Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 10

‫»‬ ‫«‬

‫إلى توظيف ذلك يف إقامة عالقات التعارف بين بني اإلنسان‪ ،‬وذلك مدعاة إلى‬
‫التفاعل والتكامل‪ ،‬فمنطوق قوله تعالى‪﴿ :‬ﭿﮀ﴾ يجعل التعارف بين أبناء بني‬
‫آدم من أسمى األهداف للحياة اإلنسانية‪ ،‬ذلك أن التعارف إذا تم على الوجه‬
‫الذي ينشده الحق ويتطلبه الكمال اإلنساين؛ فإنه يحقق معاين الحياة الكريمة‪ ،‬فيتم‬
‫تبادل المنافع بين الشعوب‪ ،‬فتأتلف‪ ،‬وتشيع بين الناس معاين اإلخاء والتعاون(‪.(١‬‬
‫يقول العقاد‪« :‬فالتعدد يف األمم وسيلة للتعارف والتعاون‪ ،‬وليس بوسيلة‬
‫لالدعاء والتنابذ والتعصب للجناس والتعالي بالعصبيات»(‪.(٢‬‬
‫فالقرآن الكريم وضع اإلنسان يف موضعه الصحيح‪ ،‬حين جعل تقسيمه إلى‬
‫ذكر وأنثى‪ ،‬وأنه ينتمي بشعوبه وقبائله إلى األسرة اإلنسانية التي ال تفاضل بين‬
‫اإلخوة فيها بغير العمل الصالح‪ ،‬وبغير التقوى‪.‬‬

‫‪ ‬مقياس التفاضل اإلنساني‪:‬‬


‫إن القرآن الكريم حين أعلن المساواة اإلنسانية يف اآلية السابقة؛ فإنه جعل‬
‫ً‬
‫مجاال لتفاضلها عندما قال بعد ذلك يف اآلية ذاهتا ﴿ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ﴾‪.‬‬
‫«والمراد باألكرم‪ :‬األنفس واألشرف‪ ،‬واألتقى‪ :‬األفضل يف التقوى»(‪(٣‬؛ ففتح بذلك‬
‫مجال التنافس والتفاضل يف القيم العليا التي يستطيع اإلنسان أن يحققها ﴿ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ﴾ [المطففين‪]2٦ :‬؛ أي الرغبة يف التنافس إلى طاعة اهلل(‪.(٤‬‬
‫قال ابن عاشور‪« :‬ألهنم لما تساووا يف أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة‪،‬‬

‫(‪ (١‬أهداف اإلسالم يف توجيه اإلنسان‪ ،‬لرفاعي (‪.)339‬‬


‫(‪ (٢‬المجموعة الكاملة‪ ،‬للعقاد (‪.)46/7‬‬
‫(‪ (٣‬التحرير والتنوير‪ ،‬البن عاشور (‪.)218/26‬‬
‫(‪ُ (٤‬ينظر‪ :‬معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم‪ ،‬للراغب األصفهاين (‪.)557‬‬

‫‪١5١‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫بعضا إال بالكمال النفساين‪ ،‬وهو الكمال الذي‬


‫كان الشأن أن ال يفضل بعضهم ً‬
‫يرضاه اهلل لهم‪ ،‬والذي جعل التقوى وسيلته‪ ،‬ولذلك ناط التفاضل بالكرم بـ (عند‬
‫اهلل) إذ ال اعتداد بكرم ال يعبأ اهلل به»(‪.(١‬‬
‫وكما نالحظ من هذا المعيار الذي أقره القرآن للتفاضل وسمح به يف ِظ ّل‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فإن هذا المعيار يرتبط برباط اتصال اإلنسان بخالقه‪ ،‬وليس له أي مرد‬
‫إلى أصل الكيان اإلنساين ومجال التكريم‪« ،‬ويف هذا المعيار يف التفاضل تبدو‬
‫الصلة باهلل هي الصلة الوحيدة التي تسمح بأن يتفاضل الناس على أساسها‪،‬‬
‫فالتفاضل ليس مرده إلى الناس‪ ،‬بل مرده إلى اهلل ‪.(٢(»‬‬
‫ً‬
‫مجاال للتفاضل هي كما‬ ‫فالتقوى الواردة يف اآلية والتي جعلها القرآن الكريم‬
‫قال عفيف طبارة‪« :‬فضيلة أراد هبا القرآن إحسان الصلة ما بين اإلنسان والخلق‪،‬‬
‫وإحسان الصلة ما بين اإلنسان وخالقه‪ ...‬والمراد أن يتقي اإلنسان ما يغضب ربه‪،‬‬
‫وما فيه ضرر لنفسه أو إضرار لغيره»(‪.(٣‬‬

