علم الكلام والفلسفة (من الصفحة 171-180)

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 6

‫الصفحة ‪171‬‬

‫‪.‬فوق النبوة‬

‫وإذا َس لم بأنه ال يرى تفضيل الفيلسوِف على النبي وأنهما متساويان فإن هذا ال ُيمكن قبوله نهائيًا‪ ،‬ألنه يفتح‬
‫الباب الدعاءاٍت وتساؤالت باطلة‪ ،‬فقـد يقـول البعُض إذا كان النبي والفيلسوف متساويين‪ ،‬فما وجُه الحاجة‬
‫إلى النبي والفالسفة كثيرون‪ ،‬ولماذا يجب اتباُع النبي وال يجب اتباع الفيلسوف؟ ثم ان ذلَك يفتح الباب‬
‫‪.‬للقول باالستغناء عن الدين‬

‫ولقد أشار ابن تيمية إلى أن أحسَن األدلة العقلية فيما ال ُيعلم إال باألدلة العقلية هي التي بينها القرآن الكريم‬
‫وأرشد إليها النبي‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم وأحسُن األدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول‪،‬‬
‫فينبغي أن يعرف أن أَج ّل األدلة العقلية وأكمُلها وأفضلها مأخوذ عن الرسول‪ ،‬وقد أشار ابن تيمية أيضا‬
‫إلى أن هذه األقوال أبعُد عن الحق علمًا وعمًال‪ ،‬ومن كان أبعَد عن الحق علما وعمًال‪« :‬كالقرامطة‬
‫والمتفلسفة الذين يظنون أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائَق العلوم اإللهية والكلية‪ ،‬إنما ُيعرف ذلك بزعمهم‬
‫من يعرفه من المتفلسفة‪ ،‬ويقولون خاصية النبوة هي التخييل‪ ،‬ويجعلون الُنبوة أفضل من غيرها عند‬
‫‪».‬الجمهور‪ ،‬ال عند أهل المعرفة‪ ،‬كما يقول هذا الفارابي ونحوه‬

‫وَبّين ابن تيمية أن الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قد َبين جميع أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره‪،‬‬
‫وعلمه وعمله‪« :‬إن أصول الدين الحق الذي أنزَل ُهللا به كتابه‪ ،‬وأرسل بها رسوله‪ ،‬وهي األدلة والبراهين‬
‫واآليات الدالة على ذلك‪ ،‬قد بينها‬

‫الصفحة ‪172‬‬

‫الرسول أحسن بيان‪ ،‬وأنه دل الناس وَهداهم إلى األدلة العقلية والبراهين اليقينية‪ ،‬التـي بهـا يعَلُم ـون‬
‫المطالب اإللهيـة‪ ،‬وبهـا يعلمـون إثبـات ربوبيـة هللا ووحدانيتـه وصفاته‪ ،‬وصدَق رسوله والَم عاد وغير ذلك‬
‫مما ُيحتاج إلى معرفته باألدلة العقلية‪ ،‬بل وما يمكن بيانه باألدلة العقلية‪ ،‬وإن كان ال يحتاج إليها؛ فإن كثيرا‬
‫من األموِر ُيعرف بالخبر الصادق‪ ،‬ومع هذا بين األدلة العقلية الدالة عليها‪ ،‬فجمـع بـين الطريقين السمعي‬
‫والعقلي»‪ .‬والحقيقُة أن االنبياء أفضل من البشر‪ ،‬وليس في البشر من ُيوازي األنبياء في الفضل ال ِص ديٌق ‪،‬‬
‫‪.‬وال ولٌي وال غيرهما‬

‫‪:‬النبوة مكتسبة‬

‫إن مذهَب الفارابي في التسوية بين النبي والفيلسوف في ُرتبة المعرفة وكيفية تحصيلها يجعل النبوة‬
‫مكتسبة‪ ،‬فإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظِر والتأمل أو بقوٍة قدسيٍة فيه‪ ،‬فإن‬
‫النبوة ُتضحي ضربا من المعرفة التي ُيمكن أن ُتأتى عن طريق االكتساب‪ ،‬أي أن تكون النبوة أمرا‬
‫‪.‬مكتسبا‬

