Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 9

‫مفهوم الشعر عند قدامة من خالل كتابه نقد الشعر‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ليس من اليس ير أن يح ِّدد ال َّد ارس في العص ر الحاض ر مفه وَم الِّش عر عند أح د أعالم الَّنق د أو اإلب داع من‬
‫الُق دماء؛ ذل ك أَّن أبس ط َلِبنة في المفه وم ‪ -‬وه و الَّتعري ف ‪ -‬ق د ورد بِص َيغ مختلف ة عند العدي د منهم؛ تبًع ا‬
‫ألعصارهم وثقافتهم وتصُّوراتهم؛ حيث تفاوَتت ه ذه الَّتعريف ات؛ م ا بين مرِّك زة على ال وزن والقافي ة‪ ،‬وم ا بين‬
‫ُم برزة للكِّم والكيف‪ ،‬وأخرى للَقصد والنَّية‪ ،‬وما بين مؤِّكدة للَّنظم والَّتصوير‪ ...‬وهكذا[‪.]1‬‬

‫ومن خالل هذه المنطَلقات المدخلَّية يبدو لنا مدى الصعوبة التي َتكُم ن في هذه الدراسة؛ الس تنباط مفه وم‬
‫الشعر لدى ناقٍد أو مبدع أو شاعر‪.‬‬

‫فها نحن أمام عَلم من أعالم النقد‪ ،‬مح اولين تحدي َد مفه وم الشعر عنده‪ ،‬واس تخراَج بعِض مق اييَس يجع ل‬
‫الكالم الموزون شعًرا لديه‪.‬‬

‫وهذا العَلم هو ُقدامة بن جعفر‪ ،‬وعَم ُلنا ه ذا مؤَّس ٌس على كتاب ه "نق د الشعر"‪" ،‬ال ذي ُيع ُّد أَّول أث ر نق دٍّي‬
‫ِعلمٍّي مشهور في األدب العربي"[‪.]2‬‬

‫الفصل األول‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬وكتابه نقد الشعر‪:‬‬


‫المبحث األول‪ :‬المؤلف في سطور‪:‬‬
‫هو قدامة بن جعفر بن زياد البغدادي‪ ،‬ول د في البص رة في الثلث األخ ير من الق رن الث الث الهج ري بالتحدي د‬
‫سنة‪ 260 :‬أو ‪ 276‬هجرية‪ ،‬الموافق عام‪ 889 :‬ميالدًّيا‪.‬‬

‫وأدرك ثعلًبا والمبِّرد وابن قتيبة وطبقَت هم‪ ،‬ونشأ في بغداد‪ ،‬كان نصرانيا ثم أس َلم على ي د الخليف ة العباس ِّي‬
‫المكتفي باهلل‪.‬‬

‫وتوِّفي عام‪ 337 :‬هجري‪ ،‬الموافق سنة‪ 948 :‬ميالدية‪.‬‬

‫قرأ واجتهد وبَر ع في ِصناعتي البالغة والحساب‪ ،‬وتأَّثر بالمنطق والفلسفة وهذا مما يب دو في تص انيفه‪ ،‬كم ا‬
‫برع في اللغة واألدب والفقه والكالم‪.‬‬

‫وكان أحَد رُج لين عَّرف علم البديع‪ ،‬ورَس م طريقت ه وأوض ح نهَج ه‪ ،‬وأب ان للناس س بيَله‪ ،‬ل ه طريق ٌة ف َّذة في‬
‫التأليف‪ ،‬تجمع إلى غزارة المادة عمق التفك ير‪ ،‬وكانت ثقافت ه ذات مص دَر ين؛ أح دهما ع ربي تنط ق ب ه كُّل‬
‫صفحة من صفحات مؤلفاته‪ ،‬والثاني يوناني يتجَّلى أكثر ما يتجلى في كتابه "نقد الشعر"‪ ،‬الذي ب دا في ه أث ُر‬
‫كتاب "الخطابة" ألرسطو‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬منهج قدامة في كتابه "نقد الشعر"‪:‬‬


‫ينطلق ُقدامة من تعريفه للِّشعر إلى َح ص ر العناصر األولي ة ال تي يتك َّون منه ا الشعر‪ ،‬وهي‪ :‬اللف ظ وال وزن‪،‬‬
‫والقافية والمعنى‪.‬‬

‫وهو يرى أن الشعر ‪ -‬شأنه ش أن أي صناعة أخ رى ‪ -‬يعت وره طَرف ان؛ الَّط َرف األقص ى ه و الج ودة‪ ،‬والط َرف‬
‫األدنى هو الَّر داءة‪ ،‬وبين هذين الط َرفين ت أتي ح اُل التوس ط بين الج ودة وال رداءة‪ ،‬وه و عندما يح ِّدد تعريًف ا‬
‫للشعر َينظر في هذه العناصر المذكورة بطريقة شكليٍة محض ة‪ ،‬فيح ِّدد الص فات ال تي يص ل الشعر به ا إلى‬
‫أقصى درجات الجودة‪ ،‬ثم يحِّدد بعد ذلك العيوَب التي بها ينحدر الشعُر بها إلى أدنى درجات الرداءة‪.‬‬

‫فَيرى ُقدامُة أنه يمكن إحداُث تراكيَب وائتالٍف بين هذه العناصر األربعة للشعر على هذا الَّنحو‪:‬‬
‫♦ اللفظ مع الوزن‪.‬‬
‫اللفظ مع المعنى‪.‬‬ ‫♦‬
‫♦ الوزن مع المعنى‪.‬‬
‫♦ القافية مع المعنى‪.‬‬