‫(‪ (١‬التحرير والتنوير‪ ،‬البن عاشور (‪.)218/26‬‬


‫(‪ (٢‬أصول المجتمع اإلسالمي‪ ،‬لجمال الدين محمد (‪.)109‬‬
‫(‪ (٣‬روح الدين اإلسالمي‪ ،‬لطبارة (‪.)283‬‬

‫‪١52‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫املطلب الثاني‬
‫‪ J‬منهج التعامل يف ِظالل املتمعات اإلنسانية ‪L‬‬
‫منهجا أنموذج ًيا يف التعامالت يف الحياة اليومية‬
‫ً‬ ‫حوت سورة الحجرات‬
‫للمجتمعات اإلنسانية‪ ،‬ذلك بأهنا شملت عدة وصايا؛ تنوعت بين األوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬والمتأمل يف هذه الوصايا يجدها تنصب يف تجنب أمراض نفسية‬
‫لها ضرر بالمجتمعات اإلنسانية‪ ،‬أراد القرآن الكريم من خالل هذه الوصايا‬
‫التحذير من اآلفات التي قد تصيب النفس البشرية وتؤثر يف العالقات اإلنسانية‪،‬‬
‫فــ«المجتمع الفاضل الذي يقيمه اإلسالم هبدي القرآن مجتمع له أدب رفيع‪،‬‬
‫ولكل فرد فيه كرامته التي ال تمس‪ ،‬وهي من كرامة المجموع»(‪.(١‬‬

‫‪ ‬اً‬
‫أوال‪ :‬األوامر‪:‬‬
‫األوامر اإللهية حكمها الوجوب ما لم تصرفه قرينة كما هو مقرر عند العلماء‪،‬‬
‫والقرآن الكريم أنزله اهلل ليس للتالوة فحسب؛ وإنما للتطبيق والعمل‪ ،‬ألنه منهج‬
‫حياة لإلنسانية‪ ،‬وقد ورد يف سورة الحجرات أوامر ُتعد من الضروريات‪ ،‬ألهنا‬
‫أساس التعامل والتعايش اإلنساين‪ ،‬وبفقدها ال مجال للعيش والتعايش‪ ،‬وهذه‬
‫األوامر قواعد مهمة يف حياة المجتمعات التي تنشد الحياة اآلمنة المستقرة‪،‬‬
‫التي تسودها المحبة واأللفة والمودة‪ ،‬ويغمرها اإلخاء والصفاء والنقاء‪ ،‬وهذه‬
‫القواعد هي‪:‬‬
‫™ ‪ّ -١‬‬
‫التبني يف األخبار‪:‬‬
‫تبين من أمرها من األسباب الرئيسة يف تفرق الناس‬
‫قبول األخبار الكاذبة دون ّ‬

