Professional Documents
Culture Documents
- .pdf ملف 4
- .pdf ملف 4
إلى توظيف ذلك يف إقامة عالقات التعارف بين بني اإلنسان ،وذلك مدعاة إلى
التفاعل والتكامل ،فمنطوق قوله تعالى﴿ :ﭿﮀ﴾ يجعل التعارف بين أبناء بني
آدم من أسمى األهداف للحياة اإلنسانية ،ذلك أن التعارف إذا تم على الوجه
الذي ينشده الحق ويتطلبه الكمال اإلنساين؛ فإنه يحقق معاين الحياة الكريمة ،فيتم
تبادل المنافع بين الشعوب ،فتأتلف ،وتشيع بين الناس معاين اإلخاء والتعاون(.(١
يقول العقاد« :فالتعدد يف األمم وسيلة للتعارف والتعاون ،وليس بوسيلة
لالدعاء والتنابذ والتعصب للجناس والتعالي بالعصبيات»(.(٢
فالقرآن الكريم وضع اإلنسان يف موضعه الصحيح ،حين جعل تقسيمه إلى
ذكر وأنثى ،وأنه ينتمي بشعوبه وقبائله إلى األسرة اإلنسانية التي ال تفاضل بين
اإلخوة فيها بغير العمل الصالح ،وبغير التقوى.
١5١
» «
١52
» «
املطلب الثاني
Jمنهج التعامل يف ِظالل املتمعات اإلنسانية L
منهجا أنموذج ًيا يف التعامالت يف الحياة اليومية
ً حوت سورة الحجرات
للمجتمعات اإلنسانية ،ذلك بأهنا شملت عدة وصايا؛ تنوعت بين األوامر
والنواهي ،والمتأمل يف هذه الوصايا يجدها تنصب يف تجنب أمراض نفسية
لها ضرر بالمجتمعات اإلنسانية ،أراد القرآن الكريم من خالل هذه الوصايا
التحذير من اآلفات التي قد تصيب النفس البشرية وتؤثر يف العالقات اإلنسانية،
فــ«المجتمع الفاضل الذي يقيمه اإلسالم هبدي القرآن مجتمع له أدب رفيع،
ولكل فرد فيه كرامته التي ال تمس ،وهي من كرامة المجموع»(.(١
اً
أوال :األوامر:
األوامر اإللهية حكمها الوجوب ما لم تصرفه قرينة كما هو مقرر عند العلماء،
والقرآن الكريم أنزله اهلل ليس للتالوة فحسب؛ وإنما للتطبيق والعمل ،ألنه منهج
حياة لإلنسانية ،وقد ورد يف سورة الحجرات أوامر ُتعد من الضروريات ،ألهنا
أساس التعامل والتعايش اإلنساين ،وبفقدها ال مجال للعيش والتعايش ،وهذه
األوامر قواعد مهمة يف حياة المجتمعات التي تنشد الحياة اآلمنة المستقرة،
التي تسودها المحبة واأللفة والمودة ،ويغمرها اإلخاء والصفاء والنقاء ،وهذه
القواعد هي:
ّ -١
التبني يف األخبار:
تبين من أمرها من األسباب الرئيسة يف تفرق الناس
قبول األخبار الكاذبة دون ّ
١5٣
» «
وتباغضهم؛ لذا جاء التوجيه القرآين بالمنهج الصحيح حين تلقي أي خرب من
األخبار ،خاصة األخبار مجهولة المصدر ،قال تعالى﴿ :ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الحجرات.]٦ :
ذكر الواحدي أن هذه اآلية الكريمة نزلت يف الوليـد بن عقبة بن أبي معيط،
بعثه رسول اهلل إلى بني المصطلق ليجمع الصدقات ،وكان بينه
تعظيما هلل تعالى ولرسوله
ً وبينهم عداوة يف الجاهلية ،فلما سمع القوم تلقوه
فحدثه الشيطان أهنم يريدون قتله فهاهبم ،فرجع من الطريـق إلى
ّ ،
رسول اهلل وقال :إن بني المصطلق قد منعوا صدقاهتم ،وأرادوا
وهم أن يغزوهم ،فبلغ القوم رجوعه،
قتلـي ،فغضب رسول اهلل ّ ،
فأتوا رسول اهلل ،وقالوا :سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه
ونؤدي إليه ما قبلنا من حق اهلل تعالى ،فبدا له يف الرجوع ،فخشينا أن يكون إنما
رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا ،وإنا نعوذ من غضب اهلل
وغضب رسوله .فأنزل اهلل تعالى هذه اآلية(.(١
يقول الفخر الرازي معق ًبا على أسباب نزول هذه اآلية الكريمة« :بل نقول هو
نزل عا ًما لبيان التثبت ،وترك االعتماد على قول الفاسق»( .(٢وهو يقصد بذلك أن
خاصا بالوليد؛
سبب نزول هذه اآلية عام يف خرب الفاسق ،وليس إطالق الفاسق ً
ألنه اجتهد فأخطأ ،وال ُيسمى بسبب ذلك فاس ًقا على الحقيقة ،فأكثر المفسرين
على أن الوليد كان ثقة عند رسول اهلل ،فصار فاس ًقا بكذبه ،أي
كاذ ًبا ،ونقل القرطبي عن ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد اهلل :الفاسق الكاذب(،(٣
١5٤
» «
والخطاب القرآين هنا بهذه الصيغة يومئ إلى أمر مهم جدًّ ا ،وهو ضرورة
