مفهوم العنف

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 6

‫الدرس الثاني‪ :‬مفهوم العنف‪:‬‬

‫تأطير نظري و إشكالي للمفهوم‪.‬‬


‫ينظر إلى الحياة على أنها صراع في أصلها؛ صراع بين الخير و الشر‪ ،‬بين القوي و الضعيف‪ ،‬بين من يحكم و من يطمح‬
‫في الحكم‪ ،‬بين القوي و الضعيف‪ ،‬بين الغني و الفقير‪ ....‬فبالرغم من ذكاء اإلنسان و فطنته؛ فإنه لم يقدر على القضاء‬
‫على الصراع‪ ،‬أو على األقل التقليل من حدة تأثيره أو إسهامه في تشكيل مختلف مناحي الحياة‪ .‬صحيح أن اإلنسان قام‬
‫بمحاوالت جدية ألجل تحقيق ذلك‪ ،‬لكن هل كان قصده هو تحويل العالقات التي يطبعها العداء و الصراع إلى عالقات‬
‫يمألها اإلخالص و التعاون؟ الجواب هو ال؛ ألنه بقدر ما يسعى إلى التقريب بين األفراد؛ فإنه بالمقابل عمل على توسيع‬
‫دوائر العنف‪ ،‬الذي لم يعد ماديا كما كان فقط؛ بل أصبحت تسخر له مجاالت عدة و قنوات كثيرة‪ ،‬ربما ال يعي الفاعلون‬
‫قساوة عنفها؛ مثل الخطاب و اإلعالم و البرامج التعليمية و المواد المستهلكة‪ ...‬و الغريب في األمر‪ ،‬هو أنه في الوقت‬
‫الذي وصل فيه اإلنسان إلى قمة مجده و عظمته‪ ،‬الزال يحكم بأساليب و أشكال عنف‪ .‬لكن ما العنف؟‪.‬‬
‫إن العنف لمدة زمنية طويلة‪ ،‬كان يحدد باعتباره سلوكا ماديا محضا يقوم به شخص أو جماعة تجاه اآلخر‪ ،‬ملحقا به‬
‫ضررا جميسا بالدرجة األولى‪ ،‬لكن التحوالت التي طالت مختلف مجاالت الحياة االجتماعية و السياسية‪ ،‬أدت إلى اتخاذ‬
‫العنف لمعاني جديدة‪ ،‬تجمع على أن العنف هو " سلوك أو فعل مادي أو لفظي يصدر عن ذات ضد أخرى‪ ،‬مسببا لهذه‬
‫األخيرة ضررا بدنيا أو نفسيا"‪ ( .‬يتبين أن هذا التحديد األخير ال يحصر معنى العنف في القمع و الضرب الماديين بل‬
‫يجعل منه سلوكا ال يتوقف ضرره على الجسم فقط‪ ،‬و إنما يمتد إلى التسبب في أزمات و مشكالت نفسية)‪.‬‬
‫ال يوجد كائن بشري ال يعي خطورة العنف بل و تهديده لإلنسانية جمعاء‪ ،‬و مع ذلك الزال العنف ساريا في جميع األماكن‬
‫و الدوائر إلى درجة أنه يستحيل وجود جماعة ال يسودها العنف‪ ،‬كما أنه القوة الوحيدة التي تضمن استمرار هذه الجماعة‬
‫و بقاءها‪ ،‬و الغريب في األمر هو أن العلم لم يعد يسير في تجاه خدمة اإلنسان‪ ،‬بل إنه أصبح يسخر من أجل تطوير‬
‫وسائل و أدوات ممارسة العنف‪.‬‬
‫يقال إن العنف ضد الفكر‪ ،‬و أنه مرتبط بالغرائز ؛ و اإلنسان عبر تاريخه‪ ،‬لم يفهم المغزى الحقيقي لوجوده‪ ،‬ألنه لم يقوى‬
‫على تغليب عقله على غرائزه‪ ،‬فهو دائما يحاول إضفاء المشروعية و العقالنية على أفعاله التدميرية و التخريبية‪ .‬و في‬
‫هذه الحالة لم يقنع سوى ذاته؛ ألن اآلخرون يرون في هذا العنف على أنه غير مشروع‪.‬‬
‫انطالقا مما سبق يتبين أن هناك العديد من المفارقات التي يثيرها مفهوم العنف و التي تتعلق بطبيعته و أشكاله‬
