Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 4

‫الفنان التونسي سمير بن قويعة‬

‫المصور الحالم‬

‫عزيز أزغاي‬
‫شاعر وفنان تشكيلي من المغرب‬

‫يخيل إلي‪ ،‬في كثير من األحيان‪ ،‬وأنا أط الع األعم ال التص ويرية للفن ان التونس ي س مير بن‬
‫قويعة (‪ )1974‬كما لو أن ني في ق اع حلم‪ ،‬أي في تل ك اللحظ ة الملتبس ة ال تي تق ع بين الن وم‬
‫واليقظة‪ ،‬بما هي توليفة من الصور المألوفة والغامضة في ال وقت نفس ه‪ ،‬حيث تتب دى مالمح‬
‫األشياء والعالمات والوجوه مجردة من تفصيالتها المحددة لطبيعتها‪ ،‬إال أنها تحيل‪ ،‬مع ذل ك‪،‬‬
‫إلى ما يمكن اعتباره ملمحا للموضوعة الواقعية التي تقوم بمعالجتها‪.‬‬
‫على أن ما يعطي لهذه الحال ة من التمث ل الف ني بع دها اإلش كالي‪ ،‬كونه ا تق وم على اس تثمار‬
‫بعض التفصيالت التي تحيل على الواق ع؛ واق ع األش خاص‪ ،‬بالدرج ة األولى‪ ،‬ال ذين يقع ون‬
‫رهينة نوعي ة من المش اعر والعواط ف والح االت الذهني ة الملتبس ة؛ ال تي ت ترجم جانب ا من‬
‫خصوصية ومن طبيعة الكائن البشري‪ ،‬الغامضة والمتحولة والخفي ة‪ ،‬كم ا ح ددها علم النفس‬
‫الفرويدي في تاريخ سابق‪.‬‬
‫ففي معظم أعمال سمير بن قويعة التصويرية األخيرة‪ ،‬هن اك إمع ان واض ح‪ ،‬من جانب ه‪ ،‬في‬
‫أس لوبية إش ارية‪ ،‬تس عى إلى التك ثيف واالخ تزال والب وح‪ ،‬ع وض التص ريح أو الكالم أو‬
‫الثرثرة‪ ،‬وهي تنقل للمشاهد حاالت إنس انية مستس لمة لج و من اإلحب اط والش رود والخ واء‪،‬‬
‫جراء ما قد نذهب إلى اعتباره لحظة انكسار وضياع للوجه ة‪ .‬إنه ا مج رد ص ور هالمي ة أو‬
‫انعكاسات ألشكال كائنات بشرية تقع بين حالتين مفارقتين‪ :‬حالة الكينونة الطبيعية الكامل ة من‬
‫جهة‪ ،‬وحالة الوجود الناقص أو العسير من جهة ثانية‪ .‬على أن ما يجمع بين الحالتين مع ا ه و‬
‫ذلك الحضور الفعلي لإلنسان أو ما يحيل عليه شكليا فق ط‪ ،‬ال ذي ي ترجم لحظ ة ش رود ذه ني‬
‫متشظ وصعب‪.‬‬
‫هذا اإلمعان‪ ،‬من ِقَبل الفنان بن قويعة‪،‬في التركيز على ما نعتبره حالة انشطار وعزلة للك ائن‬
‫في وسط يحفل بالفراغ‪ ،‬قد تذهب بنا حماسة التأويل والمقاربة إلى اعتباره يج اور‪ ،‬في بعض‬
‫مالمح ه الش كلية‪،‬على األق ل‪ ،‬بعض التج ارب الص باغية الرائ دة في ت اريخ الفن الغ ربي‪.‬‬
‫ويهم ني اإلش ارة‪ ،‬هن ا‪ ،‬إلى تجرب تين أساس يتين كرس هما ك ل من الفن ان التعب يري األلم اني‬
‫أوتوديكس‪ Otto Dix (1891 – 1969) -‬والفنان اإلنجليزي فرانسيس بيكون – ‪Francis‬‬
‫)‪ ،Bacon (1909 – 1992‬اللذين راهنا في مشروعيهما الفنيين‪ ،‬مع اختالفات واضحة في‬
‫المقاربة وفي اإلنجاز‪ ،‬على الجانب الدرامي في حياة الكائن البشري‪ ،‬م ع م ا تطلب ه ذل ك من‬
‫تج اوزات تقني ة تجلت باألس اس في تحطيم قواع د المنظ ور وت داخل البن اءات التص ويرية‬
‫وترادفها‪ ،‬بما يكفي من المبالغة التعبيرية الواضحة‪.‬‬
‫وفي تقديرنا‪ ،‬وبعيدا عن منطق المقارنة الذي ال يستقيم في مثل هذا الس ياق‪ ،‬ف إن م ا يقترح ه‬