‫ويحاول النظر في كِّل عنصر على حدٍة ‪ ،‬في بِّين عالم ات الج ودة في ه‪ ،‬ثم ينتق ل إلى بي ان المحِّس نات العام ة‬
‫للمعاني التي يورد فيها طَرًف ا من ألوان البديع‪ ،‬ويضع له ا مص طلحات‪ ،‬ثم ينتق ل بع د ذل ك إلى بي ان موجب ات‬
‫الُح سن أو الجودة في العناصر المرَّكبة‪ ،‬حتى انتهى من بيان الُّنعوت‪ ،‬فانتقل إلى بي ان العي وب وأوض َح ها في‬
‫العناصر المفَردة أوًال‪ ،‬ثم بعد ذلك أوضح العيوب التي تقع في المعاني عاَّم ة‪ ،‬ثم بعد ذلك ذكر بيان العيوب في‬
‫العناصر المركبة‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬قيمة كتاب نقد الِّشعر عند العلماء‪:‬‬


‫لما ُنِشر الكتاب وطاَر ت ش هرته في كِّل مك ان‪ ،‬أح َد ث ض َّج ة عالي ة في ع الم األدب‪ ،‬وتناول ه األدب اُء والنق اد‬
‫بالُّردود والُّش روح‪.‬‬

‫فاختلف موقف العلماء تجاه نقد الِّشعر البن جعفر‪ ،‬وهو كالتالي‪:‬‬
‫ُّظ‬
‫ا ‪ -‬فِمنهم َم ن أثَن وا علي ه وتص َّد وا لُن ص رته‪ ،‬من أمث ال عب داللطيف الَبغ دادي في تأليف ه "كشف ال الم ة عن‬
‫قدامة"‪ ،‬وابن أبي اإلصبع في كتابه "الميزان"‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ومنهم من رَف ضوا رأيه الذي تبَّناه في كتابه مث ل اآلم دي‪ ،‬وأل ف كتاًب ا س ماه "تب يين غل ط قدام ة"‪ ،‬وابن‬
‫َر شيق في كتابه "تزييف نقد قدامة"‪.‬‬

‫ج ‪ -‬ومن الُّنق اد ‪ -‬فيم ا يب دو لنا ‪ -‬من كان لهم اتج اٌه وس طي؛ ألن ه ذا الكت اب بناٌء هندس ي انشغل أوًال‬
‫بتقسيم األجزاء واألركان‪ ،‬فبعد أن أتم هذا التقسيم مَأل هذه األركاَن بنقد الشعر‪.‬‬

‫وِمن هنا َيكُم ن العيب األساسُّي والمآخذ الرئيس ة؛ حيث نق د الشعر بعي ًد ا عن الشعر‪ ،‬فه و لم يقم بنق ده‬
‫للعمل الشعرِّي انطالًق ا مما توجبه الظاهرُة نفُس ها‪ ،‬ولكنه أقام بناء نق دًّيا بع د ذل ك أقَح م في ه الِّش عر‪ ،‬ولع ل‬
‫هذه العملية ناتجٌة عن تأُّثره بالفلسفة والمنطق؛ ولهذا ق د يك ون عم ُل قدام ة مفي ًد ا في جزئيات ه المتفِّرق ة‬
‫لعلماء البالغة‪ ،‬دون علماء النقد‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬مفهوم الشعر عند قدامة‪ ،‬ومكوناته‪:‬‬


‫المبحث األول‪ :‬تعريف الِّشعر‪:‬‬
‫إَّن قدامة أولى أهميًة ُكبرى في تعريفه للشعر؛ حيث يؤِّلف عنده مدخًال يضبط تصُّوره المعياري‪ ،‬لمعرف ة جي د‬
‫الشعر من رديئه‪ ،‬وَيرى أن األمر لم يكن واضًح ا لدى الناس‪ ،‬ومن هنا َينطلق لتأسيس نظريته النقدَّية؛ ليعِّرف‬
‫الشعر وليجعل له مقياًس ا تمييزًّيا؛ فالحكم على شيء فرٌع عن تصوره‪.‬‬

‫"إَّن أول ما ُيحتاج إليه في العبارة عن هذا الفِّن معرفُة حِّد الشعر الحائز له عَّم ا ليس بشعر‪ ،‬وليس يوج د في‬
‫العبارة عن ذلك أبلُغ وال أوجُز ‪ -‬مع تمام الداللة ‪ِ -‬من أن ُي قال فيه‪ :‬إن ه ق وٌل م وزون مقًّف ى ي دُّل على معًنى"[‬
‫‪.]3‬‬

‫وُقدامة يثير انتباه اآلخرين على االهتمام والعناية‪ ،‬بما سيقِّدمه حًّد ا معرفًّيا واضًح ا للشعر‪ ،‬قَّلما يوج د للشعر‬
‫مثله‪ ،‬وذلك حينما عَّر فه بقوله‪" :‬إنه قوٌل موزوٌن مقًّف ى يدُّل على معنى"‪.‬‬

‫ثم شَر ح هذا التعريف‪:‬‬


‫"فقوُلنا‪( :‬قول) داٌّل على أصل الكالم الذي هو بمنزلة الجنس للِّشعر‪.‬‬
‫وقولنا‪( :‬موزون) َيفِصله مما ليس بموزون؛ إذ كان من القول موزوٌن وغير موزون‪.‬‬
‫وقولنا‪( :‬مقًّف ى) فصٌل بيَن ما له من الكالم الموزون قواٍف ‪ ،‬وبين ما ال قوافَي له وال َم قاطع‪.‬‬