‫(طبيعي‪/‬مكتسب‪ ،‬مادي‪/‬رمزي‪ ،‬نفسي‪/‬جسدي‪ ،‬فكري‪/‬واقعي‪.)...‬‬
‫هذه المفارقات تقودنا إلى بناء التساؤالت التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما هو السلوك العنيف؟ و هل العنف سلوك فطري و متأصل في اإلنسان‪ ،‬أم أنه سلوك مكتسب‪ ،‬ناتج عن ضغوط و‬
‫إكراهات الواقع؟ و ما هي أشكال و مظاهر العنف التي تمارس في الواقع؟ و هل يمكن حصر العنف فيما هو مادي‪ ،‬أم أنه‬
‫يشمل جميع األشكال الثقافية و الرمزية و الدينية و االعالمية‪ ،‬التي تمارس عنفها على األفراد بوعي أو بدون وعي منهم؟‪.‬‬
‫‪ - 2‬كيف يبزغ العنف في التاريخ؟ و هل العنف وسيلة ضرورية الستمرار الحياة‪ ،‬أم أنه ال يوجد ما يبرره على اإلطالق؟‬
‫و هل يمكن القضاء على العنف‪ ،‬أم أن كل ما يمكن أن نأمله هو التقليل منه؟ و هل العنف محرك للتاريخ‪ ،‬أم أنه عنصر‬
‫مساهم في تخلفه و أزمته فقط؟‪.‬‬
‫‪ - 3‬هل العنف سلوك مشروع‪ ،‬أم هو ليس بمشروع؟ و هل هناك‪ ،‬غاية أو طموح تبرر غايته؟ و هل يشكل قيام العنف‬
‫تهديدا للقيم اإلنسانية‪ ،‬أم أن قوتها تفوقه و تنتصر عليه في األخير؟ و ما قيمة الدولة‪ ،‬في ظل انتشار العنف و تطور‬
‫وسائل ممارسته؟‪.‬‬
‫المحور األول‪ :‬أشكال العنف‪.‬‬
‫تأطير نظري و إشكالي للمحور‪.‬‬
‫العنف هو سوء استعمال القوة‪ ،‬أو استعمال القوة من دون وجه حق‪ .‬فهو سلوك فيه مخالفة للقانون و انتهاك لالحترام‬
‫الواجب لإلنسان ‪ ،‬بوصفه شخصا له كرامة يتمظهر في سلوكيات مختلفة‪ :‬السب و الشتم و اإلهانة و التهميش و القهر و‬
‫االستغالل و االستعمار و االرهاب و االقتتال الفردي و الجماعي‪ ...‬لكن‪ ،‬هل يمكن اعتبار العنف خاصية حيوانية و ليست‬
‫إنسانية‪ ،‬أم أن اإلنسان بدوره يمارس شتى أشكال العنف؟ و ما هي أشكال العنف الممارسة من طرف اإلنسان؟ و هل‬
‫ترجع إلى فطرته و جبلته‪ ،‬أم أنها سلوكيات مكتسبة؟ بأي معنى يمكن اعتبار الحرب فعال عنيفا؟ و هل هي الوجه الوحيد‬
‫للعنف‪ ،‬أم له وجوها أخرى تختلف باختالف أساليبها؟‬
‫‪ -1‬موقف كونراد لورنز‪:‬‬
‫يقدم العالم النمساوي كونراد لورنز (‪ ،)1989-1903‬في كتابه‪ " :‬اإلنسان في نهر الكائنات الحية"‪ ،‬وجهة نظره‪ ،‬عن‬
‫العنف باعتباره فعال عدوانيا‪ ،‬تقوم على المقارنة العلمية بين سلوك اإلنسان و الحيوان‪ ،‬مؤكدا في البداية على أن الصراع‬
‫بين أفراد النوع الحيواني الواحد‪ ،‬صراع ال يهدد بقاء النوع‪ ،‬فعندما تمارس هذه الحيوانات العدوان على أمثالها من نفس‬
‫نوعها‪ ،‬فإن هذا العدوان ال ينتهي إلى القتل‪ ،‬و مرد ذلك ليس إلى غياب دافع غريزي نحو العنف‪ ،‬بل إلى تطور طبيعي‬
‫طويل قاد إلى تكون ردود أفعال كابحة في الجهاز العصبي المركزي وظيفتها هي الحفاظ على النوع‪ ،‬نفس األمر عند‬
