ينظر إلى الحياة على أنها صراع في أصلها؛ صراع بين الخير و الشر ،بين القوي و الضعيف ،بين من يحكم و من يطمح في الحكم ،بين القوي و الضعيف ،بين الغني و الفقير ....فبالرغم من ذكاء اإلنسان و فطنته؛ فإنه لم يقدر على القضاء على الصراع ،أو على األقل التقليل من حدة تأثيره أو إسهامه في تشكيل مختلف مناحي الحياة .صحيح أن اإلنسان قام بمحاوالت جدية ألجل تحقيق ذلك ،لكن هل كان قصده هو تحويل العالقات التي يطبعها العداء و الصراع إلى عالقات يمألها اإلخالص و التعاون؟ الجواب هو ال؛ ألنه بقدر ما يسعى إلى التقريب بين األفراد؛ فإنه بالمقابل عمل على توسيع دوائر العنف ،الذي لم يعد ماديا كما كان فقط؛ بل أصبحت تسخر له مجاالت عدة و قنوات كثيرة ،ربما ال يعي الفاعلون قساوة عنفها؛ مثل الخطاب و اإلعالم و البرامج التعليمية و المواد المستهلكة ...و الغريب في األمر ،هو أنه في الوقت الذي وصل فيه اإلنسان إلى قمة مجده و عظمته ،الزال يحكم بأساليب و أشكال عنف .لكن ما العنف؟. إن العنف لمدة زمنية طويلة ،كان يحدد باعتباره سلوكا ماديا محضا يقوم به شخص أو جماعة تجاه اآلخر ،ملحقا به ضررا جميسا بالدرجة األولى ،لكن التحوالت التي طالت مختلف مجاالت الحياة االجتماعية و السياسية ،أدت إلى اتخاذ العنف لمعاني جديدة ،تجمع على أن العنف هو " سلوك أو فعل مادي أو لفظي يصدر عن ذات ضد أخرى ،مسببا لهذه األخيرة ضررا بدنيا أو نفسيا" ( .يتبين أن هذا التحديد األخير ال يحصر معنى العنف في القمع و الضرب الماديين بل يجعل منه سلوكا ال يتوقف ضرره على الجسم فقط ،و إنما يمتد إلى التسبب في أزمات و مشكالت نفسية). ال يوجد كائن بشري ال يعي خطورة العنف بل و تهديده لإلنسانية جمعاء ،و مع ذلك الزال العنف ساريا في جميع األماكن و الدوائر إلى درجة أنه يستحيل وجود جماعة ال يسودها العنف ،كما أنه القوة الوحيدة التي تضمن استمرار هذه الجماعة و بقاءها ،و الغريب في األمر هو أن العلم لم يعد يسير في تجاه خدمة اإلنسان ،بل إنه أصبح يسخر من أجل تطوير وسائل و أدوات ممارسة العنف. يقال إن العنف ضد الفكر ،و أنه مرتبط بالغرائز ؛ و اإلنسان عبر تاريخه ،لم يفهم المغزى الحقيقي لوجوده ،ألنه لم يقوى على تغليب عقله على غرائزه ،فهو دائما يحاول إضفاء المشروعية و العقالنية على أفعاله التدميرية و التخريبية .و في هذه الحالة لم يقنع سوى ذاته؛ ألن اآلخرون يرون في هذا العنف على أنه غير مشروع. انطالقا مما سبق يتبين أن هناك العديد من المفارقات التي يثيرها مفهوم العنف و التي تتعلق بطبيعته و أشكاله (طبيعي/مكتسب ،مادي/رمزي ،نفسي/جسدي ،فكري/واقعي.)... هذه المفارقات تقودنا إلى بناء التساؤالت التالية: - 1ما هو السلوك العنيف؟ و هل العنف سلوك فطري و متأصل في اإلنسان ،أم أنه سلوك مكتسب ،ناتج عن ضغوط و إكراهات الواقع؟ و ما هي أشكال و مظاهر العنف التي تمارس في الواقع؟ و هل يمكن حصر العنف فيما هو مادي ،أم أنه يشمل جميع األشكال الثقافية و الرمزية و الدينية و االعالمية ،التي تمارس عنفها على األفراد بوعي أو بدون وعي منهم؟. - 2كيف يبزغ العنف في التاريخ؟ و هل العنف وسيلة ضرورية الستمرار الحياة ،أم أنه ال يوجد ما يبرره على اإلطالق؟ و هل يمكن القضاء على العنف ،أم أن كل ما يمكن أن نأمله هو التقليل منه؟ و هل العنف محرك للتاريخ ،أم أنه عنصر مساهم في تخلفه و أزمته فقط؟. - 3هل العنف سلوك مشروع ،أم هو ليس بمشروع؟ و هل هناك ،غاية أو طموح تبرر غايته؟ و هل يشكل قيام العنف تهديدا للقيم اإلنسانية ،أم أن قوتها تفوقه و تنتصر عليه في األخير؟ و ما قيمة الدولة ،في ظل انتشار العنف و تطور وسائل ممارسته؟. المحور األول :أشكال العنف. تأطير نظري و إشكالي للمحور. العنف هو سوء استعمال القوة ،أو استعمال القوة من دون وجه حق .فهو سلوك فيه مخالفة للقانون و انتهاك لالحترام الواجب لإلنسان ،بوصفه شخصا له كرامة يتمظهر في سلوكيات مختلفة :السب و الشتم و اإلهانة و التهميش و القهر و االستغالل و االستعمار و االرهاب و االقتتال الفردي و الجماعي ...لكن ،هل يمكن اعتبار العنف خاصية حيوانية و ليست إنسانية ،أم أن اإلنسان بدوره يمارس شتى أشكال العنف؟ و ما هي أشكال العنف الممارسة من طرف اإلنسان؟ و هل ترجع إلى فطرته و جبلته ،أم أنها سلوكيات مكتسبة؟ بأي معنى يمكن اعتبار الحرب فعال عنيفا؟ و هل هي الوجه الوحيد للعنف ،أم له وجوها أخرى تختلف باختالف أساليبها؟ -1موقف كونراد لورنز: يقدم العالم النمساوي كونراد لورنز ( ،)1989-1903في كتابه " :اإلنسان في نهر الكائنات الحية" ،وجهة نظره ،عن العنف باعتباره فعال عدوانيا ،تقوم على المقارنة العلمية بين سلوك اإلنسان و الحيوان ،مؤكدا في البداية على أن الصراع بين أفراد النوع الحيواني الواحد ،صراع ال يهدد بقاء النوع ،فعندما تمارس هذه الحيوانات العدوان على أمثالها من نفس نوعها ،فإن هذا العدوان ال ينتهي إلى القتل ،و مرد ذلك ليس إلى غياب دافع غريزي نحو العنف ،بل إلى تطور طبيعي طويل قاد إلى تكون ردود أفعال كابحة في الجهاز العصبي المركزي وظيفتها هي الحفاظ على النوع ،نفس األمر عند اإلنسان ،في نظر لورنز ،رغم ادعاء الفالسفة بأن ما يكبح اإلنسان عن القتل هو إمالءات العقل و المسؤولية،؛ فهو يعترض على ذلك و يعتبر أن دوافع الكبح ليست عقلية فقط ،و إنما غريزية كذلك؛ فالعدوان إذن غريزة أصلية في اإلنسان بحكم قرابته البيولوجية مع الحيوانات ،و ال تعمل الثقافة إال على إذكاء نار هذا العدوان ،أو التخفيف من حدته .و بالتالي، فالنزعة العدوانية لدى اإلنسان يتقاسمها الفطري و المكتسب ،و هي بذلك تقوم في جزء منها على عمل العقل ،و في الجزء اآلخر على عمل الغريزة و االنفعال. -2موقف كارل فون كلوزوفيتش: يعتبر الجنرال و المنظر البروسي كارل فون كلوزوفيتش( ،)1831-1780في كتابه " :في الحرب" ،أن الحرب عنفا جسديا ألنها تقوم في البداية على االقتتال الفردي ،فتتوسع إلى أن تصبح معارك شاملة .