Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 253

‫جامعة صفوة‬

‫كلية العلوم الشرعية والعربية‬


‫الفرقة األوىل ‪ /‬الفصل الدراسي الثاين‬
‫مادة أصول الفقه‬
‫من كتاب‪:‬‬

‫البداية‬
‫في أصول الفقه‬
‫شرح الشيخ‪/‬د‪ .‬أيمن بن موسى‬

‫الدرس السابع عشر‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته هذه احملاضرة السابعة عشر‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إن احلمد هلل حنمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات‬
‫أعمالنا من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪ ،‬أما‬
‫بعد؛‬
‫هذه احملاضرة تتمة للمحاضرات السابقة‪.‬‬
‫كنا على مدار عدة حماضرات‪:‬‬
‫تكلمنا عن األدلة الشرعية ‪.‬‬
‫تكلمنا عن السنة النبوية‪.‬‬
‫وتكلمنا عن اإلمجاع‪.‬‬
‫وتكلمنا عن القياس‪.‬‬
‫وقلنا إن هذه األدلة الشرعية املعتربة يف الداللة على األحكام وبقي عدة أدلة وهي‬
‫ما يسميها العلماء‪ [[ :‬األدلة االستئناسية ]]‬
‫وهذه األدلة هي تتمة لألدلة الشرعية وهي ستة أنواع‪:‬‬

‫األول‪ :‬إمجاع اخللفاء الراشدين على أمر ومل خيالفهم أحد من الصحابة هل هو‬
‫حجة؟‬

‫‪2‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الثاني‪ :‬قول الصحايب إذا مل خيالف قرينة مرجحة‬

‫الثالث‪ :‬عمل أهل املدينة يف عصر التابعني‬

‫الرابع‪ :‬استصحاب األصل واستصحاب الرباءة األصلية‬

‫الخامس‪ :‬العرف‬

‫السادس‪ :‬املصاحل املرسلة‬


‫اليوم إن شاء اهلل تعاىل يف هذه احملاضرة سوف نتناول بعضها‪.‬‬
‫فأول دليل من األدلة االستئناسية‪.‬‬
‫ومعىن األدلة االستئناسية‪:‬‬
‫أي قد جتد هذا املصطلح عند كثري من من الكتب يف علم أصول الفقه ورمبا مل أره‬
‫قبل أن جيمع شيخنا حفظه اهلل هذه الرسالة املباركة؛‬
‫[[ البداية يف علم أصول الفقه ]]‬
‫ومعىن االستئناسية‪:‬‬
‫أي اليت يستأنس هبا الفقيه واألصويل يف الوصول إىل احلكم الشرعي ويف ترجيح‬
‫بعض األقوال على بعض‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الباب الثامن‬
‫األدلة االستئناسية‬
‫وفيه ستة ضوابط‪.‬‬
‫الضابط األول ‪ :‬إذا أجمع الخلفاء الراشدون على أمر ولم يخالفهم أحد من الصحابة‬
‫فهو حجة على الصحيح‬

‫ومجلة ذلك أن اخللفاء األربعة رضي اهلل عنهم ‪:‬‬


‫[ أبا بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي ] رضي اهلل عنهم مجيعا إذا أمجعوا على أمر ومل‬
‫يعلم هلم خمالف من الصحابة رضي اهلل عنهم مجيعا فقوهلم حجة بال ريب عند من‬
‫يأخذ بقول الصحايب‪.‬‬
‫بل يؤخذ بقول أيب بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يستشريمها يف غالب األحيان‪.‬‬
‫ملا جاء عن العرباض بن سارية رضي اهلل عنه أنه قال‪" :‬وعظنا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يوما بعد صالة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها‬
‫القلوب‪ ،‬فقال رجل‪ :‬إن هذه موعظة مودع‪ ،‬ماذا تعهد إلينا يا رسول اهلل؟‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أوصيكم بتقوى اهلل‪ ،‬والسمع والطاعة وإْن عبدا حبشيا‬
‫فإنه من يعش منكم يرى اختالفا كثريا وإياكم وحمدثات األمور فإهنا ضاللة فمن‬

