Professional Documents
Culture Documents
أثر الفلسفة اليونانية في البلاغة العربية
أثر الفلسفة اليونانية في البلاغة العربية
أثر الفلسفة اليونانية في البلاغة العربية
276
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
هذا االتصال كان ايجابيا -خادما لبالغتنا-؟أم هو مجرد تعسف في حق بالغتنا بتطويعها
املجحف لقوانين ال تخدمها؟ متعرضين في ذلك ملفهوم البالغة والفلسفة ،ومعرجين على
آثار الفلسفة اليونانية في نقدنا بنموذج هو املدرسة الكالمية؛ ثم بناقد معروف في هذا
الباب وهو :السكاكي،لنبين في األخير موقفنا من املنطق األرسطي،وهل كان فائدة للبالغة
العربية؟أم جناية أركست بالغتنا وعطلتها؟ وهللا نسال في ذلك التوفيق انه مجيب.
في مفهوم البالغة:
من التعاريف التي يجب الوقوف عليها في مفهوم البالغة ذلك التعريف الذي
ساقه الجاحظ عن مفهومها عند أمم مختلفة يقول " :قيل للفارس ي :ما البالغة؟ قال:
معرفه العقل من الوصل ،وقيل لليوناني :ما البالغة؟ قال :تصحيح األقسام واختيار الكالم.
وقيل للرومي :ما البالغة؟ قال :حسن االقتصاد عند البداهة والغزارة يوم اإلطالة .وقيل
للهندي :ما البالغة؟ قال :وضوح الداللة وانتهاز الفرصة وحسن اإلشارة"(.)1
ُ
فإذا أردنا أن نلخص مفاهيم البالغة عند كل أمه -ومن خالل هذا القول للجاحظ
-فهي :تدور حول مجموعه من املفاهيم وهي :علم البيان؛ علم البديع ،و محاسن الكالم.
ً ً
واضحا و قائما على قواعد وأسس ،وإنما كانت والبالغة عند العرب لم تكن علما
عبارة عن معارف لغوية كامنة ومتمثلة في كالم العرب بالتوارث " فاملتكلم من العرب كانت
ملكة اللغة العربية موجودة فيه ،يسمع كالم أهل جيله وأساليبهم في مخاطبتهم وكيفيه
تعبيرهم عن مقاصدهم ،كما يسمع الصبي استعمال املفردات في معانيها فيلفها أوال ثم
يسمع التراكيب بعدها فيلفها كذلك إلى أن يصير ذلك ملكه وصنعة راسخة ويكون
كأحدهم"(.)2
إن العرب و بالرغم من عدم ظهور البالغة كعلم واضح عندهم "ونقصد من ذلك
العصر الجاهلي إال أنهم تفطنوا إلى ما يمكن أن يحمله الكالم من سقطات ،كما أشاروا
إلى جوانب املعنى والجودة فيه ،وال أدل على ذلك من تلك التصنيفات التي كانوا يضعون
فالن يخطئ في جوابه ،ويميل في كالمه ،ويناقض في خبره ،ولوال أن فيها الشعراء فقالوا" ٌ
هذه األمور قبل كانت تكون في بعضهم دون بعض ملا سمي ذلك البعض والبعض اآلخر
بهذه األسماء"(.)3
278
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
املسكينة إلى حدود وتعريفات وشروح وتلخيصات أبعد ما تكون عن روح البالغة وما يجب
أن يكون فيها من روعه وجمال"(.)7
إن غاية ما ترمي إليه البالغة هو اإلبانة عن األحاسيس الفنية ،ومحاوله صقل
األذواق وتعرية مكامن الجمال في النصوص األدبية واإلبداعات عموما .ولكن البالغة مع
املدرسة الكالمية اهتمت أساسا بالتعريفات والحدود والتقسيمات املنطقية من خاللها
ً ً
شروطها فالتعريف -مثال -يجب أن يكون" جامعا مانعا ،واستعمال الطريقة الفلسفية
املنطقية في تحديد املوضوعات وتقسيمها وحصرها،واالستعانة باأللفاظ واملصطلحات
الفلسفية واملنطقية في تناول املوضوعات البالغية"(.)8
والحظ الشيخ أمين الخولي في كتابه (فن القول) جفاف البالغة التي تدعوا إليها
هذه املدرسة من خالل غياب الذوق فيها ،والذي هو األساس في التفريق بين الكالم الجميل
والرائع وبين غيره .فهذه املدرسة تمتاز بمجافاتها األحكام النظرية وعدم االحتكام إلى املنطق
امليزاني ،واالعتبار العقلي ،والشعور بأن في اإلنسان من قوى الحكم ش يء غير هذا كله"(.)9
