Professional Documents
Culture Documents
مفهوم الشعر عند قدامة من خلال كتابه نقد الشعر
مفهوم الشعر عند قدامة من خلال كتابه نقد الشعر
تمهيد:
ليس من اليس ير أن يح ِّدد ال َّد ارس في العص ر الحاض ر مفه وَم الِّش عر عند أح د أعالم الَّنق د أو اإلب داع من
الُق دماء؛ ذل ك أَّن أبس ط َلِبنة في المفه وم -وه و الَّتعري ف -ق د ورد بِص َيغ مختلف ة عند العدي د منهم؛ تبًع ا
ألعصارهم وثقافتهم وتصُّوراتهم؛ حيث تفاوَتت ه ذه الَّتعريف ات؛ م ا بين مرِّك زة على ال وزن والقافي ة ،وم ا بين
ُم برزة للكِّم والكيف ،وأخرى للَقصد والنَّية ،وما بين مؤِّكدة للَّنظم والَّتصوير ...وهكذا[.]1
ومن خالل هذه المنطَلقات المدخلَّية يبدو لنا مدى الصعوبة التي َتكُم ن في هذه الدراسة؛ الس تنباط مفه وم
الشعر لدى ناقٍد أو مبدع أو شاعر.
فها نحن أمام عَلم من أعالم النقد ،مح اولين تحدي َد مفه وم الشعر عنده ،واس تخراَج بعِض مق اييَس يجع ل
الكالم الموزون شعًرا لديه.
وهذا العَلم هو ُقدامة بن جعفر ،وعَم ُلنا ه ذا مؤَّس ٌس على كتاب ه "نق د الشعر"" ،ال ذي ُيع ُّد أَّول أث ر نق دٍّي
ِعلمٍّي مشهور في األدب العربي"[.]2
وأدرك ثعلًبا والمبِّرد وابن قتيبة وطبقَت هم ،ونشأ في بغداد ،كان نصرانيا ثم أس َلم على ي د الخليف ة العباس ِّي
المكتفي باهلل.
قرأ واجتهد وبَر ع في ِصناعتي البالغة والحساب ،وتأَّثر بالمنطق والفلسفة وهذا مما يب دو في تص انيفه ،كم ا
برع في اللغة واألدب والفقه والكالم.
وكان أحَد رُج لين عَّرف علم البديع ،ورَس م طريقت ه وأوض ح نهَج ه ،وأب ان للناس س بيَله ،ل ه طريق ٌة ف َّذة في
التأليف ،تجمع إلى غزارة المادة عمق التفك ير ،وكانت ثقافت ه ذات مص دَر ين؛ أح دهما ع ربي تنط ق ب ه كُّل
صفحة من صفحات مؤلفاته ،والثاني يوناني يتجَّلى أكثر ما يتجلى في كتابه "نقد الشعر" ،الذي ب دا في ه أث ُر
كتاب "الخطابة" ألرسطو.
وهو يرى أن الشعر -شأنه ش أن أي صناعة أخ رى -يعت وره طَرف ان؛ الَّط َرف األقص ى ه و الج ودة ،والط َرف
األدنى هو الَّر داءة ،وبين هذين الط َرفين ت أتي ح اُل التوس ط بين الج ودة وال رداءة ،وه و عندما يح ِّدد تعريًف ا
للشعر َينظر في هذه العناصر المذكورة بطريقة شكليٍة محض ة ،فيح ِّدد الص فات ال تي يص ل الشعر به ا إلى
أقصى درجات الجودة ،ثم يحِّدد بعد ذلك العيوَب التي بها ينحدر الشعُر بها إلى أدنى درجات الرداءة.
فَيرى ُقدامُة أنه يمكن إحداُث تراكيَب وائتالٍف بين هذه العناصر األربعة للشعر على هذا الَّنحو:
♦ اللفظ مع الوزن.
اللفظ مع المعنى. ♦
♦ الوزن مع المعنى.
♦ القافية مع المعنى.