‫‪4‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أدرك ذلك منكم فعليه بسنيت وسنة اخللفاء الراشدين املهديني عضوا عليها‬
‫بالنواجذ"‪.‬‬
‫وجه الداللة من األثر‪:‬‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أمر باألخذ والتمسك بسنته وسنة اخللفاء الراشدين‬
‫املهديني من بعده‪ ،‬وقال‪ :‬عضوا عليها بالنواجذ‪.‬‬
‫أي متسكوا هبا‪.‬‬
‫وقد ورد عن اخللفاء األربعة بعض املسائل اليت أمجعوا عليها وأخذ هبا أهل العلم من‬
‫الفقهاء وغريهم‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫توريث ذوي األرحام‪.‬‬
‫أخذ العلماء برأي اخللفاء األربعة رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫مع أهنم تركوا قول زيد بن ثابت رضي اهلل عنه فردوا املال على ذوي األرحام‪.‬‬
‫ومما هو معلوم يف الفرائض أن قول زيد مقدم على قول غريه يف الفرائض‪.‬‬
‫لكن هنا ملا أمجع اخللفاء األربعة على هذه املسألة كان قوهلم هو الراجح ‪.‬‬
‫ومثال ذلك أيضا‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ملا مجع الصحابة رضي اهلل عنه وأمر اخللفاء جبمع القرءان الكرمي يف مصحف واحد‬
‫كما سبق أمجعوا على حتريق املصاحف أو الصحف الذي كان فيها آيات‪.‬‬
‫فدل ذلك علي خريية ذلك الفعل وصوابه‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن أمة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال جتتمع على ضاللة‪.‬‬
‫وكذلك املسألة األصلية وهي‪:‬‬
‫االتفاق على مجع املصحف يف مصحف واحد ومسوه مصحف اإلمام‪.‬‬
‫هذا الباب عليكم بسنيت وسنة اخللفاء الراشدين من بعدي‪.‬‬
‫كذلك من املسائل اليت أمجعوا عليها‪:‬‬
‫إمجاعهم على جواز املساقاة يف النخل والشجر والعنب وما سواها‪.‬‬
‫كذلك أمجعوا على وجوب العدة على املرأة اليت خال هبا زوجها وإن مل يصبها‪.‬‬
‫ومن املسائل أيضا إمجاعهم على وجوب التغريب على الزاين غري احملصن‪.‬‬
‫وغريها من املسائل اليت وردت عنهم رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫أهنم إذا أمجعوا على مسألة فإن هذا اإلمجاع يعد حجة شرعية جيب املصري إليها‪.‬‬
‫هذا هو الدليل األول من األدلة االستئناسية‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدليل الثاين‪:‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثاني‪ :‬قول الصحابي إذا لم يخالف قرينة مرجحة‬