‫اإلنسان‪ ،‬في نظر لورنز‪ ،‬رغم ادعاء الفالسفة بأن ما يكبح اإلنسان عن القتل هو إمالءات العقل و المسؤولية‪،‬؛ فهو‬
‫يعترض على ذلك و يعتبر أن دوافع الكبح ليست عقلية فقط‪ ،‬و إنما غريزية كذلك؛ فالعدوان إذن غريزة أصلية في اإلنسان‬
‫بحكم قرابته البيولوجية مع الحيوانات‪ ،‬و ال تعمل الثقافة إال على إذكاء نار هذا العدوان‪ ،‬أو التخفيف من حدته‪ .‬و بالتالي‪،‬‬
‫فالنزعة العدوانية لدى اإلنسان يتقاسمها الفطري و المكتسب‪ ،‬و هي بذلك تقوم في جزء منها على عمل العقل‪ ،‬و في‬
‫الجزء اآلخر على عمل الغريزة و االنفعال‪.‬‬
‫‪ -2‬موقف كارل فون كلوزوفيتش‪:‬‬
‫يعتبر الجنرال و المنظر البروسي كارل فون كلوزوفيتش(‪ ،)1831-1780‬في كتابه‪ " :‬في الحرب"‪ ،‬أن الحرب عنفا‬
‫جسديا ألنها تقوم في البداية على االقتتال الفردي‪ ،‬فتتوسع إلى أن تصبح معارك شاملة‪ .‬إن الحرب‪ ،‬في نظره‪ ،‬تقوم على‬
‫الصراع الذي يسمح لكل طرف باستخدام قوته الجسمية من أجل إخضاع الطرف اآلخر؛ فالحرب‪ ،‬باعتبارها فعال عنيفا‪،‬‬
‫يقوم على القوة الجسدية و يهدف إلى االخضاع و التغلب‪ ،‬تعتمد على ما توفره الصنائع و العلوم من وسائل‪ ،‬و كل ما‬
‫يسمح ألية قوة بأن تهزم قوة أخرى؛ انطالقا من ذلك‪ ،‬تخلو الحرب‪ ،‬كفعل عنيف‪ ،‬من أية قوة أخالقية‪ ،‬و تقوم فقط على‬
‫القوة الجسمانية إلرغام الطرف اآلخر على الخضوع و االستسالم‪ .‬و بالرغم من كون الحروب بين الشعوب المتحضرة‬
‫تبدو أقل عنفا منها عند الشعوب المتوحشة بناء على مستوى الحالة االجتماعية و العالقات الدولية‪ ،‬إال أنها في جوهرها‬
‫تظل فعال عنيفا‪.‬‬
‫‪ -3‬موقف إيف ميشو‪:‬‬
‫يرى المفكر الفرنسي إيف ميشو في كتابه‪" :‬العنف"‪ ،‬أن العنف حاضر في مجتمعاتنا الحالية بأشكال متعددة و طرائق‬
‫متنوعة‪ ،‬تلجأ إليه المؤسسات و األفراد‪ ،‬إلبادة اآلخرين و تدميرهم أو إقصائهم أو على األقل إخضاعهم‪ .‬و هذه األشكال‬
‫التدميرية‪ ،‬كانت حاضرة في الماضي‪ ،‬لكن ما يميزها حاليا‪ ،‬باعتبارها عنفا‪ ،‬هو أنها صارت أيضا تمارس بنوع من‬
‫الدهاء و الذكاء السافر‪ ،‬الذي يسخر كل الوسائل التعليمية و التقنية حتى تكون له نتائج فعالة‪ ،‬تجعله خطيرا و عظيما‪ .‬يقول‬
‫ميشو‪" :‬إن ما يميز العنف المعاصر‪...‬هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا و العقلنة في انتاجه"‪.‬‬
‫‪ -4‬موقف بيير بورديو‪:‬‬
‫يرى السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو‪ ،‬في كتابه‪" :‬إجابات"‪ ،‬أن هناك نمط جديد من العنف هو العنف الرمزي‪ ،‬الذي‬
‫رغم أنه غير مجسد ماديا؛ فهو قائم على تعسف ثقافي يتلقاه الفرد عبر الكالم و اللغة و التربية‪ ...‬بعيدا عن ثقافته‬
‫الرسمية‪ ،‬انطالقا من ثقافة و ايديولوجية الطبقة السائدة المختلفة عن ثقافته؛ إنه عنف خفي غير ملموس‪ ،‬يأتي في صورة‬
