداء أو نقل املعىن بني سخرية
وهزل وجد ووقار أو حياد.
بكم طريقة تستطيع سيدة مصرية أن تقول "نعم"؟ سوف تتضاعف الطرائق حني تضيف إىل "نعم" تعابري من قبيل "اي
ادلعدي" و "اي روح أمك" وما شاهبها ،وبكم طريقة تستطيع أن تقول "ال"؟ وكيف يتغري املعىن مع تغيري الطريقة ؟ وأنت تقرأ (فَتَ بَ َّس َم
ك ِيف ضاهُ َوأ َْد ِخ ْل ِين بَِر ْمحَتِ َ
ي وأَ ْن أَعمل ِ
صاحلًا تَ ْر َ
ِ اح ًكا ِمن قَوِهلَا وقَ َال ر ِ
ب أ َْوِز ْع ِين أَ ْن أَ ْش ُكَر نِ ْع َمتَ َ
ك الَِّيت أَنْ َع ْم َ
ضِ
ت َعلَ َّي َو َعلَى َوال َد َّ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ َ
ني) (سورة النمل )27 :تستطيع أن تتصور املشهد .سيدان سليمان يبتسم بعد أن مسع النملة تنصح صاحباهتا ابالختفاء ِعب ِاد َك َّ ِِ
الصاحل َ َ
09
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ويتجه ببصره إىل السماء يسأل هللا أن يعينه على شكر نعمته .سيا النص وما فيه من تعليقات شارحة وإشارات إىل لغة اجلسد هي
اليت تعني املتلقي يف تصور مشهد كهذا املشهد وهي اليت تعني خمرجا مسرحيا أن ينقل مسرحية "مكتوبة" إىل "عرض" مسرحي.
وال بد أنك تستطيع بسهولة ويسر أن تتصور املشهد -مشهد املرأة الفاتنة ظاهرة الثراء ،واحلمال الذي ينتظر الفرج فتنفتح
أمامه أبواب السماء فيهرول وراء الفاتنة ميين نفسه بصحبة سيدة فاتنة وكسب وفري ،وذلك أضعف اإلميان – وأنت تقرأ أول حكاية
"احلمال مع البنات" يف (ألف ليلة وليلة)" :كان إنسان من مدينة بغداد وكان محاال .فبينما هو يف السو يوما من األايم متكئا على
قفصه إذ وقفت عليه امرأة ملتفة إبزار موصلي من حرير مزركش ابلذهب وحاشيتاه من قصب فرفعت قناعها فبان من حتته عيون سوداء
أبهداب وأجفان ،وهي انعمة األطراف كامله األوصاف ،وبعد ذلك قالت حبالوة لفظها :هات قفصك واتبعين .فحمل احلمال
القفص وتبعها إىل أن وقفت على ابب دار فطرقت الباب فنزل له رجل نصراين ،فأعطته دينارا وأخذت منه مقدارا من الزيتون وضعته
يف القفص وقالت له :امحله واتبعين ،فقال احلمال :هذا وهللا هنار مبارك .حرير مزركش ابلذهب وعيون سوداء هدابء وأطراف انعمة
وأوصاف كاملة ولفظ حلو عذب -مجال وثراء وقلب قد يلني -فلماذا ال يهتف احلمال " :هذا وهللا هنار مبارك"؟
وال بد أن يتسع مفهوم النغمة يف اخلطاب ليتناول حاله من اهلزل واجلد ،والوقار واجملون ،والسخرية واالستهزاء
( )6أداة األفعال ال األقوال
خرقاء يلعب ابلعقول حباهبا
كتلعب األفعال ابألمساء
(أبو متام ،يصف اخلمر)
ال يطيب قلب امرأة حتبها،
إال قول طيب ير الصخر له،
متبوعا بفعل أطيب منه.
(أمحد الشهاوي)1125 ،
الفعل ابملعين النحوي هو قلب اللغة النابض .وهو نقطة ارتكاز مهمة يف حتليل اخلطاب خصوصا عند توظيف أداة اكتشاف
األفعال .فتش عن األفعال .أول خطوة هي الوقوف عند األفعال مث تصنيفها( :أ) أفعال كينونة وصريورة أو حتويل (أفعال إسناد) (ب)
أفعال مادية (ج) أفعال لفظية /كالمية (د) أفعال ذهنية نفسية (ه ) أفعال سلوكية (و) أفعال وجودية كما يف "على الطاولة كوب" " ،
هناك قصور واضح".
ما جدوى تصنيف األفعال هبذه الطريقة ؟ هو عالمة على طبيعة النص وحظه ،وحظ من فيه من الشخصيات من الفعل ،
واحلركة ،والتأثري ،والتأمل ،والتقرير ،واإلخبار ،والقدرة ،والعجز ،والرتدد ،وغري ذلك من حاالت .
قاعدة يف اخلطاب ابالسم واخلطاب ابلفعل :االسم يدل على الثبوت واالستمرار ،والفعل يدل على التجدد واحلدوث ،وال
اعْي ِه) -لو قيل "يبسط" مل يفد الغرض ،ألنه يؤذن حيسن وضع أحداما موضع اآلخر ،فمن ذلك قوله :تعاىل ( :وَك ْلب هم اب ِس ٌ ِ
ط ذ َر َ َ ُُْ َ
مبزاولة الكلب ابلبسط وأنه يتجدد له شيئا بعد شيء ،فباسط أشعر بثبوت الصفة( .السيوطي :اإلتقان يف علوم القرآن ،نسخة موقع
الورا ،ص )112
ال تغرنك كثرة األفعال وفخامتها وصرامتها بل انظر حظها من النفي واإلثبات والسلب واإلجياب .إذا مسعت سياسيا خطب
قائال "سوف نبين" و"سوف نواجه" و"سوف نشيد" و "سوف مننح" فانتظر حىت تقع هذه األفعال وإال فصنفها حتت بند األماين
والوعود .قس على ذلك ما يقع يف اخليال والوهم وما يرد يف صيغة الدعاء واألمر .أما اإلجياب والقبول فمسألة فيها نظر .كيف ترى
00
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
فعل القتل ؟ هل هو فعل إجياب أم فعل سلب؟ تحمود أم مذموم ؟ فصل آخر من فصول الكالم عن الفعل هو ما حييط به من نواسخ
تفيد وقوعه أو ال تفيد وقوعه ومن دالالت على الشروع أو املقاربة أو غري ذلك ويندرج بعضها يف اللغات الغربية حتت فئة األفعال
املساعدة أو الناقصة .فليست مجلة "كان حيرص على زايره أهله" كجملة "ما زال حيرص على زايرة أهله" ،وال قولنا " انتهى من إعداد
رسالته" كقولنا " أوشك على االنتهاء من إعداد رسالته" ،أو قولنا "شرع يف إعداد رسالته" ،أو "شرع يعد رسالته".
ينبغي أال خنلط بني ما يفعل املتكلم ابللغة يف اخلطاب وبني األفعال يف اجلمل اليت يشتملها اخلطاب .انظر ما يريد املشاركون
يف اخلطاب أن يفعلوا ابللغة ،وما يريد أن يفعله املؤلف ابللغة ،يريد أن خربك أو ينصحك أو ينهاك أو يعلمك أو يتالعب بعقلك أو
يضللك أو يؤانسك ويضحكك أو يبكيك ،وغري ذلك .يف النص سوف جتد أخبارا وأوامر وتنبيهات ،وترغيبا وترهيبا ولوما وعتااب
وشكرا وتعزية وتعاطفا وس خرية ونقدا وتعضيدا ،وإقناعا ومدحا وذما وغري ذلك .لكن تذكر أن اجلملة الواحدة قد تؤدي أكثر من فعل
.وتذكر أن العالقة بني ظاهر اجلملة وابطنها ليست مباشرة يف كل األحوال ،فقد يقصد ابلسؤال التوبيخ ال االستفهام ،وقد يقصد
ابخلرب الطلب ال جمرد اإلخبار .سوف جتد نفسك مضطرا يف كل مرة إىل العودة إىل سيا اخلطاب وعالقات املشاركني فيه لتقف على
األفعال اليت تؤديها اللغة.
استطراد ( :)3اشتقت إليك
اشتقت إليك فعلمين أال أشتا
علمين كيف أقص جذور هواك من األعما
علمين كيف متوت الدمعة يف األحدا
علمين كيف ميوت احلب وتنتحر األشوا
ال شيء حيدث يف كلمات نزار قباين من قصيدة (رسالة من حتت املاء) .يف األبيات نسيج استعاري شفيف بديع .وراء هذا
النسيج توتر بني تصور احلب شعورا ال راد له ،وال سلطان عليه وبني تصوره سلوكا ميكن ترويضه وتعديله وتغيريه .الشو نزوع القلب
إىل من حتب وما حتب .يف األبيات يطلب احملب املشتا من تحبوبه أن يعلمه أال يشتا وكأن القلب عضلة ينمو فيها الشو ابلرتك
ويضمر ابلقمع .مث يطلب منه أن يعلمه كيف جيتث جذور حبه من أعماقه.
ويف هذا تصور احلب نبتا ينمو وتتعمق جذوره وتضرب يف أعما القلب .على املنوال نفسه يطلب احملب من تحبوبه أن يعلمه
كيف مييت دموعه يف أحداقها وكيف مييت حبه ويدفع أشواقه إىل االنتحار .ثالث استعارات متعاقبة عن الدموع واحلب واألشوا
بوصفها كائنات حتيا ومتوت .يبقى السؤال عالقا :هل حتيا األشوا ومتوت من تلقاء نفسها من غري سلطان لصاحبها عليها أم يستطيع
أن يسوسها ويطوعها؟ املتكلم يف هذه األبيات ال ميلك القدرة على سياسة أشواقه أو دموعه أو هواه ويطلب املعونة والنصيحة ،إال أن
املفارقة الشيقة هي أنه يطلب العون ممن كان سببا فيها مجيعا.
يف حتليل السرد ينبغي التمييز بني األفعال اليت تقع يف العامل واألفعال اليت يؤديها السرد .على سبيل اإلجياز هذه بعض األسئلة
اليت ينبغي على التحليل التداويل أن جييب عنها يف تناوله أفعال السرد (فان دايك:)2721 ،
ما األفعال البالغية اليت ينجزها النص – أفعاله الكربى ،حنو اهلجاء واملدح والسخرية والتهنئة والنصح والتعليم والبوح
والتأريخ ،وغري ذلك ،وما يشتمل النص من أفعال صغرى.
ما هي شروط بالغة تلك األفعال وأتثريها؟ على سبيل التمثيل ال احلصر يف حالة األمر ،ينبغي أن يكون اآلمر أعلى مكانة
وأكثر قوة من املأمور إال يف حاالت خاصة يف مقام السخرية أو التهكم.
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ما مكوانت املقام أو السيا اليت تكتسب من خالهلا تلك الشروط داللتها وأاميتها؟ يف حالة األمر ترتبط عالقات القوة
والنفوذ ابلسيا االجتماعي الذي ختلف من مكان إىل مكان ومن زمان إىل زمان ،ولنقارن مكانة املعلم يف املاضي واحلاضر
ومكانة رجل الشرطة أو الوالد يف الشر والغرب .
كيف ترتبط األفعال البالغية وسياقاهتا أببنية النص -الكربى والصغرى ؟ كل فعل بالغي حتمله بنية لغوية؛ فلألمر صياغته
وللسؤال صياغته وللخرب صياغته .يف حاالت كثرية يقع التباين بني البنية اللغوية والوظيفة البالغية وهذا مدار انشغال مبحث
اخلرب واإلنشاء يف اللغة العربية فليس كل سؤال استفهاما وليس كل خرب خربا.
ما وجوه الشبه واالختالف بني تلك األفعال البالغية وسياقاهتا واألبنية النصية اليت حتملها من انحية وغري ذلك من ضروب
التواصل البشري من الناحية األخرى ؟ على سبيل املثل قد تؤدي إشارة ابليد ما يؤديه فعل أمر وقد تنتج ابتسامة الداللة
نفسها اليت تنتجها مجلة خربية.
( )7أداة حتليل املفردات
تعجبين الكلمات اجلزلة القوية ذات الداللة.
(لويزا ماري ألكوت :نساء صغريات)
املفردات هي اللبنات األوىل اليت ينشأ منها النص أو اخلطاب ،ينتظمها رسم هندسي هو بناء النص أو اخلطاب ،وتتالحم
من خالل عوامل وحروف معان وروابط .يف حالة النصوص اإلجنليزية من املفيد أن تناقش أصول املفردات هل هي جرمانية أم التينية ؟
فليس بني libertyو freedomوال بني beginو commenceتحض ترادف .املفردات اجلرمانية أكثر "عفوية" وتلقائية ،أما
املفردات الالتينية فأكثر "لياقة" وأميل إىل العلوم منها إىل األدب .قائمة املرتادفات اجلرمانية والالتينية يف اللغة اإلجنليزية ليس هذا مقام
إيرادها ،لكن يسهل العثور عليها ابلبحث يف الشبكة "العنكبوتية".
يف النصوص العربية تستطيع أن تتناول املفردات من جهة غرابتها ووحشيتها وابتذاهلا ،أيها ينتمي إىل فصحى الرتاث ،وأيها
ينتمي إىل فصحى العصر ،وأيها ينتمي إىل عامية املثقفني ،وأيها ينتمي إىل عامية املتنورين ،وأيها ينتمي إىل عامية األميني -
والتصنيف الشهري للسعيد بدوي ، -أيها عريب أصيل وأيها مستعار أو معرب أو مرتجم ؟ وما داللة اختيار مفردات من مستو دون
غريه على غاايت النص وعالقات املشاركني فيه؟ وما دالالت الرتمجة أو االستعارة من مفردات أجنبية يف نص أو خطاب؟
قبل الوصول إىل استنتاجات هنائية ،ينبغي أن نالحظ أن املفردة قد تكون غريبة أو مألوفة ابلنظر إىل سيا إنتاج النص ،
وليس ابلنظر يف سياقات تلقيه ،فقد جتد يف قصيدة جاهلية مفردات وعرة تشق على أذن مستمع معاصر ،لكنها مل تكن كذلك على
أذن من عاشوا يف زمن أتليفها .من املهم يف تناول املفردات كذلك إكتشاف ما قد ينتظمها من "حقول داللية" ،واحلقل الداليل هو
جمموعة من املفردات تنتمي إىل جمال واحد من جماالت املعىن أو الداللة ،أو "فضاء داليل واحد" ،على سبيل املثل "الفتحة" و"
الضمة" و"الكسرة" عالمات إعراب ،و"التني" و"الزيتون" و"السرو" و"النخل" و"الصفصاف" أشجار ،وهكذا( .ال تكتمل متعة
الكالم عن احلقول الداللية يف اللغة العربية من غري قراءة رائعة أيب منصور الثعاليب :فقه اللغة).
هذا جانب ال يطرقه كثري ممن يتناولون النص على ما له من أامية ،فاحلقول الداللية أداة مهمة من أدوات تشكيل الصورة
واجملاز .إذا كان اجملاز هو انتقال عبارة أو مفردة من جمال استعماهلا إىل جمال مغاير ،فهي ال تنتقل مبفردها بل تنقل معها بعض
صاحباهتا من اجملال القدمي نفسه إىل اجملال اجلديد لتكتمل االستعارة أو اجملاز .يف بيت شعر أغلب الظن أنه لزهري ابن أيب سلمى -
"لدى أسد شاكي السالح مقذف ...له لبد أظفاره مل تقلم " -وصف رجل وتشبيهه أبسد .كان ال بد أن تنتقل مع كلمة "أسد"
كلمات أخرى تنتمي إىل عامل األسد نفسه وهي "لبد" و"أظفار" و"تقلم" .واحلقول الداللية أداة مهمة من أدوات إنتاج الفكاهة من
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
خال التورية .من أين أتيت الفكاهة يف هذا النص من دعاء مدرس اللغة العربية " :اللهم اجعلين فاعال للخري ،ومرفوعا عن الشر،
وبعيدا عن النصب ،ومضافا لعبادك الصاحلني ،وجمرورا لتقواك"؟ من انتقال مفردات من جمال "النحو" إىل الكالم عن "بشر" .إذا
أردان أن نستبدل مبدرس اللغة العربية مدرس علوم ،فال بد أن نستعري مفردات من جمال العلوم ،وهكذا .سوف جتد كثرياً من نصوص
الكاريكاتري والطرف والنوادر واملزح تستند يف حتقيق بالغتها وفكاهتها إىل تنقل املفردات بني احلقول الداللية .تصور زوجة مجيلة تقول
لزوج انتهت صالحيته وهو رجل أعمال تسأله "هل كل رجال األعمال متعثرون مثلك ؟ "تكمن الفكاهة هنا يف ازدواج معىن
"متعثرون" ويف انتقاهلا املؤقت من الكالم عن رجال األعمال واملشروعات إىل الكالم عن زوج قليل الباءة .ومن الكالم عن املفردات
كذلك الكالم عن الرتادف والطبا واجلناس وغري ذلك من عالقات داللية ال يقتصر دورها على حتقيق الرتابط بني أجزاء اخلطاب أو
النص بل يتجاوز ذلك إىل أتكيد رسالته وجتلية بعض غاايته وتشكيل صوره وجمازاته .من اليسري أن نكتشف الدور البالغي املهم الذي
تؤديه املفردات يف أبيات تحمود درويش (فكر بغريك ):
وأنت تعد فطورك ،فكر بغريك
ال تنس قوت احلمام
وأنت ختوض حروبك ،فكر بغريك
ال تنس من يطلبون السالم
وأنت تسد فاتورة املاء ،فكر بغريك
من يرضعون الغمام
وأنت تعود إىل البيت ،بيتك ،فكر بغريك
ال تنس شعب اخليام
وأنت تنام وحتصي الكواكب ،فكر بغريك
مثة من مل جيد حيزاً للمنام
وأنت بتحر نفك ابالستعارات ،فكر بغريك
من فقدوا حقهم يف الكالم
وأنت تفكر ابآلخرين البعيدين ،فكر بنفسك
قل :ليتين مشعة يف الظالم
من ترادف بني "فكر" و "ال تنس" ،إىل حقول داللية " -فطورك" و"قوت احلمام"" ،املاء" و"الغمام"" ،البيت" و"اخليام"،
"االستعارات" و"الكالم" -إىل عالقات داللية بني "حروبك" و"السالم" ،و"تنام" و"املنام" ،و"مشعة" و"الظالم" ،تتجلى رسالة
القصيدة يف التأكيد على "العالقة" ابآلخر وضرورة اإلحساس "بغريك" خصوصا إذا كان يف حاجة إىل التعاطف ..