‫هنا قبل أن نبدأ يف قول الصحايب قد يقول قائل‪:‬‬


‫ما الفرق بني قول األئمة األربعة أو اخللفاء األربعة‪ ،‬و بني قول الصحايب؟‬
‫قول الصحايب يدخل ضمنا يف‬
‫قول األئمة األربعة ألهنم من الصحابة‪.‬‬
‫وقول اخللفاء األربعة يدخل ضمنا يف قول الصحايب ألهنم أيضا من الصحابة‪.‬‬
‫فخالصة القول أن‪:‬‬
‫إذا اتفق الصحابة على أمر وكان من بينهم اخللفاء األربعة فهذا مما ال ريب فيه أنه‬
‫يصار إليه‪.‬‬
‫ومن هذه مسائل اليت خالف اخللفاء األربعة بعض الصحابه‪:‬‬
‫مرياث النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فقد أمجعوا على أن ما تركه صدقة وال يورث‪،‬‬
‫وجرى العمل عند اخللفاء بعد ذلك على هذا‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذن قبل أن ندخل لقول الصحايب نقول إن إمجاع اخللفاء على ضربني‪:‬‬
‫الضرب األول‪:‬‬
‫إذا مل خيالفهم أحد من الصحابة فهو حجة‪ ،‬كما أشار شيخنا حفظه اهلل‪.‬‬
‫وهذا الذي قصده‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أما اذا خالفهم غريهم فإن قوهلم ليس حبجة على قول اجلمهور‪.‬‬
‫لكن إذا وجد أحدهم عند الرتجيح يف جهة كان من املرجحات املعتربة عند أهل‬
‫العلم‪.‬‬
‫مث نرجع إىل قول الصحايب إذا مل خيالف قرينة مرجحة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬من هو الصحايب؟‬
‫قلنا قبل ذلك‪ :‬هو من لقي النيب صلى اهلل عليه وسلم مؤمنا به وإن قلت صحبته‪.‬‬
‫ولكن عند األصوليني‪:‬‬
‫هو من صحب النيب صلى اهلل عليه وسلم مؤمنا به مدة تكفي عرفا لوصفه بالصحبة‬
‫ومات على اإلسالم‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬من صحب النيب صلى اهلل عليه وسلم مؤمنا مدة تكفي عرفا لوصفه‬
‫بالصحبة ومات على اإلسالم‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وعند احملدثني قالوا‪:‬‬


‫من رأى النيب صلى اهلل عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك‪.‬‬
‫والفرق بني هذا وذاك‪:‬‬
‫أن عند األصوليني يشرتط مدة مصاحبة حىت يكون صحابًيا‪.‬‬
‫لكن عند أهل احلديث جمرد الرؤية واملوت على ذلك صار صحابيا‪.‬‬
‫والكالم على هذا املبحث (قول الصحايب)‬
‫قول صحايب على درجات‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬قول الصحايب فيما ال جمال للرأي فيه‪ [ ،‬العبادات والتقديرات ]‬
‫وحنوها ‪...‬‬
‫وهذا القسم حجة عند األئمة األربعة‪.‬‬
‫ألنه ال بد أن يكون مسعه‪( ،‬أي الصحايب) من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫[ إذ ال اجتهاد يف األمور اليت ال تعرف إال بتوقيف ]‪.‬‬
‫ولكن األئمة خيتلفون يف مدى االحتجاج به قلة وكثرة لعدم االتفاق على ضابط‬
‫معني حيدد ما ال جمال للرأي فيه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومن هذا النوع قضاء الصحابة رضي اهلل عنهم يف النعامة إذا اصطادها احملرم ببدنة‪،‬‬
‫ويف الغزال بعنزة‪.‬‬
‫فقد أخذ األئمة بذلك‪.‬‬
‫وكونه من التقديرات يدل على أنه مما مُس ع من النيب صلى اهلل عليه وسلم مما قضي‬
‫فيه باالجتهاد‪.‬‬
‫الدرجة الثانية‪ :‬قول الصحايب إذا خالف غريه من الصحابة‬
‫إذا اختلف الصحابة رضي اهلل عنهم فيما بينهم مل يكن قول بعضهم حجة على‬
‫بعض ومل جيز للمجتهد بعدهم أن يقلد بعضهم‪.‬‬
‫بل الواجب يف هذه احلالة التخيري من األقوال حبسب الدليل‪.‬‬
‫وال جيوز اخلروج عنها‪.‬‬
‫وهذه املسألة كمسألة استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء احلاجة‪:‬‬
‫فذهب ابن عمر رضي اهلل عنهما على جواز ذلك يف البنيان دون الفضاء‪.‬‬
‫وذهب أبو أيوب رضي اهلل عنه إىل عدم جواز ذلك ال يف البنيان وال يف الفضاء‪.‬‬
‫هذه من املسألة املتنازع فيها‪.‬‬
‫قال ابن تيمية رمحه اهلل‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إىل اهلل والرسول ومل يكن قول بعضهم حجة على‬
‫خمالفة بعضهم له باتفاق‪.‬‬
‫هذا بالنسبة ألقوال الصحابة إذا مل يكن مَث نص مرفوع من [ كتاب أو سنة‬
‫صحيحة أو إمجاع ]‬
‫الدرجة الثالثة‪ :‬قول الصحايب إذا انتشر ومل خيالف‬
‫فإذا اشتهر قول الصحايب ومل خيالفه أحد من الصحابة صار إمجاعا وحجة عند‬
‫مجاهري العلماء‪.‬‬
‫و يقول ابن تيمية رمحه اهلل يف ذلك‪:‬‬
‫وأما أقوال الصحابة فإن انتشرت ومل تنكر يف زماهنم هي حجة عند مجاهري‬
‫العلماء‪.‬‬
‫الدرجة الرابعة‪ :‬قول الصحايب فيما عدا ذلك‬