لقد كرست املدرسة الكالمية املظاهر املنطقية والفلسفية في األبحاث البالغية،
وإطالق األحكام العقلية على املوضوعات الوجدانية ،وكذا عدم العناية بالناحية الفنية في
إدراك التراكيب وخصائصها ،وكذا في استعمال املقاييس الحكمية والخلقية والعقلية في
تقدير املعاني الحديثة(.)10
وال يخفى ما للمعتزلة من ثقافة عربيه راسخة استطاعوا تدعيمها بما وصل إليهم
من الثقافات الخارجية ال سيما املنطق والفلسفة "ووجه االستفادة من الفلسفة واملنطق
ّ
أنها هيأت عقولهم للبحث الكلي في األشياء ونظمت طرائق البحث لديهم تنظيما دقيقا ،
وجعلتهم أقدر على استخراج الحجج واستنباط اآلراء"(.)11
ولكن صنيع هؤالء النقاد لم يسلم من االنتقاد ،فهم في رأي نقاد من أمثال طه
إبراهيم يمثلون االتجاه املتأثر بثقافات أجنبية ومنهم :ابن قتيبة مثال وكتابه نقد الشعراء،
وكذلك قدامة بن جعفر صاحب كتاب نقد الشعر .فكل من (ابن قتيبة) و(قدامة بن
جعفر) حاوال تحويل النقد األدبي إلى علم من خالل إخضاعه لقواعد املنطق ومقاييسه،
ولكنه مع ذلك اعترف (البن قتيبة) بتركيزه على الذوق حينما يقول ":فمنهم من استعان في
280
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
وروية في التبويب والتقسيمو مفتاح العلوم(للسكاكي) كتاب أبان فيه على دقه ّ
وهو من أهم ما صنف (السكاكي) وقد قسمه إلى ثالثة أقسام هي :الصرف والنحو
والبالغة؛ على أنه يعتبر من الواجب على املتصدي لعلم املعاني والبديع اإلملام بالعروض
والقوافي"( .)19وبذلك اشتمل املفتاح على علوم الصرف والنحو واملعاني والبيان واملنطق
والعروض والقوافي"
وعلى حد قول شوقي ضيف فقد"اكتسب كتاب املفتاح للسكاكي شهره كبيرة من
خالل القسم الثالث فيه و املتعلق بعلم املعاني والبيان"(.)20
ولكن السكاكي ارتض ى طريقه جديدة لم تكن موجودة من قبله إذ أصبح للمنطق
والفلسفة سلطان مطاع ال يرد له قول،واستعان بأهم مقوالت املناطقة والفالسفة من
تجريد وتفريع و تقسيم وتعليل.
على أنه وإن تجاوز سابقيه من ناحية االستعانة بتلك العناصر كالجرجاني
والزمخشري ،فإنه من ناحية ثانية لم ينتبه إلى أنه ضيع أمور تتعلق بالذوق والطاقة
الحسية .يقول الخطيب القزويني ":وهو وإن فاق عبد القاهر الجرجاني في التقسيم
والتبويب ،وتقريب األحكام فلم يدرك شأوه لطف الحس وصفاء الديباجة وبراعة الكالم"
إن التزام السكاكي ومحاولته تصنيف البالغة العربية وإخضاعها لقوانين تشبه تلك
التي تحكم النحو وهي" قوانين تسبك في قوالب منطقية جافة أشد ما يكون الجفاف"(.)21
جعله ينحرف بها عن الطابع الجمالي املطلوب في مثل هكذا علوم؛ لتبيان أوجه الجمال،
ولعب لعبة الكشف مع األلفاظ والعبارات والتعابير التي تتخفى وراء األساليب البارعة
ّ
للكتاب الحاذقين.
وبدأ (السكاكي) في الجزء الثالث من املفتاح بتعريف علم املعاني والذي قدمه على
ّ
علم البيان ،ألنه منه بمثابة األصل للفرع .يقول " :ملا كان علم البيان أسبق من علم
املعاني ،ال ينفصل عنه إال بزيادة اعتبار ،وجرى منه مجرى املركب من املفرد ال جرم آثرنا
تأخيره ،فعرف علم املعاني بأنه :تتبع خواص تراكيب الكالم في اإلفادة ،وما يتصل بها من
االستحسان وغيره ،ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتض ي
الحال ذكره"(.)22
282
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
وأما ما يختص باللفظ وس ْو ُق املعلوم مساق املجهول ،واالعتراض واإلشباعّ . والتوجيه ،م
فمنه :التجنيس واالسجاع والترصيع.