‫والحُق أن هذا يتعارض مع مبدأ االصطفاء اإللهي الذي قررُه هللا تعالى في قوله تعالى‪ُ “ :‬هَّللا َيْص َطِفي ِم َن‬
‫اْلَم اَل ِئَك ِة ُرُس اًل َو ِم َن الَّناِس “‪ ،‬وفي قوله تعالى‪ِ .” :‬إَّن َهَّللا اْص َطَفى آَد َم َو ُنوًحا َو آَل ِإْبَر اِهيَم َو آَل ِعْمَر اَن َع َلى‬
‫اْلَع اَلِم يَن “‪ ،‬ولقـد أكـَد الشهرستاني على مبدأ االصطفاء اإللهي‪ ،‬قائال‪« :‬إن النبوة ليست صفًة راجعة إلى‬
‫النبي‪ ،‬وال إلى درجٍة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه‪ ،‬وال استعدادا نفسيا يستحق به‬

‫الصفحة ‪173‬‬

‫‪».‬اتصاال بالروحانيات‪ ،‬بل رحمًة يمُن هللا بها على من يشاء من عباده‬

‫ويشكُك البعض في أن كوَن النبوة مكتسبة هو مذهب الفارابي‪« ،‬إن الفارابي َيُعد النبي مفطورا‪ ،‬بفضل‬
‫موهبة هللا له قوة متخيلة ممتازة يستطيع بها االتصاَل بالعقل الفعال‪ ،‬ويتلقى منه الِهداية واإلرشاد‪ ،‬فال محل‬
‫إذن لقول المتكلمين من أن الفارابي يميل إلى عّد النبوة أمرا مكتسبا‪ ،‬وإذا كان الفارابي قد قال بقوة قدسية‬
‫ممتازة إلى جانب الُم خيلة الممتازة‪ ،‬فما هذا إال ألن النبي بشر كسائر البشر يستطيع أن يصل إلى هذه القوة‬
‫بفضل التأمل ولكن األساس ‪-‬عنده‪ -‬هو القوة المتخيلة الموهوبة التي ُفطر عليها‪ ،‬وهذا شئ غير ميسور‬
‫لسائر البشر»‪.‬ويشير الدكتور ابراهيم مدكور إلى أنه‪« :‬يغلُب على الظـن أن القوة القدسية والمتخيلـة فـي‬
‫رأى الفارابي فطریتان ال مكتسبتان‪ ،‬وإن لم يصرح هو بذلك»‪ .‬والحقيقة أن هذه الُنقطة ثغرة في تفسير‬
‫‪.‬الفارابي للنبوة وهو إن لم يصرح بالقول بأن النبوة مكتسبة‪ ،‬فإن نظريته تمهُد السبيل إلى ذلك‬

‫‪:‬معارضتها للنصوص الدينية‬

‫إن تفسيَر الفارابي للوحي والنبوة على هذا النحو الذي سبقت اإلشارة من قبل‪ ،‬يصطدم مع بعض‬
‫النصوص اإلسالمية‪ ،‬فقد وردت النصوص تشير إلى أن الوحي كان يأتي للرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫مثل َص لصلة الجرس وأحيانا في صورة بشر‪ .‬ففي الحديث الشريف أن الحارث بن هشام سأل رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم عن كيفية مجيء الوحي إليه‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أحيانا يأتيني مثَل صلصلة‬
‫الجرس‪ ،‬وهو أشدُه علي فيفصم عني وقد وعيُت عنه ما قال‪ ،‬وأحيانا يتمثل‬