‫(‪ (١‬يف ظالل القرآن‪ ،‬لقطب (‪.)3344/6‬‬

‫‪١5٣‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫وتباغضهم؛ لذا جاء التوجيه القرآين بالمنهج الصحيح حين تلقي أي خرب من‬
‫األخبار‪ ،‬خاصة األخبار مجهولة المصدر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الحجرات‪.]٦ :‬‬
‫ذكر الواحدي أن هذه اآلية الكريمة نزلت يف الوليـد بن عقبة بن أبي معيط‪،‬‬
‫بعثه رسول اهلل ‪ ‬إلى بني المصطلق ليجمع الصدقات‪ ،‬وكان بينه‬
‫تعظيما هلل تعالى ولرسوله‬
‫ً‬ ‫وبينهم عداوة يف الجاهلية‪ ،‬فلما سمع القوم تلقوه‬
‫فحدثه الشيطان أهنم يريدون قتله فهاهبم‪ ،‬فرجع من الطريـق إلى‬
‫‪ّ ،‬‬
‫رسول اهلل ‪ ‬وقال‪ :‬إن بني المصطلق قد منعوا صدقاهتم‪ ،‬وأرادوا‬
‫وهم أن يغزوهم‪ ،‬فبلغ القوم رجوعه‪،‬‬
‫قتلـي‪ ،‬فغضب رسول اهلل ‪ّ ،‬‬
‫فأتوا رسول اهلل ‪ ،‬وقالوا‪ :‬سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه‬
‫ونؤدي إليه ما قبلنا من حق اهلل تعالى‪ ،‬فبدا له يف الرجوع‪ ،‬فخشينا أن يكون إنما‬
‫رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا‪ ،‬وإنا نعوذ من غضب اهلل‬
‫وغضب رسوله‪ .‬فأنزل اهلل تعالى هذه اآلية(‪.(١‬‬
‫يقول الفخر الرازي معق ًبا على أسباب نزول هذه اآلية الكريمة‪« :‬بل نقول هو‬
‫نزل عا ًما لبيان التثبت‪ ،‬وترك االعتماد على قول الفاسق»(‪ .(٢‬وهو يقصد بذلك أن‬
‫خاصا بالوليد؛‬
‫سبب نزول هذه اآلية عام يف خرب الفاسق‪ ،‬وليس إطالق الفاسق ً‬
‫ألنه اجتهد فأخطأ‪ ،‬وال ُيسمى بسبب ذلك فاس ًقا على الحقيقة‪ ،‬فأكثر المفسرين‬
‫على أن الوليد كان ثقة عند رسول اهلل ‪ ،‬فصار فاس ًقا بكذبه‪ ،‬أي‬
‫كاذ ًبا‪ ،‬ونقل القرطبي عن ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد اهلل‪ :‬الفاسق الكاذب(‪،(٣‬‬

‫(‪ (١‬أسباب نزول القرآن‪ ،‬للواحدي (‪.)407‬‬


‫(‪ (٢‬التفسير الكبير‪ ،‬للفخر الرازي (‪.)98/28‬‬
‫(‪ (٣‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬للقرطبي (‪.)283/8‬‬

‫‪١5٤‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫وزجرا عن االستعجال يف األمر من غير تثبت‪ ،‬فهو‬


‫ً‬ ‫والظاهر أنه سمي فاس ًقا ً‬
‫تنفيرا‬
‫متأول ومجتهد‪ ،‬وليس فاس ًقا على الحقيقة(‪.(١‬‬
‫وعلى العموم فإن مدلول اآلية عام‪ ،‬وهو يتضمن منهج التمحيص والتثبت‬
‫من خبر الفاسق‪ ،‬فأما الصالح فيؤخذ بخربه؛ فهذا هو األصل يف الجماعة المؤمنة‪،‬‬
‫وال بد من التب ّين والتثبت‪ ،‬ويف خرب الفاسق أوكد‪ ،‬واألخذ بخرب الصالح جزء من‬
‫منهج التثبت‪ ،‬ألنه أحد مصادره(‪.(٢‬‬
‫وقد كثر كالم العلماء حول قصة نزول هذه اآلية الكريمة والوليد بن عقبة‬
‫المخبر والشاهد بما ال مجال للخوض يف ذلك‪ ،‬فالذي يعنينا هو المنهج‬
‫وعدالة ُ‬
‫دائما‬
‫الذي ينبغي أن نتبعه يف تلقي األخبار والتعامل معها‪ .‬فإن الطبيعة البشرية ً‬
‫﴿ﮀ ﮁ ﮂ﴾‬ ‫[األنبياء‪]3٧ :‬‬ ‫يف عجل من أمرها ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ﴾‬
‫[اإلسراء‪ ،]11 :‬فالنفس البشرية تتلقى األخبار الجديدة بالقبول والتأثر‪ ،‬وبمجرد‬
‫سماع الخرب ينطلق الفكر إلى ردة فعل معاكسة‪ ،‬دون وعي أو تفكر يف العواقب‪،‬‬
‫وللشيطان نصيب يف حث اإلنسان على ذلك‪ ،‬فعن أنس بن مالك ‪ ،‬أن‬
‫الش ْي َطان»(‪.(٣‬‬ ‫النبي ‪‬قال‪« :‬ال َّت َأ ِّني ِم َن اهللِ‪َ ،‬و َ‬
‫الع َج َل ُة ِم َن َّ‬

