Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 145

‫سرية خامت األنبياء‬

‫صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم‬

‫دراسة وحتليل‬

‫إعداد‬

‫محمد بدر الدين الحوثي‬


‫(طبعة منقحة ومزيدة)‬

‫‪1‬‬
‫الطبعة الثالثة‬
‫‪1443‬هـ ‪2022 -‬م‬

‫طبعة منقحة‬

‫رقم اإليداع‪1443 / 200 :‬هـ‬

‫مركز الشهداء لألعمال الثقافية والفنية‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جميع الحقوق محفوظة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المركز الرئيسي‪ :‬اليمن ‪ -‬صعدة‬


‫للتواصل‪771766111 - 733100753 :‬‬
‫البريد اإلكتروني‪com.gmail@center.shuhda:‬‬
‫فرع صنعاء‪ :‬الجراف ‪ -‬خط المطار‬
‫للتواصل‪714770577 - 771766222 :‬‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬


‫انغماسا يف‬
‫ً‬ ‫برغم ما متلكه أمتنا اليوم من مقومات النهوض للتخلص من واقعها املهني‪ ،‬إال أننا جندها تزداد‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬وهذا ما حيتم علينا البحث عن حقيقة املشكلة وتشخيص الداء الذي ترك أمتنا طرحية الفراش‬
‫الوحل ً‬
‫تنهشها الذائب‪ ،‬ويتالعب مبصريها األوابش واألذانب‪.‬‬
‫وأبدىن نظرة وأتمل يف القرآن الكرمي ويف سرية خامت األنبياء ‹صلوات هللا وسالمه عليه وعلى آله› ندرك مكمن‬
‫الداء‪ ،‬حيث نرى البون الشاسع بني واقعنا اليوم وواقعنا ابألمس يوم كانت التوجيهات القرآنية هي اليت حتكم الواقع‬
‫وتسريه‪ ،‬والسرية هي الرتمجة العملية لتلك التوجيهات الرابنية‪.‬‬
‫ر‬
‫وهبذا ندرك أنه ال خالص لألمة إال ابلعودة الصادقة إىل القرآن الكرمي‪ ،‬واتباع أثر النيب العظيم‪ ،‬وتعزيز ارتباطنا‬
‫ومرب‪ ،‬هنض ابملشروع القرآين حىت بلغ بواقع األمة أعلى الذرى‪ ،‬وقهر اجلبابرة‪ ،‬وأرغم أنوف‬ ‫به كقدوة وقيادة‪ ،‬ومعلم ٍّر‬
‫ومشوخا وعزة‪.‬‬
‫ً‬ ‫كياان طاول السماء رفعة‬
‫القياصرة واألكاسرة‪ ،‬وبين لألمة ً‬
‫وبال شك فإن جزءًا كب ًريا من التبعات يتحمله أولئك الذي كتبوا عن السرية النبوية‪ ،‬وضمنوها الكثري من األخطاء‬
‫الفادحة‪ ،‬اليت وصلت إىل حد التغييب للشخصية احلقيقية للنيب األكرم‪ ،‬ولدوره احلقيقي‪ ،‬وأسلوبه املثايل يف بناء‬
‫كيان اإلسالم العظيم‪ ،‬لقد حصروه يف زاوية املسجد‪ ،‬حىت مل يعد أحد يتصور أن النيب كان حيمل السيف‪ ،‬ويتقن‬
‫فن القتال‪ ،‬ويقف يف وسط امليدان‪ ،‬وجيندل األبطال‪ ،‬حىت قال أمري املؤمنني وبطل اإلسالم اخلالد‪« :‬كنا إذا امحر‬
‫القوم اتقينا برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فما يكون أحد أقرب إىل العدو منه»‪.‬‬ ‫القوم َ‬‫البأس ولقي ُ‬
‫هلذا جيب أن نعيد النظر فيما أ رُِّرخ وُكتِّب عن سرية النيب األعظم‪ ،‬وأن نستهدي ابلقرآن وأعالم اهلدى يف الوصول‬
‫إىل معرفة شخصية ودور ومنهجية الرسول اخلامت ‹صلوات هللا وسالمه عليه وعلى آله›‪.‬‬

‫ويف هذا الكتاب جرت احملاولة قدر اإلمكان لتصحيح بعض املفاهيم‪ ،‬ومناقشة بعض املسائل مما له ارتباط وأتثري‬
‫يف واقعنا اليوم‪ ،‬حىت وإن ظهر بعضها خمال ًفا للرواية الرمسية الرائجة يف معظم كتب السري والتاريخ‪.‬‬
‫الكتاب يف حلته اجلديدة‬
‫وبعد نفاد الطبعة األوىل وتزايد الطلب على الكتاب كان ال بُ َّد من إعادة طبعه مرة اثنية‪ ،‬وكانت هذه فرصة‬
‫ساحنة للتدقيق يف بعض النصوص واملواضيع‪ ،‬وإخضاعها ملزيد من البحث‪ ،‬مستهدين مبا طرحه السيد عبد امللك‬
‫بدر الدين (حفظه هللا) يف العديد من خطاابت املولد النبوي‪ ،‬إضافة إىل ما متت مناقشته معه مباشرة‪ ،‬وهكذا مت‬
‫مراجعة العديد من املصادر املعتمدة‪ ،‬هلذا حفلت هذه الطبعة ابلكثري من اإلضافة والتعديل والتنقيح حسب ما مسح‬
‫خالصا لوجهه الكرمي حبق حممد وآله الطاهرين‪.‬‬
‫به الوقت‪ ،‬راجني هللا تعاىل قبول هذا اجلهد وأن جيعله ً‬

‫‪3‬‬
‫املقدمة‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬


‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني سيدان ونبينا حممد بن عبد هللا‪ ،‬وعلى آله‬
‫الطيبني الطاهرين‪.‬‬
‫ميثل رسول هللا حممد بن عبد هللا صلى هللا عليه وآله وسلم النموذج اإلنساين الكامل الذي اجتمعت يف شخصيته‬
‫كل الصفات واخلصائص والقيم اإل نسانية واإلهلية؛ فهو رجل العلم والفضل والعقل والكمال‪ ،‬ومثال احلكمة والوقار‬
‫واجلالل‪ ،‬عارف حكيم تقي شجاع حازم‪ ،‬أكمل اخللق وأفضلهم وأعظمهم أخالقًا ال ترى يف أعماله أي خلل أو‬
‫ضعف‪ ،‬وال يف تصرفاته وسلوكه أي تشتت أو تناقض‪.‬‬
‫وقد اتسع قلبه آلالم الناس ومشكالهتم؛ فجا هد يف هللا حق جهاده‪ ،‬ووقف حبزم وثبات وقوة يف وجه القوى‬
‫اجلاهلية‪ ،‬الوثنية واليهودية‪ ،‬من أجل العدالة واحلرية واحملبة والرمحة‪ ،‬ومن أجل مستقبل أفضل جلميع الناس‪.‬‬
‫مجيعا‪ ،‬وفرض عليهم أن يقتدوا به وأن يتبعوه يف كل شيء حىت‬ ‫وألجل ذلك فقد جعله هللا قدوة وأسوة للناس ً‬
‫سنَةٌ لي َم ْن َكا َن يَ ْر ُجو هللاَ َوالْيَ ْو َم ْاْل يخ َر‬
‫ُس َوةٌ َح َ‬
‫يف جزئيات أفعاله فقال تعاىل‪﴿ :‬لَ َق ْد َكا َن لَ ُكم يِف رس ي ي‬
‫ول هللا أ ْ‬ ‫ْ َُ‬
‫ي﴾ [األحزاب‪.]21 :‬‬ ‫ي‬
‫َوذَ َك َر هللاَ َكث ر‬
‫ولذلك أيضا فقد حظيت شخصية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وكذلك حياته وسريته ابهتمام التاريخ‬
‫واملؤرخني والباحثني‪ ،‬وأُلرِّفت حول شخصيته وسريته العطرة مئات بل آالف الكتب والدراسات‪ ،‬وال نعلم سرية رجل‬
‫وحمصت ابحلجم الذي مت لسرية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫وحققت ُ‬
‫قد نُقحت ُ‬
‫ومل يكتف اتريخ اإلسالم املدون بتسجيل األحداث واملواقف العامة من حياة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫فضال عن الكلمات واملواقف‬‫بل سجل لنا تفاصيل حياته ودقائق تصرفاته‪ ،‬حىت احلركات واللفتات واللمحات‪ً ،‬‬
‫واحلوادث بدقة متناهية واستيعاب ال نظري له‪.‬‬
‫وحتليال إال أن املكتبة اإلسالمية واملعاهد الثقافية ظلت تفتقر‬
‫عرضا ً‬ ‫وابلرغم من كثرة ما كتب حول السرية النبوية ً‬
‫إىل كتاب ممنهج يف السرية والتاريخ ميكن االعتماد عليه يف تقدمي صورة واضحة ونقية عن حياة وسرية النيب صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم لكل طالب املعرفة‪.‬‬
‫ومن هنا فقد قمنا بوضع هذا الكتاب ضمن مواد املنهج الدراسي ليسد هذه احلاجة املاسة؛ وليكون متنًا دراسيًا‬
‫يعتمد عليه الطالب واألستاذ يف دراسة هذه املادة‪.‬‬
‫وقد اشتمل الكتاب على عرض حتليلي لسرية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم منذ والدته إىل أن اختاره هللا‬
‫إليه‪ ،‬واملراحل اليت مر هبا يف صباه وشبابه‪ ،‬ومسرية الدعوة إىل هللا منذ أن بعثه هللا يف مكة إىل أن تكاملت حروبه‬
‫وغزواته‪ ،‬وما يتصل بذلك من أحداث ومواقف وحتدايت رافقت الدعوة‪ ،‬مع دراسة موضوعية ألهم جوانبها وحماولة‬
‫االستفادة منها‪ ،‬وأخذ العرب‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫وقد اعتمدان يف مجيع ذلك على أوثق املصادر اإلسالمية ويف مقدمتها كتاب هللا وما رواه األئمة األطهار عليهم‬
‫السالم مما يتعلق بسرية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم؛ على اعتبار أن أهل البيت أدرى مبا فيه‪.‬‬
‫ومل نلتزم الرتتيب الزمين لألحداث والوقائع التارخيية‪ ،‬وإمنا قسمنا سريته صلى هللا عليه وآله وسلم العطرة إىل وحدات‬
‫متجانسة إىل حد ما‪ ،‬وخصصنا لكل وحدة مساحة مناسبة يف البحث‪.‬‬
‫واقتصران على تناول وبيان بعض الوقائع املهمة اليت تنطوي على قدر أكرب من الفائدة والعربة‪ ،‬وأعرضنا عن ذكر‬
‫خاصا للمطالعة تناولنا فيه شخصية النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫مقطعا ً‬
‫احلوادث اجلزئية‪ ،‬لكننا خصصنا بعد كل حبث ً‬
‫وسلم الذاتية‪ ،‬وسريته األخالقية؛ من أجل تكوين صورة واضحة عن صفاته صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وخصائصه‪،‬‬
‫وعالقته بربه‪ ،‬وطريقة تعامله مع أسرته واألمة‪.‬‬
‫وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫(‪ )1‬السرية النبوية ومصادرها األصلية‬

‫ِّ‬
‫السرية تعين طريقة املشي واحلركة والسلوك‪.‬‬ ‫الس رِّري‪ ،‬و َّ‬
‫السريُ يعين املشي واحلركة‪ ،‬بينما ر‬ ‫كلمة السرية مشتقة من كلمة َّ‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬السرية عبارة عن األسلوب والنمط الذي يتبعه اإلنسان يف حياته ويف أعماله اليومية‪.‬‬
‫وعندما نبحث يف السرية النبوية فإننا نريد التعرف على األسلوب والنمط الذي كان يتبعه النيب حممد بن عبد هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسل م يف أعماله اليومية؛ للوصول إىل أهدافه النبيلة‪ ،‬فمثال‪ :‬كيف كان سلوكه؟ وكيف كانت‬
‫أخالقه وعالقاته مع أصحابه وزوجاته وجمتمعه؟ وكيف كان يبلغ رسالته؟ وما هي األحداث اليت واجهها يف طريق‬
‫بواي وتعليميًا؟ وغري‬
‫اقتصاداي وتر ً‬
‫ً‬ ‫الدعوة إىل هللا؟ وكيف كان يتعامل معها؟ وكيف كان يقود جمتمعه إدارًاي وسياسيًا و‬
‫ذلك‪.‬‬
‫إن الكشف عن جوانب شخصية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وما يرتبط حبياته ومواقفه وسلوكه وأوضاعه‬
‫وطريقة تعامله مع األحداث والتحدايت واملستجدات وغري ذلك هو ما يراد حبثه عادة يف السرية النبوية‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن السرية العظيمة للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم قد تعرضت للكثري من االفرتاء والتشويه على أيدي‬
‫الكثريين من حكام ومندسني وغريهم؛ حيث كانت لدى هؤالء خطة خبيثة تستهدف النيل من شخصية النيب صلى‬
‫دس نصوص خمتلقة ومزيفة يف كتب السرية والتاريخ‬ ‫ِّ‬
‫هللا عليه وآله وسلم وسريته‪ ،‬وقد ن رفذت هذه اخلطة عن طريق ر‬
‫تسيء إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وتنسب إليه ما ال يليق به‪.‬‬
‫نكون صورة واضحة ونقية عن حياة وسرية رسول هللا صلى هللا‬ ‫جدا إذا أردان أن ر‬
‫ولذلك أصبح من الضروري ً‬
‫عليه وآله وسلم أن نعتمد على مصادر صحيحة‪ ،‬ومعايري وضوابط تكون قادرة على إعطائنا الصورة احلقيقية األكثر‬
‫نقاء وصفاء عن شخصية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وتكون قادرة أيضا على إبعاد ذلك اجلانب املصطنع‬
‫واملزيف من النصوص عن حميطنا الفكري والعملي بصورة كاملة‪.‬‬
‫فما هي تلك املصادر اليت ينبغي اعتمادها الستخراج سرية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم؟‬
‫وما هي تلك املعايري والضوابط اليت جيب أن نعتمدها لتمييز النصوص الصحيحة من النصوص املزيفة؟‬
‫هناك عدة مصادر ميكننا أن نستخلص ابالعتماد عليها معامل شخصية النيب وتفاصيل حياته وسريته وهي‪:‬‬

‫َّأواًل‪ :‬القرآن الكريم‬


‫فإن القرآن الكرمي أعطى صورة واضحة ورائعة عن شخصية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وصفاته وخصائصه‬
‫ومواقفه يف كثري من السور واآلايت‪ ،‬ويستطيع قارئ القرآن ابلتدبر التام يف اآلايت اليت نزلت يف شأن رسول هللا أن‬
‫حييط ابلكثري من جوانب شخصيته وحياته منذ أن بعثه هللا وإىل أن فارق هذه الدنيا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫فقد أشار القرآن إىل مكانة النيب ومنزلته وعظمته‪ ،‬وإىل صفاته وخصائصه‪ :‬كالعصمة‪ ،‬والطهارة‪ ،‬والرأفة‪ ،‬والرمحة‪،‬‬
‫والعطف‪ ،‬والشجاعة‪ .‬وأشار القرآن إىل أخالق النيب وصربه وثباته يف مواقع التحدي‪ ،‬وإىل طريقة تبليغه للرسالة‪،‬‬
‫وإىل مواقفه من عدم استجابة قومه لدعوته‪ ،‬وغري ذلك مما يرتبط حبياته وسريته يف كثري من اآلايت والسور‪.‬‬
‫فالرجوع إىل نفس القرآن واستخراج سرية النيب وصفاته وأفعاله من خالل ما عرضته اآلايت يُعترب من أوثق وأصح‬
‫الطرق واملصادر لدراسة شخصية النيب وتكوين صورة واضحة ونقية عن حياته وأخالقه وعالقاته ومواقفه وقيادته‬
‫والتحدايت اليت واجهها يف طريق الدعوة إىل هللا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬النصوص الواردة عن أهل البيت ‹عليهم السالم› التي عرضت سيرة وحياة‬
‫ا‬
‫رسول هللا‬
‫فإن هذه النصوص تعترب بعد القرآن أهم املصادر اليت أنخذ منها خصائص ومميزات شخصية النيب وتفاصيل‬
‫حياته؛ على اعتبار أن أهل البيت عليهم السالم أدرى مبا فيه‪ ،‬وليس ألحد كائنا من كان أن يناقش فيما ينقل بطريق‬
‫صحيح عن علي بن أيب طالب عليه السالم الذي الزم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف مجيع مراحل حياته؛‬
‫حيث كان يتبعه اتباع الفصيل أثر أمه‪ ،‬ويراه يف األوقات اليت ال يراه فيها غريه‪.‬‬
‫وقد ورد عن أهل البيت عليهم السالم الكثري من النصوص والرواايت اليت حتدثت عن حياة رسول هللا العامة‪،‬‬
‫واألحداث الكربى اليت عاشها يف حياته‪ ،‬وعن سريته الذاتية واخلاصة‪.‬‬

‫ثال اثا‪ :‬الروايات التاريخية المتواترة عن المسلمين األولين‬


‫فالنصوص املروية عن األثبات من الصحابة الذين ال مييل هبم هوى عن جادة احلق‪ ،‬واليت تتحدث عن سرية النيب‬
‫تُعترب من مصادر السرية والتاريخ إذا ثبتت صحتها ابلتواتر‪ ،‬أو إبحدى وسائل اإلثبات األخرى‪.‬‬
‫أما النصوص والرواايت التارخيية األخرى اليت مل تكن متواترة فال بُ َّد إذا أردان تقييم هذه النصوص من أن نعتمد‬
‫على ضوابط وقواعد نستطيع من خالهلا متييز النص الصحيح الذي يعكس الواقع التارخيي بصورة صادقة من النص‬
‫املصطنع أو احملرف‪.‬‬

‫وأهم ضابط وقاعدة ينبغي اعتمادها في هذا المجال هي‪:‬‬

‫عرض النصوص التارخيية وغريها على القرآن الكرمي‪ :‬فما وافق كتاب هللا أنخذ به‪ ،‬وما خالفه نرتكه‪ ،‬وهذه قاعدة‬
‫ال بُ َّد أن نعتمدها ليس يف نصوص السرية فحسب بل يف كل األحاديث املنقولة عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫أو عن أهل البيت عليهم السالم سواء أكانت اترخيا‪ ،‬أو فقها‪ ،‬أو أخالقًا‪ ،‬أو غري ذلك‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ب َعلَى ْاْلَنْبييَا يء يم ْن قَ ْبليي؛ فَ َما‬ ‫ي‬
‫ب َعلَ َّي َك َما ُكذ َ‬ ‫فقد روي عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪َ « :‬سيُ ْك َذ ُ‬
‫س يم يِّن َوََلْ أَقُ لْهُ» (‪.)1‬‬ ‫ي‬ ‫ي ي ي‬ ‫أ َََت ُك ْم َع يِّن فَا ْع ير ُ‬
‫ضوهُ َعلَى كتَاب هللا‪ :‬فَ َما َوافَ َقهُ فَ ُه َو م يِّن َوأ َََن قُ لْتُهُ‪َ ،‬وَما َخالََفهُ فَ لَْي َ‬

‫الزير ِّديَِّّة فَرواهُ رِّ‬


‫احتَ َّج بِِّّه أَئِّ َّمةُ َّ‬ ‫ض رِّو ِّ ِّ ِّ ٍّ ِّ‬ ‫(‪َ )1‬ح ِّد ُ‬
‫ام َزير ٌد يف جمموع رسائله ‪ ،316‬واإلمام القاسم يف‬
‫اإل َم ُ‬ ‫ََ‬ ‫يث الر َع رر ِّ ُ َ‬
‫ي م رن عدَّة طُُرق‪َ ،‬وقَد ر‬
‫جمموع كتبه ورسائله ص‪ ،545‬واإلمام اهلادي يف جمموع رسائله ‪ ،480‬واملرتضى بن اهلادي يف جمموع رسائله ‪،198 ،111/1‬‬
‫َوَرَواهُ الطرباين يف الكبري ‪ ،97/2‬و ‪ 316/12‬رقم ‪ ،3224‬والروايين يف مسنده ‪ ،255/2‬واخلطيب يف الكفاية يف علم الرواية‬
‫‪ ،130‬وابن عساكر يف اتريخ دمشق ‪ ،77/55‬والطوسي يف هتذيب األحكام ‪ ،225/7‬و الربيع بن حبيب يف مسنده‬
‫‪.365/1‬‬
‫‪8‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫التصوير القرآني للخلق العظيم‬


‫َص َد ُق يمن ي‬
‫هللا قي ريل﴾‬ ‫كالم هللا تعالى‪َ ﴿:‬وَم ْن أ ْ‬
‫َ‬

‫ال ش ك أن أص دق ش اهد على عظمة أخالق رس ول هللا ص لى هللا عليه وآله وس لم هو القرآن الكرمي‪ ،‬وهو كالم هللا‬
‫هللا قي ريل﴾ ال ش ك أن أص دق ش اهد على عظمة أخالق رس ول هللا ص لى هللا عليه وآله‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬ومن أَص َد ُق يمن ي‬
‫َ‬ ‫ََ ْ ْ‬
‫َص َد ُق يمن ي‬
‫هللا قي ريل﴾ [النساا‪]122 : :‬؛ فقد أش اد القرآن كثريًا‬ ‫وس لم هو القرآن الكرمي‪ ،‬وهو كالم هللا تعاىل‪َ ﴿:‬وَم ْن أ ْ‬
‫َ‬
‫أبخالق ص احب الرس الة ص لى هللا عليه وآله وس لم‪ ،‬وكثرت فيه اآلايت اليت تتحدث عن ش خص يته األخالقية‬
‫وخصائصه وصفاته الفاضلة‪ ،‬وحنن سنستعرض ما تيسر من هذه اآلايت‪.‬‬
‫استَ غْ يف ْر‬
‫ف َع ْن ُه ْم َو ْ‬ ‫ْب ََلنْ َفضُّوا يم ْن َح ْولي َ‬
‫ك فَا ْع ُ‬ ‫ظ الْ َقل ي‬‫ت فَظًّا غَليي َ‬
‫ت ََلُ ْم َول َْو ُك ْن َ‬ ‫‪﴿ -1‬فَبيما ر ْمحَ ٍة يمن ي‬
‫هللا ليْن َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يي‬ ‫ت فَ ت وَّكل َعلَى ي‬
‫هللا إي َّن هللاَ ُيُي ُّ‬ ‫ي‬
‫ي﴾[آل عمران‪.]159 :‬‬ ‫ب ال ُْمتَ َوِكل َ‬ ‫ََلُ ْم َو َشا يوْرُه ْم يِف ْاْل َْم ير فَإذَا َع َزْم َ َ َ ْ‬
‫جانب العفو والرمحة والرفق واللني يف سلوك النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وتعامله مع‬ ‫َ‬ ‫فاآلية الكرمية حتكي لنا‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫ول يمن أَنْ ُف يس ُكم ع يزيز علَي يه ما عنيتُّم ح يريص علَي ُكم يِبلْم ْؤيمنيي رء ٌ ي‬
‫يم﴾[التوبة‪.]128 :‬‬
‫وف َرح ٌ‬‫ْ َ ٌ َ ْ َ َ ْ َ ٌ َ ْ ْ ُ َ َُ‬ ‫‪﴿-2‬لََق ْد َجاءَ ُك ْم َر ُس ٌ ْ‬
‫لقد وصفت هذه اآلية الرسول األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم أبوصاف تكشف عن مدى أتثره واهتمامه‬
‫ابملسلمني وشؤوهنم وحرصه عليهم‪ ،‬وتُ َعِّرربُ عن مدى شفقته ورمحته هبم‪ ،‬وكيف أنه صلى هللا عليه وآله وسلم حني‬
‫ظالال من األسى واحلزن خييم عليه صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬ ‫يصيب الواحد منهم بعض املشقة والتعب فإن ً‬
‫يي‬ ‫هلل وي ْؤيمن ليل ي‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫َّ ي‬ ‫ي‬
‫ين‬ ‫ْم ْؤمني َ‬
‫ي َوَر ْمحَةٌ للَّذ َ‬ ‫َِّب َويَ ُقولُو َن ُه َو أُذُ ٌن قُ ْل أُذُ ُن َخ ٍْي لَ ُك ْم يُ ْؤم ُن يِب َ ُ ُ ُ‬
‫ين يُ ْؤذُو َن الني َّ‬
‫‪َ ﴿-3‬وم ْن ُه ُم الذ َ‬
‫آمنُوا يم ْن ُك ْم﴾[التوبة‪.]61 :‬‬
‫َ‬
‫ك ل ََعلَى ُخلُ ٍق َع يظيم﴾[القلم‪.]4 :‬‬ ‫‪َ ﴿-4‬وإينَّ َ‬
‫يي‬ ‫ف َوأَ ْع ير ْ‬ ‫‪ُ ﴿-5‬خ يذ الْع ْفو وأْمر يِبلْعر ي‬
‫ي﴾[األعراف‪.]199 :‬‬ ‫ض َع ين ا ْْلَاهل َ‬ ‫َ َ َ ُْ ُْ‬

‫‪9‬‬
‫(‪ )2‬حالة اجملتمعات العربية قبل اإلسالم‬

‫البداية الطبيعية للحديث عن رسول هللا حممد بن عبد هللا صلى هللا عليه وآله وسلم تفرض علينا إعطاء حملة عن‬
‫اتريخ ما قبل البعثة‪ ،‬وما اتصل هبا من أحداث ووقائع؛ لنتعرف على الظروف واألوضاع اليت كانت حتكم اجملتمعات‬
‫العربية آنذاك‪ ،‬واملنطقة اليت انطلقت فيها دعوة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إىل اإلسالم‪.‬‬
‫وسوف نستعرض يف حديثنا هنا الظروف واألوضاع الدينية والسياسية واالجتماعية واألخالقية اليت كانت سائدة‬
‫يف منطقة شبه اجلزيرة العربية يف العصر اجلاهلي‪.‬‬

‫‪ -1‬الوضع الديني‪:‬‬

‫على املستوى الديين‪ :‬كانت الوثنية هي الداينة الكربى يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وكانت عقيدة الشرك وعبادة‬
‫األصنام متفشية بني سكان هذه املنطقة‪.‬‬
‫أحياان وثن وطريقة يف العبادة‪،‬‬ ‫ويكفي أن نذكر أن عبادهتم كانت ملونة ابللون القبلي فلكل قبيلة‪ ،‬بل لكل بيت ً‬
‫وابلرغم من أن الكثريين منهم كانوا يعتقدون بوجود هللا‪ ،‬وأنه اخلالق إال أهنم كانوا يعتربون أن عبادهتم لألصنام تقرهبم‬
‫ين َّاَّتَ ُذوا يم ْن ُدونييه أ َْولييَاءَ َما نَ ْعبُ ُد ُه ْم إيََّل لييُ َق ِيربُ َ‬
‫وَن‬ ‫َّ ي‬
‫إىل هللا زلفى‪ ،‬وقد أشار القرآن الكرمي إىل ذلك بقوله تعاىل‪َ ﴿:‬والذ َ‬
‫إي َىل ي‬
‫هللا ُزلْ َفى﴾ [الزمر‪.]3 :‬‬
‫أضف إىل ذلك أهنم ما كانوا يعتقدون ابملعاد واحلياة بعد املوت‪ ،‬وقد أشار القرآن إىل ذلك يف كثري من اآلايت‪.‬‬
‫هذه حال الوثنية‪ ،‬أما اليهودية والنصرانية فلم تستطيعا‪ -‬بسبب عملية التحريف الكربى اليت تعرضتا هلا بعد‬
‫أمنوذجا إجيابيا بنَّاءً لإلنسان العريب‪ ،‬ومل حتدث يف صفاته الذميمة وعاداته‬
‫ً‬ ‫موسى وعيسى ‹عليهما السالم›‪ -‬أن تقدما‬
‫السيئة أي تغيري أو تبديل‪ ،‬حىت أن بعض النصارى من العرب كقبيلة تغلب مل يكونوا يعرفون من النصرانية إال شرب‬
‫اخلمر‪.‬‬
‫إال أن اليهودية والنصرانية أسهمتا مع ذلك يف حتضري اإلنسان العريب للفجر اجلديد‪ ،‬وذلك ابلتبشري بقرب ظهور‬
‫نيب عريب؛ فكان اليهود يتوعدون العرب الوثنيني ويقولون هلم‪ :‬ليخرجن نيب فليكسرن أصنامكم‪ ،‬وقد مسى مجاعة‬
‫منهم أبناءهم «حممدا»؛ رجاء أن يكون هو النيب املنتظر‪ ..‬كل ذلك هيأ األجواء ً‬
‫معنواي لتقبل ظهور النيب صلى هللا‬
‫عدا حقيقيًّا‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬وبسبب وزن أهل الكتاب علميًا عند العرب يف اجلاهلية فقد اكتسبت هذه التنبؤات بُ ً‬
‫انعكس قبوًال للدعوة واستجابة هلا‪.‬‬

‫‪ -2‬الوضع السياسي‪:‬‬

‫وأما على املستوى السياسي فإن سكان شبه اجلزيرة العربية آنذاك مل خيضعوا ألي نظام أو سلطة مركزية غري سلطة‬
‫القبيلة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الرحل الذين ُميسون يف مكان ويصبحون يف آخر من جهة‪،‬‬
‫وبسبب أن معظم سكان هذه املنطقة كانوا من البدو ر‬
‫وبسبب رفضهم جلميع أنواع التسلط الذي حيد من حرية األفراد والقبيلة من جهة اثنية‪ ،‬وبسبب بعض العوامل‬
‫االقتصادية؛ نظرا لكون طبيعة املنطقة صحراوية ال تصلح للزراعة والعمل‪ ،‬وال تساعد على االستقرار وتنظيم احلياة‬
‫واإلنتاج من جهة اثلثة ألجل كل ذلك جند أن هذه املنطقة بقيت بعيدة عن سيطرة ونفوذ الدول الكربى آنذاك‬
‫كدولة الفرس‪ ،‬ودولة الرومان‪ ،‬فلم ختضع املنطقة حلكم أي من الرومان والفرس واألحباش‪ ،‬ومل تتأثر مبفاهيمهم‬
‫كثريا‪.‬‬
‫وأدايهنم ً‬
‫ومن هنا فقد نشأت عن هذا الوضع ظاهرة الدويالت القبلية؛ فكان لكل قبيلة حاكم‪ ،‬ولكل صاحب قوة‬
‫سلطان‪ ،‬ومل يكن جيمعهم نظام مركزي واحد‪ ،‬أو سلطة سياسية مركزية‪ ،‬وإمنا كانوا يعيشون فراغا سياسيا يف هذا‬
‫اجلانب‪.‬‬

‫‪ -3‬الوضع االجتماعي‪:‬‬
‫أما الوضع االجتماعي فإن احلياة الصعبة اليت كان يعيشها اإلنسان العريب يف البادية واحلكم القبلي‪ ،‬وعدم وجود‬
‫بعضا كوسيلة من وسائل أتمني‬
‫روادع دينية أو وجدانية قوية دفعت ابلقبائل إىل ممارسة احلرب واالعتداء على بعضها ً‬
‫أحياان أخرى للثأر واالقتصاص‪ ،‬فكانت تُغري هذه القبيلة على تلك وتستويل‬‫أحياان‪ ،‬وأحياان لفرض السيطرة‪ ،‬و ً‬
‫العيش ً‬
‫على أمواهلا‪ ،‬وتسيب نساءها وأطفاهلا‪ ،‬وتقتل أو أتسر من تقدر عليه من رجاهلا مث تعود القبيلة املنكوبة ترتبص ابلقبيلة‬
‫اليت غلبتها وهكذا‪.‬‬
‫ولذلك فإن من يطالع كتب التاريخ يرى بوضوح إىل أي حد كانت احلالة االجتماعية مرتدية يف ذلك العصر‪،‬‬
‫فالسلب والنهب واإلغارة والتعصب القبلي كان من مميزات ذلك اجملتمع‪ ،‬حىت إذا مل جتد القبيلة من تُغري عليه من‬
‫أعدائها أغارت على أصدقائها وحىت على أبناء عمها!‪.‬‬
‫ومدمرة يذهب ضحيتها آالف الناس وتستمر لسنني طويلة‪،‬‬ ‫وكانت ألتفه األسباب حتدث بينهم حروب طاحنة ُ‬
‫ولعل من أبرز األمثلة على ذلك ما عرف (حبرب داحس والغرباء) ومها فَ َرسان ميلك أحدمها قيس بن زهري‪ ،‬وميلك‬
‫اآلخر حذي فة بن فزارة؛ فقد استبقا واختلفا حول السابق منهما‪ ،‬وقد أدى اختالفهما بسبب هذا األمر التافه إىل‬
‫التنازع ونشوب احلرب بني قبيلتيهما حيث استمرت احلرب بينهما أربعني سنة من سنة ‪568‬م وحىت سنة ‪608‬م‪.‬‬
‫وأفضل مرجع للتعرف إىل مالمح الوضع االجتماعي يف العهد اجلاهلي هو كلمات أمري املؤمنني عليه السالم اليت‬
‫يصف فيها حال العرب قبل بعثة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حيث يقول يف بعض كلماته‪« :‬إي َّن هللاَ ُسبحانَه‬
‫ب َعلَى َش ِير يدين‪،‬‬ ‫العر ي‬
‫ش َر َ َ‬ ‫ي‪َ ،‬وأ يَمينرا َعلَى التَّ ْن يز ي‬
‫يل‪َ ،‬وأَنْ تُ ْم َم ْع َ‬ ‫ي ي‬
‫ث ُحمَ َّم ردا صلى هللا عليه وآله وسلم نَذ ريرا لل َْعال يَم َ‬ ‫بَ َع َ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ويِف َش ير َدار‪ ،‬منيي ُخو َن (أي مقيمون) ب ي‬
‫ب‪،‬‬ ‫ص ٍِم‪ ،‬ت ْش َربُو َن ال َكد َر‪َ ،‬و ََتْ ُكلُو َن اْلَش َ‬ ‫جارة ُخ ْشن‪َ ،‬و َحيَّات ُ‬ ‫يح َ‬ ‫ََْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ِ‬
‫َصنَ ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫صوبَةٌ»‪.‬‬ ‫اْلَث ُم بي ُك ْم َم ْع ُ‬
‫صوبَةٌ‪َ ،‬و َ‬ ‫ام في ُك ْم َم ْن ُ‬‫َوتَ ْسف ُكو َن د َماءَ ُك ْم‪َ ،‬وتَ ْقطَ ُعو َن أ َْر َح َام ُك ْم‪ ،‬اْل ْ ُ‬

‫‪11‬‬
‫ويقول جعفر بن أيب طالب ‹رضوان هللا عليه› وهو يصف الوضع اجلاهلي ملا دخل على النجاشي وقد سأهلم‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ٍّ‬
‫َصنَ َام‪َ ،‬و َأنر ُك ُل الر َمري تَةَ‪َ ،‬و َأنرِِّت الر َف َواح َ‬
‫ش‪َ ،‬ونَ رقطَ ُع راأل رَر َح َام َونُسيءُ‬ ‫عن أحواهلم قال‪ُ « :‬كنَّا قَ روًما أ رَه َل َجاهليَّة‪ :‬نَ رعبُ ُد راأل ر‬
‫يف‪.»..‬‬ ‫ِّ‬ ‫ا رجلِّوار‪ ،‬وَير ُكل الر َق ِّو ُّ ِّ‬
‫ي منَّا الضَّع َ‬ ‫ََ ََ ُ‬
‫ِّ‬
‫األميَّة‬ ‫ِّ‬ ‫«عندما جند َّ‬
‫جمتمعا رأميًّا ال ميتلك ثقافةً‪ ،‬وال ميتلك معرفةً‪ ،‬وال ميتلك وعيًا‪ ،‬و ر‬ ‫أن اجملتمع العريب الذي كان ً‬
‫العربية ِّرأميَّة شاملة‪ ،‬ليست فقط ِّرأميَّة يف القراءة والكتابة‪ ،‬فتقول‪ :‬املسألة أهنم كانوا يعانون أزمة يف هذا اجلانب‬
‫فحسب‪ ،‬ال يستطيعون أن يقرأوا‪ ،‬ليسوا أمة متعلمة تقرأ الكتب‪ ،‬وحالة اندرة يف أوساطهم‪ ،‬وكذلك أمة ال تستطيع‬
‫الكتابة‪ ،‬والكتابة يف أوساطهم حالة بسيطة‪ ،‬ومل تكن هذه املسألة الرئيسية‪ ،‬ولذلك عندما بعث الرسول صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم مل يكن املوضوع الرئيسي يف الرسالة اإلهلية أن يكون له برانمج حمو ِّرأميَّة‪ ،‬يتجه فقط وبشكل رئيسي‬
‫إىل أن يتعلم الناس كيف يكتبون وكيف يقرأون وانتهى املوضوع‪ ،‬مل تكن املسألة هذه‪.‬‬
‫صحيحا‪،‬‬ ‫فهما‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫األميَّة األكرب من ذلك واألخطر‪ -‬بكل ما تعنيه الكلمة‪ -‬أهنم ال ميتلكون رؤيةً صحيحة‪ ،‬وال ً‬
‫ر‬
‫وال معرفةً صحيحة أبشياء كثرية جدًّا‪ ،‬ينقصهم الوعي‪ ،‬املعرفة الصحيحة‪ ،‬النظرة الصحيحة جتاه معظم األمور اليت‬
‫تتصل حبياهتم‪ ،‬مبسؤوليتهم‪ ،‬ويف خمتلف املسا ئل‪ ،‬الدينية منها يف املقدمة‪ ،‬لديهم أفكار خاطئة كثرية‪ ،‬تصورات‬
‫مغلوطة‪ ،‬ومفاهيم مغلوطة كثرية‪ ،‬ليست صحيحة‪ ،‬وخرافات كثرية‪ ،‬مساحة واسعة من التصورات واملفاهيم كانت‬
‫عبارة عن خرافات‪ ،‬ومفاهيم تنحرف هبم يف واقع حياهتم‪ ،‬وضياع يف هذه احلياة ال هدف وال مسرية صحيحة‬
‫األميَّة كانت قائمة يف الواقع العام البشري‪ ،‬يعين‪ :‬لدى غريهم من األمم‪ ،‬ولكنهم كانوا‬‫ِّ‬
‫يتحركون على أساسها‪ ،‬وهذه ر‬
‫أيضا‬ ‫ِّ‬
‫أكثر رأميَّةً من غريهم‪ ،‬واألمم األخرى واألقوام اآلخرون كان لديهم نفس املشكلة وبقدر متفاوت‪ ،‬يعين البعض ً‬
‫كانت لديهم حالة من الضالل الرهيب‪ ،‬ولكن اجملتمع العريب كان اجملتمع األكثر ِّرأميَّةً‪ ،‬واألكثر بدائيةً ً‬
‫وجهال» (‪.)1‬‬

‫‪ -4‬الوضع األخالقي‪:‬‬
‫وأما الوضع األخالقي العام‪ :‬فقد كانت القسوة‪ ،‬والفاحشة‪ ،‬وتعاطي اخلمر والراب‪ ،‬ووأد البنات واألبناء خشية‬
‫العار والفقر هي السمات العامة لألخالق املتفشية يف اجملتمع اجلاهلي‪.‬‬
‫ويكفي أن نشري إىل بعض النماذج من العادات والتقاليد غري األخالقية اليت كانت سائدة آنذاك؛ ملعرفة مدى‬
‫شيوع الفاحشة وظاهرة انعدام الغرية والتحلل األخالقي يف تلك اجملتمعات‪.‬‬
‫فقد أشار النص الذي ذكرانه آن ًفا عن أمري املؤمنني عليه السالم وعن أخيه جعفر إىل بعض املوبقات اليت كانت‬
‫كثريا من حاالهتا‪،‬‬ ‫معروفة بينهم‪ ،‬وإىل بعض حاالهتم وأوضاعهم السيئة‪ ،‬وقد أدان القرآن حياهتم اجلاهلية‪ ،‬ونعى عليهم ً‬
‫فأشار على سبيل املثال إىل أن الزواج من اخلالة زوجة األب كان من مجلة سلوكهم اجلاهلي البغيض‪ ،‬وقد أشار القرآن‬
‫اح َشةر َوَم ْقترا‬ ‫آِب ُؤُك ْم يم َن النيِ َس ياء إيََّل َما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ف إينَّهُ َكا َن فَ ي‬ ‫ي‬
‫إىل حترمي هذا السلوك بقوله تعاىل‪َ ﴿:‬وََل تَ ْنك ُحوا َما نَ َك َح َ‬
‫اء َسبي ريل﴾ [النس‪.]22 : :‬‬
‫َو َس َ‬

‫(‪ )1‬من كلمة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1440‬ه ‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫وكانوا يُكرهون اجلواري واإلماء واخلدم على البغاء والزان؛ من أجل كسب املال! وقد أشار القرآن إىل ذلك بقوله‪:‬‬
‫ض ا ْْلَيَ ياة الدُّنْ يَا﴾ [النور‪.]33 :‬‬ ‫﴿وََل تُ ْك يرهوا فَ ت ياتي ُكم َعلَى الْبيغَ ياء إي ْن أَر ْد َن ََتَ ُّ ي‬
‫صنرا لتَ ْب تَ غُوا َع َر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ ْ‬ ‫َ‬
‫ُيب (رئيس املنافقني) ست جوار‪ ،‬وكان يكرههن على البغاء للحصول على املال!‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إنه كانت لعبد هللا بن أ َر‬
‫ومن عاداهتم القبيحة أيضا الطواف حول الكعبة وهم عراة‪ :‬سواء الرجال والنساء!‪.‬‬
‫وكان الرجل إذا هدده اإلفالس وشعر أبنه سيُصاب ابلفقر كان يبادر إىل قتل أوالده خوفًا من أن يراهم أذالء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫جائعني! وقد أشار القرآن إىل ذلك بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وََل تَ ْقتُ لُوا أ َْوََل َد ُك ْم م ْن إي ْم َلق ََْن ُن نَ ْر ُزقُ ُك ْم َوإي ََّّي ُ ْ‬
‫هم﴾ [األنع‪:‬م‪:‬‬

‫‪.]151‬‬
‫كما أننا نستطيع معرفة مدى شيوع ظاهرة وأد البنات ودفنهن وهن أحياء من تعرض القرآن الكرمي هلذه العادة‪،‬‬
‫وإدانته هلذه اجلرمية‪ ،‬وتعنيفه لتلك اجملتمعات على هذا السلوك الوحشي البشع؛ فقد قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإيذَا ال َْم ْوءُ َ‬
‫ودةُ‬
‫َح ُد ُه ْم يِب ْْلُنْ ثَى ظَ َّل َو ْج ُههُ ُم ْس َودًّا َو ُه َو‬ ‫ت﴾ [التكوير‪ ،]9 ،8 :‬وقال أيضا‪َ ﴿ :‬وإيذَا بُ يِ‬
‫ش َر أ َ‬ ‫ب قُتيلَ ْ‬ ‫ت * يِب يِ‬
‫َي ذَنْ ٍ‬ ‫ُسئيلَ ْ‬
‫ٍ‬ ‫وء ما ب يِ ي ي‬ ‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫اب أ َََل َساءَ َما َُْي ُك ُمو َن﴾‬ ‫ش َر بيه أَُيُْس ُكهُ َعلَى ُهون أ َْم يَ ُد ُّسهُ يِف َُّ‬
‫الُّت ي‬ ‫يم * يَتَ َو َارى م َن الْ َق ْوم م ْن ُس َ ُ‬
‫َكظ ٌ‬
‫[النحل‪.]59 ،58 :‬‬
‫هذه هي بعض أوضاع وأحوال اجملتمع يف شبه اجلزيرة العربية آنذاك‪.‬‬
‫ومن قلب هذا اجملتمع‪ ،‬ويف قلب هذا اجلو القبلي املعقد واملشرذم الذي توافرت فيه كل أنواع الفساد‪ ،‬والبعد عن‬
‫القيم واألخالق الذي يتطلب عملية تغيري شاملة خرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ليكون قائد عملية التغيري‬
‫هذه ابلوحي اإلهلي‪ ،‬وابلرعاية الرابنية‪ ،‬وعلى أساس احلق والصدق والطهر‪ ،‬وقد استطاع الرسول صلى هللا عليه وآله‬
‫جدا أن ينقل هذه األمة من حضيض الذل واملهانة إىل أوج العظمة والعزة والكرامة‪ ،‬وأن يغرس‬
‫وسلم يف فرتة وجيزة ً‬
‫فيها شجرة اإلميان اليت من شأهنا أن تغري فيه كل عاداهتا ومفاهيمها اجلاهلية‪ ،‬وأن تقضي على كل أسباب شقائها‬
‫وآالمها‪.‬‬
‫لقد استطاع اإلسالم يف فرتة ال تتجاوز سنواهتا عدد أصابع اليدين أن حيقق أعظم إجناز يف منطقة كانت هلا تلك‬
‫انقالاب حقيقيًا وجذرًاي يف عقلية ومواقف وسلوك وأخالق تلك األمة ويف مفاهيمها‪،‬‬
‫الصفات واملميزات‪ ،‬وأن حيدث ً‬
‫وأن ينقلها من العدم إىل الوجود‪ ،‬ومن املوت إىل احلياة‪.‬‬
‫وقد عرب عن ذلك جعفر بن أيب طالب مللك احلبشة بعدما بني له األوضاع املرتدية اليت كانوا يعيشوهنا قبل مبعث‬
‫ِّ‬ ‫ث هللاُ إِّلَري نَا َر ُس ًوال ِّمنَّا نَ رع ِّر ُ‬ ‫ِّ‬
‫ف نَ َسبَهُ َوص ردقَهُ َوأ ََمانَتَهُ‬ ‫ك َح َّىت بَ َع َ‬ ‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فقال‪ « :‬فَ ُكنَّا َعلَى ذَل َ‬
‫ص رد ِّق‬‫اان إِّ َىل هللا لِّنُو ِّح َده ونَعب َده‪ ،‬وََنرلَع ما ُكنَّا نَعب ُد َرحنن وآاب ُؤ َان ِّمن دونِِّّه ِّمن ا رحلِّجارِّة و راألَو َاث ِّن‪ ،‬وأَمرَان بِّ ِّ‬ ‫َو َع َفافَهُ‪ ،‬فَ َد َع َ‬
‫رُ ُ َ َ ر ُ َ َ َ َ ر َ ََ‬ ‫َ ر ُ َ رُ ُ َ َ َ‬
‫ش‪َ ،‬وقَ روِّل ُّ‬ ‫اان ع ِّن الر َفو ِّ‬ ‫ِِّّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫يث‪ ،‬وأَد ِّاء راألَمانَِّة‪ ،‬و ِّصلَ ِّة َّ ِّ‬
‫ِّ ِّ‬
‫الز ِّ‬
‫ور‪،‬‬ ‫اح ِّ‬ ‫ف َع ِّن الر َم َحارم َوال رد َماء‪َ ،‬وَهنَ َ َ َ‬ ‫الرح ِّم َو ُح رس ِّن ا رجل َو ِّار‪َ ،‬والر َك ِّر‬ ‫ا رحلَد َ َ َ َ‬
‫ف الرمحصنَ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ات‪.»..‬‬ ‫َوأَ رك ِّل َمال الريَت ِّيم‪َ ،‬وقَ رذ ُ ر َ‬

‫‪13‬‬
‫(‪)1‬‬
‫العوامل المساعدة على انتصار اإلسالم‬
‫ولعل أهم العوامل اليت ساعدت على انتصار اإلسالم وانتشاره يف سرعة قياسية هي‪:‬‬
‫أو ًل ‪ :‬نوع معجزة الرسول األكرم صلى هللا عليه وآله وسلم وهي هذا القرآن الكرمي الذي حري العرب مبا تضمنه‬
‫َّ‬
‫هدى وقيم وعلوم ومعارف وقوانني عامة وشاملة‪ ،‬ومبا اشتمل عليه من بالغته وفصاحته وبيانه؛ حيث استطاع‬
‫من ً‬
‫بذلك أن يقهر العرب ويبهرهم فيما كانوا يعتربون أنفسهم ويعتربهم العامل أبسره قمة فيه‪.‬‬
‫ومن هنا ندرك قيمة اهلدي اإلهلي وعظمته‪ ،‬وقدرته على التغيري الواسع والشامل‪ ،‬وأنه املنهج الوحيد القادر على‬
‫أن يعاجل الوضعية اجلاهلية اليت تعيشها األمة اليوم‪ .‬يقول السيد عبد امللك بدر الدين ‹رضوان هللا عليه›‪« :‬والحظوا‬
‫ِّ‬
‫األميَّة اليت نعيشها كعرب يف املقدمة‬ ‫ِّ‬
‫ما تعيشه البشرية يف هذا العصر من رأميَّة‪ ،‬يف هذا الزمن ال ميكن أن يعاجل مشكلة ر‬
‫األميَّة‪ ،‬غري ِّرأميَّة‬
‫ِّ‬
‫قبل كل الشعوب وقبل كل األمم‪ ،‬مث من حولنا بقية األمم‪ ،‬نعيش حالة رهيبة وفظيعة جدًّا من ر‬
‫يروج هلا‪ ،‬من ينشرها‪ ،‬واليت‬ ‫الكتابة‪ ،‬وغري ِّرأميَّة القراءة‪ ،‬املفاهيم الظالمية واخلاطئة‪ ،‬املنتشرة بشكل كبري‪ ،‬واليت هلا من رِّ‬
‫هلا حضور كبري يف املناهج التعليمية الرمسية‪ ،‬ويف وسائل اإلعالم‪ ،‬ويف األنشطة التثقيفية والتعليمية مبختلف أنواعها‪،‬‬
‫حضور واسع جدًّا‪.‬‬
‫األميَّة اليت جعلت األمة يف حرية ويف ختبط‪ ،‬وانعكست آباثرها السلبية على واقع احلياة‪ ،‬وعلى‬ ‫ِّ‬
‫ال ميكن أن تتغري هذه ر‬
‫واقع اإلنسان يف نفسه‪ ،‬احلالة الرتبوية‪ ،‬احلالة األخالقية‪ ،‬الواقع العملي‪ ،‬االهتمامات‪ ،‬التصرفات‪ ..‬أتثرت ابلثقافة السائدة‪،‬‬
‫األميَّة الشديدة‪ِّ ،‬رأميَّة حينما ال ميتلك الناس الفكرة الصحيحة‪ ،‬الرؤية الصحيحة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ٍّ‬
‫وهي ثقافة جعلت األمة يف حالة من ر‬
‫الرؤية الرشيدة‪ ،‬التوجه الصحيح‪ ،‬النظرة الواعية إىل األمور‪ ،‬هذه مفقودة يف واقع األمة إىل ح رٍّد كبري‪ ،‬وال ميكن أن يعاجلها‬
‫َّإال هدى هللا‪َّ ،‬إال الرجوع إىل هذا اهلدى‪ ،‬هذا اهلدى الذي أنقذان‪ -‬فيما سبق‪ -‬يف اجلاهلية األوىل‪َّ ،‬‬
‫وغري الواقع ٍّ‬
‫بشكل‬
‫جذري‪ ،‬هو فقط الكفيل يف اجلاهلية األخرى إبنقاذ األمة واالنتقال هبا وانتشاهلا من هذه احلالة؛ حىت متتلك‪ -‬من‬
‫جديد‪ -‬رؤيةً صحيحة‪ ،‬رؤية يف واقع حياهتا‪ ،‬يف شئون حياهتا‪ ،‬يف مواقفها‪ ،‬ملعاجلة مشاكلها‪ ،‬إلصالح وضعها‪ ،‬رؤيةً‬
‫صحيحة‪ ،‬رؤيةً إهلية‪ ،‬رؤيةً رابنية من هدى هللا ‹سبحانه وتعاىل› » (‪.)2‬‬
‫ثانيًا‪ :‬خصائص شخصية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ومميزاته الذاتية واألخالقية والقيادية‪ ،‬أي سريته‪،‬‬
‫وأخالقه‪ ،‬وسلوكه‪ ،‬وقيادته‪ ،‬وإدارته وأسلوبه يف نشر الدعوة‪ ،‬وإصراره وحتمله لكل املشاق واآلالم واألذى‪ ،‬ورفضه‬
‫لكل املساومات‪ ،‬وصربه وثباته يف مواقع التحدي؛ فقد كانت هذه املميزات عامل استقطاب وجذب‪ ..‬وكان هلا‬
‫األثر الكبري يف ظهور دعوته وسرعة انتصار وانتشار رسالته‪.‬‬
‫ْب ََلنْ َفضُّوا يم ْن َح ْولي َ‬
‫ك﴾ [آل عمران‪.]159 :‬‬ ‫ت فَظًّا غَليي َ‬
‫ظ الْ َقل ي‬ ‫ت ََلُ ْم َول َْو ُك ْن َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿:‬فَبيما ر ْمحَ ٍة يمن ي‬
‫هللا ليْن َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬

‫(‪ )1‬راجع الصحيح من سرية النيب األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬ج‪ 2‬ص‪ 210‬إىل ‪.236‬‬
‫(‪ )2‬من كلمة السيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1440‬ه ‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ث‬
‫وقد أشار جعفر بن أيب طالب إىل بعض هذه اخلصائص واملميزات يف شخصية الرسول بقوله‪َ ..« :‬ح َّىت بَ َع َ‬
‫هللاُ إِّلَري نَا َر ُس ًوال ِّمنَّا نَ رع ِّر ُ‬
‫ف نَ َسبَهُ َو ِّص ردقَهُ َوأ ََمانَتَهُ َو َع َفافَهُ‪.»..‬‬
‫ثالثًا ‪ :‬احلالة االجتماعية واألخالقية املرتدية‪ :‬اليت كانت سائدة يف اجملتمع العريب آنذاك مما أشران إليه فيما تقدم‪،‬‬
‫فإن هذه األوضاع القاسية اليت كانت هتيمن على األمة‪ ،‬وذلك الضياع الذي كان يسيطر عليها قد هيأ اإلنسان‬
‫اجلاهلي املسحوق نفسيا لقبول احلق والتفاعل معه‪ ،‬وجع له يتطلع إىل الدعوة على أهنا األمل الوحيد الذي يستطيع‬
‫أن خيفف من شقائه وآالمه وينقذه من واقعه املزري واملهني ذاك‪.‬‬
‫راب ًعا ‪ :‬بشائر أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بقرب ظهور نيب يف املنطقة العربية‪ ،‬فإن تلك البشارات قد‬
‫سهلت هي األخرى قبول دعوة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وانتشار رسالته بني الناس من ذوي الفطرة السليمة‬
‫كما تقدم‪.‬‬
‫سا‪ :‬الفراغ العقائدي والسياسي‪ :‬الذي كانت تعيشه املنطقة آنذاك‪.‬‬
‫خام ً‬
‫ساد ًسا‪ :‬صمود أصحابه صلى هللا عليه وآله وسلم وثباهتم يف مواجهة الضغوط النفسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وحتملهم‬
‫اآلالم‪ ،‬وصربهم على التعذيب واجلوع واالضطهاد مبختلف أنواعه‪ ،‬مث اندفاعهم للجهاد والتضحية والشهادة بكل قوة وشجاعة‬
‫وشوق؛ من أجل الدفاع عن العقيدة والرسالة‪ ،‬وطاعتهم املطلقة لرسول هللا‪ ،‬وانض باطهم التام يف إطار قيادته والتكاليف اليت‬
‫ين َم َعهُ أ يَشدَّاءُ َعلَى الْ ُك َّفا ير ُر َمحَاءُ بَ ْي نَ ُه ْم تَ َر ُاه ْم ُرَّك رعا ُس َّج ردا يَ ْب تَ غُو َن‬ ‫كان حيددها هلم‪ .‬قال تعاىل‪ُ ﴿:‬حمَ َّم ٌد رس ُ ي ي‬
‫ول هللا َوالَّذ َ‬ ‫َُ‬
‫اْل ْيْن ييل﴾ [الفتح‪.]29 :‬‬ ‫ك َمثَ لُ ُه ْم يِف الت َّْوَراةي َوَمثَلُ ُه ْم يِف ْي‬ ‫ود ذَلي َ‬ ‫الس ُج ي‬‫وه يه ْم يم ْن أَثَ ير ُّ‬
‫ضوا رَن يسيم ُاهم يِف وج ي‬
‫َ ْ ُُ‬
‫فَ ْ ي ي‬
‫ض رل م َن هللا َوير ْ َ‬

‫منزلته األخالقية صلى هللا عليه وآله وسلم في العهد الجاهلي‬


‫إن الصبغة القرآنية ملواصفات الشخصية املؤمنة بنماذجها املختلفة قد أخذت طريقها للتجسيد العملي يف‬
‫شخصية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫فشخصية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قد مثلت قمة التسلسل ابلنسبة لدرجات الشخصية اإلسالمية‬
‫عظيما يف فكره ووعيه‪ ،‬قمة يف عبادته وتعلقه بربه‬
‫اليت توجد عادة يف دنيا اإلسالم؛ فكان صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫مجيعا‪ ،‬مثاليًا يف حسم املوقف والصدق يف املواطن ومواجهة احملن؛‬
‫ائدا يف أساليب تعامله مع أسرته والناس ً‬
‫األعلى‪ ،‬ر ً‬
‫فما من فضيلة إال ورسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم سابق إليها‪ ،‬وما من مكرمة إال وهو متقلد هلا‪.‬‬
‫ومهما قيل من ثناء على أخالقياته السامية قدميًا وحديثًا فإن ثناء هللا تعاىل عليه يف كتابه العزيز يظل أدق تعبري‪،‬‬
‫وأصدق وصف ملواصفات شخصيته العظيمة‪.‬‬
‫ك ل ََعلَى ُخلُ ٍق َع يظ ٍيم﴾ [القلم‪ ]4 :‬عجز كل قلم وكل تصور وبيان عن حتديد عظمته‪ ،‬فهو شهادة‬
‫فقول هللا تعاىل‪َ ﴿:‬وإينَّ َ‬
‫من هللا سبحانه وتعاىل على عظمة أخالق الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ومسو سجاايه‪ ،‬وعلو شأنه من مضمار‬
‫التعامل مع ربه ونفسه وجمتمعه؛ بناء على أن األخالق مفهوم شامل جلميع مظاهر السلوك اإلنساين‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫وقبل أن يتحد ث القرآن عن عظمة أخالقه فقد نطق الكفار واملشركون هبذه احلقيقة والنيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم مل يبعث بعد‪ ،‬فاتصاف النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابخللق العظيم مل يكن وليد الفرتة اليت بُعث فيها‪ ،‬أو من‬
‫إفرازات تلك املرحلة متشيا مع أمهية الدور امللقى على عاتقه‪ ،‬ال بل التاريخ يذكر أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫كان ذا منزلة أخالقية عظيمة يف العهد اجلاهلي‪ ،‬وكان حمل إعجاب وتقدير قومه وجمتمعه‪ ،‬بل ومضرب املثل يف ذلك‪،‬‬
‫وقد شهد الكفار أنفسهم لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بصدق اللهجة واألمانة والعفاف ونزاهة الذات‪.‬‬
‫فقد روي أن األخنس بن شريق لقي أاب جهل يوم بدر فقال له‪ :‬اي أاب احلكم ليس هنا غريي وغريك يسمع كالمنا‬
‫حممدا لصادق وما كذب قط‪.‬‬
‫ختربين عن حممد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل‪ :‬وهللا إن ً‬
‫غالما حداث أرضاكم فيكم‪ ،‬وأصدقكم حديثا‪ ،‬وأعظمكم‬
‫وقال النضر بن احلارث لقريش‪ :‬قد كان حممد فيكم ً‬
‫أمانة‪ ،‬حىت إذا رأيتم يف صدغيه الشيب‪ ،‬وجاءكم مبا جاءكم به قلتم ساحر! ال وهللا ما هو بساحر‪.‬‬
‫وملا بَعث رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إىل قيصر يدعوه إىل اإلسالم أحضر قيصر أاب سفيان وسأله بعض‬
‫األسئلة مستفسرا عن النيب ومما سأله قال‪ :‬فهل كنتم تتهمونه ابلكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال فقلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫عقال وال رأاي قط‪.‬‬
‫فهل يغدر؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬كيف عقله ورأيه؟ قلت‪ :‬مل نعب له ً‬
‫وروى الطربي‪ :‬كانت قريش تسمي رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي (األمني)‪.‬‬
‫وروي عن أيب طالب ‹رضوان هللا عليه› يف حديث عن سرية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف اجلاهلية قال‪ :‬لقد‬
‫كنت أمسع منه إذا ذهب من الليل كالما يعجبين‪ ،‬وكنا ال نسمي على الطعام والشراب حىت مسعته يقول‪ :‬بسم هللا‬
‫كثريا‪ ،‬فتعجبت منه‪ ،‬وكنت رمبا أتيت غفلة فأرى من لدن رأسه‬
‫األحد‪ ،‬مث َيكل فإذا فرغ من طعامه قال‪ :‬احلمد هلل ً‬
‫حمدودا قد بلغ السماء‪ ،‬مل أر منه كذبة قط‪ ،‬وال جاهلية قط‪ ،‬وال رأيته يضحك يف غري موضع الضحك‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫نورا‬
‫ً‬
‫وقف مع صبيان يف لعب‪ ،‬وال التفت إليهم‪ ،‬وكانت الوحدة أحب إليه والتواضع‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫(‪ )3‬النبي األعظم‪ ..‬األسرة واملولد والنشأة‬

‫من أسرة الطهر والشرف جاء محمد المصطفى‬


‫يعود نسب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إىل هاشم بن عبد مناف الذي تنتسب إليه أشرف أسرة يف مكة هي‬
‫أسرة بين هاشم‪ .‬فهو حممد بن عبد هللا بن عبد املطلب بن هاشم بن عبد مناف‪ ،‬املنحدر من ذرية إمساعيل بن‬
‫إبراهيم ‹عليهما السالم›‪.‬‬
‫يقول السيد عبد امللك وهو يتحدث عن هذا اجلانب‪« :‬يف وسط قريش كانت أسرة بين هاشم؛ أجداد رسول‬
‫مثال‪ :‬عبداملطلب ُّ‬
‫جد رسول هللا صلى هللا‬ ‫أيضا خمتلفني‪ً ،‬‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وبيته الذي ولد منه؛ كانوا ً‬
‫موحدين‪ ،‬ومل يكونوا على الشرك‬
‫ف عنهم أهنم كانوا على حنيفية إبراهيم ر‬ ‫أيضا‪ -‬عُ ِّر َ‬
‫عليه وآله وسلم كما هاشم‪ً -‬‬
‫مثلما كان عليه حال قومهم‪ ،‬وأيضا أسرة مت ِّ‬
‫َّس َمة ابلشرف والطهارة والبعد عن املفاسد األخالقية‪ ،‬والصيانة من‬ ‫ً‬
‫املفاسد األخالقية‪ ،‬هذا شيءٌ عُ ِّرفُوا به حىت يف الوسط العريب‪ -‬آنذاك‪ -‬أهنم أسرة تتنزه عن املفاسد األخالقية‪ ،‬وأسرة‬
‫نسل طاهر ال يتلوث‪ ،‬نسل‬‫طاهرا من ٍّ‬‫تصون نفسها من هذه‪ ،‬وهذا حلفظ هللا هلذا الشرف‪ ،‬حىت َيِت هذا املولود ً‬
‫طاهر يصل به نسبه إىل إمساعيل عليه السالم ‪ ،‬إىل إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬من ذرية إبراهيم‪ ،‬من ذرية إمساعيل‪ ،‬من‬
‫دون أي دنس أخالقي‪ ،‬أو مفاسد أخالقية تنحرف هبذا النسل املبارك‪.‬‬
‫فرسول هللا كان ح ًقا من نسل إمساعيل كما قال‪َ « :‬ما َولَ َدتْ يّن بَغي ٌّي قَط» يعين‪ :‬طول نسل إمساعيل من لدن نيب‬
‫طهره هللا من هذه الرذيلة وهذه املفاسد‪،‬‬ ‫هللا حممد ‹صلوات هللا وسالمه عليه وعلى آله› إىل إمساعيل عليه السالم َّ‬
‫وأسرة هي الصفوة داخل جمتمع قريش‪ ،‬فكان احلال كما ورد عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فيما روته‬
‫اصطََفى يمن و ي‬
‫لد‬ ‫ي‬
‫يم إي ْْسْاعيل‪َ ،‬و ْ‬
‫ي يي ي‬ ‫مذاهب األمة وحم ردثو األمة يف أهم مصادرها‪َّ « :‬‬
‫ْ َ‬ ‫اصطََفى م ْن َولد إبْ َراه َ‬
‫إن هللاَ ْ‬
‫اشم» ‪-‬إىل‬ ‫اصطََف ياِن يمن ب يّن َه ي‬
‫اشم‪َ ،‬و ْ‬ ‫اصطََفى يمن قُريش ب يّن َه ي‬
‫ش رًا‪َ ،‬و ْ‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬
‫إَ ْْسَاعيل كينَانَة‪َ ،‬و ْ‬
‫َْْ‬ ‫ْ َْ َ ْ‬ ‫اصطََفى م ْن كنَانَةَ قُ َريْ َ‬
‫مشوها برصيد وحميط سيئ‬ ‫رسوال ً‬ ‫قوله‪ -‬وهذا تكرمي للبشر‪َ ،‬يِت إليهم برسول من بيئة طاهرة ونقيرة وسليمة‪ ،‬ليس ً‬
‫مقبوال» (‪.)1‬‬
‫وفاسد‪ ،‬وإال مل يكن ً‬

‫حادثة الفيل وإرهاصات مولد النور‬


‫« يف ظل ذروة تلك األوضاع يف ما هي عليه من مشاكل وأزمات وفنت وجاهلية وظلمات أتت حادثة امسها‬
‫عام ِّمسري بعام الفيل‪ ،‬عام الفيل هذا اجتهت فيه قوة عسكرية جبَّارة‪ ،‬بقيادة أبرهة احلبشي‪ ،‬وأبرهة‬
‫(حادثة الفيل)‪ ،‬يف ٍّ‬
‫هذا من احلبشة‪ ،‬وله جيش كان من احلبشة ومن مرتزقة العرب‪ ،‬سواءً من اليمن أو من غري اليمن (من اجلزيرة)‪،‬‬
‫دف آخر رئيسي يغفل عنه الكثري من أصحاب السري واملؤرخني‪ ،‬اهلدف‬ ‫جيش ضخم اجته هبدف هدم الكعبة‪ ،‬وهب ٍّ‬

‫(‪ )1‬من احملاضرة الرابعة مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫نيب جديد يغري وجه هذا العامل‪ ،‬ويسقط‬ ‫اآلخر هو‪ :‬ما قد أُثِّر من بشارات وأخبار عن زمن أو عن ٍّ‬
‫عام يولد فيه ٌّ‬
‫ويغري هذا الواقع بكله‪ ،‬على أساس‬
‫الكياانت القائمة للطاغوت واالستكبار والفساد والظلم واالحنراف‪ ،‬نيب سيقدم ر‬
‫أن املؤشرات واألخبار تدل على مولده يف ذلك العام‪.‬‬
‫وفعال كان العام نفسه عام مولد رسول هللا ‹صلوات هللا وسالمه عليه وعلى آله›‪ ،‬فذهب وكان معه فيل كبري‪،‬‬
‫ً‬
‫أو جمموعة من الفيلة‪ -‬كما يف بعض األخبار‪ -‬بينها فيل كبري‪ ،‬والفيل كان يستخدم عسكرًاي لدى بعض الدول‪-‬‬
‫جدا من الفيل‪ ،‬ينهزمون عسكرًاي‪،‬‬
‫آنذاك‪ -‬والكياانت املتمكنة‪ ،‬كما هو حال الروم والفرس‪ ،‬والعرب كانوا خيافون ً‬
‫عتادا عسكرًاي غري مألوف ابلنسبة هلم؛ فيخافون منه‪ ،‬وينهزمون بسرعة‪ ،‬وال تثبت أمامه اخليول‪،‬‬
‫يعين‪ :‬يرون فيه ً‬
‫وفعال مع العظمة اليت كانت للكعبة والتقديس الذي كان للبيت احلرام‪،‬‬
‫فاجته عسكرًاي ومعه الفيل هذا واألفيال تلك‪ً ،‬‬
‫لكن الفجيعة من الفيل جعلت العرب كلهم يتنصلون عن محاية البيت‪ ،‬وعن التصدي ألصحاب الفيل‪ ،‬وغفلتهم‬
‫عن اهلدف الرئيسي للحملة العسكرية تلك‪ ،‬اليت هي محلة كما كانت محلة فرعون لالستباق لوالدة موسى بقتل كل‬
‫األطفال‪ ،‬ذهبت تلك احلملة وفشلت؛ ألن هللا ‹سبحانه وتعاىل› تصدى هلا‪ ،‬وكان التصدي اإلهلي من خالل الطري‬
‫أيضا‪ -‬من أكرب وأهم إرهاصات هذا املولد القادم الذي‬
‫األاببيل اليت أرسلها هللا إلابدة ذلك اجليش‪ ،‬كانت هي‪ً -‬‬
‫يوما يف بعض األخبار‪ ،‬البعض أكثر‪ ،‬البعض أقل‪ ،‬لكن يف نفس ذلك العام ولد رسول‬
‫ولد بعد أايم‪ ،‬بعد أربعني ً‬
‫آله›»‪)1(.‬‬ ‫هللا ‹صلوات هللا وسالمه عليه وعلى‬

‫المولد والنشأة‬
‫ولدته أمه آمنة بنت وهب يف مكة املكرمة يف منزل أبيه عبد هللا بن عبد املطلب يف شعب أيب طالب يوم اإلثنني‬
‫يف الثاين عشر من شهر ربيع األول يف عام الفيل املوافق لسنة ‪ 571‬للميالد(‪.)2‬‬
‫نضج عجيب‪،‬‬‫أيضا‪ -‬ذا ٍّ‬
‫نباات حسنًا‪ ،‬ونشأ ًة متميزة‪ ،‬فكان سريع النمو‪ ،‬وكان‪ً -‬‬‫«نشأ نشأةً مباركة‪ ،‬أنبته هللا ً‬
‫كان ينشأ‪ ،‬يكرب ويكرب معه رشده‪ ،‬فهمه‪ ،‬متييزه‪ ،‬حسن إدراكه‪ ،‬أدبه‪ ،‬وكان ملفتًا فيه هذه النشأة املتميزة من حيث‬
‫بنضج كبري وعجيب يف اإلدراك‪ ،‬يف‬
‫النمو السليم واملبارك‪ ،‬بركة يف منوه‪ ،‬يكرب‪ ،‬وينشأ نشأة مميزة‪ ،‬ويف نفس الوقت ٍّ‬
‫الفهم‪ ،‬يف حسن التصرف‪ ،‬ومل يكن حاله كحال بقية الصبيان يف عبثهم‪ ،‬يف هلوهم‪ ،‬يف نقص اجلانب األخالقي‬
‫متميزا‪ ،‬كان ملحوظًا فيه احلرص على الطهارة‪ ،‬احلرص على صيانة‬
‫مثال يف التعري أو يف أي شيء‪ ..‬ال‪ ،‬كان ً‬
‫لديهم ً‬
‫النفس‪ ،‬البعد عن بعض األشياء اليت تنم عن قلة األدب‪ ،‬وعن ضعف اإلدراك لدى الصغار والصبيان‪ ،‬كان خمتل ًفا‬