‫الصفحة ‪174‬‬

‫‪».‬لي الملُك رجًال فيكلمني فأعي ما يقول‬

‫لقد اتجه الفارابي هنا إلى التأويل‪ ،‬فجبريل هنا هو العقل الفعال أو الـروُح األمين أو روح القدس عند‬
‫الفارابي ويحاول البعُض أن يبرر ذلك على أساس أن الفارابي في ذلك الوقت لم يكن أمام من آمن بكل ما‬
‫ورد وُنقل‪ ،‬ولكن أمام من أنكَر النبوة وهاجمها بعنف‪ ،‬فهو والحالة هذه مضطٌر إلى اصطناع التأويل‪،‬‬
‫‪.‬والتسلح بأسلحة العقل‪ ،‬ووضع الحقائق الدينية في قوالب عقلية ليقنع بها المنكرين‬

‫ولقد أشار ابن تيمية في معرض نقده للفالسفة إلى أن جبريل انما هو خياٌل في نفس النبي‪ ،‬إذ يقول‪« :‬وعند‬
‫المتفلسفة أن جبريل انما هو خيال في نفس النبي ليَس هو مَلكًا يأتي من السماء‪ ،‬والنبي عندهم يأخذ من هذا‬
‫‪.‬الخيال»‪ .‬ولقد أشار ابن ُطفيل إلى سوء معتقد الفارابي في النبوة‪ ،‬وأنها للقوة الخيالية خاصة‬

‫ولقد ترك الفارابي أثرًا واضحًا على ابن سينا في تفسيره للنبوة‪ ،‬فإثبات النبوِة عنَد ابن سينا يأتي من حاجة‬
‫اإلنسان إلى االجتماع‪« :‬إن اإلنساَن يفارق سائر أنواع الحيوان‪ ،‬بأنه ال يحسُن معيشته لو انفرد وحده‬
‫شخصًا واحدًا‪ ،‬يتولى تدبير أمره من غير شريٍك يعاونه على ضرورات حاجاته‪ ،‬وانه ال بد أن يكون‬
‫‪».‬اإلنسان مكفيًا بآخر من نوعه‪ ،‬ويكون ذلك اآلخر أيضًا مكفيًا به وبنظيره‬

‫وهذا يقتضى أن تكون هناك معاملة‪ ،‬والمعاملة ال بد فيها من ُسنة وعدل‪ ،‬والبد للسُنة والعدل من ساٍن‬
‫وُم عدل‪ ،‬والحاجة إلى هذا اإلنسان الذي يلزم الناس السنة ضرورة‪ ،‬فواجٌب إذن ان ُيوجد نبي‪ ،‬وواجب أن‬
‫يكون إنسانًا‪ ،‬وواجب ان يكون له‬

‫الصفحة ‪175‬‬

‫‪.‬خصوصيٌة حتى يستشعَر الناس فيه أمرًا ال يوجد لهم‪ ،‬فيتميز به عنهم‬

‫وُيفسر ابن سينا النبوة تفسيرا طبيعيا يتالءم مع ُجملة مذهبه في تسلسِل الكائنات وارتباط بعضها ببعض‪،‬‬
‫‪:‬وتقوم هذه األسباب الطبيعية على أصول ثالثة‬

‫‪.‬األول‪ :‬وظيفة العقل الفعال‪ .‬والثاني‪ :‬وظيفُة المتخِيلة في اإلنسان‪ .‬والثالث‪ :‬الفعل واالنفعال‬

‫إن العقَل الفعال من الجواهر العقلية المفارقة‪ ،‬وهو الذي يتصل به اإلنسان‪ ،‬وهو الذي ُيخرج العقول من‬
‫القوة إلى الفعل‪« ،‬ونسبة هذا الشيء إلى أنُفسنا التي هي بالقوِة عقٌل‪ ،‬وإلى المعقوالت التي هي بالقوة‬
‫معقوالت‪ ،‬نسبة الشمس إلى أبصارنا التي هي بالقوِة رائيٌة‪ ،‬وإلى األلوان التي هي بالقوة مرئية‪ ،‬فإنها إذا‬
‫اتصل أثُرها بالمرئيات بالقوة‪ ،‬وذلك األثر هو الشعاع‪ ،‬عادت مرئياٍت بالفعل وعاد البصُر رائيا بالفعل‪،‬‬
‫فكذلك هذا العقُل الفعال َتفيض منه قوٌة تسيح إلى األشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة‪ ،‬فتجعلها معقولة‬
‫بالفعل‪ ،‬وتجعُل العقل بالقوة عقال بالفعل‪ ،‬وكما أن الشمس بذاتها مبصرة‪ ،‬وسبٌب البصارنا سائر ما نبصر‪،‬‬
‫‪».‬فكذلك هذا الجوهر هو بذاته معقول‪ ،‬وسبٌب ألن يجعل سائر المعقوالت التي هي بالقوة معقولة بالفعل‬