إن الحرب ،في نظره ،تقوم على الصراع الذي يسمح لكل طرف باستخدام قوته الجسمية من أجل إخضاع الطرف اآلخر؛ فالحرب ،باعتبارها فعال عنيفا، يقوم على القوة الجسدية و يهدف إلى االخضاع و التغلب ،تعتمد على ما توفره الصنائع و العلوم من وسائل ،و كل ما يسمح ألية قوة بأن تهزم قوة أخرى؛ انطالقا من ذلك ،تخلو الحرب ،كفعل عنيف ،من أية قوة أخالقية ،و تقوم فقط على القوة الجسمانية إلرغام الطرف اآلخر على الخضوع و االستسالم .و بالرغم من كون الحروب بين الشعوب المتحضرة تبدو أقل عنفا منها عند الشعوب المتوحشة بناء على مستوى الحالة االجتماعية و العالقات الدولية ،إال أنها في جوهرها تظل فعال عنيفا. -3موقف إيف ميشو: يرى المفكر الفرنسي إيف ميشو في كتابه" :العنف" ،أن العنف حاضر في مجتمعاتنا الحالية بأشكال متعددة و طرائق متنوعة ،تلجأ إليه المؤسسات و األفراد ،إلبادة اآلخرين و تدميرهم أو إقصائهم أو على األقل إخضاعهم .و هذه األشكال التدميرية ،كانت حاضرة في الماضي ،لكن ما يميزها حاليا ،باعتبارها عنفا ،هو أنها صارت أيضا تمارس بنوع من الدهاء و الذكاء السافر ،الذي يسخر كل الوسائل التعليمية و التقنية حتى تكون له نتائج فعالة ،تجعله خطيرا و عظيما .يقول ميشو" :إن ما يميز العنف المعاصر...هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا و العقلنة في انتاجه". -4موقف بيير بورديو: يرى السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو ،في كتابه" :إجابات" ،أن هناك نمط جديد من العنف هو العنف الرمزي ،الذي رغم أنه غير مجسد ماديا؛ فهو قائم على تعسف ثقافي يتلقاه الفرد عبر الكالم و اللغة و التربية ...بعيدا عن ثقافته الرسمية ،انطالقا من ثقافة و ايديولوجية الطبقة السائدة المختلفة عن ثقافته؛ إنه عنف خفي غير ملموس ،يأتي في صورة لطيفة ،تجعل الفرد ال يراه كعنف بقدر ما يكون مستعدا تلقائيا لتقبله و االعتراف بشرعية المعلومات و اآلراء و المعتقدات المنقولة إليه ،و بالسلطة التربوية ألجهزة االرسال التربوية ،على أنها تمثل الصواب و الحقيقة .يقول بورديو" :يمكن أن يحقق العنف الرمزي نتائج أحسن قياسا إلى ما يحققه العنف السياسي أو البوليسي". تركيب: انطالقا مما سبق يمكن القول أن العنف يتخذ أشكاال متعددة و مظاهر متنوعة و مظاهر متنوعة تشكل تجليات للنزعة العدوانية في اإلنسان و تطويرا لها؛ من حيث أنه متأرجح بين عنف مادي و اآلخر رمزي ،بين عنف فردي و اآلخر جماعي؛ لكن العنف يبقى سلوكا متنافيا مع إنسانية اإلنسان و فعال مدمرا ال يمكن قبوله بأي حال من األحوال. المحور الثاني :العنف في التاريخ. تأطير نظري و إشكالي للمحور. ال يمكن الحديث عن تاريخ اإلنسان بدون أن نتوقف عند الذي لعبه العنف في صناعة هذا التاريخ ،سواء بشكل إيجابي أو سلبي .و على ذلك ،فالتاريخ البشري يكشف لنا عن مستويات متشعبة و معقدة للعنف ،تجعلنا نتساءل عن حقيقة الدور الذي يلعبه .لكن ،أية عالقة تربط العنف بالتاريخ؟ و هل للعنف دور في تطور هذا التاريخ؟ و هل يمكن اعتبار العنف نتاجا للبنية االجتماعية و االقتصادية لمجتمع ما و يتغير بتغيرها ،أم أنه مرتبط بالتحول من حالة الطبيعة التي يسودها العنف العضلي ،إلى حالة الثقافة التي تتجاوز العنف األول إلى عنف قائم على األدوات و العقل ،أم أن االرتباط بين العنف و التاريخ قائم على شيء آخر؟. -1موقف فريديريك انجلز ( :نص" :العنف االقتصادي" ص)149 يرى الفيلسوف و المنظر االقتصادي األلماني فريديريك انجلز ،في كتابه " :ضد دوهرينغ" ،أن العنف يرتبط بتطور النظام االجتماعي و االقتصادي ،مبررا ذلك بأن كل عنف سياسي هو في األصل عنف يقوم على وظيفة اقتصادية تتخذ طابعا اجتماعيا .و أن العنف يزداد كلما تحول المجتمع من االنتاج االقتصادي المشترك إلى االنتاج االقتصادي الخاص .و يرى انجلز أن العنف السياسي عندما ينفصل عن المجتمع يتخذ وجهتين مختلفتين؛ االولى يعمل فيها العنف في اتجاه تطوير االقتصاد العادي ،وبذلك يزول الصراع بين العنف واالقتصاد ،حيث يفتح التطور االقتصادي األبواب دون ان يؤدي الى تغيير النظام السياسي .أما الثانية فيعمل فيها العنف السياسي ضد التطور االقتصادي مما يجعله مستسلما للنظام االقتصادي؛ وفي هذه الحالة ،فإن الصراع ينتهي الى قلب النظام وتغييره ،أي الى حدوث ثورات .وقد قدم انجلز مثالين لتوضيح هاتين الوجهتين؛ االولى حالة فرنسا والثانية حالة روسيا .انطالقا مما سبق يتبين ان العنف بحسب انجلز ،يلعب دورا مهما في التاريخ ،لكنه ليس هو ما يحكمه ،بل إن ما يحركه هو االقتصاد ،اي أنه يربط بين التطور االقتصادي وأشكال العنف. -2موقف سيغموند فرويد: يرى سيغموند فرويد ،المحلل النفساني النمساوي في كتابه " :أفكار ألزمنة الحرب و الموت" ،أن اإلنسان ميال بشكل طبيعي نحو العنف لحسم خالفاته ،وذلك راجع النتمائه الى المملكة الحيوانية ،لكن اإلنسان له صراعات أخرى؛ تلك المتعلقة بالرأي التي قد تصل إلى مستوى أعلى من التجريد ،والتي تتطلب أساليب أخرى غير الحيوانية لتسوية الخالفات. فالتاريخ البشري عرف أنواعا متعددة من العنف ،فقد ارتبط ،عنده ،في البداية بالقوة العضلية ،داخل مجتمع صغير لغرض الهيمنة؛ ثم في المرحلة الثانية ،سيرتبط بالقوة العضلية المسلحة بأدوات وتقنيات ،وأن استخدام هذه الوسائل ترتبط بالتفوق العقلي ،وسيحل هذا األخير محل القوة العضلية الجائزة ،لكن الغرض سيبقى هو تخيير اآلخرين أو إقصائهم بشكل نهائي. وفي المرحلة األخيرة من ارتقاء اإلنسان .سيشكل اتحاد القوة الضعيفة لمجابهة القوة المتفوقة لفرد واحد؛ مما سيعطي الشرعية و الحق لقوة الجماعة .وبهذا فإن العنف هو الذي أدى الى ظهور الحقوق والقوانين و القواعد األخالقية ،وأصبح الحق هو قوة الجماعة التي تأسست على االتحاد ،والتي تمثل القانون على النقيض من عنف الفرد الواحد .وبالتالي ،مع التطور التاريخي ،سيتم تجاوز العنف العضلي الغاشم ،و العنف الذي يعززه العقل ،إلى الحق او القانون الذي يشكل قوة الجماعة. -3موقف طوماس هوبس: يرى هوبس ان العنف يتولد عن ثالثة عوامل رئيسية هي :التنافس؛ ذلك أن األفراد يتخذون من الهجوم خير وسيلة لتحقيق منافعهم ومصالحهم وسيادتهم .