‫لطيفة‪ ،‬تجعل الفرد ال يراه كعنف بقدر ما يكون مستعدا تلقائيا لتقبله و االعتراف بشرعية المعلومات و اآلراء و المعتقدات‬
‫المنقولة إليه‪ ،‬و بالسلطة التربوية ألجهزة االرسال التربوية‪ ،‬على أنها تمثل الصواب و الحقيقة‪ .‬يقول بورديو‪" :‬يمكن أن‬
‫يحقق العنف الرمزي نتائج أحسن قياسا إلى ما يحققه العنف السياسي أو البوليسي"‪.‬‬
‫تركيب‪:‬‬
‫انطالقا مما سبق يمكن القول أن العنف يتخذ أشكاال متعددة و مظاهر متنوعة و مظاهر متنوعة تشكل تجليات للنزعة‬
‫العدوانية في اإلنسان و تطويرا لها؛ من حيث أنه متأرجح بين عنف مادي و اآلخر رمزي‪ ،‬بين عنف فردي و اآلخر‬
‫جماعي؛ لكن العنف يبقى سلوكا متنافيا مع إنسانية اإلنسان و فعال مدمرا ال يمكن قبوله بأي حال من األحوال‪.‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬العنف في التاريخ‪.‬‬
‫تأطير نظري و إشكالي للمحور‪.‬‬
‫ال يمكن الحديث عن تاريخ اإلنسان بدون أن نتوقف عند الذي لعبه العنف في صناعة هذا التاريخ‪ ،‬سواء بشكل إيجابي أو‬
‫سلبي‪ .‬و على ذلك‪ ،‬فالتاريخ البشري يكشف لنا عن مستويات متشعبة و معقدة للعنف‪ ،‬تجعلنا نتساءل عن حقيقة الدور‬
‫الذي يلعبه‪ .‬لكن‪ ،‬أية عالقة تربط العنف بالتاريخ؟ و هل للعنف دور في تطور هذا التاريخ؟ و هل يمكن اعتبار العنف‬
‫نتاجا للبنية االجتماعية و االقتصادية لمجتمع ما و يتغير بتغيرها‪ ،‬أم أنه مرتبط بالتحول من حالة الطبيعة التي يسودها‬
‫العنف العضلي‪ ،‬إلى حالة الثقافة التي تتجاوز العنف األول إلى عنف قائم على األدوات و العقل‪ ،‬أم أن االرتباط بين العنف‬
‫و التاريخ قائم على شيء آخر؟‪.‬‬
‫‪ -1‬موقف فريديريك انجلز‪ ( :‬نص‪" :‬العنف االقتصادي" ص‪)149‬‬
‫يرى الفيلسوف و المنظر االقتصادي األلماني فريديريك انجلز‪ ،‬في كتابه‪ " :‬ضد دوهرينغ"‪ ،‬أن العنف يرتبط بتطور‬
‫النظام االجتماعي و االقتصادي‪ ،‬مبررا ذلك بأن كل عنف سياسي هو في األصل عنف يقوم على وظيفة اقتصادية تتخذ‬
‫طابعا اجتماعيا‪ .‬و أن العنف يزداد كلما تحول المجتمع من االنتاج االقتصادي المشترك إلى االنتاج االقتصادي الخاص‪ .‬و‬
‫يرى انجلز أن العنف السياسي عندما ينفصل عن المجتمع يتخذ وجهتين مختلفتين؛ االولى يعمل فيها العنف في اتجاه‬
‫تطوير االقتصاد العادي‪ ،‬وبذلك يزول الصراع بين العنف واالقتصاد‪ ،‬حيث يفتح التطور االقتصادي األبواب دون ان‬
‫يؤدي الى تغيير النظام السياسي‪ .‬أما الثانية فيعمل فيها العنف السياسي ضد التطور االقتصادي مما يجعله مستسلما للنظام‬
‫االقتصادي؛ وفي هذه الحالة‪ ،‬فإن الصراع ينتهي الى قلب النظام وتغييره‪ ،‬أي الى حدوث ثورات‪ .‬وقد قدم انجلز مثالين‬
‫لتوضيح هاتين الوجهتين؛ االولى حالة فرنسا والثانية حالة روسيا‪ .‬انطالقا مما سبق يتبين ان العنف بحسب انجلز‪ ،‬يلعب‬
‫دورا مهما في التاريخ‪ ،‬لكنه ليس هو ما يحكمه‪ ،‬بل إن ما يحركه هو االقتصاد‪ ،‬اي أنه يربط بين التطور االقتصادي‬