‫ويقول ابن سينا‪« :‬فَح ُد العقل الفعال إما من جهِة ما هو عقٌل فهو أنه جوهر صوري ذاتُه ماهيٌة مجردة في‬
‫ذاتها‪ ،‬ال بتجريد غيرها عن المادة وعن عالئق المادة هي ماهيـة موجـودة‪ .‬وأمـا مـن جهـة مـا هـو عقـل‬
‫فعـال فـهـو أنـه جـوهٌر بالصـفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيوالني من القوة إلى الفعل بإشراقه‬
‫‪».‬عليه‬

‫الصفحة ‪176‬‬

‫فالعقُل البشري ليس له قدرة ذاتية على تجِر يد الَم عقول من المحسوس‪ ،‬وإنما يتم له ذلك بوساطة فيٍض‬
‫وإشراق من العقل الفعال‪ ،‬فكل معرفٍة أو تذُك ر‪ ،‬فإنما هي بوساطة الفيِض من العقل الفعال‪ .‬وهو عقل‬
‫كونٌي وليس عقال إنسانيًا‪ ،‬وبالتالي فال ُيمكن تفسير نظرية المعرفة لديه إال على أساس القوِل بنظرية‬
‫االتصال بين النفس والعقل الفعال‪ .‬فهذا العقُل يعتبر همزة الوصل بين اإلنسان وعالم الُعقول الُعليا‪ ،‬وبعد‬
‫ينبوع المعرفة اإلنسانية كلها فإذا كانت المعرفة تتعلق بالُصور فإن العقل الفعال هو واهٌب هذه الصـور‪،‬‬
‫ألن لديـه الصـور التي يمكن أن تكون عليها موجوداُت العالم األرض‪ ،‬وبواسطة العقل الفعال يطلُع‬
‫‪.‬اإلنسان على الغيب مادام هذا العقل عنده علم الجزئيات‬
‫إن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس اإلنسانية تستطيُع الوقوَف على المجهول أثناء النوم‪ ،‬وبالتالي‬
‫فليس ببعيٍد أن تستكشفه في حال اليقظة‪ ،‬يقول ابن سينا‪« :‬التجربة والقياس متطابقان على أن للنفِس‬
‫اإلنسانية أن تنال من الغيب نيال ما‪ ،‬في حالة المنام‪ ،‬فال مانع من أن يقع مثل ذلك النيِل في حال اليقظة‪ ،‬إال‬
‫ما كان إلى زواله سبيل‪ ،‬والرتفاعه إمكاٌن ‪ .‬أما التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به‪ ،‬وليس أحٌد من‬
‫الناس إال وقد جرب ذلك في نفسه‪ ،‬تجارب ألهمته التصديق‪ ،‬اللهم إال أن يكون أحدهم فاسَد المزاج‪ ،‬نائَم‬
‫ِقوى التخيل والتذكر»‪.‬وأما عقال فُنسلم بأن األحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي‬
‫ومقيـدة فـي لـوٍح محفوٍظ ‪ ،‬فاذا استطاعت النفس البشرية الصعود إلى هذا العالم العلوي‪ ،‬والوقوف‬