ثم الحذر؛ كسبيل لضمان أمنهم وسالمتهم .إضافة إلى الكبرياء الذي يرمز الى سمعتهم. فرغم ما يتراءى من آراء الناس يتشاركون الصلطة فيما بينهم بشكل يحول دون أن يعتدي بعضهم على بعض ،فإنهم مع ذلك يعيشون حربا خفية غير معلنة ضد بعضهم البعض .وأن اإلنسان مر من الحالة الطبيعية ،التي هي حالة عنف وجور؛ حرب الجميع ضد الجميع ،الى حالة قيام الدولة ووالدة المجتمع ،هروبا من الحالة االولى .ما يعني ان الدولة خيار قسري ضروري للخروج من ظلمات حالة الطبيعية والعنف المعمم ،وبذلك يكون العنف مؤسسا للتاريخ اذا افترضنا ان التاريخ ال يبدأ إال مع وجود الدولة وقيام الحضارة. -4موقف كارل ماركس يرى ماركس ان المعطى األساسي في المجتمع هو صراع بين من يملكون وسائل اإلنتاج والخيرات (المضطِه دون) وبين من ال يملكونها (المضطَه دون)،وهذا الصراع يخترق تاريخ المجتمع البشري مند المجتمع البدائي الى المجتمع الرأسمالي، حيث التعارض الكلي بين الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتارية؛ إال أن هذا الصراع الطبقي قد يتخذ طابعا فرديا ال يعيه الفرد ذاته ،كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي او ايديولوجي واضح. تركيب تبين مما سبق ان ظاهرة العنف مالزمة للتاريخ البشري؛ فهو ضروري ومحرك للتطور االقتصادي (ماركس ،انجلز)، وكان وراء قيام المجتمع وتأسيس الدولة (هوبس ) ،وأدى الى بروز الحضارة وقيام مفاهيم الحق والقانون (فرويد). ويمكن القول أن العنف محرك للتاريخ ،هكذا أن يمكن نصرح بأن العنف ليس حدثا فجائيا أو عابرا في تاريخ البشرية ،بل هو القوة المحركة له ،والتي الزمت االنسان مند القدم. المحور الثالث العنف و المشروعية تأطير نظري و إشكالي للمحور: شكل تأسيس اإلنسان للدولة قفزة عامة في تاريخه ،حقق بفضلها القطع مع حياة تغلب فيها الحيوانية والهمجية ،وإرساء بدلها أخرى ،تقوم على التعقل والحكمة ،عن طريق فرض نمط من العيش يحتكم فيه إلى القيم األخالق بدل الغرائز واالنفعاالت .إال أنه بالرغم من جهوده المبذولة والمتواصلة من أجل القضاء على كل سلوك مهدد لكيانه؛ فإنه لم يستطع التخلي عن جانب متأصل فيه وهو العنف؛ حيث أن ولِعه وحِّبه للسلطة ،قد دفعه الى إضفاء المعقولية والشرعية عليه، ناظرا إليه كسلوك مشروع ومعقول ،وليس كسلوك معاذ لإلنسان وسالب لكرامته وحريته .ونعلم ان العنف والمشروعية مفهومان يوجدان على طرفي نقيض فالعنف ُينظر إليه كفعل مؤٍذ مرفوض من طرف الجميع ،والمشروعية تستند على الحق والقانون؛ فكيف يمكن للعنف أن يكون مشروعا؟ وهل يمكن الحديث عن عنف مشروع وآخر غير مشروع؟ إذا كان هناك عنف مشروع؛ فكيف يكون كذلك في مؤسسات تعمل على تحقيق المشروعية؟ ثم هل يمكن للخطاب الفلسفي أن يمجد العنف ويشرعنه بأي حال من األحوال ،حتى ولو في محاولة إحالل الالعنف وتحقيق األمن والسالم داخل المجتمع؟. -1موقف ايمانويل كانط يذهب كانط إلى اعتبار ،أن إبداء الرفض تجاه ما يسود من أوضاع غير مرضية في المجتمع ،ال ينبغي ان يتم بمواجهة عنف وضغط الدولة بعنف مماثل له؛ ألن من شأن ذلك أن يخلق فراغا في الدولة ،يصعب معه تحديد من له الحق فيما تم اإلقدام عليه ،كما سيغرقها في أزمات خانقة .