‫وقولنا‪( :‬يدل على معنى) َيفصل ما جرى من القول على قافية ووزٍن ‪ ،‬م ع دالل ٍة على معًنى مم ا ج رى على‬
‫ذلك من غير داللة على معنى؛ فإنه لو أراد مريٌد أن َيعمل من ذلك شيًئا على ه ذه الجه ة ألمَك نه وم ا تع َّذر‬
‫عليه"[‪.]4‬‬

‫نالحظ في هذا التعريف أنه رَّكز على مستوَيين‪:‬‬


‫المستوى األول‪ :‬المكونات الشكلَّية للشعر‪.‬‬
‫المستوى الثاني‪ :‬المعاني‪.‬‬

‫ولهذا ال يكون القول الموزون شعًرا انطالًق ا من أَح د المستويين‪ ،‬فال بَّد من اعتبارهما مًعا؛ ولذا رَفض االحتك اَم‬
‫إلى مادة المعنى في ذاتها‪.‬‬

‫يتنَّزل المعنى عنده في مستوى الشكل الذي يشمل العناصر المفردة والمرَّكبة‪ ،‬وه و ب ذلك يغ دو م ادًة غ يَر‬
‫مفاِرقة لشكلها‪ ،‬ومستوى المعنى في ذاته حيُث َيبحث من منظور قيمته وغايته‪ ،‬وفكرة الجودة والرداءة َتنب ع‬
‫من هذه البابة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬معايير الجودة في الشعر‬
‫هذه المعايير عبارٌة عن شرائَط تشمل كَّل ما هو لفظي؛ من كلمة وتركيب‪ ،‬ووزٍن وقافية‪ ،‬وما هو معنوي؛ من‬
‫شكل القصيدة والتحاِم األجزاء‪ ،‬والتزاِم الُّنعوت واجتناِب العيوب‪.‬‬

‫وإذا أنَع منا النظ ر في ه ذه المواصفات كِّله ا‪ ،‬يمكن لنا تقس يُم ها إلى ن وعين رئيَس ين‪ ،‬منه ن وٌع متعل ق‬
‫بالشكل‪ ،‬وآخُر متعِّلق بالمعنى‪.‬‬

‫‪ -1‬عناصر الجودة الشكلية‪:‬‬


‫أ ‪ -‬نعت اللفظ[‪:]5‬‬
‫وَيشترط في جودة اللفظ الَف صاحة والسماحَة وُخ لَّوه من البشاعة؛ كقول الشاعر‪:‬‬
‫ولَّم ا قَض ينا من ِم ًنى كَّل حاجة‬
‫ِن‬
‫ومَّس ح باألركا َمن هو ماسُح‬
‫وُش َّدت على ُدهِم الَم ه " " " " ""ارى‬
‫ِر حاُلنا‬
‫ولم َينُظ ِر الغ" " ""ادي ال" " ""ذي ه" " ""و‬
‫رائُح‬
‫أَخ ْذنا بأطراِف األحاديِث بيَننا‬
‫ِق ِط‬
‫وساَلت بأعنا الَم ِّي األباطُح‬
‫ب ‪ -‬نعت الوزن[‪:]6‬‬
‫واشَت رط فيه أن يكون سهل العروض‪ ،‬وجَع ل من نعوت ال وزن‪ :‬الترصيع؛ أي‪ :‬تص ييَر مق اطِع األج زاء في ال بيت‬
‫على الَّس جع‪ ،‬أو شبيٍه به‪ ،‬أو من جنس واحٍد في التصريف‪ ،‬مثل أبيات الُم نَّخ ل بن ُع بيد الَيشُكري‪:‬‬
‫ولقد دخلُت على الفتا‬
‫ِة الِخ دَر في اليوِم الَم طيِر‬
‫الكاعُب الَح سناُء َتْر‬
‫ُف ُل في ال " " " " ""ِّد َمقِس وفي‬
‫الحريِر‬
‫فدفعُتها فتدافَعت‬
‫مْش الَق طاِة إلى الغديِر‬
‫َي‬
‫وعطفُتها فتعَّطَف ت‬
‫كتعُّطِف الِغصِن الَّنضيِر‬
‫ولَثمُتها فتنَّف َس ت‬
‫كتنُّف ِس الَّظبِي الَغريِر‬
‫ولقد َش ربُت ِم َن الُم دا‬
‫َمِة بالكبير وبالَّص غيِر‬
‫فإذا َس كرُت فإنني‬
‫رُّب الَخ َو ْر نِق والسديِر‬
‫وإذا صَح وُت فإنني‬
‫رُّب الُّش ويهِة والبعيِر‬

‫ج ‪ -‬نعت القوافي[‪:]7‬‬
‫ويشترط فيها أن تكون َع ذبَة الحرف سِلسَة الَم خ َرج‪ ،‬وكذلك جع ل من ُنعوته ا الَّتص ريع وه و إلح اق الَع روض‬
‫بالَّضرب وزًنا وَتقفية‪ ،‬سواٌء بزيادة أو نقصان‪.‬‬

‫وَيرى قدامُة أَّن امَرَأ القيس أكثُر َم ن يستعمل ذلك‪ ،‬فمنه قوُله‪:‬‬
‫ِقف" " " ""ا َنب " " " "ِك ِم ن ِذ ك" " " ""رى ح" " " ""بيٍب‬
‫وَم نزِل‬
‫بِس ْق ِط الَّل وى بين ال" " " " ""َّدخوِل‬
‫فَح وَم ِل‬