ويحاول النظر في كِّل عنصر على حدٍة ،في بِّين عالم ات الج ودة في ه ،ثم ينتق ل إلى بي ان المحِّس نات العام ة
للمعاني التي يورد فيها طَرًف ا من ألوان البديع ،ويضع له ا مص طلحات ،ثم ينتق ل بع د ذل ك إلى بي ان موجب ات
الُح سن أو الجودة في العناصر المرَّكبة ،حتى انتهى من بيان الُّنعوت ،فانتقل إلى بي ان العي وب وأوض َح ها في
العناصر المفَردة أوًال ،ثم بعد ذلك أوضح العيوب التي تقع في المعاني عاَّم ة ،ثم بعد ذلك ذكر بيان العيوب في
العناصر المركبة.
فاختلف موقف العلماء تجاه نقد الِّشعر البن جعفر ،وهو كالتالي:
ُّظ
ا -فِمنهم َم ن أثَن وا علي ه وتص َّد وا لُن ص رته ،من أمث ال عب داللطيف الَبغ دادي في تأليف ه "كشف ال الم ة عن
قدامة" ،وابن أبي اإلصبع في كتابه "الميزان".
ب -ومنهم من رَف ضوا رأيه الذي تبَّناه في كتابه مث ل اآلم دي ،وأل ف كتاًب ا س ماه "تب يين غل ط قدام ة" ،وابن
َر شيق في كتابه "تزييف نقد قدامة".
ج -ومن الُّنق اد -فيم ا يب دو لنا -من كان لهم اتج اٌه وس طي؛ ألن ه ذا الكت اب بناٌء هندس ي انشغل أوًال
بتقسيم األجزاء واألركان ،فبعد أن أتم هذا التقسيم مَأل هذه األركاَن بنقد الشعر.
وِمن هنا َيكُم ن العيب األساسُّي والمآخذ الرئيس ة؛ حيث نق د الشعر بعي ًد ا عن الشعر ،فه و لم يقم بنق ده
للعمل الشعرِّي انطالًق ا مما توجبه الظاهرُة نفُس ها ،ولكنه أقام بناء نق دًّيا بع د ذل ك أقَح م في ه الِّش عر ،ولع ل
هذه العملية ناتجٌة عن تأُّثره بالفلسفة والمنطق؛ ولهذا ق د يك ون عم ُل قدام ة مفي ًد ا في جزئيات ه المتفِّرق ة
لعلماء البالغة ،دون علماء النقد.
"إَّن أول ما ُيحتاج إليه في العبارة عن هذا الفِّن معرفُة حِّد الشعر الحائز له عَّم ا ليس بشعر ،وليس يوج د في
العبارة عن ذلك أبلُغ وال أوجُز -مع تمام الداللة ِ -من أن ُي قال فيه :إن ه ق وٌل م وزون مقًّف ى ي دُّل على معًنى"[
.]3
وُقدامة يثير انتباه اآلخرين على االهتمام والعناية ،بما سيقِّدمه حًّد ا معرفًّيا واضًح ا للشعر ،قَّلما يوج د للشعر
مثله ،وذلك حينما عَّر فه بقوله" :إنه قوٌل موزوٌن مقًّف ى يدُّل على معنى".
وقولنا( :يدل على معنى) َيفصل ما جرى من القول على قافية ووزٍن ،م ع دالل ٍة على معًنى مم ا ج رى على
ذلك من غير داللة على معنى؛ فإنه لو أراد مريٌد أن َيعمل من ذلك شيًئا على ه ذه الجه ة ألمَك نه وم ا تع َّذر
عليه"[.]4
ولهذا ال يكون القول الموزون شعًرا انطالًق ا من أَح د المستويين ،فال بَّد من اعتبارهما مًعا؛ ولذا رَفض االحتك اَم
إلى مادة المعنى في ذاتها.
يتنَّزل المعنى عنده في مستوى الشكل الذي يشمل العناصر المفردة والمرَّكبة ،وه و ب ذلك يغ دو م ادًة غ يَر
مفاِرقة لشكلها ،ومستوى المعنى في ذاته حيُث َيبحث من منظور قيمته وغايته ،وفكرة الجودة والرداءة َتنب ع
من هذه البابة.
المبحث الثاني :معايير الجودة في الشعر
هذه المعايير عبارٌة عن شرائَط تشمل كَّل ما هو لفظي؛ من كلمة وتركيب ،ووزٍن وقافية ،وما هو معنوي؛ من
شكل القصيدة والتحاِم األجزاء ،والتزاِم الُّنعوت واجتناِب العيوب.