و يعتبر كانط كل تمرد من لدن الشعب على سلطة الدولة ،بذريعة أنها غير عادلة ،بمثابة عصيان مدني يستوجب العقاب والزجر؛ حيث أن خرق الحاكم لبند من البنود التي تم التعاقد عليها ،ال يخول للمواطنين حق الخروج عليه؛ مادام أن ذلك من شأنه أن ُيشيع الفوضى ويدفع باألفراد الى الثورة على حاكمهم كلما بدا لهم أن ما يطبقه ال يخدم مصالحهم الخاصة.و يرى كانط أن العنف ال ينبغي أن يواجه بعنف مضاد ،فعندما تقوم الرعية بتمرد بغرض التعبير عن غضبها أو بعصيان للسلطة التشريعية؛ فإن ذلك يعتبر جريمة خطيرة ينبغي أن تدان، ألن ذلك الغضب أو العصيان سيعمل على هدم أسس الحكم نفسه .األمر الذي يجعل من منع كل شكل من أشكال المعارضة منعا مشروعا وغير مشروط .إن الغضب والعصيان أو ممارسة العنف غير مسموح بها حتى في الحالة التي تقوم فيها الدولة ومن يمثلها (أي الرئيس) بخرق الدستور ،ولم يعد لها أي حق في التشريع ،ويرجع السبب في ذلك – في نظر كانط – إلى أن مثل هذا العصيان سيعجل بوجود فراغ تشريعي تام .فعندما يكون هناك دستور مدني قائم ،فليس من حق الشعب أن يشرع متى شاء لكيفية تطبيق الدستور ،إذ أنه لو فعل ذلك ،فإنه سيفضي الى غياب سلطة القرار للفصل في النزاع بينه وبين الطرف الحاكم (الرئيس)؛ وفي هذه الحالة ال يملك أي طرف منهما( الشعب أو الحاكم)سلطة تقرير من يمتلك الحق ممن ال يمتلكه؛ ألنهما معا سيحتالن مكان القاضي والمتهم في نفس الوقت ،وهو ما يقتضي سلطة أعلى منهما للفصل بينهما ،الشيء الذي يعتبر أمرا متناقضا ،كما أنه ليس باإلمكان تصور قانون أعلى من الدستور يمكن االحتكام إليه .وبناء عليه ،فإنه ال أحد يمتلك حق ممارسة العنف غير الحاكم؛ ألنه من يملك اإلرادة العليا للعدالة ،لذلك فإن أي عنف مضاد لتلك اإلرادة يعتبر عنفا مرفوضا. -2موقف الماهاتما غاندي: يقيم غاندي فصال حادا بين العنف والالعنف ،مؤكد أ ن األول يميز الحيوان كما االنسان ،في حين أن الثاني يعد المطلب والطموح الذي ينبغي على اإلنسانية أن تسعى إليه؛ ما دام أن التاريخ الطويل لتطاحن البشر وتعنيف بعضهم للبعض اآلخر ،لم يمنع من استمرار حياة وبقاء االنسان على االرض ،على اساس أنه ال ينبغي مواجهة العنف القائم بالعنف المضاد له ،وانما باألسلحة غير العنيفة وبالمقاومة الروحية ،وليس الجسدية .ويرى الزعيم الهندي ،أن انتشار العنف في الحياة االجتماعية ،قد ساهم في تنامي مظاهر الحقد والكراهية بين البشر؛ هذا مع العلم أنه ال يوجد على اإلطالق ما يستحق ان يقتل بموجبه إنسان إنسانا آخر .لهذا السبب صار ضروريا التفكير في األساليب الكفيلة برفع العنف من حياة الناس وتعويضه بالالعنف باعتباره مبدأ أخالقيا ،سيتم على ضوئه تعميم السلم وإشاعة الحب و الصداقة بين الناس بدل تقوية مظاهر الشر والتدمير التي خلفها تعامي اإلنسان عن عمق ماهيته .