‫وأشكال العنف‪.‬‬
‫‪ -2‬موقف سيغموند فرويد‪:‬‬
‫يرى سيغموند فرويد‪ ،‬المحلل النفساني النمساوي في كتابه‪ " :‬أفكار ألزمنة الحرب و الموت"‪ ،‬أن اإلنسان ميال بشكل‬
‫طبيعي نحو العنف لحسم خالفاته‪ ،‬وذلك راجع النتمائه الى المملكة الحيوانية‪ ،‬لكن اإلنسان له صراعات أخرى؛ تلك‬
‫المتعلقة بالرأي التي قد تصل إلى مستوى أعلى من التجريد‪ ،‬والتي تتطلب أساليب أخرى غير الحيوانية لتسوية الخالفات‪.‬‬
‫فالتاريخ البشري عرف أنواعا متعددة من العنف‪ ،‬فقد ارتبط‪ ،‬عنده‪ ،‬في البداية بالقوة العضلية‪ ،‬داخل مجتمع صغير لغرض‬
‫الهيمنة؛ ثم في المرحلة الثانية‪ ،‬سيرتبط بالقوة العضلية المسلحة بأدوات وتقنيات‪ ،‬وأن استخدام هذه الوسائل ترتبط بالتفوق‬
‫العقلي‪ ،‬وسيحل هذا األخير محل القوة العضلية الجائزة‪ ،‬لكن الغرض سيبقى هو تخيير اآلخرين أو إقصائهم بشكل نهائي‪.‬‬
‫وفي المرحلة األخيرة من ارتقاء اإلنسان ‪ .‬سيشكل اتحاد القوة الضعيفة لمجابهة القوة المتفوقة لفرد واحد؛ مما سيعطي‬
‫الشرعية و الحق لقوة الجماعة‪ .‬وبهذا فإن العنف هو الذي أدى الى ظهور الحقوق والقوانين و القواعد األخالقية‪ ،‬وأصبح‬
‫الحق هو قوة الجماعة التي تأسست على االتحاد‪ ،‬والتي تمثل القانون على النقيض من عنف الفرد الواحد‪ .‬وبالتالي‪ ،‬مع‬
‫التطور التاريخي ‪ ،‬سيتم تجاوز العنف العضلي الغاشم‪ ،‬و العنف الذي يعززه العقل‪ ،‬إلى الحق او القانون الذي يشكل قوة‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫‪ -3‬موقف طوماس هوبس‪:‬‬
‫يرى هوبس ان العنف يتولد عن ثالثة عوامل رئيسية هي‪ :‬التنافس؛ ذلك أن األفراد يتخذون من الهجوم خير وسيلة لتحقيق‬
‫منافعهم ومصالحهم وسيادتهم‪ .‬ثم الحذر؛ كسبيل لضمان أمنهم وسالمتهم‪ .‬إضافة إلى الكبرياء الذي يرمز الى سمعتهم‪.‬‬
‫فرغم ما يتراءى من آراء الناس يتشاركون الصلطة فيما بينهم بشكل يحول دون أن يعتدي بعضهم على بعض‪ ،‬فإنهم مع‬
‫ذلك يعيشون حربا خفية غير معلنة ضد بعضهم البعض‪ .‬وأن اإلنسان مر من الحالة الطبيعية‪ ،‬التي هي حالة عنف وجور؛‬
‫حرب الجميع ضد الجميع‪ ،‬الى حالة قيام الدولة ووالدة المجتمع‪ ،‬هروبا من الحالة االولى‪ .‬ما يعني ان الدولة خيار قسري‬
‫ضروري للخروج من ظلمات حالة الطبيعية والعنف المعمم‪ ،‬وبذلك يكون العنف مؤسسا للتاريخ اذا افترضنا ان التاريخ ال‬
‫يبدأ إال مع وجود الدولة وقيام الحضارة‪.‬‬
‫‪ -4‬موقف كارل ماركس‬
‫يرى ماركس ان المعطى األساسي في المجتمع هو صراع بين من يملكون وسائل اإلنتاج والخيرات (المضطِه دون) وبين‬
‫من ال يملكونها (المضطَه دون)‪،‬وهذا الصراع يخترق تاريخ المجتمع البشري مند المجتمع البدائي الى المجتمع الرأسمالي‪،‬‬