‫(‪ )1‬احملاضرة الرابعة للسيد عبد امللك حفظه هللا مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫(‪ )2‬املشهور أنه ولد سنة‪ 570‬م‪ ،‬وهناك اختالف يف اليوم والشهر ال يتعلق به أمر شرعي‪ .‬ينظر سرية النيب جلعفر العاملي ‪،64/2‬‬
‫والسرية للسبحاين ‪ ،190‬وفقه السرية للغزايل ‪ .60‬قال يف البحر الزخار ‪ :206/1‬عام الفيل لليلتني خلتا منه يوم اإلثنني‪،‬‬
‫يوما‪ ،‬وينظر‪ :‬اتريخ اإلسالم ‪ ،22/1‬واملستدرك ‪ ،603/2‬ودالئل النبوة للبيهقي‬ ‫يوما أو أربعني ً‬‫وقيل‪ :‬بعد الفيل بثالثني ً‬
‫‪ ،76/1‬وعيون األثر ‪ ،79/1‬وسرية ابن هشام ‪ ،167/1‬وابن كثري ‪ ،198/1‬وطبقات ابن سعد ‪ ،83-80/1‬واملصابيح‬
‫ص ‪.96‬‬
‫‪18‬‬
‫عال ور ٍّاق‪ ،‬وأنه حمفوف من هللا بتنشئة خاصة‪ ،‬ولديه‬
‫أدب ٍّ‬
‫عن كل الصبيان وعن كل الصغار‪ ،‬نشأة مميزة وتنم عن ٍّ‬
‫‹جل شأنه› قابلية عالية‪.‬‬
‫يف نفسه قابلية أودعها هللا فيه ر‬
‫فطيما أعظم‬
‫مهم وعظيم‪ ،‬قال‪« :‬ولقد قرن هللا به من لدن أن كان ر‬ ‫نص ٍّ‬
‫اإلمام علي عليه السالم حيكي لنا يف ٍّ‬
‫ٍ‬
‫ملك من ملئكته‪ ،‬يسلك به طريق املكارم وحماسن أخلق العاَل ليله وهناره»‪ ،‬فاهلل ‹سبحانه وتعاىل› مل يرتكه ليكون‬
‫صنيعة البيئة اجلاهلية اليت قد تؤثر سلبًا يف اإلنسان‪ ،‬أو‪ -‬كذلك‪ -‬أن يكله إىل تربية الناس بكل ما فيها من القصور‬
‫جدا‪ ،‬جتاه مستوى من املطلوب أن يصل إليه هذا القادم‪،‬‬ ‫جتاه دور ومستقبل كبري وعظيم‪ ،‬جتاه مسؤولية كبرية وعظيمة ً‬
‫ل يكون هو يف الذروة بني كل البشر‪ ،‬يبلغ إىل حيث مل يبلغ إليه بشر ومل يصل إليه بشر من الكمال اإلنساين‪ ،‬فالرسول‬
‫حظي هبذه الرعاية اإلهلية فنشأ نشأةً مباركة وأنبته هللا نبا ًات حسنًا‪ ،‬يف مرحلة الشباب‪ ،‬يف بداية‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم َ‬
‫متميزا‪ ،‬ومل يتأثر بكل تلك البيئة اجلاهلية يف مكة ويف غري مكة‪ ،‬فلم يسجد ٍّ‬
‫لصنم قط‪ ،‬ومل يدنس‬ ‫الشباب كذلك كان ً‬
‫( ‪)1‬‬ ‫نفسه ٍّ‬
‫أبي من دنس اجلاهلية»‪.‬‬

‫كفالته ورضاعه‪:‬‬
‫أرضعته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف ملدة سبعة أشهر‪ ،‬وعاش يف كنفها وحظي بعطفها وحناهنا ورعايتها‬
‫مدة من الزمن‪ ،‬وتوفيت وعمره ست سنوات على أشهر الرواايت‪ ،‬توفيت ابألبواء بني مكة واملدينة‪ ،‬وكانت قدمت‬
‫به على أخواله من بين عدي بن النجار فماتت وهي راجعة به إىل مكة(‪ .)2‬كما أرضعته حليمة السعدية بنت أيب‬
‫ذؤيب من بين سعد‪.‬‬
‫أيضا‪ٍّ -‬‬
‫بدور كبري يف العناية به يف مرحلة طفولته املبكرة فاطمة بنت أسد (زوجة أيب طالب)‪ ،‬قال‬ ‫«وقامت‪ً -‬‬
‫عنها صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إهنا كأمي‪ ،‬أو إهنا أمي» كان يعتربها كأمه فيما أولته من عناية ورعاية واهتمام‬
‫يف طفولته» (‪.)3‬‬

‫النبي في كفالة جده‪:‬‬


‫بعد أن فقد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أمه وأصبح بذلك يتيم األبوين‪ ،‬عاش يف كفالة جده عبد املطلب‬
‫طعاما إال إذا حضر‪ ،‬وكان يفضله على سائر أبنائه‪.‬‬
‫الذي كان يرعاه خري رعاية‪ ،‬وال َيكل ً‬
‫ويبدو أن عبد املطلب كان عارفا بنبوة حممد وما سيكون من أمره وشأنه من خالل أمرين‪:‬‬

‫(‪ )1‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر ابن هشام ‪ ،177/1‬والبداية والنهاية ‪ ،340/2‬والطبقات الكربى ‪ ،116/1‬واالستيعاب ‪ ،136/1‬والسرية البن كثري‬
‫‪ .235/1‬واألبواء‪ :‬قرية بينها وبني اجلحفة مما يلي املدينة ثالثة وعشرون ميال‪ .‬معجم البلدان ‪.79/1‬‬
‫(‪ )3‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫أو ًل‪ :‬من الصفات واملالمح اليت كانت تظهر على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم والربكات واألحداث اليت‬
‫َّ‬
‫رافقته منذ والدته‪.‬‬
‫وثانيًا‪ :‬من البشائر واألخبار اليت كانت تنبئ مبستقبله ونبوته‪.‬‬
‫إن هذا النوع من املؤشرات والدالئل رسخت يف نفس عبد املطلب االعتقاد بنبوة حفيده‪ ،‬أو أنه سيكون له شأن‬
‫عظيم ودور مهم‪ ،‬فجعلت له صلى هللا عليه وآله وسلم مكانة خاصة عنده حبيث كان يعطيه من احلب والعطف‬
‫واحلنان واالهتمام ما مل يعطه ألحد غريه‪ « ،‬كان يدنيه ويقربه ويكرمه لدرجة ملفتة‪ ،‬كان َيِت رسول هللا يف طفولته‬
‫املبكرة إىل جده عبد املطلب وهو بفناء الكعبة‪ ،‬وقد فرش له هناك وكان ال يفرش لغريه‪ ،‬لكن لشأنه ومكانته الكبرية‪،‬‬
‫لشأان» يتوسم‬
‫فيأِت ليجلس مباشرةً جبواره أو يف حضنه‪ ،‬فيذهب أعمامه ليأخذوه‪ ،‬فيقول‪« :‬دعوا ابين فو هللا إن له ً‬
‫عظيما‪ ،‬كذلك رويت أخبار ورؤاي كان يراها عبد املطلب يف منامه تبشر هبذا الدور الكبري والعظيم‬
‫شأان ً‬‫فيه أن له ً‬
‫هلذا الطفل الناشئ» (‪. )1‬‬
‫إال أن هذا احلنان الدافق وهذه الرعاية الكرمية مل تدم له صلى هللا عليه وآله وسلم طويال؛ فقد تويف عبد املطلب‬
‫والنيب يف الثامنة من عمره‪ ،‬فانتقل بعده إىل دار عمه أيب طالب(‪.)2‬‬

‫النبي في رعاية أبي طالب‪:‬‬


‫قبل أن توايف املنية عبد املطلب كان قد مجع أوالده العشرة وأوصاهم مبحمد صلى هللا عليه وآله وسلم ول رمح هلم مبا‬
‫سيكون من شأنه يف املستقبل‪ ،‬ومما قاله هلم‪ :‬إين قد خلفت لكم الشرف العظيم الذي تطؤون به رقاب الناس‪ .‬على حد‬
‫تعبري املؤرخ اليعقويب(‪.)3‬‬
‫حممدا بعده ويقوم برعايته‪ ،‬وذلك لسببني‪:‬‬
‫وقد اختار عبد املطلب من بني أبنائه أاب طالب ليكون هو من يكفل ً‬
‫أخا لوالد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم من أمه‪ ،‬فإن أمهما هي فاطمة بنت (عمرو‬
‫األول‪ :‬إن أاب طالب كان ً‬
‫حناان وعط ًفا وحبًا البن أخيه من أبيه وأمه من بقية إخوانه‪:‬‬
‫بن) عائذ املخزومي‪ ،‬وطبيعي أن يكون أبو طالب أكثر ً‬
‫كاحلارث‪ ،‬والعباس‪ ،‬وغريمها الذين كانوا من أمهات شىت‪.‬‬
‫قدرا‪ ،‬وقد ورث زعامة أبيه‬
‫الثاني‪ :‬إن أاب طالب كان أنبل إخوته وأكرمهم وأعظمهم مكانة يف قريش‪ ،‬وأجلهم ً‬
‫عبد املطلب‪ ،‬وخضع لزعامته القريب والبعيد ابلرغم من فقره‪.‬‬

‫(‪ )1‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫(‪ )2‬اتريخ اليعقويب ‪ -13/2‬دار صادر‪.‬‬
‫(‪ )3‬ابن هشام ‪ ،189/1‬والطبقات البن سعد ‪ ،119/1‬و الآليل املضيئة‪ -‬خمطوط ص‪ ،60‬و املصابيح أليب العباس ص ‪،117‬‬
‫والسرية البن كثري ‪.240/1‬‬
‫‪20‬‬
‫وقد قام أبو طالب برعاية النيب خري رعاية‪ ،‬وأدى األمانة وحفظ الوصية وبقي حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫شغله الشاغل الذي شغله هو وزوجته فاطمة بنت أسد حىت عن أوالدمها يف أشد املراحل ضي ًقا وحرجا حىت النفس‬
‫األخري من حياهتما‪.‬‬
‫ومل يكن يعين أاب طالب شيء كما تعنيه رعاية النيب حممد صلى هللا عليه وآله وسلم واحملافظة عليه‪ ،‬وقد بلغ من‬
‫عنايته به وحرصه عليه أنه كان إذا اضطر إىل السفر خلارج مكة أو احلجاز أخرجه معه‪.‬‬
‫ظروف هيأها هللا‪ ،‬من هللا ‹سبحانه‬
‫ٌ‬ ‫«رسول هللا نشأ يف هذا اجلو من الرعاية ومن االهتمام ومن العناية‪ ،‬وهذه‬
‫وتعاىل› أن يهيئ له هذا اجلو‪ ،‬وأن حيفه أبولئك الذين أولوه كل هذه الرعاية واالهتمام واحلنو والعاطفة‪ ،‬وعوضوه‬
‫عن فقدان أبيه وأمه يف يتمه‪ ،‬فكانت رعايةً من هللا‪ ،‬ورمحةً من هللا‪ ،‬ونعمةً من هللا‪ ،‬وهتيئةً إهلية من هللا ‹سبحانه‬
‫وتعاىل› »(‪.)1‬‬

‫السفر إلـى الشام‪:‬‬

‫حتدث املؤرخون عن رحلتني إىل الشام‪ :‬إحدامها‪ :‬بصحبة عمه‪ ،‬واألخرى‪ :‬بصحبة غالم خلدجية يف جتارة‪.‬‬
‫‪ )1‬في الرحلة األولى ‪ :‬كان عمر النيب اثنيت عشرة سنة‪ ،‬وكان مع عمه أيب طالب ضمن قافلة جتارية‬
‫لقريش‪ ،‬ويف الطريق توقفت القافلة يف منطقة تسمى بُصرى‪ ،‬وكان فيها راهب يدعى حبريا‪ ،‬قال يف أنوار اليقني‪:‬‬
‫« وكان آخر من بقي من مجلة احلجة يف أهل دين النصرانية رجالن‪ :‬حبريا بن عبد امللكوت راهب بُصرى الشام‪،‬‬
‫وهو الذي ورد عليه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مع عمه أيب طالب ورسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫غالم مل يبلغ احللم» (‪.)2‬‬
‫وقد اتفق أن التقى الراهب قافلة قريش ولفتت نظره شخصية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وراح يتأمل وحيدق‬
‫حممدا صلى هللا عليه وآله وسلم أينما جلس‬
‫يف صفاته ومالحمه‪ ،‬خاصة بعد ما رأى أن سحابة من الغيم ترافق ً‬
‫لتحميه من حر الشمس؛ فسأل عنه بعض من يف القافلة‪ ،‬فأشاروا إىل أيب طالب وقالوا له‪ :‬هذا عمه‪ ،‬فأتى الراهب‬
‫أاب طالب وبشره أبن ابن أخيه نيب هذه األمة وأخربه مبا سيكون من أمره‪ ،‬ووجد فيه العالمات اليت وصفته هبا التوراة‬
‫واإلجنيل وغريها‪.‬‬
‫وتذكر النصوص أن حبريا أصر على أيب طالب أبن يعود به إىل مكة وأن يبقيه حتت رقابته خوفا عليه من اليهود‬
‫وغريهم‪ ،‬فقطع أبو طالب رحلته ورجع به إىل مكة(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أنوار اليقني لإلمام املنصور ابهلل احلسن بن بدر الدين ‹عليه السالم› ‪.472/1‬‬
‫(‪ )3‬ابن هشام ‪ ،191/1‬وابن سعد ‪ ،121/1‬واتريخ الطربي ‪ ،277/2‬والسرية احللبية ‪ ،117/1‬والبداية والنهاية ‪،349/2‬‬
‫والسرية البن كثري ‪ ،243/1‬والدالئل أليب نعيم ‪ ،168/1‬وعيون األثر ‪.106-105/1‬‬
‫‪21‬‬
‫مخسا وعشرين سنة‪ ،‬ويقول املؤرخون‪ :‬إن سفره هذا‬
‫ويف الرحلة الثانية‪ :‬كان عمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫كان يف جتارة خلدجية بنت خويلد قبل أن يتزوج هبا‪ ،‬وإن أاب طالب هو الذي أشار عليه العمل ابلتجارة مع خدجية؛‬
‫بسبب الوضع املادي الصعب الذي كان يعيشه آنذاك‪.‬‬
‫أجريا ألحد قط‪،‬‬
‫أجريا هلا؛ إذ مل يكن صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫فدخل مع خدجية يف شراكة جتارية‪ ،‬ومل يكن ً‬
‫وسافر برفقة ميسرة‪ -‬وهو موظف لدى خدجية‪ -‬وربح يف جتارته أضعاف ما كان يرحبه غريه‪.‬‬
‫بقي النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف رعاية عمه أيب طالب حىت كرب وبلغ اخلامسة والعشرين من عمره فتزوج‬
‫خبدجية بنت خويلد‪.‬‬

‫الزواج من خديجة‪:‬‬
‫يذكر املؤرخون أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم تزوج خبدجية بنت خويلد‪ ،‬زوجته األوىل بعد عودته من رحلته‬
‫الثانية إىل الشام‪ ،‬وكان قد بلغ اخلامسة والعشرين من عمره الشريف‪.‬‬
‫أوال وأبدت رغبتها يف الزواج من حممد صلى هللا‬
‫ونكاد نقطع بسبب كثرة النصوص أن خدجية هي اليت ابدرت ً‬
‫عليه وآله وسلم بعدما رأت فيه من الصفات النبيلة ما مل تره يف غريه‪.‬‬
‫ويرجح كثري من املؤرخني أن يكون عمر خدجية حني زواج النيب هبا ما بني اخلامسة والعشرين إىل السابعة والعشرين‬
‫حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‬ ‫(‪)1‬‬
‫أحب رسول هللا ر‬ ‫عاما وليس أكثر من ذلك ‪ .‬ومل يتزوج غريها إال بعد وفاهتا؛ لقد ر‬ ‫ً‬
‫خدجية (رضوان هللا عليها) وأحبته‪ ،‬وأخلص هلا وأخلصت له‪ ،‬فلم يكن يرى يف الدُّنيا ِّمن النرِّساء من تُ ِّ‬
‫عادل خدجية‪ :‬فهي‬ ‫َر‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫رأول َم رن آمنت برسالته‪ ،‬وص ردقت دعوته‪ ،‬وبذلت ماهلا وثروهتا الطائلة يف سبيل هللا تعاىل‪ ،‬ومن أجل نشر الدعوة‬
‫فتحملت مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عذاب قريش ومقاطعتها وحصارها‪ .‬وكان هذا اإلخالص‬‫اإلسالمية؛ ر‬
‫احلب واإلخالص‬
‫احلب املخلص من خدجية حرًّاي أبن يقابله الرسول الكرمي مبا يستحق من ر‬
‫الفريد‪ ،‬واإلميان الصادق‪ ،‬و ر‬
‫احلب والوفاء مل يفارق رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫والتكرمي‪ ،‬وبلغ من حبره هلا‪ ،‬وعظيم مكانتها يف نفسه الطاهرة‪ ،‬أ رن هذا ر‬
‫حتتل مكانتها يف نفسه؛ فقد روى أبو العباس احلسين يف كتاب‬
‫حىت بعد موهتا‪ ،‬ومل تستطع أي من زوجاته أن ر‬ ‫وآله وسلم ر‬

‫(‪ )1‬اختلف يف عُ رم ِّر خدجية بني ‪ 25‬و‪ 28‬و ‪ 30‬و‪ 35‬و ‪ 40‬و‪ ،45‬ورجح البيهقي‪ ،‬وابن كثري أن النيب تزوجها وعمرها ‪.25‬‬
‫ينظر دالئل النبوة للبيهقي ‪ ،71/2‬والسرية النبوية البن كثري ‪ ،265/1‬والبداية والنهاية ‪ ،359/3‬والسرية احللبية ‪،140/1‬‬
‫وأنساب األشراف ‪ ،112/1‬وسري أعالم النبالء ‪ .111/2‬فالبيهقي وابن كثري يف البداية والنهاية رجحا أن عمر خدجية حني‬
‫موت خدجية وعُ رم ُرها مخسون سنة هو األصح؛ فالنيب صلى هللا عليه‬
‫تزوجها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم (‪ )25‬سنة‪ ،‬و راعتَََربا َ‬
‫وآله وسلم تزوجها وعمرها ‪ ،25‬وظلت معه قبل البعثة ‪ 15‬سنة‪ ،‬و بعدها ‪ 10‬سنوات‪ ،‬فاجلملة ‪ ،50‬وروى احلاكم يف‬
‫املستدرك ‪ 182/3‬من حديث‪ :‬كان هلا يوم تزوجها مثان وعشرون سنة؛ لذا راعتَََرب قول من قال‪ :‬إن خدجية توفيت وعمرها‬
‫(‪ ) 65‬سنة شاذا‪ ،‬وقال‪ :‬وهذا عندي شاذ؛ ألهنا مل تبلغ ستني سنة‪ ،‬وذكر الذهيب يف سري أعالم النبالء ‪ ،111/2‬عن ابن‬
‫عباس أن النيب تزوجها بنت مثان وعشرين سنة‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫املصابيح يف السرية عن أنس قال‪ :‬كان رسول هلل صلى هللا عليه وآله وسلم إذا أهدي إليه هدية قال‪« :‬اذهبوا هبا إىل‬
‫بيت فلنة‪ ،‬فإهنا كانت صديقة خلدجية‪ ،‬اذهبوا هبا إىل فلنة فإهنا كانت َتب خدجية»(‪.)1‬‬
‫وكانت رضوان هللا عليها أفضل نسائه بل إحدى أفضل نساء العاملني ففي املصابيح أيضا عن قتادة عن أنس‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا‪ « :‬حسبك من نساء العاملي ِبربع‪ :‬مرمي بنت عمران‪ ،‬وآسية بنت مزاحم‪ ،‬وخدجية بنت‬
‫خويلد‪ ،‬وفاطمة بنت حممد‪.)2( »..‬‬
‫ال َر ُس رو ُل هللاِّ صلى‬
‫ال‪ :‬قَ َ‬
‫ب‪ ،‬قَ َ‬ ‫فع رن َعرب ِّد هللا بر ِّن َج رع َف ِّر بر ِّن أَِّيب طَالِّ ٍّ‬
‫كما بشرها صلى هللا عليه وآله وسلم ابجلنة َ‬
‫ب»(‪.)3‬‬ ‫ب‪َ ،‬لَ ص َخ ي ي‬ ‫صٍ‬ ‫شر َخ يد ْجيةَ بيب ي ٍ ي‬
‫ي‬ ‫هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أ يُم ْر ُ‬
‫صٌ‬ ‫ب ف ْيه َوَلَ نَ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ت م ْن قَ َ‬ ‫ت أَ ْن أُبَ ِ َ َ َ ْ‬

‫(‪ )1‬املصابيح أليب العباس احلسين ص ‪ 218‬رقم ‪ ،88‬وأمايل أيب طالب ص‪ ،40‬واألمايل االثنينية ‪ ،204‬ويف البخاري رقم‬
‫‪ ،3607‬ومسلم ‪.2435‬‬
‫(‪ )2‬املصابيح أليب العباس احلسين ص ‪ 218‬رقم ‪ 89‬الرتمذي ‪ 660/5‬رقم ‪ 3878‬وقال‪ :‬صحيح‪ ،‬وذخائر العقىب ص ‪،43‬‬
‫والطرباين يف الكبري ‪ 402/22‬رقم ‪ ،1003‬واألوسط ‪ ،54/7‬واملستدرك ‪158/3‬ووافقه الذهيب‪ ،‬ومصنف عبدالرزاق‬
‫‪ 430/11‬رقم ‪ ،20919‬وابن أىب شيبة ‪ 391/6‬رقم ‪ ،32291‬ومسند أمحد ‪ 273/4‬رقم ‪ ،12394‬وأبو يعلى ‪380/5‬‬
‫رقم ‪ ،3039‬وابن حبان ‪ 401/15‬رقم ‪.6951‬‬
‫القصب‪ :‬اجلوهر‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫( ) البخاري رقم ‪ ،3609/3605‬ومسلم رقم ‪ 2435/2432‬فضائل خدجية‪ .‬و ُ‬
‫‪23‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫عالقته صلى هللا عليه وآله وسلم بربه ‪1-‬‬

‫صالته صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬

‫نظرا ملا حتتله الصالة من مكانة عظمى يف اإلسالم؛ فقد كان اهتمام رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم هبا‬
‫ً‬
‫وتعاهده ألمرها منقطع النظري‪.‬‬
‫‪ -‬فقد كان صلى هللا عليه وآله وسلم يصلي الصالة يف أول وقتها وحيث املسلمني على ذلك؛ وعن أيب ذر قال‪:‬‬
‫قلت اي رسول هللا‪ :‬إنك أمرتين ابلصالة فما الصالة؟ فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬خي موضوع فمن‬
‫شاء أقل ومن شاء استكثر» احلديث(‪.)1‬‬
‫‪ -‬وعن عائشة‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حيدثنا وحندثه فإذا حضرت الصالة فكأنه مل يعرفنا ومل‬
‫نعرفه(‪.)2‬‬
‫‪ -‬ولعظيم شوقه للوقوف بني يدي هللا يف الصالة فقد كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ينتظر وقت الصالة‬
‫ويرتقب دخوله‪ ،‬ويقول لبالل مؤذنه‪« :‬أرحنا َّي بلل»(‪.)3‬‬
‫‪ -‬عن احلسني بن علي ‹عليهما السالم› يف حديث عن خضوع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف صالته‬
‫يقول عليه السالم ‪« :‬كان النِب صلى هللا عليه وآله وسلم يبكي حىت يبتل مصله خشية من هللا عز وجل‬
‫من غي جرم» (‪.)4‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬أمايل املرشد ابهلل‪ 260/1‬احلديث العاشر‪ :‬يف الصالة وفضل التهجد وما يتصل بذلك‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخالق النيب لألصبهاين ص‪.251‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أمحد ‪ 39/9‬رقم ‪ ،23149‬وأبو داود ‪ 296/4‬رقم ‪ ،4986‬والطرباين يف الكبري‪ 277/6‬رقم ‪.6215‬‬
‫(‪ )4‬أورده الطباطبائي يف امليزان ‪.309 ،308/6‬‬
‫‪24‬‬
‫(‪ )4‬مكانة النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم قبل البعثة‬

‫حممدا صلى هللا عليه وآله وسلم أصبح يف مطلع شبابه موضع احرتام يف جمتمعه؛ ملا كان‬
‫اتفق املؤرخون على أن ً‬
‫ميتلكه يف شخصيته من وعي وحكمة وإخالص وبُعد نظر‪.‬‬
‫وقد اشتهر بسمو األخالق وكرم النفس‪ ،‬والصدق واألمانة حىت عُرف بني قومه ابلصادق األمني‪ ،‬كما اشتهر‬
‫ومرجعا هلم يف‬
‫ً‬ ‫سيدا من سادات العرب املوهوبني‪،‬‬
‫برجاحة عقله‪ ،‬وصوابية رأيه حىت وجد فيه املكيون والقرشيون ً‬
‫املهمات وحل املشكالت واخلصومات‪.‬‬
‫فقد ذكر املؤرخون أن الناس كانوا يتحاكمون إىل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف اجلاهلية؛ ألنه كان ال يداري‬
‫وال مياري‪.‬‬
‫وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يسهم يف بعض أحداث جمتمعه ويف جتارب قريش السياسية والعسكرية والدينية‪،‬‬
‫وعدال‪ ،‬وقد شارك بشكل فاعل ومؤثر يف حدثني اترخييني حصال قبل البعثة مها‪ :‬حلف‬
‫حيثما رأى يف هذه التجارب ح ًقا ً‬
‫ضول‪ ،‬وجتديد بناء الكعبة‪.‬‬
‫ال ُف ُ‬

‫ضول‬
‫الف ُ‬
‫حلف ُ‬
‫بعد سلسلة من حوادث االعتداء على أموال وأعراض بعض الوافدين إىل مكة يف موسم احلج للزايرة أو التجارة‪-‬‬
‫دعا الزبري بن عبد املطلب إىل إقامة حتالف بني قبائل قريش؛ هبدف مواجهة كل من يعتدي على اآلخرين‪ ،‬ووضع‬
‫حد لغطرسة بعض املكيني الذين كانوا يتعمدون اإلساءة ويقومون ابالعتداء على الزائرين‪.‬‬
‫اجتماعا يف دار عبد هللا بن جدعان‬
‫ً‬ ‫فاستجاب لدعوته بنو هاشم‪ ،‬وبنو عبد املطلب‪ ،‬وبنو أسد‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وعقدوا‬
‫حتالفوا فيه على حماربة الظلم والفساد واالنتصار للمظلوم والدفاع عن احلق‪ ،‬وكان هذا التحالف أشرف حتالف يعقد‬
‫ضول؛ ألن قريشا قالت بعد إبرامه‪ :‬هذا فضول من احللف‪ ،‬وقيل‪ :‬ألن ثالثة ممن‬
‫يف اجلاهلية‪ ،‬وقد مسي حبلف ال ُف ُ‬
‫اشرتكوا فيه كانوا يُعرفون ابسم الفضل‪ ،‬وهم الفضل بن مشاعة‪ ،‬والفضل بن بضاعة‪ ،‬والفضل بن قضاعة‪ ،‬فسمي بذلك‬
‫هؤالء‪)1(.‬‬ ‫تغليبًا ألمساء‬

‫(‪ )1‬وقيل‪ :‬مسي هبذا االسم تشبيها حبلف قدمي مبكة أايم جرهم‪ :‬على التناصف‪ ،‬واألخذ للضعيف من القوي‪ ،‬وقيل‪ :‬مسي حلف‬
‫فضوال ال جيب عليهم‪ .‬وقيل‪ :‬ألهنم حتالفوا أن ترد الفضول على أهلها‪ ،‬وأال يغزو‬
‫الفضول لبذهلم فضول أمواهلم‪ .‬وقيل‪ :‬لتكلفهم ً‬
‫ظاملهم مظلوما‪ .‬لسان العرب ‪.527/11‬‬
‫‪25‬‬
‫تبىن أبو طالب وغريه من القرشيني احللف املذكور‪ ،‬وقد حضره صلى هللا عليه وآله وسلم وشارك فيه‪ ،‬وكان‬
‫يتجاوز العشرين من عمره الشريف‪ ،‬وأثىن عليه بعد نبوته وأمضاه‪ ،‬فقد ُروي أنه قال صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫هللا ب ين ج ْد َعا َن يح ْل رفا ما يس ُّريِن به ُمحْر النَّع يم‪ ،‬ولَو ُد يع ُ ي ي ي‬
‫ي ي‬
‫ت»(‪.)1‬‬ ‫يت إي َىل مثْله َْل َ‬
‫َج ْب ُ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َ َُ‬ ‫ت ِف َدا ير َعْبد ْ ُ‬
‫ض ْر ُ‬
‫«لََق ْد َح َ‬
‫إن نظرة حتليلية بسيطة على هذا احللف تقودان إىل تسجيل األمور التالية‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬إن ثناء النيب صلى هللا عليه وآله وسلم على هذا احللف ومشاركته فيه وإمضاءه له يدل على أن هذا‬
‫َّ‬
‫احللف ينسجم يف أهدافه مع أهداف اإلسالم؛ ألنه قائم على أساس احلق والعدل واخلري‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬إن هذا يؤكد واقعية اإلسالم‪ ،‬وأنه إمنا ينظر إىل مضمون العمل وقيمته وليس إىل شكله وصورته‪ ،‬فاإلسالم‬
‫ال يغرت ابملظاهر‪ ،‬وال ختدعه الشعارات مهما كانت ربراقة إذا كانت ختفي وراءها الوصولية واخليانة والتآمر‪.‬‬
‫ثالثًا ‪ :‬إن اهتمام النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حبلف الفضول إمنا يدل على أن اإلسالم ليس منغلقا على‬
‫نفسه‪ ،‬وإمنا هو يستجيب لكل عمل إجيايب فيه خري اإلنسان‪ ،‬ويشارك فيه على أعلى املستوايت انطالقا من الشعور‬
‫انسجاما مع أهدافه الكربى‪ ،‬ومع املقتضيات الفطرية والعقل السليم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ابملسؤولية‪ ،‬و‬
‫رابعًا ‪ :‬إن موقفه صلى هللا عليه وآله وسلم من هذا احللف ليس إال من أجل حتريك املشاعر وإيقاظ الضمائر‬
‫للتحالف والتكتل يف وجه الظلم والعدوان‪ ،‬والتعاون على اخلري واإلحسان واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر يف كل‬
‫عصر وزمان وخاصة إذا احنرف احلاكم واتبع أهواءه واستغل أموال الناس وخريات البالد والعباد ملصاحله وأطماعه‬
‫الذاتية‪.‬‬

‫تجديد بناء الكعبة‬


‫أول من بىن الكعبة آدم عليه السالم مث اهندم البناء؛ فكان إبراهيم عليه السالم أول من رفع قواعده من جديد‪،‬‬
‫وأابن أعالمه‪ ،‬وذلك أبمر من هللا؛ ليكون مركزا للتوحيد والعبادة‪ ،‬وذلك بعد أن هاجر إبراهيم بزوجته هاجر وولده‬
‫إمساعيل إىل أرض مكة(‪.)2‬‬
‫يل َربَّنَا تَ َقبَّ ْل يمنَّا إينَّ َ‬
‫ك‬ ‫ي ي ي‬ ‫ي ي‬
‫يم الْ َق َواع َد م َن الْبَ ْيت َوإ ْْسَاع ُ‬
‫ي ي‬ ‫ي‬
‫وقد أشار القرآن الكرمي إىل ذلك بقوله‪َ ﴿ :‬وإ ْذ يَ ْرفَ ُع إبْ َراه ُ‬
‫يم﴾ [البقرة‪.]127 :‬‬‫ي‬ ‫ت َّ ي‬
‫يع ال َْعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫أَنْ َ‬
‫معبدا للعرب على مر السنني حيجون إليها ويتعاهدوهنا ابلبناء والرتميم كلما دعت احلاجة‪.‬‬
‫وقد ظلت الكعبة ً‬

‫(‪ )1‬طبقات ابن سعد ‪ ،128/1‬والسبل ‪ ،208/2‬وسنن البيهقي ‪ ،167/6‬والبداية ‪ ،355/4‬والروض األنف ‪ ،155/1‬والسرية‬
‫البن كثري ‪ ،257/1‬وسرية ابن هشام ‪.141/1‬‬
‫(‪ )2‬يف شرح الزرقاين على املوطأ ‪ :397/2‬اختلف يف أول من بناها‪ :‬فحكى احملب الطربي أن هللا وضعها ً‬
‫أوال ال ببناء أحد‪.‬‬
‫ولألزرقي عن علي بن احل سني أن املالئكة بنتها قبل آدم‪ .‬ولعبد الرزاق عن عطاء أول من بىن البيت آدم‪ .‬وعن وهب بن منبه‬
‫أول من بناه شيث بن آدم‪ .‬وقيل‪ :‬أول من بناه إبراهيم‪ .‬اه ‪ .‬وينظر الكشاف ‪ ،414/1‬وتفسري ابن كثري ‪.216/1‬‬
‫‪26‬‬
‫وقيل‪ :‬إهنا هتدمت بعد أن مرت عليها القرون الطويلة فأعاد العمالقة بناءها مث هتدمت بعد ذلك فبنتها ُج ررُهم‬
‫وأصبحت يف واليتهم‪.‬‬
‫ويقول بعض املؤرخني‪ :‬إن قبيلة جرهم بغت واستحلت احملارم فأابدها هللا‪ ،‬وانتقلت والية الكعبة من بعدها إىل‬
‫خزاعة‪ ،‬مث من بعدهم إىل قريش‪.‬‬
‫يف أثناء والية قريش عليها وقبل النبوة خبمس سنوات أو أكثر مت هدمها وجتديد بنائها ورصدوا لذلك نفقة طيبة‬
‫ليس فيها مهر بغي‪ ،‬وال بيع راب‪ ،‬وال مظلمة مما أخذوه غصبًا‪ ،‬أو قطعوا به رمحًا أو انتهكوا فيه حرمة وذمة‪.‬‬
‫ويقول املؤرخون‪ :‬إن قريشا وزعت اهلدم والبناء على القبائل فكان لكل قبيلة جهة معينة‪ ،‬وكان الوليد بن املغرية‬
‫أول من ابدر إىل هدمها بعد أن هتيب غريه من فعل ذلك‪.‬‬
‫وهكذا بدأت كل قبيلة جتمع احلجارة وتبين اجلهة املعينة هلا حسب اخلطة‪ ،‬ويقال‪ :‬إن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم شارك يف مجع احلجارة‪.‬‬
‫وملا بلغ البنيان موضع احلجر األسود اختلفوا فيمن يرفع احلجر إىل موضعه‪ ،‬وأصبحت كل قبيلة تريد هي أن‬
‫تنال شرف رفعه إىل موضعه ألهنم كانوا يرون أن من يضع احلجر يف مكانه تكون له السيادة والزعامة‪.‬‬
‫وكاد األمر يؤدي هبم إىل فتنة كبرية حيث استعدوا للقتال وانضم كل حليف إىل حليفه‪ ،‬حىت أن بعض القبائل‬
‫فس ُّموا لُ رع َقة الدم‪.‬‬
‫حتالفوا على املوت وغمسوا أيديهم يف الدم ُ‬
‫وملا وصلوا إىل هذا احلد اخلطري اقرتح عليهم أبو أمية بن املغرية ‪ -‬والد أم سلمة زوج النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم ‪ -‬أن حي ركِّموا يف هذا النزاع أول داخل عليهم؛ فكان حممد بن عبد هللا أول الوافدين فلما رأوه استبشروا بقدومه‬
‫حكما‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬لقد جاءكم الصادق األمني‪ ،‬أو هذا األمني قد رضينا به ً‬
‫ثواب فأتوا له بثوب كبري‪ ،‬فأخذ احلجر ووضعه فيه بيده‪،‬‬
‫فطلب منهم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن حيضروا له ً‬
‫مجيعا‪ ،‬فاستحسنوا ذلك ووجدوا فيه حال‬
‫مث التفت إىل شيوخهم وقال‪ :‬لتأخذ كل قبيلة بطرف من الثوب مث ارفعوه ً‬
‫امتيازا على اآلخر ففعلوا ما أمرهم به‪ ،‬فلما أصبح احلجر مبحاذاة املوضع‬
‫حيفظ حقوق اجلميع‪ ،‬وال يعطي ألحد ً‬
‫املخصص له أخذه رسول هللا بيده الكرمية ووضعه مكانه‪.‬‬
‫إن التأمل يف وقائع هذه احلادثة جيعلنا َنلص إىل النتائج التالية‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬إن اشرتاط ق ريش أن تكون نفقة الكعبة طيبة ال راب وال غصب فيها وال مظلمة ألحد‪ ..‬إن دل على‬
‫شيء فإمنا يدل على شعور حقيقي بقبح هذه األمور وعدم رضا هللا والوجدان هبا‪ ،‬وقد يفسر ذلك أيضا ابقتضاء‬
‫الفطرة لذلك‪ ،‬وحكم العقل بقبحه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إن ما تقدم يدل على أن أهل مكة كانوا يتعام لون ابملنطق القبلي حىت يف تعاوهنم على بناء البيت ومحل‬
‫احلجارة له‪ ،‬وهو أقدس مقدساهتم ورمز عزهم وجمدهم وكرامتهم‪ ،‬بل وعليه تقوم حياهتم وإ رن حتالف لعقة الدم حينما‬
‫اختلفوا فيمن يرفع احلجر إىل موضعه يعترب الذروة يف هذا املنطق اجلاهلي الذي َيابه الوعي اإلنساين وتنبو عنه‬
‫الفطرة ويرفضه العقل السليم‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الثالثة‪ :‬إن فرح قريش حينما رأوا النيب أول داخل عليهم مث وصفهم له أبنه الصادق األمني‪ ،‬يكشف عن املكانة‬
‫االجتماعية اخلاصة اليت كان حيتلها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف نفوس الناس يف مكة حىت أهنم كانوا حيكمونه‬
‫يف كثري مما كان يقع اخلالف فيه بينهم ويضعون كل ثقتهم به‪ ،‬وبعقله ووعيه وحكمته‪.‬‬

‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫عالقته صلى هللا عليه وآله وسلم بربه‪2-‬‬

‫صومه صلى هللا عليه وآله وسلم واعتكافه‪:‬‬

‫نظرا لألمهية البالغة اليت حيتلها الصوم يف اإلسالم فإن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم كان شديد التعلق‬
‫• ً‬
‫به كأحد الوسائل األساسية للتقرب إىل هللا ونيل رضوانه فإنه صلى هللا عليه وآله وسلم فضال عن أدائه فرض‬
‫يوما وأفطر‬
‫الصيام يف شهر رمضان كان يكثر من الصيام املستحب؛ فقد صام كل يوم فرتة من الزمن‪ ،‬مث صام ً‬
‫يوما ما شاء هللا من عمره‪ ،‬مث صام شعبان واألايم البيض –أي ثالثة عشر وأربعة عشر ومخسة عشر‪ -‬من كل‬ ‫ً‬
‫شهر‪ .‬وكان صلى هللا عليه وآله وسلم إذا كان العشر األواخر من شهر رمضان اعتكف يف املسجد وضربت‬
‫له قبة من شعر ومشرر (أي أقبل على طاعة ربه) وشد املئزر (يعين اعتزل النساء)(‪.)1‬‬
‫• ويف حديث عن أمري املؤمنني عليه السالم ‪ ..« :‬فلم يزل يعتكف صلى هللا عليه وآله وسلم يف العشر األواخر‬
‫من رمضان حىت توفاه هللا» (‪.)2‬‬
‫• وروي كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسري وأعطى كل سائل(‪.)3‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬األحكام لإلمام ا اهلادي ‪ ، 207/1‬ومسند اإلمام زيد ‪.203 ،202 /1‬‬
‫(‪ )2‬الدارقطين ‪ 201/2‬رقم ‪ ،10‬والبيهقي ‪ ،315/4‬وابن خزمية ‪ 345/3‬رقم ‪ ،2223‬وعبد الرزاق ‪ 247/4‬رقم ‪.7682‬‬
‫(‪ )3‬أمايل أيب طالب ‪ 376‬رقم ‪ 440‬واألمايل اخلميسية ‪ /2‬الباب الثالث عشر‪ :‬يف ذكر ليلة القدر وفضلها‪.‬‬
‫‪28‬‬
29
‫(‪ )5‬البعثة النبوية‬

‫لقد أع رد هللا نبيه حمم ًدا صلى هللا عليه وآله وسلم وهيأه حلمل الرسالة‪ ،‬وأداء األمانة الكربى‪ ،‬وإنقاذ البشرية‪ ،‬وحني بلغ‬
‫وهاداي للبشرية مجعاء‪.‬‬
‫األربعني من عمره الشريف اختاره هللا رسوًال ً‬
‫واملروي عن أئمة اهل البيت عليهم السالم أن الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بعث ابإلسالم بعد عام الفيل‬
‫أبربعني سنة(‪610‬م)‪.‬‬
‫وقد بدأ نزول الوحي عليه صلى هللا عليه وآله وسلم بواسطة جربائيل األمني عليه السالم يف شهر رمضان املبارك‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬إن أول ما نزل من القرآن هو سورة العلق‪.‬‬
‫والصحيح املروي عن أئمة العرتة عليهم السالم وغريهم أن أول ما نزل به جربائيل على النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم هو‪ :‬سورة احلمد (الفاحتة)‪ .‬قال اإلمام القاسم بن إبراهيم عليه السالم يف بداية تفسريه للقرآن الكرمي‪« :‬ونبدأ‬
‫من تفسري كتاب هللا مبا نرجو أن يكون هللا به بدأ‪ ،‬من تفسري السورة اليت أمر نبيَّهُ أن يسأله فيها اهلدى‪ ،‬ومساها‬
‫عو رام هذه األمة فاحتة الكتاب والفرقان‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬امسها ُّأم القرآن‪ ،‬وذلك مما يدل من يستدل على أهنا أول ما‬
‫ك الَّ يذ ْي‬
‫نزل‪ ،‬ال كما يقول بعض جهلة العو رام بغري ما دليل وال برهان؛ أن أول ما نزل من القرآن‪﴿ :‬اق َْرأْ يِب ْس يم َربيِ َ‬
‫سا َن يم ْن َعلَ ٍق﴾ [العلق‪.]2 ،1 :‬‬
‫َخلَ َق* َخلَ َق ا يْلنْ َ‬
‫جل ثناؤه أن قد رنزل عليه قبلها االسم‬
‫أال ترى كيف يقول‪ :‬اقرأ ما يُ رقريك‪ ،‬ابسم ربك الذي رنزل عليك‪ ،‬فأخرب ر‬
‫الذي أمره أن يقرأ به فيها وهلا‪ ،‬وأن يقدمه يف القراءة عليها‪ ،‬مث يصري بعد القراءة به إليها‪.‬‬
‫اتم مفعول‪ ،‬وقول قد تقدم‬ ‫ُمر عليه السالم أن يقرأ؛ لكان إمنا أُمر بفعل ر‬ ‫أال ترى أنه لو كان ما قد قرأ هو ما أ َ‬
‫مقول‪ ،‬وإمنا اسم ربه الذي أ ُِّمَر أن يقرأ به ﴿بسم هللا الرمحن الرحيم﴾ الذي ق ردم به يف صدر كل سورة عند أول‬
‫كل تعليم» (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬ينظر جمموع اإلمام القاسم بن إبراهيم‪ .38/2‬قال يف الكشاف ‪« :775/4‬ذهب ابن عباس وجماهد إىل أن أول سورة نزلت‬
‫"اقرأ" وأكثر املفسرين إىل أن أول سورة نزلت فاحتة الكتاب»‪ .‬وقال البغوي ‪« :21/1‬وهلا ثالثة أمساء معروفة‪ :‬فاحتة الكتاب‪،‬‬
‫ئ القرآن‪.‬‬‫وأم القرآن‪ ،‬والسبع املثاين‪ ،‬مسيت فاحتة الكتاب؛ ألنه تعاىل هبا افتتح القرآن‪ ،‬وأم الكتاب؛ ألهنا أصل القرآن؛ منها بُ ِّد َ‬
‫وأم الشيء‪ :‬أصله‪ ،‬ويقال ملكة‪ :‬أم القرى؛ ألهنا أصل البالد‪ ،‬دحيت األرض من حتتها‪ .‬وقيل‪ :‬ألهنا مقدمة وإمام ملا يتلوها من‬
‫السور يبدأ بكتابتها يف الصحف وبقراءهتا يف الصالة»‪ .‬وللخازن ‪ :21/1‬حنو من كالم البغوي‪ ،‬قال‪« :‬هبا افتتح القرآن‪ ،‬وهبا‬
‫تفتتح كتابة املصاحف‪ ،‬وهبا تفتتح الصالة‪ ...‬إخل»‪ .‬وللشهاب يف حاشيته على البيضاوي ‪109/1‬يف تفسري أم القرآن قوله‪:‬‬
‫«‪..‬أو يف النزول بناءً على أهنا أول سورة نزلت»‪ .‬قال الدرويش يف إعراب القرآن ‪« :20/1‬األرجح أن "الفاحتة" هي أول سورة‬
‫كاملة نزلت‪ ،‬وأمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم جبعلها أول القرآن‪ ،‬وانعقد على ذلك اإلمجاع»‪ .‬وقد لفت نظر أيب السعود‬
‫ورودها يف أول املصحف‪ ،‬وأنه قد يرد دليال على نزوهلا َّأوًال فقال‪« :‬إن اعتبار املبدئية من حيث التعليم أو من حيث النزول‬
‫يستدعي مراعاة الرتتيب يف بقية أجزاء الكتاب‪ .....‬إخل»‪( .‬تفسري أيب السعود‪ .)8/1‬قال اإلمام حممد عبده يف تفسريه‬
‫املنار‪« : 66/1‬وحنن نقول‪ :‬إن الفاحتة أول سورة نزلت كما قال اإلمام علي رضي هللا عنه‪ ،‬وهو أعلم هبذا من غريه؛ ألنه ترىب‬
‫‪30‬‬
‫لقد كانت هناك هتيئة للنيب ِّم رن قِّبَ ِّل هللا تعاىل لتل رقي الوحي عرب طرق عدة؛ منها‪ :‬اإلهلام واإللقاء يف نفسه‪ ،‬وكذا‬
‫مرعواب مما جرى له‪ ،‬بل كان‬
‫ً‬ ‫بعض األخبار‪ ،‬ومل يكن خائ ًفا أو‬ ‫الصادقة‪ ،‬ومل يُفاجأ به كما تُ رِّ‬
‫صوُر ُ‬ ‫الرؤاي ر‬
‫من خالل ر‬
‫عاملا بنبوة نفسه‪ ،‬وكان ينتظر الل حظة اليت َيتيه فيها جربائيل ليعلن نبوته ورسالته‪ ،‬بل بعد تلقني ذلك البيان اإلهلي‬
‫مسرورا مبا أكرمه هللا به من النبوة والرسالة مطمئنًا إىل املهمة‬
‫ً‬ ‫مستبشرا‬
‫ً‬ ‫عاد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إىل أهله‬
‫اليت شرفه هللا هبا‪ ،‬فلما دخل على خدجية أخربها مبا أنزله هللا عليه وما مسعه من جربائيل فقالت له‪ :‬أبشر فوهللا ال‬
‫خريا‪ ،‬وأبشر فإنك رسول هللا حقا‪.‬‬
‫يفعل هللا بك إال ً‬
‫انتشر خرب نزول الوحي على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف وسط البيت النبوي فبادر عدد من الذين وصلهم‬
‫اخلرب إىل تصديق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واإلميان برسالته‪ ،‬ويوصف الذين ابدروا إىل اإلميان ب (السابقني)‪،‬‬
‫ومعيارا للفضل وعلو املنزلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫امتيازا‬
‫وقد اعترب السبق إىل اإلسالم ً‬
‫وإمياان وتصدي ًقا‬
‫إسالما ً‬‫ً‬ ‫وقد اتفق املؤرخون واحملدثون على أن علي بن أيب طالب عليه السالم هو أول الناس‬
‫برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وكان عمره آنذاك عشر سنوات أو اثنيت عشرة سنة(‪.)1‬‬
‫وقد ورد ذلك يف النصوص الصحيحة عن أئمة أهل البيت عليهم السالم ‪ ،‬وورد عنهم عليهم السالم أن النيب‬
‫بعث يوم اإلثنني وأن عليًا صلى معه يوم الثالاثء(‪.)2‬‬
‫إسالما وإمياان‪.‬‬
‫وأن أمري املؤمنني عليه السالم هو أول األمة قاطبة ً‬
‫ورودا علي‬
‫وروى احلاكم النيسابوري بسند صحيح عن النيب األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬أولكم ر‬
‫إسلما علي بن أيب طالب»(‪.)3‬‬
‫ر‬ ‫اْلوض أولكم‬

‫يف حجر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وأو ل من آمن به‪ ،‬وإن مل تكن أول سورة على اإلطالق‪ ،‬فال خالف أهنا من أوائل‬
‫(وممن رجح أن الفاحتة هي أول ما نزل‪ :‬النسفي يف تفسريه ‪ 662/3‬يف قول‪ ،‬والزخمشري يف الكشاف ‪،775/4‬‬ ‫السور»‪.‬‬
‫واإلمام حممد عبده يف املنار ‪ ،35/1‬واخلليلي يف جواهر التفسري ‪ ،163/1‬ومال إليه الرازي ‪ ،14/32‬والطربي ‪.317/15‬‬
‫ورواه أصحاب السري (البداية والنهاية‪ ،)14/3‬وهو رأي أئمة أهل البيت (املصابيح ‪ ،)141/1‬وأمايل أمحد بن عيسى ‪.357/1‬‬
‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،262/1‬والسرية احللبية ‪ ،268/1‬وأتريخ الطربي ‪ ،309/2‬وأسد الغابة ‪ ،88/4‬وعيون األثر ‪ ،179/1‬والبداية‬
‫والنهاية البن كثري ‪ ،35-34/3‬وحممد رسول هللا ‪ ،68‬ودالئل النبوة ‪ ،160/2‬واتريخ املسعودي ‪ ،176/2‬وابن كثري‬
‫‪ ،428/1‬والطربي ‪ ،310/2‬وأتريخ دمشق ‪ ،27/42‬واملصنف لعبد الرزاق ‪ .325/5‬وقد أوسع يف ذلك يف شرح النهج‬
‫عاما‪.‬‬
‫‪ ،219/4‬ورجح أبو جعفر اإلسكايف أن عمره حني أسلم ‪ً 15‬‬
‫ول هللاِّ صلى هللا عليه وآله وسلم يَ روَم ِّاإلثرنَ ر ِّ‬
‫ني‪،‬‬ ‫ث َر ُس ُ‬ ‫س ب ِّن مالِّ ٍّ‬
‫ك قَ َال‪ :‬بُعِّ َ‬ ‫‪2‬‬
‫( ) ذخائر العقىب ‪ ،58‬وروى الرتمذي برقم ‪َ 3728‬ع رن أَنَ ٍّ ر َ‬
‫صلَّى َعلِّ ٌّي يَ روَم الث َُّال َاث ِّء‪ .‬وابن كثري يف البداية والنهاية ‪ ،369/7‬وابن عساكر يف اتريخ دمشق ‪ 303/17‬عن ابن رافع‪،‬‬ ‫َو َ‬
‫واحلاكم يف املستدرك ‪ ،122/3‬والطربي ‪ ،310-309/2‬واملنتظم البن اجلوزي ‪ ،67/5‬والكامل البن األثري ‪،37/2‬‬
‫واالستيعاب ‪ ،200/3‬وأسد الغابة ‪.89/4‬‬
‫(‪ )3‬احلاكم يف املستدرك ‪ ،136/3‬وابن عساكر يف اتريخ دمشق ‪ ،306/17‬وأسد الغابة ‪ ،90/4‬واهليثمي يف زوائده‬
‫‪،102/9‬واالستيعاب ‪ ،198/3‬ومصنف ابن أيب شيبة ‪ 371/6‬رقم ‪ ،32112‬واملغازيل ‪.67‬‬
‫‪31‬‬
‫وروى أمحد بن حنبل أن النيب قال‪« :‬علي بن أيب طالب أول أصحايب إسلما»(‪.)1‬‬
‫كما أن ابن أيب احلديد روى عن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أنه أخذ بيد علي وقال‪« :‬هذا أول من آمن‬
‫يب وصدقّن وصلى معي»(‪.)2‬‬
‫وعلي نفسه يصرح يف أكثر من موقف أنه أول من أسلم‪ ،‬وأنه مل يسبقه أحد يف الصالة مع رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم وأنه الص رِّديق األكرب‪ ،‬وأنه ال يعرف ً‬
‫أحدا من هذه األمة َعبَد هللا قبله غري رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم(‪.)3‬‬
‫كما أنه عليه السالم احتج على خصومه يف مناسبات عديدة أبنه أول من آمن وصدق برسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬وكذلك فعل أتباعه من الصحابة والتابعني؛ حيث احتجوا على خصومهم يف صفني وغريها أبن‬
‫إسالما‪ ،‬ومل جند أحدا من أعدائه حاول إنكار ذلك‪ ،‬أو التشكيك‬
‫إمامهم علي بن أيب طالب عليه السالم أول الناس ً‬
‫فيه‪ ،‬أو طرح اسم بديل عنه ابلرغم من توافر الدواعي واملقتضيات السياسية واملذهبية وغريها لطرح اسم رجل آخر‬
‫على أنه صاحب هذه الفضيلة دون علي عليه السالم ‪.‬‬
‫إن احتجاجه واحتجاج أصحابه على خصومهم أبنه أول من أسلم دون أن جيرؤ أحد على اإلنكار يدل داللة واضحة‬
‫ليس على كون علي عليه السالم هو أول من آمن يف هذه األمة فحسب بل على أن أسبقية علي لإلسالم كانت من األمور‬
‫املسلرمة لدى مجيع الناس آنذاك‪.‬‬
‫أيضا أن خدجية بنت خويلد زوجة النيب األوىل كانت أول امرأة آمنت وصدقت برسول هللا‬ ‫ومن املسلمات التارخيية ً‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم وقد صلت مع رسول هللا يف اليوم الثاين من مبعثه وما على وجه األرض أحد يعبد هللا على هذا‬
‫الدين إال النيب وعلي بن أيب طالب(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬مسند أمحد‪ :‬ج‪ 5‬ص‪.26‬‬


‫(‪ )2‬شرح هنج البالغة‪ :‬ج‪ 12‬ص‪.225‬‬
‫الزَوائِّ ِّد‪:‬‬ ‫(‪ )3‬اتريخ دمشق ‪ ،304/17‬وفرائد السمطني ‪ ،248/1‬والكامل البن األثري ‪ ،37/2‬وابن ماجة ‪َ ،120/1‬وقَ َ‬
‫ال ِّيف َرجم َم ِّع َّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ه َذا إِّسنَاد ص ِّحيح‪ .‬وخصائص النسائي رقم ‪ 6‬بلفظ‪« :‬أَ َان ِّ ِّ‬
‫ب»‪ ،‬واحلاكم ‪112/3‬‬ ‫يق راألَ رك َربُ َال يَ ُقو ُهلَا بَ رعدي إَِّّال َكاذ ٌ‬ ‫الص رد ُ‬ ‫ر‬ ‫َ ر ٌ َ ٌ‬
‫ني‪.‬‬ ‫يح َعلَى َشر ِّط الشرَّي َخ ر ِّ‬ ‫صح ٌ‬
‫وقَال‪ِّ :‬‬
‫َ‬
‫ر‬ ‫َ‬
‫ني‪َ ،‬و َعلِّ ٌّي يَ روَم الث َُّال َاث ِّء‪ .‬ينظر املستدرك ‪،133/3‬‬ ‫اح ٍّد‪ِّ ،‬هي يَ روَم ِّاإلثرنَ ر ِّ‬ ‫َن علِّيًّا أَسلَم ب ع َد خ ِّدجيةَ بِّي وٍّم و ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الس َِّري َوالت ََّو ِّار ِّ‬ ‫(‪ )4‬أ ر‬
‫َ‬ ‫يخ أ َّ َ ر َ َ ر َ َ َ ر َ‬ ‫َمجَ َع أ رَه ُل ر‬
‫وسرية ابن هشام ‪ .245/1‬وطبقات ابن سعد ‪ .21/3‬واإلصابة ‪ .501/2‬والرتمذي ‪ 598/5‬رقم‪ .3798‬وجممع الزوائد‬
‫ُس ُد الغابة ‪ .89/4‬واالستيعاب ‪ .200/3‬والطربي ‪ 309/2‬وما بعدها‪ .‬وابن األثري ‪ .37/2‬واملنتظم ‪.67/5‬‬ ‫‪َ .103/9‬وأ ر‬
‫َسلَ َم بَ رع َد َخ ِّدجيَةَ‪ .‬وروي‬ ‫َن ِّ ِّ‬
‫اإل َم َام َعليًّا أ ََّو ُل َم رن أ ر‬ ‫الزير ِّديَِّّة و ِّ‬
‫اإل َم ِّاميَّ ِّة َوالر ُم رعتَ ِّزلَِّة فَ ُم رج ِّم َعةٌ أ َّ‬ ‫ب َّ َ‬ ‫واتريخ اخللفاء للذهيب ص‪ .624‬أ ََّما ُكتُ ُ‬
‫الر ُج َل‬ ‫َن َّ‬‫العباس؛ فأخربه أب َّ‬ ‫َ‬ ‫صلُّو َن‪ ،‬فَ َسأ ََل‬ ‫وغالما وامرأةً يُ َ‬ ‫ً‬ ‫رجال‬
‫اتجرا‪ -‬أنه جاء إىل مكة فشاهد ً‬ ‫عن عفيف الكندي ‪ -‬وكان ً‬
‫هؤالء الثالثة‪.‬‬ ‫ُحم َّم ٌد‪ ،‬والغالَم علي‪ ،‬واملرأَةَ خدجيةُ‪ ،‬وقال‪ :‬هذا ِّدين جاء به ابن أخي‪ ،‬وما على وجه األرض على هذا الدين غري ِّ‬
‫ُ‬ ‫رٌ‬ ‫َ َ ُ َ ٌّ َ‬
‫ينظر اخلصائص ‪ ،27‬واالستيعاب ‪ ،201/3‬واحلاكم ‪ ،183/3‬وأسد الغابة ‪ ،47/4‬وهتذيب الكمال ‪ ،184/20‬والسرية‬
‫‪32‬‬
‫يقول عليه السالم وهو يصف حاله مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل‬
‫علما وأيمرِن ِبَلقتداء به‪ ،‬ولقد كان جياور ِف كل سنة حبراء فأراه وَل يراه‬
‫أثر أمه يرفع يل ِف كل يوم من أخلقه ر‬
‫غيي‪ ،‬وَل جيمع بيت واحد يومئذ ِف اْلسلم غي رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وخدجية وأَن َثلثهما‪ ،‬أرى‬
‫نور الوحي والرسالة‪ ،‬وأشم ريح النبوة‪ ،‬ولقد ْسعت رنة الشيطان حي نزل الوحي عليه‪ ،‬فقلت‪َّ :‬ي رسول هللا‬
‫ت‬‫َس َ‬
‫كلْ‬‫َْسَ ُع‪َ ،‬وتَ َرى َما أ ََرى‪ ،‬إيََّل أَنَّ َ‬
‫ك تَ ْس َم ُع َما أ ْ‬ ‫س يم ْن يعبَ َ‬
‫ادتييه إينَّ َ‬ ‫ي‬ ‫ما هذه الرنة؟ فقال‪َ « :‬ه َذا َّ‬
‫الش ْيطَا ُن قَ ْد أَ َ‬
‫ِب‪َ ،‬ولَكين َ‬
‫َّك ال َْويز ُير َوإينَّ َ‬
‫ك ل ََعلَى َخ ٍْي»(‪.)1‬‬ ‫ي‬
‫بنَي ٍِ‬
‫وبعد كل ما تقدم نعرف أن ادعاء سبق غري علي عليه السالم إىل اإلسالم ادعاء غري صحيح تبطله كل النصوص‬
‫متأخرا عن عهد اخللفاء األربعة‪ ،‬ومتت صياغته بعد وفاة أمري‬
‫واحلقائق اليت ذكرانها‪ ..‬على أن هذا االدعاء قد جاء ً‬
‫املؤمنني عليه السالم ‪ ،‬ولرمبا يكون قد حصل ذلك حينما كتب معاوية إىل والته على األقطار َيمرهم أن ال يدعوا‬
‫فضيلة لعلي عليه السالم إال وَيتوه مبثلها لغريه من الصحابة‪.‬‬
‫ومن هنا فإننا نعتقد أبن القول أبولية إسالم بعض الصحابة غري علي عليه السالم موضوع يف وقت متأخر تزل ًفا‬
‫لألمويني‪.‬‬
‫وأما القول أبن عليًّا عليه السالم هو أول من أسلم من الصبيان ال من الرجال فهو قول عجيب وذلك ملا يلي‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬إنه قد جاء يف بعض النصوص املروية عن علي عليه السالم وعن غريه التعبري أبنه أول رجل أسلم‪ ،‬ففي‬
‫َّ‬
‫إسالما‪ ،‬مما يعين أنه كان حينئذ‬
‫ً‬ ‫سرية املؤرخ الشهري ابن إسحاق(‪()2‬ت‪ )151 :‬أن عليا عليه السالم أول الرجال‬
‫رجال ابلغًا‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيًا‪ :‬إنه وإن كان األرجح أن عليًا عليه السالم قد أسلم وعمره عشر سنوات أو اثنتا عشرة سنة إال أنه من‬
‫الواضح أن الرجولة والبلوغ ال ينحصر ابلسن‪ ،‬على أن مثة أقواال كثرية يف سن علي عليه السالم حني إسالمه‪،‬‬
‫فاحلافظ عبد الرزاق‪ ،‬وابن أيب شيبة‪ ،‬واحلسن البصري وغريهم كثري يذكرون يف سن علي رقما يرتاوح بني ‪12‬سنة إىل‬
‫أيضا‪ ،‬فكيف يصح وصفه ابلصيب؟!(‪.)3‬‬
‫‪16‬سنة‪ ،‬وبعضهم يتجاوز ذلك ً‬

‫البن كثري ‪ ،430/1‬والبداية ‪ ،34/2‬والطربي ‪ ،313/2‬واملنتظم ‪ ،359/2‬وأتريخ ابن الوردي ‪ ،99/1‬وأتريخ اإلسالم‬
‫للذهيب‪ ،‬والسرية النبوية ‪ ،137‬واليعقويب ‪ ،343/1‬وسرية سيد املرسلني ‪ ،330/1‬والصحيح من سرية النيب‪،320/2‬‬
‫واالعتصام ‪.274/1‬‬
‫(‪ )1‬هنج البالغة‪ :‬اخلطبة ‪.192‬‬
‫(‪ )2‬سرية ابن إسحاق‪ :‬ص‪. 138‬‬
‫(‪ )3‬فعن احلسن البصري أن اإلمام عليا أسلم وعمره ‪ 15‬سنة‪ .‬وعن عروة ‪ 8‬سنوات‪ .‬وعن أيب األسود ‪ 13‬سنة وصحح هذا القول‬
‫اإلمام أبو طالب‪ .‬وعن شريك ‪ 11‬سنة‪ .‬وقال الكليب‪ :‬كان عمره تسع سنني وقيل إحدى عشرة سنة‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬مث‬
‫بن أيب طالب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫كان أ ََّوَل ذَ َك ٍّر من الناس آمن برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وصلَّى معه وصد َ ِّ‬
‫َّق مبَا جاءه من هللا تعاىل َعل ُّي ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بن عبداملطلب بن هاشم رضوان هللا وسالمه عليه‪ ،‬وهو يومئذ ابن عشر سنني‪ .‬ينظر ابن هشام ‪ ،262/1‬واحللبية ‪،268/1‬‬
‫‪33‬‬
‫ثالثًا‪ :‬إن سن البلوغ قد حددت بعد اهلجرة يف غزوة اخلندق يف قضية رد ابن عمر وقبوله يف الغزو(‪ ،)1‬أما قبل‬
‫ذلك فقد كان املعتمد هو التمييز واإلدراك وعليه يدور مدار التكليف والدعوة إىل اإلسالم واإلميان وعدمه‪ ،‬ولوال أن‬
‫أمري املؤمنني عليه السالم كان يف مستوى اإلسالم واإلميان مل يقدم النيب األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم على دعوته‬
‫سفها‪ ،‬وال ميكن صدور السفه من الرسول األكرم صلى هللا عليه وآله‬ ‫إىل اإلسالم مث قبوله منه‪ ،‬وإال لكان ذلك ً‬
‫وسلم‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬لو كان األمر كما ذكره فال يبقى معىن لقول النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عنه‪« :‬إنه أول من أسلم»‪،‬‬
‫أو «أولكم إسلما» فإن معىن ذلك هو أن أوليته ابلنسبة إىل النساء والرجال والعبيد واألحرار على حد سواء‪.‬‬
‫أحدا واجه احتجاج أمري املؤمنني عليه السالم والصحابة والتابعني حبجة من هذا القبيل‪.‬‬
‫سا‪ :‬إننا مل جند ً‬
‫خام ً‬
‫إسالما؛ ولكنهم اختلفوا يف‬
‫الخالصة‪ :‬أن املؤرخني واحملدثني قد اتفقوا على أن عليًّا عليه السالم أول النَّاس ً‬
‫سنه يوم إسالمه؛ فقيل‪ :‬أن عمره يوم إسالمه كان يرتاوح بني العاشرة والثالثة عشرة‪ ،‬وقيل أنه كان يف اخلامسة عشرة‬
‫من عمره كما ذهب إىل ذلك احلسن البصري ومجاع ة من احملدثني‪ ،‬منهم حممد بن سليمان الكويف يروي بسنده عن‬
‫ست عشرة(‪.)2‬‬
‫علي بن أيب طالب وهو ابن مخس عشرة سنة أو ر‬
‫ابن عباس قال‪َّ :‬أول من أسلم ر‬
‫وحتدث العقاد عن مولد علي عليه السالم وإسالمه يف كتابه (عبقرية اإلمام علي ص ‪ )23‬وقد جاء فيه‪ :‬إن‬
‫إيذاان بعهد جديد للكعبة والعبادة‬
‫عليًّا ولد يف داخل الكعبة وكرم هللا وجهه عن السجود لألصنام فكأمنا كان ميالده ً‬
‫مسلما على التحقيق إذا حنن نظران إىل ميالد العقيدة والروح‪ ،‬ألنه فتح عينيه على اإلسالم ومل‬
‫فيها‪ ،‬بل قد ولد ً‬
‫يعرف قط عبادة األص نام‪ ،‬وقد تريب يف البيت الذي خرجت منه الدعوة اإلسالمية وعرف العبادة يف صالة صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم وزوجه الطاهرة‪.‬‬

‫وأتريخ الطربي ‪ ،309/2‬وأسد الغابة ‪ ،88/4‬وعيون األثر ‪ ،179/1‬والبداية والنهاية البن كثري ‪ ،35-34/3‬وحممد رسول‬
‫هللا ‪ ،68‬ودالئل النبوة ‪ ،160/2‬واتريخ املسعودي ‪ ،176/2‬وابن كثري ‪ ،428/1‬والطربي ‪ ،310/2‬وأتريخ دمشق‬
‫‪ ،27/42‬واملصنف لعبد الرزاق ‪ .325/5‬وقد أوسع يف ذلك يف شرح النهج ‪ ،219/4‬ورجح أبو جعفر اإلسكايف أن عمره‬
‫عاما‪.‬‬
‫حني أسلم ‪ً 15‬‬
‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ض الرمستَطَابَِّة ص‪ِّ 164‬يف تَ رر َمجَ ِّة ِّ‬ ‫ي ِّيف كِّتَابِِّّه رِّ‬
‫ال الر َع ِّام ِّر ُّ‬
‫ني‪ ،‬أ رَو َع رش ٍّر‪،‬‬
‫َسلَ َم رضي هللا عنه َوُه َو ابر ُن َمثَان سن َ‬ ‫اإل َم ِّام َعل ٍّري‪ :‬أ ر‬ ‫الرَاي ِّ ُ ر‬ ‫وقَ َ‬
‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫أ رَو أ رَربَ َع َع رشَرَة‪ ،‬أ رَو ِّس َّ‬
‫اإل رس َال ُم‪،...‬‬‫ف ِّ‬ ‫اب َع رن تَ روقيت إِّ رس َالمه؛ ألَنَّهُ َملر يَ ُك رن ُم رش ِّرًكا فَيُ رستَأرنَ ُ‬ ‫ضَر ُ‬ ‫اإل ر‬ ‫اب ِّ‬‫الص َو ُ‬
‫ض ُه رم‪َ :‬و َّ‬ ‫ت َع رشَرَة‪َ .‬وقَ َال بَ رع ُ‬
‫َّيب صلى هللا عليه و آله وسلم‪.‬وينظر هبجة احملافل‪.73/1‬‬ ‫ِّ‬
‫اجَر بَ رع َد الن ِّر‬ ‫َسلَ َم ُمطرلَ ًقا‪َ ،‬وأ ََّو ُل َم رن َه َ‬
‫ال‪ُ :‬ه َو أ ََّو ُل َم رن أ ر‬ ‫ال‪َ :‬ويُ َق ُ‬ ‫َوقَ َ‬
‫ت‬‫ضُ‬ ‫ُح ٍّد َوأَ َان ابر ُن أ رَربَ َع َع رشَرَة َسنَةً فَلَ رم ُِّجي رزِّين‪َ ،‬وعُ ِّر ر‬
‫ت َعلَى َر ُسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يَ روَم أ ُ‬
‫ِّ ِّ‬
‫ضُ‬ ‫ال‪ :‬عُ ِّر ر‬ ‫عن ابر ِّن عُ َمَر قَ َ‬ ‫(‪ِّ )1‬‬
‫َج َازِّين‪ .‬البخاري ‪ ،948/2‬ومسلم ‪ 1490/3‬رقم ‪ ،1868‬وأبو داود‪362/3‬‬ ‫علَي ِّه ي وم ر ِّ‬
‫س َع رشَرةَ َسنَةً فَأ َ‬ ‫اخلَنر َدق َوأَ َان ابر ُن مخَر َ‬ ‫َ ر َر َ‬
‫رقم ‪ ،2957‬والرتمذي ‪ 64/3‬رقم ‪ ،1361‬وابن ماجة ‪ 850/2‬رقم ‪ ،2543‬والنسائي ‪ 155/7‬رقم ‪ ،3431‬وعبدالرزاق‬
‫‪ 368/7‬رقم ‪ ،36766‬ومعاين اآلاثر ‪.218/3‬‬
‫(‪ )2‬انظر املناقب للكويف‪ 295/1 :‬ح‪ ،218‬وأنساب األشراف للمسعودي‪ :‬ص‪.232-231‬‬
‫‪34‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫عالقته صلى هللا عليه وآله وسلم بربه‪3-‬‬