‫الصفحة ‪177‬‬

‫على هذا اللوح فإنها تعرُف ما فيه وتتنبأ بالغيب‪ ،‬وهناك أشخاص ُيدركون ذلك أثناء النوم بوساطة قوة‬
‫مخيلتهم‪ ،‬فيحُلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة‪ ،‬وآخرون َقويت نفوسهم ومخيلتهم فأدركوا ما في عالم‬
‫الغيب أثناء اليقظة‪ ،‬وهؤالء هم األنبياء الواصلون إلى مرتبة النور‪ ،‬فالقياُس الدال على إمكان اطالع‬
‫اإلنسان على الغيِب َح الَتي يقظته ونومه مبنٌي على مقدمتين‪ :‬إحداهما‪ ،‬أن صـور الجزئيات الكائنة‪،‬‬
‫‪ُ.‬م رتسمة في المبادئ العالية قبل كونها‪ .‬والثانية‪ ،‬أن للنفس اإلنسانية أن ترتسم بما هو مرتسٌم فيها‬

‫يقول ابن سينا‪« :‬قد علمَت فيما سلف أن الجزئيات منقوشٌة في العالم العقلي‪ ،‬نقشًا على وجٍه ُك لي ثم قد‬
‫َنبهت األجرام السماوية لها نفوسًا ذوات ادراكات جزئية وإرادات جزئية تصدُر عن أي ُج َز يئ وال مانَع‬
‫لها من تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري‪ .‬ثم إن كان َيُلوُحه‬
‫ضرٌب من النظر مستورا إال على الراسخين في الحكمة المتعالية‪ ،‬إن لها بعد العقول المفارقة التي هي لها‬
‫كالمبادئ نفوسا ناطقة غير منطبعة في موداها‪ ،‬بل لها معها عالقة ما‪ ،‬كما أن لنفوسنا مـع أبداننا‪ ،‬وأنهـا‬
‫ُتنـال بتلك العالقة كماًال ما‪ .‬حقا‪ ،‬لقد صـار لألجسام السماوية زيادُة معنى في ذلك‪ ،‬لتظاهر رأي ُجزئي‬
‫وآخر كلي‪ .‬فيجتمُع لك مما نبهنا عليه‪ ،‬أن للجزئيات في العالم العقلى نقشا على هيأٍة كلية‪ ،‬وفي العالم‬
‫‪».‬النفساني نقشا على هيئة جزئية‪ ،‬شاعرة بالوقت أو الوقتين معا‬

‫وارتساُم الغيب في النفس اإلنسانية مشروطًا بشرطين‪ :‬وجـودي‪ ،‬وهو أن يحُصل االستعداد‪ ،‬وعـدمي‬
‫بـزوال الحائل‪ ،‬ذلك أن قابلية النفس إنمـا تـِتم بهذين الشرطين‪ .‬يقول ابن سينا‪« :‬ولنفسك أن تنقش بنقش‬
‫ذلك العالم‪ :‬بحسب االستعداد وزوال الحائل‪ ،‬وقد علمت ذلك‪ ،‬فال تستنكر أن يكون بعض الغيب ينقش فيها‬
‫من‬