‫عندنا الدرجة األولى‪ :‬أن الصحايب إذا اختلفوا أو إذا قال قوال ال جمال للرأي فهو‬
‫حجة‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬إذا اختلفوا فليس قول أحدهم حجة على اآلخر‪.‬‬


‫الثالثة‪ :‬إذا قال قوال انتشر بني الصحابة صار حجة على اآلخر‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الرابعة‪ :‬ما عدا هذه الدرجات فقول الصحايب إذا مل خيالف أحد من الصحابة ومل‬
‫يشتهر بينهم أو مل يعلم هل اشتهر أو ال‪ ،‬كان للرأي فيه جمال‪.‬‬
‫فقول األئمة أنه حجة ولكن فيه خالف‪.‬‬
‫ولذلك يلخص شيخ اإلسالم أقوال الصحابة رضي اهلل عنهم من حيث االحتجاج‬
‫عليها إىل درجات فقال‪:‬‬
‫وإن قال بعضهم قوال ومل يقل بعضهم خبالفه ومل ينتشر فهذا فيه نزاع‪.‬‬
‫ومجهور العلماء حيتجون به‪.‬‬
‫كأيب حنيفة‪ ،‬ومالك وأمحد يف املشهور عنه‪.‬‬
‫والشافعي يف قوليه ويف كتبه اجلديدة‪.‬‬
‫إال االحتجاج مبثل ذلك يف غري موضعه‪.‬‬
‫إذا قلنا إن قول الصحايب حجة‪ ،‬وأنه حيتج به‪ ،‬فهل هناك أدلة على االحتجاج بقول‬
‫الصحايب؟‬
‫قال مجهور العلماء‪ :‬نعم‪.‬‬
‫هناك أدلة لقول الصحايب‪.‬‬
‫أوال‪ :‬ذهب اإلمام البخاري رمحه اهلل تعاىل إىل أن العمرة واجبة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فقال‪ :‬باب وجوب العمرة‪.‬‬