‫تالوته صلى هللا عليه وآله وسلم لكتاب هللا‪:‬‬

‫القرآن كتاب هللا الذي نزل على عبده ورسوله حممد صلى هللا عليه وآله وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إىل‬
‫النور‪ ،‬وقد تكفل القرآن من خالل آايته املباركة هبداية الناس إىل احلق والعدل واخلري يف مجيع شؤوهنم «‪..‬‬
‫ومن ابتغى اَلدى ِف غيه أضله هللا‪ ،‬فهو حبل هللا املتي‪ ،‬وهو الذكر اْلكيم‪ ،‬وهو الصراط املستقيم‪،‬‬
‫وهو الذي َل تزيغ به اْلهواء‪ ،‬وَل تلتبس به اْللسنة‪ ،‬وَل يشبع منه العلماء‪.)1( »..‬‬
‫وقد شدد اإلسالم على االهتمام به‪ ،‬واالعتصام حببله من خالل قراءته وتدبره‪ ،‬ووعي تعاليمه‪ ،‬وجتسيد‬
‫مفاهيمه يف احلياة الفردية واالجتماعية وغريها‪.‬‬
‫َّاس و ُه ردى ومو يعظَةٌ ليل ي‬ ‫ي‬
‫ي﴾ [آل عمران‪.]138 :‬‬ ‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ََْ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ه َذا بَيَا ٌن للن ي َ‬
‫وتعليما‬
‫ً‬ ‫ونظرا ملكانة القرآن يف اإلسالم فقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم شديد العناية به تالوة‬ ‫ً‬
‫وحثا على تعاهده ورعايته‪ ،‬وتدبر آايته‪ ،‬واحلرص عليه‪.‬‬
‫وهذه بعض الرواايت اليت تشري إىل مدى اهتمامه صلى هللا عليه وآله وسلم ابلقرآن‪.‬‬
‫• كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ال يرقد حىت يقرأ املسبحات ويقول‪ :‬يف هذه السورة آية هي أفضل من‬
‫ألف آية‪ ،‬قالوا‪ :‬وما املسبحات؟ قال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬سورة اْلديد‪ ،‬واْلشر‪ ،‬والصف‪ ،‬واْلمعة‪،‬‬
‫والتغابن»(‪.)2‬‬
‫• وعن أم هاين كنت أمسع قراءة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابلليل وأان على عريشي(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه الرتمذي ‪ 172/5‬رقم ‪ ،2906‬وابن أيب شيبة ‪125/6‬رقم‪ ،30007‬والبزار يف مسنده‪( ،‬البحر الزخار) ‪،72/3‬‬
‫والبيهقي يف شعب اإلميان ‪ 326/2‬رقم ‪ ،1935‬و الدارمي ‪ 527/2‬رقم‪.3332‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه النسائي يف السنن الكربى ‪ 179/6‬رقم‪ ،10551‬وأبو داود ‪ 734/2‬رقم ‪.5057‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن أىب شيبة‪ 321/1‬رقم ‪ ،3672‬وأمحد ‪ 261/10‬رقم ‪ ،26960‬والنسائي ‪ 178/2‬رقم ‪ ،1013‬وابن ماجة‬
‫‪ 429/1‬رقم ‪ ،1349‬والطحاوي يف شرح معاين اآلاثر‪ ،344/1‬والطرباين يف الكبري ‪ 411/24‬رقم ‪.999 ،998‬‬
‫‪35‬‬
‫• وعن أمري املؤمنني عليه السالم قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ال حيجزه عن قراءة القرآن إال‬
‫اجلنابة(‪.)1‬‬
‫• ولشدة تفاعله مع القرآن كان يبكي عندما يقرأ بعض آايته؛ فقد روى ابن مسعود قال‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫علي القرآن»‪ ،‬فقلت‪ :‬اي رسول هللا أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال صلى هللا‬
‫هللا عليه وآله وسلم يل‪« :‬اقرأ ِ‬
‫عليه وآله وسلم‪« :‬إِن أحب أن أْسعه من غيي» فقرأت عليه سورة النساء حىت جئت إىل هذه اآلية‪:‬‬
‫ك َعلَى َه ُؤََل يء َش يهي ردا﴾ [النس‪ ]41 : :‬قال صلى هللا عليه وآله‬ ‫ف إيذَا يج ْئ نَا يم ْن ُك يِل أ َُّم ٍة بي َ‬
‫ش يه ٍ‬
‫يد َو يج ْئ نَا بي َ‬ ‫﴿فَ َك ْي َ‬
‫فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان(‪.)2‬‬
‫ُّ‬ ‫وسلم‪« :‬حسبك اْلن»‬
‫دؤواب على تالوة كتاب هللا شغوفًا به‪ ،‬فلم يرتك القراءة حىت يف حاالت‬
‫وهكذا كان صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫مرضه‪.‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬أخرجه أبو يعلى ‪ 436/1‬رقم ‪ ،579‬والطرباين يف األوسط ‪ 9/7‬رقم ‪ ،6697‬ورقم ‪ ،7039‬وابن حبان ‪ 79/3‬رقم ‪،799‬‬
‫وابن اجلعد يف مسنده ‪ 25/1‬رقم ‪.59‬‬
‫(‪ )2‬الرتمذي ‪ 238/5‬رقم ‪ ،3025‬والبيهقي ‪ ،231/10‬وأبو يعلى ‪ 5/9‬رقم ‪ ،5069‬وابن حبان ‪ 9/3‬رقم ‪ ،735‬والطرباين‬
‫يف الكبري ‪ 81/9‬رقم ‪ ،8464‬ويف األوسط ‪ 164/2‬رقم ‪ ،1587‬ويف الصغري ‪ 136/1‬رقم ‪ ،204‬وابن أيب شيبة ‪226/7‬‬
‫رقم‪.35540‬‬
‫‪36‬‬
‫(‪ )6‬ما بني البعثة واهلجرة ‪1 /‬‬

‫الدعوة وتحديات قريش‬


‫مرت الدعوة اإلسالمية يف حياة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم منذ بعثته إىل وفاته بثالث مراحل‪:‬‬

‫المرحلة األولـى‪( :‬الدعوة الهادئة لألفراد)‪.‬‬


‫بعيدا عن أجواء‬
‫كانت دعوة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف البداية تتجه حنو آحاد الناس بصورة هادئة ً‬
‫حذرا من وقع املفاجأة على قريش اليت كانت متعصبة لشركها ووثنيتها‪ ،‬فلم يكن صلى هللا عليه‬
‫التحدي؛ وذلك ً‬
‫قريش‪،‬‬ ‫وآله وسلم يُظهر الدعوة يف اجملالس العامة ل‬
‫تباعا‪ ،‬وكان هؤالء يلتقون ابلنيب‬
‫ومل يكن يدعو إال من يغلب على الظن أنه سيؤمن به‪ ،‬فآمن به عدد قليل من الناس ً‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم ابستمرار‪ ،‬وكانوا إذا أرادوا ممارسة العبادة والصالة تعرضوا لألذى‪ ،‬فكانوا يذهبون إىل‬
‫شعاب مكة يستخفون فيها عن أنظار قريش‪ ،‬فصاروا يالحقوهنم إىل هناك‪ ،‬وبعد أن مرت ثالث سنوات تقريبًا‬
‫وصارت حتدث صدامات بينهم وبني املشركني الذين كانوا يرصدوهنم ويتعمدون إيذاءهم اختار النيب صلى هللا عليه‬
‫بعيدا‬
‫وآله وسلم هلم دار األرقم بن أيب األرقم يف مكة ليلتقي هبم فيها‪ ،‬ولتكون مركزا ميارسون فيه عبادهتم وصالهتم ً‬
‫عن أنظار قريش‪.‬‬
‫ك‬
‫يتَ َ‬ ‫ي ي‬
‫وبعد شهر من دخوهلم دار األرقم أمره هللا تعاىل ابجلهر يف دعوته وإبظهار دينه بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنْذ ْر َعش َ‬
‫ي‬ ‫اص َد ْع يِبَا تُ ْؤَم ُر َوأَ ْع ير ْ‬
‫ي﴾ [الحجر‪.]94 :‬‬‫ض َع ين ال ُْم ْش يرك َ‬ ‫ْاْلَق َْربي َ‬
‫ي﴾ [الشعرا ‪ ]214 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫وكانت حصيلة الدعوة يف هذه الفرتة ما يقارب أربعني رجال وامرأة عامتهم من الفقراء‪.‬‬
‫وال ريب أن حكمة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف دعوته إىل اإلسالم ودعوة األفراد بصورة هادئة خالل هذه‬
‫السنوات األوىل مل يكن بسبب اخلوف على نفسه‪ ،‬بل خوفًا على مستقبل الدعوة من أي نشاط مضاد يقضي عليها‬
‫وهي ملا تكتمل‪ ،‬ومل ترتسخ لكي تصمد أمام أي معارضة أو مواجهة سافرة قد هتددها ابلفناء‪.‬‬
‫َّ‬
‫فكانت نتيجة هذا األسلوب الذي اتبعه الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يف دعوته أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬عدم تعريض الطليعة املؤمنة ألي عمل مضاد يشل احلركة ويفكك ارتباطها ومن مث يدفعها إىل التشرذم‬
‫والضياع‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬توفري العدد الكايف من املؤمنني ابلرسالة؛ لكي تتحمل مسؤولياهتا يف التغيري اإلسالمي جبدارة وإميان‪.‬‬
‫ولذلك فإن هذه املرحلة كانت مبثابة إعداد نفسي وتربية عقيدية وروحية جهادية لتلك الصفوة اليت دخلت يف‬
‫اإلسالم وكان ال بُ َّد منها ليتسىن للنيب القيام مبثل هذه الرتبية اليت ُمت ركن املؤمنني من الصمود يف وجه التحدايت اليت‬
‫تنتظرهم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫المرحلة الثانية‪( :‬الدعوة العامة)‬
‫ي ي‬
‫[الشعرا ‪:‬‬‫ي﴾‬ ‫ك ْاْلَق َْربي َ‬
‫يتَ َ‬
‫ويف هذه املرحلة استجاب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنْذ ْر َعش َ‬
‫ي‬ ‫اص َد ْع يِبَا تُ ْؤَم ُر َوأَ ْع ير ْ‬
‫ي﴾ [الحجر‪ ]94 :‬وبدأ بتنفيذ أمر ربه ابلدعوة العامة عرب‬ ‫ض َع ين ال ُْم ْش يرك َ‬ ‫‪ ]214‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫خطوتني‪:‬‬
‫اخلطوة األوىل‪ :‬دعوة األقربني من عشريته وقومه‪ ،‬وهم بنو عبد املطلب إىل اإلسالم وإبالغهم رسالة هللا تعاىل‬
‫ي ي‬
‫ك ْاْلَق َْربي َ‬
‫ي﴾ [الشعرا ‪.]214 :‬‬ ‫يتَ َ‬
‫تنفيذا لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنْذ ْر َعش َ‬
‫ي ي‬
‫ي﴾ [الشعرا ‪ ]214 :‬مجع النيب صلى هللا‬‫ك ْاْلَق َْربي َ‬
‫يتَ َ‬
‫فعن الرباء بن عازب قال‪ :‬ملا نزل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنْذ ْر َعش َ‬
‫س(‪ ،)1‬فأمر عليًا‬
‫الع َّ‬ ‫ِّ‬
‫رجال الرجل منهم َيكل املُسنَّة ويشرب ُ‬ ‫عليه وآله وسلم بين عبد املطلب وهم يومئذ أربعون ً‬
‫برجل شاة فقال‪ :‬ادنوا بسم هللا فدان القوم عشرة عشرة فأكلوا وشبعوا‪ ،‬مث دان بقعب من لنب فشرب منه‪ ،‬مث‬ ‫فأتى ر‬
‫قال‪ :‬اشربوا على اسم هللا‪ ،‬فشربوا حىت رووا‪ ،‬فبدرهم أبو هلب وقال‪ :‬هذا ما سحركم به الرجل‪ ،‬فسكت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم يومئذ ومل يتكلم‪ ،‬مث دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب‪ ،‬مث أنذرهم‬
‫ودعاهم إىل اإلميان فقال‪ « :‬من يؤازرِن ويؤاخيّن‪ ،‬ويكون وليي ووصيي بعدي‪ ،‬وخليفيت ِف أهلي»‪ .‬فسكت‬
‫القوم‪ ،‬فقال علي‪« :‬أَن»‪ ،‬فأعاد ثال ًاث والقوم سكوت وعلي يقول كل مرة‪ :‬أان‪ ،‬فقال يف املرة الثالثة‪ :‬أنت‪ .‬فقاموا‬
‫(‪)2‬‬
‫يقولون أليب طالب‪ :‬أطع ابنك فقد أ ِّرُمر عليك»‬
‫إن البتداء بذوي القربى والعشيرة يهدف إلى‪:‬‬
‫َّأوًال‪ :‬تثبيت أوىل دعائم الدعوة؛ ألنه إذا استطاع أن يستقطب عشريته األقربني إىل اإلسالم يستطيع بعد ذلك‬
‫أن يتوجه إىل غريهم بقدم اثبتة وعزم راسخ وإرادة مطمئنة‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬دفع أبناء عشريته إىل الدفاع عنه بدافع القرابة على فرض أهنم مل يؤمنوا بدعوته‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬بلورة مدى استعداد البنية الداخلية من أقرابئه وقومه للوقوف إىل جانبه والتحمل معه؛ ليتم من خالل ذلك‬
‫تقدير املواقف املستقبلية يف مواجهة التحدايت‪.‬‬

‫(‪ )1‬املسنة‪ :‬هي ذات حولني من البقر‪ .‬والعُس‪ :‬القدح الكبري‪.‬‬


‫(‪ )2‬املصابيح أليب العباس احلسين ص ‪ ،143-142‬والكامل البن األثري ‪ ،41/2‬وتفسري ابن أيب حامت ‪ 2826/9‬رقم (‪،)1015‬‬
‫ومسند البزار ‪ 104/2‬رقم ‪ ،455‬و‪ 19/3‬رقم ‪ ،76‬ومسند أمحد ‪ 236/1‬رقم ‪ 883‬أبلفاظ وأسانيد خمتلفة‪ ،‬وأتريخ الطربي‬
‫‪ 321/2‬بلفظ‪« :‬أن يكون أخي وصاحيب ووارثي»‪ .‬والبداية والنهاية ‪ ،52/3‬وتفسري الطربي ‪ ،148/19/11‬وتفسري ابن‬
‫كثري ‪ ،350/3‬وسرية ابن كثري ‪ .457/1‬ولكن بلفظ‪« :‬أخي وكذا وكذا»‪ ،‬وكنز العمال ‪ 363/9‬عن ابن إسحاق وابن جرير‬
‫وابن أيب حامت وابن مردويه بلفظ‪« :‬أخي ووصيي وخليفيت فيكم»‪ ،‬والنسائي يف اخلصائص ‪ 76‬رقم ‪ 36‬بلفظ‪« :‬أخي وصاحيب‬
‫ووارثي»‪ ،‬ومسند أمحد رقم ‪ 1371‬بلفظ‪« :‬أخي وصاحيب»‪ ،‬وأخرج ابن عساكر يف اتريخ دمشق ‪ 46/42‬هبذا اللفظ‪،‬‬
‫وبلفظ‪« :‬على أن يكون أخي وله اجلنة»‪..‬‬
‫‪38‬‬
‫فصاعدا ركن من أركان هذا الدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫ابعا‪ :‬التأكيد على أن والية علي بن أيب طالب عليه السالم من اآلن‬
‫رً‬
‫اخلطوة الثانية‪ :‬دعوة عامة الناس مبن فيهم قريش إىل الدخول يف اإلسالم‪.‬‬
‫فقد ذكر املؤرخون أنه بعد أن أنذر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عشريته األقربني وانتشر أمر نبوته يف وسط‬
‫مكة بدأت قريش تتعرض للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابالستهزاء والسخرية والتكذيب‪ ،‬وكان من مجلة الذين‬
‫ي * إي ََّن َك َف ْي نَ َ‬ ‫ي‬ ‫ع يِبَا تُ ْؤَم ُر َوأَ ْع ير ْ‬
‫اك‬ ‫ض َع ين ال ُْم ْش يرك َ‬ ‫اص َد ْ‬
‫استهزأوا به عمه أبو هلب؛ فأنزل هللا قوله تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫ي‬
‫ي﴾ [الحجر‪ ]95 ، 94 :‬وكانت هذه اآلية متثل األمر إبعالن الدعوة أمام مجيع الناس مهما كانت النتائج‪،‬‬ ‫ال ُْم ْستَ ْه يزئ َ‬
‫وقد وعده هللا فيها أبنه سيكفيه املستهزئني ويتوىل هو عز وجل أمرهم‪ ،‬فكانت اخلطوة الثانية تنفيذا ألمر هللا يف اآلية‬
‫خيل ِف‬
‫يشا وقبائل مكة فلما اجتمعوا قال هلم‪« :‬أرأيتم لو أخربتكم أن ر‬
‫حيث صعد النيب على الصفا واندى قر ً‬
‫مصدقي»؟ قالوا‪ :‬نعم أنت عندان غري متهم وما جربنا عليك كذاب قط‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫سفح جبل قد طلعت عليكم أكنتم‬
‫« إِن نذير لكم من عذاب شديد‪ ،‬إن هللا أمرِن أن أنذركم من عقابه‪ ،‬وإِن َل أملك لكم من الدنيا منفعة وَل‬
‫من اْلخرة نصيبرا إَل أن تقولوا َل إله إَل هللا»(‪.)1‬‬

‫ردود فعل قريش‪:‬‬


‫كان رد فعل قريش أمام جهره صلى هللا عليه وآله وسلم ابلدعوة أن أدبروا عنه وتنكروا لدعوته وبدأوا حياولون‬
‫بشىت األساليب القضاء على حركته‪ ،‬وأهم احملاوالت اليت قاموا هبا هي‪:‬‬
‫‪ -1‬مواجهة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابلتكذيب والسخرية واالستخفاف واالستهزاء ورميه أبنواع التهم من‬
‫قبيل ساحر وجمنون‪ ،‬وكان ذلك هو رد الفعل األويل‪ ،‬ومل يصل رد الفعل هذا إىل حد املواجهة املباشرة‪ ،‬إال أن‬
‫استمرار النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابلدعوة وإصراره عليها من جهة وتعرضه آلهلة قريش وأصنامها من جهة‬
‫أخرى واتساع نشاط النيب وتكاثر املسلمني ابستمرار من جهة اثلثة جعل املشركني يشعرون جبدية املوقف وخطورته‬
‫والتفكري يف حماولة جديدة بعيدة عن العنف فقرروا‪:‬‬
‫‪ -2‬مفاوضة النيب ومساومته على الدعوة وقد مرت املفاوضات بثالث جوالت انتهت كلها ابلفشل الذريع‪.‬‬
‫يف اجلولة األوىل‪ :‬حاولت قريش استعطاف أيب طالب من أجل الضغط على ابن أخيه فقالوا له‪ :‬إن ابن أخيك‬
‫ق د سب آهلتنا وعاب ديننا‪ ،‬وسفه أحالمنا‪ ،‬وضلل أبناءان‪ ،‬فإما أن تكفه عنا‪ ،‬وإما أن ختلي بيننا وبينه‪ ،‬فردهم أبو‬
‫ردا رفي ًقا‪ -‬على حد تعبري الطربي‪ -‬فانصرفوا عنه وواصل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم دعوته‪.‬‬
‫طالب ً‬
‫ويف اجلولة الثانية‪ :‬تواصت قريش ابلشدة وعدم املهادنة يف املوقف فجاءوا إىل أيب طالب وقالوا له‪ :‬إان كنا قد‬
‫استنهيناك عن ابن أخيك‪ ،‬فلم تنهه عنا‪ ،‬وإان وهللا ال نصرب على هذا من شتم آابئنا وتسفيه آرائنا‪ ،‬وعيب آهلتنا‪،‬‬
‫حىت تكفه عنا‪ ،‬أو ننازله وإايك حىت يهلك أحد الفريقني‪ ،‬فوعدهم أبو طالب أن يبلغ ابن أخيه موقفهم فكان رد‬

‫(‪ )1‬البخاري ‪ 1902/4‬رقم ‪ ،4687‬ومسلم ‪ 194/1‬رقم ‪.208‬‬


‫‪39‬‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ذلك الرد اخلالد‪« :‬وهللا َّي عم لو وضعوا الشمس ِف ُييّن والقمر ِف يساري على‬
‫أن أترك هذا اْلمر ما تركته حىت يظهره هللا أو أهلك فيه»(‪.)1‬‬
‫حممدا ليقتلوه وَيخذ هو يف مقابله عمارة بن الوليد أمجل‬
‫ويف اجلولة الثالثة‪ :‬عرضوا على أيب طالب أن يعطيهم ً‬
‫فىت يف قريش ليكون يف رعايته وكفالته بدل حممد‪ ،‬فرفض أبو طالب موخبًا هلم بقوله‪ :‬لبئس ما تسومونين عليه أتعطوين‬
‫ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابين تقتلونه‪ ،‬هذا وهللا ما ال يكون أبدا‪.‬‬
‫‪ -3‬مفاوضة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ومساومته مباشرة عن طريق إغرائه ابملال واجلاه‪ ،‬ولكن النيب صلى هللا‬
‫رجال من نوع آخر ال طمع له يف مال وال سلطان‪.‬‬
‫عليه وآله وسلم رفض عرضهم ورأوا فيه ً‬
‫‪ -4‬هني الناس عن االلتقاء ابلنيب صلى هللا عليه وآله وسلم واالستماع إىل ما يتلوه من قرآن وقد حتدث القرآن عن‬
‫آن َوالْغَ ْوا في ييه ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْغليبُو َن﴾ [فصلت‪.]26 :‬‬
‫ال الَّ يذين َك َفروا ََل تَسمعوا يَلَ َذا الْ ُقر ي‬
‫ْ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ذلك بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫أحياان من‬
‫‪ -5‬التعرض لشخص النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابإليذاء املباشر من سفهاء قريش وعبيدهم‪ ،‬و ً‬
‫زعمائهم ووجهائهم‪ :‬كأيب جهل‪ ،‬وعقبة بن أيب معيط‪ ،‬وأيب هلب وزوجته حىت قال النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪« :‬ما أوذي نيب ما أوذيت»‪.‬‬
‫‪ -6‬اتباع سياسة القمع والتعذيب والتنكيل ابلصفوة املؤمنة وخاصة أبولئك الفقراء والضعفاء الذين ال عشرية حتميهم‪:‬‬
‫كآل ايسر‪ ،‬وبالل احلبشي‪ ،‬وعامر بن فهرية‪ ،‬ومصعب بن عمري وغريهم‪.‬‬
‫وقد ضرب هؤالء املثل األعلى يف الصمود والصرب والثبات واجلهاد والتضحية من أجل العقيدة واملبدأ واحلق‪.‬‬
‫‪ -7‬استخدام سالح احلرب اإلعالمية والدعاية ضد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم بكل ما تقتضيه من جمادلة‬
‫ومهاترة وترويج إشاعات كاذبة؛ فقد كانوا يروجون بني الوافدين إىل مكة أن هذا الرجل ساحر‪ ،‬وأنه يفرق بني‬
‫املرء وأبيه‪ ،‬وبني املرء وزوجه‪ ،‬وبني املرء وعشريته‪ ،‬وأن ما َيِت به إمنا يتعلمه عند رجل نصراين امسه جرب‪ ،‬وقد رد‬
‫ش ر ليسا ُن الَّ يذي ي ل ي‬
‫ْح ُدو َن إيل َْي يه أَ ْع َج يم ٌّي َو َه َذا‬ ‫ي ي‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫عليهم القرآن بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد نَ ْعلَ ُم أَهنُ ْم يَ ُقولُو َن إ ََّّنَا يُ َعلِ ُمهُ بَ َ ٌ َ‬
‫لي َسا ٌن َع َري ٌّيب ُمبي ٌي﴾ [النحل‪.]103 :‬‬
‫‪ -8‬املقاطعة لبين هاشم وفرض حصار اجتماعي واقتصادي عليهم؛ فقد اجتمع املشركون يف دار الندوة وكتبوا وثيقة‬
‫اتفقوا فيها على البنود التالية‪:‬‬
‫أحدا من نسائهم لبين هاشم وأن ال يتزوجوا منهم‪.‬‬
‫‪ -1‬أن ال يزوجوا ً‬
‫‪ -2‬أن ال يبتاعوا منهم شيئًا‪ ،‬وال يبيعوهم شيئا مهما كان نوعه‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ال جيتمعوا معهم على أمر من األمور‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يكونوا يدا واحدة على حممد وأتباعه‪.‬‬

‫(‪ )1‬املصابيح أليب العباس احلسين ص ‪ ،183‬والبداية والنهاية ‪ ،63/3‬وابن هشام ‪ ،285/1‬واتريخ الطربي ‪ ،326/2‬وعيون‬
‫األثر ‪ ،189/1‬وسرية ابن كثري‪ ،474 ،463/1‬ودالئل النبوة للبيهقي‪ 63/2‬رقم (‪ ،)495‬والروض األنف ‪.6/2‬‬
‫‪40‬‬
‫قدَّرت قريش أن هذه املقاطعة ستؤدي إىل أحد ثالثة أمور‪ :‬إما قيام بين هاشم بتسليمهم النيب ليقتلوه‪ ،‬وإما أن‬
‫وعطشا حتت وطأة احلصار‪.‬‬
‫ً‬ ‫جوعا‬
‫يرتاجع النيب عن دعوته‪ ،‬وإما القضاء عليه وعلى مجيع من معه ً‬
‫استمرت املقاطعة ثالث سنوات من السنة السادسة حىت التاسعة للبعثة وكان املسلمون خالهلا ينفقون من أموال‬
‫خدجية وأيب طالب‪ ،‬حىت نفدت واشتدت وطأة املقاطعة‪ ،‬ومل يكونوا يستطيعون اخلروج من شعب أيب طالب إال يف‬
‫جدا‪.‬‬
‫موسم العمرة يف رجب وموسم احلج يف ذي احلجة‪ ،‬فكانوا يشرتون حينئذ ويبيعون ضمن ظروف صعبة ً‬
‫وكان أبو طالب (رضي هللا عنه) حيرس النيب صلى هللا عليه وآله وسلم بنفسه خوفا من أن يتسلل أحد من‬
‫املشركني إليه ويغتاله على حني غرة أو غفلة‪ ،‬بل كان إذا حل الظالم ينقل النيب من املكان الذي عرف أهل‬
‫ِّر‬
‫الشعب أنه ابت فيه إىل مكان آخر وجيعل ابنه عليًا عليه السالم يف مكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حىت‬
‫إذا حصل أمر أصيب ولده دونه‪.‬‬
‫انتهت املقاطعة بعدما أكلت األرضة ما يف صحيفة املشركني اليت تعاقدوا فيها على املقاطعة‪ ،‬وقيام مجاعة منهم‬
‫ممن تربطهم ببين هاشم عالقات نسبية بنقض الصحيفة وإلغاء مفاعيلها(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬طبقات ابن سعد ‪ ،209/1‬والروض األنف ‪ ،127/2‬وعيون األثر ‪ ،222/1‬والبداية والنهاية ‪ ،108/3‬وسرية ابن هشام‬
‫‪ ،379/1‬والسرية البن كثري ‪.49/2‬‬
‫‪41‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫عالقته صلى هللا عليه وآله وسلم بربه‪4-‬‬

‫أذكاره وتسبيحه‪:‬‬

‫• كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يكثر من ذكر هللا بل ما فارق ذكر هللا شفتيه املباركتني قط‪ ،‬ومل يُر‬
‫مستغفرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫شاكرا‬
‫مسبحا أو ً‬‫ً‬ ‫ذاكرا‬
‫إال ً‬
‫وَل قُ َّوةَ إَل يِبهلل»‪ .‬وكان النيب صلى‬
‫ول َ‬
‫• روي عنه صلى هللا عليه وآله وسلم أنه كان يكثر من قول‪َ« :‬ل َح َ‬
‫هللا عليه وآله وسلم إذا جلس يف اجمللس فأراد أن يقوم قال‪« :‬سبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬وأشهد أن َل إله‬
‫إَل أنت أستغفرك وأتوب إليك»‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫• ويقول صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إييِِن َْل ي‬
‫وب إيل َْيه يِف الْيَ ْوم َس ْبعي َ‬
‫ي َم َّرةر»‪.‬‬ ‫َستَ غْف ُر هللاَ َوأَتُ ُ‬
‫ْ‬
‫مخسا وعشرين‪.‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم ال يقوم من جملس وإن خف حىت يستغفر هللا ً‬
‫• وعن اإلمام الصادق عليه السالم قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يستغفر هللا عز وجل يف كل‬
‫يوم سبعني مرة ويتوب إىل هللا عز وجل سبعني مرة‪.‬‬
‫وها يِب يَل ْستيغْ َفا ير»‪.‬‬ ‫وب ص َداء َك ي‬ ‫ي‬
‫َجلُ َ‬ ‫ُّح ي‬
‫اس فَأ ْ‬ ‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬إي َّن ل ْل ُقلُ ي َ ر َ‬
‫ص َداء الن َ‬
‫• وكما كان دائم االستغفار كان دائم الشكر هلل سبحانه على كل حال‪.‬‬
‫فعن أمري املؤمنني عليه السالم قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إذا أاته أمر يسره قال‪« :‬ا ْْلَ ْم ُد‬
‫ال»‪ .‬وعنه عليه السالم‬ ‫ات» وإذا أاته أمر يكرهه قال‪« :‬ا ْْلم ُد ي‬
‫هلل َعلَى ُك يل َح ٍ‬ ‫الص ي‬
‫اْلَ ُ‬ ‫ي‬
‫هلل الَّ يذي بيني ْع َمتي يه تَتي ُّم َّ‬
‫ِ‬ ‫َْ‬
‫ساجدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خر هلل عز وجل‬ ‫قال‪ :‬ما استيقظ رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من نوم قط إال َّ‬
‫ب الْعال يَم َ ي‬ ‫ي‬
‫يا‬
‫ي َكث ر‬ ‫وعنه عليه السالم كان النيب يف كل يوم إذا أصبح وطلعت الشمس يقول‪« :‬ا ْْلَ ْم ُد هلل َر يِ َ‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫طَِبرا َعلَى ُك يِل َحال» يقول ثالمثائة وستني مرة ً‬
‫شكرا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫(‪ )7‬ما بني البعثة واهلجرة‪2 /‬‬

‫مواجهة تحديات قريش‬


‫اتبع صلى هللا عليه وآله وسلم يف مواجهة حماوالت قريش للقضاء على اإلسالم اخلطوات التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬رفض كل أشكال املساومات والضغوط‪ ،‬واإلصرار على االستمرار يف الدعوة‪ ،‬والثبات والصرب على األذى‬
‫والتحدايت‪.‬‬
‫‪ -2‬االتصال الشخصي واملباشر بكل األفراد واجلماعات الوافدة إىل مكة وعرض اإلسالم عليهم وعلى سائر‬
‫القبائل‪ ،‬خاصة يف املواسم‪ ،‬فكان ال يسمع بقادم إىل مكة له اسم وشرف ونفوذ إال وابدر إىل اللقاء به‪ ،‬وكان ال‬
‫يدع مناسبة جيتمع فيها الناس إال قصدهم إىل أنديتهم ليدعوهم إىل هللا‪.‬‬
‫‪ -3‬توسيع دائرة الدعوة إىل خارج مكة‪ ،‬وذلك من خالل أمر املسلمني ابهلجرة إىل احلبشة وخروجه هو صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم إىل الطائف‪ ،‬وإجناز بيعة العقبة‪.‬‬

‫الهجرة إلى الحبشة‬


‫هاجر املسلمون إىل احلبشة يف رجب من السنة اخلامسة للبعثة بعدما أمرهم النيب بذلك وقال هلم‪ :‬إن هبا ملكا‬
‫ال يظلم عنده أحد‪ ،‬وكان عددهم يف أرض احلبشة ثالثة ومثانني ما بني رجل وامرأة عدا األطفال‪ ،‬وكان يف مقدمتهم‬
‫جعفر بن أيب طالب ابن عم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ونعتقد أن الهدف من هذه الهجرة‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬التخلص من الضغوط وسياسة القمع والتعذيب اليت كان يتعرض هلا املسلمون داخل مكة‪ ،‬وإجياد مكان‬
‫َّ‬
‫آمن للمسلمني ولكل من يدخل يف اإلسالم يستطيعون فيه ممارسة شعائرهم حبرية بعيدا عن أذى قريش ومضايقاهتا‬
‫واضطهادها‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬التبشري ابإلسالم ومبادئه وأهدافه وأحكامه‪ ،‬والرتويج له والتعريف به خارج اجلزيرة العربية‪ ،‬بدليل‪ :‬هجرة‬
‫مجاعة ممن مل يتعرض للتعذيب أو التنكيل كجعفر بن أيب طالب من جهة‪ ،‬وبقاء املهاجرين يف احلبشة إىل ما بعد‬
‫السنة الثالثة أو السابعة(‪ )1‬بعد اهلجرة النبوية إىل املدينة من جهة أخرى‪.‬‬

‫(‪ )1‬املشهور يف كتب السري أن املهاجرين أقاموا أبرض احلبشة عند النجاشي يف أحسن جوار؛ فلما مسعوا مبهاجرة النيب صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم إىل املدينة رجع منهم ثالثة وثالثون رجال ومن النساء مثاين نسوة فمات منهم رجالن مبكة وحبس مبكة سبعة‬
‫نفر‪ ،‬وشهد بد را منهم أربعة وعشرون رجال‪ ،‬فلما كان شهر ربيع األول وقيل‪ :‬احملرم سنة سبع من هجرة رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم إىل املدينة كتب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إىل النجاشي كتااب يدعوه فيه إىل اإلسالم‪ ،‬وكتب إليه أن‬
‫‪43‬‬
‫اثلثًا‪ :‬توجيه ضربة لكربايء قريش‪ ،‬ولتدرك أن قضية اإلسالم تتجاوز حدود تصوراهتا وقدراهتا‪ ،‬وأن املسلمني‬
‫قادرون على جتاوز حدود الوطن والتخلي عن كل شيء يف سبيل إنقاذ عقيدهتم وإسالمهم‪.‬‬

‫الخروج إلى الطائف‬


‫خرج النيب إىل الطائف يف السنة العاشرة من البعثة وأقام فيها عشرة أايم يتجول بني أحيائها ويدعو أهلها إىل‬
‫اجعا إىل مكة‪.‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولكنهم مل يسمعوا له بل آذوه وسخروا منه‪ ،‬فانصرف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ر ً‬
‫وقد كان يهدف صلى هللا عليه وآله وسلم من االنتقال إىل الطائف إىل اإلعداد للمستقبل؛ ابعتبار أن الطائف‬
‫نظرا لوجود قبيلة كبرية فيها هي ثقيف‪ ،‬فال بُ َّد من‬
‫هي البلد الثالث الذي له موقعه ونفوذه اخلاص يف املنطقة؛ ً‬
‫التمهيد إلسالمهم يف املستقبل‪.‬‬
‫ورمب ا تكون مثة أهداف أخرى منها‪ :‬إجياد قاعدة ارتكاز لدعوته يف الطائف بدل مكة‪ ،‬بعد أن وجد النيب صلى‬
‫وخصوصا بعدما أثرت عمليات التعذيب‬
‫ً‬ ‫هللا عليه وآله وسلم أن مكة ال تصلح أن تكون قاعدة لعمله الرسايل‪،‬‬
‫واإلرهاب اليت مارستها قريش حبق املسلمني على نشاط النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واحلد من انتشار اإلسالم‬
‫بني الناس‪.‬‬

‫بيعة العقبة‬
‫متنقال بني‬
‫بعد أن عاد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم من الطائف استأنف جهوده عند حلول موسم احلج ً‬
‫وفودها حيث اجتمع بستة من أهل يثرب (املدينة) يف السنة احلادية عشرة من البعثة فدعاهم لرسالته‪ ،‬فآمنوا به‪،‬‬
‫وأقسموا أن يعملوا يف سبيلها عند عودهتم إىل بلدهم‪.‬‬
‫مقصودا حيث اجتمع هبم بشكل شبه سري‪ ،‬وركز على عدد‬
‫ً‬ ‫عفواي بل كان‬
‫ومل يكن اجتماعه هبؤالء الستة عمال ً‬
‫حمدود‪ ،‬ال كما فعل مع ابقي الوفود حيث كان يدعوها عالنية‪.‬‬
‫وكان هدف الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم من هذا االجتماع هو حث هؤالء األشخاص على القيام بنشاط‬
‫يف بالدهم لتهيئة اجلو وخلق مناخ مؤيد ومتعاطف مع الدعوة ومبادئها اجلديدة يف املدينة‪.‬‬

‫يزوجه أم حبيبة بنت أيب سفيان‪ ،‬وكتب إليه أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه وحيملهم ففعل فجاءوا حىت قدموا املدينة‪.‬‬
‫ينظر عيون األثر ‪ ،156/1‬ونور اليقني يف سرية سيد املرسلني ص ‪.152‬‬
‫‪44‬‬
‫العقبة األولـى‪:‬‬

‫وعندما حل موسم احلج يف العام الثاين أي يف السنة الثانية عشرة من البعثة التقى النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫سرا يف و ٍّاد ضيق ابلعقبة بني مكة ومىن‪ ،‬وهي العقبة األوىل‪ ،‬وقد أعلنوا‬
‫رجال من اليثربيني واجتمع هبم ً‬
‫مع اثين عشر ً‬
‫فيها إمياهنم واستعدادهم للعمل على نشر اإلسالم‪ ،‬وابيعوا النيب على ذلك(‪.)1‬‬
‫فلما أرادوا االنصراف إىل بلدهم بعث رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمري من أجل أن‬
‫يعلمهم اإلسالم‪ ،‬ويفقههم يف الدين‪ ،‬وجيعل منهم قوة أكثر فاعلية ودقة يف نشر الدين اجلديد يف صفوف أهل‬
‫املدينة‪.‬‬
‫استطاع مصعب بن عمري‪ -‬بفعل وعيه وخربته بشىت أساليب العمل والتبليغ‪ -‬أن يقوم بواجبه كما أراد رسول‬
‫مؤيدا‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬وأصبح جو املدينة العام ً‬‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وكان عدد املسلمني يف املدينة يزداد ً‬
‫للرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ومهيأً لقدومه‪.‬‬

‫العقبة الثانية‪:‬‬
‫ويف العام التايل أي يف السنة الثالثة عشرة من البعثة وبعد مرور عام كامل على بيعة العقبة األوىل عاد مصعب‬
‫بن عمري إىل مكة ومعه مجع كبري من مسلمي املدينة‪ ،‬خرجوا مستخفني مع حجاج قومهم املشركني‪.‬‬
‫اعا بني الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم وبني مسلمي‬
‫ويبدو أن مصعبًا قبل حضوره إىل مكة كان قد رتب اجتم ً‬
‫يثرب بعد انتهاء موسم احلج‪ ،‬فالتقى بعضهم ابلنيب صلى هللا عليه وآله وسلم وواعدهم أن جيتمع هبم يف العقبة يف‬
‫ليال‪ ،‬وأمرهم ابحلفاظ على سرية االجتماع‪ ،‬ويف الليلة املعينة مت االجتماع حبضور علي‬
‫اليوم الثاين من أايم التشريق ً‬
‫عليه السالم واحلمزة يف الدار الذي كان ينزل فيه الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم وهو دار عبد املطلب‪ ،‬فبايعوه‬
‫على محايته‪ ،‬وعلى أن مينعوه وأهله مما مينعون منه أنفسهم وأهليهم‪ ،‬وعلى أن ينصروه ويقفوا إىل جانبه يف الشدة‬
‫والرخاء‪ ،‬كما ابيعوه على السمع والطاعة واألمر ابملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وعلى أن يدعوا إىل هللا وال خيافوا يف‬
‫هللا لوم ة الئم‪ ،‬وقد مسيت هذه البيعة ببيعة العقبة الثانية‪ ،‬وبذلك بدأ األمل يشرق على القلوب بوجود حاضنة‬
‫جديدة لدين اإلسالم والرسول اخلامت‪.‬‬
‫لقد جنح النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف هناية املطاف بفعل إصراره على مواصلة الدعوة وعدم َيسه أو‬
‫استسالمه أمام الفشل الظاهري يف الطائف ويف مكة‪ ،‬وبفعل الثقة بوعد هللا سبحانه ابلنصر يف إجياد القاعدة املناسبة‬
‫اليت يرتكز عليها اإلسالم فكانت يثرب موضع اختياره اجلديد‪.‬‬
‫مهد فيها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم للهجرة إىل املدينة املنورة‪.‬‬
‫وكانت بيعة العقبة هي اخلطوة الرئيسية اليت ر‬
‫وابهلجرة إىل املدينة تبدأ املرحلة الثالثة من مراحل الدعوة وهي مرحلة بناء الدولة‪ ،‬والدفاع عن اإلسالم‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،73/2‬وابن كثري ‪ ،178/2‬والكامل ‪ ،66/2‬والطربي ‪.356/2‬‬


‫‪45‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه الشخصي‪1-‬‬
‫كان أمري املؤمنني عليه السالم إذا وصف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال‪« :‬كان أجود الناس ك رفا‪،‬‬
‫وأجرأ الناس صدرا‪ ،‬وأصدق الناس َلجة‪ ،‬وأوفاهم ذمة‪ ،‬وألينهم عريكة‪ ،‬وأكرمهم عشرة‪ ،‬ومن رآه بديهة‬
‫(‪)1‬‬ ‫– ْلول مرة‪ -‬هابه‪ ،‬ومن خالطه فعرفه أحبه‪َ ،‬ل أر مثله قبله وَل بعده»‬
‫وعن يونس عن احلسن قال‪ :‬سئلت عائشة عن خلق رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فقالت‪ :‬كان خلقه‬
‫القرآن‪.‬‬
‫ومن صف اته الكرمية‪ :‬كان صلى هللا عليه وآله وسلم ال مينعه احلياء أن حيمل حاجته من السوق إىل أهله‪،‬‬
‫ويسلم على من استقبله من غين وفقري وكبري وصغري‪ ،‬وال حيقر ما دعي إليه‪ ،‬ولو إىل حشف التمر‪ ،‬وكان خفيف‬
‫اضعا من‬
‫وحمزوان من غري عبوس‪ ،‬متو ً‬
‫ً‬ ‫بس ًاما من غري ضحك‪،‬‬
‫املؤونة‪ ،‬كرمي الطبيعة‪ ،‬مجيل املعاشرة‪ ،‬طلق الوجه‪ ،‬ر‬
‫غري مذلة‪ ،‬جو ًادا من غري سرف‪ ،‬رقيق القلب‪ ،‬رحيما بكل مسلم‪ ،‬ومل يتجشأ من شبع قط‪ ،‬ومل ميد يده إىل طمع‬
‫قط‪.‬‬
‫وقال العلماء يف أخالقه الفردية‪ :‬كان صلى هللا عليه وآله وسلم أسخى الناس على اإلطالق‪.‬‬
‫وكان جيلس على األرض وينام عليها‪ ،‬وَيكل عليها‪ ،‬وكان خيصف النعل‪ ،‬ويرقع الثوب‪ ،‬ويفتح الباب‪ ،‬وحيلب‬
‫الشاة‪ ،‬ويعقل البعري فيحلبها‪ ،‬ويطحن مع اخلادم إذا أعيا (تعب)‪.‬‬

‫وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أبعد الناس غضبًا وأسرعهم رضا‪ ،‬وكان أصرب الناس على أوزار الناس‪.‬‬
‫وكان إذا أكل مسى‪ ،‬وَيكل بثالث أصابع‪ ،‬ومما يليه‪ ،‬وال يتناول من بني يدي غريه‪ ،‬ويؤتى ابلطعام فيشرع‬
‫كف عنه‪.‬‬
‫قبل القوم مث يشرعون وذلك لكي ال يستحي أحد من تناول الطعام إذا هو ر‬
‫ذم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم طعاما قط‪ ،‬وكان إذا أعجبه أكله وإذا كرهه تركه‪ ،‬بل يف بعض‬
‫وما ر‬
‫الرواايت كان َيكل ما حضر وال يرد ما وجد‪ ،‬وما رؤي َيكل متكئًا قط‪.‬‬
‫وكان صلى هللا عليه وآله وسلم إذا فرغ من طعامه يغسل يديه من الطعام حىت ينقيها فال يوجد ملا أكل ريح‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن أيب شيبة ‪ 328/6‬رقم ‪ ،31805‬واخلطيب ‪ ،30/11‬والبيهقي يف الشعب ‪ 148/2‬رقم ‪ .1415‬وروي بلفظ‪:‬‬
‫صدرا‪.‬‬
‫صدرا‪ ،‬ولفظ‪ ،‬أجود الناس ً‬
‫صدرا‪ ،‬ولفظ‪ :‬أشرح الناس ً‬
‫صدرا‪ ،‬ولفظ‪ :‬أوسع الناس ً‬
‫أرحب الناس ً‬
‫‪46‬‬
‫وكان صلى هللا عليه وآله وسلم ال يلبس ثوبني ويلبس الغليظ من القطن والكتان‪ ،‬إذا لبس جديدا أعطى‬
‫خلَف ثيابه مسكينا‪.‬‬
‫وكا ن جيالس الفقراء‪ ،‬ويؤاكل املساكني‪ ،‬ويناوهلم بيده‪ ،‬ال يرتفع على عبيده وإمائه يف مأكل وال ملبس‪.‬‬
‫وكان يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو محار‪.‬‬

‫•••‬

‫‪47‬‬
‫(‪ )8‬اهلجرة إىل املدينة‬

‫بعد بيعة العقبة مسح النيب صلى هللا عليه وآله وسلم للمسلمني وخاصة ألولئك الذين كانوا يتعرضون لإليذاء‬
‫والضغوط ابهلجرة إىل املدينة‪ ،‬وقال هلم فيما يروى عنه صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إن هللا عز وجل قد جعل لكم‬
‫ودارا َتمنون هبا»‪.‬‬
‫إخواَن ر‬
‫ر‬
‫سرا وعالنية‪ ،‬مضحني بوطنهم وبعالقاهتم وكثري منهم‬
‫فأخذ املسلمون يتوافدون إىل املدينة أفر ًادا ومجاعات‪ً ،‬‬
‫مبمتلكاهتم ومكانتهم يف جمتمعهم اجلاهلي يف سبيل عقيدهتم ودينهم‪.‬‬
‫خطرا على وجودها ومستقبلها؛ ملا يشكله املهاجرون مع أهل املدينة من قوة تستطيع‬
‫ورأت قريش يف هذه اهلجرة ً‬
‫أن تقف يف وجه قريش ومصاحلها‪ ،‬خاصة أن جتارهتا إىل الشام متر عرب املدينة‪ ،‬فأخذت متنع املسلمني من اهلجرة‬
‫وتالحقهم وتُلحق العذاب واإلرهاب بكل من كان يقع يف قبضتها‪.‬‬
‫وبرغم كل هذه اإلجراءات مت ركن معظم املسلمني من اهلجرة ومل يبق يف مكة بعد بيعة العقبة بفرتة وجيزة سوى‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وعلي عليه السالم وعدد قليل من املسلمني املستضعفني‪.‬‬
‫بقي النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف مكة ينتظر اإلذن اإلهلي ابهلجرة وشعرت قريش حبجم اخلطر فيما لو‬
‫التحق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أبصحابه خاصة بعدما ق ردرت أن املدنيني سيحمونه وينصرونه بكل طاقتهم‬
‫بعدما ابيعوه على السمع والطاعة واجلهاد‪ ،‬فاختذت قر ًارا حامسًا ابلتخلص من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قبل‬
‫فوات األوان‪ ،‬واستطاعت أن تنتزع قر ًارا مبشاركة كل قبائل قريش يف عملية االغتيال من أجل أن يتفرق دمه يف‬
‫القبائل كلها فال يعود إبمكان بين هاشم أن يثأروا لدمه‪.‬‬
‫ليال من مكة وأن جيعل عليًّا عليه السالم مكانه ليبيت على‬
‫ولكن هللا أخرب رسوله هبذه املؤامرة وأمره ابخلروج ً‬
‫ليفوت عليهم كيدهم‪ ،‬فخرج رسول هللا إىل غار ثور‪ ،‬وعندما اقتحم املشركون دار‬
‫فراشه من أجل التمويه واإليهام‪ ،‬ر‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وجدوا أنفسهم أمام علي عليه السالم !‪.‬‬
‫شري َمرضاة‬ ‫ِّ‬
‫بكل إخالص وتضحية وشجاعة‪ ،‬وابع نفسه ليَ َ‬ ‫علي عليه السالم أوامر هللا ورسوله ر‬ ‫لقد ن رفذ اإلمام ر‬
‫مثاال للتضحية والفداء‪ ،‬وقُدوة يف الشجاعة والثبات‪ ،‬ويف‬ ‫ومدح الوحي‪ ،‬فكان ً‬ ‫فنال بذلك َ ِّ‬ ‫هللاِّ‪َ ،‬‬
‫شرف الثناء اإلهلي َ‬
‫ض ياة ي‬ ‫اس من ي ْش يري نَ ْف ي‬ ‫ي‬
‫وف‬
‫هللا َوهللاُ َرُؤ ٌ‬ ‫اء َم ْر َ‬
‫سهُ ابْتغَ َ‬
‫َ‬ ‫علي عليه السالم وموقفه الفدائي نزل قول هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬وم َن النِ ي َ َ‬
‫يِبلْعيب ي‬
‫اد﴾‪[.‬البقرة ‪]207 :‬‬
‫َ‬
‫وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قد خرج قبل ذلك من بينهم وهو يقرأ هذه اآلية‪َ ﴿ :‬و َج َعلْنَا يم ْن بَْ ي‬
‫ي أَيْ يدي يه ْم‬
‫ص ُرو َن﴾ [يس‪ ]9 :‬وتوجه حنو غار ثور حيث بقي يف الغار ثالثة أايم‬ ‫اهم فَ ُهم ََل ي ْب ي‬
‫ش ْي نَ ُ ْ ْ ُ‬ ‫َسدًّا َويم ْن َخل يْف يه ْم َسدًّا فَأَ ْغ َ‬
‫إىل أن متكن من الوصول إىل قرية قباء يف املدينة املنورة برغم مالحقة قريش له‪.‬‬
‫وك َوُيَْ ُك ُرو َن‬‫وك أ َْو ُُيْ ير ُج َ‬ ‫ين َك َف ُروا لييُ ثْبيتُ َ‬
‫وك أ َْو يَ ْقتُ لُ َ‬ ‫وقد حتدث القرآن عن ذلك بقوله تعاىل‪﴿ :‬وإي ْذ ُيَْ ُكر بي َ َّ ي‬
‫ك ال ذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ين﴾ [األنف‪:‬ل‪.]30 :‬‬‫َوُيَْ ُك ُر هللاُ َوهللاُ َخ ْيُ ال َْماك ير َ‬
‫‪48‬‬
‫ول لي ي ي‬ ‫ي‬
‫صاحبيه ََل ََتْ َز ْن إي َّن هللاَ َم َعنَا فَأَنْ َز َل هللاُ‬
‫ي إي ْذ ُُهَا يِف الْغَا ير إي ْذ يَ ُق ُ َ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إي ْذ أَ ْخ َر َجهُ الَّذ َ‬
‫ين َك َف ُروا ََثيِنَ اثْ نَ ْ ي‬
‫يز حكييم﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ي يي‬ ‫ي ي‬ ‫ي ٍ‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الس ْفلَى َوَكل َمةُ هللا ه َي الْعُلْيَا َوهللاُ َع يز ٌ َ ٌ‬ ‫ين َك َف ُروا ُّ‬ ‫َسكينَ تَهُ َعلَْيه َوأَيَّ َدهُ ِبُنُود ََلْ تَ َرْو َها َو َج َع َل َكل َمةَ الَّذ َ‬
‫‪.]40‬‬
‫وكانت هجرة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف شهر ربيع األول بعدما كان أمضى ثالث عشرة سنة يف مكة‬
‫وكانت هذه اهلجرة بداية التاريخ اإلسالمي(‪.)1‬‬

‫دوافع الهجرة‬
‫فعال خطط له النيب صلى هللا عليه وآله وسلم؛‬
‫مل تكن اهلجرة إىل املدينة رد فعل الضطهاد قريش بل كانت ً‬
‫لتكون املدينة قاعدة ارتكاز للدعوة‪.‬‬

‫وأهم الدوافع التي أدت للهجرة هي‪:‬‬


‫مكاان صاحلًا للدعوة؛ فقد حصل النيب منها على أقصى ما ميكن احلصول عليه‪ ،‬ومل يبق‬ ‫َّأوًال‪ :‬إن مكة مل تعد ً‬
‫خصوصا بعدما جنحت قريش‬
‫ً‬ ‫بعد أي أمل يف دخول فئات جديدة يف الدين اجلديد يف املستقبل القريب على األقل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يف وضع احلواجز والعراقيل الكثرية أمام تقدم هذا الدين وانتشاره‪ ،‬لذلك كان ال بُ َّد من االنتقال إىل مكان آخر‬
‫ينطلق اإلسالم فيه حبرية بعيدا عن ضغوط قريش‪ ،‬ويف منأى عن مناطق سيطرهتم ونفوذهم‪.‬‬
‫واثنيًا‪ :‬إن اإلسالم دين كامل ونظام شامل يعاجل يف تشريعاته مجيع جوانب احلياة وهو للبشرية مجعاء‪ ،‬وما حصل‬
‫عليه النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف مكة بعد ثالث عشرة سنة ال مي ركنه من تطبيق كافة تشريعات اإلسالم على‬
‫البشرية كلها‪ ،‬وحتقيق كامل أهدافه‪ ،‬والسيما ابلنسبة إىل ذلك اجلانب الذي يعاجل مشاكل الناس االجتماعية‬
‫والسياسية وغريها‪ ،‬مما حيتاج إىل السلطة يف جمال فرض القانون والنظام‪ ،‬فكان ال بُ َّد من االنتقال إىل ساحة أخرى‬
‫يستطيع النيب فيها إقامة احلكومة اليت تضمن تطبيق النظام اإلسالمي يف احلياة وحتقيق أهدافه الكربى ونشره يف كافة‬
‫البالد وإبالغه إىل مجيع العباد‪.‬‬

‫سر اختيار المدينة‪:‬‬

‫كانت املدينة مهيأة جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاداي لتكون قاعدة صلبة لإلسالم‪:‬‬
‫‪ -1‬فمن الناحية اجلغرافية تبعد املدينة عن مكة أكثر من أربعمائة كيلو مرتا مما جيعلها مبأمن من هجمات قريش‬
‫املفاجئة واملباغتة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى هي قريبة من طريق جتارة مكة الشام حبيث يتمكن النيب صلى هللا عليه‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،123/1‬والبداية والنهاية ‪ ،214/3‬والكامل ‪ ،71/2‬ومغلطاي ‪ ،153‬والطربي ‪ ،376/2‬وجممع الزوائد ‪،62/6‬‬
‫ومروج الذهب ‪ ،286/2‬واملصابيح أليب العباس احلسين ص ‪ ،229‬والسرية ألمحد الشريف ص ‪ ،69‬وعيون األثر ‪،286/1‬‬
‫والسرية النبوية البن كثري‪ ،226/2‬وطبقات ابن سعد ‪ ،227/1‬والروض األنف ‪ ،229/2‬والسرية احللبية ‪.27/2‬‬
‫‪49‬‬
‫وآله وسلم من فرض سيطرته وممارسة نوع من الضغط السياسي واالقتصادي وحىت العسكري على قريش يف الوقت‬
‫املناسب‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن الناحية االجتماعية فإن طول النزاع القبلي بني سكاهنا من األوس واخلزرج واليهود جعلها منطقة مفككة‬
‫اجتماعيًا فكما أهنا ال تستطيع أن تتماسك أمام قوة اإلسالم فإهنا كانت تتطلع إىل رجل تلتف حوله لينزع عنها‬
‫إىل األبد هذه العصبيات املستعصية‪.‬‬
‫‪ -3‬ومن الناحية االقتصادية تعترب املدينة غنية إبمكانياهتا الزراعية مبا ميكنها من املقاومة واالحتفاظ بنوع من‬
‫احلياة يف حال تعرضت لضغوط اقتصادية من قبل املشركني وغريهم‪.‬‬
‫« أصبحت املدينة جاهزة الستقبال الرسول والرسالة‪ ،‬حظي أهل يثرب (األوس واخلزرج القبيلتان اليمانيتان)‬
‫بدال من قريش ومكة اليت عصت وأبت ومتردت‪ ،‬وترك‬ ‫ابلشرف أن يكونوا هم الذين اختارهم هللا حلمل هذه الرسالة ً‬
‫رسول هللا مكة رغم قداستها‪ ،‬وبرغم أمهيتها‪ ،‬برغم وجود بيت هللا احلرام فيها‪ ،‬وأصبح خادم احلرم‪ -‬الذي يتزعم‬
‫الوضع يف مكة ويزعم أنه األوىل ابهلل وببيته وبدينه وبكل شيء‪ -‬أصبح أاب جهل وأاب سفيان ومن معهم‪ ،‬وأاب هلب‬
‫مسجدا بيتًا‬
‫ً‬ ‫وغريهم من املشركني‪ ،‬وترك الرسول مكة ببيتها احلرام وبكل ما فيها وذهب إىل املدينة‪ ،‬بىن يف املدينة‬
‫هلل تتحرك منه رسالة اإلسالم‪.‬‬
‫وقام خبطواته بعد أن وصل إىل املدينة‪ :‬من بناء املسجد‪ ،‬من اإلخاء بني املهاجرين واألنصار وبني املؤمنني‬
‫كمؤمنني‪ ،‬الوثيقة اليت نظَّم هبا الوضع يف تعايش س ركان املدينة‪ ،‬وتعزيز الروابط بينهم ليلتفوا حول اإلسالم‪ ،‬والتعايش‬
‫بشكل عظيم‪ ،‬وكانت مرحلة‬‫ٍّ‬ ‫ين فيها كيان اإلسالم‬ ‫ِّ‬
‫حول دولة اإلسالم اليت سيبنيها هناك‪ ،‬بدأت مرحلة جديدة بُ َ‬
‫اهلجرة هي مرحلة ميالد األمة‪ ،‬وهلذا اختريت للهجرة»(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه الشخصي‪2-‬‬

‫نموذج النظافة وحسن المظهر‪:‬‬

‫• كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم شديد االهتمام ابلطهارة والنظافة؛ فلم يكن مياثله أحد يف نظافة‬
‫جسمه ومالبسه وطيب رائحته‪.‬‬
‫معتربا ذلك جزءا من العبادات‪ ،‬وكان يداوم على الوضوء؛ ليبقى على طهارة‬
‫فقد كان يغتسل يف أغلب األايم ً‬
‫حىت ورد عن بعض أصحابه ما رأيت أوضأ من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وكان يغسل رأسه الذي‬
‫كان يصل إىل شحمة أذنه مباء السدر‪ ،‬وميشطه ويدهنه بزيت البنفسج ويعطر جسده ومالبسه ابملسك‪،‬‬
‫وكان يعرف يف الليلة الظلماء ‪-‬قبل أن يُرى‪ -‬ابلطيب فيقال‪ :‬هذا النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫كثريا؛ وقد ورد عن أنس بن مالك‪ :‬صحبت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬‫وكان حيب الطيب ويهتم به ً‬
‫عشر سنني ومشمت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وكان‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم ينظف أسنانه ابملسواك عدة مرات يف اليوم والسيما عند الوضوء وقبل النوم وعند‬
‫االستيقاظ منه‪.‬‬
‫• كان يغسل يديه وفمه قبل تناول الطعام وبعده‪ ،‬متجنبا أكل اخلضروات الكريهة الرائحة‪ ،‬وكان شديد العناية‬
‫مبظهره وهندامه؛ فقد روي أنه كان يتجمل ألصحابه فضال عن جتمله ألهله‪.‬‬
‫• وكان يوصي أصحابه وأتباعه أن يلزموا نظافة أبداهنم ومالبسهم وأن يعتنوا مبظهرهم اخلارجي‪.‬‬
‫وذات يوم رأته إحدى زوجاته وهو ينظر يف ركوة فيها ماء يف حجرهتا ويسوي فيها مجته (شعر رأسه)؛ إذ مل‬
‫يك ن لديه مرآة ينظر فيها‪ ،‬وهو خارج إىل أصحابه‪ ،‬فقالت‪ :‬أبيب وأمي تتمرأ يف الركوة وتسوي مجتك وأنت النيب‬
‫وخري خلقه؟!‬
‫ج إي َىل إي ْخ َوانييه أَ ْن يَتَ َهيَّأَ ََلُ ْم َويَتَ َج َّم َل»‪.‬‬ ‫يي‬ ‫فقال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إي َّن هللا ُيُي ُّ ي‬
‫ب م ْن َعْبده إيذَا َخ َر َ‬ ‫َ‬
‫وعن علي عليه السالم قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إن هللا ُيب من عبده إذا خرج إىل‬
‫آدم ُخ ُذوا يزينَ تَ ُكم يعْن َد ُك يل مس يج ٍ‬
‫د﴾ [األعراف‪:‬‬
‫َِْ‬ ‫ْ‬ ‫إخوانه أن يتزين َلم ويتجمل» يعضده قول هللا تعاىل‪ََّ ﴿ :‬يبَيّن َ َ‬
‫[الضحى‪)1( ]11 :‬‬
‫ك فَ َح ِيد ْ‬
‫ث﴾‬ ‫قائال‪َ ﴿ :‬وأ ََّما بيني ْع َم ية َربيِ َ‬
‫‪ ،]31‬وقوله عز ً‬

‫•••‬

‫(‪ )1‬شفاء األوام ‪.193/3‬‬


‫‪51‬‬
‫(‪ )9‬بناء الدولة اجملتمع السياسي اإلسالمي‬

‫ابشر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فور وصوله إىل املدينة املنورة أبعمال أتسيسية ترتبط ببناء اجملتمع السياسي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ومبستقبل الدعوة اإلسالمية وأبرزها‪:‬‬

‫َّأواال‪ :‬بناء المسجد‪:‬‬

‫وكان يعمل فيه بيده الشريفة إىل جانب املسلمني حىت أمتوا بناءه‪ ،‬واملسجد هو أول مركز عىن النيب إبنشائه‪ ،‬وقد‬
‫طويال بعد وفاة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فلم‬
‫كزا للعبادة والتعليم واحلكم‪ ،‬واإلدارة‪ ،‬وبقي كذلك زمنًا ً‬
‫كان مر ً‬
‫يكن حلكومة النيب مقر خاص‪ ،‬وكان املقر العام الوحيد يف الدولة هو املسجد‪ ،‬وال تذكر املصادر أن النيب صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم مارس مهمات حكومية وإدارية –يف حال كونه يف املدينة‪ -‬يف مكان آخر غري املسجد‪.‬‬
‫وأول مسجد بين يف اإلسالم هو مسجد قباء يف قرية قباء القريبة من املدينة‪ ،‬حيث كانت حمطة النيب األخرية يف‬
‫س َعلَى التَّ ْق َوى‬ ‫ي ي‬
‫ُس َ‬
‫رحلة اهلجرة قبل دخوله إىل املدينة وهو املسجد الذي أشار إليه القرآن بقوله تعاىل‪﴿ :‬ل ََم ْسج ٌد أ ِ‬
‫َّروا َوهللاُ ُيُي ُّ‬ ‫يمن أ ََّو يل ي وٍم أَح ُّق أَ ْن تَ ُقوم في ييه في ييه يرج ٌ ي‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]108 :‬‬ ‫ب ال ُْمطَّ يِه ير َ‬ ‫ال ُُيبُّو َن أَ ْن يَتَطَه ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬
‫إن اهتمام اإلسالم ابملسجد وإعطائه هذه األولوية إىل درجة أن يكون أول عمل يقوم به النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم يف قباء مث يف املدينة املنورة يدل على أن اإلسالم يريد منا أن نتعامل مع املسجد كمركز روحي وثقايف وجهادي‪،‬‬
‫حمال للعبادة والرتبية والتعليم‪ ،‬ومكاان للتعارف‬ ‫كما تعامل معه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وأنه ينبغي أن يبقى ً‬
‫والتآلف والوحدة بني املسلمني‪ ،‬ومركزا يتخرج منه اجملاهدون يف سبيل هللا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المؤاخاة‪:‬‬
‫ا‬
‫يف سبيل ترمجة الرؤية النظرية يف اإلسالم إىل واقع معاش‪ ،‬ويف سبيل التمهيد لوالدة األمة اجلديدة برتكيب جمتمعي‬
‫ذي صيغة منظورة ذات مالمح‪ ،‬ويف سبيل توكيد وحدة املسلمني والتغلب على التناقضات الداخلية القائمة بني‬
‫األوس واخلزرج‪ ،‬والتناقضات املتوقعة بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬ويف سبيل حتطيم االعتبار الطبقي القبلي واالقتصادي‪،‬‬
‫وعالج مشكلة التفاوت يف املستوى املعيشي والتعبري العملي عن مبدأ املواساة والعدالة اإلسالمية‪ ،‬إىل جانب تعميق‬
‫العالقة اإلميانية بني املسلمني؛ أقدم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم على أول خطوة تنظيمية للمجتمع اجلديد هي‬
‫املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫فقد دعا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أصحابه من املهاجرين واألنصار بعد مخسة أو مثانية أشهر من وصوله‬
‫إىل املدينة وقال هلم‪ :‬آتخوا يف هللا أخوين أخوين‪ ،‬فتآخى هو صلى هللا عليه وآله وسلم مع علي بن أيب طالب حيث‬
‫كل ونظريه(‪.)1‬‬
‫أخذ بيده وقال‪ :‬هذا أخي‪ ،‬وآخى بني املسلمني وكان يؤاخي بني ٍّ‬
‫وهذه هي املؤاخاة الثانية‪ ،‬وكانت املؤاخاة األوىل يف مكة بني أصحابه من قريش ومواليهم (العبيد املعتَقني) فآخى‬
‫بني عمه محزة بن عبد املطلب وزيد بن حارثة‪ ،‬وبني عبيدة بن احلارث بن عبد املطلب وبالل موىل رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم وبني أيب عبيدة بن اجلراح وسامل موىل أيب حذيفة‪ ،‬وقد آخى بينهم على احلق واملواساة‪.‬‬
‫وكان اهلدف الذي توخاه اإلسالم من هذه األخوة هو أن يتحول املسلمون األولون من جمتمع مفكك يعيش‬
‫أبناؤه األحقاد والبغضاء والعداوة إىل جمتمع متماسك متآلف يعيش احملبة واملودة‪.‬‬
‫وكانت هلذه اخلطوة –املؤاخاة‪ -‬نتائ ج مهمة على املستوى اجلهادي يف اتريخ املواجهة مع أعداء اإلسالم؛ فقد‬
‫استطاع املسلمون املتآخون حتقيق انتصارات كربى يف بدر واخلندق وغريها برغم قلة العدد وبساطة العتاد‪ ،‬وقد امنت‬
‫ك هللاُ ُه َو الَّ يذي‬ ‫وك فَيإ َّن َح ْسبَ َ‬
‫هللا على نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم يف بدر بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإي ْن يُ يري ُدوا أَ ْن َُيْ َدعُ َ‬
‫ي قُلُوهبيي ْم َولَكي َّن هللاَ أَلَّ َ‬ ‫ي قُلُوهبيي ْم ل َْو أَنْ َف ْق َ‬ ‫ي‬ ‫أَيَّ َد َك بينَ ي‬
‫ف‬ ‫ت بَ َْ‬ ‫ض َي‬
‫َج ريعا َما أَلَّْف َ‬ ‫ت َما يِف ْاْل َْر ي‬ ‫ف بَ َْ‬ ‫ص يره َو يِبل ُْم ْؤمني َ‬
‫ي * َوأَلَّ َ‬ ‫ْ‬
‫ي‬
‫يم﴾ [األنف‪:‬ل‪.]63 ،62 :‬‬ ‫بَ ْي نَ ُه ْم إينَّهُ َع يز ٌيز َحك ٌ‬

‫ثالثاا‪ :‬الصحيفة مع بداية الهجرة‪:‬‬

‫كان مثة عدة طوائف من السكان يف املدينة هم‪:‬‬


‫‪ -1‬املهاجرون‪ :‬الذين ضحوا بوطنهم وأمواهلم وعالقاهتم طلبا للحرية وحرصا على دينهم فهاجروا من مكة إىل‬
‫املدينة‪.‬‬
‫‪ -2‬األنصار‪ :‬وهم سكان املدينة األصليون من قبيليت األوس واخلزرج القبيلتان اليمانيتان الذين أحبوا رسول هللا‬
‫ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه‪.‬‬
‫‪ -3‬املشركون‪ :‬من قبيليت األوس واخلزرج ومن قبائل عربية أخرى ذكر منهم عشائر‪ :‬خطمة‪ ،‬بنو واقف‪ ،‬بنو سليم‪..‬‬
‫وهؤالء كانوا على الكفر أول اهلجرة‪ ،‬وأتخر إسالم كثري منهم إىل السنة الرابعة للهجرة‪.‬‬
‫‪ -4‬املتهودون‪ :‬الذين كانوا قد هتودوا جملاورهتم خيرب وقريظة والنضري‪.‬‬
‫‪ -5‬اليهود األصليون (من أصل إسرائيلي) الذين أتوا من فلسطني وسكنوا ضواحي املدينة وهم‪ :‬قينقاع‪ ،‬وقريظة‪،‬‬
‫والنضري‪ ،‬ويهود خيرب‪.‬‬
‫هذه الطوائف اخلمس كانت تعيش يف املدينة وحميطها يف بداية اهلجرة وكانت العالقات فيما بينها على العموم‬
‫متوترة وغري مستقرة‪ ،‬كما كان الوضع قل ًقا ومشكوًكا فيه‪.‬‬

‫(‪ )1‬املستدرك ‪ ،14/3‬وسرية ابن هشام ‪.150/2‬‬


‫‪53‬‬
‫وكان ال بُ َّد للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم الذي يسعى لتنظيم اجملتمع اإلسالمي يف إطار دولة حيكمها‬
‫القانون اإلهلي من أن يقوم جبملة من التدابري التنظيمية اليت جتعل عالقات هذه الطوائف فيما بينها منضبطة يف‬
‫إطار القانون اجلديد‪ ،‬وتقوم على أسس ومفاهيم وقواعد جديدة؛ من أجل أن يكسب النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم من خالل ذلك السلم بينه وبني األطراف األخرى‪ ،‬ومينع أية عالقة مع قريش ميكن أن تضربه يف يوم من‬
‫ا ألايم فكانت وثيقة الصحيفة اليت وضعها صلى هللا عليه وآله وسلم بعد املؤاخاة يف السنة األوىل للهجرة واليت‬
‫عرب فيها عن الوضع احلقوقي‪ ،‬والعالقات التنظيمية اإلدارية والسياسية‪ ..‬كانت هذه الوثيقة مبثابة دستور ٍّ‬
‫عمل‬
‫لتنظيم عالقات املسلمني فيما بينهم وعالقاهتم مع املتهودين يف ظل الدولة اإلسالمية الناشئة‪.‬‬
‫وقد تضمنت قواعد كلية وأسسا عملية يف احلقوق والعالقات أمهها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن املسلمني أمة واحدة من دون الناس رغم اختالف قبائلهم وانتماءاهتم‪.‬‬
‫‪ -2‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم هو قائد األمة‪ ،‬وهو املرجع يف حل املشكالت اليت قد حتدث بني‬
‫املسلمني وبني غريهم‪.‬‬
‫‪ -3‬قررت الوثيقة أن مركز السلطة يف املدينة هو النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فهو صاحب القرار دون سواه يف‬
‫السماح أو املنع من تنقل األشخاص إىل خارج املدينة فال يسمح ألحد من اليهود ‪-‬أي املتهودين‪ -‬ابخلروج إال‬
‫إبذن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫‪ -4‬أن مسؤولية دفع الظلم تقع على عاتق الجميع‪ ،‬ول تختص على من وقع عليه الظلم‪.‬‬
‫منحت الوثيقة املتهودين يف املدينة حقوقهم العامة كحق األمن واحلرية واملواطنة؛ بشرط أن يلتزموا بقوانني الدولة‬
‫وأن ال يفسدوا وال يتآمروا على اإلسالم واملسلمني‪.‬‬