( )8أداة التساؤل :ملاذا تبدو األشياء على ما هي عليه؟
"وقال :أمل يكفكما التسافه يف جملس احلكم .واإلقدام على هذا اجلرم .حىت تراقيتما من فحش املقاذعة .إىل خبث املخادعة؟"
(مقامات احلريري ،نسخة موقع الورا ،ص )75
ملاذا ترد العبارات واجلمل يف اخلطاب على اهليئة اليت ترد عليها؟ ملاذا يغلب على النص النفي أو البناء للمجهول على سبيل
التمثيل ال احلصر؟ ملاذا ينسحب الفاعلون احلقيقيون لصاحل مفعول مطلق أو ضمري مسترت؟ ملاذا يقال " :مصرع عشرة" ،وال يقال :
995
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
"قتلت جهة كذا أو كذا عشرة ؟" وملاذا يقال " :احلرب مع العرا " ،وال يقال " :اعتداء الوالايت املتحدة على العرا " ؟ قد ختفي
الفاعل ألنه جمهول وقد ختفي ألنه مرهوب اجلانب.
ملاذا تنحاز بعض العناوين الدعائية إىل املركبات االمسية على حساب األفعال واملركبات الفعلية فيقال" :زايدة األجور يف مايو"،
وال يقال " :احلكومة تناقش زايدة األجور" يف مايو؟ ال بد أن "وراء األكمة ما وراءها" ،فلكل نص غاية وغاايت ،ولكل مؤلف غرض
وأغراض ،واألمساء من طبعها الثبات والرسوخ ،بينما األفعال من طبعها التغري والتحول ،ومن مسات األمساء االختزال ،أما األفعال
فتبحث عن "فاعلني" و"مفعول هبم" أو "ألجلهم" أو "معهم" ،وليس هذا مما ميكن التصريح به يف كل حال .وليس معىن " مع العرا
اهو َن) كداللة (يف صالهتم ساهون) .لو كانت "يف صالهتم" ،ما " كمعىن "على العرا " ،شتان .وليست داللة (عن ِِ
ص َالهت ْم َس ُ
َْ َ
صعدت إىل السماء صالة من معظم املصلني ،لكن هللا بعباده رحيم.
ملاذا تبدو أبيات درويش (فكر بغريك) اليت وردت أعاله يف احلديث عن املفردات على ما هي عليه ؟ الحظنا أن رسالة
القصيدة تكمن يف "التأكيد" على " العالقة" ابآلخر وضرورة اإلحساس "بغريك" خصوصا إذا كان يف حاجة إىل التعاطف .التأكيد
يلزمه تكرار -تكرار تراكيب وتكرار مفردات وعبارات -والعالقة اإلنسانية املرجوة تشري إليها عالقات داللية ،واآلخر املختلف اجلدير
ابلتعاطف نراه يف الطبا مع املخاطب الذي يعيش حياة هانئة مستقرة .هنا ينتهي بنا الكالم إىل أداة وثيقة الصلة من أدوات حتليل
اخلطاب وهي أداة النظر يف التأليف والصياغة.
( )9أداة النظر يف التأليف والصياغة
" ...واملعاين مطروحة يف الطريق يعرفها العجمي والعريب ،والبدوي والقروي ،واملدين ،وإمنا الشأن يف إقامة الوزن ،وختري
اللفظ ،وسهولة املخرج ،وكثرة املاء ،ويف صحة الطبع وجودة السبك"-.
(اجلاحظ :احليوان ،نسخة موقع الورا ،ص )127
كيف تنتظم املعلومات واألفكار يف مجل وعبارات ؟ ما العناصر اليت تكتسب حبكم موقعها النحوي أامية خاصة يف النص أو
اخلطاب؟ ماذا يستفاد من النظر يف ترتيب األفكار والعناصر يف الوقوف على غاايت النص أو اخلطاب ؟ ما املوضوع وما احملمول يف
كل مجلة ويف النص إمجاال؟ ما املسند إليه وما املسند؟ تذكر مطلع قصيدة روبرت فروست " "Whose woods are these I
think I know" .ملاذا احنرفت اجلملة عن طبيعتها املألوفة? I think I know whose woods are theseبعد أن تطالع
القصيدة سوف تكتشف أن من بني موضوعاهتا وأفكارها املهمة فكرة "امللكية" أو "احليازة" وحقو أصحاهبا .لذلك كان أول ما يطالع
القارئ يف القصيدة ضمري ملكية.
يف نص قصري لسعدية مفرح " -تغيب ...فأسرج خيل ظنوين" -توتر بني احلضور والغياب ،بني احلركة والسكون ،بني الظن
واليقني .وفيه عالقة أتثري وأتثر بني املخاطب الذي يغيب واملتكلمة اليت تسرج خيل ظنوهنا إثر غيابه .ويف النص استعارة بديعة هي
الظنون بوصفها خيوال -ويف الظنون ما يف اخليول من مجوح وقوة وحترر وانطال ،انطال قد يكون مدمرا أحياان .ال تكتفي الفاء يف
النص ابإلشارة إىل الرتتيب والتعقيب ،بل تشتمل كذلك معىن السببية فسرج اخليول بعض نتائج الغياب .وألن العالقة سببية؛ فالبد أن
اخليول سوف تنطلق وراء من غاب حتاول أن تكتشف أين مضى أو أين استقر .وبني الغياب والظنون عالقة داللية أخرى هي فقدان
اليقني :يف حالة الغياب يصبح فقدان اليقني مطلقا أو يكاد ،ويف حالة الظنون يبقى نسبيا .ليس يف النص يقني إال على سبيل
االستنتاج والقياس" :تغيب فأسرج خيل ظنوين"؛ ال تغيب فال أسرج خيل ظنوين.
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
( )11أداة النظر يف تتابع فقرات النص
"ومن اجملاز :زدت يف كالمه أو شعره فقرة وهي فصل أو بيت شعر ،وما أحسن فقر كالمه أي نكته وهي يف األصل حلي
تصاغ على شكل فقر الظهر"
(الزخمشري :أساس البالغة ،نسخه موقع الورا ،ص .)356
تتصل أبداة النظر يف التأليف والصياغة أداة النظر يف تتابع فقرات النص الكربى وتتابع مكوانت اجلمل .يف تطبيق هذه األداة
يعمد املتلقي إىل تقسيم النص إىل فقرات أو أجزاء على أساس ما فيه من أفكار أو على غري ذلك من أسس .املهم هنا هو االتسا
واملنهجية يف التقطيع والتقسيم .مث النظر يف داللة هذه القسمة ودورها يف توصيل رسالة النص وحتقيق غاايته .من ذلك ما جند يف
املعلقات وشروحاهتا ومقاطعها وداللة تقطيعها -من وقوف على األطالل ،مث رحلة ووصف طريق ،مث وصف دابة ،فوصف ظعائن ،مث
مدح أو فخر أو هجاء أو غري ذلك .لكل جنس أديب وخطايب مسات منها توزيع أفكاره وغاايته على أجزاء أو مقاطع ،وال بد أن
يكون النتهاك تلك السمة وإعادة النظر فيها غاايت بالغية جديدة.
يف هذه اآلايت من القرآن الكرمي ،سورة (األنعام) ،يستطيع املتلقي أن يتنقل بني مراحل اهلداية واليقني يف قصة سيدان إبراهيم
عليه السالم وأن يتعامل مع النص من وجهة نظر موضوعه أو أفكاره -من رفضه آهلة اآلابء ،إىل رؤيته كوكبا ،مث رؤيته القمر ،مث رؤيته
الشمس مث وصوله إىل احلقيقة الكربى .وبعد اهلداية أييت الصدام واملقارنة مع من ظلوا علي آهلتهم عاكفنيَ ( :وإِ ْذ قَ َال إِبْ َر ِاه ُيم ِألَبِ ِيه
ِِ ِ ات و ْاألَر ِ ِ ك نُِري إِب ر ِاهيم ملَ ُكوت َّ ِ ِ ِ ِ
ني
ض َوليَ ُكو َن م َن الْ ُموقن َ الس َم َاو َ ْ َْ َ َ َ ض َالل ُمبِني (َ )87وَك َذل َ ك ِيف َ صنَ ًاما آَهلَةً إِِين أ ََر َاك َوقَ ْوَم َآََزَر أَتَتَّخ ُذ أَ ْ
ني ( )88فَلَ َّما َرأَى الْ َق َمَر َاب ِز ًغا قَ َال َه َذا َرِيب فَلَ َّما أَفَ َل ( )87فَلَ َّما ج َّن علَي ِه اللَّيل رأَى َكوَكبا قَ َال ه َذا رِيب فَلَ َّما أَفَل قَ َال َال أ ُِح ُّ ِِ
ب ْاآلَفل َ َ َ َ َ َْ ُْ َ ْ ً
ت قَ َال َاي قَ ْوِم إِِين س َاب ِز َغةً قَ َال َه َذا َرِيب َه َذا أَ ْكبَ ُر فَلَ َّما أَفَلَ ْ َّم َ ني ( )88فَلَ َّما َرأَى الش ْ
ِ ِ ِ ِ ِ
قَ َال لَئ ْن َملْ يَ ْهدِين َرِيب َألَ ُكونَ َّن م َن الْ َق ْوم الضَّال َ
ِ ِ ِ ب ِريء ِممَّا تُ ْش ِرُكو َن ( )86إِِين و َّجهت وج ِهي لِلَّ ِذي فَطَر َّ ِ
اجهُ قَ ْوُمهُ قَ َال ني (َ )87و َح َّ ض َحني ًفا َوَما أ ََان م َن الْ ُم ْش ِرك َ الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ َ َ ْ ُ َْ َ َ ٌ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ اج ِوين ِيف َّ
اف
َخ ُ فأَ اف َما تُ ْش ِرُكو َن به إَّال أَ ْن يَ َشاءَ َرِيب َشْي ئًا َوس َع َرِيب ُك َّل َش ْيء ع ْل ًما أَفَ َال تَتَ َذ َّك ُرو َن (َ )68وَكْي َ َخ ُ اَّلل َوقَ ْد َه َدان َوَال أ َ أ َُحتَ ُّ
َح ُّق ِابْأل َْم ِن إِ ْن ُكْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن ()68 َي الْ َف ِري َق ْ ِ ما أَ ْشرْكتم وَال َختافُو َن أَنَّ ُكم أَ ْشرْكتم ِاب َِّ
َّلل َما َملْ يُنَ ِزْل بِِه َعلَْي ُك ْم ُس ْلطَ ً
ني أ َ اان فَأ ُّ ْ َ ُْ َ َ ُْ َ َ
وال أبس بتناول النص على أساس اآلايت وما فيها من أفكار ،وكيف تتصل مبا قبلها وما بعدها .ال أبس بتقطيع نص على
أسس كمية أو كيفية .املهم هو االتسا وتوضيح املربرات اليت جرى على أساسها التقطيع.
( )11أداة رصد املنجزات
"جنز وجنز الكالم :انقطع .وجنز الوعد ينجز جنزاً :حضر ،وقد يقال : :جنز .قال ابن السكيت :كأن جنز فين وانقضى،
وكأن جنز قضى حاجته ،وقد أجنز الرعد ووعد انجز وجنيز وأجنزته أان وجنزت به .وإجنازكه ، :وفاؤك به .وجنز هو أي وىف به ،وهو مثل
قولك حضرت املائدة .وجنز احلاجة وأجنزها :قضاها .وأنت على جنز حاجتك وجنزها ،بفتح النون وضمها ،أي على شرف من
قضائها ...وجنزت احلاجة إذا قضيت ،وإجنازكها :قضاؤها .وجنز حاجته ينجزها ،ابلضم ،جنزا :قضاها ،وجنز الوعد .ويقال : :أجنز
حر ما وعد .ابن السكيت :جنز فين ،وجنز قضى حاجته .قال أبو املقدام السلمي :أجنز عليه وأوجز عليه وأجهد"
(ابن منطور :لسان العرب).
ما الذي حيدث يف النص ؟ ما الذي تنجز الشخصية أو الشخصيات يف اخلطاب ؟ زواج ،أو جناح يف دراسة ،أو سفر ،أو
حصول على عمل ،أو اخرتاع ،أو استقالة ،أو انتصار ،أو عودة ،أو غري ذلك .هذا بعض ما قد جتد يف نص .ليست األفعال
وحدها هي املهمة هنا ،بل من مينح تلك األفعال مشروعيتها وحيدد أشراطها ،فالزواج مير مبؤسسة دينية وعادات وأعراف اجتماعية
واعتبارات مادية ،والنجاح يف دراسة مير عرب قوانني ولوائح املؤسسة التعليمية ومسات التعليم واملعلمني واملتعلمني يف جمتمع من اجملتمعات
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
،والسفر خضع العتبارات قانونية وسياسية ومالية وإنسانية وأتشريات وجوازات سفر وما إليها ،واحلصول على عمل قد خضع للكفاءة
وقد خضع للثقة والعالقات وقد مير مبراحل معلومة ومعلنة وقد ال مير ،وهكذا .هنا ال بد من العودة إىل أداة األفعال ال األقوال فليس
كل فعل مقبول بغض الطرف عن فاعله .تصور متهما يف قفص يف تحكمة يعلن على املأل" :حكمت على احملامي ابلسجن عشر
سنوات مع الشغل والنفاذ" ،هل يكون لكالمه من وقع أو حلكمه من عواقب إال السخرية منه ومعاقبته مبا يليق ؟ ويتباين الناس يف
تقييمهم ما يقع حوهلم ألسباب تتعلق بذواهتم وحتيزاهتم ومبوضوع التقييم والظروف اليت حتيط به.
يف هناية قصة (النافذة) ل أمني صاحل يرد تقييم السيد تحاوالت اخلادمة الغنائية الربيئة يف قوله" :تنبحني كالكلبة" .هكذا مسع
السيد غناء اخلادمة اليت ال يراها أكثر من آلة تعمل وجسد متاح للمتعة اجملانية .احتماالت ثالثة أقرهبا إىل املنطق من خالل بقية
القصة هو االحتمال الثالث )2(:قد يكون صوهتا قبيحا حقا (موضوع التقييم) )1( .وقد يكون السيد يف ظروف نفسية أو اجتماعية
سيئة (السيا ) )3( .وقد يكون السبب احتقاره اخلادمة على العموم (حتيزات املتلقي).
وهذا حوار شيق بني اجلاحظ وقارئ مفرتض يرد فيه اجلاحظ عن نفسه هتمة مفرتضة تتصل ابملزح والفكاهة اليت ترد يف كتاب
غاايته "املوعظة والتعريف والتفقيه والتنبيه"" :وهذا كتاب موعظة وتعريف وتفقه وتنبيه ،وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده ،
وتتفكر يف فصوله ،وتعترب آخره أبوله ،ومصادره مبوارده ،وقد غلطك فيه بعض ما رأيت يف أثنائه من مزح ال تعرف معناه ،ومن بطالة
مل تطلع على غورها؛ ومل تدر مل اجتلبت ،وال ألي علة تكلفت ،وأي شيء أريد هبا ،وألي جد احتمل ذلك اهلزل ،وألي رايضة
جتشمت تلك البطالة ؛ ومل تدر أن املزاح جد إذا اجتلب ليكون علة للجد ،وأن البطالة وقار ورزانة ،إذا تكلفت لتلك العاقبة ،وملا قال
اخلليل ابن أمحد :ال يصل أحد من علم النحو إىل ما حيتاج إليه ،حىت يتعلم ما ال حيتاج إليه ،قال أبو مشر :إذا كان ال يتوصل إىل ما
حيتاج إليه إال مبا ال حيتاج إليه ،فقد صار ما ال حيتاج إليه حيتاج إليه ،وذلك مثل كتابنا هذا؛ ألنه إن محلنا مجيع من يتكلف قراءة هذا
الكتاب على مر احلق ،وصعوبة اجلد ،وثقل املئونة ،وحلية الوقار ،مل يصرب عليه مع طوله إال من جترد للعلم ،وفهم معناه ،وذا من
مثرته ،واستشعر قلبه من عزه ،وانل سروره على حسب ما يورث الطول من الكد ،والكثرة من السآمة ( " ...اجلاحظ :احليوان ،موقع
الورا ،ص .)21
( )12أداة اكتشاف اهلوية
"أان لغيت"
(تحمود درويش)
من الذي يفعل ويتكلم يف النص وما ،هويته -هويته الدينية (مسلم أو مسيحي أو غري ذلك) والعرقية (عريب أو آسيوي أو
إفريقي أو غري ذلك) ،والسياسية (تحافظ أو ليربايل أو غري ذلك) ،واملهنية (طبيب أو معلم أو مهندس أو عامل أو عامل أو غري ذلك)،
واالجتماعية (احلضر والريف والبدو والطبقات االجتماعية) .هويتك هي "من أنت" و"إيل أي البالد تنتمي" ،و "ما تعمل" ،و "ما
متلك" ،و"كيف تبدو" ،و" أي لغة تتكلم أو تكتب" ،و"كيف تتكلم وتتصرف" و" كيف يراك اآلخرون" ،و"فيم تعتقد".
السن :ليس األطفال كاملراهقني وال كالبالغني ،ال يف لغتهم وال يف تصرفاهتم .لكل سن لغته اليت تنسجم مع ثقافته وتوجهاته ،
وحني يقع االرتباك يف التطابق بني اللغة والفئة العمرية اليت ينتمي إليها صاحبها -حني يتكلم الصغار كالم الكبار وحني يتكلم
الكبار كالم الصغار -ال بد من البحث وراء الغاايت البالغية والنصية هلذا االرتباك .
النوع :كالم الرجال ليس ككالم النساء ،وال كالم األوالد ككالم البنات وانشغاالت اإلانث يف استعمال اللغة ليست
كانشغاالت الذكور .قد تتقاطع اللغتان ألسباب تتعلق بغاايت النص وقد يلح املؤلف على إظهار الفرو بينهما ألسباب
أخرى .على أن االنشغال ابلنوع كثريا ما يتجاوز اإلشارة إىل متكلم أو متكلمة إىل البحث عن خطاب ذكوري أو خطب أنثوي
992
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
أو نسائي يف النص .يتشكل اخلطاب من أفعال وأقوال -وأفعال تقوم مقام األقوال وأقوال تقوم مقام األفعال -وتصورات عن
العامل ،منها تصورات عن املرأة والرجل أو األنثى والذكر ،أداوراما وعالقتهما املتبادلة والتوتر فيما بينهما.