وإذا أنَع منا النظ ر في ه ذه المواصفات كِّله ا ،يمكن لنا تقس يُم ها إلى ن وعين رئيَس ين ،منه ن وٌع متعل ق
بالشكل ،وآخُر متعِّلق بالمعنى.
ج -نعت القوافي[:]7
ويشترط فيها أن تكون َع ذبَة الحرف سِلسَة الَم خ َرج ،وكذلك جع ل من ُنعوته ا الَّتص ريع وه و إلح اق الَع روض
بالَّضرب وزًنا وَتقفية ،سواٌء بزيادة أو نقصان.
وَيرى قدامُة أَّن امَرَأ القيس أكثُر َم ن يستعمل ذلك ،فمنه قوُله:
ِقف" " " ""ا َنب " " " "ِك ِم ن ِذ ك" " " ""رى ح" " " ""بيٍب
وَم نزِل
بِس ْق ِط الَّل وى بين ال" " " " ""َّدخوِل
فَح وَم ِل
فكلما أغَرب الشاعر في معانيه ،وابتَع د عن الواقع بمسافة بعيدة ،وقع في اإلحالة ،وابتعد عن الصَّح ة.
لقد صَّنف الدكتور العياشي السنوني -عند تناوُله هذه القضيَة -مواقَف العلماء إلى ثالثة[:]8
االتجاه األول:
فهؤالء َيعتقدون أحَس َن الشعِر أصَد َق ه؛ كبيِت حساَن بِن ثابت:
وإَّن أشَعر بيٍت أنت قائُله
بيٌت ُيق" " " " " " ""ال إذا أنشدَته
صَد قا
والمبِدع وإن كان َينظم في إطار الِّصدق ُيبدي من المهارة واالقِتدار على ُم طاوعة القول ما َيجعل ِمن قوله فًّن ا
رائًعا.
ومن الذين نَح وا هذا المنحى اآلمدُّي صاحب "المواَز نة بين أبي تَّم ام والُبحتري".
االتجاه الثاني:
والشعر عندهم أكَذ ُب ه؛ بمع نى أَّنهم يخت ارون المبالغ ة والغل َّو ،ومن ال ذين ش اَيعوا ه ذا الم ذهب قدام ُة بن
جعفر ،وهو خيُر ِمن استلَه م البيوتيقا األرسطَّية ،واستثمَرها في تناول قضايا الِّشعر.
االتجاه الثالث:
أصحاب الوس طَّية ،وي َر ون أن أحس ن الشعر أقَص ُد ه ،وِمن ال ذين نَّوه وا به ذه الرؤي ة الجاح ظ ،والم رزوقي،
والقاضي علُّي بن عبدالعزيز الجرجاني.
فلَن قرأ لقدامة الذي ُي دافع عن موقفه من خالل تحليله بيَت حسان بن ثابت ودفاعه عنه[:]9
َلنا الجَف ناُت الُغ ُّر َيلَم عن
بالُّضحى
وأسياُفنا َيقُطرَن ِم ن َنجدٍة َد ما
وذلك أَّنهم يَر ون موضع الَّطعن على حسان في قوله( :الُغ ر) وكان ممكًن ا أن يق ول (الِبيض)؛ ألَّن الغ َّرة بي اٌض
قليل في لوٍن آَخ ر غيره ،وقالوا :فلو قال( :الِبيض) لكان أكثَر بياًضا من الغَّرة ،وفي قولهَ( :يلَم عن بالضحى) ول و
قال( :بال ُّدجى) لك ان أحَس ن ،وفي قول ه( :وأس ياُفنا َيقُط رن من نج دٍة َد م ا) ق الوا :ول و ق ال (َيج رين) لك ان
أحسن؛ إذ كان الجرُي أكثَر من القطر.
وَم ن أنَع م النظَر علم أَّن هذا الرد على حسان من النابغة كان أو من غيره -خطٌأ ،وأَّن حَّس اًنا مص يٌب ؛ إذ كان
مطابقُة المعنى بالحِّق في يده ،وكان الرُّد عليه عادًال عن الصواب إلى غيره.