‫وبعده بأبياٍت قال‪:‬‬


‫أفاِط ُم َمهًال بعَض هذا التدُّلِل‬
‫رمي‬ ‫ِت‬ ‫ِت‬
‫وإن كن ق" " " " " " ""د أزَم ْع َص‬
‫فأجِم لي‬

‫وبعده بأبياٍت قال‪:‬‬


‫أال أُّيه " " " ""ا اللي " " " ""ل الطويُل أال‬
‫انَج لي‬
‫بُص بٍح وما اإلص" " ""باُح ِم نك‬
‫بأمَثِل‬

‫‪ -2‬عناصر جودة المعنى‪:‬‬


‫أ ‪ -‬صَّح ة المعنى‪:‬‬
‫المراد بالصَّح ة‪ :‬وضُع كلمات في قواِلَب مالئمٍة للمح ِّل والح ال‪ ،‬فعلى الشاعر مراع اُة نفس ية المتلِّقي‪ ،‬وأن‬
‫يتجَّنب اإلحالة واإلغراق المفِض َيين إلى الَّتشويش على المتلِّقي‪ ،‬وعدم تمُّكن المعنى من ذهنه‪.‬‬

‫فكلما أغَرب الشاعر في معانيه‪ ،‬وابتَع د عن الواقع بمسافة بعيدة‪ ،‬وقع في اإلحالة‪ ،‬وابتعد عن الصَّح ة‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التناسب الغَر ضي‪:‬‬


‫وَيعني به مطابقة الغ َرض للمع نى‪ ،‬واختي اَر األلف اظ ال تي ُتالئم الغ رض ال ذي يق ول في ه‪ ،‬وتَّتس م باالبتك ار‪،‬‬
‫والَّس بِك الجِّيد‪.‬‬

‫ج ‪ -‬قضية المبالغة والغلو‪:‬‬


‫فهذا القسم له عالقة وطيدة بأخَويه؛ ول ذا لم آِت بمث اٍل لهم ا‪ ،‬ومن خالل المعالج ة له ذه الظ اهرة ستتَّض ح‬
‫هذه العالقة‪.‬‬
‫والمبالغة والغلُّو مرتبطة بالِّصدق والكذب في الشعر‪.‬‬

‫لقد صَّنف الدكتور العياشي السنوني ‪ -‬عند تناوُله هذه القضيَة ‪ -‬مواقَف العلماء إلى ثالثة[‪:]8‬‬
‫االتجاه األول‪:‬‬
‫فهؤالء َيعتقدون أحَس َن الشعِر أصَد َق ه؛ كبيِت حساَن بِن ثابت‪:‬‬
‫وإَّن أشَعر بيٍت أنت قائُله‬
‫بيٌت ُيق" " " " " " ""ال إذا أنشدَته‬
‫صَد قا‬
‫والمبِدع وإن كان َينظم في إطار الِّصدق ُيبدي من المهارة واالقِتدار على ُم طاوعة القول ما َيجعل ِمن قوله فًّن ا‬
‫رائًعا‪.‬‬
‫ومن الذين نَح وا هذا المنحى اآلمدُّي صاحب "المواَز نة بين أبي تَّم ام والُبحتري"‪.‬‬

‫االتجاه الثاني‪:‬‬
‫والشعر عندهم أكَذ ُب ه؛ بمع نى أَّنهم يخت ارون المبالغ ة والغل َّو‪ ،‬ومن ال ذين ش اَيعوا ه ذا الم ذهب قدام ُة بن‬
‫جعفر‪ ،‬وهو خيُر ِمن استلَه م البيوتيقا األرسطَّية‪ ،‬واستثمَرها في تناول قضايا الِّشعر‪.‬‬

‫االتجاه الثالث‪:‬‬
‫أصحاب الوس طَّية‪ ،‬وي َر ون أن أحس ن الشعر أقَص ُد ه‪ ،‬وِمن ال ذين نَّوه وا به ذه الرؤي ة الجاح ظ‪ ،‬والم رزوقي‪،‬‬
‫والقاضي علُّي بن عبدالعزيز الجرجاني‪.‬‬

‫◙ محور اختالف الُّنقاد في هذه المسألة‪:‬‬


‫بعد هذه الجولة السردَّية لبيان مواقِف العلماء للقضَّية‪ ،‬يمكن الوقوُف لتحديد مفهوم الِّصدق والك ذب‪ ،‬والقص د‬
‫منهما عند أهل العلم األدبِّي‪.‬‬

‫إن الحَّد المشهور للِّصدق هو ُم طابقة الواقع‪ ،‬وللكذب مخالفُة الواقع‪.‬‬

‫هل الِّصدق ُينظر إليه بمنظور فِّني أو سلوكي أو واقعي؟‬


‫والكذب واقعي أو سلوكي أو فني؟‬
‫والواقع الذي يعيشه عامة الناس ويعرفونه‪ ،‬هل هو مختلف عن دنيا الشعراء؟‬

‫فلَن قرأ لقدامة الذي ُي دافع عن موقفه من خالل تحليله بيَت حسان بن ثابت ودفاعه عنه[‪:]9‬‬
‫َلنا الجَف ناُت الُغ ُّر َيلَم عن‬
‫بالُّضحى‬
‫وأسياُفنا َيقُطرَن ِم ن َنجدٍة َد ما‬