الوظيفة :لكل مهنة لغتها و"سيمها" ومفرداهتا وأساليبها وأهل كل مهنة قد يستخدمون اللغة إلقصاء من ال ينتمون إىل املهنة أو
للتأكيد على تفرد املهنة وخصوصيتها .وقد يستخدمون اللغة لغاايت عملية ال يقصد هبا اإلحسان إىل أنفسهم أو اإلساءة إىل
غريهم .طبيبان يناقشان حالة مريض ويتكلمان ابللغة اإلجنليزية ويف كالمهما كثري من املصطلحات الطبية .مشهد مألوف ال
يقصد به اإلساءة إىل املريض الذي ال يعرف اإلجنليزية ،بل قد يقصد به جتنيبه مساع ما ال يروقه من أخبار عن حالته الصحية ،
وقد يكون تحض عادة أو ضرورة طبيه .وقد يقع اختالط بني لغات مهن خمتلفة ألغراض فكاهية ،فرتى الطبيب يتكلم لغة جزار
أو املدرس يتكلم لغة اتجر وهكذا" .واعلم أن بين اإلنسان ...متفاوتو الدرجات تفاوات بعيدا جدا ،وذلك أن من الناس من ال
يفهم إال لغة واحدة ،وال يعرف أيضا من معين تلك اللغة ،من األشياء واأللفاظ واألقاويل ،إال شيئا قليال .ومن الناس من
يفهم عدة لغات وحيسن أن يقرأ عدة كتاابت ،ويفهم من كل لغة أمساء وألفاظا وأقاويل كثرية ،ويفهم معاين دقيقة ،ما ال يفهم
غريه من الناس"(.رسائل إخوان الصفا ،نسخة موقع الورا ،ص )544
التعليم :ليس كالم املثقفني ككالم املستنريين املتعلمني ،وال ككالم األميني الذين ال حيسنون القراءة والكتابة .يف كثري من
النصوص إشارات لغويه إىل فرو يف املستوى التعليمي ،من املفردات إىل الرتاكيب واألساليب واإلحاالت واالقتباسات ،وقد
يكون التعليم أو غيابه موضوعا للصراع يف اخلطاب .وال بد أن املستوى التعليمي يف نص سردي يرتبط مبجموعة أخرى من
العالمات غري اللغوية منها امللبس والسلوك واألماكن والبيئة احمليطة واملمتلكات وغري ذلك .صورة "النظارة" ،واحللة والكتب اليت
حيملها املتعلمون "بتوع املدارس" مشهورة يف األفالم القدمية يف السينما املصرية.
اخللفية االجتماعية :من تحددات اهلوية وأركاهنا الطبقة االجتماعية وهلا أبعاد اترخية واقتصادية وجغرافية -بني بدو وحضر،
وصعيد وحبري ،بني أغنياء وفقراء وبينهما درجات وسطى ،وسود وبيض ،و"براامة " و" كشرتية" و"ويش" و" شودرا" -
الطبقة األوىل خلقت من وجه اإلله ،واألخرية من قدميه كما يعتقد أهل اهلند .ال يكاد نص سردي خلو من أثر أو آاثر للفرو
االجتماعية من (رد قليب) إىل (دعاء الكروان) إىل قصة (النافذة) اليت ترد إشارة إليها يف غري هذا املوضع ،وغريها من نصوص
روائية .وال بد أن يكون من انشغاالت حتليل اخلطاب السردي الوقوف على العالقة بني اخلطاب واجملتمع -كيف تشري
االختيارات اللغوية وغري اللغوية يف اخلطاب إىل عالقات اجتماعية خارج اخلطاب.
الداينة :من املفردات والتعابري يف كل لغة ما يشري بال مواربة إىل داينة مستخدميها ومنها ما ينسحب على خمتلف الدايانت وال
يشري إىل هوية مستخدميها الدينية أو املذهبية .قد تسمع يف اللغة العربية " واملسيح احلي" وقد تسيم " اي حسني " .عندها
تكتشف هوية املتكلم الدينية أو املذهبية .يف بعض النصوص يربز الدين موضوعا ومدار انشغال ويرتبط بذلك بروز فرو لغوية
تشري إىل الداينة كما جند يف رواية (خاليت صفية والدير) ل هباء طاهر ويف عنواهنا إشارة الفتة إىل عالقة بني داينتني اما اإلسالم
واملسيحية.
العر واجلنسية :ال بد أن قدرا كبريا من اخلطاب يتشكل من خالل االنتماء العرقي أو القومي أو كليهما معا .وال بد أن قدرا
كبريا من اهلوية العرقية والقومية أو كليهما معا يتشكل من خالل اخلطاب ،خصوصا السرد والرواية .قدر كبري من خطاب
الكتاب األمريكيني يتشكل من االنتماء إىل اجلانب األسود من الفردوس األرضي املوعود.
التوجه السياسي :يف حلظات االرتباك السياسي والفنت والصراعات ويف حاالت االستقطاب اليت عاينها العامل العريب يف السنوات
األخرية ،تربز اهلوية السياسية .وال بد أن نالحظ اشتباك اهلوية السياسية بعوامل اقتصادية ودينية – فهذا "انصري " ،وهذا
992
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
"اشرتاكي" ،وهذا "رأمسايل" ،وذلك "ليربايل" ،وتلك "علمانية" ،وغريها "دميقراطية" ،وغريها "مجهورية" ،أو "ملكية" ،أو
"إقطاعية" ،أو "برجوازية".
احلالة االجتماعية :عزب /عزابء أو متزوج /متزوجة أو أرمل /أرملة أو مطلق /مطلقة ،أو يف عالقة مغلقة أو مفتوحة ،معلنة
أو سرية .يف كل ثقافة تصورات عن هذه احلاالت وعن أصحاهبا تظهر أصداؤها يف اخلطاب الذي تنتجه هذه الثقافة ،من
ذلك ،صورة املطلقة يف جمتمعها.
قد تعاين الشخصية يف النص متزقا بني انتماءات وهوايت متباينة متصارعة وفد تفقد هوايهتا :هكذا تكلم الصاغ تحمود يف
(واحة الغروب) ل هباء طاهر " :املشكلة هي أنت ابلضبط اي حضرة الصاغ ،ال ينفع يف هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف
شرير ،نصف وطين ونصف خائن ،نصف شجاع ونصف جبان ،نصف مؤمن ونصف عاشق ،دائما يف منتصف شيء ما" .وقد
سلف أن جزءا مهما من هوية املشاركني يف اخلطاب أو النص تبلوره عالقاهتم ابآلخرين -كيف يرون اآلخرين وكيف يروهنم ؟ ويف مفردة
اهلوية تذكري جبانب من جوانب النفس أو الذات الثالثة يف التحليل النفسي " -أان" و"األان العليا" و "هو" -فيما يشري إىل أامية
اآلخرين يف تشكيل اهلوية والتعرف إليها.
ماذا نقرأ يف عنوان هذا الكتاب للراحلة رضوى عاشور" :الرحلة :أايم طالبة مصرية يف أمريكا"؟ نقرأ أن املتكلمة أنثى وأهنا يف
مرحلة ما بعد الدراسة اجلامعية األوىل وأهنا مصرية وأهنا متعلمة تعليما عاليا ،فهي يف بعثة إىل الوالايت املتحدة .ونتوقع أن حيدث توتر
بني هويتني وثقافتني .هذا ما جند يف أربع كلمات وحرف جر .على أن اهلوية ال تستكشف من خالل اللغة وحدها ،بل من خالل
جمموعة متجانسة أو متنافرة من العالمات منها امللبس والسلوك واملالمح والطقوس والشعائر واألماكن وغريها .وليست اهلوية مفهوما
اثبتا ال يتغري وال هي مفهوم يسبح يف فراغ.
وقد تسمع من يصر على تفرده ورفضه التصنيف واالختزال والتنميط ويطلب منك أن تراه هو كما هو ال كما تفرض عليه
ثوابت هويته وثقافته :من فضلك ال تصنفين على أساس وزين أو طويل أو مالتحي (فقد تكون حاالت عارضة مردها إىل املرض أو
ضغوط احلياة) ،وال الطبقة االجتماعية اليت أنتمي إليها (فقد يكون انتمائي إليها مريااث ال صلة يل فيه) ،وال على أساس مهنيت (فما مينع
الطبيب أن يكتب الشعر وما مينع احملامي أن يكون خبريا يف العناية ابلنبااتت ؟) ،وال نوعي (الذكورة واألنوثة مفهومان بيولوجيان ال
يفرضان سلوكا وال أخالقا) ،وال انتمائي العرقي ،وال جنسييت (فليس كل أهل بريطانيا يتصفون ابلربود وال كل نساء ابريس عاهرات)،
وال سين ،وال داينيت ،وال تعليمي ،وال دائرة أصدقائي ،وال أسلوب حيايت ،وال مقدار ما أدخر أو أكسب من املال ،وال نوعية
مالبسي ،وال الكتب اليت أقرأ ،وال أين أتسو ،وال كيف أرتب األشياء يف بييت ،وال ما أشاهد من برامج تليفزيونية ،وال كيف أقضي
أوقات فراغي ،وال ما أمارس من أنشطة رايضية ،وال نوع سياريت ،وال املوسيقى اليت أفضل االستماع إليها ،وال املأكوالت واملشروابت
اليت أحبها ،وال ما أراتد من أماكن ،وال كيف أقضي عطليت املومسية ،وال طريقة كالمي أو هلجيت أو لكنيت (فليس كل من حيسن لكنة
القاهريني قاهري السلوك) ،وال ما أقول ،وال ما أفعل ،وال ما أعتقد .أان أان من غري صفات حتددين أو تقيدين ( .بتصرف وتفسري من
كتاب كن براون :الثقافة واهلوية ،1123 ،وقد أسقطت عن عمد تحددا مهما من تحددات اهلوية يتناوله أهل الغرب اليوم من غري
حرج هو "امليل اجلنسي" " -طبيعي" أو "مثلي" أو مزيج بينهما .ويف الرتاث العريب كالم عن اللواطة والغلمان والسحا واملخنثني)
( )13أداة اكتشاف العالقات
" ...ملاذا سادة وعبيد بني متضادين من املفرتض أن الطبيعة أوجدهتما هكذا ليتكامال ،ال ليسود أحداما اآلخر ..ما احلكمة
يف هذا واحلياة تعبث ابالثنني معا وتكيد هلما ابلتساوي يف امتحان وجودي ال ذرة فيه لالحنياز ألي منهما؟ "
(فوزية رشيد :القلق السرى ،ص )17
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
ال خلو نص أو خطاب من عالقات – عالقات بني بشر أو بني بشر وكائنات وموجودات وعالقات بني أفكار ،غري أن
العالقات بني البشر هي اليت ترتك أثرها على اللغة واحلوار :عامل ومتعلم ،طبيب ومريض ،والد وولده ،أم وابنتها ،زوج وزوجة ،حاكم
وتحكوم ،صديق وصديق ،زميل وزميل ،غريب وشرقي ،خادم وسيد ،مستخدم ومستخدم ،مستعمر ومستعمر ،إىل غري ذلك من
أدوار .يف الغالب تكون للشخصية يف النص أدوار عده وسوف جتد أثر ذلك يف اللغة -لغة الكلمات ولغة اجلسد واحلركات -
فاحلاكم قد تتغري لغته حني خلع رداء احلكم ويرتدي رداء الزوج ،والشيخ الوقور قد يتخلى عن وقاره حني ينزل من على املنرب ليلعب
دور الوالد أو اجلد.
وجيدر أن نالحظ كذلك العالقة بني مؤلف النص واملتلقي املفرتض .كيف يرى املؤلف املتلقي وأي مكان ومكانة يريد له أن
يكون فيه وفيها :يف مقام املتعلم أو احملاور أو اخلصم العنيد أو املأمور أو املنصوح أو الندمي املؤانس أو الباحث عن املتعة ،كذا ينبغي أن
ننظر يف العالقة بني مؤلف النص وما فيه من شخصيات :هل يتكلم أحد بلسانه يف النص ؟ وهل املؤلف هو املتكلم يف النص ؟ سوف
نعود هنا لنؤكد على أن املؤلف ليس هو ابلضرورة األان املتكلمة يف النص ،فليس كل من كتب قصة حب وقع فيها.
فلنطالع اآلن قصة قصرية العالقة احملورية فيها هي عالقة سيد مع خادمة" :وأيمرها السيد أبن تكنس الغرفة مرة أخرى فتحتج
صامتة ألن الغرفة نظيفة وألن هذا جمرد عذر لكي يتطلع إىل جسمها اجلميل .تفتح النافذة ،بعد أن خرج السيد ،تصافح اهلواء الذي
يستقبلها بضحكة عذبة .تطريين ؟"أطري .أيخذها إىل مكان تزهو فيه األلوان وتومض حتدث انعكاسات يف اجلدول حيث املاء نقي
وشفاف .النساء تستحم والرجال يقطفون مثار األشجار واألطفال ميرحون على العشب .تسأل طفال" :تلهو منذ وقت طويل أال تشعر
جبوع ؟" يضحك الطفل :عم تتحدثني ؟ فتقول له :سوف مترض إذا مل أتكل .يهز الطفل رأسه " :لست جائعا ومل أمرض قط.
تقول" :ولكن املوت .يضحك عاليا .تسأله" :ملاذا تفتح فكيك هكذا وتطلق هذا الصوت الغريب ؟" جييبها بدهشة :أان أضحك .مث
جيري بعيدا عنها .حتاول أن تفعل مثله .تفتح فكيها وتدفع صوات ممزقا من صدرها ماذا تفعلني؟ تغلق النافذة بسرعة .كان السيد
يتأمل ظهرها .تنبحني كالكلية( .أمني صاحل :النافذة)2795 ،
من املمكن تقسيم العالقات اإلنسانية إىل:
الصداقة أو العداوة أو "العداقة" (أصدقاء أو أعداء أو "أعدقاء") .وتنقسم الصداقة على أساس النوع إىل:
صداقة بني ذكر وذكر.
صداقة بني ذكر وأنثى ،وفيها مكامن أخطار والتباس وتباين من ثقافة إىل أخرى ومن زمن إىل زمن.
صداقة بني أنثى وأنثى.
عالقات احلب :أوله اجنذاب ،فوقوع فيه ،فنمو ،فدوام واستمرار .أو كما أنشد شوقي " :نظرة فابتسامة فسالم فكالم فموعد
فلقاء" .أركان احلب ثالثة هي :األلفة والرغبة وااللتزام .ومن احلب ما ال يشتمل رغبة جسدية ويقال :له يف الغرب احلب
"األفالطوين" ويف الثقافة العربية احلب "العذري".
عالقات الزواج واألسرة والقرىب اليت تنشأ منهما أو تتصل هبما .من ذلك عالقة اآلابء ابألبناء والبنات وعالقة األزواج واألصهار
واألجداد واألحفاد وما إليها.
عالقات اجلرية -اجلريان وأهل احلي أو املنطقة أو اجلرية أو احلارة أو الشارع.
عالقات العمل ،وفيه عالقات بني:
oمستخدم وموظف ،مرؤوس ورئيس – عالقة اخلادمة وسيدها يف قصة (النافذة) .ومن ذلك عالقة املوظف الثري خبادمتيه
الشقيقتني يف (دعاء الكروان) يغرر ابألوىل مث يقع يف غرام الثانية اليت ذهبت إليه تنتقم ألختها.
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
oشركاء -متفقون أو متشاكسون أو بني ذلك.
" oزبون" أو "عميل" وصاحب عمل أو جتارة أو حريف -مع ضرورة االنتباه إىل أن األدوار تتبدل وتتغري فتتغري معها طبيعة العالقة
كما يف ثالثية جنيب تحفوظ حيث نرى السيد أمحد عبد اجلواد اتجرا يف النهار عاشقا يف الليل .وقد جتور عالقة الليل على عالقة
النهار فتشرتي احلبيبة من غري أن تدفع ويصبح ما اشرتت "بضاعة أتلفها اهلوى".
oوكيل وموكل -يف احملاماة وأعمال املقاوالت وما إليها.
oمالك ومستأجر -وقد تتطور العالقة إىل حب أو مصاهرة أو عشق كما حدث بني شفاعات والشاب الريفي الربيء يف (شباب
امرأة).
هذا ابإلضافة إىل العالقات العابرة الطارئة اليت تنشأ يف وسائل املواصالت واحملافل والتظاهرات والتجمعات ،ومنها ما قد يتطور
إىل عالقة ممتدة ومنها ما ال يتطور .وحيسن أن تنقسم العالقات اليوم مع تطور مواقع التواصل االجتماعي إىل عالقات واقعية وعالقات
افرتاضية وعالقات جتمع بني الواقع والعامل االفرتاضي.
يف حتليل نص سردي حيسن أن نتعقب ما فيه من عالقات ،كيف تنشأ؟ وعلى أي أساس تنشأ ؟ وكيف تتطور وإىل أين
تنتهي ؟ فيما يلي تصور نظري لبناء عالقة واهندامها أو هدمها ميكن أن يكون دليال وتبسيطا مفيدا .على أن احلذر واجب ،
فالعالقات اإلنسانية ال ختضع للقوانني الرايضية وال ميكن اختزاهلا يف معادلة رايضية أو كيميائية ،وكل عالقة هلا خصوصيتها .يف
الشكل -وهو ترمجة إطار نظري طرحه مارك انب -Knappمراحل مخس لنشأة العالقات املختلفة وتطورها مث مراحل مخس أخرى
الهنيارها.
يف البدء يكون اللقاء والتعارف .قد جيد الطرفان أو أحداما يف اآلخر ما يلفت النظر وقد يسعى إىل تطوير العالقة فيكون
التجريب وجس النبض للتحقق من التوافق واالنسجام ،ابلسؤال عن اهلواايت واألفكار وتفاصيل احلياة اليومية( .وعندان عادات خاصة
قد تنتهي إىل عواقب وخيمة ،منها السؤال عن احلالة االجتماعية من أول وهلة ومن غري سابق إنذار) .وقد ال جيد الطرفان شيئا
حيرضهما على تطوير العالقة فتنتهي حيث بدأت .إذا انتهت مرحلة جس النبض إىل قبول وانسجام تطورت العالقة وقويت ،ومن
عالمات قوهتا يف هذه املرحلة "الفضفضة" والبوح وتبادل احلكاايت اخلاصة واألسرار .قد يكون من عواقب البوح انكشاف أمر أحد
الطرفني أو التحقق من قلة صدقه وقلة جدارته ابلثقة فتقف العالقة عند هذا احلد( .حتكني حكاية لصديقتك فتجدينها بعد ساعات
على ألسنة اجلميع) .قد مير الطرفان من هذه املرحلة بسالم فيحدث التكامل ،ومن عالماته البقاء معا لفرتات طويلة حىت تصبح
990
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
العالقة ظاهرة يراها احمليطون مجيعا .مث يكون االرتباط "الرمسي" ابلزواج أو الشراكة أو التعاقد .هذا تصور فيه كما سلف كثري من
التبسيط املخل فقد يقع االرتباط من غري كل هذه املقدمات وقد حيدث احلب "من أول نظرة" .ومن الناس من يثق يف اآلخرين من غري
جهد وال جتريب ،فينتقل من التعارف إىل البوح والفضفضة من غري متهيد .ومنهم من يطيل التجريب والتمهيد ويصعب أن مينح أحدا
ثقته ،وقد ينعقد الزواج من غري مرور بكل ما سبق من مراحل إال بعض التعارف األسري االجتماعي ،وقد تنعقد شراكة من غري ما
يكفي من متهيد.