‫واستدل البخاري رمحه اهلل على ذلك بأنه قول الصحابة فقال‪ :‬قال ابن عمر رضي‬
‫اهلل عنهما‪" :‬ليس أحد إال و عليه َح جة وعمرة"‪.‬‬
‫وقال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫"إهنا لقرينتها يف كتاب اهلل { وأمتوا احلج والعمرة هلل}"‪.‬‬
‫فاستدل البخاري رمحه اهلل مبا ورد عن الصحابة يف ذلك‪.‬‬
‫فأخذ منه أنه يرى حجية قول الصحايب‪.‬‬
‫وأما األدلة املنصوص عليها‪:‬‬
‫ما ورد من النصوص الدالة على عدالتهم وتزكية اهلل تعاىل هلم‪.‬‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬و الَّس اِبُقوَن اَأْلَّو ُلوَن ِم َن اْلُم َه اِج ِر يَن َو اَأْلنَص اِر َو اَّلِذيَن اَّتَبُعوُه م‬
‫ي‬ ‫َّناٍت ِر ي ا اَأْل ا اِلِد‬ ‫َّد‬ ‫َأ‬ ‫ْن‬ ‫وا‬ ‫َّل‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِبِإ اٍن َّر ِض‬
‫َن‬ ‫َخ‬ ‫ْن‬
‫َتَه َه ُر‬ ‫ْحَت‬ ‫ْجَت‬ ‫ْم َج‬‫ُهَل‬ ‫َع‬ ‫َو‬ ‫ُه‬ ‫َع‬ ‫ُض‬ ‫ُه ْم َو َر‬‫ْن‬ ‫َع‬ ‫ُه‬ ‫َي‬ ‫ْح َس‬
‫ِفيَه ا َأَبًد اۚ َٰذ ِلَك اْلَف ْو ُز اْلَعِظ يُم (‪} )100‬‬
‫ومن السنة‪:‬‬
‫عن أيب سعيد رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال تسبوا‬
‫أصحايب فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ ُم د أحدهم وال نصيفه"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا حديث متفق عليه‪.‬‬


‫وعن عبد اهلل رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬خري الناس‬
‫قرين مث الذين يلوهنم مث الذين يلوهنم مث جييء أقوام تسبق شهادة أحدهم ميينه وميينه‬
‫شهادته"‪.‬‬
‫فالنيب صلى اهلل عليه وسلم شهد هلم باخلريية واهلل عز وجل بني عدالتهم‪.‬‬
‫الدليل الثاين‪:‬‬
‫أن الصحابة رضي اهلل عنهم انفردوا مبا جعلهم أبر األمة قلوبا‪ ،‬وأعمقهم علما‪،‬‬
‫وأقلهم تكلفا‪.‬‬
‫فقد خصهم اهلل تعاىل بتوقيظ األذهان وفصاحة اللسان‪.‬‬
‫وهذا يدل على أهنم قد جعلهم اهلل عز وجل حلمل هلذا الدين و هذه الرسالة فعّد هلم‬
‫و بني عدالتهم‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫أن الصحابة شاهدوا الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحضروا نزول الوحي‪ ،‬وهم‬
‫أعرف الناس بكتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فال بد أن يكون قوهلم مقدما على قول غريهم‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬وهو دليل نظري‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومعىن ذلك أن فتوى الصحايب ال خترج عن ستة أوجه‪:‬‬


‫الوجه األول‪:‬‬
‫أن يكون مسعها من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أي إذا تكلم الصحايب يف مسألة وقال برأيه وأفىت بفتوة ال خترج هذه الُف تية عن‬
‫وجه من هذه األوجه‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أن يكون قد مسعها من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪:‬‬
‫أن يكون مسعها َمِمن مسعها منه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فإن الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ويعظموهنا‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪:‬‬
‫أن يكون فهمها من آية من كتاب اهلل فهما َخ فَي علينا‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪:‬‬
‫أن يكون قد اتفق عليها أو قد اُّتِف َق عليها ومل ينقل إلينا إال قول ا فيِت هبا وحده‪.‬‬
‫ُمل‬
‫الوجه اخلامس‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أن يكون لكمال علمه باللغة وداللة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا‪.‬‬
‫أو لقرائن حالية اقرتنت باخلطاب‪.‬‬
‫أو جملموع أمور فهمها على طول الزمان من رؤية النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ومشاهدة أفعاله وأحواله وسريته ومساع كالمه والعلم مبقاصده وشهود تنزيل‬
‫الوحي‪.‬‬
‫فكان ذلك دل على فهم قد ال نفهمه حنن‪.‬‬
‫وعلى هذه التقادير اخلمسة تكون فتواه حجة جيب اتباعها‪.‬‬
‫هناك وجه سادس‪:‬‬
‫أن يكون فهم ما مل يرده الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأخطأ يف فهمه واملراد غري‬
‫ما فهم‪.‬‬
‫وعلى هذا التقدير قوله حجة ومعلوم قطعا أن احتمال من مخسة أغلب على الظن‬
‫من وقوع احتمال واحد معني‪.‬‬