لقد كتب للسكاكي أن يعيش في عصر طغت فيه الفلسفة واملنطق فكانت األساليب
ّ ُ
العربية" تقاس بحدود املنطق ورسومه ،وال يقام لها وزن إن لم ُي مجل ملها بميسمه"()28وهو
ما فرض على السكاكي أن يحشو كتابه بذلك الكم الهائل من املصطلحات الشائعة عند
املناطقة واملتكلمين مثل :الخيال والوهم و ولعقل واإلدراك والوجدان.
لقد حاول السكاكي -في عمله على التقسيمات والحدود والتعريفات --حاول -وضع
قوانين مثل التي تضبط علم النحو ،ولكنه لم يكن يدري أن ذلك كله" إيذانا بتحجر البالغة
العربية وجمودها جمودا كبيرا إذ ترسبت في قواعد وقوالب جافة وغدا من العسير أن
تعود إليها حيويتها ونضارتها القديمة"(.)29
ولكن كما تمت اإلشارة إليه ُمسبقا فإن الكثير من الباحثين يشهدون للسكاكي
ّ
بالتفوق والبراعة على غرار ما قاله (ياقوت الحموي) من أن" السكاكي عالمة إمام في العربية
واملعاني البيان واألدب والعروض والشعر"(.)30
وما شهادة (ابن خلدون) فيه إال إقرار بمكانته حيث يقول" ثم لم تزل مسائل الفن
ّ تكتمل شيئا فشيئا إلى أن ّ
محص السكاكي زبدته ،وهذب مسائله ورتب أبوابه … وأخذ
ّ
املتأخرون من كتابه ولخصوا منه"(.)31
إن فضل السكاكي في تبويب وتقسيم علم البالغة -الذي تم على يديه فقط -ال ينكره
إال جاحد نعمة وفضل ،وبذلك فقد رسم املسارات التي اتبعها من جاء بعده .ولكن
(للسكاكي) ميزة لم تكن موجودة في غيره من املشتغلين بهذا امليدان وهو أنه كان متأثرا
باملنطق وعلوم الكالم الفلسفية والنحوية ،لذلك لم يستطع مفتاحه أن ُيبعد هذا التأثر
في عمله ،وطغت عليه الحدود والتقسيمات والتفريعات ،وتاهت البالغة في متاهات املنطق
والفلسفة معه.
إن هذا الكالم ليس اتهاما وال انتقاصا من مجهودات (السكاكي) فهو كما قال (شوقي
ضيف) " استطاع أن ُيسوي من نظرات الجرجاني والزمخشري علمي البيان والبديع"(.)32
ُّ
وما كثرة الشراح الذين تناولوا مفتاح العلوم لدليل على استغالق فهمه ،واستحكام
صنعته كل ذلك استدعى النظم فيه ،وفي كل مرة من زاوية مغايرة ،ولعلنا أشرنا إلى أن
284
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
إلى تحقيق الصحة في العبارة والفكرة بعد ذلك تتقدم البالغة لتوفير املناسبة أو املطابقة
التي هي وظيفة الفن البالغي األصيل"(.)38
ومن املفاهيم التي داخلت معاني امللكة -في تعريف الفصاحة والبالغة -إدخال مسائل
فلسفية فيها واملتعلقة بالطبيعة وااللهية والخلقية كالكالم في األلوان والطعوم والروائح
والحواس اإلنسانية ومقرها ،والوهم ومفاهيم تتعلق باإليجاب والسلب ،وهي ال شك
مفاهيم ال عالقة لها بالبالغة بقدر عالقتها بالعلوم العقلية األخرى.
وال شك أن الغاية التعليمية للبالغة العربية قد فرضت على البالغيين انتهاج
قواعد وقوانين صارمة أقل ما ُيقال عنها أنها مجحفة في حق اإلبداع واألعمال األدبية،
فع ّدت البالغة بهذا الشكل معيارية(.)39
ُ
لقد طغت املعيارية التعليمية على البالغة العربية وحصرت في امليدان الوظيفي املبني
يتهيأ املستمعون ويستميلهم القول الخطابي على اإلقناع والتأثير ،واإلقناع يحصل" حين ّ
حين يشعرون بانفعال ما ألننا ال نقدر األحكام على نحو واحد حينما نحس باللذة واأللم
والحب والكراهية"(.)40هذا التأثير كان له السبب املباشر في تراجع البالغة العربية ،وما
النقص الذي أصبحت تميز به دراسات الفنون األدبية إال لنقص في إجراءات البالغة نتيجة
املعيارية والتقعيد الصارمين الذين أصبحا يحكمان مباحث البالغة.