قد تبقى العالقة اثبتة مستقرة بعد أن حدث االرتباط فرتة تطول أو تقصر .وقد يقع الشقا واخلالف ويتذكر كل طرف نفسه
ويدافع عنها فتختفي "حنن" و"بيتنا" و"حياتنا" وتظهر "أان" و"أنت" و"حيايت" و"حياتك" و"أنت فعلت كذا" "ال بل أنت فعلت كذا
وكذا" .قد ينتهي الشقا إىل تقليص فرتات احلوار واالبتعاد عن الكالم يف األمور الشخصية ويقتصر على الكالم عن العمل أو أمور
"العيال" أو الشئون العامة .وقد تطول الفرتة فتنتهي إىل حالة من الركود والفتور تربد فيها املشاعر وتسيطر على الطرفني حالة من
الالمباالة .وقد تتفاقم املسألة فتنتهي إىل االجتناب واالعتزال فيبتعد كل طرف عن األماكن اليت يتواجد فيها الطرف الثاين .مث يقع
االنفصال املعلن الصريح .قد تبقى احلياة راكدة فاترة مملة من غري انفصال معلن أو صريح ،محاية "للعيال" ،أو حفاظا على السمعة
والشكل االجتماعي أو حفاظا على مصاحل مادية مشرتكة .وقد يعاود الطرفان املكاشفة واملصارحة والبوح وتعود العالقة لتتطور من
جديد.
معظم ما يقع من تطور أو اهنيار يف عالقات البشر تشري إليه اللغة وتعابري اجلسد .الحظ مثال االنتقال من املناداة ابللقب
وحده مث ابالسم مسبوقا ابللقب مث ابالسم وحده مث ابسم تودد و"دلع" .الحظ ما يصاحب ذلك من قرب جسدي وفكاهة ومزاح .
يف حلظات التوتر تعود األلقاب ويعود النفور ويعود التحفظ واجلدية.
( )14أداة اكتشاف وجهة النظر
"أيها القارئ"
هذه مقاالت خمتلفة يف مواضيع شىت كتبت يف أوقات متفاوتة ،ويف ظروف وأحوال ال علم لك هبا وال خرب على األرجح .
وقد مجعت اآلن وطبعت وهي تباع اجملموعة منها بعشرة قروش ال أكثر ! ولست أدعي لنفسي فيها شيئا من العمق أو االبتكار أو
السداد ،وال أان أزعمها ستحدث انقالابً فكرايً يف مصر أو فيما هو دوهنا ،ولكين أقسم أنك تشرتي عصارة عقلي وإن كان فجا ،ومثرة
اطالعي وهو واسع ،وجمهود أعصايب وهي سقيمة ،أبخبس األمثان ! وتعال نتحاسب! ويف الكتاب عيب هو الوضوح فاعرفه! وستقرؤه
بال نصب ،وتفهمه بال عناء مث خيل إليك من أجل ذلك أنك كنت تعرف هذا من قبل وأنك مل تزد به علما! فرجائي إليك أن توقن
من اآلن أن األمر ليس كذلك وأن احلال على نقيض ذلك" (إبراهيم عبد القادر املازين :حصاد اهلشيم ،املقدمة ،2714 ،القاهرة:
طبعة مكتبة األسرة ،1112 ،ص ص .)4-3
يف كل نص وجهة نظر أو وجهات نظر وموقف وتوجه -من الدعوة إىل الرأمسالية أو إىل عقيدة دينية ،إىل تفضيل اللون
األخضر على األزر ،ومن الكالم عن احلرية والعدالة االجتماعية ،إىل كراهية النوم يف الظهرية ،أو تفضيل القهوة على الشاي ،كلها
وجهات نظر ومواقف تصلنا عرب اللغة واحلوار والوصف والتعليقات الشارحة .على أي جانب يقف املؤلف ،ومع أي طرف ينحاز؟ أم
تراه ال ينحاز إىل جهة أو طرف؟ أين يقف من يكتب خاطرة عن الدستور؟ أم تراه ال ينتمي؟ وكيف جتيب عن هذه التساؤالت؟ نقطة
االنطال هي اليقني أبن اإلنسان كائن بفطرته منحاز ،غري أن احنيازاته قد تكون خفية أو متغرية ،وقد تكون أاننية أو فئوية ضيقة وقد
تكون إنسانية جامعة .على سبيل املثل ،أين كان يقف شكسبري وهو يكتب مسرحية (هاملت)؟ وأين جتد هباء طاهر يف (خاليت صفية
والدير)؟
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
يف تناول وجهة النظر ال مفر من حتليل اإلشارة اليت ورد تفصيلها فيما سبق .هذه قصة ومضة ل مجال اجلزيري عنواهنا (هناك):
سأهلا بعفوية" :من أين أنت؟" تلعثمت .ردت حبياد " :من هنا" ،وعيناها تشردان بعيدا .عنوان الومضة "هناك" حييل إىل مكان بعيد
-بعيد من نقطة احلدث ،من حيث الغائب الذي يشري إليه الضمري املسترت "هو" والغائبة اليت يشري إليها الضمري املتصل "ها" يف
"سأهلا" واتء التأنيث يف "تلعثمت" و"ردت" والضمري املتصل "ها" يف "عيناها" .وقد يكون بعيدا منك وأنت تقرأ فيشري إىل حيث يقع
احلدث /احلوار .إجابتها مل تكن عفوية كما كان سؤاله فقد تلعثمت قبل أن جتيب .إجابتها يف ظاهرها بسيطة شافية كافية " -من
هنا" .من املفرتض أن يفهم السائل أن املسئولة تنتمي إىل املكان الذي يقع فيه احلوار ،من النقطة اليت مجعته هبا .غري أن لغة اجلسد
وتعبري العينني يربك حساابته وحساابت القارئ .كيف ميكن أن تتصاحل اللغتان لغة احلروف والكلمات ولغة العينني؟ هل تريد أن تقول
"أان من هنا حقا لكنين أتطلع إىل هناك .ال أنتمي إىل هنا بل إىل مكان بعيد" ؟ أم تريد أن تقول "أان حقا من هناك ،من مكان بعيد،
غري أنه مين قريب -فتشري إليه وكأهنا تعيش فيه "هنا"؟ ال أبس أبي من التفسريين ولعل بالغة الومضة تكمن يف بقاء اإلشارة عالقة
بني " هنا" و"هناك" ،بني مكان ينتمي إليه اجلسد ومكان يهفو إليه القلب والروح .هل حتقق أمنياتك الكربى من غري أن تنظر إىل
أمنيات اآلخرين ؟ أم تكتفي أبمنيات صغرية تتحقق معها أمنيات كثري من اآلخرين؟
الكالم عن وجهة النظر حقل ألغام ال مناص من اقتحامه ،ففي الثقافة العربية عادات قرائية قبيحة يتطابق فيها املؤلف مع
املتكلم يف النص تطابقا يعرض األول لكثري من االهتامات والظنون وقد يضعه حتت طائلة الرقابة والقانون .ليست الذات اليت يف نص
شعري هي ابلضرورة ذات الشاعر وال هي ذات واحدة ال تتغري وال تتشظى من أول النص إىل آخره .ويف كثري من النصوص التفات
يؤدي دوره يف دفع املاللة والسأم ،ويؤدي أدوارا أخرى منها حتويل بؤرة السرد ومتكني السارد من التنقل من مقام املتكلم املنفرد إىل مقام
املخاطب بكسر الطاء ومقام املتأمل بكسر امليم .يسمح االلتفات كذلك للسارد أن يعلن عن مقاصده وأن يوجه وعي املتلقي إىل
حيث يريد .وبينما يوجه املتلقي ،تتبدى هويته وفاعليته ال بوصفه شخصية تسعى على أرض الواقع فحسب ،بل كذلك بصفته سارد
"يقدر يف السرد" ،ويصل األحداث بعضها ببعض ،ويعيد ترتيبها ،ويلفت إىل مواطن الداللة فيها ،ويشارك يف بلورة شروط تلقيها.
( )15أداة إعادة اكتشاف السياق
تطريز ثوبك صامت ...ويقول
األخضر املبحوح اني انعم
مسته كف الريح والراعي
وأزرقه دفوف حوهلا شعل وأمحره طبول
ومنمنمات رسومه امس وإصغاء
وغامقها به نعس
وفاحتها له نفس وفارجها خجول
(مريد الربغوثي :رنة اإلبرة)
فيما سبق من أدوات حتليل اخلطاب إشارات إىل سيا النص -زمانه ومكانه وما فيه من شخوص وما بينها من عالقات
وغري ذلك .ليس هذا كل ما يقال :عن السيا أو املقام .تقول العرب لكل مقام مقال ،فهل يبقى املقال حني ختلف املقام؟
ال بد أن يف كل نص ما يعني القارئ على تصور سياقه واجلنس أو النوع الذي ينتمي إليه .السؤال املهم بعد اكتشاف مالمح
السيا ونوع النص أو جنسه هو ما يبقى ،وما ختفي أو يتبدل من الشروط املتعارف عليه من قبل هلذا اجلنس أو النوع من اخلطاب-
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
ماذا يبقى يف القصيدة من شروط القصيدة -من إيقاع وتقفية وتصوير واستعارة وغموض -وماذا يبقى يف السرد من أركان السرد ،حنو
املكان والزمان واألحداث والشخصيات واحلبكة وتعاقب األحداث ومفاصل السرد ،وغري ذلك.
وحني ينتهك النص تقاليد النوع الذي ينتمي إليه ،ما تفسري هذا االنته اك وما غاايته البالغية والتواصلية؟ وحني خرج النص
"عن النص" ،ما تفسري هذا اخلروج ومربراته؟
"األصدقاء األحبة ألف احلمد هل . . .أبلف خري اآلن ...ممتنة لكم وحملبتكم ،ال أراكم هللا مكروها ...غاابت تحبة
لقلوبكم النبيلة وأرواحكم الغالية".
(مىن العاصي)
"عليك اللهفة"
(أحالم مستغامني)
"غاابت احملبة" اليت ترسلها السيدة العربية املقيمة يف أورواب ليس هلا من أتثري يف الوجدان العريب .هي تشبه بيت الشعر العريب
القدمي املشهور عن الكلب يف حفظه الود والتيس يف قراع اخلطوب .غاابت احملبة يف السيا الذي تعيش فيه الكاتبة تشبه ابقات احملبة
أو أزهارها أو ورودها عندان .ويف عنوان كتاب مستغامني الشعري حتل " اللهفة" تحل "اللعنة" فينتهي األمر إىل عبارة عالقة بني داللتني
داللة اللعنة ،وداللة اللهفة ،وكأنه هلفة احلب لعنة ومعاانة ،وكأن لعنه احلب خفف من وقعها ما فيه سن هلفة وحنني.
حني ينتقل اخلطاب أو النص من لغة إىل لغة على جسر الرتمجة تتضاعف األسئلة .هنا ينبغي لنا أن نعرج على بعض ما يناط
بدراسات الرتمجة وهى تتناول األساليب البالغية والتداولية املختلفة( .وهل الرتمجة اجلميلة األمينة إال مهارة وقدرة على التنقل بني تلك
األساليب ،وما حيملها من مفردات وتراكيب مبا يناسب السيا ؟) من األامية مبكان أن تتناول تلك الدراسات عالقات القوة واهليمنة
واأليديولوجيا يف النص األصلي ،وحتوالهتا يف النص املرتجم .كيف تنتقل عالقات القوة والتأثري من األصل إىل الرتمجة؟ هل يبقى الفاعل
فاعال ،واملنفعل منفعال ،واملفعول به مفعوال به ؟ هل يبقى القاتل قاتال ،والضحية ضحية؟ هل ترتجم Jone Killed Maryإىل
"جون قتل مارى" ،أم "لقيت ماري حتفها" ،أم "قتلت ماري"؟ و ما داللة ذلك على غاايت الرتمجة ،وسياقها ،والعوامل املؤثرة فيها؟
وكيف ترتجم وجهة نظر النص األصلي ومؤلفه؟ هل يبقى التهكم هتكما ،والسخرية سخرية ،والنقد نقدا ،أم يتجمل النص يف الرتمجة ؟
وما هو حظ الرتمجة من اليقني ابلنسبة إىل األصل ؟ هل تظل أفعال الكالم على حاهلا يف الرتمجة ،فيبقى الطلب طلبا ،واألمر أمرا،
والنهي هنيا ،واخلرب خرباً ،واحلكم حكما؟ أين مباشرة "افتح الباب" من مداراة ""Would you please open the door
وتلطفها؟ وأين كياسة " ممكن لو مسحت تسكت؟" من فظاظة " ، "!Shut upوهل ترتتب على "أان أعلنكما زوجا وزوجة " يف
الثقافة العربية احلقو والواجبات نفسها اليت ترتتب على " "I declare you man and wifeيف الثقافة اإلجنليزية؟ (مزيد،
.)1121وهذا كله غيض من فيض األسئلة املمكنة يف تفصيل بعض ما تستطيع دراسات الرتمجة أن تفعل يف سيا التداولية.
( )16أداة تسييس اخلطاب أو النص
ينبغي أن نفهم "التسييس" مبعناه الرحب ،فكل إدارة أو تدبري سياسة ،وكل توجيه سياسة ،وكل ميل إىل جهة على حساب
غريها سياسة ،وكل كالم عن الصواب واخلطأ سياسة ،وكل كالم عن "الصاحل العام" و"مصلحة البلد" ،واخلري والشر ،والفضيلة
والرذيلة سياسة ،وكل أمر وهني سياسة ،ومن أكثر أدوات السياسة نفعا وأتثريا اخلوف والطمع .من كالم اجلاحظ يف (الرسائل ،
نسخة موقع الورا ،ص " :)14فالرغبة والرهبة أصال كل تدبري ،وعليها مدار كل سياسة " .من هنا ينبغي النظر يف كيف "يسوس"
اخلطاب أو النص املتلقي ،على معىن ماذا يريده أن ختار؟ وأي وجهة يريد له أن يويل؟ وأي حزب يريد له أن يساند؟ وأي عقيدة أو
مذهب يريد له أن يتبىن؟ وأين يرى اخلري والشر ؟ وأين يرى "الصاحل العام"؟ وأين يرى الفضيلة والرذيلة؟
995
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ليس منتجو النصوص واخلطاب سواء يف سياستهم القراء واملتلقني ،فمنهم من يسوسهم تصرحيا ،ومنهم من يسوسهم تلميحا؛
منهم من "يقرع" ابلعبارات القاطعة الساطعة واألوامر والنواهي ،والرتغيب والرتهيب ،ومنهم من يكتفي ابإلشارة؛ منهم من يكشف عن
نفسه ومنهم من يضع كالمه على لسان بعض املشاركني يف اخلطاب .هذه فقرة ابللغة اإلجنليزية من امتحان الصف الثاين من املرحلة
اإلعدادية يف إدارة من إدارات مصر التعليمية ،يناير 1125ترمجتها احلرفية" :كان هناك خروف كبري .كان يريد أن يصبح الناس مجيعا
خرافا مثله .وكان يغضب كثريا حني يناديه الناس ابخلروف .أخذ هو وقطيعه من اخلرفان يهامجون كل من يناديهم هبذا االسم .اجتمع
الناس وذهبوا إىل األسد يطلبون منه أن يقيهم شر اخلرفان وخطرهم .سجن األسد اخلرفان مجيعا يف حديقة احليوان غري أن بعضهم
هرب إىل مزرعة أخرى" .وهذه أبيات من قصيدة نصار عبد هللا (حكاية ما حدث للغزالني الثكالنني مع ملك الغابة)
هذان اثنان غزاالن عليالن،
وهذا ملك الغابة أسد..
يف قوة صخر صلب ،لكن يف حكمة إنسان ،
وهذان غزاالن أليفان ضعيفان ..
سجدا واما يرجتفان ويرجتفان ..
واشتكيا لألسد القادر من غدر الذئب الغادر ..
...................
قليب يتمز حزان من حزنكما
قليب من مأساتكما ذاب
.....................
وأان ال أملك كي أأنى بكما من كل ذائب الدنيا
بل من كل عذاب الدنيا
إال أن أدنو بكما مين
ستصريان أبحشائي أقرب يل من كل الكون ..
بل أقرب يل مين.
إين حكم عدل فامتين
أيتها الغابة للعدل امتين.
صوراتن لألسد ملك الغابة إذن .يف قصيدة نصار عبد هللا :صورة األسد الذي حيتال على الغزالني الثكالنني ويقنعهما أن
أفضل مكان ختبئان فيه من خطر الذئب هو "بطن األسد" .هذه طريقة الشاعر الساخرة يف نقل املعلومة البسيطة وهي أن األسد قرر
التهام الغزالني ،وقد ذهبا لفرط سذاجتهما إليه يطلبان العدل واحلماية ،كما تذهب الشعوب "الربيئة" "الطيبة" إىل القوى الكربى
تطلب عندها العدل واحلماية بعضها من بعض .فلننح السخرية جانبا ،أليست هذه صورة األسد اليت نعرفها؟ وهل يعرف إنسان حقيقة
األسد وال يتقيه وال يرهبه ويفر منه؟
أليس األسد يف عقولنا كناية عن كل ما ينبغي الفرار منه؟ يف القصة اليت وردت يف امتحان اللغة اإلجنليزية أعاله ،يصبح األسد
-حلاجة يف نفس مؤلفها غري احملنك يف ظروف اترخية ثقافية خاصة قدوة يف العدل ،ال حتدثه نفسه أن يلتهم اخلراف والبشر .أما
اخلراف فتصبح خطرا جسيما يهدد حياة البشر ويقض مضاجعهم .أي عقل يقبل هذا التشويه املقصود والتحريف الساذج ؟ قد يقبل
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
القارئ قصة كهذه يف سيا فكاهي ساخر ،وقد يقبله يف سيا تصوير مدينة فاضلة ختفي فيها الشر وتصبح مجيع الكائنات -
مجيعها مبا يف ذلك "اخلرفان" -خرية طيبة " ،وال جيري بينهم إال املصادقة وحسن املعاشرة واملرافقة فتمحى من لوح صدورهم نقوش
العداوة واملنافقة فيطري القطا مع العقاب ويبيت العصفور مع الغراب ويرعى الذئب مع األرنب ويتآخى الديك والثعلب ويف اجلملة ال
يتعدى أحد على أحد فتأمن الفارة من اهلرة واخلروف من األسد" (ابن عربشاء :فاكهة اخللفاء ومفاكهة الظرفاء ،نسخة موقع الورا ،
ص .)234
يستطيع املتلقي أن يتسامح مع خمالفة املنطق والعقل يف نص "فاكهة ومفاكهة" كهذا النص ،أو يف فيلم على قناة أطفال ،أما
يف القصة التعليمية اليت وردت يف االمتحان -وليس هلا أصل يف أي كتاب قصص أو خرافات -فالتفسري الوحيد احملتمل هو الغرض،
غرض املؤلف ورغبته يف سياسة طالبه وطالباته وتوجيههم حيث يريد.
