Professional Documents
Culture Documents
علم الكلام والفلسفة (من الصفحة 171-180)
علم الكلام والفلسفة (من الصفحة 171-180)
علم الكلام والفلسفة (من الصفحة 171-180)
.فوق النبوة
وإذا َس لم بأنه ال يرى تفضيل الفيلسوِف على النبي وأنهما متساويان فإن هذا ال ُيمكن قبوله نهائيًا ،ألنه يفتح
الباب الدعاءاٍت وتساؤالت باطلة ،فقـد يقـول البعُض إذا كان النبي والفيلسوف متساويين ،فما وجُه الحاجة
إلى النبي والفالسفة كثيرون ،ولماذا يجب اتباُع النبي وال يجب اتباع الفيلسوف؟ ثم ان ذلَك يفتح الباب
.للقول باالستغناء عن الدين
ولقد أشار ابن تيمية إلى أن أحسَن األدلة العقلية فيما ال ُيعلم إال باألدلة العقلية هي التي بينها القرآن الكريم
وأرشد إليها النبي ،صلى هللا عليه وسلم وأحسُن األدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول،
فينبغي أن يعرف أن أَج ّل األدلة العقلية وأكمُلها وأفضلها مأخوذ عن الرسول ،وقد أشار ابن تيمية أيضا
إلى أن هذه األقوال أبعُد عن الحق علمًا وعمًال ،ومن كان أبعَد عن الحق علما وعمًال« :كالقرامطة
والمتفلسفة الذين يظنون أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائَق العلوم اإللهية والكلية ،إنما ُيعرف ذلك بزعمهم
من يعرفه من المتفلسفة ،ويقولون خاصية النبوة هي التخييل ،ويجعلون الُنبوة أفضل من غيرها عند
».الجمهور ،ال عند أهل المعرفة ،كما يقول هذا الفارابي ونحوه
وَبّين ابن تيمية أن الرسول ،صلى هللا عليه وسلم ،قد َبين جميع أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره،
وعلمه وعمله« :إن أصول الدين الحق الذي أنزَل ُهللا به كتابه ،وأرسل بها رسوله ،وهي األدلة والبراهين
واآليات الدالة على ذلك ،قد بينها
الصفحة 172
الرسول أحسن بيان ،وأنه دل الناس وَهداهم إلى األدلة العقلية والبراهين اليقينية ،التـي بهـا يعَلُم ـون
المطالب اإللهيـة ،وبهـا يعلمـون إثبـات ربوبيـة هللا ووحدانيتـه وصفاته ،وصدَق رسوله والَم عاد وغير ذلك
مما ُيحتاج إلى معرفته باألدلة العقلية ،بل وما يمكن بيانه باألدلة العقلية ،وإن كان ال يحتاج إليها؛ فإن كثيرا
من األموِر ُيعرف بالخبر الصادق ،ومع هذا بين األدلة العقلية الدالة عليها ،فجمـع بـين الطريقين السمعي
والعقلي» .والحقيقُة أن االنبياء أفضل من البشر ،وليس في البشر من ُيوازي األنبياء في الفضل ال ِص ديٌق ،
.وال ولٌي وال غيرهما
:النبوة مكتسبة
إن مذهَب الفارابي في التسوية بين النبي والفيلسوف في ُرتبة المعرفة وكيفية تحصيلها يجعل النبوة
مكتسبة ،فإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظِر والتأمل أو بقوٍة قدسيٍة فيه ،فإن
النبوة ُتضحي ضربا من المعرفة التي ُيمكن أن ُتأتى عن طريق االكتساب ،أي أن تكون النبوة أمرا
.مكتسبا
والحُق أن هذا يتعارض مع مبدأ االصطفاء اإللهي الذي قررُه هللا تعالى في قوله تعالىُ “ :هَّللا َيْص َطِفي ِم َن