التب ّين والتثبت من الخرب قبل اتخاذ القرار؛ ألن القرار يجب أن ُيبنى على حقائق،
وليس على شيء لم يتب ّين صوابه من خطئه؛ ولذلك جاء الخطاب القرآين ﴿ﭢ
المخرب
ﭣ ﭤ ﭥ ﴾ ،ولم يقل :إن جاءكم خرب أو جاءكم ُمخرب بنبأ ،ولوصف ُ
بالفسق داللة واضحة؛ وهي أن الذي يتعمد حمل الخرب المغلوط دون تفكر يف
١55
» «
عاقبة ما سيؤول إليه األمر هو فاسق؛ ألنه بمثابة من أطلق قنبلة موقوتة ،قد تنفجر
جسيما .فكم من حروب أوقدت
ً يف أي لحظة ،ويكون أثرها المادي والمعنوي
بسبب األخبار الكاذبة ،كان أثرها سفك الدماء وتشريد الشعوب ،وإثارة الفتن
والبغضاء والكراهية ،وكم من أرحام ُقطعت بسبب وشاية مغرضة كاذبة.
ويف القراءتين ﴿ﭦ﴾ و﴿فتث َّبتوا﴾ تأكيد لمعنى التأكد واالحتياط يف قبول
األخبار؛ فقد قرأ الجمهور﴿ :ﭦ﴾ بفوقية فموحدة فتحتية فنون ،من البيان.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف﴿ :فتث َّبتوا﴾ بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية ،من
الثبت(.(١
التبيين :تط ُّلب البيان وهو ظهور األمر.
التثبت :التحري وتط ُّلب الثبات وهو الصدق.
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما ،وهو األمر بالتأين وعدم العجلة
حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق(.(٢
فتبينُـوا كراهـة أن تصيبـوا قو ًما بخطأ فتصبحوا نادمين على ما فعلتم .فلو أن
َّ
الرسول عمل بقول الوليد بن عقبة ،لغزا بني المصطلق ،وسفك
الدماء ،وأخذ األموال بغير حق ،فاهلل يرشد عباده إلى هذا األدب ،ويحذرهم من
العمل بالخرب قبل الكشف عنه والتثبت منه(.(٣
خصص الفاسق ألنه مظنة الكذب ،وحتى ال يشيع يقول صاحب ِّ
الظالل« :و ُي ّ
( (١القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدرة ،لشرف ( ،)516والجامع ألحكام القرآن،
للقرطبي (.)283/8
( (٢أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،للشنقيطي (.)411/7
( (٣التفسير الواضح ،للحجازي (.)503/3
١56
» «
الشك بين الجماعة المسلمة يف كل ما ينقله أفرادها من أنباء ،فيقع ما يشبه الشلل
يف معلوماهتا ،فاألصل يف الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ،وأن
تكون أنباؤهم مصدقة مأخو ًذا هبا ،فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خربه،
وبذلك يستقيم أمر الجماعة وس ًطا بين األخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء،
وال تعجل الجماعة يف تصرف بنا ًء على خرب فاسق ،فتصيب قو ًما بظلم عن جهالة
وتسرع ،فتندم على ارتكاهبا ما يغضب اهلل ،ويجانب الحق والعدل يف اندفاع»(.(١
والتعبير بكلمة (إنْ ) يف قوله ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ التي هي للشك؛ لإلشارة
نبيها يق ًظا ،يستطيع أن يفهم ويدرك المغازي،
إلى أن الغالب يف المؤمن أن يكون ً
وما تؤول إليه األمور ،وما يرتتب عليها ،لذا ال يأتيهم كاذب يكذب عليه ،وإن
نادرا(.(٢
حصل فال يكون إال ً
«إن من يتأمل يف واقع الناس اليوم ،وينظر يف الكم الهائل من األخبار التي
نسمعها يف كل يوم ،ويرى االختالف والتباين بين مصادر هذه األخبار ،يدرك
عظمة هذا الدين ،وسمو هذا المنهج الذي دعا إليه اإلسالم ،وأمر به القرآن،
وحفظته السنة ،وحفظت به السنة»(.(٣
ولذلك يقول سيد قطب عند تفسير قوله تعالى﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [اإلسراء« :]3٦ :التثبت من كل
خرب ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها ،هو دعوة القرآن الكريم،
ومنهج اإلسالم الدقيق»(.(٤
١57
» «
إن هذا المنهج الرباين المحكم تظهر أهميته يف واقعنا المعاصر اليوم ،مع
انتشار وسائل التواصل ،التي تحمل الكثير من األخبار المتنوعة ذات المصادر
المختلفة؛ وكمثال بسيط ما يتناقله الناس على برنامج (الواتساب) من رسائل -اهلل
أعلم بصحتها -فيعمد بعض الناس بمجرد حصوله على خرب؛ ما يلبث أن ينشره يف
المجموعات أو للفراد ،دون تثبت من صحته ،ثم يتضح أن الخرب كاذب.