‫ابعا‪ :‬موقفه من اليهود‪:‬‬


‫را‬
‫شعر اليهود‪ -‬وهم‪ :‬قينقاع‪ ،‬والنضري‪ ،‬وقريظة‪ ،‬ويهود خيرب‪ -‬أبهنم قد عزلوا عن أنصارهم من املتهودين بعد توقيع‬
‫الصحيفة‪ ،‬حيث مل يدخلوا ضمن املعاهدة مباشرة إمنا تبعا للقبائل من األوس واخلزرج وزعامات قبلية يسري عليهم ما‬
‫يسري عليها‪.‬‬
‫جدا بني العرب‪ ،‬وهم كانوا أبعداد‬
‫يقول السيد حسني بدر الدين ‹رضوان هللا عليه›‪« :‬اليهود عاشوا فرتة طويلة ً‬
‫كبرية‪ ،‬كان أهل خيرب ‪ -‬أثناء حصار رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خليرب ‪ -‬كان يُقال‪ :‬أن عددهم حنو عشرين‬
‫ألف مقاتل‪ ،‬هناك بنو قريظة‪ ،‬بنو قينقاع ويهود آخرون‪ ،‬هؤالء أنفسهم مل يستطيعوا يف تلك الفرتة‪ ،‬وهم اليهود من‬
‫ميتلكون املكر‪ ،‬وميتلكون الطموح إىل إقامة دولة‪ ،‬ويعرفون أن اترخيهم كان فيه إمرباطورايت قامت هلم‪ ،‬وقامت هلم‬
‫حضارة؛ فكانوا ما يزالون َحينرون إىل تكرار ذلك الشيء الذي فات عنهم‪ ،‬ولكن مل يستطيعوا‪ ،‬كانوا حيتاجون إىل أن‬
‫يعيشوا يف ظل محاية زعامات عربية وقُبل عربية‪ ،‬فكان اليهود كل اليهود حول املدينة معظمهم يدخلون يف أحالف‬

‫‪54‬‬
‫فضال من أن يسيطروا ‪ -‬مل يستطيعوا أن يستقلوا‬
‫مع زعماء من قبائل املدينة وما جاورها‪ ،‬أي مل يستطع اليهود ‪ً -‬‬
‫يف احلفاظ على أنفسهم‪ ،‬وأن حيققوا ألنفسهم أمنًا» (‪.)1‬‬
‫أيضا‪« :‬وابلرغم مما يف كتب السرية من احلديث عن صلح وقع منه‬ ‫كما يقول السيد حسني بدر الدين ً‬
‫مع اليهود!‪ .‬إال أنك عندما ترجع إىل الوثيقة اليت صاغها الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم فور وصوله املدينة‬
‫املنورة‪ -‬جتد أنه ذكر فيها كل بطون وبيواتت القبائل الساكنة يف املدينة وحوهلا‪ ،‬و ليست بصدد الصلح مع‬
‫اليهود‪.‬‬
‫اليهود كانوا حول املدينة حلفاء لبيوت أو أشخاص من األوس واخلزرج داخل املدينة‪ ،‬مرتبطني مبعاهدات معهم؛‬
‫ابعتبارهم حلفاء يسري على اليهود ما يسري على حلفائهم‪ .‬وهذا شيء طبيعي يف املواثيق ويف املعاهدات العربية‬
‫أنه يسري على األولياء ‪ -‬الذين يسموهنم َوِّيل آل فالن أو حليف آل فالن ‪ -‬يسري عليهم ما يسري على من هو‬
‫ٍّ‬
‫معاهدة معه‪.‬‬ ‫يف حلفه‪ ،‬أو يف والئه‪ ،‬أو يف‬
‫فمن العجيب أن َيِت كتراب السرية ويعنونون املوضوع ب (الصلح مع اليهود)! وعندما اجته الرئيس املصري (أنور‬
‫السادات) إىل القدس ليستسلم أمام إسرائيل ينطلق من علماء مصر لتربير املوقف ليقولوا أبن الرسول صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم قد صاحل اليهود أول ما وصل املدينة؛ فنحن إمنا نصاحلهم كما صاحلهم رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم مع الفارق الكبري من كل الوجوه بني ما وقع عندما وصل الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم إىل املدينة وبني‬
‫ما وقع من السادات عندما اجته إىل القدس» (‪.)2‬‬
‫فعال يف اإلسالم معاهدات‪ ،‬ومواثيق‬‫ويف الدرس اخلامس من دروس رمضان يقول‪« :‬وهلذا الحظ‪ :‬هو حصل ً‬
‫مثال اتفاقيات معينة أو صلح‬‫مثال يف مراحل يف صدر اإلسالم‪ ،‬يف أايم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬ ‫حصل ً‬
‫جدا ما بني املواثيق واهلدن‬
‫معني على أن ال يعملوا كذا وأن ال يتآمروا وأن ال‪ ..‬لكن القضية مرتبة‪ ،‬هناك فارق كبري ً‬
‫والصلح الذي كان يتم يف أايم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وبني ما حيصل بينهم وبني العرب اآلن‪ ،‬هناك‬
‫فارق كبري‪.‬‬
‫الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يعرف طبيعة هؤالء الناس (اليهود) سيعمل معهم معاهدة‪ ،‬هدنة معينة‪ ،‬لكنه‬
‫جمهز نفسه عندما ينقضون سيضرهبم‪ ،‬ليس املعىن أنه عندما يدخل معهم يف صلح أنه واثق هبم‪ .‬ال‪ ...‬إمنا هذه يف‬
‫أانسا يتقبلون ويندجمون يف اجملتمع املسلم ويذوبون فيه‬
‫نفس الوقت جتعلهم أمام واحدة من اثنتني‪ :‬إما أن يكونوا ً‬
‫ويسلمون‪ ،‬أو مىت ما ظهر منهم النقض الذي هو الشيء الطبيعي عندهم‪ ،‬فيكون معناه أهنم فتحوا على أنفسهم‬
‫الثغرة لِّيُ ر‬
‫ضَربُوا»‪.)3(.‬‬

‫(‪ )1‬ملزمة الثقافة القرآنية‪.‬‬


‫(‪ )2‬ملزمة يوم القدس العاملي‪ .‬ابختصار‪.‬‬
‫(‪ )3‬الدرس اخلامس من دروس رمضان‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫خامسا‪ :‬إعداد القوة العسكرية‪:‬‬
‫ا‬
‫لقد أقدم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم على خطوة أخرى على طريق بناء الدولة وهي خطوة اإلعداد العسكري‪،‬‬
‫وإعداد القوة البشرية املدربة‪ ،‬وإعداد السالح واخليل وغري ذلك مما حتتاجه القوة املسلحة‪ ،‬وذلك عمال بقوله تعاىل‪:‬‬
‫ييم﴾ [األنف‪:‬ل‪:‬‬ ‫هللا و َع ُد َّوُكم وآ َخ ير ي‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫استَطَ ْعتُ ْم يم ْن قُ َّوةٍ َويم ْن يرَِب يط ْ‬ ‫ي‬
‫ين م ْن ُدوهن ْ‬
‫َْ َ‬ ‫اخلَْي يل تُ ْرهبُو َن بيه َع ُد َّو َ‬ ‫﴿ َوأَعدُّوا ََلُ ْم َما ْ‬
‫‪.]60‬‬
‫كون من شعبها جمتمع حرب‪ ،‬فقسم املسلمني‬
‫وقد نظم صلى هللا عليه وآله وسلم املدينة على أساس عسكري‪ ،‬و ر‬
‫كون منهم اجليوش‬
‫جنودا و ر‬
‫يف املدينة إىل عرافات وجعل على كل عشرة عري ًفا‪ ،‬وجعل من مجيع الذكور البالغني ً‬
‫والسرااي العسكرية‪.‬‬
‫وما ميكن استفادته من الرواايت املتفرقة فيما يتعلق بتنظيم القوة العسكرية وإدارة املعارك الدفاعية يف عهد النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم هو املالمح التالية‪:‬‬
‫أوال‪ :‬القرار العسكري‪ :‬إن القرار العسكري االسرتاتيجي والتكتيكي كان بيد النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬ ‫ً‬
‫وحده‪ ،‬ومل يكن ألحد من املسلمني سلطة اختاذ قرار عسكري بشكل منفرد بعيدا عن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬نعم من الثابت أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يستشري أصحابه وكان يستمع بعناية آلرائهم واعرتاضات‬
‫بعضهم يف الشؤون العسكرية ولكن القرار اجلهادي والعسكري النهائي كان له وحده‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬تشكيل اجليش‪ :‬كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يشكل اجليش والوحدات العسكرية من الذكور‬
‫البالغني‪ ،‬وكان خيتار للجندية الذين بلغوا مخس عشرة سنة من العمر ومل يكن يقبل يف عداد اجليش من مل يبلغ هذه‬
‫السن‪.‬‬
‫رضت على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف جيش وأان ابن أربع‬
‫فقد روي عن عبد هللا بن عمر أنه قال‪ :‬عُ ُ‬
‫عشرة سنة فلم يقبلين مث عرضت عليه يف العام التايل وأان ابن مخس عشرة فقبلين‪.‬‬
‫وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج الذي استصغره النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يوم بدر ولكنه مسح له‬ ‫ُ‬
‫ُحد بعدما كان قد بلغ اخلامسة عشرة من عمره‪.‬‬
‫ابملشاركة يف أ ُ‬
‫وورد يف بعض الرواايت أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يستعرض شباب األنصار يف كل عام‪ ،‬وكان‬
‫يسمح ملن تثبت لياقته البدنية ابالَنراط يف اجليش واملشاركة يف اجلهاد‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬التدريب‪ :‬فقد كان شباب املدينة املنورة يتدربون على استعمال السالح وفنون القتال‪ ،‬وكان يف املدينة‬
‫مكان خمصص للتدريب‪.‬‬
‫وقد ثبت عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أنه أمر ابلتدرب على الفروسية والرمي‪ ،‬وقال فيما روي عنه‪:‬‬
‫«علموا أوَلدكم السباحة والرمي وركوب اخليل»‪.‬‬
‫وكان علي عليه السالم يعلم الناس الرمي يف املدينة على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫وعلى أي حال فقد كان التدرب على السالح وفنون القتال من مقومات الثقافة العامة للمجتمع اإلسالمي‬
‫آنذاك؛ حبيث كان يعترب غري اخلبري بفنون القتال شاذا عن النمط العام‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬مل يظهر من نصوص السرية النبوية أن النيب أسس جيشا متفرغا على غرار ما يسمى اآلن اجليش احملرتف‬ ‫رً‬
‫وهو‪ :‬تفرغ عدد من املقاتلني حلياة اجلندية مدة من الزمان يف حال السلم‪ ،‬فلم يؤسس يف حياة النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم جيش من هذا النوع‪ ،‬وإمنا كان االَنراط الفعلي يف العمل العسكري يتم حني تدعو احلاجة‪ ،‬أي حني‬
‫يقرر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم القيام حبملة عسكرية‪ ،‬وحني يتهدد املدينة خطر الغزو‪.‬‬
‫وعلى أي حال فإن هناك الكثري من النظم العسكرية يف سرية النيب غري ما ذكران من قبيل إحصاء عدد املسلمني‬
‫ألغراض عسكرية‪ ،‬ومن قبيل التسليح العسكري والصناعات العسكرية‪ ،‬واالستطالع العسكري‪ ،‬وغري ذلك من‬
‫املالمح اليت تكشف عن دقة التنظيم العسكري الذي كان له دور كبري يف حتقيق إجنازات عسكرية كربى يف عهد‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف فرتة زمنية قصرية نسبيا‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫(‪ )10‬الصراع املسلح مع قريش‪1 /‬‬

‫تقديم‬
‫بعد أن استقر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف املدينة ورتب أوضاعها الداخلية وجتذر الوجود اإلسالمي فيها‪-‬‬
‫بدأت مرحلة الدفاع عن اإلسالم واجلهاد ضد القوى اجلاهلية ويف مقدمها قريش واليهود‪ ،‬بعد أن أذن هللا له ابلقتال‬
‫ين أُ ْخ ير ُجوا يم ْن يد ََّي يريه ْم بيغَ ْيي‬ ‫َّ ي‬ ‫يف قوله تعاىل‪﴿ :‬أ يُذ َن ليلَّ يذين ي َقاتَلُو َن يِب ََّهنُم ظُليموا وإي َّن هللا َعلَى نَ ْ ي ي‬
‫ص يره ْم لََقد ٌير * الذ َ‬ ‫ْ ُ َ َ‬ ‫َُ‬
‫ات ومس ي‬ ‫ت ي‬ ‫ضهم بيب ْع ٍ ي‬ ‫ي‬
‫اج ُد يُ ْذ َك ُر‬ ‫صلَ َو ٌ َ َ َ‬ ‫ص َوام ُع َوبييَ ٌع َو َ‬
‫ض ََلُِد َم ْ َ‬ ‫َّاس بَ ْع َ ُ ْ َ‬ ‫ي‬
‫َح ٍِق إ ََّل أَ ْن يَ ُقولُوا َربُّنَا هللاُ َول َْوََل َدفْ ُع هللا الن َ‬
‫ص ُرهُ إي َّن هللاَ لََق يو ٌّ‬ ‫يها ْ ي ي‬ ‫ي‬
‫ي َع يز ٌيز﴾ [الحج‪.]40 ،39 :‬‬ ‫ص َر َّن هللاُ َم ْن يَ ْن ُ‬
‫يا َولَيَ ْن ُ‬
‫اس ُم هللا َكث ر‬ ‫فَ‬
‫وقد واجه النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عسكراي ثالث فئات من األعداء هم‪:‬‬
‫‪ -1‬املشركون (من قريش وغريها من القبائل األخرى)‪.‬‬
‫‪ -2‬اليهود‪.‬‬
‫‪ -3‬النصارى (يف حرب مؤتة وتبوك)‪.‬‬
‫وللمؤرخني اصطالحان يف املعارك اليت خاضها املسلمون يف حياة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مها‪:‬‬
‫الغزوة ويقصدون هبا‪ :‬املعركة اليت حيضرها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم نفسه ويتوىل هو قيادهتا‪.‬‬
‫السرية وهي ‪ :‬اجملموعة اجلهادية اليت ال يكون فيها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ويتوىل أحد أصحابه‬
‫قيادهتا‪.‬‬
‫وقد أحصى املؤرخون عدد الغزوات والسرااي يف حياة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فبلغت أكثر من مثانني بني‬
‫غزوة وسرية‪ ،‬وكلها كانت يف فرتة ما بعد اهلجرة‪.‬‬

‫أ‪ -‬السرايا األولـى‬


‫بسبب اعتداءات قريش املتكررة على املسلمني بدأ الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم فور تثبيت أسس الدولة‬
‫مسلحا ضد الوثنية وزعيمتها قريش‪ ،‬متثل بشن حروب متقطعة ضد القوافل‬
‫ً‬ ‫اإلسالمية اجلديدة يف املدينة صراعا‬
‫واملواقع الوثنية‪ ،‬أطلق عليها املؤرخون اسم (السرااي األوىل)‪.‬‬
‫وكانت أول سرية بعث هبا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بعد سبعة أشهر من اهلجرة هي سرية محزة بن‬
‫عبد املطلب ومعه ثالثون من املهاجرين ملالقاة بعض املشركني من قريش‪ ،‬لكن جمدي بن عمرو اجلهين الذي كان‬
‫ادعا للطرفني حال بينهما‪ ،‬فانصرفا من غري قتال‪.‬‬
‫مو ً‬
‫ويف الشهر الثامن من اهلجرة فصاعدا تتالت السراايت يف مهمات عسكرية واستطالعية فكانت سرية عبيدة بن‬
‫احلارث بن عبد املطلب‪ ،‬وسرية سعد بن أيب وقاص‪ ،‬وسرية عبد هللا بن جحش وغريها‪ ،‬وقد تشكلت هذه السرااي‬

‫‪58‬‬
‫من املهاجرين دون األنصار‪ ،‬وكان اهلدف منها‪ :‬إرابك قريش وحلفائها وإضعافهم وحتطيم معنوايهتم‪ ،‬وضرب نشاطهم‬
‫التجاري الذي ميثل عصب حياهتم وشراين وجوده م‪ ،‬وإنذار أعداء الدولة الناشئة من غري قريش وحلفائها كاليهود‬
‫يف الداخل ومجاعات البدو يف اخلارج أبن املسلمني قادرون على الرد ومستعدون للتصدي ألي عدوان يستهدف‬
‫اإلسالم وكيانه السياسي‪.‬‬
‫ول‬ ‫وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إذا بعث سرية أوصاهم وعلمهم‪ ،‬فعن علي عليه السالم ‪َ « :‬كا َن َر ُس ُ‬
‫ال‪« :‬انْطَلي ُقوا بيس يم ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ث جي ر ي‬ ‫ي‬
‫هللا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫يا‪ُ ،‬مثَّ قَ َ‬ ‫ث َعلَْي يهم أَم ر‬ ‫شا م َن ال ُْم ْسل يم َ‬
‫ي بَ َع َ‬ ‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إيذَا بَ َع َ َ ْ‬
‫ادةي أَ ْن َلَ إيل ََه‬‫هلل‪ ،‬ا ْد ُعوا إي َىل َش َه َ‬ ‫هللا‪ ،‬تُ َقاتيلُو َن من َك َفر يِب ي‬ ‫هللا‪ ،‬أَنْ تم ج ْن ُد ي‬
‫ُْ ُ‬
‫ول ي‬ ‫هللا‪ ،‬و َعلَى يملَّ ية ر ُس ي‬ ‫يل ي‬ ‫هلل‪َ ،‬ويِف َسبي ي‬ ‫ويِب ي‬
‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي ي ي ي‬ ‫ي‬ ‫َن ُحمَ َّم ردا رس ُ ي‬
‫آمنُوا‬ ‫ول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪َ ،‬وا يْلق َْرا ير يِبَا َجاءَ بيه ُحمَ َّم ٌد م ْن ع ْند هللا‪ ،‬فَيإ ْن َ‬ ‫َُ‬ ‫إيََّل هللاُ‪َ ،‬وأ َّ‬
‫اصبوهم حرِب‪ ،‬واستعيينُوا َعلَي يهم يِب ي‬
‫هلل‪ ،‬فَيإ ْن‬ ‫ْ‬ ‫فَيإ ْخ ُوانُ ُك ْم يِف ال ِيدي ين‪ََ ،‬لُ ْم َما لَ ُك ْم‪َ ،‬و َعلَْي يه ْم َما َعلَْي ُك ْم‪َ ،‬وإي ْن ُه ْم أَبَ ْوا فَنَ ي ُ ُ ْ َ ْ ر َ ْ َ‬
‫يق قيتَالَ ُك ْم‪َ ،‬وَلَ تُغَ ِيوُروا َع ْي نرا‪َ ،‬وَلَ تَ ْقطَعُوا‬ ‫يا َلَ يُ يط ُ‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫أَظ َْه َرُك ُم هللاُ َعلَْي يهم فَلَ تَ ْقتُ لُوا َولي ردا‪َ ،‬وَلَ ْام َرأَةر‪َ ،‬وَلَ َش ْي رخا َكب ر‬
‫يم ٍة‪َ ،‬وَلَ تَظْلي ُموا‪َ ،‬وَلَ تَ ْعتَ ُدوا‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫َش َج ررا إيََّل َش َج ررا يَ ُ‬
‫ض ُّرُك ْم‪َ ،‬وَلَ ُُتَثِلُوا يِب َدم ٍِي َوَلَ َهب َ‬
‫ار إيل َْي يه بييَ يدهي‪،‬‬ ‫ي‬ ‫يي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫َح َرا يرُك ْم أ َْو َعبيد ُك ْم‪ ،‬أَ ْعطَى َر ُجل م ْن ُه ْم أ ََم راَن‪ ،‬أ َْو أَ َش َ‬ ‫َوأَُُّيَا َر ُج ٍل م ْن أَق َ‬
‫ْصا ُك ْم‪ ،‬أ َْو أَ ْد ََن ُك ْم‪ ،‬م ْن أ ْ‬
‫هللا؛ فَيإ ْن قَبي َل فَأَ ُخوُك ْم يِف يديني ُك ْم‪َ ،‬وإي ْن أ َََب فَ ُردُّوهُ إي َىل َمأ َْمني يه‪،‬‬ ‫فَأَقْبل إيلَي يه ِبيي َشارتييه‪ ،‬فَ لَه اْلَما ُن ح َّىت يسمع َكلَم ي‬
‫ُ َ َ َََْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫وه ْم‬‫استَعيينُوا يِبهلل َعلَْي يه‪َ ،‬لَ تُ ْعطُوا الْ َق ْوَم يذ َّم ييت َوََل يذ َّمةَ هللا‪ ،‬فَال ُْم ْخ يف ُر يذ َّمةَ هللا ََل ٍق هللاَ َو ُه َو َعلَْي يه َساخطٌ‪َ ،‬وأَ ْعطُ ُ‬ ‫َو ْ‬
‫هللا َو يذ َّمةَ َر ُسولي يه»‬
‫يذ َّمت ُكم و يذمم آِبئي ُكم وفُوا ََلم؛ فَيإ َّن أَح َد ُكم ْلَ ْن ُُيْ يفر يذ َّمته و يذ َّمةَ أَبي ييه َخ ْي لَه يمن أَ ْن ُُيْيفر يذ َّمةَ ي‬
‫َ‬ ‫ٌ ُ ْ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ‬
‫(‪.)1‬‬
‫وقد حققت هذه السراَّي املنجزات التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬عقد تحالفات بين المسلمين وبين بعض القبائل المتواجدة في المنطقة بعدما شعرت‬
‫تلك القبائل بقوة المسلمين‪ ،‬وقدرتهم على التحرك‪ ،‬وبتصميمهم على مواجهة حتى‬
‫قريش بالحرب‪.‬‬
‫‪ -2‬التدريب على القتال في ظروف جديدة تختلف عن ظروف معارك الجاهلية‪ ،‬وفي‬
‫إطار موازين قوى مادية ومعنوية مختلفة‪.‬‬
‫‪ -3‬استطالع المناطق المحيطة بالمدينة وما فيها من مسالك وطرق مواصالت‬
‫ومصادر مياه‪.‬‬
‫‪ -4‬تهديد قريش بالحصار القتصادي عن طريق جعل ممرات تجارة قريش مع بالد‬
‫الشام مهددة وغير آمنة‪.‬‬
‫‪ -5‬تثبيت هيبة اإلسالم والمسلمين بين القبائل المجاورة للمدينة‪.‬‬
‫ب‪ -‬معركة بدر‬

‫(‪ )1‬جمموع اإلمام زيد ص ‪.350‬‬


‫‪59‬‬
‫كانت معركة بدر أول معركة مسلحة كربى خاضها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واملسلمون يف مواجهة املشركني‬
‫من قريش‪ ،‬وذلك يوم اجلمعة يف السابع عشر من شهر رمضان املبارك يف السنة الثانية من اهلجرة‪ ،‬قرب بدر على‬
‫بعد حوايل مائة وستني كيلو مرتا من املدينة فيما بينها وبني مكة املكرمة‪.‬‬
‫أيضا‪ -‬تعد العدة للحرب العسكرية على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وبدأت ابلتحضري‬
‫(بدأت قريش‪ً -‬‬
‫لعملية عسكرية واسعة تستهدف النيب واملسلمني إىل املدينة‪ ،‬وبدأت ضمن خطواهتا هذه ابإلعداد االقتصادي‪:‬‬
‫أعدت لقافلة جتارية كانت من أهم القوافل التجارية‪ ،‬ومن أكربها‪ ،‬ملاذا؟ قالوا لتكون هذه القافلة‪ :‬قافلة التموين‬
‫للعملية العسكرية اليت ستتحرك للقضاء على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وعلى املسلمني يف املدينة‪ ،‬وحترك يف‬
‫زعيم الشرك واملشركني (أبو سفيان) بنفسه‪ ،‬وهذا يدل على مدى األمهية الكبرية هلذه القافلة التجارية‬
‫هذه القافلة ُ‬
‫(قافلة التموين للعملية العسكرية)‪ ،‬وانطلقت هذه القافلة العسكرية‪ ،‬أو التجارية اليت هي ذات طبيعة عسكرية‬
‫وهلدف عسكري‪.)1( )..‬‬
‫رجال من أصحابه مستهدفني السيطرة على‬
‫خرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ومعه ثالمثائة وثالثة عشر ً‬
‫لعل ذلك‬
‫تلك القافلة‪ ،‬بغية التعويض على املسلمني مما أخذه منهم املشركون‪ ،‬وفرض حصار اقتصادي على قريش َّ‬
‫يدفعها إىل االمتناع عن حماربة الدعوة والتآمر على اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫لقد كان قرار التصدي للقافلة ينطوي على احتمال تطور املوقف‪ ،‬وحصول مواجهة عسكرية ونشوب معركة‬
‫حامسة ومصريية وهو ما حصل فعال‪.‬‬
‫فقد علم أبو سفيان بتحركه صلى هللا عليه وآله وسلم فغري طريقه وأرسل إىل مكة يطلب النجدة من قريش‬
‫فأقبلت قريش أبحقادها وكربايئها أبلف مقاتل حلماية القافلة‪ ،‬وحني علمت قريش بنجاة القافلة حاول بعض قادهتا‬
‫أصر على العدوان‪ ،‬فقرروا اهلجوم‬
‫أن يكتفي بذلك ويدعو إىل االنسحاب والعودة إىل مكة‪ ،‬إال أن أاب جهل وغريه َّ‬
‫على املسلمني‪.‬‬
‫والتقى اجلمعان يف بدر‪ ،‬وبدأت املعركة ابملبارزة مث التحم اجليشان ومها غري متكافئني ال من حيث العدد وال من‬
‫حيث العتاد‪ ،‬ولكن هللا أنزل الكثري من ألطافه ورمحته‪ ،‬فتدخلت يد الغيب‪ ،‬وجاء اإلمداد املالئكي للنيب صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم فحقق هللا سبحانه النصر لإلسالم واملسلمني واندحرت قوة قريش‪ ،‬وتشتت جيشها بني قتيل وجريح‬
‫وأسري؛ حيث أسفرت املعركة عن قتل سبعني من املشركني‪ ،‬وأسر سبعني‪ ،‬ومل يسقط من املسلمني سوى تسعة‬
‫شهداء‪ ،‬وقيل‪ :‬أحد عشر‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعة عشر شهيدا‪ ،‬ومل يؤسر منهم أحد‪.‬‬
‫وقد برز لعلي بن أيب طالب عليه السالم يف هذه املعركة دور كبري‪ ،‬وظهرت شجاعته املتميزة بني صفوف املسلمني‬
‫حيث ُروي أنه قتل بيده ثلث قتلى املشركني‪ ،‬وقيل‪ :‬قتل نصفهم بيده وشارك اآلخرين يف قتل النصف اآلخر(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬من احملاضرة اخلامسة مبناسبة ذكرى املولد النبوي الشريف ‪11‬ربيع أول‪1439‬ه ‪.‬‬
‫ص أمساؤهم كلهم؛ فقد أحصى الواقدي اثنني ومخسني‬ ‫‪2‬‬
‫( ) اتفق املؤرخون وأصحاب السري أن عدد القتلى من املشركني سبعون‪ ،‬ومل ُرحت َ‬
‫قتيال‪ ،‬قتل اإلمام علي أربعة وعشرين‪ ،‬شاركه يف نفر منهم غريه‪ ،‬وذكر ابن هشام مخسني قتيال‪ ،‬اشرتك اإلمام علي يف قتل واحد‬
‫‪60‬‬
‫لقد حقق املسلمون يف بدر مكاسب مادية وأمنية وعقيدية وإعالمية أسهمت يف خدمة الدعوة وتثبيت أركاهنا‪،‬‬
‫وحتقيق نقلة نوعية يف جممل األحداث يف اجلزيرة العربية‪.‬‬

‫ولعل أبرز نتائج هذه المعركة أنها‪:‬‬


‫َّأوًال‪ :‬عززت ثقة املسلمني أبنفسهم‪ ،‬وثبتت إميان بعض املرتددين يف إسالمهم‪.‬‬
‫جعلت من املسلمني قوة مرهوبة اجلانب عند القبائل املشركة واليهود يف املنطقة‪.‬‬ ‫اثنيًا‪:‬‬
‫شجعت الكثريين على الدخول يف اإلسالم بعد أن كانت قريش تشكل احلاجز النفسي واملادي هلم‪.‬‬ ‫اثلثًا‪:‬‬
‫راب ًعا‪ :‬أضعفت هيبة قريش ونفوذها ومكانتها بني العرب‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬فتحت األبواب أمام رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف االنطالق حبرية أكرب يف نشر الدعوة‪.‬‬
‫ً‬
‫سادسا‪ :‬زادت من قوة التضامن والتماسك بني املهاجرين واألنصار وعززت وحدهتما يف مواجهة التحدي‪.‬‬
‫ً‬

‫وأثبتت تجربة بدر‪:‬‬


‫َّأوًال‪ :‬أن القلة املؤمنة اجملاهدة الصابرة اليت متلك إرادة قوية وعزمية راسخة وإخالصا ووعيا وختطيطًا تستطيع أن‬
‫حتقق االنتصارات واإلجنازات الكربى إبذن هللا حىت ولو كان العدو ميلك الكثرة والقوة املادية الكبرية‪.‬‬
‫ص َرُك ُم هللاُ بيبَ ْد ٍر َوأَنْ تُ ْم أ يَذلَّةٌ﴾ [آل عمران‪.]123 :‬‬ ‫يقول هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬ولََق ْد نَ َ‬
‫ي‬‫صابي ُرو َن يَغْليبُوا يمائَتَ ْ ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ال إي ْن يَ ُك ْن م ْن ُك ْم ع ْش ُرو َن َ‬ ‫ي َعلَى ال يْقتَ ي‬ ‫ي‬
‫ض ال ُْم ْؤمني َ‬ ‫َِّب َح ِير ي‬
‫ويقول سبحانه‪ََّ ﴿ :‬يأَيُّ َها الني ُّ‬
‫َن فيي ُك ْم‬ ‫ف هللاُ َعْن ُك ْم َو َعلي َم أ َّ‬
‫ين َك َف ُروا يِب ََّهنُ ْم قَ ْوٌم ََل يَ ْف َق ُهو َن * ْاْل َن َخ َّف َ‬ ‫ي َّ ي‬ ‫ي‬ ‫ي ي‬
‫َوإي ْن يَ ُك ْن م ْن ُك ْم مائَةٌ يَغْلبُوا أَلْ رفا م َن الذ َ‬
‫هللا وهللاُ َم َع َّ ي‬ ‫ْف ي غْليبوا أَلْ َف ْ ي ي ي‬ ‫ي‬ ‫صابيَرةٌ يَغْليبُوا يمائَتَ ْ ي‬ ‫ي ي‬
‫ين﴾‬ ‫الصاب ير َ‬ ‫ي ِبيي ْذن َ‬ ‫ي َوإي ْن يَ ُك ْن م ْن ُك ْم أَل ٌ َ ُ‬ ‫ض ْع رفا فَيإ ْن يَ ُك ْن م ْن ُك ْم مائَةٌ َ‬
‫َ‬
‫[األنف‪:‬ل‪.]66 ،65 :‬‬

‫وعشرين رجال‪ .‬الواقدي ‪ ،152/1‬وابن هشام‪ ،365/2‬وشرح هنج البالغة ‪ .425/4‬وأمساء من قتلهم اإلمام علي عليه‬
‫السلم يوم بدر من املشركني أو اشرتك مع غريه يف قتلهم ‪ -‬من كتايب (املغازي) للواقدي‪ ،‬و(سرية ابن هشام) ‪ -‬هم‪-1 :‬‬
‫حنظلة بن أيب سفيان‪-2 .‬العاص بن سعيد‪-3 .‬الوليد بن عتبة بن ربيعة‪-4 .‬عامر بن عبد هللا‪-5 .‬احلارث بن ربيعة‪-6 .‬‬
‫نوفل بن خويلد‪ -7 .‬النضر بن احلارث بن كلدة‪-8 .‬زيد بن ُمليص موىل عُمري بن هاشم‪-9 .‬عمري بن عثمان بن عمرو من‬
‫متيم‪-10 .‬يزيد بن متيم التميمي‪-11 .‬مسعود بن أيب أمية‪-12 .‬عبد هللا بن أيب رفاعة‪-13 .‬حاجز بن السائب بن عُمري بن‬
‫عائذ‪ -14 .‬منبه بن احلجاج‪-15 .‬نبيه بن احلجاج‪-16 .‬العاص بن منبه بن احلجاج‪-17 .‬أبوالعاص بن قيس بن عدي بن‬
‫سعد بن سهم‪-18 .‬طعيمة بن عدي بن نوفل‪-19 .‬حرملة بن عمرو‪-20 .‬أبو قيس بن الفاكه بن املغرية‪-21 .‬عبد هللا بن‬
‫صى‬
‫املنذر بن أيب رفاعة‪-22 .‬معاوية بن عامر‪ .‬وهؤالء قتلهم مبفرده على اختالف يف بعضهم‪ ،‬قال الواقدي‪ :‬فجميع من ُرحي َ‬
‫قَ رت لُهُ تسعة وأربعون رجال منهم من قتله أمري املؤمنني علي عليه السلم ‪ ،‬وشارك اإلمام علي مع عمه احلمزة يف قتل‪-1 :‬‬
‫شيبة بن ربيعة‪ -2 .‬عقيل بن األسود بن املطلب‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫واثنيًا‪ :‬إن النص ر حباجة إىل عنص ر روحي معنوي هو اإلميان ابهلل واإلخالص له‪ ،‬واالعتماد عليه والثقة به وغري‬
‫ذلك مما يوفر لإلنسان قوة روحية ومعنوية تبعده عن الشعور ابلقلق واخلوف والضياع أمام مواقف التحدي‪ ،‬وقد‬
‫كان هذا العنصر حاضرا بقوة يف بدر وجماهديها‪ ،‬وقد أسهم بصورة أساسية يف حتقيق االنتصار يف هذه املعركة ويف‬
‫كل املعارك اليت خاضها املسلمون يف مواجهة أعدائهم‪.‬‬

‫أسباب االنتصار‪:‬‬

‫مثة أسباب عديدة متخض عنها انتصار القلة على الكثرة يف معركة بدر نعرض هنا ألمهها؛ ألهنا ميكن أن تعد‬
‫األسباب النموذجية اليت تفسر لنا الكثري من االنتصارات اليت حققها املسلمون ضد أعدائهم الذين يفوقوهنم عددا‬
‫وعتادا ليس يف عصر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فقط بل فيما تاله من عصور وحىت عصران‪ ،‬وهذه األسباب‬
‫ً‬
‫هي‪:‬‬
‫َّأوًال‪ :‬املدد والعون والتوفيق اإلهلي‪ ،‬وألهنا كانت أول معركة كربى خيوضها املسلمون‪ ،‬وألهنا كانت مواجهة مع‬
‫رموز الكفر وجبابرة الشرك على مستوى اجلزيرة العربية‪ ،‬ومع ضعف العتاد وقلة العدد لدى املسلمني‪ ..‬لذلك كان‬
‫حجم التدخل اإلهلي‪ ،‬والعناية اإلهلية مبا يتطلبه الوضع وحجم القضية‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬وحدة القيادة‪ :‬فقد كان الرسول األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم هو القائد العام للمسلمني يف معركة بدر‬
‫وكان املسلمون يعملون كيَ ٍّد واحدة حتت قيادته‪ ،‬يوجههم وحيدد هلم التكاليف للقيام بعمل حاسم‪ ،‬وكان انضباط‬
‫منوذجا رائعا لالنضباط احلقيقي‪ ،‬ومعىن االنضباط هو طاعة األوامر وتنفيذها والقيام‬
‫املسلمني يف تنفيذ أوامر قائدهم ً‬
‫ابلتكاليف احملددة حبرص وأمانة وعن طيبة خاطر‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬العقيدة الراسخة واملعنوايت العالية‪ :‬فقد متتع املسلمون يف بدر بروح معنوية عالية انبعة من عقيدة راسخة‬
‫وإرادة قوية وإخالص وتفان يف سبيل هللا قل نظريه‪ ،‬ومل تكن معنوايت الذين خربوا احلرب ومارسوها طويال عالية‬
‫فحسب وإمنا كانت معنوايت الفتية الذين مل ميارسوا حراب وال قتاال عالية أيضا‪.‬‬
‫لقد أثبتت بدر وكافة احلروب اليت خاضها النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واملسلمون أن التسليح والتنظيم اجليدين‬
‫يتحل املقاتلون ابإلميان والتوكل والصرب والشجاعة والثبات واإلخالص‬
‫والقوة العددية غري كافية لنيل النصر ما مل ر‬
‫والطاعة والوعي والتضحية والتعاون واإليثار والروحية العالية‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬وضوح اهلدف ومسو الغاية‪ :‬فقد كان املسلمون يف بدر يقاتلون يف سبيل رضوان هللا‪ ،‬وطلبًا لآلخرة‪ ،‬وكانت‬‫رً‬
‫لديهم أهداف واضحة يعرفوهنا ويؤمنون هبا وهي إزالة كل احلواجز املادية من أمام الدين اجلديد وترك احلرية الكاملة‬
‫هلم لنشر اإلسالم الذي حيرر اإلنسان من العبودية للطاغوت لتكون كلمة هللا هي العليا‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه الشخصي‪3/‬‬

‫شجاعته وثباته‪:‬‬

‫نكون فكرة واضحة عن مدى شجاعة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فلنستمع إىل شهادة‬
‫إذا أردان أن ر‬
‫أمري املؤمنني علي بن أيب طالب عليه السالم وهو يصف شجاعة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حيث يقول‪:‬‬
‫«لقد رأيتنا يوم بدر وَنن نلوذ ِبلنِب صلى هللا عليه وآله وسلم وهو أقربنا إىل العدو وكان من أشد الناس‬
‫يومئذ ِبسا»‪.‬‬
‫القوم اتقينا برسول هللاصلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫القوم َ‬
‫وقال عليه السالم أيضا‪« :‬كنا إذا امحر البأس ولقي ُ‬
‫فما يكون أحد أقرب إىل العدو منه»‪.‬‬
‫وروي عن اإلمام الصادق عليه السالم أنه قال‪ :‬أغار املشركون على سرح املدينة فنادى فيها مناد‪ :‬اي سوء‬
‫صباحاه‪ ..‬فسمعها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف اجلبل فركب يف طلب العدو وكان أول أصحابه حلقه أبو‬
‫قتادة على فرس له وكان حتت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر وال بطر‪ ،‬فطلب‬
‫أحدا وتتابعت اخليل فقال أبو قتادة‪ :‬اي رسول هللا إن العدو قد انصرف فإن رأيت أن نستبق‬
‫العدو فلم يلقوا ً‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فاستبقوا فخرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ساب ًقا عليهم‪ ،‬مث أقبل عليهم فقال‪« :‬أَن ابن‬
‫(‪)1‬‬ ‫العواتك»‪.‬‬
‫جنوت‬
‫ُيب بن خلف اجلمحي وهو يقول‪ :‬ال ُ‬ ‫وملا انصرف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يوم أحد أدركه أ ر‬
‫ُيب قبل‬
‫جنوت‪ ،‬فقال القوم‪ :‬اي رسول هللا أال يعطف عليه رجل منا؟ فقال‪ :‬دعوه‪ ،‬حىت إذا دان منه‪ ..‬وكان أ َر‬
‫إن َ‬
‫ذلك يلقى رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فيقول‪ :‬عندي رمكة (‪ )2‬أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها‪.‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬بل أان أقتلك إن شاء هللا فلما كان يوم أحد ودان منه تناول رسول هللا‬
‫الصمة مث استقبله فطعنه يف عنقه فخدش خدشة فتدهده عن‬ ‫صلى هللا عليه وآله وسلم احلربة من احلارث بن ر‬
‫فرسه وهو خيور خوار الثور وهو يقول‪ :‬قتلين حممد فاحتمله أصحابه وقالوا‪ :‬ليس عليك أبس‪ ،‬فقال‪ :‬بلى لو‬

‫(‪ )1‬العواتك‪ :‬مجع عاتكة‪ :‬يعين جداته صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫معرب‪ .‬لسان العرب ‪.432/10‬‬ ‫ِّ‬
‫الرب َذ رونةُ اليت تتخذ للنسل‪ ،‬ر‬ ‫(‪َّ )2‬‬
‫الرَمكةُ‪ :‬الفرس و ر‬
‫‪63‬‬
‫كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال يل‪ :‬أقتلك؟ لو بصق علي بعد تلك املقالة لقتلين فلم يلبث إال‬
‫يوما حىت مات(‪.)1‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬مصنف عبدالرزاق ‪ ،355/5‬والبداية والنهاية ‪ ،26/4‬واحلاكم ‪ ،327/2‬ومغلطاي ‪ ،334/2‬والبيهقي يف الدالئل ‪-258/3‬‬
‫‪ ،259‬وطبقات ابن سعد ‪ ،46/2‬وعيون األثر ‪.24/2‬‬
‫‪64‬‬
‫(‪ )11‬الصراع املسلح مع قريش‪2 /‬‬

‫ج‪ -‬معركة أحد‬


‫كيدا يف نفوس املشركني يف مكة‪ ،‬ومل يكن لدى أيب‬‫استمرت أحداث بدر ومعركتها التارخيية تتفاعل حقدا و ً‬
‫سفيان قائد الشرك والعدوان آنذاك غري التفكري ابحلرب ومعاودة اهلجوم على املسلمني بدافع الثأر‪ ،‬وحتقيق نصر‬
‫عسكري يغري اآلاثر النفسية واإلعالمية اليت أنتجتها معركة بدر‪.‬‬
‫فدق املشركون طبول احلرب وخططوا للعدوان واهلجوم على املدينة‪ ،‬واتفقوا على أن ترصد أرابح القافلة التجارية‬
‫اليت أفلتت من قبضة املسلمني وقادت إىل معركة بدر إلسناد هذه احلملة العسكرية اآلمثة‪.‬‬
‫زحف املشركون ابجتاه املدينة وكان عددهم ثالثة آالف مقاتل معهم العتاد والسالح الكثري وأخرجوا النساء معهم؛‬
‫ليشجعن اجلنود على القتال‪ ،‬فعرف النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مبسريهم من خالل عيونه يف مكة‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن العباس بن عبد املطلب أرسل إليه من مكة بذلك‪ ،‬فأعلن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم التعبئة العامة‬
‫استعدادا للدفاع‪ ،‬وبث العيون ورجال االستطالع يف املنطقة جلمع املعلومات‪ ،‬وبعد أن استشار‬
‫ً‬ ‫يف صفوف املسلمني‬
‫أصحابه يف سبل التصدي‪ ،‬قرروا مواجهة العدو خارج املدينة‪ ،‬فخرج النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف حوايل ألف‬
‫أيب بن سلول انسحبوا قبل الوصول إىل ساحة املعركة‪ ،‬وكانوا ثالمثائة؛‬
‫مقاتل‪ ،‬غري أن املنافقني بقيادة عبد هللا بن ر‬
‫حبجة أن النيب خالف رأيهم الداعي إىل قتال املشركني من داخل املدينة‪.‬‬
‫فواصل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مسرية اجلهاد بسبعمائة مقاتل‪ ،‬والتقى الفريقان عند جبل أحد على‬
‫بعد بضعة كيلو مرتات من املدينة‪ ،‬يف شهر شوال من السنة الثالثة من اهلجرة‪.‬‬
‫رسم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خارطة املعركة‪ ،‬وحدد مواقع جيشه فوضع الرماة عند فتحة يف اجلبل‪،‬‬
‫رجال ليس رد هبم ثغرة ميكن للعدو أن يتسلل منها‪ ،‬وليوفر محاية خلفية للجيش اإلسالمي‪،‬‬
‫وكان عددهم مخسني ً‬
‫وأمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما حدث‪ ،‬فقال هلم فيما يروى عنه صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬امحوا ظهورَن فإن‬
‫رأيتموَن نُقتل فل تنصروَن‪ ،‬وإن رأيتموَن قد غنمنا فل تشركوَن»‪.‬‬
‫وبدأت املعركة‪ ،‬وكان النصر حليف املسلمني يف اجلولة األوىل‪ ،‬فاستولت قواهتم على ساحة املعركة‪ ،‬واهنزم العدو‪،‬‬
‫وبدأوا جبمع الغنائم‪ ،‬فاستهوت الغنائم نفوس بعض الرماة‪ ،‬فرتكوا مواقعهم‪ ،‬واندفعوا حنو الغنائم‪ ،‬خمالفني بذلك أوامر‬
‫امتثاال لتكليف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مما أحدث ثغرة‬‫قائدهم الذي رفض مع قلة منهم أن يرتك موقعه ً‬
‫يف صفوف اجملاهدين‪ ،‬فاستغلها خالد بن الوليد أحد قادة املشركني آنذاك‪ ،‬فهاجم اجملاهدين من خلفهم فتسبب‬
‫هذا اهلجوم ببعثرة اجليش اإلسالمي واهنزامه أمام املشركني الذين استعادوا أنفاسهم بعدما متكن خالد بن الوليد من‬
‫حممدا قد قتل‪،‬‬
‫قتل القلة اليت بقيت على اجلبل وااللتفاف على املسلمني املنشغلني جبمع الغنائم‪ ،‬وصرخ صارخ‪ :‬إن ً‬
‫فتشتت املسلمون حتت وقع املباغتة‪ ،‬وتفرقوا عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ومل يثبت معه غري جمموعة من‬

‫‪65‬‬
‫أهل بيته ويف مقدمتهم أمري املؤمنني علي بن أيب طالب عليه السالم الذي راح يقاتل إىل جانب رسول هللا صلى هللا‬
‫شديدا ويصد كتائب املشركني ويفرقها وجيدل كماهتا‪.‬‬
‫قتاال ً‬
‫عليه وآله وسلم ً‬
‫روي أنه ملا اهنزم الناس يوم أحد وبقي علي عليه السالم جياهد عن الدين‪ ،‬ويعني بنفسه رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ ،‬ويقاتل القوم حىت فض مجعهم واهنزموا‪ ،‬فقال جربيل عليه السالم لرسول هللا‪« :‬إن هذه َلي املواساة»‬
‫فقال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬اي جربيل‪« :‬إنه مّن وأَن منه» فقال جربيل‪« :‬وأَن منكما»(‪ )1‬عندها عرج‬
‫جربائيل عليه السالم إىل السماء وهو ينادي‪َ« :‬ل سيف إَل ذو الفقار وَل فىت إَل علي»‪.‬‬
‫وملا رأى املسلمون الفارون صرب وثبات رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وعلي عليه السالم وقوة جهادمها يف‬
‫سبيل هللا وعرفوا أنه صلى هللا عليه وآله وسلم مل يقتل وهو يدعوهم إليه بدأوا يعودون تدرجييا إىل ميدان املعركة حىت‬
‫اجتمعوا حوله صلى هللا عليه وآله وسلم فطلب منهم أن يرجعوا إىل مراكزهم األوىل يف القتال‪ ،‬متاما كما يف اخلطة‬
‫شديدا ومتكنوا من صد هجمات املشركني املتواصلة‪ ،‬وأدرك املشركون استحالة إابدة‬‫قتاال ً‬ ‫األوىل‪ ،‬فقاتلوا من جديد ً‬
‫املسلمني وتفتيتهم وحتقيق انتصار عليهم‪ ،‬وكانوا قد أصاهبم التعب واجلراح‪ ،‬فآثروا االنسحاب عائدين إىل مكة دون‬
‫حتقيق أهدافهم(‪.)2‬‬
‫شهيدا ويف‬
‫ومع ذلك فإن ما أصاب املسلمني يف هذه املعركة كان خسارة فادحة‪ ،‬فقد سقط فيها حوايل سبعني ً‬
‫مقدمهم محزة بن عبد املطلب ومصعب بن عمري‪ ،‬وعدد كبري من اجلرحى حىت إن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫أصيب ببعض اجلراح يف وجهه‪ ،‬وبلغت جراحات علي عليه السالم ني ًفا وستني جراحة‪ ،‬وقيل‪ :‬أكثر من ذلك‪ ،‬بني‬
‫طعنة ورمية وضربة أثناء دفاعه عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وصده كتائب األعداء‪.‬‬
‫ُحد بصدمة عنيفة وحزن عميق وشعروا ابلضعف واإلحباط حىت كاد‬
‫لقد أصيب املسلمون بفعل النكسة يف أ ُ‬
‫اليأس يتسرب إىل البعض‪ ،‬والشك إىل البعض اآلخر‪.‬‬
‫وقد تعرض القرآن الكرمي لبعض هذه املواقف وغريها على النحو التايل‪:‬‬
‫‪ -1‬استنكر القرآن حاالت الوهن واحلزن واإلحباط اليت أصابت املسلمني يف أحد‪ ،‬وحاول أن يبعث األمل يف‬
‫نفوسهم وجيدد عزميتهم وإرادهتم ويعيد إليهم الثقة أبنفسهم‪ ،‬وذلك عن طريق التشجيع واملواساة فقال تعاىل‪:‬‬
‫ح يمثْ لُهُ َوتيل َ‬
‫ْك‬ ‫س الْ َق ْوَم قَ ْر ٌ‬
‫ح فَ َق ْد َم َّ‬
‫س ْس ُك ْم قَ ْر ٌ‬ ‫﴿ َوََل ََتينُوا َوََل ََتْ َزنُوا َوأَنْ تُم ْاْلَ ْعلَ ْو َن إي ْن ُك ْن تُ ْم ُم ْؤيمني َ ي‬
‫ي * إ ْن ُيَْ َ‬ ‫ُ‬
‫َّاس﴾ [آل عمران‪.]140 ،139 :‬‬ ‫ي الن ي‬ ‫ْاْلَ ََّّي ُم نُ َدا يو َُلَا بََْ‬

‫(‪ )1‬أخرجه أمحد بن حنبل يف فضائل الصحابة ‪ 656/2‬رقم‪ ،1120 ،1119‬والطرباين يف الكبري ‪ 318 /1‬رقم‪ ،941‬والكويف‬
‫مناقبه ‪ 495/1‬رقم ‪.403‬‬
‫(‪ )2‬حماسن األزهار ‪ ،153‬واتريخ الطربي ‪ ،514/2‬والكامل البن األثري ‪ ،107/2‬وذخائر العقىب ‪ ،74‬وابن هشام ‪،106/3‬‬
‫وسرية ابن كثري ‪ ،707/4‬والبداية والنهاية ‪ ،6/6 ،54/4‬وفرائد السمطني ‪ 251/1‬رقم ‪ ،195 ،194‬ومناقب ابن املغازيل‬
‫‪ 191 ،190‬رقم ‪ ،236 -234‬وكفاية الطالب ‪ ،280-277‬والعمدة البن البطريق ‪ 442‬رقم ‪ ،680 -679‬وابن أيب‬
‫احلديد ‪.453/4‬‬
‫‪66‬‬
‫فليس هناك انتصار دائم‪ ،‬وال انكسار دائم؛ ألن الدنيا مداولة بني احلق والباطل فقد ينتصر احلق يف معركة‪ ،‬وقد‬
‫ينتصر الباطل يف معركة أخرى‪ ،‬وهذه هي سنة هللا يف الكون واحلياة‪ ،‬فال ينبغي للمؤمن أن ييأس أو يضعف أو يشعر‬
‫ابحلزن واإلحباط واليأس عندما ينهزم يف أي موقع من مواقع الصراع مع الباطل‪ ،‬وإمنا عليه أن َيخذ العربة من‬
‫األحداث‪ ،‬ويدرس أسباب اهلزمية‪ ،‬ويتفحص مواطن القوة والضعف؛ ليتعلم من أخطائه‪ ،‬وليتفادى عوامل االنكسار‬
‫واهلزمية‪ ،‬وليحذر وليواجه أحداث املستقبل ابلرصد والوعي واالتزان‪.‬‬
‫اختبارا وابتالء من أجل متحيص الناس ومتييزهم؛ ألن جوهر شخصية‬
‫‪ -2‬إن الفشل يف بعض مواقع الصراع قد يكون ً‬
‫اإلنسان يتضح عندما ختضع الشخصية للبالء‪ ،‬وهذا الواقع أكدته أحداث أحد؛ فاهلزمية الطارئة زلزلت ضعاف‬
‫وثباات‬
‫إمياان وصدقًا‪ ،‬وإصر ًارا ً‬
‫النفوس وجعلتهم يعيشون حاالت الشك والريب‪ ،‬بينما زادت هذه التجربة الصادقني ً‬
‫يف مواجهة التحدي‪ ،‬وبذلك انكشف اإلميان املزيف من اإلميان اخلالص‪ ،‬واإلميان القوي الراسخ يف العقول‬
‫والنفوس من اإلميان املتزلزل‪.‬‬
‫وكذلك فإن املسلمني يف أُحد كانوا يتمنون املوت والشهادة يف سبيل هللا ولكن حني خضع بعضهم للتجربة‪،‬‬
‫وفُرضت عليهم املعركة من جديد‪ ،‬وأصبحوا قاب قوسني أو أدىن من الشهادة سقطوا يف االختبار‪ ،‬وحاولوا الفرار من‬
‫ساحة اجلهاد‪ ،‬ومل يثبت مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وس لم إال القلة‪ ،‬برغم أهنم كانوا يرونه يتعرض هلجوم واسع‬
‫ي ي‬
‫ص هللاُ‬ ‫من قبل املشركني حىت أصيب ببعض اجلراحات وقد صور القرآن الكرمي هذا الواقع بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وليُ َم ِح َ‬
‫ين‬ ‫اه ُدوا يم ْن ُك ْم َويَ ْعلَ َم َّ‬
‫الصابي ير َ‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ين * أ َْم َحس ْب تُ ْم أَ ْن تَ ْد ُخلُوا ا ْْلَنَّةَ َول ََّما يَ ْعلَ يم هللاُ الَّذ َ‬
‫ين َج َ‬ ‫ي‬
‫آمنُوا َوُيَْ َح َق الْ َكاف ير َ‬ ‫ين َ‬
‫ي‬
‫الَّذ َ‬
‫ت يم ْن قَ ْب يل أَ ْن تَ لْ َق ْوهُ فَ َق ْد َرأَيْ تُ ُموهُ َوأَنْ تُ ْم تَ ْنظُُرو َن﴾ [آل عمران‪.]143 -141 :‬‬ ‫* َولََق ْد ُك ْن تُ ْم ُتََن َّْو َن ال َْم ْو َ‬
‫‪ -3‬إن من أخطر املواقف اليت واجهت املسلمني يف أُحد هو موقف البعض الذي بدأ يفتش عمن َيخذ له األمان‬
‫من العدو ليسلم بنفسه‪ ،‬أو بدأ يشكك بصدق رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ورسالته‪ ،‬وذلك بعدما‬
‫انتشرت إشاعة مقتل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وشعر املسلمون ابلقلق والضياع‪.‬‬
‫فقد قال البعض‪ :‬ليتنا جند من َيخذ لنا األمان من أيب سفيان‪.‬‬
‫وقال البعض‪ :‬لو كان حممد نبيًا مل يقتل‪ ،‬احلقوا بدينكم األول‪.‬‬
‫ات أ َْو قُتي َل‬ ‫ت يم ْن قَ ْبلي يه ُّ‬
‫الر ُس ُل أَفَيإ ْن َم َ‬ ‫وقد حتدث القرآن عن ذلك بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ُحمَ َّم ٌد إيََّل َر ُس ٌ‬
‫ول قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ض َّر هللا َشي ئرا وسيج يزي هللا َّ ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬
‫ين﴾ [آل عمران‪.]144 :‬‬ ‫الشاك ير َ‬ ‫ُ‬ ‫ب َعلَى َعقبَ ْيه فَ لَ ْن يَ ُ َ ْ َ َ َ ْ‬ ‫انْ َقلَْب تُ ْم َعلَى أَ ْع َقابي ُك ْم َوَم ْن يَ ْن َقل ْ‬
‫فاملز َلزلون يف إمياهنم ينقلبون على أعقاهبم‪ ،‬ويرتاجعون عن دينهم وعن احلق بعد أن يسمعوا مبقتل الرسول ويشعروا‬
‫بغياب القائد‪ ،‬ولكن يف مقابل هؤالء جند من الرجال املؤمنني من ميثلون حقيقة اإلميان والثبات على احلق حىت يف‬
‫حال غياب القائد أو موته‪.‬‬
‫حممدا قد‬
‫مر برجل من األنصار يتشحط بدمه فقال له‪ :‬أعلمت أن ً‬
‫رجال من املهاجرين ر‬
‫فقد روي يف أُحد أن ً‬
‫قتل؟ فأجابه األنصاري‪ :‬إن كان حممد قد قتل فقد بلرغ فقاتلوا عن دينكم‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫مر برجال من املهاجرين واألنصار يف معركة أُحد وقد انكفأوا عن اجلهاد‬
‫ويف رواية أخرى‪ :‬أن أنس بن النضر ر‬
‫فقال هلم‪ :‬ما جيلسكم؟ فقالوا‪ :‬قتل حممد‪ ..‬فقال‪ :‬إن كان حممد قد قتل فإن رب حممد مل يقتل وما تصنعون ابحلياة‬
‫بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه‪ ،‬وموتوا على ما مات عليه‪.‬‬
‫فغياب القائد ال يوقف املسرية وال يلغي الرسالة والقضية‪ ،‬ولذلك فال جيوز أن ينحرف املسلمون عن خط الرسالة‬
‫وال أن يتخلوا عن قضيتهم ويرتاجعوا إذا مات القائد أو أصيب‪ ،‬وإمنا عليهم أن جيردوا أنفسهم حلمل مسؤولية الرسالة‬
‫وإكمال املسرية بعده بقوة وعزم وإرادة صلبة‪.‬‬

‫أسباب اهلزمية والدروس املستفادة‪:‬‬

‫أح ِّد فصول معركة أُحد وما ميكن أن نستفيده من هذه التجربة‬
‫إن األسباب اليت أدت إىل فشل املسلمني يف َ‬
‫كثرية منها‪:‬‬
‫خصوصا حني يكون‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬أمهية االنضباط والتقيد أبوامر القائد وتوجيهاته مهما كانت الظروف؛ فإن االنضباطية‪-‬‬
‫حكيما‪ -‬هي أساس النجاح واالنتصار‪ ،‬ورمبا تكون خمالفة أفراد معدودين سببا يف دمار جيش بكامله‪،‬‬
‫ً‬ ‫القائد‬
‫كما كان احلال يف أحد‪ ،‬فإن من الواضح أن السبب األول للهزمية يعود إىل هتاون الرماة يف تنفيذ األوامر‪،‬‬
‫يثارا هلا على اآلخرة‪.‬‬ ‫طمعا يف الدنيا وإ ً‬ ‫واختالفهم وعصياهنم لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫صري تُ رم ِّم رن بَ رع ِّد‬ ‫ِّ‬ ‫قال هللا تعاىل‪﴿ :‬ولََق رد ص َدقَ ُكم هللا و رع َده إِّ رذ َحت ُّس َ ِِّّ‬
‫وهنُرم ِّإبِّ رذنه َح َّىت إِّذَا فَشلرتُ رم َوتَنَ َاز رعتُ رم ِّيف راأل رَم ِّر َو َع َ‬ ‫َ َ ُ َُ ُ ُ‬
‫صَرفَ ُك رم َعرن ُه رم لِّيَ رب تَلِّيَ ُك رم َولََق رد َع َفا َعرن ُك رم َوهللاُ ذُو‬ ‫يد الدُّنريا وِّمرن ُكم من ي ِّر ُ ِّ‬
‫يد راآلخَرةَ ُمثَّ َ‬
‫ِّ ِّ‬
‫َما أ ََرا ُك رم َما ُحتبُّو َن مرن ُك رم َم رن يُِّر ُ َ َ ر َ ر ُ‬
‫ِّ ِّ‬
‫ني﴾ [آل عمران‪.]152 :‬‬ ‫ض ٍّل َعلَى الر ُم رؤمن َ‬‫فَ ر‬
‫‪ -2‬إن النصر ال يرتبط بكثرة العدد‪ ،‬ولذلك فال ينبغي االغرتار ابلكثرة بل جيب االعتماد على النفس والتوكل على‬
‫هللا‪ ،‬والطاعة للقيادة‪ ،‬وحتمل املسؤولية والقيام ابلتكاليف‪ ،‬فقد كان الغرتار املسلمني أبنفسهم وبكثرهتم أثر كبري‬
‫يف حلول اهلزمية هبم؛ فقد قالوا للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬قد كنت يف بدر يف ثالمثائة رجل‪ ،‬فأظفرك هللا‬
‫اّللِّ صلى هللا‬
‫ول ر‬ ‫هبم‪ ،‬وحنن اليوم بشر كثري‪ ،‬نتمىن هذا اليوم وندعو هللا له‪ ،‬وقد ساقه هللا إىل ساحتنا هذه‪َ ،‬وَر ُس ُ‬
‫ول (‪.)1‬‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الح َخيرط ُرو َن بسيوف ِّه رم يَتَ َ‬
‫سامو َن َكأَ رهنم الر ُف ُح ُ‬ ‫الس َ‬
‫ِّ‬
‫عليه وآله وسلم ل َما يَرى من إحلاحه رم َكارهٌ َوقَ رد لَبسوا ر‬
‫وواضح أن االغرتار ابلكثرة يفقد العناصر امل ِّ‬
‫شاركة الشعور ابالعتماد على النفس‪ ،‬وجيعلهم يعيشون روح التواكل‬
‫والالمسؤولية‪.‬‬
‫‪ -3‬إن سنن احلياة ال تتبدل فاملسلمون عندما َيخذون أبسباب النصر ينتصرون وتشملهم عناية هللا‪ ،‬وعندما‬
‫يتهاونون فيها يصابون ابهلزمية‪ ،‬إهنا سنة هللا يف احلياة‪ ،‬ولن جتد لسنة هللا تبديال‪.‬‬
‫‪ -4‬إن عناية هللا ابملؤمنني وتسديده هلم ال يعين إلغاء مجيع األسباب الطبيعية كلية‪ ،‬كما ال يعين أن هذه العناية‬
‫قطعا ابلسعي من قبلهم حنو اهلدف األمسى‪ ،‬والعطاء والبذل‬
‫وذلك اإلمداد مطلق غري مشروط‪ ،‬بل هو مشروط ً‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الواقدي‪ /‬املغازي‪.211/1 :‬‬


‫‪68‬‬
‫َّ ي‬
‫آمنُوا إي ْن تَ ْن ُ‬
‫ص ُروا‬ ‫ين َ‬
‫موضعا لعناية هللا وألطافه‪ ،‬يقول هللا تعاىل‪ََّ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬
‫والتضحيات اليت تؤهلهم ألن يكونوا ً‬
‫ص ْرُك ْم َويُثَبيِ ْ‬
‫ت أَقْ َد َام ُك ْم﴾ [محمد‪.]7 :‬‬ ‫هللاَ يَ ْن ُ‬
‫أو على األقل ال بُ َّد الستمرار هذه العناية اإلهلية هبم من حفظ احلد األدىن من االرتباط ابلقيادة‪ ،‬وإطاعتها‪،‬‬
‫وتنفيذ أوامرها‪.‬‬
‫‪ -5‬االرتباط ابهلل سبحانه وابتغاء ما عنده واإلعراض عن الدنيا ومتاعها وعدم الطمع يف مكاسبها وغنائمها؛ فإن‬
‫طمعا يف الدنيا‪،‬‬
‫هللا سبحانه ما زال يؤيد املسلمني بنصره يف أحد حىت عصوا الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫وإيثارا هلا على اآلخرة‪ ،‬فكان ال بُ َّد يف هذه احلالة من إعادة التمحيص هلم‪ ،‬وابتالئهم لريجعوا إىل هللا‪ ،‬وليميز‬
‫ً‬
‫هللا املؤمن من املنافق‪ ،‬وليزداد الذين آمنوا إمياان‪.‬‬
‫‪ -6‬أمهية تطهري الصفوف من املنافقني وضعاف اإلميان الذين يسقطون أمام مغرايت الدنيا واإلشاعات الكاذبة‪،‬‬
‫ويفتقدون الوعي واإلخالص‪ ،‬والصرب يف مواقع التحدي‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه الشخصي‪4-‬‬

‫منطقه صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬

‫لقد اتفق مجيع الذين وصفوا منطق رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على أنه صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫كان أحسن الناس منط ًقا‪ ،‬دائم الفكر‪ ،‬ال يتكلم يف غري حاجة‪ ،‬طويل السكوت‪ ،‬يفتتح الكالم وخيتتمه أبشداقه‬
‫(األشداق جوانب الفم أي ال يفتح فاه كله) ويتكلم جوامع الكلم‪ ،‬ليس ابجلايف وال املهني‪ ،‬يعظم النعمة وإن‬
‫ُ‬
‫دقت وال يذم منها شيئا‪ ،‬وال تغضبه الدنيا وما كان هلا‪ ،‬إذا تعوطي احلق مل يعرفه أحد‪ ،‬ومل يقم لغضبه شيء حىت‬
‫ينتصر له‪ ،‬وال يغضب لنفسه وال ينتصر هلا‪ ،‬إذا أشار أشار بكفه كلها‪ ،‬وإذا تعجب قلربها‪ ،‬وإذا حتدث أشار هبا‬
‫فضرب براحته اليمىن ابطن إهبامه اليسرى‪ ،‬وإذا غضب أعرض وأشاح‪ ،‬وإذا فرح غض من طرفه‪ ،‬جل ضحكه‬
‫التبسم‪ ،‬ويفرت عن مثل حب الغمام(‪.)1‬‬
‫وإذا أردان أن نبحث عن مكوانت حالوة منطقه صلى هللا عليه وآله وسلم وحسنه حلصلنا من ذلك على‬
‫العناصر التالية‪:‬‬
‫فحاشا بل كان أبعد ما يكون‬
‫سبااب وال ً‬
‫• ترك الفاحش من القول فلم يكن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫عن الفحش والبذاءة يف الكالم‪.‬‬
‫• فصاحة لسانه فقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فصيح اللسان إذا تكلم تكلم أبانة وهدوء‪.‬‬
‫• تبسمه أثناء التكلم‪ ،‬قال أبو الدرداء‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إذا حدث حبديث تبسم يف‬
‫حديثه(‪.)2‬‬
‫• تكليمه للناس على قدر عقوهلم فكانت أساليب عرضه لألفكار وإجاابته على األسئلة ختتلف يف البعد‬
‫واملستوى من شخص آلخر طبقا للقابليات الذهنية اليت يتمتع هبا األفراد‪ ،‬وإىل هذا أشار الرسول صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم بقوله‪« :‬إَن معشر اْلنبياء أمرَن أن نكلم الناس على قدر عقوَلم»(‪.)3‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬املصابيح يف السرية ‪ ،155/1‬والرتمذي يف الشمائل احملمدية‪ 34/1‬رقم ‪ ،8‬والطرباىن يف الكبري ‪ 155/22‬رقم ‪ ،414‬والبيهقي‬
‫يف شعب اإلميان ‪ 154/2‬رقم‪ ،1430‬وابن عساكر ‪ ،343/3‬ومكارم األخالق ص‪.13‬‬
‫(‪ )2‬أخالق النيب ‪.92‬‬
‫(‪ )3‬الفردوس مبأثور اخلطاب ‪ 398/2‬رقم ‪.1611‬‬
‫‪70‬‬
‫(‪ )12‬الصراع املسلح مع قريش‪3 /‬‬

‫د‪ -‬معركة الخندق‬


‫توالت غزوات الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم لبعض قبائل العرب واليهود بعد معركة بدر وأحد؛ مما أاثر خماوف‬
‫اليهود وإحساسهم ابخلطر من تعاظم قوة املسلمني فاندفعوا للتآمر على اإلسالم ونبيه العظيم صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬وراحوا حيرضون أعداء اإلسالم وخيططون لتكوين جتمع عسكري هائل ملهامجة املدينة والقضاء على اإلسالم‪.‬‬
‫لقد اتصل اليهود بقريش وغطفان واتفقوا معهم على مهامجة املدينة إال أن أنباء هذه املؤامرة تسربت إىل النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم فشاور أصحابه واستقر الرأي على حفر خندق حول املدينة لتحصينها‪ ،‬فاستنفر املسلمون‬
‫حلفر اخلندق وشارك هو صلى هللا عليه وآله وسلم بعملية احلفر‪.‬‬
‫أتهبت أحزاب الكفر والضالل من قريش وغطفان وبعض القبائل املعادية ومجعوا رجاهلم وأنصارهم ومن اتبعهم‬
‫فكان تعداد جيشهم عشرة آالف مقاتل نزلوا قرب املدينة‪ ،‬بينما كان عدد املسلمني تسعمائة مقاتل(‪ )1‬تعبأوا خلف‬
‫اخلندق بقوة وشجاعة‪.‬‬
‫وبعد أن عرف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عن طريق عيونه أن اليهود نقضوا ما بينه وبينهم من العهد‪،‬‬
‫وأهنم طلبوا من قريش ألف رجل‪ ،‬ومن غطفان ألف رجل؛ ليغريوا على املدينة عرب حصن اليهود‪ -‬بعث سلمة بن‬
‫أسلم يف مائيت رجل‪ ،‬وزيد بن حارثة يف ثالمثائة رجل حيرسون املدينة‪ ،‬وجيهرون ابلتكبري؛ ختوفًا على الذراري من بين‬
‫ات بن جبري بن النعمان األنصاري؛ لينظر غَِّّرةً لبين قريظة‪،‬‬
‫خو َ‬
‫قريظة!( )‪ ،‬وبعث رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم َّ‬
‫‪2‬‬

‫فَ َك َم َن هلم‪ ،‬فَ َح َملَهُ َر ُج ٌل منهم ‪-‬وقد أخذه النوم‪ -‬فأمكنه هللا من الرجل وقتله! وحلق ابلنيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫اش بن قيس يف عشرة من اليهود يريد املدينة؛ ففطن هبم نفر من أصحاب سلمة بن أسلم فرموهم‬ ‫فأخربه‪ ،‬وخرج نَبَّ ُ‬
‫ات(‪.)3‬‬
‫ومَّر سلمة فيمن معه فأطاف حبصون اليهود فخافوه وظنوا أنه البَ يَ ُ‬
‫حىت هزموهم‪َ ،‬‬