( )17أداة اكتشاف السبك واحلبك
اي عذبة العيون
ال تبعدي
فالكون حني تبعدين ال يكون
الكون أنت كافه والنون
وأنت واو الوصل والوصول
وسره املكنون
وجسدي املسكون ابملخافة
يكابد ارجتافه
وصارخا يقول:
توحدي ..توحدي
توحدي يب ،فازدواجنا خرافة
تكاد اي حبيبيت تقتلين املسافة
(سعد مصلوح)
كيف ترتابط أجزاء النص وما الدالالت اليت تنتجها أدواة السبك والرتابط بني تلك األجزاء -املفردات والعبارات واجلمل
والفقرات .انظر مثال "هو فقري لكنه راض سعيد" ".لكن حرف استدراك .ومعىن االستدراك أن تنسب حكما المسها ،خالف احملكوم
عليه قبلها .كأنك ملا أخربت عن األول ،خبرب ،خفت أن يتوهم من الثاين مثل ذلك ،فتداركت خبربه ،إن سلبا ،وإن إجيابيا .ولذلك
ال يكون إال بعد كالم ،ملفوظ به ،أو مقدر" ".وال تقع لكن إال بني متنافيني" ،بوجه ما .فيكون ما قبلها نقيضا ملا بعدها ،أو ضدا
أو خالفا ،وتتوسط بني "كالمني متغايرين ،نفيا وإجيااب .فتستدرك هبا النفي ابإلجياب ،واإلجياب ابلنفي" (املرادي :اجلىن الداين يف
حروف املعاين ،نسخة موقع الورا ،ص ،215بتصرف) .ال تقتصر وظيفة "لكن" يف "هو فقري لكنه راض سعيد" على ربط
اجلملتني بل تتجاوز ذلك إىل الداللة على االعتقاد الدارج أن الفقر والسعادة نقيضان أو متغايران.
تبدأ أبيات سعد مصلوح خبطاب احملبوبة " -اي عذبة العيون" -ويظل اخلطاب هو الصيغة اليت هتيمن على بقية األبيات -
"تبعدي" " ،تبعدين"" ،أنت" " ،وأنت" " ،توحدي" " ،توحدي" " ،توحدي يب"" ،اي حبيبيت" -يقع التفات عن هذه الصيغة مرتني:
مرة إىل ضمري املتكلم يف "وجسدي املسكون ابملخافة" ،ومرة إىل املتكلم واملخاطب ،وقد مجعتهما "ان" املتكلمني بعد طول انتظار.
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
ومن عجب أن الكلمة اليت تتصل هبذا الضمري هي كلمة "ازدواج" وكأن الضمري جيتهد يف قهر املسافة بينهما ،ومن أسباب السبك يف
األبيات اجلناس بني "الكون" و"يكون" و"الكاف والنون" و"املكنون" وبني "الوصل" و"الوصول" وتكرار فعل الطلب "توحدي" -إىل
ما يف األبيات من إيقاع ظاهر وتقفية بني "العيون" و"يكون" و"النون" و"املكنون" وبني "ارجتافه" و"املخافة" و"خرافة" و"املسافة".
ترتابط األبيات كذلك من خالل عالقات السببية – ومن معاين الفاء اجلوابية الربط ،والسببيه ،والرتتيب ،والتفسري ،يف "ال تبعدي ،
فالكون" "توحدي يب ،فازدواجنا خرافة".
تبدأ األبيات بطلب القرب ،وتنتهي برهبة "املسافة" اليت تكاد تقتل العاشق املستهام .وبني البداية والنهاية يتكرر طلب
التوحد .االزدواج بني احملبني "خرافة" ،فاألصل هر التوحد فهما روح وقلب توزعا على جسدين .ويف احلب ختزل الكون يف شخص
احملبوب إليه ينتهي ومنه يبدأ .يصري احملبوب كاف الكون ونونه ويصري واو الوصل والوصول الوصول إىل اليقني والتحقق واالكتمال.
والوصل ضد اهلجران .والوصل خالف الفصل .والكاف والنون اما آلة اخللق.
استعاراتن لغويتان ،األوىل :احملبوبة هي الكاف والنون ،والثانية :هي واو الوصل والوصول -تنقالن اخلطاب من مستوى
احلب البشري إىل آفا عرفانية روحانية أعلى ،فيصري احلب اباب للتوحد واكتمال الروح واستكناه سر الكون املكنون وبه تنتهي رجفة
الشك واخلوف سكوان ويقينا .مع احلب قد تنتهي املفارقة ويسكن التضاد والطبا بني االزدواج والتوحد ،بني "ال تبعدي" واملسافة،
بني خرافة االنفصال وسر الوصل والوصال.
يتصل ابلكالم عن السبك يف النص الكالم عما فيه من حبك .يف الكالم عن السبك نبحث عن ترابط البناء .أما يف الكالم
عن احلبك فنبحث عن ترابط املعىن .بعبارة أخرى :ترابط املبىن وترابط املعىن ،على الرتتيب .درجت شروحات القصائد العربية على
البحث عما فيها من وحدة عضوية ،وال ابس ابلكالم عن الوحدة العضوية يف حتليل النصوص املعاصرة على أن يتسع املفهوم ليستطيع
استيعاب ما شهدت النص من تشظ وتفتيت واهنيار السردايت الكربى لصاحل ذوات متعددة وإعادة النظر يف البىن التقليدية يف
القصيدة والقصة والرواية.
( )18أداة اكتشاف الشفرة
أي لغة ترد يف اخلطاب أو النص ؟ وهل ترد فيها عالمات غري لغوية :صور أو رموز أو ألوان أو غري ذلك ؟ .يف (البيان
والتبيني) يقرر اجلاحظ أن "مجيع أصناف الدالالت على املعاين من لفظ وغري لفظ ،مخسة أشياء ال تنقص وال تزيد :أوهلا اللفظ ،مث
اإلشارة ،مث العقد ،مث اخلط ،مث احلال اليت تسمى نصبة ،والنصبة هي احلال الدالة ،اليت تقوم مقام تلك األصناف ،وال تقصر عن
تلك الدالالت" .مخسة أنواع من الدوال هي الوحدات األساسية اليت تتشكل منها معظم األنظمة العالماتية اليت حتيط بنا :اللفظ (اللغة
املكتوبة واملنطوقة) ،واخلط (الرسم واألشكال التوضيحية وما إليها) ،والعقد (األرقام والرموز الرايضية وما ينتج عنها من معادالت وصيغ
) ،واحلال (النصبة " الناطقة بغري اللفظ واملشرية
بغري "اليد" واليت تقوم مقام بقية منتجات الداللة وال تقصر عنها أو بعبارة أخرى هي داللة اجلوامد والصوامت)" ،وذلك ظاهر يف خلق
السماوات واألرض ،ويف كل صامت وانطق ،وجامد وانم ،ومقيم وظاعن ،وزائد وانقص ،فالداللة اليت يف املوات اجلامد ،كالداللة
اليت يف احليوان الناطق ،فالصامت انطق من جهة الداللة ،والعجماء معربة من جهة الربهان" (ص - )15واإلشارة (اإلمياء وحركة
اليدين والعينني واحلاجبني والشفتني يف غري كالم وحتريك السيف والسوط واملنكبني) .هذه لفتة ابرعة من اجلاحظ تفتج أبوااب جديدة
يف البالغة العربية ،فالكالم عن الرسم ينقلنا إىل بالغة الصورة والنصوص البصرية ،والكالم عن اإلشارة ينقلنا إىل الكالم عن لغة
اجلسد.
992
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
من تطورات الدراسات اللغوية الغربية جتاوزها اللغة مبعناها التقليدي إىل اللغة مبعىن كل ما ينتج داللة أو معىن .مل يعد من
املستغرب اليوم الكالم عن بالغة الصورة واالستعارة البصرية .العالقة بني الكلمة والصورة عالقة قدمية .كانت البداايت البشرية األوىل
مع الرسم على جدران الكهوف واملعابد وظلت الرسومات تبتعد عن املطابقة بني الرسم واملرسوم وتزداد جتريدا ورمزية حىت انتهت إىل
حفنة من احلروف يف كل لغة .مل تفقد الكلمات صلتها جبذورها التصويرية ،وظلت غاية مهمة من غاايت من يكتب أن يرسم "صورة
فنية" انبضة حية ،وظل "الرسم ابلكلمات" -بعبارة نزار قباين -خالصا حني تنغلق كل األبواب.
أال تستطيع أن "تتصور" املشهد الذي يصفه امرؤ القيس حني يقول" :كأين غداة البني يوم حتملوا /لدى مسرات احلي انقف
حنظل "قافلة احلبيبة تتأهب للرحيل واحملب البائس تنهمر دموعه وكأنه يقطع نبات احلنظل؟ ومن فرط مرارة احلنظل تنهمر دموع احملب
اهنمارا .صورة معربة غري انفرة عن بيئتها اللغوية ،وال عن بيئتها الثقافية املادية ،وقد تعدل صورة امرأة معاصرة تقف يف املطبخ وتنهمر
دموعها وهي "تقشر" البصل تقشريا .مشهد آخر "نراه" يف أبيات عصام أبو زيد يف قصيدة (مدينة ) من ديوان (احلياة السردية
للمجنون األخضر) يف قاع العامل توجد ألف مدينة فارغة ومسحورة /سكاهنا األشباح يرقصون ويعزفون موسيقى /أربعون عاما أحاول
الوصول إليهم /أعرف أنين واحد منهم /شبح مار أغواه النور" .من عالمات بالغة القصيدة وأتثريها أن "يتصور" املتلقي "مشهد"
األشباح يف املدينة املسحورة يرتاقصون ومشهد الشبح الذي هرب من املدينة وضل طريقه إىل عاملنا ،غري أنه ظل ممسوسا بسحر املدينة
الفارغة .وقد ترد على اخلاطر يف هذه اللحظة صورة "وادي عبقر" حيث يولد الشعراء.
دارت األايم دورهتا وانقلب احلال واجتهد دارسو البالغة احلديثة يف الغرب يف العثور على مصطلحات ومفردات للكالم عن
الصورة ،أي ترمجة الصورة إىل كلمات .تعرف هذه الرتمجة ابلرتمجة بني الشفرات أو بني األنظمة التعبريية ،حنو ترمجة قصيدة إىل
مقطوعة موسيقية ،أو ترمجة لوحة إىل قصيدة أو شرحها بنص لغوي .من هنا تطورت دراسات لغوية حتليلية تعرف ابلدراسات متعددة
الوسائط ) (multimodal؛ أي الدراسات اليت ال تقتصر على حتليل الكلمات بل تتجاوزها إىل حتليل كل ما حييط ابلكلمات من
العالمات وطرائق إنتاج الداللة اليت خلصها اجلاحظ يف (البيان والتبيني) ووردت إشارة إليها فيما سبق.
أين جند تعريفا مالئما لبالغة الصورة من الرتاث البالغي العريب ؟ أركان البالغة اللغوية هي اللفظ واملعين والتأليف -أو
الصياغة أو النظم .فلنستبدل ابللفظ العالمة أو الصورة لنحصل على تعريف إجرائي أويل قابل للتطوير نستخدمه يف حتليل النصوص
البصرية املختلفة ولنرتك مؤقتا هذا احلشد من املصطلحات العالماتية يف الكتب املرتمجة عن دي سوسري ،وبريس ،وإيكو ،وتشاندلر،
وسونيسون وغريهم .إذا أركان بالغة الصورة هي :الدال /الصورة أو الرسم ،واملدلول /املعىن ،وأتليف أو صياغة النص البصري .حني
نتناول الدال نناقش عناصر احلجم والشكل واللون والعالقة مع الواقع والسيا احمليط به وما إىل ذلك .وحني نتناول املعىن البد أن
نقف على الداللة احلرفية أو القريبة ،وكذا الدالالت اإلحيائية واجملازية واألسطورية ،كما ينبغي أن نتناول ما يتضمنه الدال أو الدوال
من استعارة أو تشبيه إن وجد .أما النظم والصياغة أو التأليف فيشمل العالقات بني الدوال (الدمج واالختيار) والعالقات بني النص
البصري والنص اللغوي إن وجد .وكما هو احلال يف البالغة التقليدية ينبغي أن يتسلح من يريد قراءة الصورة مبا يكفي من معارف
ومهارات وأدوات منها معرفة دالالت األلوان وأساسيات التصميم .تستطيع أن تتذو قصيدة من غري أن تكون انقدا ،لكنك ال
تستطيع أن تكتب عنها دراسة نقدية رصينة من غري أن تلم مبفاهيم النقد األديب وأدواته وطرائقه .تستطيع كذلك أن تتذو صورة أو
لوحة ،لكنك ال تستطيع أن تكتب عنها دراسة نقدية من غري إتقان أدوات التحليل البصري واستيعاب مفاهيمه.
ماذا تقرأ يف الصورة التالية (صورة رقم )2؟ تستطيع أن تبدأ من األلوان فتقف على دالالت التباين بني األبيض واألسود من
جهة ،وبقية األلوان من اجلهة األخرى ،بني بداوة األبيض واألسود وفقراما وثراء بقية األلوان .تستطيع كذلك أن تالحظ احلجم ،
فتقف على رحابة األبيض واألسود (الواقع /هنا /اآلن) وضيق النافذة اليت تطل على األلوان الزاهية .تستطيع كذلك أن تتناول لغة
992
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
جسد الصيب يف الصورة وقد أدار ظهره للواقع الكئيب وهب وشب بتطلع إىل واقع آخر ال يعيشه وال يستطيع الوصول إليه إال ابلنظر.
تستطيع كذلك أن تتناول كل عالمة من زاوية دالالهتا احلقيقية ودالالهتا اجملازية .ماذا تعين "النافذة" يف املعجم ؟ فتحة تطل منها على
العامل اخلارجي ؟ لكنها يف النص البصري الراهن تتجاوز تلك الداللة احلقيقية إىل التعبري عن التطلع واألمل .إذن تستطيع أن ترتجم
الصورة إىل كلمات ،بل تستطيع أن تستلهم بيت الطغرائي وتسمع الصيب الفقري يهتف "أعلل النفس ابآلمال أرقبها /ما أضيق العيش
لوال فسحة األمل" .وإذن ،تصلح مصطلحات البالغة التقليدية للكالم عن بالغة الصورة ،فتستطيع أن ترى يف مالبس الصيب
"كناية" عن الفقر ،وأن ترى "ترادفا" بني النافذتني يف فضاء األبيض واألسود ،و"طباقا" بني عامل الصيب الراهن والعامل الذي يصبو إليه.
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
"جريمني" يف فيلم "ال تراجع وال استسالم") .وبني العاملني تطابق آخر ضمين ،هو التطابق بني رسالة األغنية اليت تدعو إىل األمل وترك
اإلحباط واليأس ومقولة رائجة للزعيم الراحل هي مقولة "ال أيس مع احلياة وال حياة مع اليأس".
( )19أداة اكتشاف املعاين احملتملة واملعاين السياقية.
ماذا تعين كلمة "قطة"؟ قد ختطر على ابلك صورة الكائن األليف ،أو صورة الكائن املخيف الذي ينشب أظفاره يف من
يهاجم صغاره ،أو صورة قطه شاردة متوء مواء مؤثراً وقد يذهب بك اجملاز إىل تصورات استعارية عن امرأة أو فتاة .وقد ختطر على
ابلك تعابري "القطط السمان" ،و "القط والفأر" ،و "من دخلت النار يف هرة " ،والسياقات اليت تتصل بتلك التعابري .تبقى معاين
املفردات والعربات عالقة غائمة ال جيليها إال ورودها يف سيا ،وهذا بعض ما جند يف إشارة اجلاحظ املهمة" :املعاين القائمة يف صدور
الناس املتصورة يف أذهاهنم واملتخلجة يف نفوسهم ،واملتصلة خبواطرهم ،واحلادثة عن فكرهم ،مستورة خفية ،وبعيدة وحشية ،تحجوبة
مكنونة ...وإمنا حييي تلك املعاين ذكرهم هلا ،وإخبارهم عنها ،واستعماهلم إايها ،وهذه اخلصال هي اليت تقرهبا من الفهم ،وجتليها
للعقل ،وجتعل اخلفي منها ظاهراً ،والغائب شاهدا ،والبعيد قريبا ،وهي اليت تلخص امللتبس ،وحتل املنعقد ،وجتعل املهمل مقيدا،
واملقيد مطلقا ،واجملهول معروفا ،والوشي مألوفا ،والغفل موسوما ،واملوسوم معلوفا ،وعلى قدر وضوح الداللة وصواب اإلشارة ،وحسن
االختصار ،ودقة املدخل ،يكون إظهار املعىن ،وكلما كانت الداللة أوضح وأفصح ،وكانت اإلشارة أبني وأنور ،كان أنفع وأجنع"
(البيان والتبيني ،ص .)13
ماذا خطر ببالك حني تسمع مفردات "القمح" و"الرغيف" و "الطحني"؟ اقرأ هذه القصيدة مث انظر ما يبقى من خواطرك اليت
سبقتها عن تلك املفردات:
طحني ضائع
أموت كل ليلة وحدي
وأنت يف سريرك،
تسردين اترخا،
أو حترقني ما مضى،
أو حتيني ميتا يف الذاكرة.