إن مثل هذا العمل له آثاره السلبية يف أوساط المجتمعات اإلنسانية ،فقد
يرتتب عليه أحقاد وعداوات على مستوى المجتمعات واألفراد ،فحري باإلنسان
أن يتمسك بالمنهج القرآين قبل أن ينقل أي خرب كان ،خاصة ونحن نملك -يف
عالمنا اليوم -إمكانات ووسائل التثبت السريع التي تمكننا من الوصول إلى
مصادر األخبار بسرعة فائقة.
- 2الصلح بني املتخاصمني:
قد يترتب على عدم التثبت من األخبار الكاذبة اتخاذ مواقف متضادة ينتج
قصدا ،ولكن سوء فهم يحدث
عنها خصام وشجار وقتال ،وقد يكون ذلك ليس ً
للناس ،سواء على المستوى الفردي أو الطائفي ،وقد يدخل الشيطان بين الناس
ف ُيحدث بينهم الفرقة والخصام ،والتنازع واالقتتال ،وقد تأخذ الناس الحمية
الجاهلية فيتعصبون لطائفتهم دون التحقق من سبب النزاع والشقاق ،وهذا
كثيرا يف المجتمعات اإلنسانية ،لذا أتبع القرآن الكريم هذا المنهج الكريم
حاصل ً
يف التعامل يف مثل هذه المواقف ،فلو حصل اقتتال بين طائفتين من المؤمنين ،فإنه
يتعين على اآلخرين أن يقوموا بواجب الصلح ،وإن أبت إحدى الطائفتين وبغت
على األخرى وتعذر الصلح؛ فيجب الوقوف بجانب الطائفة المبغي عليها ،من
باب نصرة المظلوم وكف الظالم عن الظلم ،قال تعالى﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
١5٨
» «
ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾ [الحجرات.]9 :
وقد روى أنس بن مالك -كما يف الصحيحين -يف سبب نزول هذه
اآلية الكريمة قال :قيل للنبي :لو أتيت عبد اهلل بن أبي ،فانطلق إليه
حمارا ،فانطلق المسلمون يمشون معه ،وهي أرض
ً النبي ،وركب
سبخة ،فلما أتاه النبي قال :إليك عني ،واهلل لقد آذاين نتن حمارك.
ريحا منك.
فقال رجل من األنصار :واهلل لحمار رسول اهلل أطيب ً
فغضب لعبد اهلل رجل من قومه فشتمه ،فغضب لكل واحد منهما أصحابه ،فكان
بينهما ضرب بالجريد واأليدي والنعال(.(١
وانطال ًقا من قاعدة« :العربة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب»؛ فإن إصالح
ذات البين يف أي قضية كانت مطلوب ،وهو منهج إسالمي رصينَّ ،قرره الشرع
الحنيف ،وحث عليه ،بل جعل النبي درجته أعلى من درجة كثير من
الدرداء قال :قال رسول اهلل َ :
«أ َال األعمال التعبدية ،فعن َأبي َّ
ال ُحالص َد َق ِة»َ .قا ُلواَ :ب َلىَ .ق َال« :إِ ْص َ
ال ِة َو َّ
الص َ ُأ ْخبِ ُر ُك ْم بِ َأ ْف َض َل ِم ْن َد َر َج ِة ِّ
الص َيا ِم َو َّ
ات ا ْل َب ْي ِن»(.(٢ َذ ِ
( (١صحيح البخاري ،للبخاري ،حديث رقم ( )2545باب :ما جاء يف اإلصالح بين الناس (.)958/2
وصحيح مسلم ،لمسلم بن الحجاج ،رقم الحديث (.)183/5( )4762
( (٢صحيح ابن حبان ،البن حبان ،كتاب الصلح ،رقم الحديث (.)489/11( )5092
(ُ (٣ينظر :كتاب التعريفات ،للجرجاين (.)134
١59
» «
وتبعا لمنهج الصلح بين المتخاصمين السابق ذكره فإن المنهج القرآين
ً
يؤكد أن هذا الصلح يجب أن يكون ً
عادال لكال الطرفين .يقول اهلل تعالى يف اآلية
السابقة ...﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾ [الحجرات.]9 :
أمر اهلل بعد أمره باإلصالح بين الطائفتين المتقاتلتين بالقسط،
وهو العدل الذي ال تقوم المجتمعات وال تستقر إال به ،والعدل هو :وضع الشيء
١6٠