‫(‪ )1‬وهذا العدد هو الذي ذكره ابن حزم الظاهري يف كتابه جوامع السرية ص ‪178‬وقال فيه‪ :‬وخرج رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم يف ثالثة آالف من املسلمني‪ ،‬وقد قيل‪ :‬يف تسعمائة فقط‪ ،‬وهو الصحيح الذي ال شك فيه‪ ،‬واألول َو ره ٌم‪.‬اه ‪ .‬ولعل القائل‬
‫بذلك ذهب إىل ما ورد يف حديث جابر (البخاري ‪ 1505/4‬رقم ‪)3876‬؛ حيث قال‪ :‬يف سياق احلديث الذي فيه القصة‬
‫اليت استضاف فيها جابر صلى هللا عليه وآله وسلم على عناق وصاع من شعري … وجاء الرسول صلى هللا عليه وسلم أبهل‬
‫اخلندق إىل أن قال … وهم ألف‪ .‬واملشهور يف كتب السري أن عدد املسلمني يف غزوة اخلندق ثالثة آالف‪ .‬ينظر الواقدي‬
‫‪ ،440/2‬وابن سعد ‪ ،65/2‬وابن هشام ‪ ،224/3‬وسبل اهلدى ‪ ،512/4‬وسرية ابن كثري ‪ ،205-202/3‬والروض األنف‬
‫‪ ،279/3‬والسرية احللبية ‪.309/2‬‬
‫(‪ )2‬السرية احللبية‪.315/2‬‬
‫(‪ )3‬اإلمتاع ‪ ،233/1‬ومغازي الواقدي ‪.493/2‬‬
‫‪71‬‬
‫إرجاف المنافقين‪:‬‬
‫ُ‬
‫وعظُ َم البالء‪ ،‬واشتد اخلوف‪ ،‬وكانت شائعةُ املنافقني تقول‪ :‬كان حممد يَعِّ ُدان‬
‫عقارب النفاق تبث مسومها‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َدبَّ ر‬
‫َح ُد َان اليوم ال َيمن على نفسه أن يذهب إىل الغائط(‪.)1‬‬
‫بكنوز كس رى وقيص ر‪ ،‬وأ َ‬
‫بنو حارثة الذين قالوا‪ :‬إن بيوتنا عورة‪ :‬فقد بعثوا أوس بن قيظي إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪:‬‬
‫إن بيوتنا عورة (أي مكشوفة للعدو) وليس يف دور األنصار مثل داران؛ ليس بيننا وبني غطفان أحد يردهم عنا؛ فَأرذَ رن‬
‫لنا فَلرنَ ررِّج رع إىل دوران فنمنع ذرارينا ونساءان؛ فَأ َِّذ َن هلم صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال‪ :‬اي‬
‫َصابَنَا وإايهم ِّش َّدةٌ قط إال صنعوا هكذا! فَ َرَّد ُه رم(‪.)2‬‬ ‫رسول هللا! ال أتذن هلم؛ إان وهللا ما أ َ‬
‫الرِّرميَّا وهي‬‫مث أقام رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وأقام املشركون قريبًا من شهر مل تكن بينهم حرب إال رِّ‬
‫َس َف َل يم ْن ُك ْم َوإي ْذ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الر ُمَر َاماةُ ابلنبل‪ ،‬واحلصار؛ وقد حتدث القرآن عن هذا فقال‪﴿ :‬إي ْذ َجاءُوُك ْم م ْن فَ ْوق ُك ْم َوم ْن أ ْ‬
‫ك ابْ تُلي َي ال ُْم ْؤيمنُو َن َوُزلْ يزلُوا يزل َْز راَل َش يدي ردا *‬
‫وَن * ُهنَالي َ‬ ‫هلل الظُّنُ َ‬‫اجر وتَظُنُّو َن يِب ي‬ ‫ي‬
‫وب ا ْْلَنَ َ َ‬
‫ي‬
‫ار َوبَلَغَت الْ ُقلُ ُ‬ ‫صُ‬ ‫ت ْاْلَبْ َ‬‫َزاغَ ي‬
‫َت طَائيَفةٌ يم ْن ُه ْم ََّي أ َْه َل‬ ‫ورا * َوإي ْذ قَال ْ‬ ‫ض َما َو َع َد ََن هللاُ َوَر ُسولُهُ إيََّل غُ ُر ر‬ ‫ين يِف قُ لُوهبيي ْم َم َر ٌ‬ ‫َّ ي‬ ‫ي‬
‫ول ال ُْمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬ ‫َوإي ْذ يَ ُق ُ‬
‫ام لَ ُك ْم فَ ْار يجعُوا َويَ ْستَأ يْذ ُن فَ يري ٌق يم ْن ُه ُم الني َّ‬
‫َِّب يَ ُقولُو َن إي َّن بُيُوتَنَا َع ْوَرةٌ َوَما يه َي بي َع ْوَرٍة إي ْن يُ يري ُدو َن إيََّل‬ ‫ب ََل ُم َق َ‬ ‫يَثْ ير َ‬
‫ي ي ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫في َر رارا * َول َْو ُد يخلَ ْ‬
‫يا﴾ [األحزاب‪.]14-10 :‬‬ ‫ت َعلَْي يه ْم م ْن أَقْطَا يرَها ُُثَّ ُسئلُوا الْف ْت نَةَ َْلتَ ْو َها َوَما تَ لَبَّ ثُوا هبَا إ ََّل يَس ر‬

‫المبارزة‪:‬‬
‫بن أيب‬
‫وهبَ رريَةُ ُ‬
‫بن اخلطاب‪ُ ،‬‬
‫ِّ‬
‫بن أيب جهل‪ ،‬وضَر ُار ُ‬ ‫ُوٍّرد العامري‪َ ،‬وعِّك ِّ‬
‫ررَمةُ ُ‬ ‫بن َعرب ِّد‬
‫ال َع رم ُرو ُ‬ ‫يف أثناء احلصار َج َ‬
‫مكاان ضي ًقا ابخلندق أغفله املسلمون؛ فَ َع َربُوا إىل ساحة املسلمني‪ ،‬فطلب‬ ‫بن عبد هللا خبيوهلم فوجدوا ً‬ ‫وهب‪ ،‬ونَ روفَ ُل ُ‬
‫عمرو املبارزة ثالث مرات فلم جيبه من املسلمني أحد سوى علي بن أيب طالب عليه السالم الذي كان يقول للنيب‬
‫قائال‪ :‬أتزعمون أن قتالكم يف اجلنة‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم ‪-‬يف كل مرة‪ :-‬أان أابرزه اي رسول هللا! وأردف عمرو ً‬
‫وع َّم َمهُ بعمامته‪،‬‬ ‫يل؟! فَأ َِّذ َن صلى هللا عليه وآله وسلم رٍّ‬
‫لعلي عليه السالم ‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫وقتالان يف النار؛ فما لكم ال خترجون إ ر‬
‫ابن عمي؛ فال تَ َذ ررِّين فَ ررًدا وأنت خري الوارثني‪.‬‬
‫وقَلَّ َدهُ سيفه‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم إن هذا أخي و ُ‬
‫ب له؛ فقال‪ :‬اي ابن أخي‪ ،‬كان أبوك ندميي وصديقي؛ فارجع فال أحب أن أقتلك!‬ ‫فقال عمرو‪َ :‬م رن أنت؟ فَانرتَ َس َ‬
‫يشا‬
‫فقال علي‪ :‬لكين أحب أن أقتلك! فقال عمرو‪ :‬إين ألكره أن أقتل الرجل الكرمي مثلك فارجع؛ فقال علي‪ :‬إن قر ً‬
‫أجبت ولو إىل واحدة منها‪ ،‬قال‪ :‬أجل‪ ،‬فقال‪ :‬أدعوك إىل اإلسالم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ث عنك أنك ال تُ رد َعى إىل ثالث إال َ‬ ‫ُحتَ رِّد ُ‬
‫غالما خدعين! قال‪ :‬فإين‬ ‫أن ً‬ ‫َد رع عنك هذه‪ ،‬قال‪ :‬أدعوك إىل أن ترجع مبن معك‪ ،‬قال‪ :‬إذن تتحدث نساء قريش َّ‬
‫أحدا من العرب يرومها‪ ،‬فَََرت َّج َل عن فرسه فَ َع َقَرهُ‪ ،‬فتجاوال‬
‫أدعوك إىل الرباز؛ فحمي َع رمٌرو وقال‪ :‬ما كنت أظن أن ً‬

‫(‪ )1‬يقال‪ :‬إن القائل هو ُم َعتِّرب بن قشري‪ .‬ينظر‪ :‬الواقدي ‪ ،494/2‬والروض األنف ‪.422/3‬‬
‫(‪ )2‬اإلمتاع ‪.233/1‬‬
‫‪72‬‬
‫ص رد َره َحيُُّز َرأر َسهُ!‬ ‫ت الغربةُ ِّ ِّ‬ ‫علي كرم هللا وجهه‪ ،‬و راجنلَ ِّ‬
‫ب َ‬ ‫وعل ٌّي َراك ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫تكبري رٍّ‬
‫وحجبهما الغبار عن الناس إىل أن مسعوا َ‬
‫أحسن من هذه اي معشر‬ ‫َ‬ ‫فَ َفَّر أصحابه إال نوفال فوقع يف اخلندق مع فرسه‪ ،‬فَ ُرِّم َي ابحلجارة‪ ،‬فجعل يقول‪ :‬قَتر لَةً‬
‫علي كرم هللا وجهه فقطعه ابلسيف نصفني! وَك َُرب ذلك على املشركني؛ فأرسلوا إىل رسول هللا صلى‬ ‫العرب‪ ،‬فنزل إليه ٌّ‬
‫ِّ‬
‫ي يِف ُجثَّتي يه‪َ ،‬وََل يِف ََثَني يه؛ ا ْدفَ عُوهُ‬ ‫هللا عليه وآله وسلم‪ :‬إان نعطيك الدية على أن تدفعه إلينا فَنَ ردفنَهُ‪ ،‬فقال‪ََ « :‬ل َخ ْ َ‬
‫إيل َْي يه ْم»‪.‬‬
‫وشاء هللا سبحانه وتعاىل أن ينصر دينه ويوفر لنبيه صلى هللا عليه وآله وسلم عوامل النصر فيهزم أحزاب الكفر‬
‫والضالل من دون قتال عنيف بني الطرفني(‪.)1‬‬
‫وقد أسهمت ثالثة عناصر أساسية يف حتقيق النصر يف هذه املعركة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬التخطيط العسكري الذي متثل حبفر اخلندق وغري ذلك‪ ،‬حيث أسهم حفر اخلندق يف محاية املسلمني واملدينة‬
‫ويف حرمان العدو من سرعة احلركة‪ ،‬ويف تطويل أمد املعركة وجعلها على شكل حماور لكي تتفاقم أزمات األحزاب‬
‫نتيجة لطول زمن احلرب‪.‬‬
‫الفعال الذي قام به رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حيث أدى إىل إيقاع اخلالف بني‬
‫‪ -2‬العمل االستخباري ر‬
‫قوى األحزاب‪.‬‬
‫‪ -3‬الدور البطويل الذي قام به علي بن أيب طالب عليه السالم ؛ حيث م ركنه هللا من قتل عمرو بن عبد ود وهو‬
‫من أبرز صناد يد قريش ورجاالهتا فاهنارت قوة قريش ويئسوا وشعروا ابلضعف واهلزمية‪.‬‬
‫وقد وصف النبي صلى هللا عليه وآله وسلم موقف علي عليه السالم يوم الخندق بقوله‪:‬‬
‫‪‬‬
‫«لَمبارزة علي بن أيب طالب لعمرو بن عبد ود يوم اخلندق أفضل من أعمال أميت إىل يوم القيامة»( )‪.‬‬
‫‪ -4‬التأييد اإلهلي الذي متثل جبنود هللا الغيبيني الذين نزلوا ساحة املعركة‪ ،‬والذي متثل أيضا ابلرايح والعواصف اهلوجاء‬
‫اليت أصابت معسكر األعداء فزلزلت استقرارهم‪ ،‬وفرضت عليهم الفرار أذالء من دون حتقيق شيء‪ ،‬ويف ذلك‬
‫يقول هللا تعاىل‪َّ﴿ :‬ي أَيُّها الَّ يذين آمنُوا اذْ ُكروا نيعمةَ ي‬
‫هللا َعلَْي ُك ْم إي ْذ َجاءَتْ ُك ْم ُجنُو ٌد فَأ َْر َسلْنَا َعلَْي يه ْم يرُيرا َو ُجنُ ر‬
‫ودا‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ََلْ تَ َرْو َها َوَكا َن هللاُ يِبَا تَ ْع َملُو َن بَ يص ريا﴾ [األحزاب‪.]9 :‬‬

‫فرزت حرب الخندق المسلمين إلى ثالث فئات‪:‬‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،224/3‬والبداية والنهاية ‪ ،122/4‬والسبل ‪ ،534/4‬والسرية احللبية ‪ ،320/2‬والواقدي ‪ .471/2‬واالكتفاء‬
‫‪ ،125/1‬ودالئل البيهقي ‪ ،438/3‬واملستدرك ‪ 32/3‬وأقره الذهيب‪ ،‬والكامل البن األثري ‪ ،280-279/2‬و‬
‫الطربي‪ ،574/2‬وسرية ابن كثري ‪ ،205-202/3‬والروض األنف ‪.280-279/3‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬احلاكم‪ .‬املستدرك على الصحيحني‪ :‬ج‪ 3‬ص‪.32‬‬
‫‪73‬‬
‫‪ -1‬ضعاف اإلميان‪ :‬وهم الذين وقعوا حتت أتثري الوساوس الشيطانية والظنون السيئة فعاشوا اخلوف والقلق عندما‬
‫رأوا األعداء قد حتالفوا ضدهم‪ ،‬فاهتز إمياهنم وفقدوا عمق الثقة ابهلل وبنصره‪.‬‬
‫َس َفل يم ْن ُكم وإي ْذ َزاغَ ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬
‫ت‬ ‫وقد صور القرآن الكرمي موقف هذه الفئة بقوله تعاىل‪﴿ :‬إي ْذ َجاءُوُك ْم م ْن فَ ْوق ُك ْم َوم ْن أ ْ َ ْ َ‬
‫ك ابْ تُلي َي ال ُْم ْؤيمنُو َن َوُزلْ يزلُوا يزل َْز راَل َش يدي ردا﴾‬
‫وَن * ُهنَالي َ‬ ‫اجر وتَظُنُّو َن يِب ي‬
‫هلل الظُّنُ َ‬ ‫ي‬
‫وب ا ْْلَنَ َ َ‬
‫ي‬
‫ار َوبَلَغَت الْ ُقلُ ُ‬
‫صُ‬ ‫ْاْلَبْ َ‬
‫[األحزاب ‪.]11،10‬‬
‫‪ -2‬املنافقون‪ :‬وقد اختذوا عدة مواقف ذكرها القرآن الكرمي هي‪:‬‬
‫غرورا؛ ألن هللا ورسوله كاان قد وعداهم النصر والفتح وهاهم أمام حشود القوى‬ ‫أ‪ -‬قالوا ما وعدان هللا ورسوله إال ً‬
‫ين يِف قُ لُوهبيي ْم َم َر ٌ‬ ‫َّ ي‬ ‫ي‬ ‫املتحالفة ال يقوون على شيء‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإي ْذ يَ ُق ُ‬
‫ض َما َو َع َد ََن هللاُ‬ ‫ول ال ُْمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬
‫َوَر ُسولُهُ إيََّل غُ ُر ر‬
‫ورا﴾ [األحزاب‪.]12 :‬‬
‫َت طَائيَفةٌ يم ْن ُه ْم ََّي أ َْه َل‬
‫ب‪ -‬تثبيط العزائم وشل اإلرادات عن اجلهاد‪ ،‬قال تعاىل حكاية عن املنافقني‪َ ﴿ :‬وإي ْذ قَال ْ‬
‫ام لَ ُك ْم فَ ْاريجعُوا﴾ [األحزاب‪ ]13 :‬أي ال تقدرون على فعل شيء أمام قدرات األعداء فارجعوا من‬ ‫ب َل ُم َق َ‬ ‫يَثْ ير َ‬
‫حيث أتيتم‪.‬‬
‫ج‪ -‬خلق األعذار الواهية؛ من أجل الفرار من ساحة اجلهاد‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ويَ ْستَأ يْذ ُن فَ يري ٌق يم ْن ُه ُم الني َّ‬
‫َِّب يَ ُقولُو َن‬
‫إي َّن بُيُوتَنَا َع ْوَرةٌ َوَما يه َي بي َع ْوَرٍة إي ْن يُ يري ُدو َن إيََّل في َر رارا﴾ [األحزاب‪.]13 :‬‬
‫‪ -3‬املؤمنون احلقيقيون‪ :‬وهم الذين ملا رأوا األحزاب مل ينحرفوا قيد أمنلة عن عقيدهتم وإمياهنم ومل يضعفوا ومل يشككوا‬
‫عربوا عن ثقتهم بوعد هللا ورسوله وعن صدقهم وإخالصهم وعمق إمياهنم وثباهتم يف مواقع‬ ‫ومل يتزلزلوا‪ ،‬وإمنا ر‬
‫ص َد َق هللاُ َوَر ُسولُهُ َوَما‬ ‫ي‬
‫اب قَالُوا َه َذا َما َو َع َد ََن هللاُ َوَر ُسولُهُ َو َ‬
‫َح َز َ‬
‫التحدي قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ول ََّما َرأَى ال ُْم ْؤمنُو َن ْاْل ْ‬
‫َز َاد ُه ْم إيََّل إيُيَ راَن َوتَ ْسلي ريما﴾ [األحزاب‪.]22 :‬‬

‫هـ ‪ -‬صلح الحديبية‬


‫عززت األحداث واملعارك اليت وقعت بني رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وأعداء اإلسالم من املشركني واليهود‬
‫موقف املسلمني‪ ،‬وغرست هيبتهم يف النفوس فقرر الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم أن يسري أبصحابه إىل مكة ليزور‬
‫البيت احلرام ويعتمر بعد أن رأى يف املنام أنه يدخله هو وأصحابه آمنني من غري قتال كما يشري قوله تعاىل‪﴿ :‬لََق ْد‬
‫آمني ي ي‬ ‫ي‬
‫وس ُك ْم َوُم َق يِ‬
‫ص ير َ‬
‫ين ََل ََّتَافُو َن‬ ‫ي ُرءُ َ‬ ‫الرْؤََّي يِب ْْلَيِق لَتَ ْد ُخلُ َّن ال َْم ْس يج َد ا ْْلََر َام إي ْن َشاءَ هللاُ َ‬
‫ي ُحمَلِق َ‬ ‫ص َد َق هللاُ َر ُسولَهُ ُّ‬
‫َ‬
‫ك فَ ْت رحا قَ يريبرا﴾ [الفتح‪.]27 :‬‬ ‫ون ذَلي َ‬ ‫فَ عليم ما ََل تَ ْعلَموا فَجعل يمن ُد ي‬
‫َ َ َ ْ ُ ََ َ ْ‬
‫توجه الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ومعه ما يقرب من ألف وأربعمائة من املهاجرين واألنصار حنو مكة يف‬
‫هداي لتنحر يف مكة‪.‬‬
‫ذي القعدة يف السنة السادسة من اهلجرة‪ ،‬وهم حيملون السالح‪ ،‬وقد ساقوا معهم سبعني بدنة ً‬
‫حممدا صلى هللا عليه وآله وسلم يريد اهلجوم عليها‪ ،‬فراحت تتدارس‬
‫تناهى اخلرب إىل قريش ففزعت وظنت أن ً‬
‫املوقف وجتهز نفسها لصد املسلمني‪ ،‬وأرسلت سرية بقيادة خالد بن الوليد كمقدمة جليشها‪ ،‬فبلغ الرسول صلى هللا‬

‫‪74‬‬
‫غري مسريه‬
‫عليه وآله وسلم خرب قريش واستعدادها لقتاله‪ ،‬ولكي يتجنب املواجهة –حيث مل يكن هدفه احلرب‪ -‬ر‬
‫وسلك طريقا غري الطريق الذي سلكته قريش حىت استقر يف وادي احلديبية(‪ ،)1‬فشكا أصحابه جفاف الوادي‬
‫وانعدام املاء فيها‪ ،‬فأجرى هللا سبحانه معجزة خالدة على يده املباركة‪ ،‬جتلت عندما توضأ صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫وألقى ماء املضمضة يف البئر اليت كان قد نضب ماؤها فانفجر املاء وارتوى اجلمع‪.‬‬
‫بعدما حط جيش املسلمني يف احلديبية بدأت رحلة التفاوض بني الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم وقريش فبعثت‬
‫قريش عدة مندوبني على التوايل للتفاوض مع الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم واستيضاح أهدافه‪ ،‬فأبلغهم صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم جبواب واحد‪« :‬إَن َل ْنئ لقتال ولكنا جئنا معتمرين» ولكن قريشا مل تقتنع بذلك واهتمت‬
‫سفريا إىل قريش ليوضح هلا‬
‫بعض مبعوثيها ابجلنب والكذب فقرر صلى هللا عليه وآله وسلم أن يبعث من جهته ً‬
‫اهلدف الذي جاء املسلمون من أجله فاختار خراش بن أمية من خزاعة ألداء املهمة إال أن خراشا ما إن بلغ مكة‬
‫حىت عقروا بعريه وأرادوا الفتك به لوال أن منعته األحابيش‪ ،‬فرجع إىل معسكر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وأخربه‬
‫مبا جرى معه‪.‬‬
‫مل ييأس رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم رغم التصلب الذي أبدته قيادة قريش ضد حماوالته صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم السلمية‪ ،‬وكأنه كان يرى بنظره الثاقب النتائج الطيبة اليت ستجنيها الدعوة اإلسالمية إذا ما سادت‬
‫العالقات السلمية فرتة من الوقت مع قريش‪ ،‬فأرسل عثمان بن عفان إىل مكة فاعتقلته قريش ثالثة أايم حىت ظن‬
‫املسلمون أنه قتل‪.‬‬
‫مل جيد الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بُدًّا من التهيؤ للقتال‪ ..‬بعد فشل كل حماوالته الودية لدخول مكة‪..‬‬
‫وبعد املوقف السيء الذي وقفته قريش من سفرائه إليها‪ ،‬فدعا الناس إىل البيعة على الصمود بوجه قريش‪ ،‬فاهنال‬
‫عليه املسلمون يبايعونه وهو واقف حتت شجرة مسيت فيما بعد شجرة الرضوان نسبة إىل البيعة اليت متت حتتها(‪.)2‬‬
‫ختوفت قريش من استعداد املسلمني للقتال ومبايعتهم الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم على الصمود بعدما‬
‫سفريا إىل النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫بلغتهم أنباء بيعة الرضوان فقررت استئناف املفاوضات‪ ،‬وأرسلت سهيل بن عمرو ً‬
‫وسلم وكلفته أن يسعى ملصاحلة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم شرط أن يرجع عنهم هذا العام‪ ،‬فالتقى سهيل‬
‫أخريا ابالتفاق على إبرام معاهدة هدنة بني‬
‫ابلرسول صلى هللا عليه وآله وسلم وجرت مفاوضات طويلة انتهت ً‬
‫الطرفني‪ ،‬ومتت املوافقة على مجيع بنودها‪ ،‬ودعا الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم اإلمام عليًا عليه السالم فكتب‬
‫الوثيقة وكان من أبرز بنودها‪:‬‬
‫‪ -1‬اتفق الطرفان على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن‬
‫بعض‪.‬‬
‫حممدا من قريش بغري إذن وليه َررده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشا ممن مع حممد مل يردوه عليه‪.‬‬
‫‪ -2‬من أتى ً‬

‫مرتا‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫( ) وادي احلديبية‪ :‬مكان يبعد عن مكة حوايل عشرين كيلو ً‬
‫(‪ )2‬ينظر السرية احللبية ‪ ،717/3‬وعيون األثر ‪.125/2‬‬
‫‪75‬‬
‫‪ -3‬من أحب أن يدخل يف عقد حممد وعهده (أي يتحالف معه) كان له ذلك‪ ،‬ومن أحب أن يدخل يف عقد‬
‫قريش وعهدهم كان له ذلك أيضا من غري حرج عليه من أحد الطرفني‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يرجع صلى هللا عليه وآله وسلم مبن معه هذا العام على أن َيِت يف العام القادم فيدخل مكة ويقيم فيها ثالثة‬
‫أايم وال يدخل عليها بسالح إال سالح املسافر‪ ،‬السيوف يف ال ُق ُرب‪.‬‬
‫عري‪.‬‬
‫ظاهرا مبكة‪ ،‬ال يكره أحد على دينه‪ ،‬وال يؤذى وال يُ ر‬
‫‪ -5‬أن يكون اإلسالم ً‬
‫‪ -6‬ال إسالل (سرقة) وال إغالل (خيانة)‪ ،‬بل حيرتم الطرفان أموال الطرف اآلخر‪ ،‬فال خيونه وال يعتدي عليه بسرقة‪.‬‬
‫‪ -7‬أن ال تعني قريش على حممد وأصحابه بنفس وال سالح‪.‬‬
‫ومبوجب هذه املعاهدة (البند‪ )3‬حتالفت خزاعة مع الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وحتالفت كنانة مع قريش‪.‬‬

‫نتائج الحديبية‪:‬‬

‫يعرب عن املعاهدة اليت أبرمت يف احلديبية ب (اهلدنة) حسب مصطلح الفقه اإلسالمي‪ ،‬واهلدنة هي‪ :‬املعاقدة على‬
‫ترك احلرب وجتميد حالة الصراع مع العدو مدة معينة‪ ،‬وهي جائزة إذا تضمنت مصلحة للمسلمني‪.‬‬
‫واملصلحة إمنا يشخصها ويل أمر املسلمني ‪ -‬الذي بيده أمر احلرب والسلم‪ -‬تبعا للظروف واألوضاع السياسية‬
‫واالجتماعية واألمنية وغريها‪ ،‬فهو وحده الذي حيدد حبسب طبيعة املرحلة يف كل عسر ما إذا كانت مصلحة املسلمني‬
‫كامنة يف اجلهاد أو يف اهلدنة‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس فال يصح تعميم أحكام مرحلة اترخيية هلا ظروفها وأوضاعها اخلاصة على مرحلة حالية من‬
‫الصراع‪ ،‬فمن اخلطأ االستدالل مثال هبدنة احلديبية أو بصلح اإلمام احلسن عليه السالم مع معاوية على جواز الصلح‬
‫مع الكيان الصهيوين الختالف طبيعة األوضاع والظروف والعدو والصراع وتبعا لذلك اختالف مصلحة املسلمني‬
‫اليت قد تقتضي هدنة يف زمن وحرًاب يف زمن آخر‪.‬‬
‫ويبدو من نظرة معمقة ألوضاع اإلسالم واملسلمني قبل معاهدة احلديبية وبعدها وما متخض عنها من نتائج‪..‬‬
‫عظيما‪ ،‬مل يدرك أمهيتها‬
‫ونصرا ً‬
‫كبريا ً‬
‫فتحا ً‬
‫أن هذه املعاهدة جاءت يف مصلحة اإلسالم واملسلمني ابلكامل بل كانت ً‬
‫معظم املسلمني الذين احتجوا على بعض بنودها واعتربوها جمحفة حبقهم ومكانتهم‪.‬‬
‫املهمة يف اتريخ اإلسالم اليت مهدت لنتائج عقائدية وعسكرية‬
‫بل لقد كانت هذه املعاهدة من األحداث السياسية َّ‬
‫أمرا حمسوما وحتميًا‪ ،‬وهذه بعض نتائجها‪:‬‬
‫وسياسية كربى يف مصلحة اإلسالم واملسلمني وجعلت انتصار اإلسالم ً‬
‫‪ -1‬أن اهلجمات واملؤامرات املتوالية اليت قامت هبا قريش على امتداد السنوات الست املاضية ضد اإلسالم ودولته‬
‫الفتية مل ترتك للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم فرصة لنشر اإلسالم على نطاق واسع يف شبه اجلزيرة وخارجها؛ فقد‬
‫كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يصرف معظم أوقاته يف الدفاع عن اإلسالم ولكن بعد صلح احلديبية وجتميد‬
‫الصراع مع قريش عاشت املنطقة فرتة من اهلدوء واالستقرار أاتحت للرسول صلى هللا عليه وآله وسلم القيام‬
‫بنشاط تبليغي واسع يف املناطق كافة‪ ،‬فقد نشط صلى هللا عليه وآله وسلم منذ أواخر السنة السادسة‪ ،‬وحىت فتح‬

‫‪76‬‬
‫مكة يف توجيه سفرائه إىل كبار أمراء العرب املشركني وزعمائهم يدعوهم إىل اإلسالم يف نفس الفرتة اليت كان قد‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫وجه فيها سفراءه ومبعوثيه إىل أابطرة العامل وملوكه يعرض عليهم الدعوة اليت بُعث هبا إىل الناس ً‬
‫‪ -2‬أزال صلح احلديبية املوانع املادية والنفسية اليت كانت قد وضعتها قريش بني الناس وبني اإلسالم‪ ،‬ومسح ملختلف‬
‫القبائل املشركة املنتشرة يف اجلزيرة االتصال ابملسلمني والتعرف عن قرب على مبادئ اإلسالم ومفاهيمه وأحكامه‪،‬‬
‫بعد أن منح الصلح تلك القبائل احلرية املطلقة يف أن ختتار املعسكر الذي تراه مناسبًا لتدخل يف دينه أو يف‬
‫حتالف معه‪ ،‬كما فتح الصلح اجملال أمام املسلمني لينطلقوا حبرية يف الدعوة إىل اإلسالم داخل مكة وخارجها‪،‬‬
‫فدخل الكثري من الناس يف اإلسالم‪ ،‬بل لقد دخل فيه خالل سنتني أكثر مما دخل فيه على امتداد السنوات‬
‫املاضية؛ بدليل أن الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم خرج إىل احلديبية يف ألف وأربعمائة بينما خرج يف فتح مكة‬
‫بعد سنتني على رأس عشرة آالف مقاتل‪.‬‬
‫‪ -3‬فسح االتفاق اجملال أمام خزاعة لالنضمام إىل معسكر املسلمني وكان انضمامها إىل معسكر اإلسالم نصرا‬
‫كبريا من األحابيش الذين كانت قريش تعتمد عليهم يف حروهبا‬
‫كبريا للرسول ولإلسالم واملسلمني ذلك أن جزءا ً‬
‫ً‬
‫كبريا من هذه القوة إىل جانبه وأضعف بذلك مركز قريش احلريب‪ ،‬ومهد‬
‫يعدون من بطوهنا‪ ،‬وبذلك ضم ص جزءا ً‬
‫هبذا وذاك لفتح مكة والقضاء على قاعدة الوثنية يف املنطقة‪.‬‬
‫‪ -4‬أاتح صلح احلديبية فرصة للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم ليخوض هبدوء صراعا ضد القوى األخرى املضادة‬
‫لإلسالم كاليهود الذين مت القضاء عليهم يف خيرب واملواقع اجملاورة له‪ ،‬والبيزنطيني وحلفائهم العرب الذين ازداد‬
‫تكالبهم يف اجلهات الشمالية ابزدايد نشاط اإلسالم هناك فضال عن التجمعات القبلية البدوية املشركة املنتشرة‬
‫يف الصحراء واليت كانت تنتظر الفرصة إلنزال الضرابت ابملسلمني‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه اًلجتماعي‪1-‬‬
‫مناذج من آداب معاشرته للناس‪:‬‬

‫امتاز رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خبلق إنساين رفيع وسلوك اجتماعي مميز مع الناس على اختالف‬
‫شرائحهم وانتمائهم مما جعله ميتلك عقول وقلوب الناس ويكسب حمبتهم وجيذهبم إىل طريق هللا‪.‬‬
‫ونستعرض هنا مناذج من خلقه االجتماعي وآداب معاشرته للناس حسبما ورد يف األحاديث عن أهل البيت‬
‫عليهم السالم الذين هم أعرف الناس برسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وسلوكه الفردي واالجتماعي‪.‬‬
‫• كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم طلق الوجه‪ ،‬دائم البشر‪ ،‬يواجه الناس ابالبتسامة‪ ،‬وحيسن لقاءهم‪،‬‬
‫بشوشا‬
‫ً‬ ‫ويعاملهم ابلرفق واللني والرمحة‪ ،‬ومل يكن يبدو على وجهه العبوس أو احلزن أو االنقباض‪ ،‬بل كان‬
‫وخيفي أحزانه وآالمه‪.‬‬
‫وكان خياطب قومه ويقول‪َّ« :‬ي بّن عبد املطلب إنكم لن تسعوا الناس ِبموالكم فسعوهم ِبخلقكم»(‪.)1‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم شديد املداراة للناس وأرأف الناس ابلناس‪ ،‬وخري الناس للناس‪ ،‬وأنفع الناس‬
‫للناس‪ ،‬حىت لقد روي عنه صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬أمرِن ريب ِبداراة الناس كما أمرِن ِبلفرائض»‬
‫وقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أعقل الناس أشدهم مداراة للناس‪ ،‬وأذل الناس من أهان الناس»‪.‬‬
‫• وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أبعد الناس عن التعايل على جمتمعه أو متييز نفسه عن أفراده؛ فقد كان‬
‫يعيش مع الناس كواحد منهم ال خيتلف عنهم يف شيء‪.‬‬
‫• وكان يتفقد أحوال الناس ويسأل الناس عما يف الناس ليطلع على أوضاعهم‪ ،‬بل لقد روي أنه صلى هللا عليه‬
‫شاهدا زاره‪،‬‬
‫وآله وسلم كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثالثة أايم سأل عنه فإن كان غائبا دعا له‪ ،‬وإن كان ً‬
‫يضا عاده‪.‬‬
‫وإن كان مر ً‬
‫• ومن مصاديق رفقه ابألمة ومعاملته هلا ابحلسىن ما رواه يونس الشيباين قال‪ :‬قال أبو عبد هللا ‪-‬الصادق ‪-‬‬
‫عليه السالم كيف مداعبة بعضكم بعضا؟ قلت‪ :‬قليل‪ ،‬قال عليه السالم ‪ :‬فال تفعلوا فإن املداعبة من حسن‬
‫اخللق‪ ،‬وإنك لتدخل هبا السرور على أخيك‪ ،‬ولقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يداعب الرجل‬
‫يريد أن يسره‪.‬‬

‫(‪ )1‬شرح هنج البالغة ‪ ،338 /6‬وابن أيب شيبة ‪ 212/5‬رقم ‪ ،25333‬وأبو يعلى ‪ 428/11‬رقم ‪ ،6550‬بلفظ‪« :‬لن تسعوا‬
‫الناس أبموالكم فليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق»‪ ،‬وليس فيه‪ « :‬اي بين عبد املطلب»‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫س ِر الرجل من أصحابه إذا رآه‬
‫وعن علي عليه السالم ‪« :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لَيَ ُ‬
‫مغموما ِبملداعبة»‪.‬‬
‫ر‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يفشي السالم بني الناس فيسلم حىت على الصغري منهم‪.‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يدعو أصحابه بكناهم إكر ًاما هلم واستمالة لقلوهبم‪ ،‬ويكين من مل يكن له كنية‬
‫فكان يدعى مبا كناه‪ ،‬ويكين أيضا النساء الالِت هلن أوالد والالِت مل يلدن‪ ،‬ويكين الصبيان فيستلني به قلوهبم‪.‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم ال َيتيه أحد حر أو عبد أو أمة إال قام معه يف حاجته‪.‬‬
‫وعن علي عليه السالم ‪« :‬ما فاوضه أحد قط ِف حاجة أو حديث فانصرف حىت يكون الرجل هو الذي‬
‫ينصرف‪ ،‬وما َنزعه اْلديث أحد حىت يكون هو الذي يسكت»‪.‬‬
‫• وكان يكرم من يدخل عليه حىت رمبا بسط له ثوبه‪ ،‬ويؤثر الداخل ابلوسادة اليت حتته‪.‬‬
‫أحدا بشيء يكرهه‪ ،‬بل كان شديد احلياء‬
‫أحدا وال يكلم ً‬
‫يعري ً‬
‫أحدا وال ر‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم ال يذم ً‬
‫حىت لقد ورد أنه صلى هللا عليه وآله وسلم كان إذا أراد لوم أحد أو عتابه يعاتبه بكل حياء وخجل‪.‬‬
‫أحدا من أصحابه ميشي معه إذا كان راكبًا حىت حيمله معه‬
‫• وروي أنه صلى هللا عليه وآله وسلم كان ال يدع ً‬
‫فإن أىب قال‪ :‬تقدم أمامي وأدركين يف املكان الذي تريد‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫(‪ )13‬الصراع املسلح مع قريش‪4 /‬‬

‫و‪ -‬فتح مكة‬


‫بعد مرور حوايل السنتني على صلح احلديبية أقدمت قريش على نقضه وذلك عندما انضمت إىل حلفائها من‬
‫قبيلة كنانة اليت أقدمت على مهامجة خزاعة حليفة املسلمني خمالفة بذلك اهلدنة القائمة بني الطرفني مبوجب الصلح‪،‬‬
‫غارون آمنون‪ ،‬فقتلوا منهم عشرين رجال‪ ،‬مث ندمت قريش على ما صنعت‪ ،‬وعلموا أن هذا‬ ‫فبيتوا خزاعة ليال‪ ،‬وهم ر‬
‫نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبني رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وخرج عمرو بن سامل اخلزاعي يف أربعني‬
‫راكبا من خزاعة‪ ،‬فقدموا على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وهو جالس يف املسجد بني ظهراين الناس خيربونه‬
‫ابلذي أصاهبم ويستنصرونه‪ ،‬فقال شاعرهم‪:‬‬
‫حلف أبينا وأبيه األتلدا‬ ‫حممدا‬
‫ً‬ ‫اي رب إين انشد‬

‫املؤكدا‬ ‫ميثاقك‬ ‫ونقضوا‬ ‫يشا أخلفتك املوعدا‬


‫إن قر ً‬
‫وسجدا‬ ‫كعا‬
‫رً‬ ‫وقتلوان‬ ‫ُه َّجدا‬ ‫ابحلطيم‬ ‫وبيتوان‬

‫‪ ..‬إىل آخر األبيات‬


‫رت إن َل أنصركم»‪.‬‬
‫ص ُ‬‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪َ« :‬ل نُ ي‬
‫وشعرت قريش خبطورة اجملازفة اليت أقدمت عليها فأوفدت أاب سفيان إىل املدينة ليؤكد العهد مع رسول هللا صلى‬
‫نفعا بعدما رفض النيب صلى هللا عليه‬ ‫ِّ‬
‫هللا عليه وآله وسلم وليتفادى نتائج األحداث‪ ،‬إال أن حماولته يف املدينة مل جتد ً‬
‫وآله وسلم مقابلته لنقضه العهد‪.‬‬
‫جيشا من عشرة آالف‬
‫قرر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم التوجه إىل مكة ملواجهة قريش فاستنفر أصحابه وجهز ً‬
‫مقاتل من املهاجرين واألنصار وغريهم من القبائل‪.‬‬
‫يشا وليصادر إمكانية الدفاع من يدها؛ ولئال يقع قتال يف مكة فدعا ربه قائال‬
‫سرا ليباغت قر ً‬
‫وقرر أن يتحرك ً‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬اللهم خذ العيون واْلخبار عن قريش حىت نبغتها ِف بلدها»‪.‬‬
‫اكتشف حاطب بن أيب بلتعة‪ -‬وكان من املسلمني‪ -‬أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يريد مكة فكتب إىل‬
‫قريش بذلك وأعطى الكتاب إىل امرأة فوضعته يف شعرها وتوجهت إىل مكة‪ ،‬فعرف النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫هبذا العمل اجلاسوسي اخلطري وبعث عليًّا عليه السالم ‪ ،‬والزبري بن العوام ليقبضا عليها‪ ،‬فأدركاها يف منطقة ذي‬
‫احلليفة وانتزع منها علي عليه السالم الكتاب ابلتهديد والقوة بعد حماولتها إخفاءه‪ ،‬وأرجعاها إىل املدينة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫َّخ ُذوا َع ُد ِيوي َو َع ُد َّوُك ْم أ َْولييَاءَ تُ ْل ُقو َن‬
‫ويقول املؤرخون‪ :‬إن هللا أنزل هبذه املناسبة‪َّ﴿ :‬يأَيُّها الَّ يذين آمنُوا ََل تَت ي‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّة َوقَ ْد َك َف ُروا يِبَا َجاءَ ُك ْم يم َن ا ْْلَيِق﴾ [الممتحنة‪.]1 :‬‬
‫إيلَي يهم يِبلْمود ي‬
‫ْ ْ ََ‬
‫سرا حىت وصل إىل مشارف مكة‬
‫حترك جيش املسلمني يف العاشر من شهر رمضان املبارك سنة مثان للهجرة ً‬
‫وطوقها‪.‬‬
‫استخدم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم احلرب النفسية يف هذه الغزوة فأشعل النريان على اجلبال على مقربة من‬
‫يشا بقوة وكثرة اجليش ويثري الرعب يف قلوب الطغاة وحيملهم على االستسالم واخلضوع من غري قتال‪.‬‬
‫مكة ليشعر قر ً‬
‫خرج أبو سفيان‪ ،‬وحكيم بن حزام‪ ،‬وبديل بن ورقاء؛ ليتجسسوا األخبار ففوجئوا ابلنريان تطوق مكة‪ ،‬ويف هذه‬
‫األثناء التقى العباس بن عبد املطلب أبيب سفيان يف الطريق خارج مكة‪ ،‬فأشار عليه أن يذهب به إىل رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وبعد أن أخذ له األمان رتب له لقاء مع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وحصل اللقاء صبيحة اليوم‬
‫التايل؛ فقال له النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬وحيك اي أاب سفيان أمل َين لك أن تعلم أنه ال إله إال هللا؟ قال‪ :‬أبيب‬
‫أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك وهللا لقد ظننت أن لو كان مع هللا إله غريه لقد أغىن عين شيئا بعد‪.‬‬
‫فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬وحيك اي أاب سفيان أمل َين لك أن تعلم أين رسول هللا؟ قال‪ :‬أبيب أنت وأمي ما‬
‫أحلمك وأكرمك وأوصلك‪ ،‬أما هذه وهللا فإن يف النفس منها حىت اآلن شيئا‪.‬‬
‫حممدا رسول هللا‬
‫قائال له‪ :‬وحيك أسلم واشهد أن ال إله إال هللا وأن ً‬
‫تدخل العباس إلنقاذ أيب سفيان فخاطبه ً‬
‫فشهد بذلك‪ ،‬ويف نفسه من نبوة حممد صلى هللا عليه وآله وسلم أشياء وأشياء وظلت تلك األشياء إىل أن مات‪.‬‬
‫وقد حاول العباس أن يتعامل مع الرتكيب النفسي لشخصية أيب سفيان ويوجه موقعه االجتماعي لصاحل الفتح‬
‫املبني فقال لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬اي رسول هللا إنه حيب الفخر‪ ،‬فاجعل له شيئا يكون يف قومه‪ ،‬فأمر‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم من ينادي يف الناس‪ « :‬من دخل دار أيب سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن ألقى سلحه فهو آمن‪،‬‬
‫ومن دخل داره وأغلق عليه ِببه فهو آمن»‪.‬‬
‫بعد أن أعطى الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم هذه امليزة إرضاء خلصلة الفخر يف نفسه أخذه العباس إىل املكان‬
‫الذي عينه له رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لريى جنود هللا وهي متر أمامه يف استعراض عسكري إلظهار القوة‬
‫نظريا من قبل‪.‬‬
‫مما مل تعهد له مكة ً‬
‫ودخل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مكة بتلك احلشود اليت تنساب خلفه فاحتا من غري قتال‪ ،‬فلما انتهى‬
‫إىل الكعبة تقدم على راحلته فاستلم الركن وكرب‪ ،‬فكرب املسلمون لتكبريه‪ ،‬مث طاف ابلبيت وكان حول الكعبة ثالمثائة‬
‫صنما وكان هبل أعظمها؛ فقال ألمري املؤمنني عليه السالم أعطين اي علي كفا من احلصى فقبض له أمري‬ ‫وستون ً‬
‫اطل إي َّن الْب ي‬
‫ي‬
‫اط َل َكا َن َزُهوقرا﴾‬‫َ‬ ‫املؤمنني عليه السالم كفا فناوله فرماها به‪ ،‬وهو يقول‪َ ﴿ :‬وقُ ْل َجاءَ ا ْْلَ ُّق َوَزَه َق الْبَ ُ‬
‫[اإلسرا ‪ ]81 :‬فما بقي منها صنم إال خر لوجهه‪.‬‬
‫مث أمر هبا فأخرجت من املسجد فطرحت وكسرت‪ ،‬مث أمر أن تفتح الكعبة ففتحت له‪ ،‬ودخلها فصلى فيها‬
‫وأزال كل ما كان فيها من متاثيل وصور‪ ،‬مث أشرف من ابهبا على الناس وقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬اْلمد هلل‬

‫‪81‬‬
‫رِب ِف اْلاهلية فهو َتت‬ ‫الذي صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم اْلحزاب وحده‪ ،‬أَل إن كل مأثرةٍ أو ٍ‬
‫دم أو ر‬
‫قدمي هاتي‪ ،‬إَل سدانة الكعبة وسقاية اْلج» مث توجه إىل املكيني وسأهلم‪ :‬ماذا ترون أين فاعل بكم؟ قالوا‪ً :‬‬
‫خريا‬
‫أخ كرمي وابن أخ كرمي‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إِن أقول لكم ما قال أخي يوسف ْلخوته‪َ :‬ل تثريب‬
‫عليكم اليوم يغفر هللا لكم وهو أرحم الرامحي‪ ،‬اذهبوا فأنتم الطلقاء»‪.‬‬
‫وبذلك ضرب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم لألجيال يف كل عصر وزمان مثال يف الرمحة والعفو والرتفع عن‬
‫احلقد واالنتقام(‪.)1‬‬

‫ولعل أهم السمات اليت برزت يف غزوة الفتح هي التالية‪:‬‬


‫‪ -1‬اإلعداد اجليد للمعركة؛ فقد بلغ عدد جيش الفتح عشرة آالف مقاتل‪ ،‬جمهزين أحسن جتهيز‪.‬‬
‫‪ -2‬احملافظة على السرية التامة‪ :‬فقد أمر صلى هللا عليه وآله وسلم أصحابه ابإلعداد للحرب ولكنه مل يعلن عن‬
‫وجهته حىت للمقربني إليه‪ ،‬وعندما اضطر قبيل التحرك لإلعالن عن وجهته لبعض أصحابه أمرهم أبن يكتموا‬
‫األمر؛ كي يستطيع حتقيق املفاجأة للعدو‪ ،‬كما اختذ عدة إجراءات يف املدينة متنع من تسرب املعلومات إىل‬
‫العدو‪ ،‬وقد متكن جي ش املسلمني نتيجة التشدد يف احملافظة على السرية التامة من مباغتة املشركني والظهور فجأة‬
‫على مقربة من مكة بقوات كبرية ال قبل لقريش وحلفائها مبواجهتها‪.‬‬
‫‪ -3‬استخدام احلرب النفسية‪ :‬فقد تعمد صلى هللا عليه وآله وسلم نشر املسلمني على بقعة كبرية من األرض على‬
‫ليال لريى العدو كثرهتم‪.‬‬
‫مشارف مكة فأشعلوا نرياهنم ً‬
‫‪ -4‬حكمة التصرف بعد النصر والتواضع‪ :‬فلم يبدر من الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بعد دخوله مكة أي‬
‫حقدا‪ ،‬وال جيد يف‬
‫تصرف ميكن أن يثري املنهزمني فهو فاتح حكيم‪ ،‬وهو يعود إىل بلده وأهله‪ ،‬ال حيمل غال وال ً‬
‫انتصاره وسيلة للتكرب أو التجرب‪ ،‬ويعرب عن سروره ابلفتح بتواضع جم‪.‬‬
‫واستطاع يف موقف إنساين نبيل أن يستميل أهل مكة‪ ،‬وهم الذين وقفوا ينتظرون حساهبم فإذا به صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم يعفو عنهم ويقول هلم‪« :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،31/4‬والطبقات ‪ ،143/2‬وعيون األثر ‪ ،223/2‬والواقدي ‪ ،781/2‬وابن كثري ‪ ،526/3‬وشرح املواهب‬
‫اللدنية ‪ ،288/2‬والسرية النبوية للشريف ص ‪ ،199‬ومغلطاي ص ‪. 306‬‬
‫‪82‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه اًلجتماعي‪2-‬‬

‫صفة مجلسه صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬

‫عن اإلمام احلسني عليه السالم قال‪ :‬سألت أيب عن جملس رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فقال عليه‬
‫السالم كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم َل جيلس وَل يقوم إَل على ذكر هللا جل اْسه‪ -‬إىل قوله‪:‬‬
‫يعطي كل من جلسائه نصيبه حىت َل ُيسب جليسه أن أح ردا أكرم عليه منه‪ ،‬من جالسه أو قاومه ِف حاجة‬
‫صابره حىت يكون هو املنصرف عنه‪ ،‬ومن سأله حاجة َل يرده إَل هبا أو ميسور من القول‪ ،‬قد وسع الناس‬
‫منه بسطه وخلقه‪ ،‬فكان َلم رأِب وصاروا عنده ِف اْلق سواء‪ .‬جملسه جملس حلم وحياء وصرب وأمانة‪ ،‬وَل‬
‫متعادلون متفاضلون فيه ِبلتقوى متواضعون‬ ‫فلتاته(‪)1‬‬ ‫ترفع فيه اْلصوات وَل يوهن فيه اْلرم‪ ،‬وَل تُ ْنث ى‬
‫(‪)2‬‬ ‫يوقرون فيه الكبي ويرمحون فيه الصغي‪ ،‬ويؤثرون ذا اْلاجة وُيفظون الغريب‪.‬‬
‫وأما سيته مع جلسائه فيقول اْلسي عليه السالم نقل عن أبيه أمي املؤمني عليه السالم ‪ :‬كان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم دائم البشر‪ ،‬سهل اخللق‪ ،‬لي اْلانب‪ ،‬ليس بفظ وَل غليظ‪ ،‬وَل صخاب (من‬
‫الصخب وهو شدة الصوت) وَل فحاش‪ ،‬وَل عياب وَل مداح‪ ،‬يتغافل عما َل يشتهي فل يؤيس منه‪ ،‬وَل‬
‫ُييب فيه مؤمليه‪ ،‬قد ترك نفسه من ثلث‪ :‬املراء‪ ،‬واْلكثار‪ ،‬ومما َل يعنيه‪ ،‬وترك الناس من ثلث‪ :‬كان َل‬
‫يذم أحدا‪ ،‬وَل يعيه‪ ،‬وَل يطلب عورته (عيوبه)‪ ،‬وَل يتكلم إَل فيما يرجو ثوابه‪ ،‬إذا تكلم أطرق جلساؤه‬
‫كأن على رؤوسهم الطي‪ ،‬فإذا سكت تكلموا وَل يتنازعون عنده اْلديث‪ ،‬من تكلم أنصتوا له حىت يفرغ‪،‬‬
‫حديثهم عنده حديث أوَلم‪ ،‬يضحك مما يضحكون منه‪ ،‬ويتعجب مما يتعجبون منه‪ ،‬ويصرب للغريب على‬
‫اْلفوة ِف منطقه ومسألته حىت إن كان أصحابه ليستجلبوهنم‪ .‬ويقول‪ :‬إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرشدوه‬
‫إيل‪ ،‬وَل قبل الثناء إَل عن مكافئ‪ ،‬وَل يقطع على أحد حديثه حىت جيوز فيقطعه ِبنتهاء أو قيام(‪.)3‬‬

‫وحت َكى‪.‬‬
‫ظ ُر‬‫ات فتُ رن ثَى أَي تُ رذ َك ُر أَو ُرحت َف ُ‬ ‫ات امل رجلِّ ِّ‬
‫س‪َ :‬ه َف َواتُه َوزَّالتُه‪ .‬واملعىن‪ :‬أَنَّه صلَّى هللا عليه وسلرم مل يَ ُك رن يف جملسه فَلَتَ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬فَلَتَ‬
‫َ‬
‫اتج العروس‪..103 /3 :‬‬
‫(‪ )2‬املصابيح يف السرية ص ‪.158‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه الرتمذي يف الشمائل احملمدية‪ 34/1‬رقم ‪ ،8‬والطرباين يف الكبري ‪ 155/22‬رقم ‪ ،414‬والبيهقي يف شعب اإلميان‬
‫‪ 154/2‬رقم‪ ،1430‬وابن عساكر ‪ 343/3‬عن احلسن بن علي قال‪ :‬سألت خايل هند بن أيب هالة التميمي وكان وصافا‬
‫عن حلية النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ .....‬وينظر أخالق النيب لألصبهاين ص‪ .17‬واملصابيح يف السرية ص ‪.159‬‬
‫‪83‬‬
‫ويف مسو أخالقه مع جلسائه أيضا ما يروى أنه كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقسم حلظاته (نظراته)‬
‫بني أصحابه فينظر إىل ذا‪ ،‬وينظر إىل ذا ابلسوية‪ ،‬ومل يبسط (ميد) رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم رجليه بني‬
‫أصحابه‪ ،‬وإن كان ليصافحه الرجل فما يرتك رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يده من يده حىت يكون هو‬
‫التارك‪ ،‬فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده(‪.)1‬‬

‫•••‬

‫(‪ )1‬سنن البيهقي ‪ ،192/10‬وابن ماجة ‪ 1224/2‬رقم ‪ ،3716‬ومكارم األخالق ص‪.14‬‬


‫‪84‬‬
‫(‪ )14‬الصراع مع القبائل املشركة األخرى‬

‫غزوة حنين‬
‫َولَّد فتح مكة واالنتصار العظيم الذي حققه املسلمون على قريش وقاعدهتم الوثنية َّ‬
‫رد فعل عنيف لدى القبائل‬
‫العربية املشركة يف الشمال وعلى رأسها هوازن وثقيف‪ ،‬ورأت أن تتحرك لتوجيه ضربة للمسلمني قبل أن يستفحل‬
‫اخلطر وجتد هذه القبائل نفسها حماطة ابملسلمني من كل مكان‪.‬‬
‫وكانت هذه القبائل ولدى مساعها مبغادرة النيب صلى هللا عليه وآله وسلم املدينة ‪ -‬قبل فتح مكة على رأس عشرة‬
‫آالف مقاتل‪ -‬قد جتمعت خوفًا من أن يغزوها املسلمون‪ ،‬وقال زعماؤها بعد فتح مكة‪ :‬قد فرغ لنا حممد‪ ،‬فال انهية‬
‫له دوننا‪ ،‬والرأي أن نغزوه‪.‬‬
‫فنظموا جيشا كبريا من هوازن وثقيف ‪ -‬وحلق هبما فيما بعد قبائل نصر بن معاوية‪ ،‬وجشم‪ ،‬وسعد بن بكر‪-‬‬
‫بقيادة مالك بن عوف زعيم هوازن‪ ،‬فرأى هذا أن يسري مع املقاتلني نساؤهم وأطفاهلم وأمواهلم كي يستميتوا يف‬
‫القتال‪.‬‬
‫عندما مسع صلى هللا عليه وآله وسلم نبأ هذا التحرك الوثين بعث أحد أصحابه عبد هللا بن أيب حدرة األسلمي‬
‫مستخربا‪ ،‬وأمره أن يدخل يف الناس فيقيم فيهم حىت يعلم علمهم مث َيتيه خبربهم‪ ،‬فتسلل الرجل إىل مواقع العدو‬
‫ً‬
‫ومجع املعلومات الالزمة وعاد ليخرب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم مبا أمجع عليه هؤالء من قتال املسلمني‪.‬‬
‫فانطلق صلى هللا عليه وآله وسلم من مكة يف مطلع شوال على رأس اثين عشر ألف مقاتل كان من ضمنهم‬
‫ألفان من املكيني الذين أسلموا بعد الفتح‪ ،‬وسرعان ما وجد املسلمون أنفسهم مضطرين إىل اجتياز واد من أودية‬
‫هتامة‪ ،‬شديد االحندار يُدعى حنينًا يف طريقهم ملواجهة التجمع الوثين‪ ،‬وكان املشركون قد سبقوهم إىل الوادي واختذوا‬
‫مواقع هلم يف شعابه وعند مضيقه‪ ،‬وهتيئوا لالنقضاض على املسلمني يف جو يسوده املطر والضباب‪.‬‬
‫وما إن دخل املسلمون الوادي حىت فاجأهم أعداؤهم هبجوم مباغت‪ ،‬فأصاهبم الفزع واالضطراب وفروا راجعني‬
‫ال يلوون على شيء‪ ،‬ومل يثبت مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم غري علي بن أيب طالب عليه السالم ومجاعة‬
‫إيل أَن رسول هللا‪ ،‬أَن حممد بن‬
‫من بين هاشم فأخذ صلى هللا عليه وآله وسلم ينادي‪َّ« :‬ي أيها الناس هلموا ِ‬
‫عبد هللا»‪.‬‬
‫مث أمر عمه العباس ‪ -‬وكان جهوري الصوت ‪ -‬أن يلحق ابلفارين ويناديهم ويذكرهم ابلعهد الذي بينهم وبني‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فأخذ العبا س يناديهم‪ :‬اي معشر املهاجرين واألنصار اي أصحاب سورة البقرة‪ ،‬اي‬
‫أهل بيعة الشجرة‪ ،‬إىل أين تفرون؟ هذا رسول هللا‪..‬‬

‫‪85‬‬
‫فسمع املسلمون صوت العباس وأنزل هللا السكينة على قلوب املؤمنني منهم فبادروا للعودة إىل ساحة املعركة‬
‫واستقبلوا العدو بصدورهم وقاتلوا ببسالة على قلت هم بعدما رأوا رسول هللا يباشر القتال بنفسه بشجاعته ومن حوله‬
‫علي عليه السالم ومن معه من بين هاشم يقاتلون إىل جانبه‪.‬‬
‫وعندما رأى صلى هللا عليه وآله وسلم أصحابه جياهبون الشرك وقد احتدم القتال بينهم قال صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪« :‬اْلن محي الوطيس»‪.‬‬
‫ومتكن علي عليه السالم من قتل حامل راية هوازن وبدأت الكفة متيل لصاحل املسلمني‪ ،‬وما لبث املشركون أن‬
‫أسرا فأصيبوا هبزمية نكراء وفروا ال يلوون على شيء اتركني‬
‫قتال و ً‬
‫أخذوا ابلرتاجع‪ ،‬وانقض عليهم املؤمنون يعملون فيهم ً‬
‫وراءهم النساء واألوالد واألموال‪ ،‬وما إن عاد إىل امليدان أولئك الذين تراجعوا إىل اخللف من املسلمني حىت وجدوا‬
‫أسارى املشركني مكتفني بني يدي رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم(‪.)1‬‬

‫معركة أوطاس‬
‫تراجع املشركون بقيادة مالك بن عوف صوب الطائف‪ ،‬وعسكر بعضهم يف أوطاس وتوجهت فئة أخرى حنو‬
‫َنلة فقرر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مالحقتهم ومل يتح هلم فرصة يسرتدون فيها قواهم ويعيدون تنظيم صفوفهم‪،‬‬
‫فأرسل صلى هللا عليه وآله وسلم على الفور قوة من فرسان املسلمني ملطاردة أولئك الذين توجهوا حنو َنلة‪ ،‬وقوة‬
‫اثنية ُكلفت بقتال املشركني يف أوطاس‪ ،‬وهناك أوقع املسلمون هبم شر هزمية‪.‬‬
‫وقد حصل املسلمون نتيجة معركة حنني وأوطاس على غنائم كثرية بلغت على حد بعض الرواايت ستة آالف‬
‫من السيب‪ ،‬وأربعة وعشرين ألف بعري‪ ،‬وأربعني ألف شاة وأربعة آالف أوقية من الفضة‪.‬‬
‫(اجلعرانة) جمم ًدا التصرف‬
‫وقد أمر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حببس السبااي واألموال الكثرية يف مكان يدعى َّ‬
‫هبا إىل أن يعود من مطاردة العدو الذي جلأ إىل الطائف‪.‬‬

‫حصار الطائف‬
‫متكن مالك بن عوف من الفرار مع جيش هوازن وثقيف إىل الطائف‪ ،‬فانطلق صلى هللا عليه وآله وسلم جبيش‬
‫املسلمني صوب الطائف حيث اعتصم املنهزمون حبصوهنا املنيعة‪ ،‬وأعدوا العدة للقتال‪ ،‬ونزل صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم قريبا من احلصون حيث عسكر هناك‪ ،‬وجرت مناوشات بني الطرفني استشهد خالهلا مجاعة من املسلمني‬
‫بنبال العدو‪ ،‬األمر الذي دفع الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم إىل إبعاد معسكره عن مدى النبال اليت كانت تنطلق‬
‫ومتقطعا أحياان‪،‬‬
‫ً‬ ‫يوما‪ ،‬حيث استمر القتال خالهلا عنيفا حينا‪،‬‬
‫بضعا وعشرين ً‬ ‫من حصون ثقيف‪ ،‬وظل حياصرهم ً‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،80/4‬والطبقات ‪ ،149/2‬والواقدي ‪ ،885/3‬ومغلطاي ‪ ،317‬وسرية ابن كثري ‪ ،610/3‬وعيون األثر‬
‫‪ ،253/2‬وحممد رسول هللا ص ‪ ،325‬واإلمتاع ‪.14/2‬‬
‫‪86‬‬
‫وقد استعمل فيه املسلمون آالت احلصار ألول مرة كاملنجنيق والداببة(‪ ،)1‬وقد متكنت قوة من املسلمني من الزحف‬
‫بدابابهتم إىل جدار الطائف وبدأوا خبرقه لوال أن أرسلت عليهم ثقيف قطعا من حديد حممية ابلنار اضطرهتم إىل‬
‫االنسحاب‪.‬‬
‫وردا على املقاومة العنيفة اليت أبداها املشركون أمر صلى هللا عليه وآله وسلم بتقطيع كروم ثقيف املنتشرة يف البساتني‬
‫ً‬
‫اجملاورة إلرغامهم على االستسالم ولكن من دون جدوى‪.‬‬
‫عندها مل ير النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ضرورة لالستمرار يف احلصار خاصة وأنه صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫أصبح على أبواب شهر ذي القعدة الذي هو من األشهر احلرم‪ ،‬وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يدرك أن الطائف‬
‫آجال طالبة‬
‫عاجال أم ً‬
‫ستجد نفسها يف يوم قريب أشبه جبزيرة منعزلة بعد أن بدأ اإلسالم يعم املنطقة وأهنا ستسعى إليه ً‬
‫خطرا من ترك الطائف إىل فرصة أخرى‬ ‫االنتماء إىل الدين اجلديد‪ ،‬إضافة إىل أنه صلى هللا عليه وآله وسلم مل يعد يرى ً‬
‫إن هي أصرت على موقفها املعادي لإلسالم واملسلمني‪ ،‬لذلك كله قرر الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم رفع احلصار‬
‫اجلعرانة‬
‫يوما من احلصار‪ -‬إىل ر‬
‫عنهم‪ ،‬وأمر أن يؤذن يف الناس ابلرحيل فقفل املسلمون عائدين ‪-‬بعد بضع وعشرين ً‬
‫حيث مجعت السبااي والغنائم الكثرية اليت استوىل عليها املسلمون يف حنني‪.‬‬
‫أدركت هوازن حراجة املوقف وأن نساءهم وأمواهلم ستصبح غنيمة للمسلمني فيما لو أصروا على موقفهم ونتيجة‬
‫التداول فيما بينهم اتفق رأي أكثريتهم على االستسالم‪ ،‬فأرسلوا وفدا منهم إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم وأعلنوا إسالمهم‪ ،‬وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ال يزال يف اجلعرانة‪ ،‬مث تتابعت وفودهم معلنة إسالمها‪،‬‬
‫فرد عليهم صلى هللا عليه وآله وسلم نساءهم وأمواهلم وجاء زعيمهم مالك بن عوف إىل رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم فأسلم‪ ،‬ورد عليه الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم أهله وماله حيث كان صلى هللا عليه وآله وسلم قد‬
‫وعده بذلك إن جاءه مسلما‪.‬‬
‫بعد تقسيم الغنائم على املسلمني يف اجلعرانة رجع صلى هللا عليه وآله وسلم إىل مكة فأدى مناسك العمرة‪ ،‬ووىل‬
‫عتاب بن أسيد إمرة مكة‪ ،‬ومعاذ بن جبل تفقيه الناس يف الدين وتعليمهم القرآن‪ ،‬وعاد صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫ابملهاجرين واألنصار إىل املدينة املنورة‪ ،‬حيث دخلها يف أواخر ذي القعدة بعد انتصارين من أعظم االنتصارات اليت‬
‫حق قها يف صراعه مع الوثنية ومها فتح مكة‪ ،‬وهزمية جيش مؤلف من ثالثني ألف مقاتل يف حنني‪ ،‬وبذلك مت القضاء‬
‫على أكرب معاقل الشرك والوثنية يف املنطقة‪.‬‬
‫إن نظرة حتليلية على أحداث معركة حنني تقودان إىل تسجيل األمور التالية‪:‬‬
‫َّأوًال‪ :‬إن السبب يف هزمية املسلمني يف بداية املعركة هو غرور املسلمني أبنفسهم وإعجاهبم بكثرهتم وقوهتم؛ حيث‬
‫عدوا هبذا العدد الكبري من املقاتلني‪ ،‬فأراد هللا سبحانه أن يعلمهم أن الكثرة ال تغين شيئا‬
‫مل يسبق هلم أن واجهوا ً‬
‫عندما تفقد عناصر اإلميان واإلخالص والصرب والتوكل على هللا‪.‬‬

‫(‪ )1‬الداببة هنا تعين‪ :‬آلة تتخذ من جلود وخشب يدخل فيها الرجال ويقربوهنا من احلصن احملاصر لينقبوه وتقيهم ما يرمون به من‬
‫فوقهم‪ .‬لسان العرب ‪.371/1‬‬
‫‪87‬‬
‫وقد كانت الكثرة يف حنني تفقد هذه العناصر فقد كان فيهم ألفا شخص ممن أسلم حديثا وبعد فتح مكة‪ ،‬وكان‬
‫فيهم مجاعة من املنافقني‪ ،‬وفيهم من سيطرت عليه روح الكسب والغنيمة‪ ،‬فخلى هللا بينهم وبني عدوهم ومل يتدخل‬
‫يف البداية لغرورهم حىت ظهرت آاثر اهلزمية فيهم‪.‬‬
‫ت‬
‫ضاقَ ْ‬ ‫يٍة َويَ ْو َم ُحنَ ْ ٍ‬
‫ي إي ْذ أَ ْع َجبَ ْت ُك ْم َكثْ َرتُ ُك ْم فَ لَ ْم تُ ْغ ين َع ْن ُك ْم َش ْي ئرا َو َ‬ ‫ي ي‬
‫ص َرُك ُم هللاُ يِف َم َواط َن َكث َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬لََق ْد نَ َ‬
‫ي‬ ‫ض يِبَا َر ُحبَ ْ َّ‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]25 :‬‬ ‫ت ُُثَّ َول ْي تُ ْم ُم ْدب ير َ‬ ‫َعلَْي ُك ُم ْاْل َْر ُ‬
‫وهذا يعين أن الكثرة ليست سببا للنصر‪ ،‬وأن العربة ليست يف الكمية وإمنا يف النوعية اليت متلك اإلميان وروح‬
‫االستشهاد يف سبيل هللا‪.‬‬
‫اثنيًا‪ :‬إن الذين عادوا إىل ساحة القتال وقاتلوا بشجاعة فائقة إىل جانب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وعلي عليه‬
‫السالم هم القلة املؤمنة فهؤالء هم الذين حققوا االنتصار يف حنني وهم الذين أنزل هللا عليهم السكينة والطمأنينة‬
‫والدعة فثبتوا يف الظروف احلرجة؛ ملا ميلكونه من عقيدة راسخة‪ ،‬وإميان قوي‪ ،‬وشجاعة فائقة‪ ،‬وإرادة صلبة‪ ،‬ويقني‬
‫راسخ بلطف هللا ونصره‪.‬‬
‫ودا ََل تَرو َها و َع َّذ َّ ي‬ ‫ي‬ ‫يي‬ ‫ي‬
‫ين َك َف ُروا‬
‫ب الذ َ‬ ‫قال تعاىل‪ُُ ﴿ :‬ثَّ أَنْ َز َل هللاُ َسكينَ تَهُ َعلَى َر ُسوله َو َعلَى ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ي َوأَنْ َز َل ُجنُ ر ْ َ ْ َ َ‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]26 :‬‬ ‫ي‬ ‫َوذَلي َ‬
‫ك َج َزاءُ الْ َكاف ير َ‬
‫وعليه فالسر يف انتصارهم النهائي هو ثبات النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وعلي عليه السالم والقلة من الصحابة‬
‫نوعا من اهلدوء واالطمئنان الذي يبعد‬
‫الذين ميلكون اإلميان؛ فهؤالء هم الذين أنزل هللا عليهم السكينة اليت تعين ً‬
‫عنهم كل أنواع الشك واخلوف والقلق وأيدهم وسد أزرهم وقوى معنوايهتم وأوجد روح الثبات واالستقامة يف نفوسهم‬
‫وقلوهبم جبنود من املالئكة مل يروها‪.‬‬
‫ي‬ ‫يي‬
‫ومجلة قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬علَى َر ُسوله َو َعلَى ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ي﴾ إشارة إىل أن املنافقني وأهل الدنيا الذين كانوا مع املسلمني‬
‫يف املعركة مل ينالوا سهما من السكينة واالطمئنان بل كانت السكينة من نصيب املؤمنني فقط‪ ،‬ولذا قال‪َ ﴿ :‬و َعلَى‬
‫ي‬
‫ي﴾ ومل يقل (وعليكم) مع أن مجيع اجلمل يف اآلية بصيغة ضمري اخلطاب (كم)‪.‬‬ ‫ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ونزول السكينة على الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم لرفع اخلوف الذي كان خوفا على الرسالة واملؤمنني خاصة‬
‫بعد فرار أصحابه من املعركة وإال فهو كاجلبل الشامخ ال تزلزله الرايح والعواصف وكذلك ابن عمه علي عليه السالم‬
‫‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬إن على املسلمني أن يعتربوا من حوادث حنني فال يغرتوا بكثرة العدد والعتاد؛ فالكثرة وحدها ال تغين شيئا‬
‫بل املهم يف ساحة اجلهاد وجود املؤمنني املنصهرين ابإلميان ذوي اإلرادة الصلبة والعزمية الراسخة حىت لو كانوا قلة‪.‬‬
‫فإن القلة هي اليت استطاعت أن حتول الفشل يف حنني إىل انتصار كبري وكانت الكثرة بسبب غرورها يف ابدئ‬
‫األمر سببا للفشل والفرار من ساحة املعركة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه اًلجتماعي‪3-‬‬