‫الصفحة ‪178‬‬

‫‪».‬عالمه‬

‫فاألصوُل التي يعتمد عليها ابُن سينا في تفسير النبوة أصالن‪ :‬األول خارٌج عنا‪ .‬والثاني في أنفسنا‪ .‬أما‬
‫األصل األول فهو أن العالَم األرضي بما فيه من ُك ليات وجزئيات مرتسٌم في العالم السماوي‪ .‬ويرِج ع‬
‫األصل الثاني إلى قوة العقل النظـري الـذي يتصـل بالكليـات وإلـى التخيـل مـع العقـل العملـي الـذي‬
‫‪.‬يتصـل بالُجزئيات‬
‫فإذا َقويت االستعدادات أمكن االتصال بالعالم السماوي‪ ،‬وهذه القوى النفسانية قد ُتحَج ب ألمرين‪ .‬األول‬
‫لضعفها‪ ،‬والثاني‪ ،‬الشتغالها بغيـر الجهـة التـي إليهـا الوصول‪ ،‬فإذا زال الحجاب كان االتصال واقعا‪،‬‬
‫يقول ابن سينا‪« :‬ثم تلك الصور ال وحدها‪ ،‬بل الصور العقلية التي في الجواهر الُم فارقة أيضا غير محتجبة‬
‫عن أنفسنا بحجاٍب البتة من جهتها‪ .‬إنما الحجاب هو في قوانا إما لضعفها‪ .‬وإما الشتغالها بغير الجهة التي‬
‫عندها يكون الوصول إليها واالتصال بها‪ .‬وأما إذا لم يكن أحُد المعنيين فإن االتصال بها مبذول‪ ،‬وليست‬
‫مما تحتاج أنفسنا في ادراكها إلى شيٍئ غير االتصال بها ومطالعتها‪ .‬فأما الصور العقلية فإن االتصال بها‬
‫بالعقل النظري‪ ،‬وأما هذه الصور التي الكالُم فيها فإن النفس إنما تتصورها بقوة أخرى‪ ،‬وهو العقل‬
‫العملي‪ ،‬ويخُدمه في ذلك الباِب التخيل‪ ،‬فتكون األمور الجزئية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقًال عمليا‬
‫من الجواهر العالية النفسانية‪ ،‬وتكون األمور الكلية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقال نظريا‪ ،‬من‬
‫‪».‬الجواهر العالية العقلية التي ال يجوز أن يكون فيها شيئ من الصور الجزئية البتة‬

‫فالحقائُق منقوشة إذن في العالم العلوي وكل من اتصل بها ادركها‪ ،‬والمهم هنا الطريقة التي يتم االتصال‬
‫بها‪ .‬والنفس الناطقة التي توجد في جميع الناس على‬

‫الصفحة ‪179‬‬

‫نحٍو متفاوت تستطيع أن ُتقبل من العقل الفعال الكلي إما بواسطة أو بغير واسطة‪ ،‬يقول ابن سينا‪« :‬إن في‬
‫اإلنسان قوة تباين له سائر الحيوان وغيره‪ ،‬وهي المسماُة بالنفس الناطقة‪ ،‬وهي موجودٌة في جميع الناس‬
‫على االطالق وأما في التفصيل فال‪ ،‬ألن في ِقواها تفاوتا في الناس‪ ،‬فقوة أولى متهيأة ألن تصير صورا‬
‫لكليات ُم نتزعـة عـن مواردها‪ ،‬ليس لهـا فـي ذاتهـا صـورة‪ ،‬ولهذا سميت بالعقل الهيوالني تشبيهًا‬
‫بالُهُيولى‪ ،‬وهي عقٌل تام بالقوة كالنار بالقوة باردة ال كالنار بالقوة محرقة‪ .‬وقوة ثانية لها قدرة وَم َلكة على‬
‫التصور بالصور الكلية الحتوائها على اآلراء المسَلمة العامية‪ ،‬وهو عقل تام بالقوة كقولنا‪ :‬النار لها على‬
‫اإلحراِق قوٌة‪ .‬وقوة ثالثة متصورة بصور الكليات المعقولة بالفعل‪ ،‬تأخذ بها القوتان الماضيتان وخرجتا‬
‫إلى الفعل‪ ،‬وهو المسمى بالعقل المستفاد‪ .‬وليس وجوده في العقل الهيوالني بالفعل‪ ،‬فليس وجوده فيه‬
‫بالذات‪ ،‬فإذن وجوده فيه من ُم وجٍد هو فيه بالذات‪ ،‬به خرج ما كان بالقوة إلى الفعل‪ ،‬وهو الموُسوم بالعقل‬
‫الكلي والنفس الكلي ونفس العالم‪ .‬وإذا كان الَقبول ممـن لـه القـوة المقبولة بالذات على وجهين‪ :‬إما بواسطة‬
‫وإما بغيـر واسطة‪ ،‬وكذلك إذا وجد القبول من العقل الفعال الكلي على وجهين‪ ،‬فأما القبول عنـه بـال‬
‫واسطة فكقبول اآلراء العامية وبدائة العقول‪ .‬وأما القبول بتوسط فكقبول المعقوالت الثانية بتوسط األولى‬
‫وكاألشياء المعقولة المكتسبة بتوسط اآلالت والمواد كالِح س الظاهر والحس المشترك والَو هم والفكرة‪ .‬وإذا‬
‫كانت النفُس الناطقة تقبل مرًة بتوسط ومرة بغير توسط‪ ،‬فليس له القبول بغير توسط بالذات فهو فيه‬
‫بالَعَر ض‪ ،‬فهو في آخر بالذات‪ ،‬فهو ممن لها بالذات مستفاد‪ ،‬وهذا هو العقل الملكي الذي يقبل بغير توسط‪،‬‬
‫ويصير قبولـه علـة لقبـول غيره من الِقوى‪ ،‬وليس اختصاُص المعقوالت األول بالقبول من غير توسط إال‬
‫من جهتين ‪ ...‬من أجل سهولة قبولها أو من أجل أن القاِبل ليس يقوى يقبل توسط إال السهَل قبوله ‪ ...‬وقد‬
‫رأينا أشياء ال تقبل من إفاضات العقل بغير واسطة‪ ،‬وأشياء تقبل كل اإلفاضات العقلية بغير‬
‫الصفحة ‪180‬‬