هل تعرفني ما معىن أن أشم قمحك
دون أن أراين يف رغيفك؟
(أمحد الشهاوي)
( )21أداة اكتشاف اللهجات اخلاصة وجماالهتا
كيف تشري لغة النص إىل اخللفية االجتماعية للمشاركني -ابلكالم أو الكتابة -فيه؟ وهل تتباين اخللفيات االجتماعية
للمشاركني يف اخلطاب يف النص ؟ وكيف حيدث التفاعل بني خمتلف الطبقات االجتماعية من خالل اللغة -يف حوار بني سيدة من
طبقة راقية وسائق من طبقة دنيا على سبيل املثل ؟وكيف تتنوع املفردات والرتاكيب من حقل معريف إىل غريه -لغة الطب واهلندسة
والكيمياء وغريها؟ هذه اقتباسات ثالثة من ثالثة كتب خمتلفة .ليس من العسري اكتشاف نوع اخلطاب أو احلقل املعريف الذي ينتمي إليه
كل اقتباس:
" .2جرجا جبيمني -األوىل مكسورة -بينهما راء قرية بصعيد مصر يف غريب النيل هلا هنر مفرد وليست بشارفة على النيل وكانت هبا
وقعة بني حباشة صاحب بين عبيد وبني أصحاب املقتدر يف سنة ."311
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
" .1والصداع قد ينقسم من جهة مواضعه ،فإنه رمبا كان يف أحد شقي الرأس وما كان من ذلك معتادا الزما ،فإنه يسمى شقيقة ،
ورمبا كان يف مقدم الرأس ،ورمبا كان يف مؤخر الرأس .ورمبا كان تحيطا ابلرأس كله ،وما كان من ذلك معتادا الزما ،فإمنا يسمى
بيضة ،وخوذة تشبيها ببيضة السالح اليت تشتمل على الرأس كله".
" .3مث أشرفنا على القدس الشريف آخر ذلك النهار ،ودخلنا بعد غروب مشسه .وأستقر منزل موالان قاضي القضاة ....ابملدرسة
املعمورة ،وابلقايتبائية مشهورة ،أسكن هللا ابنيها يف اجلنان أعلى القصور ...ولعمري مل تشهد العني أحسن من بنائها وال أعلى
،ومل يتمتع النظر أبلطف من رونقها وال أحلى ،فكأهنا من حسنها وهبائها بنيت قواعدها على األفالك ،ال سيما إذا وافتها
الشمس حبسن املقابلة من املشر يكاد سنا برقها يذهب ابألبصار ويف احلقيقة من نظر حق النظر علم أن هذا احلسن إمنا
أكتسبته من عطف اجلوار .مث بيتنا ليلة الوصول مع حضرة املفيت يف أرض احلرم الشريف ورحبته الفسيحة ،لنتدارك أماكن للنزول
يف الصبيحة"
يف االقتباس األول لغة واتريخ ،غري أن تحور االقتباس هو وصف "موضع" يف صعيد مصر وحتديد موقعه بني غريه من املواضع.
إذن االقتباس من كتاب جغرافيا -هو على سبيل التحديد من كتاب (معجم البلدان) لياقوت احلموي ،نسخة موقع الورا .ملاذا
التأريخ يف كتاب جغرافيا؟ ألن املكان والزمان ال ينفصالن ،فال شيء "يكون" أو يقع إال يف "مكان" وزمان .وال تثريب على احلموي،
وحنن نرى موسوعة ويكيبيداي حني تتناول مكاان تبدأ ابلتعليق على امسه مث تتناول جغرافيته واترخه وغري ذلك من مساته وصفاته.
يف االقتباس الثاين كالم عن وجع من أوجاع الرأس ،هو الصداع ،ومتييز أنواعه .هو كالم يف الطب ،لكنه ليس ككالم األطباء
اليوم ،واالقتباس من كتاب (القانون يف الطب) البن سينا.
يف االقتباس الثالث ال يقتصر الكالم على األماكن ،بل يتجاوز ذلك إىل الكالم عن االنتقال من مكان إىل مكان يف لغة
مسجوعة تشبه لغة املقامات ،مبا يرشح االقتباس لالنضواء حتت "أدب الرحالت" االقتباس من كتاب تحب الدين احلموي :حادي
األظعان النجدية إىل الداير املصرية( ،نسخة موقع الورا ،ص .)4ولعلنا نالحظ التنقل بني اجلمل اخلربية التقريرية يف الكالم عن
جرجا والكالم عن الصداع ،مث العودة إىل املاضي يف سرد واقعة اترخية ،ويف سرد تفاصيل الرحلة.
( )21أداة اكتشاف التناص
الشاعر املعلم
إبراهيم طوقان
شوقي يقول وما درى مبصيبيت
قم للمعلم وفه التبجيال
اقعد فديتك هل يكون مبجال
من كان للنشء الصغار خليال
ويكاد يفلقين األمري بقوله
كاد املعلم أن يكون رسوال
لو جرب التعليم شوقي ساعة
لقضى احلياة شقاوة ومخوال
حسب املعلم غمة وكآبة
مرأى الدفاتر بكره وأصيال
990
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
مئة على مئة إذا هي صلحت
وجد العمى حنو العيون سبيال
ولو أن يف التصليح نفعا يرجتى
وأبيك مل أك ابلعيون خبيال
كن أصلح غلطة حنوية
مثالً واختذ الكتاب دليال
مستشهدا ابلغر من آايته
أو ابحلديث مفصال تفصيال
وأغوص يف الشعر القدمي فأنتقي
ما ليس ملتبسا وال مبذوال
وأكاد أبعث سيبويه من البلى
وذويه من أهل القرون األوىل
فأرى (محارا) بعد ذلك كله
رفع املضاف إليه واملفعوال
ال تعجبوا إن صحت يوما صيحة
ووقعت ما بني البنوك قتيال
اي من يريد االنتحار وجدته
إن املعلم ال يعيش طويال
يف االقتباس أعاله من كتاب (حادي األظعان)نقرأ "يكاد سنا برقها يذهب ابألبصار" وهذا تنويع على جزء من آية يف القرآن
الكرمي (النور.)43 :بني الكتاب والقرآن الكرمي يف هذا املوضع إذن "تناص" .والتناص تفاعل أي عالقة بني نصني .وقد ذهب جريار
جينيت ( -)2779يف مزيد ( - )1121إىل أن عالقات النص بنفسه وبغريه من النصوص ميكن تصنيفها إىل ما يلي:
التناص : intertextualityقد يرد شامال كل ما يلي من أنواع التناص .وقد يشري على سبيل التحديد إىل اقتباس نص يف نص
غريه.:
النص املوازي : paratextاملقدمات ،واهلوامش ،والشروحات ،والعناوين الرئيسية والفرعية ،واملراجع ،واإلهداءات ،وما إليها مما
حييط ابلنص.
املعمار النصي ،أو اجلنس اخلطايب architextالذي ينتمي إليه النص :كل نص ينتمي إىل نوع أو جنس أديب .من النصوص
ما تنتهك أشراط النوع الذي تنتمي إليه أو تتقاطع مع غريه من أنواع على حنو ما جند يف قصيده النثر والنثر الفين واملقامات
والقصة الشعرية.
النص الشارح – metatextمن ذلك ما جند يف تعليقات نص على نفسه .على حنو ما تقرأ يف نصوص اجلاحظ اليت ترد إشارات
إليها يف غريها هذا املوضع .
النص الالحق ، hyperوعالقته بنص سابق ، hypoرمبا على سبيل احملاكاة الساخرة أو النقض أو املعارضة.
959
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
النص الفائق ،hypertextمبعناه اإللكرتوين الذي جنده على صفحات "الشبكة العنكبوتية" أو اإلنرتنت.
إن حديث التناص وما يتصل به حديث يطول ،من توظيف النصوص ألغراض إعالنيه تروجيية " -عند جهينة اخلرب
اَّللُ َع َملَ ُك ْم َوَر ُسولُهُ َوالْ ُم ْؤِمنُو َن) يف
اليقني" (إعالن حليب جهينة) -إىل توظيفها لتحقيق غاايت سياسية َ ( -وقُ ِل ْاع َملُوا فَ َسيَ َرى َّ
احلمالت االنتخابية -إىل "التشيري" أو املشاركة على الفيسبوك ،إىل "السرقات األدبية" -وال بد من إعادة النظر يف صفة
"األدبية" ،ألن السرقة ال ميكن أن تكون "أدبية" ،وألهنا تقع يف األدب ويف غريه من أجناس اخلطاب .يف البالغة العربية تصنيف
طريف لتلك السرقات إىل "نسخ" ،و"مسخ" ،و"سلخ" -وتعين على الرتتيب :سرقة اللفظ والفكرة معا ،وسرقة بعض اللفظ،
وسرقة املعىن دون اللفظ .ويتصل بذلك مثانية أمور هي (" )2االقتباس" -إعادة إنتاج جزء من نص سابق أو معاصر يف نص
آخر -و (" )1التضمني" – embeddingوهو اقتباس فيه حتوير أو اجتزاء وفق ظروف النص احلديد – و (" )3العقد"
-versificationوهو نظم النثر -و(" )4احلل" – وهو نثر النظم -و (" )5التلميح" -allusionأي اإلشارة إىل مكان
أو شخص أو قصة معلومة – و ( )6االبتداء -أو براعة االستهالل -و ( )9التخلص -اخلروج من املقدمة إىل املوضوع – و
( )2االنتهاء -أو حسن اخلامتة (اهلامشي ،2777 ،ص -)333-315إىل ما سبق ،ال بد أن نضيف احملاكاة الساخرة ،أو
الباروداي – parodyتحاكاة نص سابق ومعاصر بغرض السخرية منه ،أو من مؤلفه ،أو من سياقه ،أو من بعض ما يتناول
النص اجلديد ،أو من هؤالء مجيعا ،كما جند يف الشعر "احللمنتيشي" يف مصر مثال -واملعارضات والنقائض.
من أسئلة البحث عن التناص :كيف يبدأ النص أو اخلطاب وكيف ينتهي ؟ ما االقتباسات واإلحاالت اليت ترد فيه -من
الكتب السماوية ومن الشعر ومن أدب احلكمة ومن أقوال مأثورة أو حكم دارجة ومن وسائل إعالم ومن أقوال آخرين ؟ الوقوف على
ما يف اخلطاب من اقتباسات وإحاالت خطوة مهمة ،لكنها ليست كافية ،فال بد من تفسريها وتربير وجودها يف اخلطاب من خالل
الرجوع إىل سياقه وإىل سيا اإلحاالت واالقتباسات وإىل طبيعة املتكلم وانتمائه وغاايته السياسية والبالغية .من أسئلة التناص :كيف
يستخدم النص أو اخلطاب نصا سابقا -على سبيل األسلبة أو تقليد األسلوب أو اقتباس األفكار أو العبارات واجلمل ؟ وهل يشري
النص الالحق إىل النص السابق؟ وما حظ النص أو اخلطاب من انتهاك حقو امللكية الفكرية لغريه من النصوص ؟ هل التناص
اختياري أم اضطراري؟ إذا كتبت قصة فال بد فيها من مكان وزمان وشخصيات وأحداث وحبكة وسرد ،وإذا كتبت قصيدة خليلية فال
بد فيها من وزن وتشطري وتقفية .ال مناص .أما ما ختتار من نصوص تقتبسها أو رموز وشخصيات حتيل إليها ،فهذا اختيارك.
ومن أمثلة التناص تقاطع رواية (الكائن الظل) إلمساعيل فهد إمساعيل مع "لزوميات االنضباط من تعاليم عثمان اخلياط"
واقتباساهتا املباشرة منه" :مل تزل األمم يسىب بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزوا ،وما أيخذونه غنيمة ،وذلك من أطيب الكسب ،وأنتم
يف أخذ مال الغدرة والفجرة أعذر ،فسموا أنفسكم غزاة " ،"...ارعوا حرمة التحية ،وال تبدأوا األذى مبن بدأكم السالم ،حىت وإن
كان صاحب جاه أو غىن" ..." ،ما سرقت جارا وإن كان عدوا ،وال أخليت بكرمي ،وال كافأت غادرا بغدره " ... " ،ما خنت وال
كذبت منذ تفتيت" ( .بص .)45 -43وكذا االقتبار من (حيل اللصوص) للجاحظ" :اللص النجيب ال يقتل إال إذا حتقق أنه ميت
ال تحالة ،وعليه -إن وقع احملذور -أن ينأى انفضا يده من الصنعة خمافة املطالبة ..ولو أخذان احملتال . .هو الذي ال يعمل إال
إبعمال عقله وابتداع وسائل تتوالد عن وسائل يقنع هبا ضحيته كي ينال بغيته ،وهو إىل جانب فطنته وذكائه يكون لطيف املعشر دمثا
حلو اللسان ( "...ص .)59
يف الكالم عن التناص ال مفر من استعارة النص بوصفه جسدا .حني ينتقل عضو من جسد إىل جسد ال تنتظم حياه اجلسد
املنقول إليه إذا مل تنسجم خالاي العضو الوافد وصفاته معه .وتبقى االقتباسات غري املربرة انفرة عن النص اجلديد .اقرأ هذا النص القصري
وأتمل كيف ينسجم العضو اجلديد -كلمات من أغنية ألم كلثوم -مع النص الذي انتقل إليه ،والحظ كيف تتجانس أغنية ألم
959
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
كلثوم فيها ذكر "الشو " مع حالة الكاتبة الراهنة ،يف عملية جراحية دقيقة ابرعة" :امسع أم كلثوم اآلن" :طول عمري أبقول ،ال أان قد
الشو وليايل الشو ،وال قليب قد عذابه " اشتقت للقاهرة"( .خلود املعال ،من صفحتها على الفيسبوك 22يناير .)1125
ومن ابب أداء األماانت ،ال بد من التعريج على ما يف التناص من مهالك ومزالق ،أوهلا زعم من يستلهم نصا أن النص الذي
يستلهمه يصد عليه كما كان يصد على من نزل عليه ،فرتى بعضهم ،وهو ال حيسن الصالة وال قراءة القرآن ،يتجرأ ويقتبس "
ك الْ ُق ْرآَ َن لِتَ ْش َقى" ،وكأنه املراد ابخلطاب يف النص القرآين الكرمي ،وحجته يف ذلك أن "العربة بعموم اللفظ ال طه َ .ما أَنْ َزلْنَا َعلَْي َ
خبصوص السبب" .ال أبس .لكن انتقال اللفظ من سياقه القدمي إىل سيا جديد يستلزم أتهيال وهتيئة للسيا اجلديد كما يتهيأ جسد
ص ْرُك ْم َويُثَبِ ْ
ت أَقْ َد َام ُك ْم " يف محلة اَّللَ يَْن ُ مريض الستقبال عضو من جسد صحيح .هل ترى "اتجر املخدرات" الذي حيمل " إِ ْن تَ ْن ُ
ص ُروا َّ
انتخابية جسدا مناسبا النتقال الن القرآين؟
ومن مهالك التناص ،أن النصوص األدبية العربية اليت اختارت العودة إىل التاريخ واملوروث جتد نفسها يف مواجهة تحنة من
ثالث على األقل .األوىل ،االهتام الساذج ابالنتحال والسرقة "األدبية" ،الثانية ،االصطدام ابملقدسات وما ينتج عنه من احتماالت
التكفري واملصادرة ،الثالثة ،جهل أكثر العرب مباضيهم القريب والبعيد مما يزيد من صعوبة القراءة ،حبيث تصبح املهمة مزدوجة :االنتباه
إىل اإلحاالت واالقتباسات وفهم وظيفتها يف النص الراهن فضال عن التعامل مع هذا النص نفسه .يف مثل هذا السيا القرائي املعقد،
تصبح املصادرة واالهتام ابلكفر واجلهل بطبيعة النص األديب واقتالع امللفوظات من سياقاهتا النصية أمورا متوقعة ومنطقية .لكي تقف
على ما يتهدد املبدعني جراء ضيق أفق كثري من القراء اقرأ ما كتب أحدهم تعليقا على قصيدة (األربعون الزائفة) لتقى املرسى ،وليس
يف القصيدة ما يشني األربعني النووية وال السن النبوية" :إىل كل من حيارب التشيع يف مصر ...ميسون السويدان تشيع الفحش والزندقة
والتشيع يف صالوهنا .أين أنتميا حزب النور ..أين أنتميا خفافيش أمن الدولة ....األربعون ...ليست النووية ...ولكن ...الزائفة
"!...
( )22أداة حتليل اخلطاب مبعناه الواسع
ال يقتصر اخلطاب مبعناه الواسع على طرائق التعبري اخلاصة بل يتجاوزها إىل السلوكيات غري اللغوية اليت تتصل هبذه التعابري.
من األصوات اليت تسمع أو احلروف اليت تقرأ وما يتشكل منها من كلمات فعبارات ،فجمل ،فنصوص مكتوبة أو منطوقة ،إىل ما
حييط هبا من سيا أو موقف ،ومن يشارك فيها من بشر وكائنات وموجودات ،وما حييط هبا من بيئة وثقافة ،وما يسبقها من نصوص
،و طرائق إنتاجها وتلقيها ومقاصدها وغاايهتا ،والتفاعالت اليت تشتمل واليت حتيط هبا .قد تبدأ قراءة نص من اخلارج فتبدأ مقاربة
أبيات للمتنيب ( 354-313ه 765-725 /م) على سبيل التمثيل من مراجعة سريته وحياته -نبوغه وغروره ،وعالقاته املتقلبة
أبصحاب النفوذ خصوصا سيف الدولة وكافور ،وترحاله -والظروف اليت أحاطت بتأليف األبيات – موت "فاتك" وحنقه على كافور.
ال بد أن تتوقف املقاربة عند مكانة املتنيب الذي شغل اجلميع وسهر اخللق ختصمون يف أبيات شعره وظل يف قلب املشهد
الشعري العريب يف كل عصوره حىت أصبح رمزا له ودليال عليه .وال بد أن يشار إىل غاايت شعره ومنها املدح وقد قيل إنه رمبا "مدح
بدون العشرة واخلمسة من الدراهم" ،وحتوالته الغريبة من املدح إىل اهلجاء -وقد وصف كافور يوما وانداه " أاب املسك " مث هجا لونه
وأصله وخسته .مث ينتقل التحليل إىل املعاين الكربى والغرض الشعري الذي ينتظم األبيات وهو الراثء الذي يشتمل التعبري عن مرارة
الفقد وذكر تحاسن الفقيد ومناقبه .وقد يرى يف األبيات خروجا من مقام الرضا إىل السخط ومعاتبة القدر.