اْلَم اَل ِئَك ِة ُرُس اًل َو ِم َن الَّناِس “ ،وفي قوله تعالىِ .” :إَّن َهَّللا اْص َطَفى آَد َم َو ُنوًحا َو آَل ِإْبَر اِهيَم َو آَل ِعْمَر اَن َع َلى
اْلَع اَلِم يَن “ ،ولقـد أكـَد الشهرستاني على مبدأ االصطفاء اإللهي ،قائال« :إن النبوة ليست صفًة راجعة إلى
النبي ،وال إلى درجٍة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ،وال استعدادا نفسيا يستحق به
الصفحة 173
».اتصاال بالروحانيات ،بل رحمًة يمُن هللا بها على من يشاء من عباده
ويشكُك البعض في أن كوَن النبوة مكتسبة هو مذهب الفارابي« ،إن الفارابي َيُعد النبي مفطورا ،بفضل
موهبة هللا له قوة متخيلة ممتازة يستطيع بها االتصاَل بالعقل الفعال ،ويتلقى منه الِهداية واإلرشاد ،فال محل
إذن لقول المتكلمين من أن الفارابي يميل إلى عّد النبوة أمرا مكتسبا ،وإذا كان الفارابي قد قال بقوة قدسية
ممتازة إلى جانب الُم خيلة الممتازة ،فما هذا إال ألن النبي بشر كسائر البشر يستطيع أن يصل إلى هذه القوة
بفضل التأمل ولكن األساس -عنده -هو القوة المتخيلة الموهوبة التي ُفطر عليها ،وهذا شئ غير ميسور
لسائر البشر».ويشير الدكتور ابراهيم مدكور إلى أنه« :يغلُب على الظـن أن القوة القدسية والمتخيلـة فـي
رأى الفارابي فطریتان ال مكتسبتان ،وإن لم يصرح هو بذلك» .والحقيقة أن هذه الُنقطة ثغرة في تفسير
.الفارابي للنبوة وهو إن لم يصرح بالقول بأن النبوة مكتسبة ،فإن نظريته تمهُد السبيل إلى ذلك
إن تفسيَر الفارابي للوحي والنبوة على هذا النحو الذي سبقت اإلشارة من قبل ،يصطدم مع بعض
النصوص اإلسالمية ،فقد وردت النصوص تشير إلى أن الوحي كان يأتي للرسول -صلى هللا عليه وسلم-
مثل َص لصلة الجرس وأحيانا في صورة بشر .ففي الحديث الشريف أن الحارث بن هشام سأل رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم عن كيفية مجيء الوحي إليه ،فقال صلى هللا عليه وسلم« :أحيانا يأتيني مثَل صلصلة
الجرس ،وهو أشدُه علي فيفصم عني وقد وعيُت عنه ما قال ،وأحيانا يتمثل
الصفحة 174
لقد اتجه الفارابي هنا إلى التأويل ،فجبريل هنا هو العقل الفعال أو الـروُح األمين أو روح القدس عند
الفارابي ويحاول البعُض أن يبرر ذلك على أساس أن الفارابي في ذلك الوقت لم يكن أمام من آمن بكل ما
ورد وُنقل ،ولكن أمام من أنكَر النبوة وهاجمها بعنف ،فهو والحالة هذه مضطٌر إلى اصطناع التأويل،
.والتسلح بأسلحة العقل ،ووضع الحقائق الدينية في قوالب عقلية ليقنع بها المنكرين
ولقد أشار ابن تيمية في معرض نقده للفالسفة إلى أن جبريل انما هو خياٌل في نفس النبي ،إذ يقول« :وعند
المتفلسفة أن جبريل انما هو خيال في نفس النبي ليَس هو مَلكًا يأتي من السماء ،والنبي عندهم يأخذ من هذا
.الخيال» .ولقد أشار ابن ُطفيل إلى سوء معتقد الفارابي في النبوة ،وأنها للقوة الخيالية خاصة