‫‪.‬واسطة‬

‫والنبي ُيمكنـه بمـا لـه مـن حـدٍس قوّي االتصاِل بالعقل الفعال‪ ،‬فتكون قوته العقلية كأنها «كبريٌت والعقل‬
‫الفعال نار‪ ،‬فيشتعل فيها دفعة واحدة ويحيلها إلى جوهره»‪ .‬وتلعب المتخيلـة دورا كبيرا في األحالم‬
‫واالطالع على الغيب‪ ،‬فهي متوسطة بين الحس والعقل‪ ،‬فتارًة يجذبها الحس وأخرى يجذبها العقل‪ ،‬وإذا‬
‫استغرَق اإلنسان في الحس تعطلت المخيلة عن خدمة النفس الناطقة في اتصالها بالمبادئ الُم وِح ية إليها‬
‫باألمور الجزئية‪ ،‬وعندما يتعطل الحس عن ُش غل المخيلة‪ ،‬كما هو الحال عند النوم‪ ،‬تنعكس هيئة العالم‬
‫فترتسم على صفحة المخيلة‪ ،‬يقول ابن سينا‪« :‬يتعلُق بفضليِة تخيل القوى‪ ،‬وذلك أن يؤتى المستعد لذلك ما‬
‫يقوى على تخيالِت األمور الحاضرة والماضية واالطالع على مغيبات األمور المستقبلية‪ ،‬فُيلقى إليه كثيٌر‬
‫من األمور التي تَقَدم وقوعها بزماٍن طويل‪ ،‬فيخِبر عنها وكثير من األمور التي تكون في الزمان المستقبل‬
‫فُينذر بها‪ ،‬وبالجملة ُيحِد ث عن الغيب فينتصُب بشيرًا ونذيرًا‪ ،‬وخاصية االنذار بالكائنات والداللة على‬
‫المغيبات ‪ ...‬وقد يكون هذا المعنى للكثير من الناس في النوم ويسمى الُرؤيا‪ .‬وأما االنبياء عليهم السالم‬
‫فإنما‬

‫‪.‬تكون لهم في حالَتي النوم واليقظة معا»‪ .‬وهذا يدُخ ل عند ابن سينا تأثير النفَس اني في النفساني‬

‫إن المحـور الرئيسي في تفسير الـوحـي هـو التخيُـل الـذي َيعـِر ض الصـور مرتبطًة بعضها بالبعض‬
‫اآلخر‪ ،‬بحيث ينتقل المرء من صـورة إلى صورٍة أخرى شبيهة أو مضادة أو مناسبة‪ ،‬كما ُيعرض لليقظان‬
‫من أنه يشاهد شيئا‪ ،‬فينعطف عليه التخيل إلى أشياء أخرى تحُضره‪ ،‬مما تتصل به بوجٍه‪ ،‬حتى ُينسيه‬
‫الشيء‬

You might also like