‫علينا سمير بن قويعة من أعمال صباغية‪ ،‬تقع في منطقة أخرى غ ير بعي دة عن أرض إقام ة‬
‫هاتين القامتين الفنيتين الكب يرتين‪ ،‬إال أنه ا‪ ،‬تظ ل م ع ذل ك‪ ،‬اقتراح ا ُم جي دا يحم ل في طيات ه‬
‫بعض جينات تلك الروح المغامرة والَّنَفس التجديدي والطاقة المغايرة‪ ،‬إن في األداء واإلنجاز‬
‫أو في التمث ل والمقارب ة واالق تراح‪ .‬ويهم ني أن أتوق ف‪ ،‬هن ا‪ ،‬بعجال ة عن د ملمحين إث نين‬
‫يشكالن ماء هذه التجربة التونسية العربي ة الواع دة‪ :‬األول يخص موض وعها األس اس‪ ،‬فيم ا‬
‫الثاني يعنى بالجانب األدائي في بعده التقني‪.‬‬
‫ففيما يتصل بالموضوع‪ ،‬أتمثل معظم أعمال بن قويعة األخيرة‪ ،‬مع ما يقتضيه ذلك من إعمال‬
‫لسلطة التأويل‪،‬على أنها استثمار واٍع فيما أعتبره زاوية الَك اْو (‪،)Chao‬ال تي ب اتت تحاص ر‬
‫اإلنس ان المعاص ر؛ إنس ان الثوراتالسياس ية والمذهبي ة والتكنولوجي ة المتالحق ة‪ ،‬واحت دام‬
‫الص راع الي ومي م ع مس تجدات الحي اة‪ ،‬إن في بع ده المجتمعي الع ام أو في جانبه ا الف ردي‬
‫الشخصي‪ ،‬داخل عالم متحول‪،‬ميزته الطارئة تراجع كل ما يحيل على مؤشر الفضيلة أو القيم‬
‫في بعدهما اإلنساني الكوني‪.‬‬
‫بمعنى آخر‪،‬أتصور أن الفنان انحاز‪،‬وبوضوح‪،‬إلى المراهنة على مسببات هذا الواق ع المتس م‬
‫بالفوضى غير الخّالقة‪ ،‬بما تمثله من نتائج قاهرة إلنسان القرن الحادي والعشرين‪ ،‬الذي ب ات‬
‫ال يمل ك من س بيل لتف ادي مخرجاته ا الِقَيامي ة (من القيام ة)‪ ،‬س وى االستس الم إلى عزلت ه‬
‫المدمرة وإلى فراغه الهائل‪ ،‬وهو ما حوله إلى مجرد أثر هش وضعيف‪ ،‬يتموضع في منطق ة‬
‫تقع ما بين الوجود كذات فعلية وواقعية من جهة‪ ،‬والعدم بما يحيل عليه من افتق اد لق وة الفع ل‬
‫في هذا الواقع من جهة ثانية‪.‬‬
‫النتيجة‪ ،‬أننا أصبحنا أمام كائنات فنيةتظهر مسلوبة اإلرادة تسبح داخل فضاء محايد‪ ،‬ال نمل ك‬
‫أي مؤشر على حقيقته الفعلية أو على انتمائه لعالمنا‪ ،‬وه و م ا ق د ي ذكرنا ببعض مالمح ذل ك‬
‫الوعي الشقي‪ ،‬الذي أرسل الفيلسوف األلماني فريدريش نيتشه‪ ،‬في لحظة وعي ش قي بزمن ه‪،‬‬
‫إلى منطقة الجنون‪.‬‬
‫أما ما يتعلق بالشق التقني‪ ،‬فإن أداء الفنان سمير بن قويعة‪ ،‬ال ذي كنت ش اهدا علي ه في أك ثر‬
‫من مناسبة‪ ،‬فهو ينطل ق من لحظ ة تش به م ا يع رف في بي داغوجيا التربوي ة والتعليمي ة ب "‬
‫الوض عية المش كلة"؛ أي أن ه يض ع نفس ه في مش كلة لوني ة تنهض على خلي ط من األل وان‬
‫الموضوعة فوقالسند دون تفكير مسبق‪ ،‬قبل أن يعمد إلى استخراج أش كال بش رية من مادته ا‬
‫الخام‪ ،‬بما يعطي االنطباع بأنها ك انت مدسوس ة هن اك من قب ل‪ ،‬ولم يقم س وى ب الحفر عنه ا‬
‫إلخراجها من مجهولية وجودها الخفي الس ابق‪ .‬على أن مث ل ه ذا المجه ود في األداء التق ني‬
‫ليس بالسهولة المتصورة‪ ،‬وإنما يحتاج إلى خبرة وإلى دراية وإلى سعة خاطر‪ ،‬وكلها ص فات‬