‫وذلك أَّنهم يَر ون موضع الَّطعن على حسان في قوله‪( :‬الُغ ر) وكان ممكًن ا أن يق ول (الِبيض)؛ ألَّن الغ َّرة بي اٌض‬
‫قليل في لوٍن آَخ ر غيره‪ ،‬وقالوا‪ :‬فلو قال‪( :‬الِبيض) لكان أكثَر بياًضا من الغَّرة‪ ،‬وفي قوله‪َ( :‬يلَم عن بالضحى) ول و‬
‫قال‪( :‬بال ُّدجى) لك ان أحَس ن‪ ،‬وفي قول ه‪( :‬وأس ياُفنا َيقُط رن من نج دٍة َد م ا) ق الوا‪ :‬ول و ق ال (َيج رين) لك ان‬
‫أحسن؛ إذ كان الجرُي أكثَر من القطر‪.‬‬

‫وَم ن أنَع م النظَر علم أَّن هذا الرد على حسان من النابغة كان أو من غيره ‪ -‬خطٌأ‪ ،‬وأَّن حَّس اًنا مص يٌب ؛ إذ كان‬
‫مطابقُة المعنى بالحِّق في يده‪ ،‬وكان الرُّد عليه عادًال عن الصواب إلى غيره‪.‬‬

‫فمن ذلك أًن حساًنا لم ُي رد بقوله‪( :‬الغر) أن يجَع ل الِجفاَن ِبيًض ا‪ ،‬ف إذا َق ص ر عن تص يير جميعه ا بيًض ا نقص م ا‬
‫أراده‪ ،‬لكنه أراد بقوله (الغر)‪ :‬المشهورات؛ كما ُي قال‪( :‬يوٌم أَغ ُّر) (ويٌد غَّراء)‪ ،‬وليس ُي راد البي اض في ش يٍء من‬
‫ذلك‪ ،‬بل يراد الشهرة والنباهة‪.‬‬

‫وأما قول النابغة في (يلمعن بالضحى) وأنه لو قال (بالُّدجى) لكان أحسن من قوله‪( :‬بالضحى)؛ إذ كل ش يء‬
‫يلَم ع بالضحى‪ ،‬فهذا خالُف الحق وعكس الواجب؛ ألنه ليس َيكاد يلم ع بالنه ار من األش ياء إال الس اطُع النور‬
‫الشديد الِّضياء‪ ،‬فأَّم ا الليل فأكثُر األشياء ِمن أدنى نور وأيسِر َبصيٍص يلمع فيه‪.‬‬

‫فِمن ذلك الكواكب وهي بارزٌة لنا مقابلة ألبصارنا‪ ،‬دائًم ا تلمع بالليل ويقُّل لَم عانها بالَّن هار حتى تخفى‪ ،‬وكذلك‬
‫الُّس ُر ج والمصابيح َينقص نورها كَّلما أضحى النهار‪ ،‬وفي الليل َتلمُع عيون الِّسباع لشَّد ة بصيصها وكذلك اليراع‬
‫حتى تخال ناًرا‪.‬‬

‫فأما قول النابغة أو من ق ال‪ :‬إن قول ه في الس يوف‪( :‬يج رين) خ يٌر من قول ه‪( :‬يقط رن)؛ ألَّن الج ري أكثُر ِمن‬
‫القطر‪ ،‬فلم ُي رد حسان الكثرة وإنما ذهَب إلى ما يلفظ به الناُس ويعتادونه من وصِف الشجاع الباس ل والبط ل‬
‫الفاتك بأن يقولوا‪ :‬سيفه َيقطر دًم ا‪ ،‬ولم ُيسَم ع‪ :‬سيفه َيجري دًم ا‪ ،‬ولعله لو قال‪ :‬يجرين دًم ا عَد ل عن الم ألوف‬
‫المع روف من وصف الشجاع النج د إلى م ا لم َتج ِر ع ادُة الع رب بوصفه‪ ...‬ف أقول‪ :‬إن الغل َّو عندي أج وُد‬
‫المذهبين‪ ،‬ومن أنكر على مهلهل والنمر وأبي نواس قولهم المقدم ذكره‪ ،‬فهو مخطئ‪ ،‬ألنهم وغيرهم ‪ -‬ممن‬
‫ذهب إلى الغلو ‪ -‬إنما أرادوا به المبالغَة والغلو بما َيخرج عن الموجود وَيدخل في باب المعدوم؛ فإنم ا يري د ب ه‬
‫المثل وبلوغ النهاية في الَّنعت‪ ،‬وهذا أحسُن من المذهب اآلخر‪.‬‬

‫ولالستحسان الشعرِّي حَص ر قدامُة األغراض الشعرَّية في ستة‪:‬‬


‫المدح‪ ،‬والهجاء‪ ،‬والَّنسيب‪ ،‬والمراثي‪ ،‬والوصف‪ ،‬والتشبيه‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪:‬‬
‫معايير الرداءة في الشعر‬
‫والمقصود منها مخالفُة الشاعر قوانيَن الجودة وشرائَطها‪ ،‬وهذه المعايير تسَّم ى بالعيوب؛ فِمنها ما هو متعِّلق‬
‫باللفظ‪ ،‬ومنها ما هو متعلق بالمعنى‪.‬‬