‫تقديمه أهل الفضل والتقوى‪:‬‬

‫ال‪َ ( :‬كا َن‬ ‫ول النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ف َق َ‬ ‫ت أَِّيب‪َ ،‬عن ُدخ ِّ‬ ‫عن اإلمام احلسني عليه السالم قال‪َ :‬سأَلر ُ‬
‫ر ُ‬
‫ِّ‬ ‫ُد ُخولُهُ لِّنَ رف ِّس ِّه َمأرذُ ً‬
‫ك‪.‬‬ ‫وان لَهُ ِّيف ذَل َ‬
‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫وَكا َن إِّذَا أَوى إِّ َىل منر ِّزلِِّّه جَّزأَ دخولَه ثََالثَةَ أ ٍّ‬
‫َجَزاء‪ُ :‬ج رزءًا َّّلل َعَّز َو َج َّل‪َ ،‬و ُج رزءًا أل رَهله‪َ ،‬و ُج رزءًا لنَ رفسه‪ُ ،‬مثَّ َجَّزأَ ُج رزأَهُ‬ ‫ر‬ ‫َ َ ُُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬
‫اصة‪َ ،‬وَال يَدَّخ ُر َعنر ُه رم َشري ئًا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ك َعلَى الر َع َّامة وا رخلَ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ني الن ِّ‬
‫َّاس‪ ،‬فََريَُّد ذَل َ‬ ‫بَري نَهُ َوبَر َ‬
‫اج ِّة‪،‬‬ ‫ضلِّ ِّهم ِّيف ال رِّد ِّ ِّ‬ ‫فَ َكا َن ِّمن ِّسريتِِّّه ِّيف جزِّء راأل َُّم ِّة إِّيثَار أَه ِّل الر َف ر ِِّّ ِِّّ‬
‫ين‪ :‬فَمرن ُه رم ذُو ا رحلَ َ‬ ‫سمهُ َعلَى قَ رد ِّر فَ ر ر‬ ‫ض ِّل إب رذنه‪َ ،‬وقَ ُ‬ ‫ُ ر‬ ‫ُر‬ ‫ر َ‬
‫ِّ‬ ‫هم َعرنهُ وإِّ رخبَ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وِّمرن ُهم ذُو ا رحلَ َ ِّ‬
‫اره رم‬ ‫صل ُح ُه رم َو راأل ََمةَ م رن َم رسأَلَت ِّ َ‬ ‫يما يُ ر‬ ‫اجتَ رني‪َ ،‬ومرن ُه رم ذُو ا رحلََوائ ِّج‪ ،‬فَيَ تَ َشا َغ ُل هب رم َويَ رشغَلُ ُه رم ف َ‬ ‫َ ر‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّابلَّ ِّذي يَرن بَغي َهلُرم‪َ ،‬ويَ ُق ُ‬
‫ِّ‬
‫اجتَهُ‪.‬‬‫يع إِّبر َالغي َح َ‬ ‫اجةَ َم رن َال يَ رستَط ُ‬ ‫ب‪َ ،‬وأَبرلغُ ِّوين َح َ‬ ‫ول َهلُرم‪ :‬ليُبَ لر ِّغ الشَّاه ُد منكم الرغَائ َ‬
‫صنَ ُع فِّ ِّيه؟‬ ‫ف َكا َن يَ ر‬ ‫ول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم َكري َ‬
‫وميضي احلسني عليه السالم قائال‪ :‬وسأَلرته عن خمَررِّج رس ِّ ِّ‬
‫َ َ ُُ َ ر َ َ ُ‬
‫ول هللاِّ صلى هللا عليه وآله وسلم َخيرُز ُن لِّ َسانَهُ إَِّّال ِّممَّا يَ رعنِّ ِّيهم‪َ ،‬ويُ َؤلرُِّف ُه رم َوَال يُ َفرِّرقُ ُه رم‪،‬‬ ‫ال عليه السالم ‪َ :‬كا َن َر ُس ُ‬ ‫فَ َق َ‬
‫َح ٍّد منهم بِّ رشَره‪َ ،‬وَال ُخلُقه‪،‬‬ ‫ررم َك ِّرمي ُك ِّل قَوٍّم وي ولرِّ ِّيه علَي ِّهم‪ ،‬وَحي َذر النَّاس وَحي ِّرت ِّ ِّ‬
‫س مرن ُه رم م رن َغ رِّري أَ رن يَطر ِّوي َعن أ َ‬ ‫َويُك ُ َ ر ر َ ُ َ َ ر ر َ ر ُ َ َ ر َ ُ‬
‫ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫َّد أَصحابه ويسأ َُل النَّاس ع َّما ِّيف الن ِّ ِّ‬
‫يح َويُ َورهيه‪ُ ،‬م رعتَد ُل راأل رَم ِّر َغ رريُ‬ ‫َّاس َوُحيَ رس ُن ا رحلَ َس َن َويُ َق رِّويه‪َ ،‬ويُ َقبر ُح الر َقب َ‬ ‫َ َ‬ ‫َويَتَ َفق ُ ر َ َ ُ َ َ ر‬
‫ين يَلُونَهُ ِّم َن‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫خمُرتَلِّ ٍّ‬
‫ِّ‬
‫عن ا رحلَ رق َوَال ُجيَ رِّوُزهُ‪ ،‬الذ َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫اد‪َ ،‬وال يَ رق ُ‬ ‫ف‪َ ،‬ال يَغر ُف ُل َخمَافَةَ أَ رن يَغ ُفلُوا أ رَو ميََلُّوا‪ ،‬ل ُك ِّرل َح ٍّال عِّنر َدهُ َعتَ ٌ‬
‫اساةً َوُم َؤ َازَرةً» (‪.)1‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الن ِّ ِّ‬
‫َح َسنُ ُه رم ُم َو َ‬ ‫يحةً َوأ رَعظَ ُم ُه رم عنر َدهُ َمنر ِّزلَةً أ ر‬ ‫َع ُّم ُه رم نَص َ‬ ‫ضلُ ُه رم عرن َدهُ أ َ‬‫َّاس خيَ ُارُه رم‪ ،‬أَفر َ‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬الرتمذي يف الشمائل احملمدية ‪ 34/1‬رقم ‪ ،8‬والطرباين يف الكبري ‪ 155/22‬رقم ‪ ،414‬والبيهقي يف شعب اإلميان ‪154/2‬‬
‫رقم‪ ،1430‬وابن عساكر ‪ ،343/3‬وأخالق النيب وآدابه لألصبهاين ‪ ،111/1‬ودالئل النبوة للبيهقي ‪ .290/1‬وانظر املصابيح‬
‫يف السرية ‪.157/1‬‬
‫‪89‬‬
‫(‪ )15‬الصراع مع اليهود ‪1 /‬‬

‫حقدا على اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وقد وقفوا يف‬‫من املعلوم اترخييا ومن خالل سري األحداث أن اليهود أشد الناس ً‬
‫استنادا إىل ما بشرت به توراهتم‬
‫ً‬ ‫مواجهة هذا الدين من أول يوم ظهوره ابلرغم من كل احلقائق اليت كانوا يعرفوهنا عنه؛‬
‫وكتبهم‪.‬‬

‫أسباب عداء اليهود لإلسالم‬


‫ولعل من أسباب عداء اليهود لإلسالم واملسلمني هو‪:‬‬
‫َّأوًال‪ :‬أهنم قد وجدوا أن هذا النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يدعو الناس إىل دين هو نظام كامل وشامل للحياة‪،‬‬
‫وأن هذا الدين قد جاء بنظام متكامل ومتوازن‪ ،‬واهتم مبحاربة الراب واالحتكار ومجيع أنواع وأشكال استغالل إنسان‬
‫معلوما للسائل واحملروم‪ ،‬فلم ينسجم ذلك مع أطماعهم‪ ،‬بل رأوه يتناىف‬
‫إلنسان آخر‪ ،‬وجعل يف أموال الناس حقا ً‬
‫مع تلك األطماع ومع أهدافهم ومصاحلهم ومع نظرهتم للكون واحلياة واإلنسان‪.‬‬
‫اتساعا ونفوذا يوما بعد يوم‪ ،‬ورأوا أن نفوذهم‪ -‬كمصدر وحيد‬
‫اثنيًا‪ :‬لقد رأى اليهود كيف أن اإلسالم يزداد قوة و ً‬
‫للمعارف والعلوم‪ -‬بدأ ينحسر ويتالشى أمام حركة اإلسالم ومعارفه وأحكامه‪ ،‬ورأوا أن هذا الدين هو دين العدالة‬
‫يرفض إعطاء االمتيازات على أسس ما أنزل هللا هبا من سلطان‪ ،‬ويُبطل مزاعمهم وادعاءاهتم أبهنم شعب هللا املختار‬
‫ابلتزامه مببدأ ﴿إي َّن أَ ْكرم ُكم يعْن َد ي‬
‫هللا أَتْ َقا ُك ْم﴾ [الحجرات‪ ]13 :‬وهذا األمر كان يزلزل مكانتهم ويفقدهم الشيء الذي‬ ‫ََ ْ‬
‫يعتزون به ويتساومون به على الناس‪.‬‬
‫اثلثًا‪ :‬أن يهود املنطقة آنذاك كانوا أصحاب أموال وأمالك كثرية يف املنطقة‪ ،‬ولكن انتشار اإلسالم املستمر يف‬
‫اجلزيرة العربية جعلهم يشعرون أبهنم بدأوا يفقدون سيطرهتم وهيمنتهم‪ ،‬فبدأوا ينصبون العداء للنيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم ولإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬حسدهم للعرب أن يكون النيب الذي تعد به التوراة منهم وليس إسرائيليًا‪ ،‬وقد أشار القرآن الكرمي إىل ذلك‬ ‫رً‬
‫ين َك َف ُروا‬ ‫َّ ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫هللا م ي ي‬ ‫بقوله تعاىل‪﴿ :‬ول ََّما جاءهم كيت ي ي ي ي‬
‫ص ِد ٌق ل َما َم َع ُه ْم َوَكانُوا م ْن قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفت ُحو َن َعلَى الذ َ‬ ‫اب م ْن عْند ُ َ‬ ‫َ َ َُ ْ َ ٌ‬
‫س ُه ْم أَ ْن يَ ْك ُف ُروا يِبَا أَنْ َز َل هللاُ بَغْيرا‬ ‫فَ لَ َّما جاءهم ما َعرفُوا َك َفروا بي يه فَ لَعنَةُ ي‬
‫هللا َعلَى الْ َكافي يرين * بيْئسما ا ْش َ ي ي‬
‫ُّتْوا به أَنْ ُف َ‬
‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُ ْ َ َ‬
‫اب ُم يه ٌ‬ ‫ضٍ ي ي‬ ‫شاء يمن يعب ي‬
‫ادهي فَ بَاءُوا بيغَ َ‬
‫ضٍ‬ ‫أَ ْن ي نَ يز َل هللا يمن فَ ْ ي ي‬
‫ي﴾ [البقرة‬ ‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ب َول ْل َكاف ير َ‬ ‫ب َعلَى غَ َ‬ ‫ضله َعلَى َم ْن يَ َ ُ ْ َ‬ ‫ُِ ُ ْ‬
‫‪.]90، 89‬‬
‫ولعل هذا هو السر يف أهنم حينما طلب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم منهم أن يدخلوا يف اإلسالم امتعضوا‬
‫وأخذوا خياصمون رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫حول اليهود من موقع القوة والنفوذ بسبب سياساهتم وطروحاهتم إىل موقع الضعف واهلوان‪،‬‬
‫واخلالصة‪ :‬إن اإلسالم ر‬
‫وأبطل ادعاءاهتم ابلتفوق االجتماعي والعلمي‪ ،‬وقضى على اليهودية احملرفة وعلى أحالم بين إسرائيل فامتألت قلوهبم‬
‫ابلغيظ واألحقاد على هذا الدين وأتباعه؛ فبدأوا مبعاداة اإلسالم ومواجهته أبشكال التآمر والغدر واخليانة‪.‬‬

‫اليهود في مواجهة اإلسالم‬


‫حاول اليهود مواجهة اإلسالم واملد اإلسالمي بكل ما لديهم من قوة عرب األساليب التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬تشكيك البسطاء وضعاف النفوس ابإلسالم‪.‬‬
‫‪ -2‬طرح األسئلة التعجيزية على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم هبدف تعجيزه وإفشال دعوته لإلحياء للناس بعدم‬
‫قادرا على مثل هذه األمور‪ ،‬وقد حدثنا القرآن عن ذلك‬ ‫صدقه يف ادعائه للنبوة؛ ألنه يفرتض ابلنيب أن يكون ً‬
‫ك فَ َقالُوا‬ ‫رب يم ْن ذَلي َ‬ ‫اب أَ ْن تُن يز َل علَي يهم كيتاِب يمن َّ ي‬ ‫ُك أ َْهل الْكيتَ ي‬
‫وسى أَ ْك ََ‬
‫الس َماء فَ َق ْد َسأَلُوا ُم َ‬ ‫َِ َ ْ ْ َ ر َ‬ ‫بقوله تعاىل‪﴿ :‬يَ ْسأَل َ ُ‬
‫أَ يرََن هللاَ َج ْه َرةر﴾ [النس‪.]153 : :‬‬
‫ين يم ْن قَ ْبلي يه ْم يمثْ َل قَ ْوَليي ْم‬ ‫ك قَ َ َّ ي‬
‫ال الذ َ‬ ‫ين ََل يَ ْعلَ ُمو َن ل َْوََل يُ َكليِ ُمنَا هللاُ أ َْو ََتْتيينَا آيَةٌ َك َذلي َ‬ ‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬وقَ َ َّ ي‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫وهبُ ْم﴾ [البقرة‪.]118 :‬‬
‫ت قُ لُ ُ‬
‫ش َاهبَ ْ‬
‫تَ َ‬
‫رجاال من أهل اجلاهلية ابعوا يهودا بضاعة مث أسلموا‬
‫‪ -3‬الضغط االقتصادي على املسلمني فقد ذكر املؤرخون أن ً‬
‫وطلبوا من اليهود دفع الثمن‪ ،‬فقالوا‪ :‬ليس علينا أمانة وال قضاء عندان؛ ألنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه‪،‬‬
‫وادعوا أهنم وجدوا ذلك يف كتاهبم‪ ،‬فجاء الرد عليهم يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ويم ْن أ َْه يل الْكيتَ ي‬
‫اب َم ْن إي ْن ََت َْم ْنهُ بييق ْنطَا ٍر‬
‫س َعلَْي نَا يِف‬ ‫ت َعلَْي يه قَائيما ذَلي َ ي َّ‬
‫ك ِبَهنُ ْم قَالُوا ل َْي َ‬ ‫ر‬ ‫ك َويم ْن ُه ْم َم ْن إي ْن ََت َْم ْنهُ بي يدينَا ٍر ََل يُ َؤ يِدهي إيل َْي َ‬
‫ك إيََّل َما ُد ْم َ‬ ‫يُ َؤ يِدهي إيل َْي َ‬
‫ب َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن﴾ [آل عمران‪.]75 :‬‬ ‫ي ي‬
‫يل َويَ ُقولُو َن َعلَى هللا الْ َكذ َ‬ ‫ْاْل يُِميِ َ ي‬
‫ي َسب ٌ‬
‫‪ -4‬حتريض أعداء اإلسالم ومساعدهتم بكل ما أمكنهم ولو ابلتجسس‪.‬‬
‫‪ -5‬إاثرة الفنت بني شرائح املسلمني وال سيما بني األوس واخلزرج وبني املسلمني واملشركني‪.‬‬
‫‪ -6‬آتمرهم على حياة النيب األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم وحتريضهم الناس عليه‪.‬‬
‫‪ -7‬حماوالت إاثرة البلبلة وتشويش األوضاع إبشاعة األكاذيب وختويف ضعاف النفوس من املسلمني وتثبيط الناس‬
‫عن اخلروج للجهاد كما يف غزوة تبوك وغريها‪.‬‬
‫‪ -8‬آتمرهم مع املنافقني ضد اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -9‬نقضهم للعهود واملواثيق اليت أبرموها مع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف املدينة يف كل مرة‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫﴿أ ََوُكلَّ َما َع َاه ُدوا َع ْه ردا نَبَ َذهُ فَ يري ٌق يم ْن ُه ْم بَ ْل أَ ْكثَ ُرُه ْم ََل يُ ْؤيمنُو َن﴾ [البقرة‪.] 100 :‬‬

‫‪91‬‬
‫موقفه صلى هللا عليه وآله وسلم من اليهود‬
‫إن مجيع حماوالت اليهود للقضاء على اإلسالم واملسلمني ابءت ابلفشل الذريع؛ بسبب وعي القيادة اإلسالمية‬
‫العليا‪.‬‬
‫ولقد صرب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف البداية على مؤامراهتم وخياانهتم الكبرية تلك؛ تفاداي حلرب جتر‬
‫الويالت على الناس يف مقره اجلديد‪ ،‬وانتظارا للمرحلة املناسبة اليت يسهل فيها ضرهبم دون املساس ابألولوايت امللحة‬
‫ودون تشتيت قوته العسكرية يف مرحلة هو أحوج ما يكون لرتكيزها مع العدو الذي ميثل خطرا وجوداي حينها‪ ،‬حىت‬
‫خطرا حقيقيًا السيما وأهنم يعيشون يف قلب اجملتمع اإلسالمي‪،‬‬
‫وصعدوا من حتدايهتم وأصبحوا يشكلون ً‬ ‫طفح الكيل ر‬
‫ويعرفون كل مواقع الضعف والقوة فيه؛ فكان ال بُ َّد من صياغة التعامل معهم على أساس احلزم والقوة ً‬
‫بدال من العفو‬
‫فسادا‪ ،‬وينقضون العهود واملواثيق ويسددون‬
‫والتسامح والرفق‪ ،‬فليس من املصلحة أن يُرتك اليهود يعيثون يف األرض ً‬
‫ضرابهتم للمسلمني كيف وأىن شاءوا‪ ،‬بل ال بُ َّد من الرد احلاسم واحلازم والعادل على كل اعتداء‪ ،‬ومواجهة كل حتد‬
‫وآتمر وكيد وخيانة قبل أن يكون الندم حيث ال ينفع الندم‪.‬‬
‫وميكننا أن نقول‪ :‬إن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واجههم بعد أن اتضح نقضهم لكل العهود واملواثيق أبسلوبني‬
‫أو اجتاهني‪:‬‬
‫االجتاه األول‪ :‬عمليات القتل املنظمة لرموزهم وبعض أفرادهم‪.‬‬
‫االجتاه الثاين‪ :‬احلرب الشاملة واملصريية ضدهم‪.‬‬
‫االجتاه األول‪ :‬وفيه اتبع صلى هللا عليه وآله وسلم أسلوب عمليات القتل املنظمة لبعض أفرادهم ورموزهم الذين‬
‫ظهر كيدهم‪ ،‬وأعلنوا احلرب على اإلسالم من خالل اجلهر ابلتحريض على النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وهجائه‪،‬‬
‫جداي على صعيد استقرار املنطقة‪ ،‬فتم القضاء على أيب‬
‫خطرا ً‬
‫والتعرض لنساء املسلمني ابألذى‪ ،‬وكانوا يشكلون ً‬
‫عفك اليهودي الذي كان حيرض على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ويقول فيه الشعر‪ ،‬على يد سامل بن عمري‪،‬‬
‫ليال‪ ،‬حيث كانت تعيب اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وتؤنب‬ ‫وقُتلت العصماء بنت مروان اليهودية على يد عمري بن عون ً‬
‫األنصار على اتباعهم لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وتقول الشعر يف هجوه صلى هللا عليه وآله وسلم وحترض‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأرسل صلى هللا عليه وآله وسلم أحد أصحابه يف السنة الثالثة بعد اهلجرة فقتل كعب بن األشرف الذي كان‬
‫قد ذهب إىل مكة بعد حرب بدر‪ ،‬وحرض املشركني ومل خيرج منها حىت مجع أمرهم على حرب رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم وعندما سأله املشركون‪ :‬أديننا أحب إىل هللا أم دي ن حممد وأصحابه؟ أجاهبم‪ :‬بل أنتم أهدى منهم‬
‫ت والطَّاغُ ي‬ ‫صيبا يمن الْكيت ي ي‬ ‫َّ ي‬
‫وت َويَ ُقولُو َن‬ ‫ي ي‬
‫اب يُ ْؤمنُو َن يِب ْْل ْب َ‬‫ين أُوتُوا نَ ي ر َ َ‬
‫سبيال‪ ،‬ويف ذلك يقول تعاىل‪﴿ :‬أَََلْ تَ َر إي َىل الذ َ‬ ‫ً‬
‫آمنُوا َسبي ريل﴾ [النس‪ ]51 : :‬وكان يهجو النيب يف شعره‪ ،‬ويتعرض ابألذى لنساء‬ ‫ي َّ ي‬ ‫ي‬ ‫يي‬
‫ين َ‬ ‫للَّذ َ‬
‫ين َك َف ُروا َه ُؤََلء أ َْه َدى م َن الذ َ‬
‫املسلمني‪ ،‬وهكذا تتابعت عمليات القتل لبعض أفراد اليهود فقتل ابن سنينة‪ ،‬وأبو رافع بن أيب احلقيق من يهود خيرب‬
‫وغريمها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫لقد كانت هذه العمليات مبثابة جزاء عادل وإنذار حازم لكل من ينقض عهدا ويتآمر على مصلحة اإلسالم‬
‫العليا‪ ،‬وقد نظمت هذه العمليات ونفذت برباعة فائقة وذكاء وعبقرية‪ ،‬فأرعبت اليهود وأخافتهم‪ ،‬والسيما بعد قتل‬
‫بن األشرف‪ ،‬حىت أنه مل يبق يف املدينة وحميطها يهودي إال وهو خائف على نفسه‪.‬‬
‫االجتاه الثاين‪ :‬ولكن ابلرغم من ذلك فإن اليهود مل يرتاجعوا عن الدس والتحريض والتآمر واستمروا يف عنادهم‬
‫ومتاديهم يف إيذاء املسلمني ونشر الفساد ونقضهم للمعاهدات اليت وقعوا عليها مبلء اختيارهم وكان ذلك يتفاقم بني‬
‫حني وآخر إىل درجة ابلغة اخلطورة؛ فكان ال بُ َّد من التعامل معهم أبسلوب آخر فكانت احلرب الشاملة واملصريية‬
‫ضدهم حيث ال ميكن اجتثاث مادة فسادهم بغري ذلك‪.‬‬
‫فحارهبم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف داخل املدينة (بين قينقاع‪ ،‬وبين النضري) وحارب يف حميطها (بين قريظة)‬
‫وحارهبم يف (خيرب) اليت كانت متثل املعقل األساسي هلم يف شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه االجتماعي‪4-‬‬
‫تواضعه صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬

‫كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بقدر ما حيث على التزام فضيلة التواضع يف التعامل والعالقات‬
‫االجتماعية فإنه من انحية عملية كان املتواضع األول يف املسلمني بل النموذج املثايل الرائع يف التواضع وبساطة‬
‫العيش‪.‬‬
‫• فقد روي أنه صلى هللا عليه وآله وسلم ما أكل متكئا منذ أن بعثه هللا عز وجل حىت قبض تواضعا هلل عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫• وعن ابن عباس قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم جيلس على األرض وَيكل على األرض ويعقل‬
‫البعري وحيلب الشاة وجييب دعوة اململوك على خبز الشعري‪.‬‬
‫فردا من الناس مل حيط نفسه هبالة خاصة؛‬
‫• وعلى عظمته وعلو مقامه فإنه صلى هللا عليه وآله وسلم كان يبدو ً‬
‫سهال يلتقي أببعد الناس وأقرهبم‪ ،‬أصحابه وأعداءه‪،‬‬
‫فقد كان جيلس بني أصحابه كواحد منهم‪ ،‬وكان قريبا ً‬
‫وأهل بيته‪ ،‬والسفراء والوفود بال تصنع وال تكلف (‪ )1‬فكل شيء كان يصدر عنه كان طبيعيا على سجيته‪.‬‬
‫• ومن تواضعه أنه كان يبدأ ابلسالم على الناس وينصرف إىل حمدثه بكله‪ ،‬الصغري والكبري واملرأة والرجل‪.‬‬
‫• كان آخر من يسحب يده إذا صافح‪ ،‬مل يكن َينف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو‬
‫جار أو مسكني‪ ،‬وكان يذهب إىل السوق وحيمل بضاعته بنفسه‪ ،‬ومل يستكرب عن اإلسهام يف أي عمل يقوم‬
‫به أصحابه وجنده‪ ،‬فقد أسهم يف بناء املسجد يف املدينة وعمل يف حفر اخلندق يف غزوة األحزاب‪ ،‬وشارك‬
‫أصحابه يف مجع احلطب يف إحدى سفراته‪ ،‬وعندما قال له أصحابه حنن نقوم بذلك عنك قال صلى هللا عليه‬
‫متميزا عن‬
‫وآله وسلم‪ :‬قد علمت أنكم تكفونين ولكن أكره أن أمتيز عنكم فإن هللا يكره من عبده أن يراه ً‬
‫أصحابه‪.‬‬
‫• وكان متواضعا يف ملبسه ومشربه ومأكله ومسكنه‪.‬‬
‫• وروي عنه صلى هللا عليه وآله وسلم أنه قال‪« :‬أمرِن ريب بسبع خصال‪ :‬حب املساكي والدنو منهم‪ ،‬وأن‬
‫أكثر من َل حول وَل قوة إَل ِبهلل‪ ،‬وأن أصل رمحي وإن قطعّن‪ ،‬وأن أنظر إىل من هو أسفل مّن وَل‬

‫(‪ )1‬هذا ال يعين اإلمهال وعدم أخذ احليطة واحلذر‪ ،‬فقد تقدم الكالم عن مدى اهتمامه ابجلانب األمين وحذره من الناس‪ .‬انظر‬
‫سلوكه االجتماعي ‪.3‬‬
‫‪94‬‬
‫مرا‪ ،‬وأن َل أسأل أح ردا‬
‫أنظر إىل من هو فوقي‪ ،‬وأن َل أيخذِن ِف هللا لومة َلئم‪ ،‬وأن أقول اْلق وإن كان ر‬
‫شيئا»‪.‬‬
‫•••‬

‫‪95‬‬
‫(‪ )16‬الصراع مع اليهود‪2 /‬‬

‫الحروب الشاملة ضد اليهود‬

‫أ‪ -‬غزوة بني قينقاع‪:‬‬

‫إن ممارسة اليهود قد هيأت اجلو للتخلص من بغيهم وإفسادهم ومكرهم على مراحل‪ ،‬وكان أول ما قام به صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم هو مواجهة بين قينقاع وإجالئهم عن املدينة املنورة‪.‬‬
‫والسبب الذي محل الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم على البدء إبجالء بين قينقاع دون سائر اليهود هو‪ :‬أهنم‬
‫كانوا يسكنون داخل املدينة ويف حي من أحيائها‪ ،‬وكانوا أول من غدر وخان من اليهود؛ فكان ال بُ َّد للنيب صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم من أن يطهر املدينة من هذا العدو الداخلي الذي يطعن يف الظهر‪ ،‬وحييك املؤامرات ويرتكب‬
‫اخلياانت‪.‬‬
‫ويذكر املؤرخون يف هذا الصدد‪ :‬أ ن بين قينقاع كانوا قد عاهدوا صلى هللا عليه وآله وسلم على املساملة وعدم‬
‫معاونة األعداء‪ ،‬فلما كانت حرب بدر أظهروا البغي واحلسد ونقضوا العهد‪ ،‬وكانوا أول من استجاب لطلب قريش‬
‫يف نصب العداء للمسلمني والغدر هبم‪.‬‬
‫وقد صعدوا من حتديهم للمسلمني عندما دخلت امرأة مسلمة سوق الصاغة يف املدينة الذي كان حتت سيطرهتم‪،‬‬
‫فجلست عند صائغ منهم ألجل حلي هلا‪ ،‬فاجتمع عليها مجاعة من اليهود وأرادوها أن تكشف عن وجهها فأبت‬
‫فعمد يهودي من خلفها من حيث ال تعلم فعقد ثوهبا إىل ظهرها‪ ،‬فلما قامت انكشفت سوأهتا فضحكوا منها‪،‬‬
‫فصاحت تستغيث ابملسلمني فوثب رجل من املسلمني على من فعل ذلك فقتله‪ ،‬وشد اليهود على املسلم فقتلوه‪،‬‬
‫فاستنجد أهل املسلم ابملسلمني ووقع بينهم وبني بين قينقاع الشر‪ ،‬فجمعهم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف سوقهم‬
‫وحذرهم وطلب منهم أن يكفوا عن أذى املسلمني‪ ،‬وأن يلتزموا بعهد املوادعة‪ ،‬أو ينزل هبم ما أنزله بقريش‪ ،‬فقال‬
‫هلم‪َّ « :‬ي معشر اليهود احذروا من هللا مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا‪ ،‬فإنكم قد عرفتم أِن نِب مرسل‬
‫جتدون ذلك ِف كتابكم وعهد هللا إليكم» فاستخفوا بوعيده وأجابوه‪ :‬ال يغرنك اي حممد أنك لقيت قوما ال علم‬
‫هلم ابحلرب فأصبت منهم فرصة مكنتك من رقاهبم إان وهللا لئن حاربناك لتعلمن أان حنن الناس‪ ،‬وسرتى منا ما مل تره‬
‫من غريان‪.‬‬
‫ين َك َف ُروا َستُ ْغلَبُو َن َو َُتْ َش ُرو َن إي َىل‬ ‫يي‬
‫فأنزل هللا على نبيه صلى هللا عليه وآله وسلم هبذه املناسبة قوله تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل للَّذ َ‬
‫هللا َوأُ ْخ َرى َكافي َرةٌ يَ َرْو َهنُ ْم يمثْ لَْي يه ْم َرأْ َي‬
‫يل ي‬ ‫ي الْتَ َقتَا فيئَةٌ تُ َقاتي ُل يِف َسبي ي‬‫اد * قَ ْد َكا َن لَ ُك ْم آيَةٌ يِف فيئَ تَ ْ ي‬ ‫س ال يْم َه ُ‬ ‫َج َهن ي‬
‫َّم َوب ْئ َ‬
‫َ‬
‫صا ير﴾ [آل عمران‪ ،]13 ،12 :‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإي َّما ََّتَافَ َّن‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ك لَع ْ َربرة ْل ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ص يره َم ْن يَ َشاءُ إي َّن يِف َذل َ‬‫ي َوهللاُ يُ َؤيِ ُد بينَ ْ‬‫ال َْع ْ ي‬
‫ُويل ْاْلَبْ َ‬
‫ي﴾ [األنف‪:‬ل‪.]58 :‬‬ ‫اخلَائيني َ‬
‫ب ْ‬ ‫يم ْن قَ ْوٍم يخيَانَةر فَانْبي ْذ إيل َْي يه ْم َعلَى َس َو ٍاء إي َّن هللاَ ََل ُيُي ُّ‬

‫‪96‬‬
‫ولذلك مل يبق أمام النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إال أن يقاتلهم فسار إليهم‪ ،‬وكان عددهم حوايل سبعمائة‬
‫مقاتل‪ ،‬وسلم الراية لعلي عليه السالم وحاصرهم يف حصنهم مخس عشرة ليلة أشد حصار‪ ،‬فقذف هللا يف قلوهبم‬
‫الرعب‪ ،‬واستسلموا وطلبوا من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن خيلي سبيلهم وينفيهم من املدينة‪ ،‬على أن يكون‬
‫هلم نساؤهم والذرية‪ ،‬وله أمواهلم والسالح فقبل منهم ذلك‪ ،‬وأخذ أمواهلم وأسلحتهم ووزعها بني املسلمني‪ ،‬وطردهم‬
‫مجيعا(‪.)1‬‬
‫من املدينة إىل أ رذ ِّر َعات ابلشام‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه مل تدر عليهم السنة حىت هلكوا ً‬

‫ب‪ -‬غزوة بني النضير‪:‬‬


‫سرا‬
‫وجاء دور بين النضري بعد قينقاع؛ فقد ظهر للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم ولكل أحد أهنم يكيدون له ً‬
‫أمرا للغدر به واغتياله صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وقد شرعوا يف تنفيذ ذلك وساروا يف هذا السبيل خطوات‪،‬‬
‫ويدبرون ً‬
‫فقرر إجالءهم عن مواضعهم بعد أن ظهر للعيان فسادهم‪ ،‬وقد تعامل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم معهم كما‬
‫تعامل قبلهم مع بين قينقاع مبزيد من الرفق والتسامح؛ حيث أنذرهم يف البداية أبن خيرجوا من حصوهنم وينزحوا من‬
‫يثرب يف مدة عشرة أايم‪ ،‬ولكنهم رفضوا اإلذعان هلذا اإلنذار أول األمر‪ ،‬مث بدا أهنم أذعنوا حلكم الرسول صلى هللا‬
‫أيب بعثوا‬
‫عليه وآله وسلم ورضوا ابجلالء عن يثرب‪ ،‬لكن مجاعة من املنافقني من بين عوف وعلى رأسهم عبد هللا بن ر‬
‫إليهم‪ ،‬أن اثبتوا ومتنرعوا فإان ال نسلمكم‪ ،‬إن قوتلتم قاتلنا معكم‪ ،‬وإن خرجتم خرجنا معكم(‪.)2‬‬
‫َّ ي‬
‫ين ََنفَ ُقوا يَ ُقولُو َن‬ ‫أيب خذهلم وغدر هبم‪ ،‬وأنزل هللا سبحانه هبذه املناسبة‪﴿ :‬أَََلْ تَ َر إي َىل الذ َ‬ ‫إال أن عبد هللا بن ر‬
‫يع فيي ُك ْم أَ َح ردا أَبَ ردا َوإي ْن قُوتيلْتُ ْم‬ ‫ي‬ ‫ييْل ْخواهنييم الَّ يذين َك َفروا يمن أ َْه يل الْكيتَ ي ي‬
‫اب لَئ ْن أُ ْخ ير ْجتُ ْم لَنَ ْخ ُر َج َّن َم َع ُك ْم َوََل نُط ُ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫اذبو َن * لَئين أُ ْخ يرجوا ََل َُيْرجو َن مع ُهم ولَئين قُوتيلُوا ََل ي ْنصر َ ي‬ ‫ي‬
‫وه ْم‬
‫ص ُر ُ‬ ‫وهنُ ْم َولَئ ْن نَ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ُ ُ ََ ْ َ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ص َرنَّ ُك ْم َوهللاُ يَ ْش َه ُد إي َّهنُ ْم لَ َك ُ‬ ‫لَنَ ْن ُ‬
‫ص ُرو َن﴾ [الحشر‪.]12، 11 :‬‬ ‫لَيُ َولُّ َّن ْاْلَ ْد َِب َر ُُثَّ ََل يُ ْن َ‬
‫لذلك امتنعوا عن اإلذعان حلكم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬واحتموا خلف حصوهنم‪ ،‬ويف ذلك يقول القرآن‪:‬‬
‫صنَ ٍة أ َْو يم ْن َوَر ياء ُج ُد ٍر﴾ [الحشر‪ ،]14 :‬وكانت حصوهنم حمكمة‪ ،‬وكان من غري‬ ‫َج ريعا إيََّل يِف قُ ررى ُحمَ َّ‬ ‫﴿ ََل ي َقاتيلُونَ ُكم َي‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫املمكن فتحها يف مدة وجيزة؛ فأمر الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بقطع َنيلهم وحرقها‪ ،‬ولعل النخيل الذي‬
‫أحرق كان ذلك الذي يعيق حركة القتال‪ ،‬فناداه اليهود اي حممد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب على من صنعه‪،‬‬
‫فما ابل قطع النخيل وحتريقها فنزل الوحي اإلهلي خماطبًا املسلمني ﴿ َما قَطَ ْعتُ ْم يم ْن ليينَ ٍة أ َْو تَ َرْكتُ ُمو َها قَائي َمةر َعلَى‬
‫يي‬ ‫أ ي ي ي ي ي‬
‫ي﴾ [الحشر‪.]5 :‬‬ ‫ُصوَلَا فَبيإ ْذن هللا َوليُ ْخ يز َ‬
‫ي الْ َفاسق َ‬ ‫ُ‬
‫فالسر يف قطع النخيل هو أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم واملسلمني أرادوا كسر عنجهية بين النضري وإفهامهم‬
‫مدى التصميم على املواجهة والتحدي حىت يفقدوا األمل جبدوى املقاومة؛ وليفهموا ‪ -‬بصورة عملية‪ -‬أهنم إذا كانوا‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،50/3‬الطبقات ‪ ،28/2‬الواقدي ‪ ،176/1‬والطربي ‪ ،479/2‬وابن سيد الناس ‪ ،443/1‬وأسباب النزول‬
‫‪.167‬‬
‫(‪ )2‬انظر السرية النبوية البن هشام‪ :‬ج‪. 200/3‬‬
‫‪97‬‬
‫يطمعون ابلبقاء يف أرضهم فإن عليهم أن يقبلوا هبا أرضا حمروقة‪ ،‬جرداء ليس فيها أي أثر للحياة‪ ،‬وال تستطيع أن‬
‫توفر هلم حىت لقمة العيش اليت ال بُ َّد منها‪.‬‬
‫يي‬ ‫ي‬
‫ي﴾ فقد كان قطع النخل‬ ‫وهذا هو ما يفسر لنا قوله تعاىل يف تعليل اإلذن اإلهلي بقطع النخل ﴿ َوليُ ْخ يز َ‬
‫ي الْ َفاسق َ‬
‫أيضا‪ ،‬وخزيهم وخزي سائر حلفائهم ويف مقدمهم‬ ‫ضرورًاي والزما من أجل قطع آمال بين النضري وكل آمال غريهم ً‬
‫عبد هللا بن أيب ومن معهم من املنافقني‪ ،‬مث كل من يرقب الساحة ويطمع يف أن يستفيد من حتوالهتا يف حتقيق مآربه‬
‫ضد اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫ويظهر أن قطع النخيل وإحراقه كان سببًا يف تسرب اليأس إىل قلوهبم‪ ،‬إذ وجدوا أنفسهم أمام خيارين‪ :‬إما‬
‫اإلذعان حلكم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وإما اخلروج من املدينة ملهامجة املسلمني ومنعهم من حرق َنيلهم‪،‬‬
‫فاختاروا اإلذعان حلكم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم خاصة بعد أن متكن اإلمام علي بن أيب طالب عليه السالم‬
‫من قتل عشرة من فرساهنم فطلبوا منه صلى هللا عليه وآله وسلم أن جيليهم ويكف عنهم على أن هلم ما محلت اإلبل‬
‫من أمواهلم إال السالح‪ ،‬فرضي النيب صلى هللا عليه وآله وسلم بذلك فحملوا من أمواهلم ما استقلت به فخرجوا إىل‬
‫خيرب‪ ،‬ومنهم من سار إىل الشام‪.‬‬
‫ويشري القرآن إىل غرور بين النضري وامتناعهم حبصوهنم ظانني أهنا ستمنعهم من أمر هللا كما يشري إىل هزميتهم‬
‫اب يم ْن‬
‫ين َك َفروا يم ْن أ َْه يل الْكيتَ ي‬ ‫َّ ي‬ ‫َّ ي‬
‫وختريبهم بيوهتم أبيديهم وأيدي املؤمنني اجملاهدين بقوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬ه َو الذي أَ ْخ َر َج الذ َ ُ‬
‫هللا فَأ َََت ُه ُم هللاُ يم ْن َح ْي ُ‬
‫ث ََلْ َُْيتَ يسبُوا‬ ‫يدَّي يريهم يْل ََّو يل ا ْْل ْش ير ما ظَنَ ْن تم أَ ْن َُيْرجوا وظَنُّوا أ ََّهنُم مانيعت هم حصو ُهنُم يمن ي‬
‫ْ َ َُ ُ ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫ُُ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫الر ْعب ُُيْ يربو َن ب ي َ ي‬ ‫يي‬
‫صا ير﴾ [الحشر‪.)1( ]2 :‬‬ ‫ُويل ْاْلَبْ َ‬ ‫وَتُ ْم يِبَيْدي يه ْم َوأَيْدي ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ي فَا ْعتَيربُوا ََّي أ ي‬ ‫ف يِف قُلُوهب ُم ُّ َ ُ ُ ُ‬ ‫َوقَ َذ َ‬

‫(‪ )1‬الطبقات ‪ ،57/2‬والطربي ‪ ،550/2‬وابن هشام ‪ ،199/3‬والواقدي ‪ ،363/1‬وعيون األثر ‪ ،73/2‬ومغلطاي ص ‪.243‬‬
‫‪98‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه اًلجتماعي‪5-‬‬

‫مدرسة الحلم والعفو‪:‬‬

‫من أبرز ما اتصفت به األخالق النبوية هو احللم عن أخطاء اآلخرين والعفو عن سيئاهتم‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن احللم هو عبارة عن ضبط النفس والضغط على املشاعر واالنفعاالت النفسية إزاء أخطاء‬
‫وحقدا وغيظًا ينعكس سلبًا على السلوك واملمارسات‪.‬‬
‫اآلخرين وممارساهتم السلبية؛ لئال تتفجر غضبا ً‬
‫وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف فضيلة احللم عن املسيء منوذجا رائعا كسائر أخالقه‪ ،‬فهو ال‬
‫يعرف الغضب إال حني تنتهك للحق حرمته‪ ،‬أما سوى ذلك فإنه كان أبعد الناس عن الغضب واالنفعال‪ ،‬فهو‬
‫أحلم إنسان عمن أساء إليه بكلمة أو تصرف خاطئ أو سلوك مشني‪.‬‬
‫• قال أنس بن مالك‪ :‬خدمت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم سنني فما سبين سبة قط‪ ،‬وال ضربين ضربة‪،‬‬
‫وال انتهرين‪ ،‬وال عبس يف وجهي‪ ،‬وال أمرين أبمر فتوانيت فيه فعاتبين عليه‪.‬‬
‫خادما قط‪ ،‬وال ضرب بيده شيئًا قط‪،‬‬
‫• وروي أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ما ضرب امرأة قط‪ ،‬وال ضرب ً‬
‫إال أن جياهد يف سبيل هللا عز وجل‪ ،‬وال نِّري َل منه فانتقم من صاحبه إال أن تنتهك حمارمه فينتقم‪.‬‬
‫• وعن أنس أيضا قال‪ :‬كنت أمشي مع رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وعليه برد جنراين غليظ احلاشية‬
‫فأدركه أعرايب فأخذ بردائه فجبذه (جذبه) جبذة شديدة حىت نظرت إىل صفحة عنق رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته‪ ،‬مث قال‪ :‬اي حممد ُم رر يل من مال هللا الذي عندك‪،‬‬
‫فالتفت إليه رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فضحك وأمر له بعطاء‪.‬‬
‫• وكان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪ :‬أوصاين ريب بتسع‪ :‬أوصاين ابإلخالص يف السر والعالنية‪،‬‬
‫والعدل يف الرضا والغضب‪ ،‬والقصد يف الفقر والغىن‪ ،‬وأن أعفو عمن ظلمين‪ ،‬وأعطي من حرمين‪ ،‬وأصل من‬
‫فكرا‪ ،‬ومنطقي ذكرا‪ ،‬ونظري عِّ ًَربا‪.‬‬
‫قطعين‪ ،‬وأن يكون صميت ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وكما كان يف صفة احللم فقد كان يف صفة العفو ً‬
‫• ومن عظيم عفوه ما جتلى يوم فتح مكة؛ فبالرغم من القسوة والوحشية اللتني عومل هبما جسد عمه محزة بن‬
‫عبد املطلب يف معركة أحد مل يلجأ إىل االنتقام من وحشي قاتل محزة وال من هند زوجة أيب سفيان اليت مثلت‬
‫جبسده مع أهنما كاان يف قبضته وكان يستطيع معاقبتهما والنيل منهما‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫رحيما ابلرغم من كل‬
‫• كما أنه صلى هللا عليه وآله وسلم عفا عن أهل مكة يوم الفتح ووقف منهم موقفا ً‬
‫العذاب واملعاانة واآلالم وأنواع األذى الذي صنعته قريش ابملسلمني قبل اهلجرة وبعدها‪ ،‬وابلرغم من مؤامراهتا‬
‫وحروهبا وإرهاهبا؛ فإنه صلى هللا عليه وآله وسلم وقف على ابب الكعبة بعد الفتح خماطبًا أهل مكة ما ترون‬
‫خريا أخ كرمي وابن أخ كرمي‪.‬‬
‫أين فاعل بكم؟ قالوا‪ً :‬‬
‫قال‪ :‬فإين أقول لكم كما قال أخي يوسف‪ :‬ال تثريب عليكم اليوم يغفر هللا لكم وهو أرحم الرامحني اذهبوا‬
‫فأنتم الطلقاء‪.‬‬
‫وعندما قال أحد أصحابه‪ :‬اليوم يوم امللحمة اليوم نسيب احلرمة‪.‬‬
‫قال صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬اليوم يوم املرمحة اليوم ترعى احلرمة‪.‬‬
‫نظريا يعامل رسول هللا‬
‫هبذه النفس الرحيمة وهبذا اخللق الرفيع والسلوك احلضاري الذي مل يعرف التاريخ له ً‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم أشد الناس عداوة له بعد أن متكن منهم ومن رقاهبم إنه اخللق النبوي احملمدي األصيل‪.‬‬
‫•••‬

‫‪100‬‬
‫(‪ )17‬الصراع مع اليهود ‪3 /‬‬

‫ج‪ -‬غزوة بني قريظة‬


‫لقد كان بني يهود بين قريظة وبني رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عهد واتفاق على أن ال حيارهبم وال حياربوه‪،‬‬
‫أحدا‪ ،‬غري أهنم نقضوا وتعاونوا مع قريش واملنافقني يف معركة األحزاب ضد رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وال يعينوا عليه ً‬
‫وآله وسلم ودعوته‪.‬‬
‫فلما مسع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم خبيانتهم أرسل إليهم سعد بن معاذ‪ ،‬وعبد هللا بن رواحة‪ ،‬لتذكريهم‬
‫ابلعهد وامليثاق فأساءوا الرد‪ ،‬وأصروا على نقض العهد‪ ،‬فسكت عنهم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حىت‬
‫هزمت قريش واألحزاب‪ ،‬وكسب املسلمون معركة اخلندق‪.‬‬
‫ويف نفس اليوم الذي رجع فيه صلى هللا عليه وآله وسلم من ساحات املواجهة يف اخلندق قرر اهلجوم عليهم حىت‬
‫إنه صلى هللا عليه وآله وسلم أمر من كان معه من املسلمني أال يصلوا العصر َّإال يف بين قريظة؛ لكسب الوقت‬
‫واستثمار املوقف النفسي املنهار لدى اليهود وحلفائهم من املشركني واملنافقني‪ ،‬ولكي ال يعطيهم الفرصة إلعادة‬
‫ترتيب أوضاعهم وإنشاء عالقات تزيد يف قوهتم‪ ،‬فأعطى رايته لعلي عليه السالم وتبعه املسلمون ابلرغم مما كانوا عليه‬
‫من التعب والسهر خالل حصار األحزاب هلم‪.‬‬
‫وال شك يف أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يعلم أنه إذا عفا عنهم اليوم فسيمثلون معه الدَّور نفسه الذي‬
‫سرا معهم فهو صلى هللا عليه وآله وسلم ال َيمن الغدر والتآمر اليهودي‬
‫مثلوه ابألمس حينما انضموا ألعدائه وآتمروا ً‬
‫ضده مرة أخرى‪ ،‬بل رمبا يشتد خطرهم لو تركهم ويستعصي على املسلمني بعد ذلك استئصاهلم‪.‬‬
‫أايما‬
‫طوق املسلمون اليهود يف حصوهنم من مجيع اجلهات‪ ،‬وأخذوا يرموهنم ابحلجارة والسهام‪ ،‬واستمر احلصار ً‬
‫قيل‪ :‬عشرة أايم‪ ،‬وقيل‪ :‬أكثر من ذلك‪.‬‬
‫وخالل احلصار أرسل صلى هللا عليه وآله وسلم إليهم بعض أصحابه ملواجهتهم فرجعوا منهزمني؛ فبعث عليًّا عليه‬
‫السالم فكان الفتح على يديه‪ ،‬واستسلم وا وطلبوا من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن يعاملهم كما عامل بين‬
‫النضري من قبل‪ ،‬فأىب عليهم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ذلك‪.‬‬
‫وحتكي معظم كتب التاريخ أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عرض عليهم أن خيتاروا من األوس ‪-‬وهم حلفاؤهم‪-‬‬
‫من شاءوا ليحكم فيهم‪ ،‬فح كم سعد بن معاذ فيهم بقتل الرجال أي املقاتلني منهم فقط ممن نقض العهد وقاتل‪،‬‬
‫وسيب النساء والذراري‪ ،‬ومصادرة أمواهلم وممتلكاهتم‪ .‬كما رووا أنه قتل األسرى من الرجال بل وحىت من كان قد بلغ‬
‫احللم من أوالدهم‪.‬‬

‫إضاءة على الموضوع‬

‫‪101‬‬
‫هناك إشكاالن يف املوضوع؛ األول حول من الذي حكم يف بين قريظة؟ والثاين فيما يتعلق بقتلهم بعد األسر‪.‬‬
‫وال شك أن املوضوع‪ -‬خاصة األخري‪ -‬يتطلب شيئًا من البحث والتدقيق من قبل الباحثني واملهتمني‪ ،‬لصلته الوثيقة‬
‫بواقعنا اليوم‪ ،‬واجملال يف هذا الكتاب ال خيولنا لبحث مستفيض‪ ،‬لكن ابإلمكان اإلشارة ابختصار شديد ملا قد ميكن‬
‫أن يكون منطل ًقا للباحث فنقول‪:‬‬
‫ابلنسبة ملا قيل من حتكيم سعد فالذي يظهر‪ ،‬والذي يبدو منطقيًا يف هكذا مسألة أن احلكم فيهم لن يكون إال‬
‫بتوجيه إهلي عرب النيب حممد صلى هللا عليه وآله وسلم‪ .‬ومن خالل مراجعة بعض مصادر أئمتنا ‹عليهم السالم›‬
‫اطلعت على نص لإلمام أيب الفتح الديلمي عليه السالم حكاه الشريف يف املصابيح حيث قال‪( :‬قال يف الربهان‪:‬‬
‫حىت نزلوا على حكم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الذي نزل به جربيل عليه السالم بقتل مقاتلتهم وسيب‬
‫ذراريهم‪ ،‬وعلى أن عقارهم للمهاجرين دون األنصار‪ ،‬وأرسل هبذا احلكم سعد بن معاذ ومل يكن لسعد فيهم حكم‪،‬‬
‫انتهى) (‪.)1‬‬
‫ويف شرح النهج جاء فيما أمساه (مفاخرة بني احلسن بن علي ورجاالت من قريش) عن اإلمام احلسن بن علي‬
‫‹صلَّى هللاُ َعلَري ِّه‬
‫‹عليهما السالم› مناشدته للرهط الذي استدعاهم معاوية؛ يقول عليه السالم ‪ ...« :‬وأن رسول هللا َ‬
‫َوآله› بعث أكابر أصحابه إىل بين قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا‪ ،‬فبعث عليا ابلراية‪ ،‬فاستنزهلم على حكم هللا‬
‫وحكم رسوله‪ ..‬إخل» (‪ )2‬وقريب من هذا أشار إليه السيد الوالد ‹رمحة هللا عليه› يف كتابه (التيسري يف التفسري)‪.‬‬
‫أيضا مع ما ذكر حول احلادثة‪ ،‬ولو أهنا هي الرائجة واملتداولة يف‬
‫أما ابلنسبة ملا قيل من قتل األسرى فلنا وقفة ً‬
‫كتب التاريخ‪ ،‬واألقرب من خالل النص القرآين وبعض النقل التارخيي ومن خالل نظرة السيد عبد امللك (حفظه هللا)‬
‫يف مناقشيت للموضوع معه؛ أهنا وقعت اشتباكات بينهم وبني املسلمني‪ ،‬فالنص القرآين يقول ﴿فري رقا تقتلون وَتسرون‬
‫وهذا يفهم منه أن الذي حدث حالتان‪ :‬حالة قتل لفريق قتلوا أثناء معركة‪ ،‬ورمبا رموز القوم‬ ‫[األحزاب ‪]26‬‬ ‫فري رقا﴾‬
‫حزب على املسلمني ‪ ،‬وحالة أسر لفريق آخر‪ ،‬واآلية توحي أبن األسرى مل يقتلوا‪ ،‬ولو كان األسرى‬
‫ورؤوسهم ممن َّ‬
‫معىن للفرز بني القتل واألسر املذكور يف اآلية‪.‬‬
‫أيضا ملا كان هناك ً‬
‫قتلوا ً‬
‫وكالم اإلمام احلسن آن ًفا يصرح بنزوهلم من حصوهنم مقاتلني‪ ،‬ويف كالم اإلمام املرتضى حممد بن اهلادي ‹عليهما‬
‫السالم› ما يدلل على وقوع االشتباك معهم حيث يقول يف معىن اآلية املذكورة‪« :‬هذه نزلت يف اليهود ملا حاربوا‬
‫النيب صلى هللا عليه وتظاهروا عليه (ووالوا)عدوه‪ ،‬فلما حاصرهم صلى هللا عليه وآله وسلم وحارهبم أذهلم هللا وأنزهلم‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫صيَاصي يه ْم﴾ وهو اإلذالل هلم واإلرغام والقهر‪ ،‬غري طائعني‪ ،‬فكان إنزاله هلم من عزهم ً‬
‫إرغاما‪ ،‬وإمنا‬ ‫كما قال ﴿م ْن َ‬
‫اشتقت الصياصي من النواصي ألنه إذا أخذ بناصية اإلنسان فقد بلغ ذله‪ ،‬وكذلك هؤالء هدم عزهم وأذل خدودهم‬
‫ابلقهر هلم‪ ،‬فأذهب بذلك َنوهتم وفرق أمرهم‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن الصياصي احلصون اليت أخرجوا منها وكانوا فيها‪ ،‬وليس‬
‫هذا مبخرجها‪ ،‬وال جيوز يف اللغة‪ ،‬ألنه لو كان اسم احلصون صياصيًا جلاز أن يقال يف احلصن الواحد صيصيًا ولو‬

‫(‪ )1‬املصابيح يف تفسري سورة األحزاب‪.‬‬


‫(‪ )2‬شرح النهج ج‪.6‬‬
‫‪102‬‬
‫قال ذلك قائل خلرج من املعىن‪ ،‬فلما مل جير على ذلك صح أهنا ليست احلصون‪ ،‬واملعىن األول أصوب وأحسن يف‬
‫التأويل‪ ،‬والدليل على أن الصياصي مشتقة من النواصي أن العرب تُ ِّ‬
‫سمي قرون األوعال والبقر صياصي‪ ،‬وقد قال‬
‫ر‬
‫بعض العرب‪ :‬يسمى شوامخ اجلبال صياصي لعلوها وامتناعها‪ ،‬وقد قال الشاعر‪:‬‬
‫وهم ستة مشخ الصياصي كأهنا‬
‫الرباقع»(‪)1‬‬ ‫حو عليها‬
‫جمللة ر‬
‫أضف إىل ذلك أن األسر ال يكون إال يف معركة‪ ،‬أما الذين سلموا أنفسهم للعدالة فليسوا أسرى‪ ،‬وجيب‬
‫إخضاعهم للمحاكمة على قدر جرمهم‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وعلى كل حال فإن من املهم أن ختضع املسألة هذه وغريها كثري من مسائل السرية النبوية ملزيد من التحقيق‪.‬‬
‫وقد اختلف املؤرخون يف عدد القتلى واألسرى منهم‪ ،‬فالبعض يقول‪ :‬إهنم أربعون فقط‪ ،‬ومنهم من قال ثالمثائة‪،‬‬
‫والبعض ابلغ يف ذلك فأوصلهم إىل األلف‪ ،‬بينما بلغ عدد األسرى ما بني السبعمائة ومخسني‪ ،‬واأللف‪ ،‬ويبدو أن‬
‫هناك مبالغة يف عدد األسرى ألن رواية ابن إسحاق تنص على أهنم حبسوا يف دار بنت احلارث (وهي امرأة من بين‬
‫خصوصا بيوت ذلك الزمان‪.‬‬
‫ً‬ ‫النجار) ولو كان العدد كما قيل ملا اتسعت هلم تلك الدار‬
‫ومهما يكن فإن املسلمني قد ختلصوا من أشد أعداء الدولة الداخليني؛ حيث قضت هذه الغزوة القضاء التام‬
‫على مجاعات اليهود يف املدينة وضواحيها الذين كانوا يهددون أمنها واستقرارها ابلتآمر والتجسس واإلشاعات‬
‫والتخريب‪.‬‬
‫وقد أشار القرآن الكرمي إىل انسحاب جيوش األحزاب وغزوة بين قريظة وانتصار املسلمني فيها بقوله تعاىل‪:‬‬
‫َّ ي‬ ‫ي ال يْقتَ َ‬ ‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫َّ ي‬
‫ال َوَكا َن هللاُ قَ يوًَّّي َع يز ريزا * َوأَنْ َز َل الذ َ‬
‫ين‬ ‫يا َوَك َفى هللاُ ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ين َك َف ُروا بغَْيظ يه ْم ََلْ يَنَالُوا َخ ْ ر‬ ‫﴿ َوَر َّد هللاُ الذ َ‬
‫ب فَ يري رقا تَ ْقتُ لُو َن َو ََت يْس ُرو َن فَ يري رقا * َوأ َْوَرثَ ُك ْم‬ ‫ف يِف قُلُوهبيي ُم ُّ‬ ‫اب يمن صي ي‬ ‫ي‬ ‫ظَاهر ي‬
‫الر ْع َ‬ ‫اصي يه ْم َوقَ َذ َ‬ ‫وه ْم م ْن أ َْه يل الْكتَ ي ْ َ َ‬ ‫َُ ُ‬
‫وها َوَكا َن هللاُ َعلَى ُك يِل َش ْي ٍء قَ يد ريرا﴾ [األحزاب‪.)2(]27-25 :‬‬ ‫ضا ََلْ تَطَئُ َ‬ ‫ض ُه ْم َو يد ََّي َرُه ْم َوأ َْم َوا ََلُ ْم َوأ َْر ر‬
‫أ َْر َ‬

‫د‪ -‬معركة خيبر‬


‫عددا وعدة‪ ،‬وأمنعهم حصوان‪ ،‬فخيرب قرية‬
‫كان يهود خيرب من أقوى الطوائف اليهودية يف بالد احلجاز‪ ،‬وأكثرهم ً‬
‫من قرى اليهود اجملاورة للمدينة‪ ،‬تقع على قمة جبل وحييطها حصن حجري ظن أهله أنه مانعهم من إرادة احلق‪،‬‬
‫وسيوف اجملاهدين املؤيدين بنصر هللا سبحانه‪ ،‬ويهود خيرب على عادة اليهود‪ ،‬قد استحكم هبم الغرور وغرهم املال‬
‫والسالح الذي أبيديهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬فقه املرتضى املكتبة الشاملة‪.‬‬


‫(‪ )2‬ابن سعد ‪ ،74/2‬وابن هشام ‪ ،244/3‬والواقدي ‪ ،496/2‬وسبل اهلدى ‪ ،7/5‬والطربي ‪ ،581/2‬والبداية والنهاية‬
‫‪ ،133/4‬وعيون األثر ‪.103/2‬‬
‫‪103‬‬
‫ويف حصون خيرب عشرة آالف مقاتل‪ ،‬كانوا خيرجون كل يوم صفوفًا يستعرضون قوهتم‪ ،‬ويسخرون بقوة املسلمني‪،‬‬
‫وهم يرددون‪ :‬حممد يغزوان هيهات ! هيهات‪.‬‬
‫وهذا االعتداد ابلقوة مل يكن ليخدع يهود خيرب وحدهم بل كان يهود املدينة الذين يعيشون وسط املسلمني قد‬
‫اَندعوا به أيضا‪ ،‬فراحوا يهددون املسلمني بتلك القوة وحياولون إظهار التفوق العسكري خليرب على املسلمني إلشاعة‬
‫احلرب النفسية وإضعاف الروح املعنوية للمسلمني‪.‬‬
‫وكانوا يرددون على مسامع املسلمني‪ :‬ما أمنع وهللا خيرب منكم‪ ،‬لو رأيتم خيرب وحصوهنا ورجاهلا لرجعتم قبل أن‬
‫تصلوا إليهم‪ ،‬حصون شاخمات يف ذرى اجلبال‪ ،‬إن خبيرب أللف دارع‪ ،‬ما كانت أسد وغطفان ميتنعون من العرب‬
‫قاطبة إال هبم‪ ،‬فأنتم تطيقون خيرب؟ (‪.)1‬‬
‫أما اإلعالم اإلسالمي يف املدينة فكان يرد منطلقا من الثقة ابهلل واإلصرار على اجلهاد واملقاومة‪ :‬إن خيرب قد وعدها هللا‬
‫نبيه أن يُغنمه إايها؛ وال خلف لوعد هللا ابلنصر‪.‬‬
‫ويف ظل هذه األجواء راح الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يصرب ويصرب على كل أذى خيرب؛ بسبب ما كانت‬
‫متارسه ضد اإلسالم واملسلمني فمنها‪ :‬انطلق زعماء اليهود لدعوة القبائل العربية وحتزيبها ضد املسلمني يف غزوة‬
‫اخلندق‪ ،‬وقد بذلوا األموال يف ذلك‪ ،‬ومنها‪ :‬خرج حيي بن أخطب ودفع بين قريظة إىل نقض العهد يف اللحظات‬
‫العصيبة ‪ ،‬وقد غدت خيرب مبرور األايم ملجأ َيوي إليه اليهود املبعدون عن املدينة‪ ،‬ينتظرون الفرصة لالنتقام من‬
‫اإلسالم‪ ،‬واسرتداد مواقعهم ومصاحلهم اليت جردهم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم منها‪.‬‬
‫وقد اتضح هذا يف األايم القليلة اليت أعقبت هزمية بين قريظة؛ إذ بلغت خيرب أنباء هزمية بين قريظة فاتصل بعض‬
‫اليهود بزعيمهم سالم بن مشكم وسألوه الرأي فأجاهبم‪ :‬نسري إىل حممد مبا معنا من يهود خيرب فلهم عدد‪ ،‬ونستجلب‬
‫يهود تيما‪ ،‬وفدك ووادي القرى‪ ،‬وال نستعني أبحد من العرب‪ ،‬قد رأيتم يف غزوة اخلندق ما صنعت بكم العرب‪..‬‬
‫مث نسري إليه يف عقر داره‪ ،‬فقالت اليهود‪ :‬هذا الراي‪ ،‬وها هم حيرضون غطفان وغريها ويعِّدوهنم أن مينحوهم مثر خيرب‬
‫لسنة إن هم حتالفوا معهم ضد اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫هلذه األسباب وغريها عقد الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم العزم على غزوهم يف حصوهنم ومعاقلهم املنيعة يف‬
‫خيرب‪ ،‬وكان ذلك يف السنة ا لسابعة للهجرة؛ فجمع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم جيشه وتكتم على مسريه‪ ،‬وخرج‬
‫من املدينة يف ألف وستمائة مقاتل من املسلمني‪ ،‬وأعطى رايته لعلي عليه السالم وسلك طرقا حتفظ سرية حتركه‪ ،‬فلم‬
‫يشعر اليهود َّإال وجيش املسلمني قد نزل بساحتهم ً‬
‫ليال وكان الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم قد وعده هللا ابلنصر‬
‫وأن يرده إىل املدينة فاحتا غامنًا‪.‬‬
‫وحني فوجئوا بقوات املسلمني تشاوروا فيما بينهم واتفقوا على القتال فأدلوا نساءهم وأوالدهم وأمواهلم يف بعض‬
‫احلصون‪ ،‬وأدخلوا ذخائرهم يف حصون أخرى بينما دخل املقاتلون منهم يف حصن عُرف حبصن النطاة‪ ،‬والتقى‬
‫اجلمعان حول هذا احلصن ودار قتال شديد بينهما حىت جرح عدد كبري من املسلمني‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر الواقدي املغازي ج‪2‬ص‪.237‬‬


‫‪104‬‬
‫وكان اهلجوم على احلصن قد بدأ إبرسال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم سرية من املسلمني بقيادة أيب بكر غري أنه مل‬
‫منهزما‪ ،‬مث أرسل رسول هللا‬
‫يستطع أن يفتح ثغرة يف حتصينات العدو بل عاد إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫منهزما ِّر‬
‫جينب أصحابه وجيبنونه‪ ،‬فلما رأى رسول هللا‬ ‫صلى هللا عليه وآله وسلم عمر بن اخلطاب ملعاودة الكرة فرجع ً‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم ذلك قال‪ْ« :‬لعطي الراية غدا رجل ُيب هللاَ ورسولَه وُيبه هللاُ ورسولُه يفتح هللا على‬
‫يديه كر رارا غي فرار»‪ .‬فدعا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عليا عليه السالم وهو أرمد فتفل يف عينيه مث قال‪:‬‬
‫عليك»‪)1(.‬‬ ‫«خذ هذه الراية فامض هبا حىت يفتح هللا‬
‫فخرج علي عليه السالم ومعه املقاتلون املسلمون فدار قتال بينهم وبني اليهود على أبواب احلصن‪ ،‬وقتل علي‬
‫عليه السالم مرحبًا وهو من أبطال اليهود وصناديدهم بعدما كان قد قتل أخاه احلارث وأكثر من ستة من فرسان‬
‫اليهود على ابب احلصن‪ ،‬فاستوىل اخلوف على اليهود والتجأوا إىل احلصن وأغلقوا اببه‪ ،‬وكان من أمنع احلصون‬
‫جسرا‬
‫وأشدها‪ ،‬وقد حفروا حوله خندقًا يتعذر على املسلمني اجتيازه‪ ،‬فاقتلع علي عليه السالم ابب احلصن‪ ،‬وجعله ً‬
‫فعرب عليه املسلمون واستبسلوا بقيادة علي عليه السالم فهامجوا بقية احلصون وتغلبوا على من فيها حىت انتهوا إىل‬
‫حصين الوطيح والسالمل وكاان آخر حصوهنم املنيعة وفيهما النساء والذراري واألموال‪.‬‬
‫وملا شعر اليهود أبنه أسقط ما يف أيديهم وأن املسلمني سيأسروهنم ويقتلوهنم إن هم أصروا على موقفهم استسلموا‬
‫وطلبوا العفو من النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فأجاهبم صلى هللا عليه وآله وسلم إىل ذلك بعد أن استوىل على‬
‫أمواهلم ومت االتفاق بينهم وبني النيب صلى هللا عليه وآله وسلم على أن تبقى األرض يف أيديهم يعملون فيها بنصف‬
‫الناتج والنصف اآلخر للمسلمني(‪.)2‬‬
‫وبعد فتح خيرب رجع جعفر بن أيب طالب من احلبشة فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬ما أدري‬
‫وسرورا‪ :‬بقدوم جعفر‪ ،‬أم بفتح خيرب»؟ (‪.)3‬‬
‫ر‬ ‫فرحا‬
‫ِبيهما أَن أشد ر‬
‫إن انتصار املسلمني الساحق يف خيرب يعود إىل العوامل التالية‪:‬‬

‫(‪ )1‬حديث الراية روي بعدة طرق وعدة ألفاظ‪ :‬فأخرجه البخاري ‪ 1096/3‬رقم ‪ ،2847‬ورقم ‪ ،3973‬ورقم ‪،3499 ،3498‬‬
‫و مسلم ‪ 1871/4‬رقم ‪ ،3404‬والرتمذي ‪ 596/5‬رقم ‪ ،3724‬وأمحد ‪ 214/1‬رقم ‪ 778‬ورقم‪ ،1608‬و‪430/8‬‬
‫رقم‪ ،22884‬والنسائي يف اخلصائص ص ‪ 32‬رقم ‪ ،9‬وص ‪ 70‬رقم ‪ ،52‬وابن ماجة ‪ 44 ،43/1‬رقم ‪ ،117‬واحلاكم‬
‫‪ .108/3‬وجممع الزوائد ‪ ،151/5‬و ‪ ،124/9‬واحلاكم ‪ ،83/3‬وأبو نعيم يف احللية ‪ 101/1‬رقم ‪ ،،190 ،189‬وصحيح‬
‫ابن حبان ‪ 377/15‬رقم‪ ،6932‬والطرباين يف الكبري ‪ 152/6‬رقم‪ ،5818‬واملغازيل يف املناقب ‪ 180‬رقم ‪ ،217‬واجلامع‬
‫الكبري للسيوطي ‪ 244/16‬رقم ‪ ،7819‬وقال‪ :‬أخرجه الدارقطين واخلطيب البغدادي ‪ ،5/8‬وابن البطريق يف العمدة ‪.77‬‬
‫(‪ )2‬ابن هشام ‪ ،342/3‬والبداية والنهاية ‪ ،206/4‬وطبقات ابن سعد ‪ ،106/2‬والواقدي ‪ 633/2‬وما بعدها‪ .‬وأتريخ الطربي‬
‫‪ ،16-9/3‬وعيون األثر ‪ ،181/2‬ومغلطاي ص‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورد أبلفاظ كثرية‪ ،‬انظر الطرباين يف األوسط رقم ‪ ،2003‬ويف الكبري رقم ‪ ،1470 ،1469‬واحلاكم ‪ ،664/2‬وابن أيب شيبة‬
‫‪ 380/6‬وغريهم‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫‪ -1‬التخطيط العسكري والتكتيك احلريب الدقيق‪.‬‬
‫‪ -2‬حتصيل املعلومات الدقيقة عن متركز العدو داخل احلصون‪.‬‬
‫‪ -3‬تفاين اإلمام علي بن أيب طالب عليه السالم وشجاعته وبطولته النادرة والتسديد اإلهلي الذي مكنه من قتل‬
‫أبطال اليهود وفرساهنم وقلع ابب خيرب وفتح احلصن على يديه(‪.)1‬‬

‫هـ‪ -‬يهود فدك‬


‫ملا مسع يهود فدك (القرية اليهودية اجملاورة خليرب) مبا حل برفاقهم يف خيرب بعثوا إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم يعلنون رغبتهم يف املصاحلة على مناصفة أراضيهم فوافق النيب صلى هللا عليه وآله وسلم على ذلك وصاحلهم‬
‫على نصف انتج األرض‪ ،‬فكانت خيرب مل ًكا للمسلمني؛ ألنه استوىل عليها ابحلرب‪ ،‬وفدك للنيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم خاصة؛ ألنه متلكها ابلصلح‪ ،‬وقد وهبها صلى هللا عليه وآله وسلم لفاطمة الزهراء عليها السالم يف حياته‬
‫وسلمها إايها وجعلت عماهلا فيها وصارت هي املشرفة على أعماهلا وعلى انجتها‪ ،‬وكانت تصرف انجتها على فقراء‬
‫بين هاشم وحسبما تشاء‪.‬‬
‫فقد جاء يف الدر املنثور للسيوطي عن أيب سعيد اخلدري أنه قال‪ :‬ملا نزلت اآلية ﴿و ي‬
‫آت ذَا الْ ُق ْرََب َح َّقهُ﴾‬ ‫َ‬
‫[اإلسرا ‪ ]26 :‬دعا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فاطمة عليها السالم وأعطاها فد ًكا كما روى ذلك‬
‫مجاعة عن ابن عباس(‪.)2‬‬
‫وجاء يف شرح هنج البالغة البن أيب احلديد عن أيب سعيد اخلدري أنه صلى هللا عليه وآله وسلم وهبها لفاطمة‬
‫عليها السالم‪ ،‬وملا انتهت اخلالفة أليب بكر كان أول ما قام به أن انتزعها من يدها؛ حبجة أن النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ -‬على زعمه‪ -‬قال‪ :‬حنن معاشر األنبياء ال نورث ما تركناه صدقة‪ .‬وأصر على انتزاعها من يدها ابلرغم‬
‫من أهنا طالبت هبا وأقامت البينة على ملكيتها هلا(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬راجع عوامل االنتصار يف كتاب سيد املرسلني ج‪2‬ص‪.408 – 405‬‬


‫(‪ )2‬انظر فضائل اخلمسة ‪ ،126/ 2‬ومسند أيب يعلى ‪ 343/2‬رقم ‪534/2 ،1075‬رقم ‪ ،1409‬وهو يف كنز العمال برقم‬
‫‪ 8696‬عن أيب سعيد‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر شرح التجريد ‪ ،120/2‬وشفاء األوام ‪ ،548/1‬وينظر حول فدك كتاب االعتصام ‪ 266 -205/2‬فقد أوضح اإلمام‬
‫القاسم مبا فيه كفاية‪ ،‬وانقش العالمة بدر الدين احلوثي رمحه هللا بعض الرواايت اليت وردت يف فدك يف كتابه الزهري‪ ،‬والعالمة‬
‫جمد الدين رمحه هللا يف لوامع األنوار ‪ .78/2‬وشرح التجريد ‪ ،491/4‬وشرح هنج البالغة ‪ ،874 – 824/4‬واحلديث أخرجه‬
‫ابن كثري يف البداية والنهاية بلفظه ‪ ،231/4‬وحنوه البخاري ‪ 1126/3‬رقم ‪( 2926‬ر)‪ ،‬ومسلم ‪1380/3‬رقم ‪،1759‬‬
‫وغريمها‪.‬‬
‫‪106‬‬
107
‫و‪ -‬يهود وادي القرى وتيماء‬