وال يمكن بأي حال من األحول أن نغفل ما للمعتزلة -كفرقة كالمية متأثرة باملنطق
األرسطي -من أدوار في تطوير البالغة العربية قد ال تكن حققتها الطوائف األخرى من لغويين
ونحاة ،فهذه الطائفة لم تكن محافظة مثل طائفة اللغويين في تحكيم النماذج التقليدية
القديمة(.)41
ولعل ما بذله رواد املعتزلة من جهود -في مجال الدرس البالغي -جعل الكثير يرجع
البالغة العربية في أصل نشأتها إلى" تلك الخصومة بين علماء الكالم ،وأن الجاحظ املتكلم
املعتزلي هو أول من اهتم بالبالغة اهتماما كبيرا وجديا وأنه مؤسس البيان العربي"(.)42
خاتمة:
لقد ُوجدت البالغة العربية في كالم العرب قديما -وفي تعامالتهم اليومية -بشكل
نظري لها ،واتسعت محاولة تجريد قواعدها وضبطها من خالل الصيغ واألوزان
والتقسيمات وبذلت جهود متنوعة ومختلفة لتدارس مباحثها ،وتصدت لذلك فرق وطوائف
286
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
االطالع على هذا النتاج الفكري الذي قد يخدم علومنا وعقليتنا ،ولكن الفلسفة اليونانية
كانت تقترب إلى حد كبير من املنطقية في التفكير لذلك فاستفادتنا منها كانت تخدم فقط
جوانب التقنين والضبط والتقسيم ،وإال فأدبنا وبالغتنا فيهما من روح الجمال وقوة التأثير
والذوق ما ال ُيضبط بقوانين الفلسفة واملنطق ،وإال مف ُت م
عت مب ُر سيادة الفلسفة واملنطق على
إبداعاتنا قتال لها وتجفيفا لروح الجمال فيها.
اإلحاالت:
1الجاحظ ،البيان والتبيين ،ج،1شرح غريب ألفاظه حسن أفندي املاكهاني،املطبعة العلمية،ط1،1311هـ
،ص.88
/2عبد الرحمن بن خلدون ،املقدمة ،مؤسسه الرسالة ناشرون ،دمشق ،سوريا،د .ط ، 2002 ،ص 622
/3الجاحظ ،البيان والتبيين ،مصدر سابق ،ص .110
/4ابن خلدون ،املقدمة ،مصدر سابق ،ص.622
/5أنظر :البيان والتبيين ،مصدر سابق،ص .96
/6السيوطي عيس ى الحلبي ،حسن املحاضرة في أخبار مصر والقاهرة،ج ،1دار إحياء الكتب العربية ،القاهرة،د.
ط ، 1968 ،ص.190
/7خليل ندا ،التجديد في علوم البالغة في العصر الحديث ،رسالة لنيل درجة دكتوراه ،ص.35
/8عبد القادر حسن،املختصر في علوم البالغة،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة،د .ط 2001 ،
ص . 12
/9أنظر :أمين الخولي ،فن القول،قدم للطبعة :صالح فضل ،مطبعة دار الكتب املصرية بالقاهرة،د .ط
،1996،ص.92
/10أنظر :أمين الخولي،مناهج تجديد البالغة ،دار املعرفة ،القاهرة،د .ط ،1961 ،ص .125
/11يوسف أحمد علي،البالغة العربية ،د .ن ،د .ط ،د .ت ،ص.27
/12طه إبراهيم،تاريخ النقد األدبي ،دار الحكمة ،بيروت،د .ط ،د.ت ،ص.123
/13أنظر :املرجع السابق ،ص.125
/ 14مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ،النقد األدبي القديم عند العرب ،مكة للطباعة،د .ط ،1998-1419 ،
ص.109
/15فن القول ،مرجع سابق ،ص13
/16الزركلي خير الدين ،ج،2دار العلم للماليين ،ط ،2002 ،15ص.222
/17كحالة عمر رضا ،معجم املؤلفين ،ج ،4مؤسسة الرسالة،ط ،1993 -1414 ،1ص.283
/18الحموي ياقوت ،إرشاد األريب إلى معرفة األديب ،ج ،2تحقيق إحسان عباس ،دار الغرب اإلسالمي ،ط،1د.
ت ،ص.863
288