‫حيث التعارض الكلي بين الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتارية؛ إال أن هذا الصراع الطبقي قد يتخذ طابعا فرديا ال يعيه‬
‫الفرد ذاته‪ ،‬كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي او ايديولوجي واضح‪.‬‬
‫تركيب‬
‫تبين مما سبق ان ظاهرة العنف مالزمة للتاريخ البشري؛ فهو ضروري ومحرك للتطور االقتصادي (ماركس‪ ،‬انجلز)‪،‬‬
‫وكان وراء قيام المجتمع وتأسيس الدولة (هوبس )‪ ،‬وأدى الى بروز الحضارة وقيام مفاهيم الحق والقانون (فرويد)‪.‬‬
‫ويمكن القول أن العنف محرك للتاريخ‪ ،‬هكذا أن يمكن نصرح بأن العنف ليس حدثا فجائيا أو عابرا في تاريخ البشرية‪ ،‬بل‬
‫هو القوة المحركة له‪ ،‬والتي الزمت االنسان مند القدم‪.‬‬
‫المحور الثالث العنف و المشروعية‬
‫تأطير نظري و إشكالي للمحور‪:‬‬
‫شكل تأسيس اإلنسان للدولة قفزة عامة في تاريخه‪ ،‬حقق بفضلها القطع مع حياة تغلب فيها الحيوانية والهمجية‪ ،‬وإرساء‬
‫بدلها أخرى‪ ،‬تقوم على التعقل والحكمة‪ ،‬عن طريق فرض نمط من العيش يحتكم فيه إلى القيم األخالق بدل الغرائز‬
‫واالنفعاالت‪ .‬إال أنه بالرغم من جهوده المبذولة والمتواصلة من أجل القضاء على كل سلوك مهدد لكيانه؛ فإنه لم يستطع‬
‫التخلي عن جانب متأصل فيه وهو العنف؛ حيث أن ولِعه وحِّبه للسلطة‪ ،‬قد دفعه الى إضفاء المعقولية والشرعية عليه‪،‬‬
‫ناظرا إليه كسلوك مشروع ومعقول‪ ،‬وليس كسلوك معاذ لإلنسان وسالب لكرامته وحريته‪ .‬ونعلم ان العنف والمشروعية‬
‫مفهومان يوجدان على طرفي نقيض فالعنف ُينظر إليه كفعل مؤٍذ مرفوض من طرف الجميع‪ ،‬والمشروعية تستند على‬
‫الحق والقانون؛ فكيف يمكن للعنف أن يكون مشروعا؟ وهل يمكن الحديث عن عنف مشروع وآخر غير مشروع؟ إذا كان‬
‫هناك عنف مشروع؛ فكيف يكون كذلك في مؤسسات تعمل على تحقيق المشروعية؟ ثم هل يمكن للخطاب الفلسفي أن‬
‫يمجد العنف ويشرعنه بأي حال من األحوال‪ ،‬حتى ولو في محاولة إحالل الالعنف وتحقيق األمن والسالم داخل المجتمع؟‪.‬‬
‫‪-1‬موقف ايمانويل كانط‬
‫يذهب كانط إلى اعتبار‪ ،‬أن إبداء الرفض تجاه ما يسود من أوضاع غير مرضية في المجتمع‪ ،‬ال ينبغي ان يتم بمواجهة‬
‫عنف وضغط الدولة بعنف مماثل له؛ ألن من شأن ذلك أن يخلق فراغا في الدولة‪ ،‬يصعب معه تحديد من له الحق فيما تم‬
‫اإلقدام عليه‪ ،‬كما سيغرقها في أزمات خانقة‪ .‬و يعتبر كانط كل تمرد من لدن الشعب على سلطة الدولة‪ ،‬بذريعة أنها غير‬
‫عادلة ‪ ،‬بمثابة عصيان مدني يستوجب العقاب والزجر؛ حيث أن خرق الحاكم لبند من البنود التي تم التعاقد عليها‪ ،‬ال‬
‫يخول للمواطنين حق الخروج عليه؛ مادام أن ذلك من شأنه أن ُيشيع الفوضى ويدفع باألفراد الى الثورة على حاكمهم كلما‬
‫بدا لهم أن ما يطبقه ال يخدم مصالحهم الخاصة‪.‬و يرى كانط أن العنف ال ينبغي أن يواجه بعنف مضاد‪ ،‬فعندما تقوم‬