‫‪ -1‬عناصر العيوب اللفظية‪:‬‬


‫وُيقصد بالعيب اللفظي أن يكون ملحوًنا وجارًيا على غيِر سبيل اإلعراب واللغ ة‪ ...‬وأن َي رتكب الشاعُر في ه م ا‬
‫ليس ُيستعمل وال ُيتكَّلم به إال شاًّذا[‪.]10‬‬

‫وعناصر العيب لها ارتباط وثيٌق باللفظ المستعَم ل والوزن الَع روضِّي والقافية‪.‬‬

‫أ ‪ -‬عيب اللفظ‪:‬‬
‫المعاظلة[‪:]11‬‬
‫وهي التي وَص ف عمُر بن الخطاب رض ي هللا عنه زه يًرا بمجانَبِت ه له ا أيًض ا؛ حيث ق ال‪ :‬وكان ال ُيعاِظ ل بين‬
‫الكالم‪.‬‬

‫وسألُت أحمد بن يحيى عن المعاظلة فقال‪ُ :‬م داَخ لة الشيء في الشيء‪ ،‬يقال‪ :‬تع اَظَلت الجرادت ان‪ ،‬وعاظ ل‬
‫الرجُل المرأة إذا ركب أح ُد هما اآلَخ ر‪ ،‬وإذا كان األم ر كذلك فِمن المح ال أن ُننك ر ُم داخل َة بعض الكالم فيم ا‬
‫ُيشبهه من وجه‪ ،‬أو فيما كان من جنسه‪ ،‬أَّم ا الَّنكير فإنما هو في أن ُيدخل بعض ه فيم ا ليس من جنس ه وم ا‬
‫هو غير الئق به‪ ،‬وما أعرف ذلك إال فاحَش االستعارة؛ مثل قول الشاعر‪:‬‬
‫وما رَقَد الِو لداُن حتى رأيُته‬
‫على البك" " " " "ِر مريِه بساٍق‬
‫ُي‬
‫وحافِر‬

‫ويعِّلق ابن جعفٍر على الشاعر بقوله‪" :‬فسَّم ى ِرجل اإلنسان حافًر ا؛ فإن ما َج رى هذا المجرى من االس تعارة‬
‫قبيٌح ال عذر فيه"[‪.]12‬‬

‫ب ‪ -‬عيب الوزن‪:‬‬
‫التخُّلع[‪:]13‬‬
‫وهو أن َيكون قبيَح الوزن قد أفرط تزحيفه وجعل ذلك بنيٍة للِّشعر كِّله ح تى ميل ه إلى االنكس ار‪ ،‬وأخرج ه من‬
‫باب الشعر الذي َيعرف السامُع له صحَة وزن ه في أَّول وهل ة إلى م ا ُينِك ره ح تى ُينعم ذوق ه أو يعرض ه على‬
‫الَع روض فيصح فيه؛ فإَّن ما جرى هذا المجرى من الشعر ناقُص الَّطالوة قليل الحالوة‪.‬‬

‫مثل َع بيد بن األبرص في قوله‪:‬‬


‫والمرُء ما ع " " " ""اش في‬
‫تكذيٍب‬
‫ِة‬
‫طول الحيا له َتعذيُب‬
‫فيقول ابُن جعفر معِّلًق ا عليه‪ :‬فهذا معًنى ِّجيد ولفظ حَس ن‪ ،‬إال أَّن وزنه قد شانه وقَّبح حسَن ه‪ ،‬وأفس د جِّي ده‪،‬‬
‫فما َج رى من التزحيف في القصيدة أو األبيات كِّلها أو أكثرها كان قبيًح ا؛ من أج ل إفراط ه في الَّتخلي ع م رة‪،‬‬
‫ومن أجل دوامه وكثرته ثاني ة‪ ،‬وإنم ا ُيس تحُّب من ال تزحيف م ا كان غ يَر مف رط‪ ،‬وكان في بيٍت أو بي تين من‬
‫القصيدة من غير َتواٍل وال اِّتساق‪ ،‬وال إفراٍط ُيخرجه عن الوزن[‪.]14‬‬

‫ج ‪ -‬عيب القافية‪:‬‬
‫إَّن الحديث عن هذا العيب هو الَم عايب ال تي ُو ِض عت في كتب الع روض‪ ،‬ولن نط ِّول الكالم في ذل ك‪ ،‬وكذلك‬
‫هناك عيٌب يدرس حركة الروِّي وحرفه‪ ،‬ومنه ما يهتُّم بحرِف ما قبله‪ ،‬وبح رِف م ا بع ده‪ ،‬وبعب ارة أخ رى الَّل وازم‬
‫الَق ْب لية واللوازم الَبعدية‪.‬‬

‫التجميع[‪:]15‬‬
‫وه و أن تك ون قافي ُة الِمص راع األول من ال بيت األول على َر وٍّي متهِّيئ ألْن َتك ون قافي َة آخ ر ال بيت‪ ،‬فت أتي‬
‫بخالِفه‪.‬‬

‫مثل ما قال عمُر بن شأس‪:‬‬


‫تذَّك رُت ليلى الَت حيَن اِّدكاِر ها‬
‫وق " " " ""د ُح ني األص " " " ""الُب ُض ًّال‬
‫بَتضالِل‬

‫‪ -2‬عناصر عيوب المعاني‪:‬‬


‫وعيوب المعاني يمكن اعتباُر ها نوعين؛ فالنوع األَّول أن يكون المعنى مواجًه ا للغَرض‪ ،‬غيَر عادٍل عنه إلى جهٍة‬
‫أخرى‪ ،‬واآلخر هو َتناُس ب األلفاظ فيما بينها‪.‬‬