‫والخطاب القرآين هنا بهذه الصيغة يومئ إلى أمر مهم جدًّ ا‪ ،‬وهو ضرورة‬
‫التب ّين والتثبت من الخرب قبل اتخاذ القرار؛ ألن القرار يجب أن ُيبنى على حقائق‪،‬‬
‫وليس على شيء لم يتب ّين صوابه من خطئه؛ ولذلك جاء الخطاب القرآين ﴿ﭢ‬
‫المخرب‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﴾‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إن جاءكم خرب أو جاءكم ُمخرب بنبأ‪ ،‬ولوصف ُ‬
‫بالفسق داللة واضحة؛ وهي أن الذي يتعمد حمل الخرب المغلوط دون تفكر يف‬

‫(‪ (١‬التفسير المنير‪ ،‬للزحيلي (‪.)227/26‬‬


‫(‪ (٢‬التفسير الرتبوي للقرآن الكريم‪ ،‬للباز (‪.)320/3‬‬
‫(‪ (٣‬سنن البيهقي الكربى‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬رقم الحديث (‪ )20057‬باب التثبت يف الحكم (‪.)104/10‬‬

‫‪١55‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫عاقبة ما سيؤول إليه األمر هو فاسق؛ ألنه بمثابة من أطلق قنبلة موقوتة‪ ،‬قد تنفجر‬
‫جسيما‪ .‬فكم من حروب أوقدت‬
‫ً‬ ‫يف أي لحظة‪ ،‬ويكون أثرها المادي والمعنوي‬
‫بسبب األخبار الكاذبة‪ ،‬كان أثرها سفك الدماء وتشريد الشعوب‪ ،‬وإثارة الفتن‬
‫والبغضاء والكراهية‪ ،‬وكم من أرحام ُقطعت بسبب وشاية مغرضة كاذبة‪.‬‬

‫ويف القراءتين ﴿ﭦ﴾ و﴿فتث َّبتوا﴾ تأكيد لمعنى التأكد واالحتياط يف قبول‬
‫األخبار؛ فقد قرأ الجمهور‪﴿ :‬ﭦ﴾ بفوقية فموحدة فتحتية فنون‪ ،‬من البيان‪.‬‬
‫وقرأ حمزة والكسائي وخلف‪﴿ :‬فتث َّبتوا﴾ بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية‪ ،‬من‬
‫الثبت(‪.(١‬‬
‫التبيين‪ :‬تط ُّلب البيان وهو ظهور األمر‪.‬‬
‫التثبت‪ :‬التحري وتط ُّلب الثبات وهو الصدق‪.‬‬
‫ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما‪ ،‬وهو األمر بالتأين وعدم العجلة‬
‫حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق(‪.(٢‬‬

‫فتبينُـوا كراهـة أن تصيبـوا قو ًما بخطأ فتصبحوا نادمين على ما فعلتم‪ .‬فلو أن‬
‫َّ‬
‫الرسول ‪ ‬عمل بقول الوليد بن عقبة‪ ،‬لغزا بني المصطلق‪ ،‬وسفك‬
‫الدماء‪ ،‬وأخذ األموال بغير حق‪ ،‬فاهلل يرشد عباده إلى هذا األدب‪ ،‬ويحذرهم من‬
‫العمل بالخرب قبل الكشف عنه والتثبت منه(‪.(٣‬‬
‫خصص الفاسق ألنه مظنة الكذب‪ ،‬وحتى ال يشيع‬ ‫يقول صاحب ِّ‬
‫الظالل‪« :‬و ُي ّ‬