ولقد ترك الفارابي أثرًا واضحًا على ابن سينا في تفسيره للنبوة ،فإثبات النبوِة عنَد ابن سينا يأتي من حاجة
اإلنسان إلى االجتماع« :إن اإلنساَن يفارق سائر أنواع الحيوان ،بأنه ال يحسُن معيشته لو انفرد وحده
شخصًا واحدًا ،يتولى تدبير أمره من غير شريٍك يعاونه على ضرورات حاجاته ،وانه ال بد أن يكون
».اإلنسان مكفيًا بآخر من نوعه ،ويكون ذلك اآلخر أيضًا مكفيًا به وبنظيره
وهذا يقتضى أن تكون هناك معاملة ،والمعاملة ال بد فيها من ُسنة وعدل ،والبد للسُنة والعدل من ساٍن
وُم عدل ،والحاجة إلى هذا اإلنسان الذي يلزم الناس السنة ضرورة ،فواجٌب إذن ان ُيوجد نبي ،وواجب أن
يكون إنسانًا ،وواجب ان يكون له
الصفحة 175
.خصوصيٌة حتى يستشعَر الناس فيه أمرًا ال يوجد لهم ،فيتميز به عنهم
وُيفسر ابن سينا النبوة تفسيرا طبيعيا يتالءم مع ُجملة مذهبه في تسلسِل الكائنات وارتباط بعضها ببعض،
:وتقوم هذه األسباب الطبيعية على أصول ثالثة
.األول :وظيفة العقل الفعال .والثاني :وظيفُة المتخِيلة في اإلنسان .والثالث :الفعل واالنفعال
إن العقَل الفعال من الجواهر العقلية المفارقة ،وهو الذي يتصل به اإلنسان ،وهو الذي ُيخرج العقول من
القوة إلى الفعل« ،ونسبة هذا الشيء إلى أنُفسنا التي هي بالقوِة عقٌل ،وإلى المعقوالت التي هي بالقوة
معقوالت ،نسبة الشمس إلى أبصارنا التي هي بالقوِة رائيٌة ،وإلى األلوان التي هي بالقوة مرئية ،فإنها إذا
اتصل أثُرها بالمرئيات بالقوة ،وذلك األثر هو الشعاع ،عادت مرئياٍت بالفعل وعاد البصُر رائيا بالفعل،
فكذلك هذا العقُل الفعال َتفيض منه قوٌة تسيح إلى األشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة ،فتجعلها معقولة
بالفعل ،وتجعُل العقل بالقوة عقال بالفعل ،وكما أن الشمس بذاتها مبصرة ،وسبٌب البصارنا سائر ما نبصر،
».فكذلك هذا الجوهر هو بذاته معقول ،وسبٌب ألن يجعل سائر المعقوالت التي هي بالقوة معقولة بالفعل
ويقول ابن سينا« :فَح ُد العقل الفعال إما من جهِة ما هو عقٌل فهو أنه جوهر صوري ذاتُه ماهيٌة مجردة في
ذاتها ،ال بتجريد غيرها عن المادة وعن عالئق المادة هي ماهيـة موجـودة .وأمـا مـن جهـة مـا هـو عقـل
فعـال فـهـو أنـه جـوهٌر بالصـفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيوالني من القوة إلى الفعل بإشراقه
».عليه
الصفحة 176
فالعقُل البشري ليس له قدرة ذاتية على تجِر يد الَم عقول من المحسوس ،وإنما يتم له ذلك بوساطة فيٍض
وإشراق من العقل الفعال ،فكل معرفٍة أو تذُك ر ،فإنما هي بوساطة الفيِض من العقل الفعال .وهو عقل
كونٌي وليس عقال إنسانيًا ،وبالتالي فال ُيمكن تفسير نظرية المعرفة لديه إال على أساس القوِل بنظرية
االتصال بين النفس والعقل الفعال .فهذا العقُل يعتبر همزة الوصل بين اإلنسان وعالم الُعقول الُعليا ،وبعد