‫الرعية بتمرد بغرض التعبير عن غضبها أو بعصيان للسلطة التشريعية؛ فإن ذلك يعتبر جريمة خطيرة ينبغي أن تدان‪،‬‬
‫ألن ذلك الغضب أو العصيان سيعمل على هدم أسس الحكم نفسه‪ .‬األمر الذي يجعل من منع كل شكل من أشكال‬
‫المعارضة منعا مشروعا وغير مشروط‪ .‬إن الغضب والعصيان أو ممارسة العنف غير مسموح بها حتى في الحالة التي‬
‫تقوم فيها الدولة ومن يمثلها (أي الرئيس) بخرق الدستور‪ ،‬ولم يعد لها أي حق في التشريع‪ ،‬ويرجع السبب في ذلك – في‬
‫نظر كانط – إلى أن مثل هذا العصيان سيعجل بوجود فراغ تشريعي تام‪ .‬فعندما يكون هناك دستور مدني قائم‪ ،‬فليس من‬
‫حق الشعب أن يشرع متى شاء لكيفية تطبيق الدستور‪ ،‬إذ أنه لو فعل ذلك‪ ،‬فإنه سيفضي الى غياب سلطة القرار للفصل في‬
‫النزاع بينه وبين الطرف الحاكم (الرئيس)؛ وفي هذه الحالة ال يملك أي طرف منهما( الشعب أو الحاكم)سلطة تقرير من‬
‫يمتلك الحق ممن ال يمتلكه؛ ألنهما معا سيحتالن مكان القاضي والمتهم في نفس الوقت‪ ،‬وهو ما يقتضي سلطة أعلى منهما‬
‫للفصل بينهما‪ ،‬الشيء الذي يعتبر أمرا متناقضا‪ ،‬كما أنه ليس باإلمكان تصور قانون أعلى من الدستور يمكن االحتكام‬
‫إليه‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فإنه ال أحد يمتلك حق ممارسة العنف غير الحاكم؛ ألنه من يملك اإلرادة العليا للعدالة‪ ،‬لذلك فإن أي عنف‬
‫مضاد لتلك اإلرادة يعتبر عنفا مرفوضا‪.‬‬
‫‪ -2‬موقف الماهاتما غاندي‪:‬‬
‫يقيم غاندي فصال حادا بين العنف والالعنف‪ ،‬مؤكد أ ن األول يميز الحيوان كما االنسان‪ ،‬في حين أن الثاني يعد المطلب‬
‫والطموح الذي ينبغي على اإلنسانية أن تسعى إليه؛ ما دام أن التاريخ الطويل لتطاحن البشر وتعنيف بعضهم للبعض‬
‫اآلخر‪ ،‬لم يمنع من استمرار حياة وبقاء االنسان على االرض‪ ،‬على اساس أنه ال ينبغي مواجهة العنف القائم بالعنف‬
‫المضاد له‪ ،‬وانما باألسلحة غير العنيفة وبالمقاومة الروحية‪ ،‬وليس الجسدية‪ .‬ويرى الزعيم الهندي‪ ،‬أن انتشار العنف في‬
‫الحياة االجتماعية‪ ،‬قد ساهم في تنامي مظاهر الحقد والكراهية بين البشر؛ هذا مع العلم أنه ال يوجد على اإلطالق ما‬
‫يستحق ان يقتل بموجبه إنسان إنسانا آخر‪ .‬لهذا السبب صار ضروريا التفكير في األساليب الكفيلة برفع العنف من حياة‬
‫الناس وتعويضه بالالعنف باعتباره مبدأ أخالقيا‪ ،‬سيتم على ضوئه تعميم السلم وإشاعة الحب و الصداقة بين الناس بدل‬
‫تقوية مظاهر الشر والتدمير التي خلفها تعامي اإلنسان عن عمق ماهيته‪ .‬يقول غاندي‪" :‬ان الالعنف هو الغياب التام‬
‫لإلرادة السيئة تجاه كل ما يحيا‪ ،‬بل إن الالعنف في صورته الفاعلة‪ ،‬هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيا‪ ،‬إنه حب مكتمل‬
‫وكامل‪ ،...‬إن العنف هو دوما رذيلة ‪ .‬إن الالعنف هو القانون الذي يحكم النوع اإلنساني‪ ،‬مثلما أن العنف هو قانون الذي‬