‫(‪ (١‬القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدرة‪ ،‬لشرف (‪ ،)516‬والجامع ألحكام القرآن‪،‬‬
‫للقرطبي (‪.)283/8‬‬
‫(‪ (٢‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬للشنقيطي (‪.)411/7‬‬
‫(‪ (٣‬التفسير الواضح‪ ،‬للحجازي (‪.)503/3‬‬

‫‪١56‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫الشك بين الجماعة المسلمة يف كل ما ينقله أفرادها من أنباء‪ ،‬فيقع ما يشبه الشلل‬
‫يف معلوماهتا‪ ،‬فاألصل يف الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها‪ ،‬وأن‬
‫تكون أنباؤهم مصدقة مأخو ًذا هبا‪ ،‬فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خربه‪،‬‬
‫وبذلك يستقيم أمر الجماعة وس ًطا بين األخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء‪،‬‬
‫وال تعجل الجماعة يف تصرف بنا ًء على خرب فاسق‪ ،‬فتصيب قو ًما بظلم عن جهالة‬
‫وتسرع‪ ،‬فتندم على ارتكاهبا ما يغضب اهلل‪ ،‬ويجانب الحق والعدل يف اندفاع»(‪.(١‬‬
‫والتعبير بكلمة (إنْ ) يف قوله ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ التي هي للشك؛ لإلشارة‬
‫نبيها يق ًظا‪ ،‬يستطيع أن يفهم ويدرك المغازي‪،‬‬
‫إلى أن الغالب يف المؤمن أن يكون ً‬
‫وما تؤول إليه األمور‪ ،‬وما يرتتب عليها‪ ،‬لذا ال يأتيهم كاذب يكذب عليه‪ ،‬وإن‬
‫نادرا(‪.(٢‬‬
‫حصل فال يكون إال ً‬
‫«إن من يتأمل يف واقع الناس اليوم‪ ،‬وينظر يف الكم الهائل من األخبار التي‬
‫نسمعها يف كل يوم‪ ،‬ويرى االختالف والتباين بين مصادر هذه األخبار‪ ،‬يدرك‬
‫عظمة هذا الدين‪ ،‬وسمو هذا المنهج الذي دعا إليه اإلسالم‪ ،‬وأمر به القرآن‪،‬‬
‫وحفظته السنة‪ ،‬وحفظت به السنة»(‪.(٣‬‬
‫ولذلك يقول سيد قطب عند تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [اإلسراء‪« :]3٦ :‬التثبت من كل‬
‫خرب ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها‪ ،‬هو دعوة القرآن الكريم‪،‬‬
‫ومنهج اإلسالم الدقيق»(‪.(٤‬‬

‫(‪ (١‬يف ظالل القرآن‪ ،‬لقطب (‪.)3341/6‬‬


‫(‪ (٢‬تفسير آيات األحكام‪ ،‬للسايس‪ ،‬وآخرون (‪.)460/4‬‬
‫(‪ (٣‬سورة األحزاب دراسة تحليلية وموضوعية‪ ،‬للعمر (‪.)176‬‬
‫(‪ (٤‬يف ظالل القرآن‪ ،‬لقطب (‪.)2227/4‬‬