فمن ذلك أًن حساًنا لم ُي رد بقوله( :الغر) أن يجَع ل الِجفاَن ِبيًض ا ،ف إذا َق ص ر عن تص يير جميعه ا بيًض ا نقص م ا
أراده ،لكنه أراد بقوله (الغر) :المشهورات؛ كما ُي قال( :يوٌم أَغ ُّر) (ويٌد غَّراء) ،وليس ُي راد البي اض في ش يٍء من
ذلك ،بل يراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في (يلمعن بالضحى) وأنه لو قال (بالُّدجى) لكان أحسن من قوله( :بالضحى)؛ إذ كل ش يء
يلَم ع بالضحى ،فهذا خالُف الحق وعكس الواجب؛ ألنه ليس َيكاد يلم ع بالنه ار من األش ياء إال الس اطُع النور
الشديد الِّضياء ،فأَّم ا الليل فأكثُر األشياء ِمن أدنى نور وأيسِر َبصيٍص يلمع فيه.
فِمن ذلك الكواكب وهي بارزٌة لنا مقابلة ألبصارنا ،دائًم ا تلمع بالليل ويقُّل لَم عانها بالَّن هار حتى تخفى ،وكذلك
الُّس ُر ج والمصابيح َينقص نورها كَّلما أضحى النهار ،وفي الليل َتلمُع عيون الِّسباع لشَّد ة بصيصها وكذلك اليراع
حتى تخال ناًرا.
فأما قول النابغة أو من ق ال :إن قول ه في الس يوف( :يج رين) خ يٌر من قول ه( :يقط رن)؛ ألَّن الج ري أكثُر ِمن
القطر ،فلم ُي رد حسان الكثرة وإنما ذهَب إلى ما يلفظ به الناُس ويعتادونه من وصِف الشجاع الباس ل والبط ل
الفاتك بأن يقولوا :سيفه َيقطر دًم ا ،ولم ُيسَم ع :سيفه َيجري دًم ا ،ولعله لو قال :يجرين دًم ا عَد ل عن الم ألوف
المع روف من وصف الشجاع النج د إلى م ا لم َتج ِر ع ادُة الع رب بوصفه ...ف أقول :إن الغل َّو عندي أج وُد
المذهبين ،ومن أنكر على مهلهل والنمر وأبي نواس قولهم المقدم ذكره ،فهو مخطئ ،ألنهم وغيرهم -ممن
ذهب إلى الغلو -إنما أرادوا به المبالغَة والغلو بما َيخرج عن الموجود وَيدخل في باب المعدوم؛ فإنم ا يري د ب ه
المثل وبلوغ النهاية في الَّنعت ،وهذا أحسُن من المذهب اآلخر.
المبحث الثالث:
معايير الرداءة في الشعر
والمقصود منها مخالفُة الشاعر قوانيَن الجودة وشرائَطها ،وهذه المعايير تسَّم ى بالعيوب؛ فِمنها ما هو متعِّلق
باللفظ ،ومنها ما هو متعلق بالمعنى.
وعناصر العيب لها ارتباط وثيٌق باللفظ المستعَم ل والوزن الَع روضِّي والقافية.
أ -عيب اللفظ:
المعاظلة[:]11
وهي التي وَص ف عمُر بن الخطاب رض ي هللا عنه زه يًرا بمجانَبِت ه له ا أيًض ا؛ حيث ق ال :وكان ال ُيعاِظ ل بين
الكالم.
وسألُت أحمد بن يحيى عن المعاظلة فقالُ :م داَخ لة الشيء في الشيء ،يقال :تع اَظَلت الجرادت ان ،وعاظ ل
الرجُل المرأة إذا ركب أح ُد هما اآلَخ ر ،وإذا كان األم ر كذلك فِمن المح ال أن ُننك ر ُم داخل َة بعض الكالم فيم ا
ُيشبهه من وجه ،أو فيما كان من جنسه ،أَّم ا الَّنكير فإنما هو في أن ُيدخل بعض ه فيم ا ليس من جنس ه وم ا
هو غير الئق به ،وما أعرف ذلك إال فاحَش االستعارة؛ مثل قول الشاعر:
وما رَقَد الِو لداُن حتى رأيُته
على البك" " " " "ِر مريِه بساٍق
ُي
وحافِر
ويعِّلق ابن جعفٍر على الشاعر بقوله" :فسَّم ى ِرجل اإلنسان حافًر ا؛ فإن ما َج رى هذا المجرى من االس تعارة
قبيٌح ال عذر فيه"[.]12
ب -عيب الوزن:
التخُّلع[:]13
وهو أن َيكون قبيَح الوزن قد أفرط تزحيفه وجعل ذلك بنيٍة للِّشعر كِّله ح تى ميل ه إلى االنكس ار ،وأخرج ه من
باب الشعر الذي َيعرف السامُع له صحَة وزن ه في أَّول وهل ة إلى م ا ُينِك ره ح تى ُينعم ذوق ه أو يعرض ه على
الَع روض فيصح فيه؛ فإَّن ما جرى هذا المجرى من الشعر ناقُص الَّطالوة قليل الحالوة.