‫أ ‪ -‬فساد األقسام[‪:]16‬‬
‫وذلك يكون إَّم ا بأن يكِّررها الشاعر‪ ،‬أو يأتي بقسمين أحدهما داخٌل تحت اآلخر في الوقت الحاضر‪ ،‬أو يج وز أن‬
‫َيدخل أحُد هما في اآلَخ ر في المستأَنف‪ ،‬وأن يَد ع بعضها فال يأتي به‪.‬‬

‫مثاُل التكرير قوُل ُه ذيل األشَج عي‪:‬‬


‫فما َبِر َح ت ُتومي إلَّي بَطْر ِفها‬
‫وتوِم ُض أحياًن ا إذا َخ ص" " " "ُم ها‬
‫غَف ْل‬
‫فلماذا عاب ابُن جعفر هذا البيت؛ ألن (تومض) و(تومي) بَطْر فها متساوياِن في المعنى‪.‬‬

‫ومثاُل دخول أحد القسمين في اآلَخ ِر قوُل الشاعر‪:‬‬


‫أب" " " " " " " " " " " " " " " " " " " ""ادر إهالَك‬
‫ستهِلٍك‬
‫ُم‬
‫ِل‬
‫لما َي أو عَبَث‬
‫العابِث‬
‫فالعيب هنا هو أَّن عبث العابث دَخ ل في إهالك المستهلك‪.‬‬

‫ومثاُل دخول أحدهما في اآلخر في المستأنف قوُل أبي َع دٍّي القرشي‪:‬‬


‫غ" " " ""يَر ما أْن أك " " ""وَن ِنلُت‬
‫َنواًال‬
‫ِم ن َنداها عفًو ا وال مهنَّيا‬
‫فالعفو قد يجوز أن يكون مهنًّيا والمهنُّي يجوز أن يكون عفًوا‪.‬‬

‫وقد ُض ِحك ِمن أنَوك سأل مَّرة فقال‪َ :‬ع لقمة بن َع بدة جاهلٌّي أم من تميم؛ ف إَّن الج اهلي ق د َيك ون ِمن ب ني‬
‫تميم أو بني عامر‪ ،‬والتميمَّي قد يكون إسالمًّيا أو جاهلًّيا‪.‬‬

‫ب ‪ -‬فساد المقابالت[‪:]17‬‬
‫وهو أن يَضع الشاعر معًن ى ُي ريد أن يقابله بآَخ ر إَّم ا على جهة الُم واَف قة أو المخاَلف ة‪ ،‬فيك ون أح ُد المعنيين ال‬
‫يخالف اآلخر أو يوافقه‪ ،‬ومثل ذلك قول أبي علي القرشي‪:‬‬
‫يا ب خير األخي" " ""اِر ِم ن عب " " "ِد‬
‫َن‬
‫شمٍس‬
‫أنَت َز ي الدنيا وغيُث الجنوِد‬
‫ُن‬
‫فيرى ابن جعفر قوَله‪" :‬زين الدنيا وغيث الجنود" عيًبا؛ ألنهما ال ُيوافقان وال يضاَّدان‪.‬‬

‫ج ‪ -‬مخالفة الُع رف‪ ،‬واإلتيان بما ليس في العادة والطبع[‪:]18‬‬


‫ومن هذا قول الحَكم الُخ ْضري‪:‬‬
‫كانت بنو غالٍب ألمتها‬
‫ك" " " ""الغيِث في ك " " " "ِّل س" " " ""اعٍة‬
‫َيِكُف‬
‫فليس المعهود أن يكون الغيُث واكًفا في كِّل ساعة‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫إن هذه الجولة صفحاٌت تحاول عرض بعض القضايا التي أثارها ُقدامة بن جعفر؛ لتحديد مفه وم الشعر‪ ،‬وإب راز‬
‫تصُّوٍر عام ملَّخ ص فيما ُيستحسن في الشعر وما يستقبح‪.‬‬

‫والجدير بالذكر أَّن قدامة رَّكز على الصياغة‪ ،‬وهذا يكشف عن حضور الوعي بِبنَي ة الكالم‪ ،‬ومواصفاته الذاتي ة؛‬
‫ذلك أن المعانَي معروضٌة للشاعر‪ ،‬وله أن يتكَّلم فيها فيم ا أحَّب وآث ر‪ ،‬من غ ير أن يحض ره معًن ى ي روم الكالم‬
‫فيه؛ إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة الماَّدة الموضوعة‪ ،‬والشعر فيها كالُّصورة‪.‬‬

‫كما هي الحاُل في كِّل صناعة ال بَّد من شيء موضوع َيقبل تأثيَر الصورة منها‪ ،‬مثل الخشب للِّنج ارة والفَّض ة‬
‫للِّصياغة‪ ،‬وعلى الشاعر إذا شَر ع في أِّي معًن ى كان ‪ -‬من الِّرفعة والَّضَع ة‪ ،‬والرفث والنزاهة‪ ،‬والمدح وغير ذلك‬
‫من المعاني الحميدة أو الذميمة ‪ -‬أن يتوَّخ ى البلوَغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة‪.‬‬