املرثي يف األبيات هو فاتك الرومي ( 351ه 762م) وعنه جند يف (األعالم) للزركلي (نسخة موقع الورا ،ص )953
بتصرف :امللقب ابجملنون لشجاعته ،ويقال :له فاتك الكبري :أخذ من بالد الروم صغرياً ،وتعلم اخلط يف فلسطني .وكان يف خدمة
اإلخشيد فاعتقه واقطعه الفيوم وأعماهلا ،فأقام هبا وتعرف ابملتنيب الشاعر ،فأرسل إليه هدية قيمتها ألف دينار واتبعها هبدااي أخرى ،
955
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
فاتصلت املودة بينهما ،ومدحه املتنيب .وملا مات فاتك راثه املتنيب بقصيدة أوهلا" :احلزن يقلق والتجمل يردع" -القصيدة كاملة هنا
www.adab.com
اجملد أخسر واملكارم صفقة
من أن يعيش هلا الكرمي األروع
والناس أنزل يف زمانك منزال
من أن تعايشهم وقدرك أرفع
قبحا لوجهك اي زمان ؟ فإنه
وجه له من كل قبح برقع
أميوت مثل أيب شجاع فاتك
ويعيش حاسده اخلصي األوكع؟
أيد مقطعة حوايل رأسه
وقفا يصيح هبا :أال من يصفع
أبقيت أكذب كاذب أبقيته
وأخذت أصد من يقول ويسمع
وتركت أننت رحية مذمومة
وسلبت أطيب رحية تتضوع
مث تنتقل املقاربة إىل معاين األبيات إمجاال .وهذا شرح الواحدي يف (شرح ديوان املتنيب ،نسخة موقع الورا ) بتصرف :يقول
الشاعر صفقة املكارم واجملد أخسر وحظها انقص من أن يعيش هلا هذا املرثي يعين أن املكارم كانت حتيا به .ويقول إن الناس يف زمان
الفقيد أقل قدرا من أن يكون فيما بينهم فيخالطهم ويعاشرهم وقدره أجل من أن يعايش أهل ذلك الزمان .ويقول قبح هللا وجهك اي
زمان فإن وجهك وجه اجتمعت فيه القبائح فكأنه اختذ القبائح برقعا .والقبح ضد احلسن .يلي ذلك استفهام تعجب فقد مات هو يف
جوده وفضله وعاش حاسده يعين كافورا ،واألوكع هو اجلايف الصلب .مث يصف الشاعر غرميه فيقول إن األيدي اليت حول اخلصى
مقطعة ألن قفاه يصبح أال من يصفع فلو مل تكن تلك األيدي مقطعة لصفعنه .مث خاطب الزمان فيقول له أبقيت أكذب الكاذبني
الذين أبقيتهم أي هو أكذب من بقي من الكاذبني يعين اخلصي وأخذت أصد القائلني والسامعني يعين أصد الناس وهو املرثي.
ويقول إن الزمان قد ترك صاحب "أننت رحية" -يريد كافورا -.وأخذ صاحب "أطيب رحية" يريد فاتكا.
ليس يف الشرح إال تقريب املعىن الشعري يف قالب منثور وال يعول عليه يف اكتشاف كثري من مجاليات األبيات .هنا يكون
الرتكيز على األبيات بيتا بيتا ،وحتليل الرتاكيب واألبنية والصور الشعرية واحملسنات ،وما بني األبيات والدالالت من سبك وحبك
ووحدة عضوية ،على أن يظل سيا القصيدة وغاايهتا البالغية وغرضها الشعري نصب األعني .من جهة لغتها وصورها وتراكيبها ،ال
تفار األبيات مقصدها ،من نسليع اجملد واملكارم يف "أخسر" وصفقة " إىل اجلناس بني " أنزل و"منزال" و"قبحا" و"قبح" وبني
"أكذب" و "كاذب" -إىل جتسيد الزمان بشرا له "وجه" قبيح وجتسيد القبح يف هيئة "براقع" ،إىل الطبا بني "ميوت" و" يعيش" وبني
" أكذب " و" أصد " وبني " أننت " و" أطيب" وبني "يقول" و"يسمع" ،وبني "فاتك " و" اخلصي األوكع" .يف الصور واحملسنات
ما يؤكد غرض األبيات ،وهو راثء فاتك ومدحه من جهة وهجاء كافور من جهة أخرى ،مبا يستلزم هتويل تحاسن املمدوح وهتويل
مقابح املهجو املذموم .ويف غمرة احلزن على الفقيد يبالغ الشاعر فال يقتصر على ذم كافور بل يرى مجيع الناس يف زمان الفقيد أقل من
959
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
أن يعاشرهم أو يعيش معهم .هذا ما يف األبيات .يبقى اخلروج من األبيات إىل عالقتها مبا بقي من القصيدة وعالقتها بشعر املتنيب
وشعر غريه على وجه العموم .
من أسباب فساد التحليل
أحياان يصبح حتليل اخلطاب نوعا من شرح النصوص أو تلخيصها دون تفسري أو أتويل ،وأحياان يقتصر على جمرد مثل من
هنا وآخر من هناك لتأكيد مالحظة أو فرضية ،دون تحاولة اكتشاف األنسا الكربى والظواهر الدالة يف اخلطاب .ورمبا يعيب التحليل
االحنياز املسبق إىل وجهة نظر أو تفسري -أو االنكفاء على منوذج أو نظرية ال تصلح للتعامل مع ما يتناوله التحليل من نصوص .وقد
يعيب دراسات حتليل اخلطاب أن تكتظ ابالقتباسات املطولة من النصوص موضوع التحليل دون مربر أو تفسري .وقد تقع بعض
دراسات حتليل اخلطاب يف شرك التعميم واالعتماد أبن ما يصد على سيا يصد على غريه .هذا بعض ما ميكن أن يقع فيه حتليل
اخلطاب من مزالق .جند شرح هذه األخطاء وتوضيحها ابألمثال يف دراسة تشارلز أنتاكي Antakiوآخرين (. )1113
وهذا كالم ابن خلدون يف الصفحة األوىل من (املقدمة) يتناول عددا من أسباب فساد الرواية وكذب اخلرب والتفسري تصد
كذلك على حتليل اخلطاب والنص" :اعلم أنه ملا كانت حقيقة التاريخ أنه خرب عن االجتماع اإلنساين الذي هو عمران العامل ،وما
يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ،وما ينشأ عن
ذلك من امللك والدول ومراتبها ،وما ينتحله البشر أبعماهلم ومساعيهم من الكسب واملعاش والعلوم والصنائع ،وسائر ما حيدث يف
ذلك العمران بطبيعته من األحوال .وملا كان الكذب متطرقا للخرب بطبيعته وله أسباب تقتضيه .فمنها )2( :التشيعات لآلراء
واملذاهب ،فإن النفس إذا كانت على حال االعتدال يف قبول اخلرب أعطته حقه من التمحيص والنظر حىت تتبني صدقه من كذبه ،وإذا
خامرها تشيع لرأي أو حنلة قبلت ما يوافقها من األخبار ألول وهلة ،وكان ذلك امليل والتشيع غطاء على عني بصريهتا عن االنتقاد
والتمحيص ،فتقع يف قبول الكذب ونقله .ومن األسباب املقتضية للكذب يف األخبار أيضا ( )1الثقة ابلناقلني ،ومتحيص ذلك يرجع
إىل التعديل والتجريح .ومنها ( )3الذهول عن املقاصد ،فكثري من الناقلني ال يعرف القصد مبا عاين أو مسع ،وينقل اخلرب على ما يف
ظنه وختمينه فيقع يف الكذب .ومنها ( )4توهم الصد وهو كثري ،وإمنا جييء يف األكثر من جهة الثقة ابلناقلني .ومنها ( )5اجلهل
بتطبيق األحوال على الوقائع ألجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع ،فينقلها املخرب كما رآها ،وهي ابلتصنع على غري احلق يف نفسه .
ومنها ( )6تقرب الناس يف األكثر ألصحاب التجلة واملراتب ابلثناء واملدح وحتسني األحوال وإشاعة الذكر بذلك ،فتستفيض األخبار
هبا على غري حقيقة ،فالنفوس مولعة حبب الثناء ،والناس متطلعون إىل الدنيا وأسباهبا من جاه أو ثروة ،وليسوا يف األكثر براغبني يف
الفضائل وال متنافسني يف أهلها .ومن األسباب املقتضية له أيضا وهي سابقة على مجيع ما تقدم ( )9اجلهل بطبائع األحوال يف العمران
،فإن كل حادث من احلوادث ذاات كان أو فعال ال بد له من طبيعة ختصه يف ذاته وفيما يعرض له من أحواله ،فإذا كان السامع عارفا
بطبائع احلوادث واألحوال يف الوجود ومقتضياهتا ،أعانه ذلك متحيص اخلرب على متييز الصد من الكذب ،وهذا أبلغ يف التمحيص".
تطبيقات
أ .قيس وليلي
من نصوص اجلزء األول من األعمال الكاريكاتريية الكاملة للراحل صالح جاهني يف ابب "قيس وليلى" نص جيلي كثريا من
جوانب اخلطاب .بعض مفاتيح هذا النص اإلحالة إىل قصة اترخية معروفة والعالقة بني النص السابق والنص الالحق ،وهي عالقة
تناص ،ومستوايت اللغة العربية يف النص -بيت الشعر الفصيح والتعليق ابلعامية -واقتباس بيت من الشعر ،وهو من قبيل التناص
كذلك ،والتورية ) . (punالتورية عن الشيء ،وهو الكناية عنه ،أن حتمل كلمة أو مجلة معنيني أحداما أقرب إىل الذهن لكنه غري
املقصود ،والثاين بعيد إذ أنه املقصود يف كتاب (اإلتقان يف علوم القرآن) لإلمام السيوطي " :اإليهام ويدعى التورية أن يذكر لفظ له
959
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
معنيان ،إما ابالشرتاك أو التواطؤ أو احلقيقة واجملاز ،أحدها قريب واآلخر بعيد ،ويقصد ابلبعيد ويوري عنه ابلقريب فيتوامه السامع من
أول وهلة" .ويف (أساس البالغة) للزخمشري" :قيل :األمساء ضرابن أمساء األشباح وهي اليت أدركتها الرؤية واحلس ،وأمساء األعمال وهي
اليت ال تدركها الرؤية وال احلس ،وهو كقوله :م :أمساء األعيان وأمساء املعاين ".حني تتجاوز التورية املفردة إىل عموم انئص تصبح نضا
كنائيا )(allegoryكما جند يف مزرعة احليوان ل جورج أورويل ،وكليلة ودمنة ل ابن املقفع ،ورحالت جليفر ل جواناثن سويفت ،
وغريها.
هذا هو بيت الشعر الذي حيتل قلب املشهد يف كاريكاتري صالح جاهني:
مىن النفس ليلى قريب فاك من فمي ...كما لف منقاريهما غردان
خلفية الصورة /البيت صحراء فيها بعض التفاصيل من خنيل وتالل ومشس مشرقة .قيس طريح بينما ليلى تسكن "بيت" شعر
حتاول االنطال من أسرها مقبلة على قيس .هنا توريتان :تورية ليلى بوصفها مفردة تشري إىل "شبح" بعبارة الزخمشري وهي اسم علم
يشري إىل امرأة نعرفه ا مث "ليلى" بوصفها كلمة مكتوبة أو ملفوظة -حروف أو أصوات ،التورية الثانية هي تورية "بيت" تشري أوال إىل
بناية نسكنها وتشري اثنيا إىل سطر من الشعر ينقسم إىل شطرين كما يظهر يف الصورة.
تحاولة ليلى االنعتا واخلروج من بيت الشعر وتعليقها "خالص مش طايقة أعيش يف البيت دا بعد كده" حيسمان قدرا كبريا
من داللة النص .يف بيت الشعر ابإلضافة إىل ما سبق طلب هو "قريب فاك من فمي" وتشبيه متثيلي يف "كما لف منقاريهما غردان" ال
يفيدان اإلخبار عن شيء قد وقع بل أمنية عالقة معلقة تنتظر التحقق .ويف تعليق ليلى تشري عبارة "البيت ده" إىل البيت الذي نراه يف
النص حيث حتلم ليلى أن خترج من "املىن" و"الطلب" و"التشبيه" إىل واقع ملموس تحسوس يتحقق وإىل أبيات شعر قيس إمجاال فلم
تعد تقنع ابلشعر وتريد أن تصبح ابلفعل ال على سبيل التشبه طائرا يقبل تحبوبه ويقبله" .خالص" و "مش طايقة" تؤكدان ضيق ليلى
ببقائها أسرية بيت من الشعر ونفاذ صربها على عذرية قيس
التوتر يف هذا النص ويف غريه من نصوص ابب قيس وليلى يف أعمال جاهني الكاريكاتريية توتر بني من يعيش احلب "ابهلمس"
ومن تريد أن تعيشه " ابللمس" -بعبارة سكينة يف مسرحية (راي وسكينة) -بني حب عذري يتعفف وحب مقبل يتلهف.
952
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
ال داعي للتعميم وال للخروج مبقوالت جامعة مانعة عن الفرو بني اجلنسني يف النظرة إىل احلب .املقوالت اليت وردت أعاله
ترتبط بسيا واحد تحدد وهو سيا نص صالح جاهني (وهو سيا مصري كما تشري "مش طايقة" و"بعد كده") الذي يعيد إنتاج
سيا قصة قيس وليلى .أما االنطال من هذا الكاريكاتري واهلتاف مبقوالت ساحقة ماحقة حنو "املرأة العربية كذا" و"الرجل العريب كذا
وكذا" فهو من قبيل التعميم الذي ال يقوم على أساس ،على األقل ال ينبغي أن تقوم على أساس هذا النص.
ب .زبرجدة اخلازابز
يف قصيدة (زبرجدة اخلازابز) ل حسن طلب ولع ابللغة ال يستغرب منه ملن عرف شعره ،لكنه ليس ولعا جمانيا ،بل ولع يوظفه
الشاعر لنقل رسالة وحتقيق غاايت بالغية .مدار انشغال القصيدة يتبدي من عنواهنا فهي زبرجدة – زبرجدة بكل ما يف الكلمة من
معىن -عن اخلازابز .هي زبرجدة على معىن إحكامها وندرهتا .وهي حجر نفيس كرمي .الزبرجد قريب الزمرد .يقال :إن األفعى تسيل
عينها إذا هي وقعت على الزمرد ويقال :إنه يشفي من اجلذام إذا شربت نشارته .يف املاضي كانت مجيع األحجار الكرمية ذات اللون
املائل لألخضر تسمى الزبرجد ،لونه األخضر ال خفت ليال عرفته مصر القدمية ،وعرف قيمته اإلغريق والرومان .ويقال :إن يف عرش
سليمان منه قدر وفري .واحتفت به اخلالفة العثمانية ،ومجع سالطينها أكرب جمموعة من األحجار الكرمية يف العامل كما تقول املوسوعة
احلرة.
تنتهي مقاطع القصيدة الزبرجدة بقافية تشبه قافية "اخلازابز" .هذا أول ما نعرف من القصيدة .بداية القصيدة صادمة مبا فيها
من مفردات مهجورة ال يتوقع أن يفهمها قارئ من غري أن يعود إىل املعجم .من الصعب مقاومة إغراء الشرح والتبسيط يف مقاربة
قصيدة كهذه القصيدة .إال أن يف ذلك خطرا جسيما وهو أنه سيشغل املتلقي عن الشرك البالغي الذي يوقعه فيه الشاعر.
زبرجدة اخلازابز
ما مل يكن سيصح صح
ومل يكن سيجوز جاز :
يبس السحاب
تبخر القاموس
كيف إذن سيحيا األنقليس؟
وكيف يفلت من إسار املرمريس اخلازابز؟
ال بد من شيء لينجو من هالك مقبل
هل يستعني حبسه الفطري ؟
أم خبياله احلفاز؟
من العنوان ،إىل القوايف ،إىل الصفات اليت تلتصق ابخلازابز " -الرعوي" " ،الرخوي" " ،البدوي"" ،الصحراوي" -إىل أمساء
األماكن العربية والقبائل ،إىل التوتر احملوري بني مستحداثت العصر وتراث اخلطابة واحلروب العربية وفقه اللذة وعودة الشيخ إىل صباه،
ال ترتك القصيدة يف نفس قارئها ريبة يف أن املعين هبا واملشار إليه ابخلازابز هو املواطن العريب املسلم -على وجه اخلصوص من يرفض
اخلروج من املاضي -والذي أصبح يهدده االنقراض يف ظل ما حييط به من أهوال ومستجدات يعجز عن فهم جمملها.
ال بد من شيء هلذا الكائن الرعوي
هل يتقمص الصحراء كي تسعى لواحته اجلداية؟
أم يقلد رقصة اليعسوب؟
952
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
يصرخ كي حيس أبنه ما زال حيا
أو حتس به الدواجن؟
هل يصرح ابلذي خشاه من مأساته
أم يكتفي ببالغة اإليعاز؟
ما مل يكن سيكون كان
فكيف ميكن أن يواجه ذلك الوضع املعاصر؟
ختفي عن كل عني خلف شوك القنفذ الربي
أو در السالحف؟
يستعري من النعامة رأسها
ومن القزيل قلبه؟
أم يستقل جناح ابز؟
فلنعد إىل املقطع األول وقد ألفنا القصيدة حيث اخلازابز هو نوع من احلشرات -لعلها ذاببة الفاكهة -يهدده االنقراض ألن
البيئة اليت ينمو فيها ويرتعرع إىل زوال .لقد يبس السحاب وتبخر احمليط ("القاموس") ومل يعد يف مقدور ثعبان البحر ("األنقليس") أن
يعيش وقد جف املاء من حوله .واملرمريس أرض رملية جدابء أرض ال تنبت شيئا لصالبتها ،فكيف يفلت اخلازابز من مصريه احملتوم؟
خطر االنقراض دفع الشاعر إىل أن يكتب القصيدة بلغة انقرضت أو كادت ،لغة غرائبية غريبة تشبه غربة العريب اليوم وهو
يعيش مع من حوله من أهل األرض "اجلغرافيا" نفسها ،لكنه ال يعيش معهم "التاريخ" نفسه .يعيش يف األساطري وهم يعيشون يف زمن
التلفاز وحرب الكواكب .أسلحة العريب القدمية لن تسعفه اليوم -ال اخليل وال الليل وال الرمح وال القرطاس وال القلم ما دام ينفق مداده
يف حروب بالغية ،وشروحات ،وهوامش ،وهوامش على اهلوامش ،وعنرتايت ،وخطب ،وتفاصيل تغر يف تفاصيل ،من غري حركة
تذكر وال فعل يعول عليه.