ج -عيب القافية:
إَّن الحديث عن هذا العيب هو الَم عايب ال تي ُو ِض عت في كتب الع روض ،ولن نط ِّول الكالم في ذل ك ،وكذلك
هناك عيٌب يدرس حركة الروِّي وحرفه ،ومنه ما يهتُّم بحرِف ما قبله ،وبح رِف م ا بع ده ،وبعب ارة أخ رى الَّل وازم
الَق ْب لية واللوازم الَبعدية.
التجميع[:]15
وه و أن تك ون قافي ُة الِمص راع األول من ال بيت األول على َر وٍّي متهِّيئ ألْن َتك ون قافي َة آخ ر ال بيت ،فت أتي
بخالِفه.
أ -فساد األقسام[:]16
وذلك يكون إَّم ا بأن يكِّررها الشاعر ،أو يأتي بقسمين أحدهما داخٌل تحت اآلخر في الوقت الحاضر ،أو يج وز أن
َيدخل أحُد هما في اآلَخ ر في المستأَنف ،وأن يَد ع بعضها فال يأتي به.
وقد ُض ِحك ِمن أنَوك سأل مَّرة فقالَ :ع لقمة بن َع بدة جاهلٌّي أم من تميم؛ ف إَّن الج اهلي ق د َيك ون ِمن ب ني
تميم أو بني عامر ،والتميمَّي قد يكون إسالمًّيا أو جاهلًّيا.
ب -فساد المقابالت[:]17
وهو أن يَضع الشاعر معًن ى ُي ريد أن يقابله بآَخ ر إَّم ا على جهة الُم واَف قة أو المخاَلف ة ،فيك ون أح ُد المعنيين ال
يخالف اآلخر أو يوافقه ،ومثل ذلك قول أبي علي القرشي:
يا ب خير األخي" " ""اِر ِم ن عب " " "ِد
َن
شمٍس
أنَت َز ي الدنيا وغيُث الجنوِد
ُن
فيرى ابن جعفر قوَله" :زين الدنيا وغيث الجنود" عيًبا؛ ألنهما ال ُيوافقان وال يضاَّدان.
الخاتمة:
إن هذه الجولة صفحاٌت تحاول عرض بعض القضايا التي أثارها ُقدامة بن جعفر؛ لتحديد مفه وم الشعر ،وإب راز
تصُّوٍر عام ملَّخ ص فيما ُيستحسن في الشعر وما يستقبح.
والجدير بالذكر أَّن قدامة رَّكز على الصياغة ،وهذا يكشف عن حضور الوعي بِبنَي ة الكالم ،ومواصفاته الذاتي ة؛
ذلك أن المعانَي معروضٌة للشاعر ،وله أن يتكَّلم فيها فيم ا أحَّب وآث ر ،من غ ير أن يحض ره معًن ى ي روم الكالم
فيه؛ إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة الماَّدة الموضوعة ،والشعر فيها كالُّصورة.
كما هي الحاُل في كِّل صناعة ال بَّد من شيء موضوع َيقبل تأثيَر الصورة منها ،مثل الخشب للِّنج ارة والفَّض ة
للِّصياغة ،وعلى الشاعر إذا شَر ع في أِّي معًن ى كان -من الِّرفعة والَّضَع ة ،والرفث والنزاهة ،والمدح وغير ذلك
من المعاني الحميدة أو الذميمة -أن يتوَّخ ى البلوَغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة.