ينبوع المعرفة اإلنسانية كلها فإذا كانت المعرفة تتعلق بالُصور فإن العقل الفعال هو واهٌب هذه الصـور،
ألن لديـه الصـور التي يمكن أن تكون عليها موجوداُت العالم األرض ،وبواسطة العقل الفعال يطلُع
.اإلنسان على الغيب مادام هذا العقل عنده علم الجزئيات
إن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس اإلنسانية تستطيُع الوقوَف على المجهول أثناء النوم ،وبالتالي
فليس ببعيٍد أن تستكشفه في حال اليقظة ،يقول ابن سينا« :التجربة والقياس متطابقان على أن للنفِس
اإلنسانية أن تنال من الغيب نيال ما ،في حالة المنام ،فال مانع من أن يقع مثل ذلك النيِل في حال اليقظة ،إال
ما كان إلى زواله سبيل ،والرتفاعه إمكاٌن .أما التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ،وليس أحٌد من
الناس إال وقد جرب ذلك في نفسه ،تجارب ألهمته التصديق ،اللهم إال أن يكون أحدهم فاسَد المزاج ،نائَم
ِقوى التخيل والتذكر».وأما عقال فُنسلم بأن األحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي
ومقيـدة فـي لـوٍح محفوٍظ ،فاذا استطاعت النفس البشرية الصعود إلى هذا العالم العلوي ،والوقوف
الصفحة 177
على هذا اللوح فإنها تعرُف ما فيه وتتنبأ بالغيب ،وهناك أشخاص ُيدركون ذلك أثناء النوم بوساطة قوة
مخيلتهم ،فيحُلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة ،وآخرون َقويت نفوسهم ومخيلتهم فأدركوا ما في عالم
الغيب أثناء اليقظة ،وهؤالء هم األنبياء الواصلون إلى مرتبة النور ،فالقياُس الدال على إمكان اطالع
اإلنسان على الغيِب َح الَتي يقظته ونومه مبنٌي على مقدمتين :إحداهما ،أن صـور الجزئيات الكائنة،
ُ.م رتسمة في المبادئ العالية قبل كونها .والثانية ،أن للنفس اإلنسانية أن ترتسم بما هو مرتسٌم فيها
يقول ابن سينا« :قد علمَت فيما سلف أن الجزئيات منقوشٌة في العالم العقلي ،نقشًا على وجٍه ُك لي ثم قد
َنبهت األجرام السماوية لها نفوسًا ذوات ادراكات جزئية وإرادات جزئية تصدُر عن أي ُج َز يئ وال مانَع
لها من تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري .ثم إن كان َيُلوُحه
ضرٌب من النظر مستورا إال على الراسخين في الحكمة المتعالية ،إن لها بعد العقول المفارقة التي هي لها
كالمبادئ نفوسا ناطقة غير منطبعة في موداها ،بل لها معها عالقة ما ،كما أن لنفوسنا مـع أبداننا ،وأنهـا
ُتنـال بتلك العالقة كماًال ما .حقا ،لقد صـار لألجسام السماوية زيادُة معنى في ذلك ،لتظاهر رأي ُجزئي
وآخر كلي .فيجتمُع لك مما نبهنا عليه ،أن للجزئيات في العالم العقلى نقشا على هيأٍة كلية ،وفي العالم
».النفساني نقشا على هيئة جزئية ،شاعرة بالوقت أو الوقتين معا
وارتساُم الغيب في النفس اإلنسانية مشروطًا بشرطين :وجـودي ،وهو أن يحُصل االستعداد ،وعـدمي
بـزوال الحائل ،ذلك أن قابلية النفس إنمـا تـِتم بهذين الشرطين .يقول ابن سينا« :ولنفسك أن تنقش بنقش