‫خالصة القول‪:‬‬
‫أن قول الصحايب إذا مل خيالف نصا ‪:‬‬
‫[ قرآنا أو سنة أو إمجاًعا ] فهو حجة بشروط ثالثة‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫األول‪ :‬أال خيالفه أحد من الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬


‫الثاين‪ :‬أن يشتهر بني الصحابة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون ما يقال بالرأي‪.‬‬
‫هذا بالنسبة لقول الصحايب‪.‬‬
‫الضابط الثالث‪ :‬عمل أهل المدينة في عصر التابعين إذا لم يخالف الكتاب والسنة فهو‬
‫قرينة مرجحة‬

‫إمجاع أهل املدينة أو عمل أهل املدينة‪.‬‬


‫ومجلة ذلك‪:‬‬
‫أن إمجاع أهل املدينة على انفرادهم ليس حبجة عند اجلمهور ألهنم بعض األمة‪.‬‬
‫ولكنه حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل حيث قال‪ :‬إذا أمجعوا مل ُيعتد خبالف‬
‫غريه‪.‬‬
‫ولذلك قال الباجي‪:‬‬
‫إمنا أراد ذلك حبجية إمجاع أهل املدينة فيما كان طريقه النقل املستفيض‪.‬‬
‫[كالصاع واملد واألذن واإلقامة وعدم وجوب الزكاة يف اخلضروات ]‬
‫ومما تقتضي العادة بأن يكون يف زمن النيب صلى اهلل عليه وسلم فإنه لو تغري عما‬
‫كان عليه لعلم‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أما مسائل االجتهاد فهم وغريهم سواء‪.‬‬


‫لذلك قسم شيخ اإلسالم ابن تيمية إمجاع أهل املدينة إىل أربعة أقسام‪ ،‬فذكرها‬
‫رمحه اهلل تعاىل فقال‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما جيري جمرى النقل عن النيب صلى اهلل عليه و سلم‪.‬‬
‫مثل نقلهم ملقدار الصاع واملد‪.‬‬
‫وكرتك الصدقة من اخلضروات واألحباس‪.‬‬
‫فهذا مما هو حجة باتفاق علماء‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬العمل القدمي باملدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫فهذا حجة يف مذهب مالك وهو املنصوص عن الشافعي‪.‬‬
‫قال يف رواية يونس بن عبد األعلى‪:‬‬
‫" إذا رأيت قدماء أهل املدينة على شيء فال تتوقف يف قلبك ريبا إنه احلق‪.‬‬
‫وكذا ظاهر مذهب أمحد‪:‬‬
‫أن ما َس َّنه اخللفاء الراشدون فهو حجة جيب اتباعها‪.‬‬
‫وما ُيعلم ألهل املدينة عمل على عهد اخللفاء الراشدين خمالف لسنة رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الثالث‪ :‬إذا تعارض يف املسألة دليالن‪.‬‬


‫كحديثني أو قياسيني‪ُ ،‬ج هل أيهما أرجح وأحدمها يعمل به أهل املدينة‪ ،‬ففيه نزاع‪.‬‬
‫فمذهب مالك والشافعي‪:‬‬
‫أنه يرجح بعمل أهل املدينة‪.‬‬
‫ومذهب أيب حنيفة‪:‬‬
‫أنه ال يرجح بعمل أهل املدينة‪.‬‬
‫وألصحاب أمحد وجهان‪:‬‬
‫أحدمها أنه ال يرجح‪.‬‬
‫والثاين أنه يرجح به‪.‬‬
‫هذا يعين خالصة القول‪.‬‬
‫أما املرتبة الرابعة‪:‬‬
‫فهي العمل املتأخر باملدينة فهل هذا هو حجة شرعية جيب اتباعها أم ال؟‬
‫فالذي عليه أئمة املسلمني أنه ليس حبجة شرعية وهذا مذهب مجاهري العلماء‪.‬‬