‫‪١57‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫إن هذا المنهج الرباين المحكم تظهر أهميته يف واقعنا المعاصر اليوم‪ ،‬مع‬
‫انتشار وسائل التواصل‪ ،‬التي تحمل الكثير من األخبار المتنوعة ذات المصادر‬
‫المختلفة؛ وكمثال بسيط ما يتناقله الناس على برنامج (الواتساب) من رسائل ‪ -‬اهلل‬
‫أعلم بصحتها ‪ -‬فيعمد بعض الناس بمجرد حصوله على خرب؛ ما يلبث أن ينشره يف‬
‫المجموعات أو للفراد‪ ،‬دون تثبت من صحته‪ ،‬ثم يتضح أن الخرب كاذب‪.‬‬
‫إن مثل هذا العمل له آثاره السلبية يف أوساط المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬فقد‬
‫يرتتب عليه أحقاد وعداوات على مستوى المجتمعات واألفراد‪ ،‬فحري باإلنسان‬
‫أن يتمسك بالمنهج القرآين قبل أن ينقل أي خرب كان‪ ،‬خاصة ونحن نملك ‪ -‬يف‬
‫عالمنا اليوم ‪ -‬إمكانات ووسائل التثبت السريع التي تمكننا من الوصول إلى‬
‫مصادر األخبار بسرعة فائقة‪.‬‬
‫™ ‪ - 2‬الصلح بني املتخاصمني‪:‬‬
‫قد يترتب على عدم التثبت من األخبار الكاذبة اتخاذ مواقف متضادة ينتج‬
‫قصدا‪ ،‬ولكن سوء فهم يحدث‬
‫عنها خصام وشجار وقتال‪ ،‬وقد يكون ذلك ليس ً‬
‫للناس‪ ،‬سواء على المستوى الفردي أو الطائفي‪ ،‬وقد يدخل الشيطان بين الناس‬
‫ف ُيحدث بينهم الفرقة والخصام‪ ،‬والتنازع واالقتتال‪ ،‬وقد تأخذ الناس الحمية‬
‫الجاهلية فيتعصبون لطائفتهم دون التحقق من سبب النزاع والشقاق‪ ،‬وهذا‬
‫كثيرا يف المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬لذا أتبع القرآن الكريم هذا المنهج الكريم‬
‫حاصل ً‬
‫يف التعامل يف مثل هذه المواقف‪ ،‬فلو حصل اقتتال بين طائفتين من المؤمنين‪ ،‬فإنه‬
‫يتعين على اآلخرين أن يقوموا بواجب الصلح‪ ،‬وإن أبت إحدى الطائفتين وبغت‬
‫على األخرى وتعذر الصلح؛ فيجب الوقوف بجانب الطائفة المبغي عليها‪ ،‬من‬
‫باب نصرة المظلوم وكف الظالم عن الظلم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬

‫‪١5٨‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾ [الحجرات‪.]9 :‬‬
‫وقد روى أنس بن مالك ‪  -‬كما يف الصحيحين ‪ -‬يف سبب نزول هذه‬
‫اآلية الكريمة قال‪ :‬قيل للنبي ‪ :‬لو أتيت عبد اهلل بن أبي‪ ،‬فانطلق إليه‬
‫حمارا‪ ،‬فانطلق المسلمون يمشون معه‪ ،‬وهي أرض‬
‫ً‬ ‫النبي ‪ ،‬وركب‬
‫سبخة‪ ،‬فلما أتاه النبي ‪ ‬قال‪ :‬إليك عني‪ ،‬واهلل لقد آذاين نتن حمارك‪.‬‬
‫ريحا منك‪.‬‬
‫فقال رجل من األنصار‪ :‬واهلل لحمار رسول اهلل ‪ ‬أطيب ً‬
‫فغضب لعبد اهلل رجل من قومه فشتمه‪ ،‬فغضب لكل واحد منهما أصحابه‪ ،‬فكان‬
‫بينهما ضرب بالجريد واأليدي والنعال(‪.(١‬‬
‫وانطال ًقا من قاعدة‪« :‬العربة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب»؛ فإن إصالح‬
‫ذات البين يف أي قضية كانت مطلوب‪ ،‬وهو منهج إسالمي رصين‪َّ ،‬قرره الشرع‬
‫الحنيف‪ ،‬وحث عليه‪ ،‬بل جعل النبي ‪ ‬درجته أعلى من درجة كثير من‬
‫الدرداء ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪َ :‬‬
‫«أ َال‬ ‫األعمال التعبدية‪ ،‬فعن َأبي َّ‬
‫ال ُح‬‫الص َد َق ِة»‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬ب َلى‪َ .‬ق َال‪« :‬إِ ْص َ‬
‫ال ِة َو َّ‬
‫الص َ‬ ‫ُأ ْخبِ ُر ُك ْم بِ َأ ْف َض َل ِم ْن َد َر َج ِة ِّ‬
‫الص َيا ِم َو َّ‬
‫ات ا ْل َب ْي ِن»(‪.(٢‬‬ ‫َذ ِ‬