‫وإذا كان الموقف السالف ُي فسح المجال للشاعر ِلَينتقي المع نى ال ذي ُيري د‪ ،‬كأن ُيص ِّور تجرب ة شخص َّية أو‬
‫يقصد في المدح إلى الوصف بخالف المعاني النفسَّية ال تي رَّس َخ ها قدام ة مث ل أن َيص ف المم دوَح بجم ال‬
‫الوجه مثًال؛ فإنه يبدو أَّن انفساح المجال المعنوِّي للشاعر ال َيعني الخروج عن المواصفات المحدودة للمع نى‬
‫الالئق بحسب ما تتطَّلبه مقتضيات الوظيفة؛ ذلك أن إزالة الَح ظر على الشاعر فيم ا َيبتغي قوُل ه من المع نى‬
‫ال َيعني إزالَة كِّل ضابط‪ ،‬بل َينبغي أن يكون االنتقاُء َوفق مراتِب المعاني المالئمة لألغراض‪.‬‬

‫وما دام تنُّوع األغراض كثيًر ا فإنه َيس تتبعه تنُّوع المع اني وتفاُو ته ا‪ ،‬وح تى ل و ح َد ث أْن كان الوصُف مخالًف ا‬
‫لمقتضى الغرض؛ كَوصف المغامرات الِّنسائية المِرئ القيس ال تي يورُد ه ا قدام ة‪ ،‬ثم ُي عِّل ق أْن ليس َفحاش ٌة‬
‫المعنى في نفِسه‪ ،‬مما ُي زيل جودَة الشعر فيه‪ ،‬كما ال َيعيب جودَة الِّنجارة في الخشب مثًال رداءُته في ذات ه‪،‬‬
‫وَيدعم قدامُة وجهَة نظره في ضرورة قصد التجويد في القول بَغ ِّض النظر عن قيمة المع نى في ذات ه‪ ،‬م ا دام‬
‫المعتَبُر هو تجويَد الصياغة فلن يكون عيًبا على ش اعر م ا مدُح ه الشيَء في قص يدة ثم ذُّم ه في أخ رى إن‬
‫أحَس َن المدَح والذم‪.‬‬

‫بل يدل ذلك ‪ -‬عند قدامة ‪ -‬على قَّوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها‪.‬‬

‫وفي األخير ُنشير إلى أن إحساس قدامة بتالُح م المادة وصورتها هو الذي هَّيأ لبحث ائتالف عناصر الَّنص‪ ،‬مع‬
‫َد رسه كًّال منها على حَد ة‪ ،‬حسب ما حَّد ده منهُج ه الخاُّص ‪.‬‬

‫والذي َوِددنا عرَضه في هذه الُو ريقة يعتبر َغ رفًة من البحر المحيط‪ ،‬فما زال ب اُب اس تيفاء رؤي ة نقدَّي ة لقدام ة‬
‫مفتوًح ا للدراسة والنقد‪ ،‬وال نَّد عي االستيفاء بإعطاء حق هذه الدراسة‪.‬‬

‫وهللا المستعان وهو ولُّي الصالحين‪.‬‬

‫فهرس المراجع والمصادر‪:‬‬


‫‪ -1‬نقد الشعر؛ أبو الفَر ج قدامة بن جعفر‪ ،‬تحقيق ال دكتور عب دالمنعم خف اجي‪ ،‬دار الكتب العلمي ة ‪ -‬ب يروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -2‬مقِّومات الرؤية النقدية عند أبي علي المرزوقي؛ الدكتور العياش ي الس نوني‪ ،‬منشورات جامع ة س يدي‬
‫محمد بن عبدهللا ‪ -‬ظهر المهراز ‪ -‬فاس ‪ -‬المغرب‪.‬‬

‫‪ -3‬من عناصر نظرية الشعر عند الجاحظ؛ الدكتور عبدالرحيم الرحموني‪ ،‬منشورات جامع ة س يدي محم د بن‬
‫عبدهللا ‪ -‬ظهر المهراز ‪ -‬فاس ‪ -‬المغرب‪.‬‬

‫[‪ ]1‬من عناصر نظرية الشعر عند الجاحظ‪ ،‬الدكتور عبدالرحيم الرحموني‪ ،‬منشورات جامعة س يدي محم د بن‬
‫عبدهللا‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫[‪ ]2‬الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي محقق نقد الشعر‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫[‪ ]3‬نقد الشعر؛ قدامة بن جعف ر‪ ،‬تحقي ق ال دكتور محم د عب دالمنعم خف اجي‪ ،‬دار الكتب العلمي ة ‪ -‬ب يروت ‪-‬‬
‫لبنان‪ ،‬بال تاريخ‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫[‪ ]4‬المرجع السابق‪.64 ،‬‬
‫[‪ ]5‬ينظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫[‪ ]6‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫[‪ ]7‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫[‪ُ ]8‬ينظر‪ :‬مقِّومات الرؤية النقدية عند أبي علٍّي المرزوقي؛ الدكتور العياشي السنوني‪ ،‬ص ‪.84 ،83 ،82‬‬
‫[‪ ]9‬نقد الشعر‪.94 ،93 ،92 ،‬‬
‫[‪ ]10‬المرجع السابق‪.172 ،‬‬
‫[‪ ]11‬المرجع السابق‪.174 ،‬‬
‫[‪ ]12‬المرجع السابق‪.175 ،‬‬
‫[‪ ]13‬المرجع السابق‪.178 ،‬‬
‫[‪ ]14‬المرجع السابق‪.179 ،‬‬
‫[‪ ]15‬المرجع السابق‪.181 ،‬‬
‫[‪ ]16‬المرجع السابق‪.192 ،‬‬
‫[‪ ]17‬المرجع السابق‪.193 ،‬‬
‫[‪ ]18‬المرجع السابق‪.203 ،‬‬

You might also like