ذلك العالم :بحسب االستعداد وزوال الحائل ،وقد علمت ذلك ،فال تستنكر أن يكون بعض الغيب ينقش فيها
من
الصفحة 178
».عالمه
فاألصوُل التي يعتمد عليها ابُن سينا في تفسير النبوة أصالن :األول خارٌج عنا .والثاني في أنفسنا .أما
األصل األول فهو أن العالَم األرضي بما فيه من ُك ليات وجزئيات مرتسٌم في العالم السماوي .ويرِج ع
األصل الثاني إلى قوة العقل النظـري الـذي يتصـل بالكليـات وإلـى التخيـل مـع العقـل العملـي الـذي
.يتصـل بالُجزئيات
فإذا َقويت االستعدادات أمكن االتصال بالعالم السماوي ،وهذه القوى النفسانية قد ُتحَج ب ألمرين .األول
لضعفها ،والثاني ،الشتغالها بغيـر الجهـة التـي إليهـا الوصول ،فإذا زال الحجاب كان االتصال واقعا،
يقول ابن سينا« :ثم تلك الصور ال وحدها ،بل الصور العقلية التي في الجواهر الُم فارقة أيضا غير محتجبة
عن أنفسنا بحجاٍب البتة من جهتها .إنما الحجاب هو في قوانا إما لضعفها .وإما الشتغالها بغير الجهة التي
عندها يكون الوصول إليها واالتصال بها .وأما إذا لم يكن أحُد المعنيين فإن االتصال بها مبذول ،وليست
مما تحتاج أنفسنا في ادراكها إلى شيٍئ غير االتصال بها ومطالعتها .فأما الصور العقلية فإن االتصال بها
بالعقل النظري ،وأما هذه الصور التي الكالُم فيها فإن النفس إنما تتصورها بقوة أخرى ،وهو العقل
العملي ،ويخُدمه في ذلك الباِب التخيل ،فتكون األمور الجزئية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقًال عمليا
من الجواهر العالية النفسانية ،وتكون األمور الكلية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقال نظريا ،من
».الجواهر العالية العقلية التي ال يجوز أن يكون فيها شيئ من الصور الجزئية البتة
فالحقائُق منقوشة إذن في العالم العلوي وكل من اتصل بها ادركها ،والمهم هنا الطريقة التي يتم االتصال
بها .والنفس الناطقة التي توجد في جميع الناس على
الصفحة 179
نحٍو متفاوت تستطيع أن ُتقبل من العقل الفعال الكلي إما بواسطة أو بغير واسطة ،يقول ابن سينا« :إن في
اإلنسان قوة تباين له سائر الحيوان وغيره ،وهي المسماُة بالنفس الناطقة ،وهي موجودٌة في جميع الناس
على االطالق وأما في التفصيل فال ،ألن في ِقواها تفاوتا في الناس ،فقوة أولى متهيأة ألن تصير صورا
لكليات ُم نتزعـة عـن مواردها ،ليس لهـا فـي ذاتهـا صـورة ،ولهذا سميت بالعقل الهيوالني تشبيهًا
بالُهُيولى ،وهي عقٌل تام بالقوة كالنار بالقوة باردة ال كالنار بالقوة محرقة .وقوة ثانية لها قدرة وَم َلكة على
التصور بالصور الكلية الحتوائها على اآلراء المسَلمة العامية ،وهو عقل تام بالقوة كقولنا :النار لها على
اإلحراِق قوٌة .وقوة ثالثة متصورة بصور الكليات المعقولة بالفعل ،تأخذ بها القوتان الماضيتان وخرجتا
إلى الفعل ،وهو المسمى بالعقل المستفاد .وليس وجوده في العقل الهيوالني بالفعل ،فليس وجوده فيه