‫والصلح يف األساس كما هو يف لغة العرب اسم من المصالحة‪ ،‬وهي المسالمة‬


‫تأليف بين‬
‫ٌ‬ ‫بعد المنازعة(‪(٣‬؛ لذلك فإن «إصالح ِ‬
‫ذات البين ال يأيت إال بالخير‪ ،‬ففيه‬
‫ودفع للشحناء‪ ،‬وبه تسكن النفوس‪ ،‬ويزول الخالف‬
‫ٌ‬ ‫القلوب وتقوي ٌة للروابط‬

‫(‪ (١‬صحيح البخاري‪ ،‬للبخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )2545‬باب‪ :‬ما جاء يف اإلصالح بين الناس (‪.)958/2‬‬
‫وصحيح مسلم‪ ،‬لمسلم بن الحجاج‪ ،‬رقم الحديث (‪.)183/5( )4762‬‬
‫(‪ (٢‬صحيح ابن حبان‪ ،‬البن حبان‪ ،‬كتاب الصلح‪ ،‬رقم الحديث (‪.)489/11( )5092‬‬
‫(‪ُ (٣‬ينظر‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬للجرجاين (‪.)134‬‬

‫‪١59‬‬
‫»‬ ‫«‬

‫وتذهب الفرقة‪ ،‬لذا دعانا اهلل تعالى إليه وأمرنا به»(‪.(١‬‬


‫َ‬
‫والتعبير بـ (إنْ ) يف قوله ﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ [الحجرات‪ ]9 :‬فيه‬
‫إشارة إلى أنه ال ينبغي أن يقع قتال بين المسلمين‪ ،‬وإن وقع فإنه نادر(‪ ،(٢‬وذكر‬
‫القرآن الكريم الطائفة‪ ،‬وهي الجماعة من الناس‪ ،‬الذين يجمعهم رأي أو مذهب‬
‫فصاعدا (‪.(٣‬‬
‫ً‬ ‫يمتازون به عن سواهم‪ ،‬وقد ُتطلق على الواحد‬
‫وإن نظر ًة إلى واقعنا المعاصر شاهد على أحوال المسلمين اليوم‪ ،‬من اقتتال‬
‫وتفرق‪ ،‬فما أحوجنا إلى أن نتأمل ونتدبر ما يوجه إليه كتابنا الماثل بين أيدينا‪،‬‬
‫ويدعونا إليه‪ ،‬ونحن اليوم يف أمس الحاجة إلى تطبيق هذا المنهج القرآين إذا أردنا‬
‫الفالح والنجاح يف الحال والمآل‪ ،‬إننا نعيش زمن التفرق واالنقسام‪ ،‬والتكاره‬
‫والتباغض‪ ،‬بل االقتتال البغيض‪ ،‬الذي ينطلق من فكر الطائفية والعرقية‪ ،‬فيا أمة‬
‫اإلسالم أفيقي واستفيقي من هذه الغفلة‪ ،‬فسبيل خالصنا هو المنهج القرآين‪،‬‬
‫الذي أنزله رب العزة والجالل لنطبقه يف حياتنا‪.‬‬
‫™ ‪ -٣‬العدل والقسط‪:‬‬

‫وتبعا لمنهج الصلح بين المتخاصمين السابق ذكره فإن المنهج القرآين‬
‫ً‬
‫يؤكد أن هذا الصلح يجب أن يكون ً‬
‫عادال لكال الطرفين‪ .‬يقول اهلل تعالى يف اآلية‬
‫السابقة‪ ...﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾ [الحجرات‪.]9 :‬‬
‫أمر اهلل ‪ ‬بعد أمره باإلصالح بين الطائفتين المتقاتلتين بالقسط‪،‬‬
‫وهو العدل الذي ال تقوم المجتمعات وال تستقر إال به‪ ،‬والعدل هو‪ :‬وضع الشيء‬

‫(‪ (١‬الوصايا التسع يف سورة الحجرات يف التعامل مع الناس‪ ،‬لزغرب (‪.)26‬‬


‫(‪ (٢‬تفسير آيات األحكام‪ ،‬للسايس (‪.)466/4‬‬
‫(‪ (٣‬إعراب القرآن الكريم وبيانه‪ ،‬للدرويش (‪.)251/7‬‬

‫‪١6٠‬‬

You might also like