لو كانت له أنياب صل الشام
أو منقار شاهني الرها
أو قرن كركدن عطربة
استدارة عني يعفور السماوة
أو زابين عقرب الدهناء
أو معشار حكمة بومة النيل
التفاتة إيل يف بعلبك إىل الذرى
أو عضو إخصاب لتيس من صفاقس وهو ينزو
بني متيوسائه
أو قفزة اإلطبا من منس الصعيد على فريسته
قوائم تيتل من أي هاتيك التياتل أو ذوات
الظلف لو كانت له جبميع ما جيتاز!
959
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
يف املقطع أعاله حقل داليل يشتمل حيواانت ،وحقل آخر ألماكن تشتهر هبا ،وكالاما يشري بال مواربة إىل بيئة عربية مل تعد
حية وال انبضة وانزوى كثري من مفرداهتا يف كتب التاريخ واألساطري .وسوف ترد الحقا حقول داللية أخرى منها أمساء قبائل عربية
هالكة أو تكاد.
لكنها ليست له فعال
ولو عاش اهلنيدة لن تكون له
فما هو -يف حقيقة أمره
إال جمرد خازابز.
ويبدو أن اخلازابز العريب قد فقد صفاته األصيلة اليت طاملا تباهى هبا وتفاخر وقد أصبح مسخا عالقا بني زمنني ،ال ماضيه
يصلح للتعايش مع حاضر اآلخرين ،وال هو قادر على أن يتعايش معهم حباضره يف حاضرهم ..
ماذا سيفعل ذلك اهلزيل يف حرب الكواكب؟
هل يلوذ بناقة عوجاء انجية عليها الصيعرية
تصمعل بنضوه
فيضيع يف الربع اخلراب
مرددا غب السرى والسري
ما حيدو به الرجاز؟
ال بد من شيء جينب ذلك البدوي أهوال
املصري الصعب
هل يغزو جبيش من أساطري ..مصنع الفوالذ؟
يشحذ عزمه ويريش سهما
مث يطلقه على القمر الصناعي احمللق يف
مساء بيوته
وفضاء غرفته؟
جيرد محلة كربى ليحتل البنوك وشاشة
التلفاز؟
أم هل جيرد محلة أخرى يكون شعارها؟:
حترير عكا
يستحل دم الذبيح وما أهل به لغري هللا
يشرب بوله كرها ويقتات الرباز؟
ال بد من أي من املوتني:
موت العجز بني القادرين
وموت االمشئزاز.
أم هل يهيئ خيمة األعراف الستقبال مؤمتر
959
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
لقمة جنسه:
غيظ بن مرة -قيس عيالن -الفدوكس -عك-
ضبة -جحجيب -أد بن طاخبة -الرباجم – كلب
-جحش -قريش -هبدلة -احليا -سعد العشرية
-شن -أزد شنوءة -الدئل -العطاعطة – اهلميسع
-عجل -عكل -هصيص -أفصى -حسل – عنس
-جذام -عنز -تنوح -أنف الناقة -احلرماز؟
نعم الرعيل
ونعم أمساء القبيل
ونعم أعمال الرجال إذا تفوخر ابلفعال وعدد
اإلجناز!
أم األصح بقاؤه متلذذا مبجادالت األشعرية
يف جواز إمامة املفضول
أو جعل اخلالفة يف قريش؟
مناداي بوجوب أتسيس الفروع على األصول ؟
مقفيا بكتاب "أسباب النزول"
على كتاب "دالئل اإلعجاز" ؟
أم هل جيرب حيلة أخرى لفك الرمز؟
خلق منهجا حرا لتأويل اجملاز؟
أيؤلب الفصحى
لتخرج من معامجها إىل نظرية الكم اجلديدة؟
أو إىل علم التفاضل؟
كي تقايض من تشاء بضاعة ببضاعة:
فبحرف حىت :معمل الكيمياء
ابلنعت :الفلز
خبمسه األمساء :علم وظائف األعضاء
ابملرتادفات :مفاعالت الذرة اآلالت ابلعلل
املصانع ابملضارع واملضاف واجملرور
ابجلزم اجليولوجيا
بالم النصب أو واو املعيه أو أداة النهي :هندسة
القوى
بعالمة التأنيث درفلة املعادن
950
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
ابملعلقة اجلهاز!
ليعرف من يريد ...حقيقة الوطين/
واجلاسوس
والسلفي /والسمسار
والثوري /والنهاز
البد من شيء يناقض كل شيء
مث يكسح أي شيء من قمامة هذه األشياء
ال يبقى على شيء
فقد يبس السحاب
وطال صرب العيس
سالت مهجة اليقطني
كيف إذن سيحيا األنقليس؟
وكيف يفلت من إسار املرمريس اخلازابز؟
ما احلدث الذي أاثر القصيدة ؟ ليس حداث واحدا بل رمبا أحداث ووقائع التقطها الشاعر وأدرك من خالهلا أن العريب املنغلق
على ذاته يعيش يف عامل غري العامل .من هنا مر املشهد املربك يف زمن نفس الشاعر فاستعادت املشاهد كلها من أايم القبائل إىل زمن
الضياع الكبري .يف زمن التغين ميارس الشاعر ولعه ابللغة فينبش يف املعاجم ليجد املعادل املوضوعي للكالم عن كائن يعيش خارج
التاريخ.
التفاصيل يف القصيدة مرهقة ،لكنها مألوفة يعرفها العريب املنصف عن نفسه ويعرفها غريه عنه .فلنخرج من غواية الشرح
والتلخيص إىل شيء من التأويل .وقد تقدم أن فكرة انقراض اخلازابز أو إقصائه إىل هامش التاريخ كانت مربرا بالغيا مهما ملا يف
القصيدة من مفردات غريبة وأمساء ليس لغالبها وجود اليوم.
ملاذا اختار الشاعر هذه اللغة املعجزة أحياان واملرهقة واليت تستعصي على فهم اخلاصة والعامة من غري جلوء إىل معجم أو
"قاموس" .فكرة االنقراض الوشيك احملد سبب .أما السبب الذي يتصل ابنشغال هذا اجلزء من هذا الكتاب فهو اللغة .بني القارئ
واملعىن يف هذه القصيدة طبقة صلبة كثيفة من اللغة قد تصرفه عن تحتواها وعن رسالتها .وال بد أن ينفق من وقته وجهده الكثري ال
لشيء إال ليفهم معاين املفردات قبل أن يفكر يف دالالت القصيدة الكلية املهمة.
هذا ما فعلت اللغة ابلكائن العريب البائس وما فعل هبا منذ عرفها وعرفته .انشغل هبا وانشغلت به وتركا معا العامل من حوهلما
يتغري ويتطور وتدور به األايم ويدور هبا واما يف مكانيهما "تحلك سر" حىت انتهيا إىل هذه الغربة وهذا االغرتاب .قرون بعد قرون
والكائن العريب "يلف ويدور" ويدخل يف حروب بالغية ال تنتهي .يدبج اخلطب العصماء ،وينظم الدرر الطوال من القصائد يف الفخر
مبا ال يستحق الفخر يف كثري من األحوال ومدح من ال يستحقون املدح والراثء وغريها من أغراض ،ويسهر وختصم يف أمور لغوية ،
وقضااي فقهية ،وشروحات بالغية ،واستطرادات على االستطرادات ،وحواش على احلواشي ويعود إىل كل ما سبق مرارا وتكرارا ،ال
يغادر اهلوامل وال حييط ابلشوامل .يرتبص به الشيطان يف التفاصيل فيعيش فيها ال يفارقها.
هذا ابإلضافة إىل قضاايه الفقهية املفتعلة عن وجوب رجم القرد الزاين وجواز الوضوء بكذا وكذا ونقض الوضوء عند محل قربة
مملوءة فساء وغري ذلك .بينه وبني من حوله أستار وراء أستار وحجب يف إثرها حجب من البهرج والزخرف واحملسنات البديعية ،فال
999
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
يكاد يصل منه إىل غريه شيء ،وال يكاد يعي هو من كالم غريه شيء .لن تستسيغ هذا الرتاث الكثيف الذي حيجب العريب عن العامل
وحيجب العامل عنه حىت تصرب على زبرجدة حسن طلب وتقرأها إىل هنايتها -بعد أن قاومت رغبتك يف التلخيص والبحث عن معاين
املفردات.
ج .من حممد إىل اآلنسة فاطمة
هذه رسالة مكتوبة (من صفحة اللطائف املصورة) ،ردا على رسالة " -وأبلغك أنين بيد السرور تشرفت واستلمت كتابك
الكرمي ورسولك الصاد األمني فأكربته حني قرأته " -من تحب إىل تحبوبته يف ثالثينيات القرن املنصرم .واملكان بين سويف يف مصر.
الرسالة حدث تواصلي بني زمنني ،زمن مضى فيه رسالة من احملبوبة ،وزمن ملا أيت بعد تشري إليه الرسالة كما يرد الحقا .هذه ليست
رسالة إلكرتونية وال رسالة نصية وال رسالة عرب كتاب الوجوه (الفيسبوك) ،بل رسالة ورقية محلها رسول صاد أمني لعله ساعي الربيد أو
"مرسال غرام" وليس ألي منهما مكان أو مكانة تذكر يف عامل اليوم .هذا عن الوسيط.
أما املشاركون يف احلدث التواصلي – الرسالة -فهما الكاتب املرسل -تحمد -واملرسل إليها -اآلنسة فاطمة .يف خلفية
الرسالة شخصيات أخرى هي السيدة والدة تحمد والسيدة والدة فاطمة " -أبلغك حتيات السيدة الوالدة واجلميع خبري حتيايت للسيدة
الوالدة" -والرسول الذي محل الرسالة ،ومعسكر خري ومعسكر شر ،مالك حارس و"عوازل" حيسدون وشياطني قد تقرتب –
"ودعوت هللا عين وعنك أن جيعل لنا على الدوام ملكا طيبا من بني مالئكته يرقبنا وحيفظ لنا عهدينا وحيافظ علينا من شر حاسد إذا
حسد ومن شر شيطان إذا اقرتب".
العالقة بني تحمد وفاطمة "عالقة حب" أيمل الكاتب أن يفضي إىل "زواج" – "حبيبيت الوحيدة"" ،وهبتك قليب فهل لك أن
تتبادلني اهلبة " " ،قبليت وقبليت وقباليت" .ويف هذا احلب شرطان يضمنان من وجهه نظر املرسل جناح الزواج املأمول ،اما الوفاء والطاعة
.وهو حب "اجتماعي" معلن يف رعاية األسرتني ،على األقل تعرفه والدة تحمد ووالدة فاطمة .قصة احلب -اليت ال غاية هلا إال
الزواج -مل تبدأ مع هذه الرسالة ،فكما سلف ،هذه رسالة يرد هبا تحمد على رسالة من فاطمة .ويف الرسالة كالم عن املاضي وكالم
عن املستقبل – هذا ما طالعته من وجهك الوضاء ..وبعد هذا سرتين الوفاء يتبادل ويطفح إانؤه ويعم فتسري السفينة حبمولتها متخر
عباب البحار رافعة شراعها تتيه دالال وعجبا على الزمان"" ،هذا ما شاهدته وملسته بيدي ..وبعد هذا ستكونني إن شاء هللا من أسعد
اخللق يف الدنيا واآلخرة" .قدمت فاطمة الوفاء والطاعة ،وتحمد يعدها أهتا ستجد جزاء ذلك سعادة يف زواجها ،ويرسل مع الرسالة "قبلة
اإلخالص األبدي" .وينتظر "الرد".
مع الوفاء والطاعة ظلت العالقة رمسية وقورة ،فالتحية يف أول الرسالة موجهة إىل "اآلنسة فاطمة" ال "بطة" وال "طمطم" وال
"فطومة" وال حىت "فاطمة" جمردة من اللقب .ويف الرسالة إشارة إىل "السيدة والدة" فاطمة و"السيدة والدة" تحمد ال ماما وال مامي وال
أمي وال حىت "والدتك" أو "والديت" من غري لقب "السيدة" .ما يصد على صيغ املخاطبة واإلشارة يصد على اللغة يف الرسالة
كلها" -بيد السرور تشرفت واستلمت كتابك الكرمي " ال "وصلتين رسالتك" .الشعور" ابلتشريف" يتكرر يف هناية الرسالة" حىت
أتشرف برؤايك" .قد تشري كلمة "تشرفت" يف أول الرسالة و"أتشرف" يف آخرها و"اآلنسة فاطمة" يف خماطبة احملبوبة إىل فرو اجتماعية
ليس يف الرسالة من أدلة أخرى أو قرائن عليها .على أن الكالم عن الطاعة و"القبالت" اليت تزخر هبا الرسالة تضعف هذا الربهان على
فرو اجتماعية بني املتحابني.
وألن النص رسالة بريدية تقليدية ،يشتمل مقدمة وموضوعا وخامتة .يف املقدمة توجيه (اآلنسة فاطمة حبيبيت الوحيدة") وحتية
("أحييك أفضل حتية وأقبلك قبلة اإلخالص األبدي") وإشارة إىل نص سابق ويف اإلشارة تربير النص الراهن ،مث دعاء .ويف اخلامتة
انتظار رد وسالم لألهل ووداع إىل لقاء مأمول.
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
يريد املرسل أن يؤكد تحبته ،ويريد أن يرسخ شرطي البقاء على العهد -الوفاء والطاعة – وقد وجد بذوراما من قبل يف تحبوبته
ورضي عنها ومأله الفخر والسعادة ملا رأى " -فخري وإعجايب هبذا" " ،راحيت وسعاديت يف هذا" -ويريد أن تبقى على ما وجدها
عليه .يستعني يف تبليغ رسالته ابلتكرار مرتني مع "الوفاء" ومع "الطاعة" ،وبوعد أن جتد احملبوبة جزاء وفائها وطاعتها يف الدنيا واآلخرة.
ويف الكالم عن املستقبل صورة مركبة بديعة " -الوفاء يتبادل ويطفح إانؤه ويعم فتسري السفينة حبمولتها متخر عباب البحار رافعة
شراعها تتيه دالال وعجبا على الزمان" -الزواج فيها إانء يطفح مبا يضع فيه الزوجان إن وفاء فوفاء وإن غري ذلك فغري ذلك .واحلياة
الزوجية ،فيها رحلة يف حبر جلي متالطم األمواج .مث صورة القلب الذي يتجسد هدية يرسلها احملب إىل تحبوبته وينتظر أن ترسل هي
بدورها قلبها إليه.
إىل هنا ننتهي من قراءة هذا الرسالة الطريفة لكن الكالم عنها مل ينته بعد ،فباإلمكان مراجعة أفعال اللغة فيها للوقوف على ما
فيها من خرب وطلب ووعود ،وحظ األفعال فيها ،بني ما وقع منها وما ينتظر أن يقع .سوف يبدو تحمد مقعرا متشدقا يف نظر أقرانه يف
يومنا هذا وسوف يذهله مقدار "النشا" الذي حتفل به رسالته .ال تثريب على تحمد ،فهو يكسب بلغة عصره وخاطب فاطمته ال
فاطمتك أنت وال فاطمة غريك.
حب غري احلب يف زمن غري الزمن.
995
هباء الدين حممد مزيد أدوات حتليل اخلطاب
املراجع
.2776 ، مطبعة املدين، جدة والقاهرة.2791 -2767 ) (جملة اجمللة،" "منط صعب ومنط خميف: تحمود،شاكر -2
.46 -33 ص ص، عالمات،" "احلد بني النص واخلطاب: ربيعة،العريب -1
، العلم واإلميان للنشر والتوزيع، دسو، مصر، النزعة اإلنسانية يف الرواية العربية وبنات جنسها: هباء الدين تحمد،مزيد -3
.1119
دار مشس للنشر، القاهرة، مصر، تبسيط التداولية: من أفعال اللغة إىل بالغة اخلطاب السياسي: هباء الدين تحمد،مزيد -4
.1121 ، والتوزيع
.76 -52 ص ص،2 ع،31 مج،1112 ، عامل الفكر،" "البالغة ومقولة اجلنس األديب: تحمد، مشبال -5
.2777 ، مكتبة اإلميان، املنصورة، جواهر البالغة يف املعاين والبيان والبديع: السيد أمحد، اهلامشي -6
7- Antaki, C„ Billig, M, Edwards D. &, Potter, J. (2003). "Discourse analysis means doing
analysis: A critique of six analytic shortcomings." Discourse Analysis Online, 1(1).
http://extra.shu.ac.uk/daol/previous/vl_nl.html
8- Becker, Alton. L. (2000). Beyond Translation: Essays Toward a Modern Philology. Ann
Arbor: University of Michigan Press.
9- Cap, P. (2013). Proximization: The Pragmatics of Symbolic Distance Crossing.
Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins.
10- Gee, James Paul (2011). How to do Discourse Analysis: A Toolkit. New York:
Routledge.
11- Genette, G. (1997): Palimpsests (trans. Channa Newman & Claude Doubinsky).
Lincoln, NB: University of Nebraska Press.
12- Knapp, M. L. (1984). Interpersonal Communication and
Human Relationships. Boston, MA: Allyn & Bacon.
13- Rothwell, J. Dan. In the Company of Others. 2nd ed. New York: McGraw Hill, 2004.
278-285.
14- Van Dijk, T. A. (1980). "The Pragmatics of literary communication. ''In: E. Forastieri -
Braschi, G. Guinness & H. Lopez -Morales (eds.), On Text and Context . Rio Piedras,
Puerto Rico: Editorial Universitaria, 1980, 3-16.
15- Wolf, P. (2003). "Why themes matter: Literary knowledge and the thematic example of
money.” In M. Louwerse and W. van Peer (eds.), Thematics: Interdisciplinary Studies
(pp. 341- 352). Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins.
999
فصول * اجمللد ( * )9/52العدد ( * )09خريف 5992
مراجع من موقع الوراق
إخوان الصفا :رسائل إخوان الصفا
اجلاحظ :البيان والتبيني
اجلاحظ :احليوان
اجلاحظ :الرسائل
احلريري :مقامات احلريري
الزخمشري :أساس البالغة.
السيوطي :اإلتقان يف علوم القرآن
ابن خلدون :املقدمة
ابن عبد ربه األندلسي :العقد الفريد
تحب الدين احلموي :حادي األظعان النجدية إىل الداير املصرية
الواحدي :شرح ديوان املتنيب.
الزركلي :األعالم
999
)Powered by TCPDF (www.tcpdf.org