‫أما وادي القرى اليت كان أهلها من اليهود احلربيني الذين آتمروا على اإلسالم واملسلمني فقد توجه إليها النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم وفرض احلصار عليها‪ ،‬ودعا أهلها إىل اإلسالم‪ ،‬وأخربهم أهنم إن أسلموا أحرزوا أمواهلم‬
‫وحقنوا دماءهم وحساهبم على هللا‪ ،‬ولكنهم أبوا وأصروا على القتال‪ ،‬وجرت بني الطرفني مناوشات حمدودة والنيب‬
‫يعرض عليهم اإلسالم وهم َيبون مما دفعه إىل تشديد احلصار عليهم حيث متكن من فتح بلدهم عنوة‪ ،‬وبقي هناك‬
‫أربعة أايم قسم خالهلا الغنائم على أصحابه وترك املزارع بيد اليهود مناصفة عليها‪.‬‬
‫وملا بلغت يهود تيماء أ نباء االنتصارات اإلسالمية صاحلوا الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم على اجلزية وأقاموا‬
‫يف بلدهم(‪.)1‬‬
‫وبسقوط خيرب واملواقع اجملاورة مت تصفية آخر جتمع يهودي لعب دوره يف مواجهة اإلسالم ووضع العوائق يف‬
‫اتما على القوة السياسية واالقتصادية والعسكرية ليهود احلجاز‪ ،‬وغدت‬
‫طريقه‪ ،‬وحبك املؤامرات ضده‪ ،‬وقضي قضاء ً‬
‫كلمة اإلسالم وحدها هي العليا يف معظم مساحات اجلزيرة العربية‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬املغازي للواقدي‪ :‬ج‪ 2‬ص‪ 711 -709‬والفتوح للبالذري‪ :‬ج‪ 1‬ص‪ ،39‬والتنبيه واإلشراف للمسعودي ص‪-224‬‬
‫‪.225‬‬
‫‪108‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه اًلجتماعي‪6-‬‬

‫مدرسة الوفاء‪:‬‬
‫من اخلصال اإلنسانية واألخالقية يف شخصية رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم هي خصلة الوفاء‪ ،‬الوفاء‬
‫ابلوعد‪ ،‬والوفاء مبعناه اإلنساين واألخالقي الواسع الذي يقود إىل صنع اجلميل جتاه من أحسن‪ ،‬أو أسدى خدمة‬
‫أو معروفًا‪.‬‬
‫• فقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم شديد التقيد بالوعود التي يعطيها لآلخرين مهما‬
‫كانت صعبة‪.‬‬
‫رجال إىل صخرة فقال‪ :‬أان‬
‫فعن أيب عبد هللا عليه السالم أنه قال‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وعد ً‬
‫هاهنا حىت أتِت‪ ،‬فاشتدت الشمس عليه فقال له أصحابه‪ :‬اي رسول هللا لو أنك حتولت إىل الظل فقال صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪« :‬وعدته إىل هنا وإن َل جيئ كان منه احملشر»(‪.)1‬‬
‫مكاان‬
‫وعن أيب احلمساء قال‪ :‬ابيعت النيب صلى هللا عليه وآله وسلم (أي بعته شيئا) قبل أن يبعث فواعدته ً‬
‫علي أَن هنا منذ‬
‫فنسيته يومي والغد فأتيته يوم الثالث فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪َّ« :‬ي فىت لقد شققت ِ‬
‫ثلثة أَّيم»(‪.)2‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم وفيا جتاه كل من أحسن وعمل معروفا أو وقف موق ًفا إجيابيًّا جتاه اإلسالم‬
‫واملسلمني‪.‬‬
‫فقد كان يتحني الفرصة ليسدي إىل النجاشي ملك احلبشة بعض إحسانه ويكافئه على صنيعه وموقفه جتاه املسلمني‬
‫الذين هاجروا إىل بالده فأكرمهم ورحب هبم‪.‬‬
‫فقد روي أن وفدا أتى من عند النجاشي إىل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فقام صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫خيدمهم فقال له أصحابه‪ :‬حنن نكفيك ؛ فقال النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬إهنم كانوا ألصحابنا مكرمني وإين‬
‫أحب أن أكافئهم(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬لعله‪ :‬اجلشر‪ :‬يقال‪ :‬جشر عن أهله أي غاب عنهم‪ ،‬فاملعىن‪ :‬وإن مل جيئ كان منه التباعد والغيبة‪ .‬احمليط يف اللغة ‪.84/2‬‬
‫(‪ )2‬أبو داود ‪ 299/4‬رقم ‪ ،4996‬والبيهقي ‪.198/10‬‬
‫(‪ )3‬هناية األرب ‪.174 /18‬‬
‫‪109‬‬
‫وروي أنه ملا أتى جربائيل إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ينعي النجاشي وموته بكى عليه وقال‪ :‬إن‬
‫أخاكم أصحمة (وهو اسم النجاشي) مات‪ ،‬مث خرج إىل اجلبانة وكرب مخس تكبريات(‪.)1‬‬
‫• وكان صلى هللا عليه وآله وسلم وفيا لزوجته خدجية إلحساهنا فكان يذكرها ابستمرار‪ ،‬وكان يردد‪« :‬خدجية‬
‫وأين مثل خدجية؟! صدقتّن حي كذبّن الناس‪ ،‬وآزرتّن على دين هللا وأعانتّن ِباَلا»(‪.)2‬‬
‫• وروي أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حني جاءه خرب استشهاد جعفر بن أيب طالب وزيد بن حارثة كان إذا‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫دخل بيته كثر بكاؤه عليهما ويقول‪ :‬كاان حيداثين ويؤنساين فذهبا ً‬
‫وروي أنه صلى هللا عليه وآله وسلم دخل على آل جعفر فَ َش َّم أوالده وذرفت عيناه! وجعل يقول ألمساء امرأة‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫س َن َما‬ ‫َح َ‬‫اب‪َ ،‬وا ْخلُ ْفهُ يِف ذُ ِيريَّتيه يِب ْ‬
‫َحس ين الث ََّو ي‬ ‫ي‬ ‫جعفر‪ََ « :‬ل تَ ُق يويل ُه ْج ررا َوََل تَ ْ‬
‫ض يرييب َخدًّا‪ُ ،‬‬
‫الله َّم قَ ِد ْم َج ْع َفرَ إ َىل أ ْ َ‬
‫اصنَ عُوا ََلُ ْم طَ َع راما فَ َق ْد ُش يغلُوا‬ ‫اد َك يِف ذُ ِيريَّتي يه»‪ ،‬وقال ألهله‪َ« :‬لَ تَغْ ُفلُوا َع ْن ي‬
‫آل َج ْع َف ٍر؛ ْ‬ ‫ت أَح ردا يمن يعب ي‬
‫َخلَ ْف َ َ ْ َ‬
‫اع َّماه؛ فقال‪َ « :‬علَى يمثْ يل ج ْع َف ٍر فَ لْتَ ْب ي‬ ‫يِبَم ير ي‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫صاحبي يه ْم»‪ .‬ودخل على ابنته فاطمة عليها السالم وهي تقول‪َ :‬و َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫الْبَ َواكي ْي» (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬أخربان السيد أبو العباس احلسين رمحه هللا قال‪ :‬أخربان حممد بن احلسني السويدي قال‪ :‬حدثنا عمران بن موسى بن جماشع قال‪:‬‬
‫حدثنا أمحد بن إبراهيم الدورقي قال‪ :‬حدثنا إبراهيم بن عبد هللا قال‪ :‬حدثنا كثري بن عبد هللا عن أبيه عن جده أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم كرب على النجاشي مخس تكبريات‪(.‬إعالم األعالم أبدلة األحكام ص ‪ 150‬رقم ‪.)334‬‬
‫وروى اإلمام اهلادي عليه السلم يف األحكام (‪ )142/1‬عن أبيه‪ ،‬عن جده قوله‪( :‬وقد ذكر عن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫مخسا‪ )..‬إخل‪ .‬و التكبري على اجلنازة مخسا هو مما أمجع عليه أهل البيت عليهم السالم كما حكاه‬
‫وسلم أنه كرب على النجاشي ً‬
‫اإلمام اهلادي عليه السلم يف األحكام (‪.)140/1‬‬
‫وعند الطرباين يف الكبري ‪ 20/17‬رقم ‪ ،24‬ويف األوسط ‪ 64/9‬رقم‪ :9133‬أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كرب على‬
‫النجاشي مخسا‪.‬‬
‫مجعا بني‬
‫وما روي أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كرب أر ًبعا فيحتمل أن يكون املراد به غري تكبرية اإلحرام‪ ،‬وهو أوىل ليكون ً‬
‫األخبار أمجع‪.‬‬
‫وقد أخرج علي بن بالل يف إعالم األعالم ص ‪ ،151-147‬والطيالسي ‪ 93‬رقم ‪ ،674‬وأمحد ‪ 76/7‬رقم ‪،19292‬‬
‫والدارقطين ‪ 73/2‬رقم‪ 6‬ورقم‪ 8‬ورقم‪ ،9‬والنسائي ‪ 72/4‬رقم ‪ ،1982‬والطرباين يف الكبري ‪ 168/5‬رقم ‪ 4976‬و ‪199/5‬‬
‫رقم ‪ ،5081‬ويف األوسط ‪ 228/2‬رقم ‪ - 1823‬أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يكرب مخَر ًسا‪.‬‬
‫(‪ )2‬أمحد يف املسند ‪ 429/9‬رقم ‪ ،24918‬وقال يف جممع الزوائد ‪ :224/9‬إسناده حسن‪.‬‬
‫(‪ )3‬ينظر مصنف عبدالرزاق ‪ 550/3‬رقم ‪ ،6666‬وذخائر العقىب ص ‪. 218‬‬
‫‪110‬‬
‫(‪ )18‬املواجهة بني اإلسالم واجلبهة البيزنطية النصرانية‬

‫أحياان‪ ،‬وظلوا كذلك إىل‬


‫لقد وقف النصارى ابإلمجال من الدعوة اإلسالمية منذ البدء موقف العطف والتأييد ً‬
‫آخر العهد املكي ومل يقع بينهم وبني النيب صلى هللا عليه وآله وسلم احتكاك وعداء كما وقع مع اليهود يف املدينة‪.‬‬
‫لكن هذا مل مينع الكثرة من النصارى العرب أن تلعب دورها يف العصر املدين مبواجهة اإلسالم وتتخذ املواقف‬
‫العدائية ضده على شىت املستوايت بدفع من الدولة البيزنطية الرومانية‪.‬‬
‫ففي العصر املدين متكن اإلسالم من بناء دولته اليت تتجاوز يف سياساهتا وعالقاهتا احلدود اإلقليمية والقومية‬
‫صوب العامل احمليط حيث تقبع الدولة البيزنطية وحلفاؤها العرب يف الشمال وهم مجيعا حمسوبون على املعسكر‬
‫النصراين‪.‬‬
‫مشاال ووصول أنباء انتصاراته على الوثنية واليهودية إىل قبائل الشمال ‪ -‬بدأ‬
‫ومبرور الوقت واتساع نفوذ اإلسالم ً‬
‫املعسكر البيزنطي وح لفاؤه يشعرون ابخلوف واخلطر ويقومون ببعض التصرفات املعادية لإلسالم واملسلمني فبدأ‬
‫مسلسل الصراع املسلح بني املسلمني والنصارى‪ ،‬وكانت أبرز املعارك على هذا الصعيد‪:‬‬
‫‪ -‬معركة مؤتة‪.‬‬
‫‪-‬معركة تبوك‪.‬‬

‫معركة مؤتة‬
‫كان الدافع هلذه املعركة هو االنتقام حلادثة مقتل احلارث بن عمري األزدي مبعوث الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫إىل ملك بُصرى على يد شرحبيل بن عمرو الغساين –عامل هرقل‪ -‬يف مؤتة؛ فقد كان هلذه احلادثة وقع شديد على‬
‫املسلمني وكان ال بُ َّد للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن يتخذ موق ًفا حامسا إزاء املعتدي بعد هذا املوقف الغادر‪.‬‬
‫جيشا من ثالثة آالف مقاتل بقيادة جعفر بن أيب طالب رضي هللا عنه‪،‬‬
‫فجهز النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫وكان ذلك يف مجادى األوىل من السنة الثامنة للهجرة وأمرهم ابالنطالق صوب الشمال لتأديب القوى املعادية على‬
‫فعلتها‪ ،‬وإشعارها بقوة الدولة اإلسالمية وقدرهتا على ردع الغادرين واملعتدين الذين جيدون يف احلماية البيزنطية سببًا‬
‫يدفعهم إىل اجلرأة والعدوان‪.‬‬
‫وتشري الشواهد الصحيحة إىل أنه صلى هللا عليه وآله وسلم جعل القيادة جلعفر بن أيب طالب‪ ،‬ومن بعده لزيد‬
‫بن حارثة‪ ،‬ومن بعدمها لعبد هللا بن رواحة‪ ،‬وترك للجيش أن خيتار لقيادته من يراه صاحلًا إذا أصيب الثالثة‪.‬‬
‫جيشا كثي ًفا قوامه مائة ألف مقاتل وعسكر يف مآب من أرض‬
‫أعد هرقل بعدما مسع نبأ التحرك اإلسالمي ً‬
‫البلقاء‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫جنويب األردن بلغته م أخبار تلك احلشود‪ ..‬فأقاموا ليلتني يتداولون الرأي‬ ‫معان(‪)1‬‬ ‫وملا وصل املسلمون إىل منطقة‬
‫بينهم وقال بعضهم‪ :‬نكتب إىل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فنخربه بعدد عدوان‪ ،‬فإما أن ميدان ابلرجال‪ ،‬وإما‬
‫أن َيمران أبمره فنمضي له‪ ،‬وكاد هذا الرأي أن يتغلب لوال الرتبية اإلميانية واملعنوية اليت كان هلا دورها يف صنع القرار‬
‫وحتديد املوقف يف اللحظات احلرجة حيث وقف عبد هللا بن رواحة وقال بكل إميان وقوة وشجاعة‪ :‬اي قوم وهللا ما‬
‫نقاتل الناس بعدد وال قوة وال كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إال هبذا الدين الذي أكرمنا هللا به‪ ،‬فانطلقوا فإمنا هي إحدى احلسنيني‬
‫إما ظهور‪ ،‬وإما شهادة‪.‬‬
‫فكان هلذه الكلمات أثرها الطيب على تلك النفوس املؤمنة اجملاهدة فصمموا على املضي والقتال مهما كانت‬
‫النتائج‪.‬‬
‫مشاال حىت إذا بلغوا ختوم البلقاء لقيتهم مجوع الروم وحلفاؤهم العرب‬
‫غادر املسلمون معسكرهم يف معان وانطلقوا ً‬
‫يف قرية تدعى مؤتة‪ ،‬وهناك دارت معركة طاحنة بني الطرفني‪ ،‬استشهد خالهلا القادة الثالثة على التوايل فقرر خالد‬
‫بن الوليد الذي توىل قيادة اجليش االنسحاب والعودة إىل املدينة(‪.)2‬‬

‫غزوة تبوك‬
‫بعد عودة الرسول األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم إىل املدينة يف أواخر السنة الثامنة يف أعقاب دخول مكة‬
‫وانتصاره يف حنني بلغته أنباء عن حتركات عسكرية خطرية يعتزم الروم وحلفاؤهم العرب من خلم وجذام وغسان القيام‬
‫هبا ضد اإلسالم واملسلمني وقد قامت هذه القبائل فعال إبرسال طالئعها إىل البلقاء فقرر صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫أن يتصدى هلم‪.‬‬
‫ويف معظم الغزوات كان صلى هللا عليه وآله وسلم ال حيدد هدفه العسكري زايدة يف الكتمان والسرية بل إنه كان‬
‫يعمد إىل التمويه لتضليل األعداء‪ ،‬أما يف غزوة تبوك فقد ربني صلى هللا عليه وآله وسلم اهلدف للناس لبعد الشقة‬
‫وكثرة العدو‪ ،‬ليتأهب الناس لذلك أ رُهبَ تَهُ‪.‬‬
‫فأرسل إىل القبائل املسلمة يف خمتلف املناطق يعلمهم مبا عزم عليه ويستنهضهم للجهاد معه‪ ،‬فأجابوا دعوته إال‬
‫املنافقني فإهنم راحوا خيتلقون األعذار الواهية حىت ال خيرجوا لقتال الروم وقد حكى القرآن عنهم ذلك فقال تعاىل‪:‬‬
‫ي‬
‫﴿ َوقَالُوا ََل تَ ْنف ُروا يِف ا ْْلَِير قُ ْل ََن ُر َج َهن َ‬
‫َّم أَ َش ُّد َح ًّرا ل َْو َكانُوا يَ ْف َق ُهو َن﴾ [التوبة‪.]81 :‬‬
‫مث متادى املنافقون يف موقفهم فلم يكتفوا بتخلفهم عن اجلهاد بل راحوا يثبطون الناس عنه وحيرضون على التخلف‬
‫والتخاذل‪ ،‬وقد اجتمعوا هلذه الغاية يف بيت أحد اليهود‪ ،‬فعلم صلى هللا عليه وآله وسلم هبم فحرق عليهم الدار‬
‫وكانوا عربة لغريهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬مدينة يف طرف ابدية الشام تلقاء احلجاز من نواحي البلقاء‪ ،‬تقع اآلن يف جنوب األردن‪ .‬معجم البلدان ‪.153/5‬‬
‫(‪ )2‬الطبقات ‪ ،128/2‬والواقدي ‪ ،755/2‬وابن هشام ‪ ،15/4‬والبداية ‪ ،275/4‬والطربي ‪ ،36/3‬واملواهب اللدنية ‪،300/1‬‬
‫ومغلطاي ص ‪ ،298‬وعيون األثر ‪.208/2‬‬
‫‪112‬‬
‫استكمل صلى هللا عليه وآله وسلم جتهيز املسلمني‪ ،‬واستخلف عليار عليه السالم على املدينة فشق عليه التخلف‪،‬‬
‫فقال له النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أما ترضى أن تكون مّن ِبنزلة هارون من موسى إَل أنه َل نِب‬
‫بعدي»(‪.)1‬‬
‫مث ما لبث أن انطلق صلى هللا عليه وآله وسلم يف رجب من السنة التاسعة أبكرب جيش عرفه اتريخ الدعوة إىل‬
‫ذلك احلني‪ ،‬قيل إنه بلغ ثالثني أل ًفا تصحبه عشرة آالف فرس‪.‬‬
‫بدأ املسلمون مسريهتم اليت قطعوا فيها آالف األميال‪ ،‬وعانوا آالم العطش واجلوع واحلر وقلة وسائل الركوب وبُعد‬
‫الطريق‪ ،‬حىت انتهى هبم املطاف إىل تبوك يف أقصى الشمال‪ ،‬ويبدو أن الروم وحلفاءهم مسعوا أنباء هذا اجليش الكبري‬
‫وقدرته على اجتياز املصاعب وإصراره على جهاد األعداء‪ ،‬وقدروا أنه لو انتصر يف هذه املعركة فسوف ال يقف عند‬
‫حد‪ ،‬وابلتايل قد تتعرض مواقعهم للخطر‪ ،‬فآثروا االنسحاب إىل الداخل عرب أراضي األردن وفلسطني‪ ،‬ورمبا كانوا‬
‫يهدفون من ذلك يف الوقت نفسه جر املسلمني إىل الداخل واالنقضاض عليهم هناك إال أن النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫جاعال إايها آخر نقطة يف توغله‬
‫وسلم مل يتح هلم حتقيق هدفهم هذا وقرر عدم التوغل إىل الداخل‪ ،‬وعسكر يف تبوك ً‬
‫مشاال‪.‬‬
‫أحدا‪ ،‬وأخذ‬
‫يوما يراقب حتركات الروم من دون أن يقاتل ً‬‫بقي صلى هللا عليه وآله وسلم يف تبوك حوايل عشرين ً‬
‫يتصل يف الوقت نفسه بزعماء القبائل النصرانية املنتشرة يف املنطقة املتامخة للحدود‪ ،‬وعقد مع بعضهم معاهدات‬
‫صلح وتعاون‪ ،‬فقطع بذلك والءهم للدولة البيزنطية وحوهلم إىل مواطنني أو حلفاء للدولة اإلسالمية‪ ،‬وهو اهلدف‬
‫الذي كان يسعى إىل حتقيقه منذ بدء صراعه مع الروم(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬حديث املنزلة من األحاديث املتواترة‪ ،‬وله عدة ألفاظ تؤدي نفس املعىن‪ .‬انظرها يف اجملموع ص ‪ 268‬رقم ‪ ،149‬واألحكام‬
‫‪ ،25/1‬ومناقب الكويف ‪ 524/1‬رقم ‪،457‬واألمايل الصغرى ص‪ ،104‬وتيسري املطالب ص ‪ 110‬رقم ‪ ،69‬والبخاري رقم‬
‫‪ ،3503 ،4154‬ومسلم‪ 1870/4‬رقم ‪ ،2404‬وابن ماجة ‪ 42/1‬رقم ‪ ،121 ،115‬والنسائي يف اخلصائص ‪،60‬‬
‫والطرباين يف الكبري ‪ 146/1‬رقم ‪ ،148‬و ‪ 247/2‬رقم ‪ ،2035‬و‪ 20/4‬رقم ‪ ،220‬والطرباين يف األوسط ‪ ،2728‬وأبو‬
‫يعلى رقم ‪ ،379‬وابن حبان يف صحيحه ‪ 369/15‬رقم ‪ 6926‬ورقم ‪ ،6927‬واحلاكم يف املستدرك ‪،109 -108/3‬‬
‫وعبدالرزاق رقم ‪ ،20390‬واحلميدي يف مسنده رقم ‪ ،71‬والرتمذي ‪ ،3731 – 3730‬وأمحد بن حنبل ‪ 379/1‬رقم ‪،154‬‬
‫‪ 307/10‬رقم ‪ ،27149‬وابن ماجة ‪ ،45/1‬وأسد الغابة ‪ ،100/4‬وابن كثري ‪ ،11/5‬وفتح الباري ‪ ،91/8‬واالستيعاب‬
‫‪ ،201/3‬واإلصابة ‪ ،502/2‬وجممع الزوائد ‪ ،109/9‬واجلامع الكبري للسيوطي ‪ 26/16‬رقم ‪ ،7887‬و ‪ 195/2‬رقم‬
‫‪ ،4799‬والتاريخ الكبري للبخاري ‪ ،115/1‬وابن أيب شيبة ‪ 366/6‬رقم ‪ ،32072‬ورقم ‪ ،32075‬وطبقات ابن سعد‬
‫‪ ،25-23/3‬والبداية والنهاية ‪ ،11/5‬وكفاية الطالب ‪ ،281‬وشواهد التنزيل ‪ 150/1‬رقم ‪ ،205-204‬والطربي ‪،104/3‬‬
‫واملناقب البن املغازيل ‪ 87-79‬رقم ‪ ،56-40‬وأتريخ دمشق ‪ 393-306/1‬يف ترمجة اإلمام علي‪ ،‬وعيون األثر برقم ‪،294‬‬
‫وأتريخ بغداد ‪ ،204/4‬والسرية النبوية البن كثري ‪ ،13-12/4‬واالكتفاء ‪ ،273/2‬والسرية احللبية ‪ ،132/3‬وحلية األولياء‬
‫‪.196/7‬‬
‫(‪ )2‬ابن هشام ‪ ،159/4‬والواقدي ‪ ،990/3‬والبداية والنهاية ‪ ،5/5‬واالكتفاء ‪،271/2‬والطبقات ‪.165/2‬‬
‫‪113‬‬
‫نتائج تبوك ومالمح االنتصار‬

‫وبعد عشرين ليلة قضاها صلى هللا عليه وآله وسلم وقواته يف تبوك قفل عائدا إىل املدينة بعد أن حقق حبركته‬
‫الصعبة تلك انتصارا على اجلبهة النصرانية البيزنطية‪ ،‬ال يقل أمهية عن انتصاراته احلامسة على جبهات الوثنية واليهودية‪،‬‬
‫وهذه أبرز مالمح االنتصار‪:‬‬
‫‪ -1‬فقد كسب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عددا من القبائل القاطنة يف جنوب الشام على احلدود إىل جانب‬
‫الدولة اإلسالمية وقطع عالقاهتا ابلروم‪ ،‬وحصل منها على عهد أبن ال تتعاون مع أحد عليه وال تتخذ من بلداهنا‬
‫كزا للعدوان على احلجاز‪ ،‬وبذلك ضمن صلى هللا عليه وآله وسلم أمن املسلمني وحدود دولتهم‪.‬‬
‫مر ً‬
‫‪ -2‬االنتصار األهم هو أن استجابة الرسول لتحدي الروم وتقدمه لقتاهلم وانسحاهبم من طريقه وانتظاره إايهم قرابة‬
‫عشرين يوما دون أن حيركوا ساكنًا جاء ضربة قاسية للسيادة البيزنطية يف بالد الشام وإضعافا ملركزها وهيمنتها‬
‫كسرا جلدار اخلوف من القوة البيزنطية وهو انتصار نفسي حاسم مكن أهايل‬ ‫على القبائل اليت تعيش هناك‪ ،‬و ً‬
‫البالد بعد سنني قليلة من جتاوز والئهم القدمي واالنطالق لضرب البيزنطيني وإحلاق اهلزائم هبم وطردهم إىل بالدهم‬
‫اليت جاءوا منها‪.‬‬
‫‪ -3‬صعود مسعة املسلمني وهيبتهم داخل احلجاز وخارجها حبيث أن القبائل كانت تتأرجح بني أتييد الروم اليت شعرت‬
‫مبدى قوة الدولة اجلديدة وامتداد نفوذها حىت إىل قلب الداير اليت كان أهلها يعملون لصاحل الروم‪ ،‬فبادرت هذه‬
‫القبائل إىل حسم خيارها وأخذت تتهافت على الرسول يف املدينة بعد رجوعه من تبوك خاضعة مذعنة معلنة إسالمها‬
‫وأتييدها حىت مسي ذلك العام (التاسع) بعام الوفود‪.‬‬
‫‪ -4‬إن غزوة تبوك متثل خطوة من خطوات حركة املسلمني ابجتاه اخلارج وختطيا لنطاق العرب وجزيرهتم إىل العامل‪،‬‬
‫وابدرة متقدمة مهدت الطريق حلركة الفتوحات اإلسالمية اليت شهدهتا العصور التالية لعصر النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪.‬‬
‫ويف غزوة تبوك أكثر من درس وعربة نذكر هنا أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬ميزت غزوة تبوك مرة أخرى املنتمني إىل معسكر اإلسالم فكشفت املنافقني الذين ختلفوا عن اجلهاد ألعذار‬
‫واهية وحمصتهم عن املؤمنني اجملاهدين الذين سارعوا لالَنراط يف اجليش اإلسالمي رغبة يف اجلهاد وعشقا‬
‫للشهادة‪.‬‬
‫نزلت مبناسبة تبوك‪ ،‬مقارنة بني موقف املنافقني وموقف‬ ‫التوبة(‪)1‬‬ ‫وقد ذكر املفسرون أن عددا من آايت سورة‬
‫املؤمنني من اجلهاد‪ ،‬وفاضحة املنافقني وأساليبهم حمذرة من مكرهم ومؤامراهتم‪ ،‬مشددة على عدم التساهل معهم‬
‫أو االستعانة هبم أو قبول أعذارهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬راجع سورة التوبة اآلايت‪.96 -95 -94 -89 -88 -87 -86 -83 -82 -81 :‬‬
‫‪114‬‬
‫‪ -2‬يف الوقت الذي ختلف فيه البعض عن اجلهاد يف تبوك ملتمسني األعذار الواهية كان البعض من الفقراء اجملاهدين‬
‫تفيض أعينهم من الدمع؛ ألهنم مل يتمكنوا من اخلروج إىل اجلهاد بسبب عدم امتالكهم ملؤونته وإمكاانته‪.‬‬
‫وقد ورد أن سبعة من فقراء املسلمني جاءوا إىل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وتوسلوا إليه أن يهيئ هلم ما‬
‫ُميكنهم من اخلروج م عه شوقا إىل اجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬فأجاهبم‪ :‬ال أجد ما أمحلكم عليه فتولوا عنه وأعينهم تفيض‬
‫ُّع َف ياء‬
‫س َعلَى الض َ‬ ‫من الدمع حزان وأس ًفا؛ حلرماهنم من شرف املشاركة‪ ،‬وأنزل هللا هبذه املناسبة قوله تعاىل‪﴿ :‬ل َْي َ‬
‫ي يم ْن‬ ‫ي‬ ‫يي‬
‫ص ُحوا َّّلِل َوَر ُسوله َما َعلَى ال ُْم ْحسني َ‬
‫يي‬ ‫ي‬
‫ين ََل َيجي ُدو َن َما يُ ْنف ُقو َن َح َر ٌ‬
‫ج إيذَا نَ َ‬
‫َّ ي‬
‫ضى َوََل َعلَى الذ َ‬
‫َوََل َعلَى ال َْم ْر َ‬
‫َمحلُ ُك ْم َعلَْي يه تَ َولَّ ْوا َوأَ ْعيُ نُ ُه ْم‬ ‫يل وهللا غَ ُفور ريحيم * وََل َعلَى الَّ يذين إيذَا ما أَتَ و َك ليتَ ْح يملَ ُهم قُ ل َ ي‬
‫َج ُد ما أ ْي‬ ‫ي‬
‫ْت ََل أ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َسب ٍ َ ُ ٌ َ ٌ َ‬
‫َّم يع َح َزرَن أ َََّل َيجي ُدوا َما يُ ْن يف ُقو َن﴾ [التوبة‪.]92 ،91 :‬‬ ‫تَيفي ي‬
‫ض م َن الد ْ‬ ‫ُ‬
‫‪ -3‬شارك املسلمون األغنياء يف جتهيز اجليش اإلسالمي واإلنفاق عليه‪ ،‬حىت أن الرجل كان َيِت ابلبعري إىل الرجل‬
‫والرجلني فيقول‪ :‬هذا البعري بينكما تتعاقبانه‪ ،‬وَيِت الرجل ابلنفقة فيعطيها بعض من خيرج بل ورد أيضا أن النساء‬
‫أسهمن حبليهن يف تبوك وشاركن الرجال يف النفقة‪ ،‬حيث اشرتكن بكل ما قدرن عليه من مسك وأسورة ومعاضد‬
‫وخالخيل وقراط وخواتيم‪.‬‬
‫‪ -4‬إن اختيار علي عليه السالم ابلذات ليكون مكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف املدينة يدير شؤوهنا يف‬
‫غيابه كان إجراء ضرورًاي يستهدف محاية املدينة وحفظ كياهنا من املنافقني واألعراب الذين ختلفوا عن تبوك‬
‫أبعداد كبرية‪ ،‬وكان من احملتمل أن يستفيدوا من فرصة غياب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم لالنقضاض على‬
‫املدينة والعبث أبمنها‪ ،‬فكا نت الدولة حباجة إىل شخصية مرهوبة اجلانب متلك كفاءة القيادة والوالية وال حتسب‬
‫حسااب مهما بلغ من القوة واملكانة وتقف سدا منيعا يف وجه كل من حياول التآمر أو العبث أبمن الدولة‬
‫ً‬ ‫ألحد‬
‫وكياهنا‪ ،‬وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يعلم أبنه ال يصلح ملهمة كهذه غري علي عليه السالم ‪ ،‬وقد قال‬
‫له صلى هللا عليه وآله وسلم على ما جاء يف مستدرك الصحيحني‪« :‬إن املدينة َل تصلح إَل يب أو بك»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه احلاكم ‪ 367/2‬رقم ‪ 3294‬وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪ ،‬والبزار ‪ 59/3‬رقم ‪.817‬‬
‫‪115‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه القيادي‬
‫عظيما يف أخالقه الشخصية واالجتماعية فقد كان عظيما يف‬
‫كما كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫خلقه السياسي كرجل دولة‪.‬‬
‫وهذه بعض مالمح سلوكه القيادي وخلقه السياسي‪:‬‬
‫حكيما مدبِّرًرا‪ ،‬وقد روي أنه كان صلى هللا‬
‫ً‬ ‫عادال‬
‫أ‪ -‬العدل والتدبري‪ :‬فقد كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ً‬
‫عليه وآله وسلم يقسم صدقة أهل البوادي يف أهل البوادي‪ ،‬وصدقة أهل احلضر يف أهل احلضر‪.‬‬
‫واستطاع حبكمته وتدبريه احلد من العداوات واألحقاد والبغضاء واحلروب اليت كانت سائدة بني القبائل‪.‬‬
‫يصا على حفظ النظام العام‪ ،‬ورعاية التشريعات‬ ‫ب‪ -‬محاية القوانني‪ :‬فقد كان صلى هللا عليه وآله وسلم حر ً‬
‫أحدا فيما يعين تطبيق الشريعة وإنزال العقوبة ابملذنب كائنا من‬
‫اإلسالمية ومحايتها وعدم خمالفتها‪ ،‬ومل جيامل ً‬
‫كان‪.‬‬
‫ففي فتح مكة ارتكبت امرأة من بين خمزوم جرمية السرقة‪ ،‬وثبتت السرقة عليها من الوجهة القضائية لكن قومها‬
‫الذين كانت الرتسبات القبلية ما تزال تعشعش يف أدمغتهم رأوا أن إنزال العقاب هبا خيدش مكانتهم ويلحق العار‬
‫بشرفهم؛ فبذلوا جهدهم وتوسطوا لعلهم يستطيعون رفع العقاب عنها فأرسلوا أسامة بن زيد الذي كان موضع‬
‫احرتام عند النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مثل أبيه وسيطًا يتشفع هلا عند النيب فغضب صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫وقال له‪« :‬ما هذا حمل شفاعة» وأصدر أمره صلى هللا عليه وآله وسلم إبنزال العقوبة هبا وإجراء حدود هللا‪.‬‬
‫ولكي يزيل عن أذهان الناس فكرة احملاابة يف تطبيق التشريع وإقامة حدود هللا خطب يف الناس ذلك اليوم‬
‫مشريا إىل هذه احلادثة وقال ما مضمونه‪ :‬إن األقوام واألمم السابقة قد ابدت وانقرضت؛ ألهنا مل تعدل يف إجراء‬
‫ً‬
‫احلدود‪ ،‬فعندما كان أحد أفراد الطبقات العليا يرتكب جرما كان يُعفى من العقاب‪ ،‬وإذا ارتكب أحد أفراد الطبقة‬
‫الدنيا جرمية مماثلة عوقب عليها‪ ،‬مث أقسم أنه صلى هللا عليه وآله وسلم ال يتساهل يف إجراء حدود هللا حىت على‬
‫أقرب املقربني إليه‪.‬‬
‫ومل يكن يرى نفسه صلى هللا عليه وآله وسلم أنه فوق التشريع‪ ،‬بل إنه التزم وطبق بدقة ما ألزم به اجملتمع وقد‬
‫أعطى ال َق َود من نفسه وعرض القصاص منها ملن كان له قِّبَله مظلمة‪ ،‬مسجال بذلك نقطة انصعة بيضاء مل يشهد‬
‫التاريخ هلا مثيال‪.‬‬
‫فقد روي أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يعدل صفوف أصحابه يوم بدر وبيده قِّ رد ٌح (سهم) يعدل‬
‫به القوم فمر بسواد بن غزية وهو متقدم من الصف فدفعه النيب يف بطنه ابلقدح‪ ،‬وقال‪« :‬استو َّي سواد»‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫فقال اي رسول هللا أوجعتين وقد بعثك هللا ابحلق والعدل فأقدين فكشف رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫عن بطنه‪ ،‬وقال‪ :‬استقد‪.‬‬
‫فاعتنقه سواد فقبل بطنه‪.‬‬
‫فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬ما محلك على هذا اي سواد؟‬
‫قال‪ :‬حضر ما ترى (من احلرب) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن ميس جلدي جلدك‪ .‬فدعا له رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خبري‪.‬‬
‫ج‪ -‬االلتزام ابلع هود واملواثيق‪ :‬فلم حيدث إطالقا أن أخل صلى هللا عليه وآله وسلم بعهوده اليت أبرمها مع أعدائه‬
‫أبدا بعهده معهم‪.‬‬
‫وقد أخلت قريش بعهدها معه‪ ،‬وأخل اليهود بعهودهم ومواثيقهم ولكنه مل خيل ً‬
‫د‪ -‬االلتزام مببدأ احرتام اآلخرين‪ :‬وهو املبدأ اخللقي الذي اتبعه صلى هللا عليه وآله وسلم مع زعماء الدول الذين مل يكونوا‬
‫على دينه؛ ففي الرسائل اليت بُعِّث هبا الرسول األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم إىل زعماء العامل آنذاك جتد أنه‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم رغم تصلب ه وتشدده يف ذات هللا قد طبق مبدأ االحرتام مع هؤالء عندما خاطب‬
‫كسرى ب (عظيم فارس) وقيصر ب (عظيم الروم)؛ وذلك من أجل أن يكشف هلم أبن اإلسالم هو الدين الذي‬
‫مجع كل املبادئ السامية والقيم األخالقية‪.‬‬

‫ه ‪ -‬بعد النظر‪ :‬إن الدارس لسرية الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يرى أن هللا تعاىل أعطاه من بُعد النظر ما مل‬
‫يعط غريه‪ ،‬لقد رأينا بُعد نظره يوم وضعت قريش الشروط لصلح احلديبية؛ فقد رأى بعض أصحابه أن يف هذه‬
‫الشروط إجحافا ابملسلمني بينما رأى فيها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪-‬مبا آاته هللا من بُعد النظر‪-‬‬
‫النصر للمسل مني ورأى أن قريشا بوضعها هذه الشروط إمنا حتفر قربها بيدها وتكتب دمار أطروحتها بقلمها‪.‬‬
‫ورأينا بُعد نظره يف أتلفه عبد هللا بن أيب بن سلول ‪-‬وكان ذا شوكة‪ -‬يوم قينقاع ويوم بين النضري ويوم بين‬
‫املصطلق وبقي رسول هللا يتألفه حىت انكشف نفاقه‪ ،‬وظهرت عداوته لإلسالم واملسلمني فجعل قومه بعد ذلك‬
‫إذا أساء اإلساءة هم الذين يعاتبونه وَيخذونه ويعنفونه‪ ،‬فقال رسول هللا لعمر بن اخلطاب حني بلغه ذلك من‬
‫أنف لو أمرُهتا اليوم بقتله لقتلرته‪،‬‬
‫شأهنم‪ :‬كيف ترى اي عمر ؛ أما وهللا لو قتلته يوم قلت يل‪ :‬اقتله ألرعدت له ٌ‬
‫فقال عمر‪ :‬قد ‪ -‬وهللا ‪ -‬علمت أن أمر رسول هللا أعظم بركة من أمري(‪.)1‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬هتذيب سرية ابن هشام ص‪.241‬‬


‫‪117‬‬
‫(‪ )19‬حركة النفاق يف العصر املدني‪1 /‬‬

‫وجد الوثنيون يف املدينة أنفسهم يف وضع حرج بعد االنتصار الكبري الذي حققه املسلمون يف بدر على القيادة‬
‫الوثنية املتمثلة بقريش‪ ،‬فهم إما أن يبقوا على كفرهم فيعرضوا أنفسهم للعقاب‪ ،‬وإما أن ينتموا للدين اجلديد وهم مل‬
‫َيلفوا االنضباط واالنقياد لسلطة موحدة‪ ،‬وال االلتزام مببادئ وشعائر وأخالقيات دائمة اثبتة كما يريد اإلسالم‪.‬‬
‫وسرعان ما وجد زعيمهم عبد هللا بن أيب بن سلول ‪ -‬الذي كان قد ُرِّرشح لتتوجيه ملكا على عرب املدينة قبل‬
‫هجرة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ‪ -‬أن خري وسيلة للخروج من هذا املأزق هو أن يعلن هو وأتباعه إسالمهم‬
‫ظاهرا‪ ،‬ويبقوا على اعتقاداهتم وعالقاهتم وممارساهتم اجلاهلية ابطنًا‪ ،‬وهبذا ينجون من شبح العقاب وحيتفظون يف‬‫ً‬
‫فضال عن أن تظاهرهم ابإلسالم واندساسهم يف صفوف املسلمني سيتيح هلم فرصة‬‫الوقت نفسه مبعطياهتم اجلاهلية‪ً ،‬‬
‫أوسع لتخريب اجملتمع اجلديد من الداخل والتنفيس عن حقدهم وهزميتهم فاستجابوا لنداء زعيمهم الذي قال هلم يف‬
‫أعقاب مساع نبأ االنتصار احلاسم جليش اإلسالم يف بدر‪ :‬هذا أمر توجه فال مطمع يف إزالته‪ .‬فانضووا إىل اإلسالم‪.‬‬
‫ومنذ ذلك احلني برزت إىل الوجود قوة جديدة يف مواجهة اإلسالم –وهذه املرة من داخل اجملتمع اإلسالمي‪-‬‬
‫سببت له الكثري من املتاعب واحملن‪ ،‬ووضعت يف دربه الكثري من احلواجز والعقبات‪ ،‬ومارست إزاءه من الداخل‬
‫عمليات ختريبية ال حصر هلا‪.‬‬

‫األساليب العدائية للمنافقين‬


‫أشكاال شىت‪ ،‬بعضها خمطط مدروس‪ ،‬وبعضها عفوي مرجتل‪ ،‬وهي‬
‫ً‬ ‫اختذت أساليب املنافقني يف مواجهة اإلسالم‬
‫يف كلتا احلالتني استهدفت وضع احلواجز والعراقيل يف طريق اإلسالم والتخريب من الداخل‪.‬‬
‫ونستعرض هنا بعض أساليبهم ومظاهر عدائهم وختريبهم وفق جمراها الزمين منذ ظهور هذه الكتلة يف أعقاب بدر‬
‫حىت وفاة الرسول األعظم صلى هللا عليه وآله وسلم فنقول‪:‬‬
‫َّأوًال‪ :‬م رد يد العون لليهود ومساندهتم فيما كانوا حييكونه من مؤامرات على اإلسالم‪ :‬فقد كان املنافقون على صلة‬
‫دائمة هبم‪ ،‬بل إن اليهود هم الذين أذكوا حركة النفاق يف املدينة بعدما التقت أهدافهم مرحليًا معها؛ ألهنم مجيعا‬
‫كانوا يرون أن انتصار اإلسالم وانتشاره وازدايد نفوذه يضر مبصاحلهم ومبوقعهم السياسي واالجتماعي واالقتصادي‬
‫يف املنطقة‪:‬‬
‫أ‪ -‬فعندما حاصر الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بين قينقاع أول قبيلة يهودية كبرية تنقض عهدها مع النيب صلى‬
‫مدافعا عنهم إزاء هجوم املسلمني‬ ‫هللا عليه وآله وسلم حترك زعيم املنافقني بسرعة ووقف إىل جانب بين قينقاع ً‬
‫طالبا هلم العفو واملغفرة فنزلت آايت القرآن منددة هبذا املوقف املنافق املتأرجح بني والية اإلسالم ووالية أعدائه‪:‬‬
‫ض َوَم ْن يَتَ َوََّلُ ْم يم ْن ُك ْم فَيإنَّهُ يم ْن ُه ْم‬
‫ض ُه ْم أ َْولييَاءُ بَ ْع ٍ‬
‫ارى أ َْولييَاءَ بَ ْع ُ‬
‫َّص َ‬ ‫آمنُوا ََل تَتَّ يخ ُذوا الْيَ ُه َ‬
‫ود َوالن َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ي‬
‫﴿ ََّيأَيُّ َها الذ َ‬
‫صيبَ نَا‬‫شى أَ ْن تُ ي‬ ‫سا ير ُعو َن فيي يه ْم يَ ُقولُو َن َنْ َ‬ ‫ين يِف قُ لُوهبيي ْم َم َر ٌ‬ ‫إي َّن هللا ََل ي ْه يدي الْ َقوم الظَّالي يمي * فَ َ َّ ي‬
‫ض يُ َ‬ ‫ُّتى الذ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬

‫‪118‬‬
‫يي‬ ‫ي‬ ‫ي ي ي‬
‫َس ُّروا يِف أَنْ ُفس يه ْم ََندم َ‬
‫ي﴾ [املائدة‪51 :‬‬ ‫سى هللاُ أَ ْن َأييِْتَ يِبلْ َف ْت يح أ َْو أ َْم ٍر م ْن عْن يده فَ يُ ْ‬
‫صبي ُحوا َعلَى َما أ َ‬
‫ي‬
‫َدائ َرةٌ فَ َع َ‬
‫‪.]52،‬‬
‫ب‪-‬ويف حصار بين النضري القبيلة اليهودية الثانية اليت طُردت من املدينة يف أعقاب آتمرها على حياة رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم أعاد ابن أيب وكبار املنافقني متثيل نفس الدور الذي مثلوه مع بين قينقاع؛ إذ بعثوا إىل بين‬
‫النضري وهم يعانون من حصار املسلمني وقبضتهم احملكمة أن اثبتوا ومتنعوا فإان لن نسلمكم إن قاتلتم قاتلنا معكم‪،‬‬
‫َّ ي‬
‫ين ََنفَ ُقوا يَ ُقولُو َن‬ ‫وإن أخرجتم خرجنا معكم‪ ،‬فنزلت آايت القرآن فاضحة منددة كاشفة موقفهم‪﴿ :‬أَََلْ تَ َر إي َىل الذ َ‬
‫َح ردا أَبَ ردا َوإي ْن قُوتيلْتُ ْم‬ ‫اب لَئين أُ ْخ يرجتُم لَنَ ْخرج َّن مع ُكم وََل نُ يط ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي يي َّ ي‬
‫يع في ُك ْم أ َ‬‫ُ‬ ‫ين َك َف ُروا م ْن أ َْه يل الْكتَ ي ْ ْ ْ ُ َ َ َ ْ َ‬ ‫يْل ْخ َواهن ُم الذ َ‬
‫اذبو َن * لَئين أُ ْخ يرجوا ََل َُيْرجو َن مع ُهم ولَئين قُوتيلُوا ََل ي ْنصر َ ي‬ ‫ي‬
‫وه ْم‬
‫ص ُر ُ‬ ‫وهنُ ْم َولَئ ْن نَ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ُ ُ ََ ْ َ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ص َرنَّ ُك ْم َوهللاُ يَ ْش َه ُد إي َّهنُ ْم لَ َك ُ‬
‫لَنَ ْن ُ‬
‫ص ُرو َن﴾ [احلشر‪.]12 ،11 :‬‬ ‫لَيُ َولُّ َّن ْاْلَ ْد َِب َر ُُثَّ ََل يُ ْن َ‬
‫اثنيًا‪ :‬ارتكاب اخليانة ابالنسحاب من ميادين اجلهاد يف اللحظات احلرجة‪ ،‬وتثبيط الناس وتفريقهم عن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وشل إرادهتم عن اجلهاد‪ ،‬وإظهار الشماتة يف ساعات احملنة‪ ،‬وتشكيك املسلمني بصحة‬
‫موقفهم وسالمة هنجهم‪ ،‬وهذا ما برز يف الوقائع التالية‪:‬‬
‫ُيب بثلث املقاتلني من منتصف الطريق؛ احتجاجا على عدم األخذ برأيه القائل بقتال‬
‫أ‪ -‬ففي يوم أحد انسحب ابن أ ر‬
‫مربرا موقفه‪ :‬أطاعهم وعصاين ما ندري عالم نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس‪.‬‬
‫قريش يف داخل املدينة حيث قال ً‬
‫ب‪ -‬وهذا األسلوب تكرر مرة أخرى يف غزوة تبوك اليت ال تقل خطورة عن معركة أحد؛ إذ انطلق ابن أيب يف أعقاب‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على رأس مجاعة (املنافقني)‪ ،‬وما إن اجتاز املسلمون مسافة قصرية حنو‬
‫هدفهم حىت ختلف املنافقون وقفلوا عائدين إىل املدينة(‪.)1‬‬
‫وإذا كان هلم عذر يف ذلك أول مرة وقد أعلنوه النسحاهبم فإهنم قد افتقدوا األعذار هذه املرة ومل يعلنوا شيئًا إال‬
‫أن املوقف يف كال احلالتني هو نفس املوقف‪ :‬عدم إميان ابهلدف الذي يتحرك إليه املسلمون‪ ،‬وخوف من املوت‬
‫جياهبوا هبزة خطرية تقضي عليهم‬
‫يف سبيل قضية ال يؤمنون هبا‪ ،‬وختذيل للمسلمني يف اللحظات احلرجة لعلهم َ‬
‫أيب حلمه القدمي يف أن يكون ملكا على قومه!!‬
‫وتعيد املنافقني إىل حياة اجلاهلية القدمية‪ ،‬ويرجع البن ر‬
‫فسيحا إلظهار أحقادهم‬
‫ج‪-‬وبعدما تلقى املسلمون ضربة قاسية يف بعض جوالت معركة أحد وجد املنافقون ميداان ً‬
‫وشكوكهم والكشف عن موقفهم الصريح من األحداث فأظهروا الشماتة والسرور مبا أصاب املسلمني وأساءوا‬
‫للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابلقول؛ فقد قال ابن أيب البنه عبد هللا الذي ُجرح يف أحد‪ :‬ما كان خروجك‬
‫معه إىل هذا الوجه بر ٍّ‬
‫أي!! عصاين حممد وأطاع الولدان‪ ،‬وهللا لكأين كنت أنظر إىل هذا‪ .‬فقال ابنه‪ :‬الذي صنع‬
‫هللا لرسوله وللمسلمني خري(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬سرية ابن هشام‪.‬‬


‫(‪ )2‬انظر الواقدي‪ .‬املغازي‪ :‬ج‪1‬ص‪.317‬‬
‫‪119‬‬
‫وجعل املنافقون خيذلون املسلمني عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وَيمروهنم ابلتفرق عنه‪ ،‬ويقولون‬
‫ألصحابه‪ :‬لو كان من قتل منكم عندان ما قتل‪.‬‬
‫وقالوا أيضا‪ :‬ما حممد إال طالب ملك‪ ،‬وما أصيب مبثل هذا نيب قط‪ ،‬أصيب يف بدنه وأصيب يف أصحابه‪.‬‬
‫د‪ -‬ويف معركة اخلندق حيث أحاطت األحزاب ابملدينة وعظم البالء على املسلمني تصاعدت محالت املنافقني‬
‫فأخذوا يثريون شائعات اخلوف واهلزمية ويسخرون من املؤمنني الذين كانوا يندفعون جبد إىل العمل والسهر املتواصل‬
‫يف حفر اخلندق ويف غريه من أجل محاية اإلسالم‪.‬‬
‫فقد قالوا‪ :‬كان حممد يعدان أن أنكل كنوز كسرى وقيصر وأحدهم اليوم ال َيمن على نفسه أن يذهب إىل‬
‫الغائط‪.‬‬
‫وراح آخرون يقولون للنيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬اي رسول هللا إن بيوتنا عورة (مكشوفة) من العدو فأذن لنا‬
‫أن َنرج إىل أهلنا ونرجع إىل داران فإهنا خارج املدينة‪.‬‬
‫وكان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يواجه محالهتم النفسية هذه بروح األمل يبثها يف قلوب أصحابه وحيدثهم‬
‫احدا‬
‫بيقني اثبت أن نصر هللا قريب‪ ،‬وأن خيوهلم ستطأ يف السنني القادمة عواصم كسرى وقيصر وتسقط عروشهم و ً‬
‫بعد اآلخر‪.‬‬
‫ض َما‬ ‫ين يِف قُ لُوهبيي ْم َم َر ٌ‬ ‫َّ ي‬ ‫ي‬ ‫وقد حتدث القرآن عن أساليبهم يف اخلندق فقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإي ْذ يَ ُق ُ‬
‫ول ال ُْمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬
‫ام لَ ُك ْم فَ ْاريجعُوا﴾ حىت قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ول َْو‬ ‫وع َد ََن هللا ورسولُه إيََّل غُرورا * وإي ْذ قَال ْ ي ي‬
‫َت طَائ َفةٌ م ْن ُه ْم ََّيأ َْه َل يَثْ ير َ‬
‫ب ََل ُم َق َ‬ ‫ُر َ‬ ‫ُ ََ ُ ُ‬ ‫ََ‬
‫َكانُوا فيي ُك ْم َما قَاتَلُوا إيََّل قَلي ريل﴾ [األحزاب‪.] 20- 12 :‬‬
‫اثلثًا‪ :‬التخريب الداخلي وإاثرة الفتنة بني فئات املسلمني‪ ،‬ونشر الشائعات اهلدامة‪ :‬ففي غزوة بين املصطلق حاولوا‬
‫إاثرة احلس القب لي بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬وكادت أن تقع فتنة بني الطرفني ال يعلم إال هللا مداها لوال حكمة النيب‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم فقد حدث ‪ -‬حينئذ‪ -‬أن ازدحم على بئر هناك غالم من بين غفار لعمر بن اخلطاب مع‬
‫غالم ُج َهين من يثرب فاقتتال فصرخ اجلهين‪ :‬اي معشر األنصار‪ ،‬وصرخ الغفاري‪ :‬اي معشر املهاجرين‪ ،‬وكاد أن يقع‬
‫القتال بني الفريقني إال أن أحدمها ما لبث أن عفا عن اآلخر واصطلح الرجالن بعد تدخل بعض املسلمني من‬
‫املهاجرين واألنصار‪ ،‬فرأى زعيم املنافقني أن ينتهز فرصة هذه احلادثة فأظهر غضبه‪ ،‬وقال بعصبية‪َ :‬أو قد فعلوها؟‬
‫قد انفروان وكاثروان يف بالدان وهللا ما عدان وجالبيب قريش إال كما قال األول‪ِّ :‬‬
‫(مسرن كلبك َيكلك) وهللا لئن رجعنا‬ ‫ُ‬
‫األعز منها األذل‪.‬‬
‫إىل املدينة ليخرجن ُّ‬
‫مث أقبل على من حضر من قومه فقال هلم‪ :‬هذا ما فعلتم أبنفسكم أحللتموهم بالدكم وقامستموهم أموالكم‪ ،‬أما‬
‫وهللا لو أمسكتم عنهم ما أبيديكم لتحولوا إىل غري داركم‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬قيامهم أبعمال يراد منها اإلضرار ابملسلمني وتفريق صفوفهم ووحدهتم ومتاسكهم‪ .‬وذلك كبنائهم (مسجد‬ ‫رً‬
‫الضرار) الذي حتدث عنه القرآن وأطلق عليه هذه التسمية‪ ،‬فكشف بذلك نياهتم وفضح خطتهم اليت استهدفت‬
‫إحداث متزق وانشقاق يف قلب اجملتمع اإلسالمي قال تعاىل‪﴿ :‬والَّ يذين َّاَّتَ ُذوا مس يج ردا ي‬
‫ض َر رارا َوُك ْف ررا َوتَ ْف يري رقا بَ َْ‬
‫ي‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬

‫‪120‬‬
‫ادا ليمن حارب هللا ورسولَهُ يمن قَبل ولَيحلي ُف َّن إي ْن أَر ْد ََن إيََّل ا ْْلسَن وهللا ي ْشه ُد إي َّهنُم لَ َك ي‬ ‫ي‬
‫اذبُو َن *‬ ‫َُْ َ َُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُْ ََْ‬ ‫ص ر َ ْ َ َ َ َ ََ ُ‬ ‫ي َوإي ْر َ‬ ‫ال ُْم ْؤمني َ‬
‫ُسس َعلَى التَّ ْقوى يمن أ ََّو يل ي وٍم أَح ُّق أَ ْن تَ ُقوم في ييه في ييه يرج ٌ ي‬
‫ي ي‬ ‫يي‬
‫َّروا َوهللاُ‬
‫ال ُُيبُّو َن أَ ْن يَتَطَه ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََل تَ ُق ْم فيه أَبَ ردا ل ََم ْسج ٌد أ ِ َ‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]108 ،107 :‬‬ ‫ب ال ُْمطَّ يِه ير َ‬‫ُيُي ُّ‬

‫‪121‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫سلوكه العسكري واألمني‬


‫يصف احملللون العسكريون أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم كان قائ ًدا عسكرًاي ف ًذا‪ ،‬وقد أدار املعارك‬
‫العسكرية اليت خاضها ضد املشركني واليهود وغريهم من أعداء اإلسالم بكفاءة وخربة عالية‪ ،‬وهذه مناذج من سلوكه‬
‫وتدابريه العسكرية واألمنية‪:‬‬
‫‪ -1‬االستطالع العسكري‪ :‬ويبدو أنه مل ختل معركة من معارك اإلسالم الكربى إال واستخدم النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم فيها االستطالع العسكري وقام جبمع املعلومات عن العدو واستطلع حتركاته وأوضاعه املختلفة عن طريق العيون‬
‫والطالئع وغريهم‪.‬‬
‫فعندما خرج إىل بدر بعث بسبسة بن عمرو اجلهين‪ ،‬وعدي بن أيب الزغباء اجلهين يستطلعان له األخبار عن‬
‫أيب سفيان وغريه‪.‬‬
‫ويف أحد أرسل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم احلباب بن املنذر إىل القوم فدخل فيهم وق ردر عددهم وحجم‬
‫عتادهم ونظر إىل مجيع ما يريد وبعثه سرا‪ ،‬وقال له‪ :‬ال ختربين بني أحد من املسلمني إال أن ترى قلة‪ ،‬فرجع‬
‫فأخربه خاليا‪.‬‬
‫وقام هبذه املهمة حذيفة بن اليمان يوم اخلندق‪.‬‬
‫كما بعث عبد هللا بن أيب َح رد َرد األسلمي عينا على هوازن جلمع املعلومات عن موقفهم وخطتهم يف حنني(‪،)1‬‬
‫وبريدة بن احلصيب عينا على بين املصطلق(‪ ،)2‬وعبد هللا بن رواحة عينا على غطفان(‪ )3‬وغريهم كثري‪.‬‬
‫‪ -2‬الكتمان والسرية وأمن املعلومات‪ :‬فقد كان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم حييط حتركاته العسكرية ابلسرية‬
‫التامة‪ ،‬وحيرص على كتمان أهدافه واجلهة اليت يقصدها حىت عن املقربني؛ لئال تتسرب املعلومات إىل العدو‬
‫فيستفيد منها‪ ،‬وحرصا منه صلى هللا عليه وآله وسلم على حتقيق عنصر املباغتة ومفاجأة العدو‪ ،‬فعندما قرر‬

‫(‪ )1‬ابن هشام ‪ ،80/4‬وطبقات ابن سعد ‪ ،149/2‬والواقدي ‪ ،885/3‬وسرية ابن كثري ‪.610/3‬‬
‫(‪ )2‬سرية ابن هشام ‪ ،302/3‬وعيون األثر ‪ ،134/2‬والواقدي ‪ ،404/1‬وابن سعد ‪.62/2‬‬
‫وخ َّوات‬
‫وعبدهللا بن رواحة‪َ ،‬‬ ‫وسعد بن عبادة سيد اخلزرج‪َ ،‬‬ ‫سعد بن معاذ سيد األوس‪َ ،‬‬ ‫(‪ )3‬بعث النيب صلى هللا عليه و آله وسلم َ‬
‫احلَنُوا يل حلنًا أ رَع ِّرفُهُ‪ ،‬وال تَ ُفتُّوا يف‬
‫بن ُجبري للتحري عن نقض كعب بن اخلزرج للعهد واستجالء اخلرب‪ ،‬وقال هلم‪ :‬إن كان حقًّا فَ ر‬
‫أعضاد الناس‪ ،‬وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس! فخرجوا فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم‪ ،‬فرجعوا إىل رسول هللا‬
‫القارةُ! فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬هللا أكرب‪ ،‬أبشروا اي معشر املسلمني‪.‬‬ ‫ض ُل و َ‬ ‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬عُ َ‬
‫الواقدي ‪ ،440/2‬وابن سعد ‪ ،65/2‬وابن هشام ‪ ،224/3‬وسبل اهلدى ‪ ،512/4‬وعيون األثر ‪ ،84/2‬والطربي ‪،574/2‬‬
‫وسرية ابن كثري ‪ ،202/3‬والروض األنف ‪.279/3‬‬
‫‪122‬‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فتح مكة أخفى نياته ومل يطلع املسلمني على وجهته‪ ،‬وقال‪« :‬اللهم خذ‬
‫العيون واْلخبار عن قريش حىت نبغتها ِف بلدها»‪.‬‬
‫ومل يكتف النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابختاذ هذه االحتياطات بل كان يراقب الطرق ويتخذ إجراءات أمنية‬
‫مشددة كمنع السفر وحنوه كما يف فتح مكة؛ لئال تتسرب املعلومات عن حتركاته العسكرية عن طريق املنافقني‬
‫والذين يف قلوهبم مرض وغريهم من أعداء اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -3‬احلرب النفسية‪ :‬واستخدم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم احلرب النفسية ضد العدو بغية حتطيم معنوايته وشل إرادته‬
‫وتفتيت وحدته الداخلية وبث الرعب واخلوف واليأس يف قلوب أعدائه‪.‬‬
‫فقد كان َيمر أصحابه هبجاء قريش‪ ،‬وقد كان يقوم هبذه املهمة حسان بن اثبت‪ ،‬وعبد هللا بن رواحة‪،‬‬
‫يشا فإنه أشد عليها من رشق ابلنبل‪.‬‬
‫وغريمها‪ ،‬وكان يقول صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬اهجوا قر ً‬
‫ويف عمرة القضاء قال ألصحابه‪ :‬ارملوا ابلبيت ثالاث؛ لريى املشركون قوتكم‪ ،‬فلما رملوا قالت قريش‪ :‬ما‬
‫وهنتهم‪.‬‬
‫وعندما سار لفتح مكة ووصل إىل مشارفها أمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أصحابه يف النهار جبمع‬
‫احلطب‪ ،‬وملا دخل الليل أمرهم ابلتفرق وإشعال النريان يف كل مكان؛ ليوهم العدو ابنه أمام حشد كبري ال طاقة‬
‫له على مواجهته حىت أن أحد أصحابه يقول‪ :‬لقد كنا تلك الليايل نوقد مخسمائة انر حىت تُرى من املكان البعيد‪،‬‬
‫وذهب ذكر معسكران ونرياننا يف كل وجه حىت كان مما كبت هللا تعاىل عدوان‪.‬‬
‫كما أنه صلى هللا عليه وآله وسلم قبل أن يدخل مكة فاحتًا استعرض جيش املسلمني وأمر العباس بن عبداملطلب‬
‫أن حيبس أاب سفيان يف املضيق الذي تزدحم فيه اخليل حىت ينظر إىل املسلمني وقوهتم‪ ،‬فحبسه العباس وجعلت‬
‫القبائل املسلمة متر مع النيب صلى هللا عليه وآله وس لم كتيبة كتيبة على أيب سفيان يف أكرب استعراض للقوة شهدته‬
‫املنطقة آنذاك‪.‬‬
‫•••‬

‫‪123‬‬
‫(‪ )20‬حركة النفاق يف العصر املدني‪2 /‬‬

‫موقف النبي صلى هللا عليه وآله وسلم من حركة النفاق‬


‫من الثابت اترخييا أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم مل يدخل يف صراع مسلح ضد املنافقني كما فعل مع القوى‬
‫الوثنية‪ ،‬واليهودية‪ ،‬والنصرانية‪ ،‬ابلرغم من كل ممارساهتم التخريبية بل إنه صلى هللا عليه وآله وسلم حىت مل يعزهلم عن‬
‫اجملتمع اإلسالمي –ابستثناء ما حدث يف أعقاب غزوة تبوك‪ -‬وإمنا كانوا ينخرطون حىت يف اجليش اإلسالمي‬
‫تدبريا مينعهم به من احلضور يف ساحة اجلهاد يف الوقت الذي كان يعلم أهنم‬
‫ويشاركون يف العمل اجلهادي ومل يتخذ ً‬
‫طمعا يف املال والغنائم‪.‬‬
‫متهيدا للخيانة للمسلمني وتسليمهم إىل أعدائهم‪ ،‬وإما ً‬
‫إمنا يفعلون ذلك‪ :‬إما ً‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه هنا‪ :‬ملاذا مل يدخل النيب صلى هللا عليه وآله وسلم معهم يف صراع مسلح ويقضي على‬
‫حركتهم كما فعل مع غريهم من أعداء اإلسالم؟ علما أن خطرهم ال يقل عن خطر اليهود واملشركني‪ ،‬بل رمبا يكون‬
‫خطره أعظم إذا الحظنا أهنم يعملون ابخلفاء من الداخل؟‬
‫خطرا عليهم‪ ،‬وإذا كان مينع‬
‫وملاذا يقبلهم النيب صلى هللا عليه وآله وسلم يف جيش املسلمني؟ مع أن ذلك يشكل ً‬
‫تدبريا معينًا مينع به املنافقني من احلضور إىل ساحة‬
‫أفراد اليهود وغريهم من الكفار من املشاركة فلماذا ال يتخذ ً‬
‫احلرب مع املسلمني؟‬
‫واجلواب يتلخص يف النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬إن مشكلة املنافقني تكمن يف أن هذه القوة املعادية غري واضحة األبعاد مندسة يف صفوف املسلمني‪ ،‬قديرة‬
‫على االستخفاء يف أعقاب أي ختريب متارسه‪ ،‬وقحة إىل حد إنكار اجلرم املتلبسة به والتفلت مما يدينها مما جعل‬
‫من أي عمل خترييب تنسبه إليها ال يعدو كونه يف الظاهر ولدى الرأي العام جمرد هتمة مشكوك فيها‪ ،‬فلم يكن‬
‫إبمكان الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم واحلال هذه أن يعاقبهم أو حىت أن يعزهلم؛ ألنه سيفسر ذلك أبن النيب‬
‫يعاقب على التهمة وَيخذ ِّ‬
‫ابلظنرة وحيصد مئات الرؤوس جملرد الشك يف أهنا تتآمر على سالمة الدولة‪.‬‬
‫‪ -2‬إن املنافقني كانوا يتظاهرون ابإلسالم ويشهدون مخس مرات يف اليوم بشهادة اإلسالم‪ ،‬وإمنا حياسب الناس‬
‫حبسب أعماهلم الظاهرة‪ ،‬وهؤالء منافقون وظاهرهم املكشوف ظاهر إسالمي‪ ،‬على خالف ابطنهم فكيف‬
‫يعاقبهم؟ وقد عرف عنه صلى هللا عليه وآله وسلم أنه كان ال يتعرض ملن يظهر اإلسالم بسوء‪ ،‬ولذا جنده صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم يرفض مر ًارا وتكر ًارا عروضا من بعض أصحابه بقتل رؤوس املنافقني وقطع رقاهبم ليس إال‬
‫ألهنم يشهدون يف الظاهر بشهادة اإلسالم‪.‬‬
‫ففي تبوك حني أراد بضعة عشر منافقا أن ميكروا ابلرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ويطرحوه من عقبة يف الطريق‬
‫وعرض عليه بعض أصحابه أن يقطعوا رؤوسهم أجاهبم صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إِن أكره أن يقول الناس إن‬
‫حمم ردا ملا انقضت اْلرب بينه وبي املشركي وضع يده ِف قتل أصحابه»‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ -3‬إن ممارسة القتل اجلماعي أو الفردي جتاه أشخاص من أتباع النيب يف الظاهر حمسوبني على معسكره‪ ،‬سوف‬
‫ممتازا ملهامجة اإلسالم‪ ،‬وذريعة لتخويف الناس من الدخول يف اإلسالم؛‬
‫سالحا دعائيًا ً‬
‫يعطي ألعدائه يف اخلارج ً‬
‫حبجة أهنم لن جيدوا فيه الضماانت الكافية على حياهتم‪.‬‬
‫وقد قال صلى هللا عليه وآله وسلم لعمر بن اخلطاب معرتضا على إحلاحه عليه مبمارسة هذا األسلوب جتاه‬
‫املنافقني وذلك يف غزوة بين املصطلق عندما حاولوا إاثرة الفتنة بني املسلمني ويف غريها من املناسبات‪« :‬أتريد‬
‫أن يتحدث الناس أن حمم ردا يقتل أصحابه»(‪.)1‬‬
‫وهذا حق‪ ،‬فهم على املستوى السياسي والقانوين من أتباع حممد صلى هللا عليه وآله وسلم وما دام أي منهم مل‬
‫حمددا فإن من الصعوبة مبكان قتله أو عزله‪.‬‬
‫عمال (إجراميا) ً‬
‫ميارس ً‬
‫‪ -4‬مث إن النفاق قد ال يتخذ صفة العنف بل يظهر املنافق اإلسالم حفاظًا على مصاحله‪ ،‬أو ألسباب خاصة أخرى‬
‫مع عدم إابئه عن الدخول فيه‪ ،‬وتقبله طبيعيا له‪ ،‬فهو ال يهتم هبدم اإلسالم والكيد له‪ ،‬فتربز احلاجة –واحلالة‬
‫هذه‪ -‬إىل إعطائهم الفرصة للتعرف أكثر فأكثر على تعاليم اإلسالم وأهدافه‪ ،‬ولكي يعيشوا أجواء من الداخل‬
‫وليكتشفوا ما أمكنهم من أسرار عظمته وأصالته فتلني له قلوهبم‪ ،‬وختضع له عقوهلم‪ ،‬وال أقل من أن أبناءهم ومن‬
‫يرتبط هبم يصبح أقدر على مالمسة واقع املسلمني والتفاعل مع تعاليم اإلسالم ما دام أنه يعيشها بنفسه‪ ،‬وتقع‬
‫حتت مسعه وبصره‪.‬‬
‫وهذا ابلذات ما كان يهدف إليه اإلسالم من التألف على اإلسالم‪ ،‬وإعطاء األموال واإلقطاع وحىت بعض‬
‫املناصب والقيادات ملن عرفوا ب (املؤلفة قلوهبم) ابإلضافة إىل ما كان يهدف إليه من دفع كيدهم وشرهم‪.‬‬
‫أشر‬
‫وما تقدم يفسر لنا السبب الذي جعل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم كان يُقبل بوجهه وحديثه على ر‬
‫القوم‪ ،‬يتألفهم بذلك‪ ،‬حىت إن عمرو بن العاص ظن بنفسه أنه خري القوم‪ ،‬مث صار يسأل النيب صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم عن املفاضلة بني نفسه وغريه‪ ،‬فلما عرف أهنم أفضل منه قال‪ :‬فلوددت أين مل أكن سألته‪.‬‬
‫‪ -5‬إن سكوته صلى هللا عليه وآله وسلم عن املنافقني وقبوهلم كأعضاء يف اجملتمع اإلسالمي إمنا يريد به احملافظة‬
‫على من أسلم من أبنائهم وإخواهنم وآابئهم وأقارهبم حىت ال تنشأ املشاكل العائلية احلادة فيما بينهم‪ ،‬وال يتعرض‬
‫املسلمون منهم للعقد النفسية‪ ،‬واملشكالت االجتماعية اليت رمبا تؤثر على صمودهم واستمرارهم‪.‬‬
‫‪ -6‬وكذلك فإن اختاذ أي إجراء ضد املنافقني لرمبا كان سببا يف تقليل إقبال الناس على اإلسالم‪ ،‬وعدم وثوقهم‬
‫مبصريهم وما سوف يؤول إليه أمرهم معه فيه‪ ،‬والسيما إذا مل يستطيعوا أن يتفهموا سر ذلك اإلجراء‪ ،‬وال أن‬
‫يطلعوا على أبعاده وخلفياته‪ ،‬ولسوف َيِت أن سبب إظهار وحشي لإلسالم هو أنه كان معروفا عن النيب صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم أنه كان ال يتعرض ملن يظهر اإلسالم بشيء يسوؤه‪.‬‬
‫ظاهرا‬
‫‪ -7‬إن اختاذ أي إجراء ضد املنافقني معناه فتح جبهة جديدة كان ابإلمكان جتنبها واضطرار هؤالء الساكتني ً‬
‫جدا يعرف‬
‫‪-‬انصياعا لظروفهم‪ -‬إىل اجملاهرة ابلعداء واإلعالن ابلتحدي‪ ،‬وهم عدو داخلي كثري العدد وخطري ً‬