بالذات ،فإذن وجوده فيه من ُم وجٍد هو فيه بالذات ،به خرج ما كان بالقوة إلى الفعل ،وهو الموُسوم بالعقل
الكلي والنفس الكلي ونفس العالم .وإذا كان الَقبول ممـن لـه القـوة المقبولة بالذات على وجهين :إما بواسطة
وإما بغيـر واسطة ،وكذلك إذا وجد القبول من العقل الفعال الكلي على وجهين ،فأما القبول عنـه بـال
واسطة فكقبول اآلراء العامية وبدائة العقول .وأما القبول بتوسط فكقبول المعقوالت الثانية بتوسط األولى
وكاألشياء المعقولة المكتسبة بتوسط اآلالت والمواد كالِح س الظاهر والحس المشترك والَو هم والفكرة .وإذا
كانت النفُس الناطقة تقبل مرًة بتوسط ومرة بغير توسط ،فليس له القبول بغير توسط بالذات فهو فيه
بالَعَر ض ،فهو في آخر بالذات ،فهو ممن لها بالذات مستفاد ،وهذا هو العقل الملكي الذي يقبل بغير توسط،
ويصير قبولـه علـة لقبـول غيره من الِقوى ،وليس اختصاُص المعقوالت األول بالقبول من غير توسط إال
من جهتين ...من أجل سهولة قبولها أو من أجل أن القاِبل ليس يقوى يقبل توسط إال السهَل قبوله ...وقد
رأينا أشياء ال تقبل من إفاضات العقل بغير واسطة ،وأشياء تقبل كل اإلفاضات العقلية بغير
الصفحة 180
.واسطة
والنبي ُيمكنـه بمـا لـه مـن حـدٍس قوّي االتصاِل بالعقل الفعال ،فتكون قوته العقلية كأنها «كبريٌت والعقل
الفعال نار ،فيشتعل فيها دفعة واحدة ويحيلها إلى جوهره» .وتلعب المتخيلـة دورا كبيرا في األحالم
واالطالع على الغيب ،فهي متوسطة بين الحس والعقل ،فتارًة يجذبها الحس وأخرى يجذبها العقل ،وإذا
استغرَق اإلنسان في الحس تعطلت المخيلة عن خدمة النفس الناطقة في اتصالها بالمبادئ الُم وِح ية إليها
باألمور الجزئية ،وعندما يتعطل الحس عن ُش غل المخيلة ،كما هو الحال عند النوم ،تنعكس هيئة العالم
فترتسم على صفحة المخيلة ،يقول ابن سينا« :يتعلُق بفضليِة تخيل القوى ،وذلك أن يؤتى المستعد لذلك ما
يقوى على تخيالِت األمور الحاضرة والماضية واالطالع على مغيبات األمور المستقبلية ،فُيلقى إليه كثيٌر
من األمور التي تَقَدم وقوعها بزماٍن طويل ،فيخِبر عنها وكثير من األمور التي تكون في الزمان المستقبل
فُينذر بها ،وبالجملة ُيحِد ث عن الغيب فينتصُب بشيرًا ونذيرًا ،وخاصية االنذار بالكائنات والداللة على
المغيبات ...وقد يكون هذا المعنى للكثير من الناس في النوم ويسمى الُرؤيا .وأما االنبياء عليهم السالم
فإنما
.تكون لهم في حالَتي النوم واليقظة معا» .وهذا يدُخ ل عند ابن سينا تأثير النفَس اني في النفساني
إن المحـور الرئيسي في تفسير الـوحـي هـو التخيُـل الـذي َيعـِر ض الصـور مرتبطًة بعضها بالبعض
اآلخر ،بحيث ينتقل المرء من صـورة إلى صورٍة أخرى شبيهة أو مضادة أو مناسبة ،كما ُيعرض لليقظان
من أنه يشاهد شيئا ،فينعطف عليه التخيل إلى أشياء أخرى تحُضره ،مما تتصل به بوجٍه ،حتى ُينسيه
الشيء