‫نحدس أن ابن قابس‪ ،‬قد اكتسبها‪ ،‬مع مرور الس نوات والمح اوالت‪ ،‬من خالل م ا راكم ه من‬
‫تجارب نحتية على أكثر من سند صلب‪.‬‬
‫وفيما يشبه التماهي الصوفي مع موضوع لوحت ه‪ ،‬يباش ر بن قويع ة عملي ة الحف ر بحث ا على‬
‫كائناته الخاصة بإعمال متواليات المحو والكشط واإلخفاء‪ ،‬قب ل أن ينتق ل‪ ،‬من داخ ل زوبعت ه‬
‫اللونية‪ ،‬إلى مراحل تأطير شكل الرأس وموضع مالمح الوجه والهي أة المنهك ة المائل ة‪ ،‬ال تي‬
‫تستند على فراغ البياض‪ .‬وشيئا فشيئا‪ ،‬تبدأ شخوص عمله الفني في الظهور مش وهة الش كل‪،‬‬
‫بعيدة عن تمثالت العالم الحقيقي‪ ،‬بما يتالءم وإمالءات مشاعر لحظته اإلبداعية‪.‬‬
‫وبهذه النتيجة‪ ،‬ينتقل الفنان إلى وضع قدمه فيما اعتَبَر ه الفيلسوف الفرنس ي جي ل دول وز ب "‬
‫لحظة الفراغ الكبرى‪ ،‬التي لم يعد فيها للرسم نموذج يمثل ه‪ ،‬وال ت اريخ يقص ه"‪ ،‬حيث تتجلى‬
‫تلك اإلشارات التي أسماها الناقد الفرنسي جاك أومون ب " التض خيمات الموض عية" لبعض‬
‫عناصر هيأةالذات اإلنسانية‪ ،‬بما هي مظهر من مظاهر القل ق واالض طراب النفس يين‪ ،‬وبم ا‬
‫تحيل عليه كذلك من انحسار لُسلطة العين في قيادة اليد نحو ضبط الحركات اإليحائي ة للع الم‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪،‬يصبح مفهوم تجديد طموح العمل الفني‪ ،‬انطالقا من هذا المنظور‪ ،‬مقرونا‬
‫بما يسميه أومون‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬ب "التشويه المنهجي للصور" ولمميزاتها اإلدراكية الواقعية‪.‬‬
‫إن الفنان سمير بن قويعة‪ ،‬وهو مستغرق في إنتاج عمله الفني‪ ،‬بما ي ترجم نفس يته الشخص ية‬
‫وينقل مالمح من واقع بلده تونس وثقافة هذا البلد المتج ذر في حض ارة المتوس ط القديم ة‪ ،‬ال‬
‫يطمح في أن يكون صريحا ومباشرا‪ ،‬ألن هذا الطموح يبقى معادلة ص عبة المن ال‪ .‬لكن ه‪ ،‬في‬
‫مقابل ذلك‪ ،‬يجهد خياله وآلته الفنية‪ ،‬وه و األك اديمي والمعلم المتواض ع كم ا خبرن اه‪ ،‬في أن‬
‫يكون أكثر دقة‪ ،‬إال أن ه ذه الدق ة تبقى‪ ،‬على ح د ق ول فرانس يس بيك ون‪ ،‬من ن وع غ امض‪،‬‬
‫غموض الواقع الذي يحيط به ويستدعي كل طاقته الخالقة في صناعة الفرح‪ ،‬فرح ه الخ اص‬
‫الذي يصنع فرحنا الجمعي‪ ،‬نحن أصدقاؤه‪ ،‬الذين نسعد بتطوره‪.‬‬
‫بقيت اإلش ارة‪ ،‬في األخ ير‪ ،‬إلى أن حض ور منج ز الفن ان س مير بن قويع ة‪ ،‬داخ ل المش هد‬
‫التشكيلي التونسي‪ ،‬يظل محتشما بل يكاد يتموقع في خلفية هذا المشهد‪ ،‬إن بسبب َتَّر ُّفعه وعدم‬
‫تهافته على زيف الواجهات‪ ،‬أو نتيجة لترتيبات وحسابات خفية داخلية‪ ،‬مع العلم أن الرجل له‬
‫إسهام معتبر في إغناء إشعاع هذا المشهد خارج بلده‪ ،‬نحت ا وتص ويرا‪ .‬ل ذلك‪ ،‬نأم ل أن ينتب ه‬
‫القيمون على الشأن الثقافي والفني في تونس إلنتاج هذه الكفاءة الفنية‪ ،‬ال تي ن راهن عليه ا في‬
‫إعطاء نفس مجدد للتصوير إن في بلده أو في العالم العربي‪.‬‬

You might also like