‫(‪ )1‬انظر البداية والنهاية‪ :‬ج‪ 4‬ص‪.158‬‬


‫‪125‬‬
‫مواضع الضعف وم واضع القوة‪ ،‬ويكون بذلك قد أعطاهم املربر لالنضمام إىل األعداء العاملني ضد اإلسالم‬
‫واملسلمني‪.‬‬
‫وواضح أن تصرفا كهذا ليس من احلكمة وال من احلنكة يف شيء؛ ألنه َيِت يف ظرف حيتاج فيه اإلسالم إىل‬
‫مجيعا يف آن واحد(‪.)1‬‬
‫متزيق أعدائه وتفريقهم حيث ال يستطيع مواجهتهم ً‬
‫واخلالصة‪ :‬إن مواجهة املنافقني ابلعنف والقتل والصراع املسلح مل تكن يف مصلحة اإلسالم واملسلمني‬
‫ولذلك فلم يلجأ النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إىل هذا األسلوب‪.‬‬
‫اندرا يف اتريخ الدعوات؛ فقد تتبع النيب صلى هللا عليه وآله وسلم خطط املنافقني‬
‫وكان بديل هذا األسلوب شيئا ً‬
‫وختريبهم بيقظة كاملة‪ ،‬ومل حيدد أسلواب (اثبتا) يف جماهبة مواقفهم (املتلونة)‪.‬‬
‫متاما وحجم احملاولة التخريبية‪ ،‬وتكبتها قبل أن أتِت بثمارها‬
‫وإمنا راح يضع لكل حالة إجراء أو خطة تتناسب ً‬
‫املرة‪ ،‬وقبل أن تزرع شوكها يف طريق الدعوة‪.‬‬
‫فنجده صلى هللا عليه وآله وسلم أثناء التجهز لتبوك عندما علم ابجتماع املنافقني يف بيت أحد اليهود ليثبطوا‬
‫الناس عن اخلروج يتخذ إجراء فوراي حبقهم فيأمر حبرق الدار عليهم‪.‬‬
‫ويف أعقاب تبوك يف حادثة (مسجد الضرار) جنده أيضا يتخذ إجراء عمليًا ضد املنافقني فيأمر هبدم مسجد‬
‫الضرار وإحراقه‪.‬‬
‫ويف أعقاب تبوك أيضا يتخذ النيب صلى هللا عليه وآله وسلم موقفا حبق املنافقني املتخلفني عن الغزوة فيأمر بعزهلم‬
‫اجتماعيا وعدم الصالة عليهم وعدم إشراكهم يف اجلهاد بعدما نزل القرآن بذلك(‪.)2‬‬
‫ويف موقف آخر جنده صلى هللا عليه وآله وسلم يفضحهم‪ ،‬ويكشف عن حقيقتهم‪ ،‬وينبه الصحابة إىل خططهم‬
‫ومؤامراهتم‪ ،‬وحيذر الناس منهم‪ ،‬ويذكر أفعاهلم وأوصافهم‪.‬‬
‫وكان هذا بطبيعته ميثل حصانة ومناعة للمسلمني ضد النفاق واملنافقني ومكائدهم وإفشاال لكل خمططاهتم‬
‫ومؤامراهتم‪.‬‬
‫ومن وراء الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم كانت آايت القرآن الكرمي تتنزل من هللا الذي ال خيفى عليه شيء يف‬
‫األرض وال يف السماء‪ ،‬حمللة التكوين النفسي للمنافقني مشخصة مناذج منهم نكاد نلمسها أبيدينا وهي تتلى علينا‬
‫فاضحة خططهم اللئيمة قبل أن تقع‪ ،‬منددة أبساليبهم‪ ،‬مظهرة أفعاهلم‪ ،‬انقلة أقواهلم‪ ،‬مبينة أوصافهم بدقة‪ ،‬صابة‬
‫عليهم غضبها املخيف يف أعقاب أية حماولة يستهدفون من ورائها فتنة أو خديعة أو مكرا(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬راجع يف النقاط املتقدمة‪ :‬الصحيح من سرية صلى هللا عليه وآله وسلم ج‪6‬ص‪.127 -126‬‬
‫(‪ )2‬راجع سورة التوبة اآلايت ‪.85 -84 -83 /‬‬
‫(‪ )3‬حول صفات املنافقني وأقواهلم راجع‪ :‬سورة البقرة اآلايت‪ .206 -204 ،16 ،8 :‬سورة النساء اآلايت‪،138 ،137 :‬‬
‫‪ .146 ،145 ،143 ،142‬سورة التوبة اآلايت‪،98 ،97 ،85 ،84 ،77 ،73 ،68 ،67 ،61 ،62 ،57 ،56 :‬‬
‫‪126‬‬
‫وهكذا مضت املراحل األخرية من حياة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم واإلسالم يزداد قوة ومنعة وانتشا ًرا‬
‫وزعماء القبائل العربية ينهالون على املدينة معلنني إسالمهم أمام رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ومل جيد املنافقون‬
‫منفذا يتسللون منه لتسديد ضربة مؤذية أو تنفيذ خمطط خترييب جديد‪ ،‬السيما وأن زعيمهم عبد هللا بن أيب كان قد‬
‫تويف يف أواخر السنة التاسعة وكانت اآلايت القرآنية يف سورة التوبة قد نزلت أخريا تندد مبا فعل ويفعل أولئك‬
‫املنافقون ومتزق بشكل هنائي األستار اليت يتوارون خلفها‪ ،‬وكانت أالعيبهم قبل تبوك وبعدها هي النهاية احلامسة‬
‫طويال ومل يقدروها حق قدرها حيث أ ُِّمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم بعد ذلك‬
‫للسماحة اليت أبداها الرسول معهم ً‬
‫أن يُعلن على الناس ذبذبتهم وكيدهم وُكلف أال يقبل منهم وال يصلي عليهم‪ ،‬بل اعلم أن استغفاره هلم لن جياب‪،‬‬
‫مث طُولب املسلمون كافة أن يقاطعوهم‪.‬‬
‫إال أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ما إن تويف حىت وجد املنافقون فرصتهم الساحنة هذه املرة حلرف خالفة‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم عن مسارها احلقيقي الذي كان قد أعد له صلى هللا عليه وآله وسلم يف حياته‪ ،‬وتغيري‬
‫جمرى التاريخ اإلسالمي إىل غري وجهته‪ ،‬فإان هلل وإان إليه راجعون‪.‬‬

‫‪ .101‬سورة حممد اآليتان‪ .30 ،29 :‬سورة احلديد اآليتان‪ .14 ،13 :‬سورة املنافقني اآليتان‪( .8 ،1 :‬وحول مواقفهم‬
‫الكيدية والساخرة راجع سورة النساء اآلايت‪ .141 ،140 ،139 ،138 ،61 ،60 :‬سورة التوبة اآلايت‪،61 ،58 :‬‬
‫‪ .127 ،124 ،110 ،107 ،80 ،79 ،65 ،64‬سورة اجملادلة اآلايت‪ ،6 ،14 ،10 ،8 :‬سورة البقرة اآليتان‪،11 :‬‬
‫‪ .14‬سورة األنفال اآلية‪ .49 :‬سورة النور اآليتان‪ .63 ،62 :‬سورة األحزاب اآلايت‪ .71 ،69 ،61 ،57 :‬سورة حممد‬
‫اآلايت‪ .26 ،25 ،16 :‬سورة املائدة اآليتان‪.53 ،50 :‬‬
‫وحول مواقفهم من اجلهاد ووقائعه راجع سورة آل عمران اآلايت‪ .168 ،166 ،156 :‬سورة النساء اآلايت‪،73 ،71 :‬‬
‫‪ .81 ،77‬سورة التوبة اآلايت‪.96 ،93 ،90 ،87 ،86 ،83 ،81 ،53 ،50 ،49 ،42 :‬‬
‫‪127‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫أخالقه صلى هللا عليه وآله وسلم في أسرته‪1-‬‬

‫عالقة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم بنسائه‪:‬‬

‫كما كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم مثال أعلى يف شىت ألوان تعامله وأمناط سلوكه‪ ،‬كان كذلك يف‬
‫عالقاته أبزواجه كي يكون قدوة ألمته يف كل شأن من شؤوهنا يف احلياة كما يشاء هللا تعاىل‪:‬‬
‫وهذه بعض أساليب تعامله مع أزواجه‪:‬‬
‫‪ -1‬التزام العدل الكامل يف معاملتهن يف‪ :‬النفقة واملسكن وامللبس واملبيت والزايرات والوقت فبالرغم من أنه صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم كانت يف أزواجه الشابة واجلميلة واملسنة والعادية يف مجاهلا‪ ،‬لكن ذلك ال يصرفه حبال عن‬
‫التزام أعلى درجات الكمال يف العدل بينهن فال تفضيل لواحدة على أخرى‪.‬‬
‫لقد خصص لكل واحدة منهن ليلة‪ ،‬وكان إذا زار إحداهن زار اجلميع بعد ذلك‪ ،‬وإن عزم على سفر من‬
‫اختيارا‬
‫ً‬ ‫أجل جهاد أو حج أقرع بني نسائه فيصحب من تفوز بقرعته حىت ال يؤذي قلوهبن إن اختار واحدة‬
‫من عنده‪.‬‬
‫‪ -2‬مداراته ألزواجه ورعايتهن ابلرفق واحلب‪ :‬فمن مظاهر ذلك مسامرهتن يف الليل والتداول معهن يف بعض‬
‫الشؤون وعدم إيذاء واحدة منهن أبدا‪.‬‬
‫فبالرغم من كثرة مضايقات بعض نساء النيب صلى هللا عليه وآله وسلم له فإن ذلك مل يصرفه عن التزام الرفق‬
‫أحياان أو يبدو منه‬
‫والشفقة والعدل يف معاملتهن حىت إنه مل يضرب واحدة منهن طوال حياته‪ ،‬وإن كان يوخبهن ً‬
‫الغضب ملواقفهن غري املرضية‪ ،‬وإىل هذا أشارت عائشة بقوهلا‪ :‬ما ضرب النيب صلى هللا عليه وآله وسلم امرأة قط‬
‫خادما(‪.)1‬‬
‫وال ضرب ً‬
‫ومن أخالقه صلى هللا عليه وآله وسلم يف إطار بيته أنه ال َينف أبدا من مساعدة زوجاته سواء فيما يتعلق‬
‫ابلشؤون اخلاصة به أو ما يتعلق هبن‪.‬‬
‫وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬خيكم خيكم لنسائه وأَن خيكم لنسائي»‪« ،‬خيكم خيكم ْلهله‬
‫وأَن خيكم ْلهلي»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬األصبهاين‪ :‬أخالق النيب‪ :‬ص‪. 35‬‬


‫(‪ )2‬العاملي‪ ،‬الوسائل‪ :‬ج‪7‬ص‪.122‬‬
‫‪128‬‬
‫‪ -3‬ومن حسن سرية املصطفى صلى هللا عليه وآله وسلم مع أزواجه‪ :‬أنه كان يتجمل لنسائه ويهتم مبالطفتهن‬
‫ويرضي عواطفهن‪.‬‬
‫فقد روي‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يطلب ال ِّطريب يف مجيع رابع (حجرات) نسائه(‪.)1‬‬
‫وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يوصي الوصية تلو الوصية ابملرأة‪ ،‬ويرشد إىل طريقة مثلى للتعامل‬
‫معها‪ .‬فعن علي عليه السالم أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خطب يوم النحر مبىن من حجة الوداع‬
‫خيا» إىل أن قال‪« :‬وَلن عليكم من اْلق نفقتهن وكسوَتن ِبملعروف» (‪.)2‬‬
‫فقال‪« :‬استوصوا ِبلنساء ر‬
‫ومن انفلة القول أن نذكر هنا أن من سرية املصطفى صلى هللا عليه وآله وسلم مع أزواجه أنه كان حيرص على‬
‫هتذيب أخالقهن ابخللق اإلسالمي الكرمي‪ ،‬ويعمل على توجيههن الوجهة السليمة‪.‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬األصبهاين أخالق النيب ‪ /‬ص‪.104‬‬


‫(‪ )2‬شفاء األوام ج‪ 2‬ص ‪ 327‬املكتبة الشاملة‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫(‪ )21‬حجة الوداع‬

‫عندما حان موعد احلج من العام العاشر للهجرة أعلن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أنه سيحج بنفسه يف‬
‫الناس هذا املوسم‪ ،‬فاجتمع إليه الناس من كل مكان‪ ،‬مث ما لبث أن غادر املدينة يف اخلامس والعشرين من ذي‬
‫القعدة مصطحبا معه نساءه وابنته فاطمة الزهراء عليها السالم‪.‬‬
‫وبدأت مراسيم احلج فانطلق آالف املسلمني يؤدون مناسكهم كما بينها هلم رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫شامال يف عرفة أكد فيه القيم‬
‫خطااب ً‬ ‫ً‬ ‫ورأى صلى هللا عليه وآله وسلم أن يستفيد من هذا التجمع الكبري فألقى‬
‫والتعاليم اليت بُعث من أجلها‪.‬‬

‫بيعة غدير خم‬


‫ملا أمت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حجه خرج من مكة متجها إىل املدينة ومعه تلك الوفود اليت مل‬
‫نظريا يف اترخيها آنذاك‪ ،‬وذلك يف السنة العاشرة من اهلجرة النبوية‪ .‬وملا انتهى إىل مكان قريب من‬ ‫تشهد هلا مكة ً‬
‫اجلُ رحفة يقال له (غدير خم) وقبل أن يتفرق الناس كل إىل انحيته نزل يف ذلك املكان يف الصحراء‪ ،‬وكان يوما‬
‫ك يم ْن َربيِ َ‬
‫ك َوإي ْن ََلْ تَ ْف َع ْل فَ َما‬ ‫ول بَليِ ْغ َما أُنْ يز َل إيل َْي َ‬
‫الر ُس ُ‬
‫قائظًا شديد احلرارة بعد أن نزل عليه قوله تعاىل‪ََّ ﴿ :‬يأَيُّ َها َّ‬
‫َّاس﴾ [الم‪:‬ئدة‪ ]67 :‬فأمر صلى هللا عليه وآله وسلم بدوحات ف ُق َّم ما حتتهن‬ ‫ك يم َن الن ي‬ ‫ت يرسالَتَهُ وهللا ي ْع ي‬
‫ص ُم َ‬ ‫بَلَّ ْغ َ َ َ ُ َ‬
‫من الشوك‪ ،‬ومجعت له أقتاب اإلبل ووقف عليها حىت يراه الناس ويسمعوه فحمد هللا وأثىن عليه مث قال‪« :‬كأِن‬
‫فأجبت إِن َترك فيكم الثقلي كتاب هللا وعُّتِت أهل بييت فانظروا كيف َّتلفوِن فيهما‪ ،‬فإهنما لن‬
‫عيت َ‬
‫ُد ُ‬
‫يفُّتقا حىت يردا علي اْلوض»‪ ،‬مث قال‪« :‬أيها الناس ! إن هللا موَلي وأَن موىل املؤمني وأَن أوىل ِبملؤمني‬
‫من أنفسهم»‪ ،‬مث أخذ بيد علي عليه السالم ‪ -‬وهو جبواره على تلك األقتاب‪ -‬وقال‪« :‬فمن كنت موَله فهذا‬
‫علي موَله‪ ،‬اللهم وال من واَله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وانصر من نصره‪ ،‬واخذل من خذله»‪ .‬وأضاف الراوي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قلت لزيد بن أرقم‪ :‬أنت مسعته من رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم؛ فقال‪ :‬ما كان يف الدوحات أحد إال رآه‬
‫بعينيه ومسعه أبذنيه(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬حديث الغدير روي أبلفاظ كثرية وهو متواتر‪ ،‬وقد ذكره السيوطي يف األحاديث املتواترة ‪ .100/37‬وقال الذهيب يف سري أعالم‬
‫النبالء‪ :415/5‬احلديث اثبت بال ريب‪ ،‬وقال يف ‪ :334/8‬متنه متواتر‪ .‬وقال الذهيب يف تذكرة احلفاظ‪ 713/2‬يف ترمجة‬
‫حممد بن جرير الطربي‪ :‬وملا بلغ ابن جرير أن ابن أيب داود تكلم يف حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل‪ ،‬وتكلم على‬
‫جملدا من طرق احلديث البن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق‪ .‬قال السيد اهلادي‬ ‫أيت ً‬
‫الذهيب‪ :‬ر ُ‬
‫ُّ‬ ‫تصحيح احلديث‪ ،‬قال‬
‫بن إبراهيم الوزير يف هناية التنويه ص ‪ : 92‬هذا اخلرب قد بلغ حد التواتر‪ ،‬وليس خلرب من األخبار ما له من كثرة الطرق‪ ،‬وطرقه‬
‫مائة ومخس طرق‪ ،‬ويف هذا زايدة على احلد املعترب يف التواتر‪ .‬قال حممد بن جرير الطربي‪ :‬خرب الغدير طرقه من مخس وسبعني‬
‫أيضا‪ .‬قال املقبلي يف األحباث‬
‫طري ًقا‪ ،‬وله كتاب مساه الوالية‪ ،‬وقال ابن عقدة‪ :‬خرب الغدير له مائة ومخس طرق وقد أفرد له كتااب ً‬
‫‪130‬‬
‫وجاء يف رواية‪ :‬أن عمر بن اخلطاب لقي عليا عليه السالم بعد أن فرغ صلى هللا عليه وآله وسلم من خطابه‬
‫وقال له‪ :‬هنيئا لك اي ابن أيب طالب لقد أصبحت وأمسيت موىل كل مؤمن ومؤمنة(‪.)1‬‬
‫وبعد أن أخذ صلى هللا عليه وآله وسلم بيد علي عليه السالم وقال‪« :‬من كنت موَله فهذا علي موَله» أنزل‬
‫اْل ْس َل َم يدينرا﴾ [الم‪:‬ئدة‪.]3 :‬‬
‫يت لَ ُك ُم ْي‬
‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم يدينَ ُك ْم َوأ َُْتَ ْم ُ‬
‫ت َعلَْي ُكم ني ْعم ييت ور ي‬ ‫هللا على نبيه‪﴿ :‬الْيَ ْوَم أَ ْك َمل ُ‬
‫وروي أن عمر بن اخلطاب قال له يوم ذاك‪ :‬بَ ٍّخ بَ ٍّخ لك اي علي أصبحت موالي وموىل كل مؤمن ومؤمنة‪.‬‬
‫وجاءه حسان بن اثبت يستأذنه أن يصف موقفه من علي يف ذلك اليوم فأذن له فوقف على مرتفع من األرض‬
‫وتطاول املسلمون لسماع كالمه فأنشأ يقول‪:‬‬
‫مناداي‬ ‫ابلنيب‬ ‫و رِّ‬
‫أمس رع‬ ‫خبم‬ ‫نبيهم‬ ‫الغدير‬ ‫يوم‬ ‫يناديهم‬
‫ُ‬
‫فقالوا ومل يبدوا هناك التعاميا‬ ‫وقال فمن موالكم ووليكم‬

‫ولن جتد رن منا لك اليوم عاصيا‬ ‫ولينا‬ ‫وأنت‬ ‫موالان‬ ‫إهلك‬

‫وهاداي‬
‫ً‬ ‫إماما‬
‫رضيتك من بعدي ً‬ ‫فقال له قم اي علي فإنين‬

‫فكونوا له أنصار صدق َمواليا‬ ‫فمن كنت مواله فهذا وليه‬

‫وكن للذي عادى عليًا معاداي‬ ‫هناك دعا اللهم وال وليه‬

‫فقال له صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬ال تزال اي حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك(‪.)2‬‬
‫وهكذا مارس الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ما من شأنه أن حيفظ الرسالة ومستقبل اإلسالم‪.‬‬

‫جيش أسامة‬

‫معلوما‪ ،‬وإال فما يف الدنيا معلوم! قال ابن حجر يف فتح‬


‫املسددة ص ‪ 244‬بعد ذكر رواته‪ :‬وهو متواتر‪ ،‬فإن كان مثل هذا ً‬
‫الباري ‪ :74/7‬وهو كثري الطرق ِّجدًّا‪ ،‬وقد استوعبها ابن عقدة يف كتاب مفرد‪ ،‬وكثري من أسانيدها صحاح وحسان‪ .‬فأخرجه‬
‫أمحد بن حنبل ‪ 182‬رقم‪ ،6410‬وقد تكرر‪ ،،‬والرتمذي ‪ 591/5‬رقم ‪ ،3713‬والنسائي يف اخلصائص ص ‪ 91-89‬رقم‬
‫‪ ،85-82‬واحلاكم ‪ ،109 ،533/3‬والطرباين يف الكبري ‪ 179/3‬رقم ‪ ،3049‬واألوسط ‪ 275/2‬رقم ‪ ،1966‬واحلاكم‬
‫‪ ،371/3‬وكتاب السنة البن أيب عاصم ص‪ 607‬رقم ‪ ،1368 -1360‬وخمتصر الزوائد ‪ 302/2‬رقم ‪،1602 ،1901‬‬
‫وابن أيب شيبة ‪ ،368/6‬ومسند البزار ‪ 211/ 10‬رقم ‪ 4298‬و ‪.4299‬‬
‫(‪ )1‬فضائل الصحابة ‪ 738/2‬رقم ‪ ،1016‬و‪ 755/2‬رقم ‪ ،1042‬وأمحد ‪ 401/6‬رقم ‪ ،18506‬وذخائر العقىب ‪.67‬‬
‫(‪ )2‬روي يف كنز العمال برقم ‪ :36956‬بلفظ‪« :‬وأنت اي حسان مل تزل مؤيدا بروح القدس ما انفحت‪ ،‬وىف لفظ‪ :‬ما كافحت عن‬
‫رسول هللا»‪ ،‬وهو يف اتريخ ابن عساكر ‪.392/12‬‬
‫‪131‬‬
‫مل يطل ابملسلمني املقام بعد رجوعهم من حجة الوداع حىت أمر صلى هللا عليه وآله وسلم بتجهيز جيش لعله من‬
‫أكرب اجليوش اليت عرفتها املدينة من قبل؛ بدليل أنه حشد يف ذلك اجليش وجوه املهاجرين كأيب بكر‪ ،‬وعمر‪،‬‬
‫وعثمان‪ ،‬وغريهم من املهاجرين واألنصار كما تنص على ذلك املؤلفات يف السرية والتاريخ‪ ،‬و رأمر على ذلك اجليش‬
‫أسامة بن زيد بن حارثة وهو يوم ذاك يف مطلع شبابه‪ ،‬ال يتجاوز العشرين من عمره‪ ،‬مما دعا إىل دهشة كبار‬
‫الصحابة واستيائهم من أتمريه عليهم‪ ،‬وتثاقلوا يف تنفيذ أوامره ابلرغم من أتكيداته املتتالية على تسريح اجليش بقيادته‪.‬‬
‫واضطر صلى هللا عليه وآله وسلم أن خيرج إىل الناس وحيثهم على اخلروج واجلهاد بقيادة أسامة‪ ،‬وبدا عليه االنزعاج‬
‫والتصلب حينما طالبوه أبن يويل عليهم غريه‪ ،‬وقال هلم‪« :‬لعمري لئن قلتم ِف إمارته اليوم فلقد قلتم ِف إمارة أبيه‬
‫من قبله‪ ،‬وإنه خلليق ِبْلمارة كما كان أبوه خليقا هبا من قبل»(‪.)1‬‬
‫وكان من مجلة الدوافع اليت دعت النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إىل التصميم على إرسال هذا اجليش أن الدولة‬
‫الرومانية جعلت تطارد وتقتل كل من دخل يف اإلسالم من رعاايها‪ ،‬ومن بني الذين قتلتهم بسبب اعتناقهم اإلسالم‬
‫فروة بن عمرو اجلذامي‪ ،‬وكان واليا على معان وما حوهلا من أرض الشام‪.‬‬
‫ومهما تكن األسباب الداعية لتجهيز ذلك اجليش؛ فقد أمر صلى هللا عليه وآله وسلم أسامة أن يوطئ اخليل‬
‫ختوم البلقاء والداروم من أرض فلسطني على مقربة من مؤتة حيث قُتل والده وأن ينزل على أعداء هللا وأعدائه يف‬
‫يدا‪ ،‬وأن يتم ذلك أبقصى سرعة قبل أن تصل أخباره إليهم‪.‬‬
‫عماية الصبح وميعن فيهم قتال وتشر ً‬
‫وخرج أسامة ابجليش إىل اجلرف على مقربة من املدينة وعسكر فيه ريثما يتم جتهيزه‪ ،‬وخالل ذلك بدأ صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم حيس بدنو أجله وبدأ املرض يشتد عليه‪ ،‬فبدأت حماوالت لعدم حترك اجليش من مكانه وخباصة بعد‬
‫خطرا على حياته‪.‬‬
‫أن أحسوا أن مرض النيب يزداد من وقت آلخر ويشكل ً‬
‫وقال املؤرخون‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم استبطأ الناس يف بعث أسامة وأخذ الوجع يشتد به فخرج‬
‫عاصبًا رأسه وجعل حيثهم على اخلروج مث قال‪« :‬أيها الناس إِن أوشك أن أدعى فأجيب وإِن َترك فيكم الثقلي‬
‫كتاب هللا وعُّتِت كتاب هللا حبل ممدود من السماء إىل اْلرض وعُّتِت أهل بييت وإن اللطيف اخلبي أخربِن أهنما‬
‫لن يفُّتقا حىت يردا علي اْلوض فانظروا كيف َّتلفوِن فيهما‪.‬‬
‫كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوِن ِف كتيبة كمجر السيل‬ ‫أيها الناس َل ألفينكم ترجعون بعدي ر‬
‫اْلرار‪ ،‬أَل وإن علي بن أيب طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على َتويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (‪)2‬‬

‫(‪ )1‬البخاري رقم ‪ ،4199‬وفتح الباري ‪ ،152/8‬وابن سعد ‪ ،248/2‬والطربي ‪.186/3‬‬


‫(‪ )2‬احلديث بلفظه يف اإلرشاد للشيخ املفيد ‪ .96/‬وأخرج احلاكم ‪ 122/3‬عن أيب سعيد‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫قليال‪ ،‬مث قال‪ :‬إِّ َّن مرن ُك رم َم رن يُ َقات ُل على أتويل القرآن كما ُ‬
‫قاتلت‬ ‫وآله وسلم فانقطعت نعله‪ ،‬فتخلف علي خيصفها‪ ،‬فمشى ً‬
‫على تنزيله‪ ،‬فاستشرف هلا القوم‪ ،‬وفيهم أبو بكر وعمر‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬أان‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال عمر‪ :‬أان هو‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن خاصف‬
‫النعل‪ ،‬فأتيناه فبشرانه إىل آخر احلديث‪ .‬قال احلاكم‪ ،‬ووافقه الذهيب‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخني‪ .‬وينظر خصائص‬
‫النسائي ‪ 134‬برقم‪ ،152‬وحلية األولياء ‪ 108/1‬برقم ‪ ،209‬وابن حبان ‪ 385/15‬برقم ‪ ،6937‬واتريخ دمشق‬
‫‪132‬‬
‫ومضى حيث الناس على اخلروج بقوله‪« :‬أنفذوا جيش أسامة؛ َل يتخلِف عن بعثه إَل عاص هلل ولرسوله‪»...‬‬
‫اخلرب بطوله(‪.)1‬‬
‫أصر حىت النفس‬
‫والسؤال الذي يطرح هنا‪ :‬هو أن النيب ما دام يعلم بدنو أجله وبوفاته بعد أايم قليلة؛ فلماذا ر‬
‫األخري على تسريح جيش أسامة وانضمام كبار الصحابة إىل هذا اجليش وترك علي عليه السالم يف املدينة؟‬
‫واجلواب‪ :‬أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أراد بذلك أن يهيئ الظروف املناسبة لتسلُّم علي عليه السالم‬
‫للخالفة من بعده وإبعاد كل العناصر املناوئة عند وفاته صلى هللا عليه وآله وسلم عن املدينة؛ لئال يطمعوا يف اخلالفة‬
‫وحيولوا دون تنفيذ وصيته يف استخالف علي عليه السالم ؛ ولذلك مل جيعل أمري املؤمنني عليه السالم يف ذلك اجليش‬
‫وجعل فيه أاب بكر وعمر وغريمها؛ ليتم له األمر بدون منازع(‪.)2‬‬

‫الوصية األخيرة‬
‫اشتد املرض ابلنيب صلى هللا عليه وآله وسلم فمكث ثالثة أايم موعوًكا‪ ،‬مث خرج إىل املسجد معصوب الرأس‬
‫معتمدا على أمري املؤمنني عليه السالم وعلى الفضل بن العباس حىت صعد املنرب فجلس عليه مث قال‪« :‬معاشر‬
‫الناس قد حان مّن خفوق من بي أظهركم فمن كان له عندي يع َدة فليأتّن أعطه إَّيها‪ ،‬ومن كان له علي دين‬
‫فليخربِن به‪ ،‬معاشر الناس ليس بي هللا وبي أحد شيء يعطيه به خيا أو يصرف به عنه شرا إَل العمل‪.‬‬
‫أيها الناس َل ي ِدعي مدع وَل يتمَن متمن والذي بعثّن ِبْلق َل ينجي إَل عمل مع رمحة ولو عصيت َلويت‪،‬‬
‫اللهم هل بلغت»‪.‬‬
‫مث نزل فصلى ابلناس صالة خفيفة ودخل بيته‪.‬‬
‫وجاء بالل واملرض قد اشتد به عند طلوع الفجر فنادى للصالة فقام صلى هللا عليه وآله وسلم وهو ال يستقل‬
‫على األرض من الضعف؛ فأخذ بيد علي عليه السالم والفضل بن العباس فاعتمد عليهما ورجاله ختطان األرض‬
‫من الضعف فلما دخل املسجد وجد أاب بكر قد سبق إىل احملراب فأومأ إليه أن أتخر عنه‪ ،‬فتأخر وقام صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم مقامه وابتدأ الصالة‪.‬‬
‫فلما انتهى انصرف إىل منزله واستدعى أاب بكر وعمر ومجاعة ممن حضر املسجد من املسلمني مث قال‪« :‬أَل آمر‬
‫فلم َتخرمت عن أمري»؟ فقال أبو بكر‪ :‬إنين كنت‬
‫أن تنفذوا جيش أسامة»؟ قالوا‪ :‬بلى اي رسول هللا قال‪َ « :‬‬
‫عهدا‪.‬‬
‫خرجت مث عدت ألجدد بك ً‬

‫‪ ،455-451/42‬ومسند أمحد ‪ 67/4‬برقم ‪ 163 ،11288‬برقم ‪ ،11773‬وابن أيب شيبة ‪ 367/6‬برقم ‪،32082‬‬
‫ومسند أيب يعلى ‪ 341/2‬رقم‪ ،1086‬وسنن النسائي الكربى ‪ 154/5‬رقم‪ ،8541‬والغدير لألميين ‪..366/5‬‬
‫(‪ )1‬لوامع األنوار ‪ ،610 /2‬واملصابيح يف السرية ص ‪.248‬‬
‫(‪ )2‬عيون األثر ‪ ،369/2‬وابن هشام ‪ ،299 ،291/4‬واتريخ اإلسالم (املغازي) ص ‪ ،713‬وأسد الغابة ‪ ،194/1‬واالستيعاب‬
‫‪.170/1‬‬
‫‪133‬‬
‫وقال عمر‪ :‬اي رسول هللا مل أخرج ألنين مل أحب أن أسأل عنك الركب؛ فقال صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬أنفذوا‬
‫جيش أسامة‪ ،‬أنفذوا جيش أسامة» وكرر ذلك ثال ًاث مث أغمي عليه من التعب ومما حلقه من األذى لتجاهلهم‬
‫أوامره‪.‬‬

‫ومكث فرتة من الزمن مغمى عليه؛ فبكى املسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وابنته صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫ونساء املؤمنني ومجيع من حضر‪.‬‬
‫وملا أفاق نظر إليهم وقال‪« :‬ائتوِن بدواة وكتف ْلكتب لكم كتاِب َل تضلوا بعده أب ردا» مث أغمي عليه‪ ،‬فقام‬
‫بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا؛ فقال له عمر‪ :‬ارجع فإنه يَ ره ُجر‪ ،‬فرجع‪ ،‬فلما أفاق قال بعضهم‪ :‬أال أنتيك‬
‫خيا» وأعرض بوجهه عن‬
‫بكتف اي رسول هللا ودواة؟ قال‪« :‬أبعد الذي قلتم!! َل‪ ،‬ولكّن أوصيكم ِبهل بييت ر‬
‫القوم فنهضوا (‪.)1‬‬
‫أتكيدا ملا صرح ولوح به مر ًارا من قبل خبصوص‬
‫وواضح أن الكتاب الذي أراد أن يكتبه ال يعدو أن يكون ً‬
‫استخالف علي عليه السالم والوصية أبهل بيته‪.‬‬
‫كتااب‬
‫وكان صلى هللا عليه وآله وسلم يعلم أبنه ال قيمة لكتابه عند هؤالء بعد الذي قالوا بل لو كتب هلم عشرين ً‬
‫حيورون ويؤولون مضامينها مبا يتفق مع مصاحلهم‪ ،‬وقد يذهبون إىل أبعد من ذلك‪ ،‬وهذا هو الذي دعاه صلى‬ ‫سوف رِّ‬
‫هللا عليه وآله وسلم إىل عدم الكتابة حينما أفاق‪.‬‬

‫وفاة النبي صلى هللا عليه وآله وسلم‬


‫وحجب الناس عنه وكان علي عليه‬‫اشتدت وطأة املرض على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يف اليوم التايل ُ‬
‫السالم ال يفارقه إال لضرورة؛ فلما حضره املوت كان من مجلة ما قاله له‪ ..« :‬وجهين إىل القبلة وتول أمري‪ ،‬وصل‬
‫علي أول الناس‪ ،‬وال تفارقين حىت تواريين يف رمسي واستعن ابهلل تعاىل‪ ،‬فأخذ علي عليه السالم رأسه ووضعه يف‬
‫حجره ففاضت نفسه الشريفة وهو إىل صدره عليه السالم (‪ .)2‬وكانت وفاته صلى هللا عليه وآله وسلم يوم اإلثنني؛‬
‫ع َو ُحم يوم األربعاء‪ .‬وقيل‪ :‬إنه‬
‫ص رد َ‬
‫الثنيت عشرة مضت من ربيع األول؛ فاشتكى ثالثة عشر يوما بدئ الوجع فيه فَ ُ‬

‫(‪ )1‬البخاري ‪ ،4169‬وفتح الباري ‪ 132/8‬رقم ‪ ،4432‬والطرباين يف الكبري ‪ ،1226/11‬ومسند ابن حنبل ‪ ،437/4‬وكنز‬
‫العمال ‪.554/11‬‬
‫(‪ )2‬الرواية بلفظها يف األنوار البهية‪ ،‬للشيخ عباس القمي ص ‪ ،32‬ومبعناها يف طبقات ابن سعد ‪ ،263/2‬ومصنف ابن أيب شيبة‬
‫‪ 365/6‬رقم ‪.29066‬‬
‫‪134‬‬
‫تويف لليلتني بقيتا من صفر سنة ‪ 11‬للهجرة‪ ،‬وهو ابن ثالث وستني سنة‪ ،‬ومل حيضر دفن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم أكثر الناس؛ ملا جرى بني املهاجرين واألنصار من التشاجر يف أمر اخلالفة(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬طبقات ابن سعد ‪ ،272 /2‬والبداية والنهاية ‪ ،257/5‬وأتريخ خليفة ‪ ،96‬وسرية ابن كثري ‪ ،507/4‬والطربي ‪،217/3‬‬
‫ابن هشام ‪ ،302/4‬ومروج الذهب ‪ ،219/2‬واتريخ اخلميس ‪.166‬‬
‫‪135‬‬
‫للمطالعة‪ :‬وإنك لعلى خلق عظيم‬

‫أخالقه صلى هللا عليه وآله وسلم في أسرته‪2-‬‬

‫األب المثالي‪:‬‬

‫كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يعامل أوالده (فاطمة واحلسن واحلسني عليهم السالم ) بكل عطف‬
‫وحمبة ورفق ولني‪ ،‬وروي أنه صلى هللا عليه وآله وسلم رأى احلسن واحلسني ميشيان فحملهما‪ ،‬مث التفت إىل‬
‫أصحابه‪ ،‬وقال‪« :‬أوَلدَن أكبادَن ُتشي على اْلرض»(‪ )1‬وكان يسعى يف تربيتهم وتعليمهم آداب اإلسالم‪.‬‬
‫فقد روي أن فاطمة عليها السالم كانت إذا جاء إليها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لقيته وقبرل كل‬
‫واحد منهم صاحبه وجلسا معا‪.‬‬
‫وكان يقول صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬فاطمة مّن‪ ،‬يريبّن ما يريبها‪ ،‬ويؤذيّن ما يؤذيها»(‪.)2‬وقال صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إن هللا ليغضب لغضبك َّي فاطمة»(‪.)3‬‬
‫وكان احلسن واحلسني عليها السالم ومها صغريان يعلوان ظهر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم وهو ساجد‬
‫يصلي فكان يطيل سجوده حىت ينزال عن ظهره أو ينزهلما برفق‪.‬‬
‫وروي عن ابن مسعود أنه قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يصلي‪ ،‬فإذا سجد وثب احلسن‬
‫حج ِّرِّه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ومهَا؛ فَلَ َّما انصرف من صالته وضعهما يف ر‬
‫واحلسني على ظهره! فإذا أرادوا َمرن َع ُه َما أشار إليهم‪َ :‬دعُ ُ‬
‫َحبَّيّن فَ لْيُ يح َّ‬
‫ب َه َذيْ ين»(‪.)4‬‬ ‫« َم ْن أ َ‬
‫وعن بريدة قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم خيطب على املنرب فجاء احلسن واحلسني ‹عليهما‬
‫السالم› وعليهما قميصان أمحران ميشيان ويعثران فنزل رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من املنرب فحملهما‬

‫(‪ )1‬تنبيه الغافلني عن فضائل الطالبني ص ‪.148‬‬


‫(‪ )2‬البخاري ‪ 2004/4‬رقم ‪ ،4932‬والرتمذي ‪ 655/5‬رقم ‪ ،3867‬ويف أسد الغابة ‪ ،219/2‬عن علي عليه السلم أن‬
‫ض ِّ‬ ‫ك وي ر ِّ‬ ‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم قال لفاطمة‪« :‬إِّ َّن هللا ي غرض ِّ‬
‫اك»‪.‬‬ ‫ضبِّ ِّ َ َ ر َ‬
‫ضى ل ِّر َ‬ ‫ب لغَ َ‬
‫ََ َ ُ‬
‫(‪ )3‬أسد الغابة ‪ ،219/7‬واإلصابة ‪ ،366/4‬و احلاكم ‪ 154/3‬وصححه‪ ،‬وصحيفة الرضى‪ ،459‬وكفاية الطالب ‪.364‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه الطرباين يف الكبري ‪ 47 /3‬رقم ‪ ،2644‬والبيهقي ‪ ،263 /2‬وابن خزمية ‪ 48 /2‬رقم ‪ ،887‬وجممع الزوائد ‪،179 /9‬‬
‫وقال‪ :‬رجاله ثقات‪ ،‬والبزار ‪ 339 /2‬رقم ‪ ،1978‬والطرباين يف األوسط ‪ 102 /5‬رقم ‪.4895‬‬
‫‪136‬‬
‫الصبييَّ ْ ي‬
‫ي‬ ‫ص َد َق هللاُ َوَر ُس ْولُهُ }إي ََّّنَا أ َْم َوالُ ُك ْم َوأ َْوََل ُد ُك ْم في ْت نَةٌ{ نَظَْر ُ‬
‫ت إي َىل َه َذيْ ين َّ‬ ‫ووضعهما بني يديه مث قال‪َ « :‬‬
‫ت َح يديْثيي َوَرفَ ْعتُ ُه َما»(‪.)1‬‬ ‫َصي ْرب َح َّىت قَطَ ْع ُ‬
‫ان فَ لَ ْم أ ْ‬ ‫ي ي‬
‫ان وي ْعثُر ي‬
‫ُيَْشيَ َ َ َ‬
‫وكان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يعطف حىت على أطفال اآلخرين ويعاملهم مبنتهى الرفق واللني‪،‬‬
‫ومينحهم شخصية قوية وحيتضنهم وميسح على رؤوسهم وال حيقر أحدا منهم‪.‬‬
‫فقد روي أن النيب صلى هللا عليه وآله وسلم كان يؤتى إليه ابلصيب الصغري ليدعو له ابلربكة أو يسميه فيأخذه‬
‫فيضعه يف حجره إكراما ألهله فرمبا ابل الصيب عليه فيصيح بعض من يراه حني يبول فيقول صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪َ« :‬ل تزرموا ِبلصِب» فيدعه حىت يقضي بوله‪ ،‬وال يظهر انزعاجه أمام أهله من بول صبيهم فإذا انصرفوا‬
‫غسل ثوبه‪.‬‬
‫وكان النيب صلى هللا عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر تلقاه الصبيان فيقف هلم مث َيمر هبم فريفعون إليه فريفع‬
‫منهم بني يديه ومن خلفه وَيمر أصحابه أن حيملوا بعضهم فرمبا يتفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض‪:‬‬
‫محلين رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بني يديه ومحلك أنت وراءه‪ ،‬ويقول بعضهم‪ :‬أمر أصحابه أن حيملوك‬
‫وراءهم‪.‬‬
‫ومما يبني مدى اهتمام النيب صلى هللا عليه وآله وسلم ابألطفال ومنحهم الشخصية الكاملة واحرتامهم ما رواه‬
‫اإلمام الصادق عليه السالم قال‪ :‬عطس غالم مل يبلغ احللم عند النيب صلى هللا عليه وآله وسلم فقال‪ :‬احلمد هلل‪.‬‬
‫فقال له النيب صلى هللا عليه وآله وسلم‪ِ« :‬برك هللا فيك»‪.‬‬
‫قال اإلمام اهلادي حيىي بن احلسني عليه السالم يف األحكام‪ :‬ويف ذلك ما بلغنا عن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم (أنه أِت بشراب فشرب منه وعن ميينه غالم وعن يساره مشايخ فقال للغالم‪« :‬أَتذن يل أن أعطي‬
‫هؤَلء»؟ فقال الغالم‪ :‬ال وهللا اي رسول هللا ما أؤثر بنصييب منك أحدا‪ ،‬فقبرله رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫يف يده)‪.‬‬
‫وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫وصلوات هللا وسالمه على رسوله األمني‪ ،‬وعلى آله الطاهرين‪.‬‬
‫•••‬

‫(‪ )1‬األمايل االثنينية ‪ 541 /1‬و الرتمذي ‪ 616/5‬رقم ‪ ،3774‬والنسائي ‪ 108/3‬رقم ‪ ،1413‬وابن ماجة ‪ 1190/2‬رقم‬
‫‪ ،3600‬ومسند أمحد ‪ 19/9‬رقم ‪ ،23056‬وأبو داود ‪ 663/1‬رقم ‪ ،1109‬وفضائل الصحابة ‪ 966/2‬رقم ‪،1358‬‬
‫وذخائر العقىب ص ‪ ،131 ،130‬وأسد الغابة ‪.16/2‬‬

‫‪137‬‬
138
‫املصادر واملراجع‬

‫‪ .1‬اإلحسان برتتيب صحيح ابن حبان‪ :‬حممد بن حبان البسيت‪ -‬حتقيق‪ :‬شعيب األرنؤوط– مؤسسة الرسالة‪-‬‬
‫ط‪1414(2‬ه ‪1993 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .2‬أحكام اإلمام اهلادي إىل احلق حيىي بن احلسني‪ -‬حتقيق د‪ .‬املرتضى بن زيد احملطوري احلسين رمحه هللا تعاىل ‪-‬‬
‫مكتبة بدر للطباعة والنشر‪ -‬صنعاء‪ -‬ط‪1435 -2‬ه ‪2014-‬م‪.‬‬
‫‪ .3‬أخالق النيب وآدابه‪ -‬عبد هللا بن حممد بن جعفر بن حيان األصبهاين‪ -‬حتقيق‪ :‬صاحل بن حممد الونيان‪ -‬دار‬
‫املسلم للنشر والتوزيع‪1998 -‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬أسباب الن زول‪ :‬أليب احلسن علي بن أمحد الواحدي النيسابوري – دار ابن كثري – دمشق – بريوت –‬
‫ط(‪1408‬ه ‪1988 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .5‬االستيعاب‪ :‬أليب عمر يوسف بن عبد هللا بن عبد هللا بن حممد بن عبد الرب القرطيب – دار الكتب العلمية‬
‫– بريوت‪ -‬ط(‪1415‬ه ‪1995 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .6‬أسد الغابة يف معرفة الصحابة‪ ،‬أليب احلسن علي بن حممد الشيباين املعروف اببن األثري‪ ،‬حتقيق الشيخ علي‬
‫حممد معوض‪ +‬الشيخ عادل أمحد عبد املوجود‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪1994( -‬م)‪.‬‬
‫‪ .7‬اإلشارة إىل سرية املصطفى‪ -‬مغلطاي بن قليج ‪ -‬دار القلم دمشق دار الشامية بريوت – الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪ .8‬اإلصابة يف متييز الصحابة‪ :‬البن حجر العسقالين – دار الكتاب العريب – بريوت ‪1359‬ه ‪.‬‬
‫‪ .9‬االعتصام حببل هللا املتني‪ -‬اإلمام القاسم بن حممد‪ -‬مطابع اجلمعية امللكية‪.‬‬
‫‪ .10‬إعراب القرآن الكرمي وبيانه‪ ،‬حملي الدين الدرويش‪ -‬اليمامة‪ -‬دار ابن كثري‪ -‬دار اإلرشاد للشؤون اجلامعية‪-‬‬
‫محص – سوراي ‪1408‬ه ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫‪ .11‬االكتفاء مبا تضمنه من مغازي رسول هللا والثالثة اخللفاء‪ -‬أيب الربيع سليمان بن موسى الكالعي‪-‬عامل الكتب‪-‬‬
‫ط ‪.1‬‬
‫‪ .12‬األمايل ا إلثنينية‪ ،‬لإلمام املرشد ابهلل حيىي بن اإلمام املوفق ابهلل احلسني بن إمساعيل اجلرجاين‪ -‬مؤسسة اإلمام‬
‫زيد بن علي الثقافية‪ -‬اليمن‪ -‬الطبعة األوىل‪1429‬ه ‪2008-‬م‪.‬‬

‫‪ .13‬األمايل اخلميسية‪ :‬لإلمام املرشد ابهلل حيىي بن احلسني بن إمساعيل الشجري‪ -‬عامل الكتب ط‪1403( 3‬ه ‪-‬‬
‫‪1983‬م)‪.‬‬
‫‪ .14‬أنساب األشراف‪ ،‬للبالذري‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممود العظم‪ -‬دار اليقظة العربية‪.‬‬
‫‪ .15‬أنوار اليقني لإلمام املنصور ابهلل احلسن بن بدر الدين عليه السالم ‪ .‬املكتبة الشاملة‪.‬‬
‫‪ .16‬البحر الزخار‪ -‬اإلمام املهدي أمحد بن حيىي املرتضى‪-‬دار احلكمة اليمانية‪ -‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .17‬البداية والنهاية‪ ،‬أليب الفداء إمساعيل بن كثري‪ -‬دار إحياء الرتاث العريب‪ -‬بريوت – ‪1383‬ه ‪1964 -‬م‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪ .18‬هبجة احملافل‪ ،‬وبغية األماثل يف تلخيص املعجزات والسري والشمائل‪ ،‬أتليف‪ :‬حيىي بن أيب بكر العامري‪-‬مطبعة‬
‫اجلمالية‪ -‬مصر – الطبعة األوىل ‪1330‬ه ‪.‬‬
‫‪ .19‬اتج العروس‪ -‬حممد مرتضى الزبيدي‪ -‬دار الفكر‪1994-‬م‪1414 -‬ه ‪.‬‬
‫‪ .20‬اتريخ ابن الوردي‪ ،‬لزين الدين عمر بن مظفر الشهري اببن الوردي‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان‪-‬‬
‫‪1417‬ه ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫‪ .21‬اتريخ أيب الفداء املسمى املختصر يف أخبار البشر‪ ،‬أتليف امللك املؤيد عماد الدين أيب الفداء إمساعيل ابن علي‬
‫بن حممد‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬ط‪1417(1‬ه ‪1997-‬م)‪.‬‬
‫‪ .22‬اتريخ اإلسالم‪ ،‬ووفيات املشاهري واألعالم‪ ،‬أتليف‪ :‬احلافظ حممد بن أمحد بن عثمان الذهيب (ت‪748 :‬ه )‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬د‪ .‬عمر عبدالسالم تدمري‪ -‬دار الكتاب العريب‪ -‬بريوت‪ -‬ط‪1418(2‬ه ‪1998-‬م)‪.‬‬
‫‪ .23‬أتريخ اخللفاء ‪ -‬احلافظ السيوطي ‪ -‬دار الفكر‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .24‬اتريخ الطربي‪ ،‬أتليف‪ :‬أيب جعفر حممد بن جرير الطربي‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد أيب الفضل إبراهيم– دار الرتاث بريوت‬
‫– ط‪1387( 3‬ه ‪1967 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .25‬التأريخ الكبري ‪ -‬البخاري ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .26‬اتريخ اليعقويب أمحد بن أيب يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العباسي‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد األمري مهنا‪-‬‬
‫مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪ -‬ط‪1413(1‬ه ‪1993-‬م)‪.‬‬
‫‪ .27‬اتريخ بغداد‪ :‬للحافظ أيب بكر أمحد بن علي اخلطيب البغدادي‪ -‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .28‬اتريخ دمشق‪ :‬البن عساكر – دار الفكر – ط‪1415(1‬ه ‪1995 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .29‬تفسري أيب السعود املسمى‪ :‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي القرآن الكرمي‪ ،‬أليب السعود حممد بن حممد العمادي‪-‬‬
‫دار إحياء الرتاث العريب‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان ‪1411‬ه ‪1990-‬م‪.‬‬
‫‪ .30‬تفسري اخلازن ومعه تفسري البغوي – دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان –ط‪1415-1‬ه ‪1995-‬م‪.‬‬
‫‪ .31‬تفسري القرآن احلكيم الشهري بتفسري املنار‪ -‬دار املعرفة‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .32‬تنبيه الغافلني عن فضائل الطالبني‪ -‬احملسن بن كرامة اجلشمي البيهقي‪ -‬حتقيق‪ :‬إبراهيم الدرسي‪ -‬منشورات‬
‫أهل البيت للدراسات اإلسالمية‪ -‬اليمن‪ ،‬صعدة‪1421 -‬ه ‪2000 -‬م‪.‬‬
‫‪ .33‬التنبيه واإلشراف ‪ -‬املسعودي ‪ -‬دار ومكتبة اهلالل‪.‬‬
‫‪ .34‬هتذيب الكمال يف أمساء الرجال‪ :‬احلافظ مجال الدين أيب احلجاج يوسف املزي ‪ -‬مؤسسة الرسالة – بريوت‬
‫– ط‪1408(1‬ه ‪1988 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .35‬تيسري املطالب يف أمايل أيب طالب‪-‬اإلمام أبو طالب‪-‬مؤسسة األعلمي‪ ،‬بريوت‪ +‬طبعة مؤسسة اإلمام زيد‪.‬‬
‫‪ .36‬جامع البيان (تفسري الطربي)‪ :‬حممد بن جرير الطربي – دار الفكر – ‪ 1415‬ه ‪1995 -‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬صدقي‬
‫العطار‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫‪ .37‬اجلامع الصحيح‪ :‬أيب عيسى حممد بن عيسى الرتمذي‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬الطبعة األوىل ‪1408‬ه ‪-‬‬
‫‪1987‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬كمال احلوت‪.‬‬
‫‪ .38‬حاشية الشهاب املسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسري البيضاوي‪ -‬دار صادر‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .39‬حلية األولياء وطبقات األصفياء‪ :‬أليب نعيم أمحد بن عبد هللا األصفهاين‪ -‬دار بيضون‪ -‬الطبعة األوىل‬
‫‪1418‬ه ‪1997 -‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬مصطفى عطاء‪.‬‬
‫‪ .40‬خصائص أمري املؤمنني علي‪ :‬النسائي – دار الكتاب العريب – بريوت‪ -‬ط‪1407(1‬ه ‪1987 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .41‬الدر املنثور يف التفسري املأثور‪ :‬للسيوطي – دار الكتب العلمية – ط‪1411(1‬ه ‪1990 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .42‬دالئل النبوة‪ ،‬ألمحد بن احلسني البيهقي‪ -‬دار الراين للرتاث‪ -‬ط‪1408(1‬ه ‪1988-‬م)‪.‬‬
‫‪ .43‬ذخائر العقىب يف مناقب ذوي القرىب‪ ،‬العالمة حمب الدين أمحد بن عبد هللا الطربي‪ -‬دار املعرفة‪ -‬بريوت‪-‬‬
‫لبنان‪ -‬بدون اتريخ‪.‬‬
‫‪ .44‬رأب الصدع ختريج أمايل أمحد بن عيسى‪ ،‬حققه وخرج أحاديثه وشرحها‪ :‬علي بن إمساعيل املؤيد‪ -‬دار النفائس‬
‫الطبعة األوىل‪ .‬وإذا أشران إىل األمايل فاملراد به هو أمايل أمحد بن عيسى‪.‬‬
‫‪ .45‬الروض األنف‪ -‬السهيلي‪ -‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .46‬الروضة الندية‪ ،‬أتليف حممد بن إمساعيل األمري الصنعاين‪ -‬مركز بدر‪ -‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪ .47‬الرايض املستطابة يف مجلة من روى يف الصحيحني من الصحابة‪ ،‬أتليف‪ :‬حيىي بن أيب بكر العامري اليمين‪-‬‬
‫مكتبة املعارف –بريوت الطبعة الثالثة ‪1983‬م‪.‬‬
‫‪ .48‬سبل اهلدى والرشاد‪ -‬اإلمام حممد بن يوسف الصاحلي‪ -‬جلنة إحياء الرتاث‪ -‬القاهرة‪.1413-1992 -‬‬
‫‪ .49‬السنة‪ ،‬أليب بكر عمرو بن أيب عاصم الضحاك‪ ،‬البن خملد الشيباين‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد انصر الدين األلباين‪-‬‬
‫املكتب اإلسالمية (‪1419‬ه ‪1998-‬م)‪.‬‬
‫‪ .50‬سنن ابن ماجة‪ :‬أيب عبد هللا حممد بن يزيد القزويين‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد عبدالباقي‪ .‬دار الكتب العملية – بريوت‪.‬‬
‫‪ .51‬سنن أيب داود‪ :‬سليمان بن األشعث – إعداد‪ :‬عزة عبيد الدعاس‪ ،‬وعادل السيد‪ -‬دار الكتب العلمية –‬
‫ط‪1388(1‬ه )‪.‬‬
‫‪ .52‬سنن البيهقي‪ :‬أيب بكر أمحد بن احلسني– دار املعرفة –‬
‫‪ .53‬سنن الدارمي‪ :‬أيب حممد عبد هللا بن عبدالرمحن الدارمي – دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ .54‬سنن النسائي‪ .‬حتقيق‪ :‬أيب غدة – دار البشارة اإلسالمية‪ -‬بريوت – ط‪1406(2‬ه ‪1986 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .55‬سري أعالم النبالء‪ :‬مشس الدين حممد بن أمحد الذهيب – مؤسسة الرسالة – الطبعة الرابعة ‪1406‬ه ‪-‬‬
‫‪1986‬م‪.‬‬
‫‪ .56‬السرية النبوية ‪ -‬ابن كثري ‪ -‬دار إحياء الرتاث‪ +‬طبعة دار املعرفة للطباعة والنشر والتوزيع‪1396 -‬ه ‪-‬‬
‫‪1971‬م‪.‬‬
‫‪ .57‬السرية النبوية‪ :‬البن هشام – مطبعة البايب احلليب – ‪1355‬ه ‪1963 -‬م‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ .58‬السرية النبوية‪ :‬للدكتور املرتضى بن زيد احملطوري – مكتبة بدر‬
‫‪ .59‬سرية سيد املرسلني ‪ -‬جعفر سبحاين ‪ -‬دار األضواء ‪ -‬ط ‪.2‬‬
‫‪ .60‬شرح التجريد يف فقه الزيدية‪ ،‬لإلمام املؤيد ابهلل أمحد بن احلسني اهلاروين‪ -‬مركز الرتاث والبحوث اليمين‪-‬‬
‫الطبعة األوىل‪1427 -‬ه ‪2006 -‬م‪.‬‬
‫‪ .61‬شرح الزرقاين على موطأ اإلمام مالك‪ -‬حممد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاين‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‬
‫‪1411‬ه ‪.‬‬
‫‪ .62‬شرح املواهب اللدنية‪ -‬الزرقاين‪ -‬املطبعة األزهرية‪ -‬القاهرة‪ -‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .63‬شرح معاين اآلاثر‪ :‬أليب جعفر أمحد بن حممد بن سالمة الطحاوي‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد زهري النجار‪ ،‬وحممد سيد‬
‫جاد احلق‪ -‬عامل الكتب‪ -‬الطبعة األوىل ‪1414‬ه ‪1994 -‬م‪.‬‬
‫‪ .64‬شرح هنج البالغة‪ :‬عبداحلميد بن حممد بن احلسني بن أيب احلديد – دار مكتبة احلياة بريوت ‪1963‬م‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫حسن متيم‪ .‬وكذلك طبعة دار إحياء الكتب العربية – عيسى البايب احلليب وشركاه‪.‬‬
‫‪ .65‬شعب اإلميان‪ :‬للبيهقي – دار الكتب العلمية‪ -‬الطبعة األوىل‪1410 -‬ه ‪1990‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬أيب هاجر حممد‬
‫السعيد بن بسيوين زغلول‪.‬‬
‫‪ .66‬شفاء األُوام‪ :‬األمري احلسني بن بدر الدين – مجعية علماء اليمن – ط ‪1416(1‬ه ‪1996 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .67‬صحيح ابن خزمية‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد مصطفى األعظمي – املكتب اإلسالمي – الطبعة الثانية ‪1412‬ه ‪-‬‬
‫‪1992‬م‪.‬‬
‫‪ .68‬صحيح البخاري‪ :‬أيب عبد هللا حممد بن إمساعيل البخاري‪ .‬حتقيق‪ :‬مصطفى البغا – دار ابن كثري –‬
‫ط‪1407(3‬ه ‪1987 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .69‬صحيح مسلم ‪ -‬دار إحياء الرتاث ‪ -‬حتقيق حممد فؤاد عبدالباقي‪.‬‬
‫‪ .70‬الصحيح من سرية النيب ص ‪-‬جعفر العاملي ‪ -‬دار اهلادي ‪-‬ط ‪.4‬‬
‫‪ .71‬الطبقات الكربى‪ :‬البن سعد – دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .72‬عيون األثر ‪ -‬ابن سيد الناس ‪ -‬مكتبة دار الرتاث ‪-‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .73‬الغدير يف الكتاب والسنة واآلداب‪ ،‬للشيخ عبداحلسني األميين‪ -‬دار الكتاب العريب‪ -‬بريوت‪-‬ط(‪1397‬ه ‪-‬‬
‫‪1977‬م)‪.‬‬
‫‪ .74‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬للحافظ أيب الفضل شهاب الدين أمحد ابن علي بن حممد بن حجر‬
‫القسطالين‪ -‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ .75‬فرائد السمطني‪ :‬للخراساين ‪ -‬مؤسسة احملمودي ‪ -‬بريوت ط‪1398 -1‬ه ‪.‬‬
‫‪ .76‬الفردوس مبأثور اخلطاب‪ :‬أليب شجاع شريويه الديلمي‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬الطبعة األوىل ‪1406‬ه ‪-‬‬
‫‪1986‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬السعيد زغلول‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪ .77‬فضائل الصحابة‪ :‬أليب عبد هللا أمحد بن حممد بن حنبل – دار ابن اجلوزي – الطبعة الثانية ‪1420‬ه ‪-‬‬
‫‪1999‬م‪ .‬حتقيق‪ :‬وصي هللا بن حممد عباس‪.‬‬
‫‪ .78‬فقه السرية ‪ -‬حممد الغزايل ‪ -‬دار الكتب احلديثة‪.‬‬
‫‪ .79‬فقه املرتضى اإلمام حممد بن حيي بن احلسني ‹عليهم السالم›‪ .‬املكتبة الشاملة‪.‬‬
‫‪ .80‬الكامل يف التأريخ‪ :‬أليب احلسن علي بن حممد الشيباين املعروف اببن األثري – دار الكتاب العريب – بريوت‬
‫– الطبعة الرابعة ‪1403‬ه ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫‪ .81‬الكشاف عن حقائق التنرزيل‪ :‬حممود بن عمر الزخمشري – دار الراين – ط‪1407(3‬ه ‪1987 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .82‬كفاية الطالب يف مناقب علي بن أيب طالب ‪ -‬احلافظ أيب عبد هللا حممد بن يوسف القرشي‪ -‬حتقيق حممد‬
‫هادي األميين ‪ -‬منشورات املطبعة احليدرية ‪ -‬النجف ‪ -‬ط‪1390 2‬ه ‪1970‬م‪.‬‬
‫‪ .83‬الكفاية يف علم الرواية ‪ -‬أمحد بن علي بن اثبت أبو بكر اخلطيب البغدادي‪ -‬املكتبة العلمية ‪ -‬املدينة املنورة‪.‬‬
‫‪ .84‬كرنز العمال يف سنن األقوال واألمثال‪ :‬للعالمة عالء الدين املتقي اهلندي – مؤسسة الرسالة‪ -‬بريوت ‪1409‬ه‬
‫‪1989 -‬م‪.‬‬
‫‪ .85‬لسان العرب ‪ -‬ابن منظور ‪ -‬دار صادر ‪ -‬بريوت ‪-‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .86‬لوامع األنوار‪ :‬السيد العالمة جمد الدين بن حممد بن منصور املؤيدي رمحه هللا – مكتبة الرتاث اإلسالمي –‬
‫الطبعة األوىل ‪1414‬ه ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫‪ .87‬جممع الزوائد ومنبع الفوائد‪ :‬للحافظ نور الدين علي بن أيب بكر اهليثمي – دار الكتاب العريب‪ -‬الطبعة الثالثة‬
‫‪1407‬ه ‪1987-‬م ‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .88‬جمموع كتب ورسائل اإلمام القاسم بن إبراهيم– دار احلكمة اليمانية – ‪1422‬ه ‪2002 -‬م‪.‬‬
‫‪ .89‬جمموع كتب ورسائل اإلمام املرتضى حممد بن حيىي اهلادي – مكتبة الرتاث اإلسالمي – اليمن‪ -‬صعدة‪-‬‬
‫الطبعة األوىل ‪1423‬ه ‪2002 -‬م‪.‬‬
‫‪ .90‬جمموع كتب ورسائل اإلمام زيد – مركز أهل البيت للدراسات اإلسالمية – صعدة‪1422 -‬ه ‪2001 -‬م‪.‬‬
‫‪ .91‬اجملموعة الفاخرة‪ :‬لإلمام اهلادي حيىي بن احلسني‪ -‬دار احلكمة اليمانية‪.‬‬
‫‪ .92‬حماسن األزهار يف مناقب العرتة األطهار‪ ،‬محيد بن أمحد احمللي الوادعي اهلمداين‪ ،‬حتقيق‪ :‬محود األهنومي‪،‬‬
‫وعبد هللا عامر‪ -‬مركز أهل البيت للدراسات اإلسالمية‪ -‬صعدة‪ -‬ط‪1421(1‬ه ‪2002 -‬م)‬
‫‪ .93‬احملاضرة اخلامسة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه ‪.‬‬

‫‪ .94‬احملاضرة الرابعة للسيد عبد امللك حفظه هللا مبناسبة املولد النبوي عام ‪1439‬ه‬
‫‪ .95‬حممد رسول هللا (ص)‪-‬حممد رضا ‪-‬دار الكتب العلمية ‪-‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .96‬املراتب يف فضائل أمري املؤمنني سيد الوصيني‪ ،‬أبو القاسم إمساعيل بن أمحد البسيت املعتزيل‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رضا‬
‫األنصاري القمي‪-‬ط‪1421(1‬ه )‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ .97‬مروج الذهب ومعادن اجلوهر‪ ،‬أتليف‪ :‬أيب احلسن علي بن احلسني بن علي املسعودي‪ ،‬دققها ووضعها‬
‫وضبطها‪ :‬يوسف أسعد داغر –دار األندلس –بريوت‪ -‬ط‪1983(5‬م)‪.‬‬
‫‪ .98‬املستدرك على الصحيحني‪ :‬احلافظ أيب عبد هللا حممد بن عبد هللا احلاكم النيسابوري – دار الكتاب العريب‬
‫– بريوت – ‪1335‬ه ‪.‬‬
‫‪ .99‬مسند أيب يعلى املوصلي– دار الثقافة العربية– ط‪1413(2‬ه ‪1993 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .100‬مسند أمحد بن حنبل‪ .‬حتقيق‪ :‬صدقي العطار – دار الفكر ‪ -‬املكتبة التجارية – بريوت – ط‪1414(2‬ه‬
‫‪1994 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .101‬مسند اإلمام زيد بن علي ‪ -‬دار مكتبة احلياة ‪ -‬بريوت ‪1966 -‬م‪.‬‬
‫‪ .102‬مسند الربيع بن حبيب بن عمر األزدي البصري‪ :‬ترتيب أيب يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجالين‪ -‬مكتبة‬
‫مسقط‪ -‬سلطنة عمان‪ -‬ط‪1415(1‬ه ‪1994-‬م)‪.‬‬
‫‪ .103‬مسند الروايين‪ -‬حممد بن هارون الروايين ‪ -‬حتقيق أمين علي أبو مياين‪ -‬مؤسسة قرطبة‪1416 -‬ه ‪ -‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .104‬املصابيح الساطعة األنوار(تفسري أهل البيت)‪ :‬مجع وأتليف العالمة عبد هللا بن أمحد الشريف– مكتبة‬
‫الرتاث– صعدة – الطبعة األوىل ‪1998 -1418‬م‪.‬‬
‫‪ .105‬املصابيح‪ :‬أليب العباس احلسين – مؤسسة اإلمام زيد بن علي – ط‪1421(1‬ه ‪2001-‬م)‪.‬‬
‫‪ .106‬املصنف‪ :‬البن أيب شيبة – دار التاج‪ -‬ط‪1409(1‬ه ‪1989 -‬م)‪.‬‬
‫‪ .107‬املصنف‪ :‬للحافظ أيب بكر عبدالرزاق الصنعاين – املكتب اإلسالمي – ط‪1403(2‬ه ‪1983 -‬م)‪.‬‬
‫حتقيق‪ :‬حبيب الرمحن األعظمي‪.‬‬
‫‪ .108‬املعجم األوسط‪ :‬للطرباين – منشورات دار احلرمني ‪1415‬ه ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫معجم البلدان‪ :‬ايقوت احلموي – دار الفكر – الطبعة الثانية ‪1995‬م‪.‬‬ ‫‪.109‬‬
‫املعجم الكبري‪ :‬للطرباين‪ .‬حتقيق‪ :‬محزة عبداجمليد‪ -‬الزهراء احلديثة ‪1984‬م‪.‬‬ ‫‪.110‬‬
‫املغازي ‪ -‬الواقدي ‪ -‬مؤسسة األعلمي‪.‬‬ ‫‪.111‬‬
‫مفاتيح الغيب‪ :‬تفسري الفخر الرازي املشهور ابلتفسري الكبري‪ :‬لإلمام حممد الرازي فخر الدين (‪-544‬‬ ‫‪.112‬‬
‫‪604‬ه )‪ -‬قدم له خليل حمي الدين امليس‪ -‬دار الفكر‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان‪ -‬ط(‪1993‬م‪1414-‬ه )‪.‬‬
‫‪ .113‬من كلمة للسيد عبد امللك بدر الدين مبناسبة املولد النبوي عام ‪1440‬ه ‪.‬‬
‫‪ .114‬مناقب اإلمام علي بن أيب طالب‪ ،‬أليب احلسن علي بن حممد الشافعي الشهري اببن املغازيل‪ -‬الطبعة الثانية‬
‫‪1412/2‬ه ‪1992 -‬م‪.‬‬
‫‪ .115‬مناقب أمري املؤمنني (ع)‪ ،‬ل محمد بن سليمان الكويف‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد ابقر احملمودي‪ -‬جممع إحياء الثقافة‬
‫اإلسالمية‪ -‬الطبعة األوىل ‪1412‬ه ‪ -‬ايران – قم‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ .116‬املنتظم يف اتريخ األمم وامللوك‪ ،‬أتليف‪ :‬أيب الفرج عبدالرمحن بن علي بن حممد ابن اجلوزي‪ ،‬دارسة وحتقيق‪:‬‬
‫حممد عبدالقادر عطا‪ ،‬مصطفى عبدالقادر عطا‪ ،‬راجعه وصححه‪ :‬نعيم زرزور –دار الكتب العلمية – بريوت‬
‫– لبنان – ط‪1412(1‬ه ‪1992-‬م)‪.‬‬
‫‪ .117‬املواهب اللدنية ‪ -‬ابن حجر العسقالين ‪-‬دار الكتب العلمية ‪-‬ط ‪.1‬‬
‫‪ .118‬املوطأ‪ ،‬لإلمام مالك بن أنس األصبحي – دار الراين للرتاث – القاهرة‪ -‬الطبعة األوىل ‪1408‬ه ‪-‬‬
‫‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ .119‬امليزان تفسري القرآن‪ ،‬للعالمة حممد حسني الطباطبائي‪ -‬مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪ -‬بريوت‪ -‬لبنان‪-‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1390‬ه ‪1971 -‬م‪.‬‬
‫‪ .120‬هنج البالغة‪ :‬ألمري املؤمنني علي بن أيب طالب عليه السالم ‪ -‬ط‪ -1‬دار املعارف‪.‬‬
‫‪ .121‬نور اليقني يف سرية سيد املرسلني ‪ -‬حممد اخلضري ‪ -‬دار الفكر‪.‬‬

‫•••‬

‫‪145‬‬

You might also like