‫يحكم النوع الحيواني‪".‬‬
‫‪ -3‬موقف ماكس فيبر‪:‬‬
‫يذهب ماكس فيبر إلى القول بأن العالقة بين الدولة والعنف في الوقت المعاصر هي عالقة حميمية؛ على اعتبار ان عمل‬
‫الدولة مرتبط بتقوية آليات ووسائل ممارسة العنف؛ فأن تحتل دولة مجاال ترابيا‪ ،‬وتسوس عالقات بين أفراد مختلفي‬
‫المشارب واالنتماءات‪ ،‬ال بد لها من العنف كوسيلة لتحقيق ما تعجز القوانين عن تحقيقه‪ ،‬لذا فإنه ال يمكن تعريف الدولة ما‬
‫لم يتم األخذ بعين االعتبار كيف تنظر الى العنف؟ ومتى تمارسه؟ وألجل ماذا؟ غير أن استعمال الدولة للعنف ال يتم على‬
‫أساس كونه سلوكا حيوانيا يستهدف ايذاء األفراد‪ ،‬بل هو سلوك مشروع اقتضته ضرورات الحياة االجتماعية؛ لهذا تقوم‬
‫الدولة باحتكاره‪ ،‬ومن تم عدم السماع ألي كان بممارسته دون اذن منها‪.‬‬
‫‪ -4‬موقف ايريك فايل ‪.‬‬
‫يرى الفيلسوف الفرنسي ذو األصل األلماني‪ ،‬أن الفلسفة منذ بدايتها وضعت نفسها في مواجهة كل خطاب مبني على‬
‫العنف‪ ،‬ال لشيء إال ألن األساس‪ ،‬الذي قامت عليه هو العقل والنظام و التماسك‪ .‬وما دام العنف سيتعارض مع هذه‬
‫األسس‪ ،‬فقد صار من الضروري العمل على صياغة انساق فلسفية صلبة قادرة على أن تضع حدا الستمراره في حياة‬
‫اإلنسان‪ ،‬و أن تحل بدله الالعنف‪ ،‬بما هو مبدأ يتساوى مع العقل؛ على الفلسفة إذن‪ ،‬بأن تدرك قيام العنف يجعل من‬
‫وجودها أمرا ال معنى له؛ لذا يتعين عليها ان تسارع الزمن من أجل القضاء عليه‪ ،‬وإال غدت هي األخرى خطابا يزكي ما‬
‫يسود في الواقع من خطابات معادية ومناقضة للعقل‪ .‬و بهذا‪ ،‬فإن اريك فايل يؤكد على أن العنف ال معنى له‪ ،‬وهو عقبة‬
‫تقف في طريق الخطاب الفلسفي‪ ،‬باعتباره خطابا عقليا متماسكا‪ ،‬يراهن على نبذ العنف‪ ،‬و كل ما من شأنه أن يسعى الى‬
‫إحالل الالعنف في المجتمعات البشرية‪ ،‬حتى لو كانت بعض خطاباتها تدعو أحيانا الى استعمال العنف المشروع إذا كان‬
‫يرجى منه خلق حالة من الالعنف‪.‬‬
‫تركيب‬
‫إن ما يمكن التوصل إليه‪ ،‬انطالقا من المواقف السابقة‪ ،‬هو أن العنف يبقى مسألة ال أخالقية وغير قانونية‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫تحظى بأية مشروعية مهما كانت األسباب واألحوال‪ ،‬أو على أقل تقدير‪ ،‬دولة الحق والقانون‪ ،‬هي وحدها التي تملك الحق‬
‫والمشروعية في اللجوء اليه كحل أخير‪ ،‬حينما تستعصي الحلول السلمية؛ لكن ما يالحظ هو ان العنف طور أشكاله وآليات‬
‫عمله باستمرار (ظهور الحركات اإلرهابية ‪ ،‬عنف المالعب الرياضية‪ ،‬عنف المدارس‪...‬الخ)‪ ،‬كما ان العنف لم يعد‬
‫محصورا اليوم في دائرة العالقات اإلنسانية‪ ،‬بل امتد إلى العالقة بالكرة األرضية كلها و البيئة؛ فاإلنسان يمارس عنفا‬
‫جديدا وخطيرا يتمثل في االستهالك المفرط لطاقة وتلويث البيئة‪....‬‬

You might also like