وإذا كان الموقف السالف ُي فسح المجال للشاعر ِلَينتقي المع نى ال ذي ُيري د ،كأن ُيص ِّور تجرب ة شخص َّية أو
يقصد في المدح إلى الوصف بخالف المعاني النفسَّية ال تي رَّس َخ ها قدام ة مث ل أن َيص ف المم دوَح بجم ال
الوجه مثًال؛ فإنه يبدو أَّن انفساح المجال المعنوِّي للشاعر ال َيعني الخروج عن المواصفات المحدودة للمع نى
الالئق بحسب ما تتطَّلبه مقتضيات الوظيفة؛ ذلك أن إزالة الَح ظر على الشاعر فيم ا َيبتغي قوُل ه من المع نى
ال َيعني إزالَة كِّل ضابط ،بل َينبغي أن يكون االنتقاُء َوفق مراتِب المعاني المالئمة لألغراض.
وما دام تنُّوع األغراض كثيًر ا فإنه َيس تتبعه تنُّوع المع اني وتفاُو ته ا ،وح تى ل و ح َد ث أْن كان الوصُف مخالًف ا
لمقتضى الغرض؛ كَوصف المغامرات الِّنسائية المِرئ القيس ال تي يورُد ه ا قدام ة ،ثم ُي عِّل ق أْن ليس َفحاش ٌة
المعنى في نفِسه ،مما ُي زيل جودَة الشعر فيه ،كما ال َيعيب جودَة الِّنجارة في الخشب مثًال رداءُته في ذات ه،
وَيدعم قدامُة وجهَة نظره في ضرورة قصد التجويد في القول بَغ ِّض النظر عن قيمة المع نى في ذات ه ،م ا دام
المعتَبُر هو تجويَد الصياغة فلن يكون عيًبا على ش اعر م ا مدُح ه الشيَء في قص يدة ثم ذُّم ه في أخ رى إن
أحَس َن المدَح والذم.
بل يدل ذلك -عند قدامة -على قَّوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها.
وفي األخير ُنشير إلى أن إحساس قدامة بتالُح م المادة وصورتها هو الذي هَّيأ لبحث ائتالف عناصر الَّنص ،مع
َد رسه كًّال منها على حَد ة ،حسب ما حَّد ده منهُج ه الخاُّص .
والذي َوِددنا عرَضه في هذه الُو ريقة يعتبر َغ رفًة من البحر المحيط ،فما زال ب اُب اس تيفاء رؤي ة نقدَّي ة لقدام ة
مفتوًح ا للدراسة والنقد ،وال نَّد عي االستيفاء بإعطاء حق هذه الدراسة.
-3من عناصر نظرية الشعر عند الجاحظ؛ الدكتور عبدالرحيم الرحموني ،منشورات جامع ة س يدي محم د بن
عبدهللا -ظهر المهراز -فاس -المغرب.
[ ]1من عناصر نظرية الشعر عند الجاحظ ،الدكتور عبدالرحيم الرحموني ،منشورات جامعة س يدي محم د بن
عبدهللا ،ص .11
[ ]2الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي محقق نقد الشعر ،ص .3
[ ]3نقد الشعر؛ قدامة بن جعف ر ،تحقي ق ال دكتور محم د عب دالمنعم خف اجي ،دار الكتب العلمي ة -ب يروت -
لبنان ،بال تاريخ ،ص .64
[ ]4المرجع السابق.64 ،
[ ]5ينظر المرجع السابق ،ص .77
[ ]6المرجع السابق ،ص .78
[ ]7المرجع السابق ،ص .86
[ُ ]8ينظر :مقِّومات الرؤية النقدية عند أبي علٍّي المرزوقي؛ الدكتور العياشي السنوني ،ص .84 ،83 ،82
[ ]9نقد الشعر.94 ،93 ،92 ،
[ ]10المرجع السابق.172 ،
[ ]11المرجع السابق.174 ،
[ ]12المرجع السابق.175 ،
[ ]13المرجع السابق.178 ،
[ ]14المرجع السابق.179 ،
[ ]15المرجع السابق.181 ،
[ ]16المرجع السابق.192 ،
[ ]17المرجع السابق.193 ،
[ ]18المرجع السابق.203 ،