يقول غاندي" :ان الالعنف هو الغياب التام لإلرادة السيئة تجاه كل ما يحيا ،بل إن الالعنف في صورته الفاعلة ،هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيا ،إنه حب مكتمل وكامل ،...إن العنف هو دوما رذيلة .إن الالعنف هو القانون الذي يحكم النوع اإلنساني ،مثلما أن العنف هو قانون الذي يحكم النوع الحيواني". -3موقف ماكس فيبر: يذهب ماكس فيبر إلى القول بأن العالقة بين الدولة والعنف في الوقت المعاصر هي عالقة حميمية؛ على اعتبار ان عمل الدولة مرتبط بتقوية آليات ووسائل ممارسة العنف؛ فأن تحتل دولة مجاال ترابيا ،وتسوس عالقات بين أفراد مختلفي المشارب واالنتماءات ،ال بد لها من العنف كوسيلة لتحقيق ما تعجز القوانين عن تحقيقه ،لذا فإنه ال يمكن تعريف الدولة ما لم يتم األخذ بعين االعتبار كيف تنظر الى العنف؟ ومتى تمارسه؟ وألجل ماذا؟ غير أن استعمال الدولة للعنف ال يتم على أساس كونه سلوكا حيوانيا يستهدف ايذاء األفراد ،بل هو سلوك مشروع اقتضته ضرورات الحياة االجتماعية؛ لهذا تقوم الدولة باحتكاره ،ومن تم عدم السماع ألي كان بممارسته دون اذن منها. -4موقف ايريك فايل . يرى الفيلسوف الفرنسي ذو األصل األلماني ،أن الفلسفة منذ بدايتها وضعت نفسها في مواجهة كل خطاب مبني على العنف ،ال لشيء إال ألن األساس ،الذي قامت عليه هو العقل والنظام و التماسك .وما دام العنف سيتعارض مع هذه األسس ،فقد صار من الضروري العمل على صياغة انساق فلسفية صلبة قادرة على أن تضع حدا الستمراره في حياة اإلنسان ،و أن تحل بدله الالعنف ،بما هو مبدأ يتساوى مع العقل؛ على الفلسفة إذن ،بأن تدرك قيام العنف يجعل من وجودها أمرا ال معنى له؛ لذا يتعين عليها ان تسارع الزمن من أجل القضاء عليه ،وإال غدت هي األخرى خطابا يزكي ما يسود في الواقع من خطابات معادية ومناقضة للعقل .و بهذا ،فإن اريك فايل يؤكد على أن العنف ال معنى له ،وهو عقبة تقف في طريق الخطاب الفلسفي ،باعتباره خطابا عقليا متماسكا ،يراهن على نبذ العنف ،و كل ما من شأنه أن يسعى الى إحالل الالعنف في المجتمعات البشرية ،حتى لو كانت بعض خطاباتها تدعو أحيانا الى استعمال العنف المشروع إذا كان يرجى منه خلق حالة من الالعنف. تركيب إن ما يمكن التوصل إليه ،انطالقا من المواقف السابقة ،هو أن العنف يبقى مسألة ال أخالقية وغير قانونية ،وال يمكن أن تحظى بأية مشروعية مهما كانت األسباب واألحوال ،أو على أقل تقدير ،دولة الحق والقانون ،هي وحدها التي تملك الحق والمشروعية في اللجوء اليه كحل أخير ،حينما تستعصي الحلول السلمية؛ لكن ما يالحظ هو ان العنف طور أشكاله وآليات عمله باستمرار (ظهور الحركات اإلرهابية ،عنف المالعب الرياضية ،عنف المدارس...الخ) ،كما ان العنف لم يعد محصورا اليوم في دائرة العالقات اإلنسانية ،بل امتد إلى العالقة بالكرة األرضية كلها و البيئة؛ فاإلنسان يمارس عنفا جديدا وخطيرا يتمثل في االستهالك المفرط لطاقة وتلويث البيئة....