‫فخالصه القول يف عمل أهل املدينة‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أن ما كان نقال عن النيب صلى اهلل عليه وسلم يف القرون األوىل الفاضلة فهو حجه‬
‫بال ريب‪.‬‬
‫وأن ما كان االجتهاد ورأى فهو ليس حبجة عند مجاهري العلماء‪.‬‬
‫وأما ما خالف نصا من كتاب اهلل وسنة فال يعتد به و ليس حبجة عند مجاهري‬
‫العلماء‪.‬‬
‫ولذلك ملاذا نقول ليس حبجة؟‬
‫ألنه رمبا يكون أحد غريهم قد مسع حديثا من النيب صلى وسلم مث سافر وصح هذا‬
‫عنه فيعمل به ويقدم على عمل أهل املدينة‪.‬‬
‫ولذلك جاء عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه قال‪" :‬إن الناس يقولون أكثر أبو‬
‫هريرة ولوال آيتان يف كتاب اهلل ما حدثت حديثا مث يتلو‪ِ { :‬إَّن اَّلِذيَن َيْك ُتُم وَن َم ا‬
‫َٰلِئ‬ ‫ِك‬ ‫ِل‬ ‫ِم ِد‬ ‫ِت‬ ‫ِم‬
‫َأنَز ْلَنا َن اْلَبِّيَنا َو اُهْلَد ٰى ن َبْع َم ا َبَّيَّناُه لَّناِس يِف اْل َتاِب ۙ ُأو َك َيْلَعُنُه ُم الَّلُه‬
‫َو َيْلَعُنُه ُم الاَّل ِعُنوَن (‪.} )159‬‬
‫مث قال إن إخواننا من املهاجرين كانوا يشغلهم الصفق يف األسواق‪.‬‬
‫وإن إخواننا من األنصار كان يشغلهم العمل يف أمواهلم‪.‬‬
‫وإن أبا هريرة كان يلزم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بشبع بطنه وحيضر ما ال‬
‫حيضرون وحيفظ ما ال حيفظون‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولذلك لو نظرنا إىل بعض األمثلة لرأينا مثال حديث حكيم بن حزام رضي اهلل عنه‬
‫أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬البيعان باخليار مامل يتفرقا "‬
‫أو قال‪" :‬حىت يتفرقا "‬
‫" فإذا صدقا وبَّينا بورك هلما يف بيعهما وإن كتما وكذبا حمقت بركة بيعهما"‪.‬‬
‫هذا حديث متفق عليه رواه اإلمام البخاري وكذلك اإلمام مسلم رمحهما اهلل‪.‬‬
‫اإلمام مالك ترك العمل هبذا احلديث بدعوى أن هذا احلديث ليس عليه العمل عند‬
‫أهل املدينة‪.‬‬
‫وكذلك يرى أنه منسوخ حبديث‪:‬‬
‫"الصلح جائز بني املسلمني إال صلحا أحل حراما أو حرم حالال واملسلمون على‬
‫شروطهم"‪.‬‬
‫كذلك عمل أهل املدينة بتحرمي املصة واملصتني يف الرضاعة‪.‬‬
‫هذا خيالف يعين "مخس رضعات حُي رمن"‬
‫كذلك منها عمل أهل املدينة أن احلامل إذا رأت الدم أهنا ترتك الصالة‪.‬‬
‫وجاء فتوى عائشة رضي اهلل عنها بأن احل امل ال حتيض‪.‬‬
‫كذلك عمل أهل املدينة برتك اجلهر بالبسملة يف الصالة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وغريها من األدلة اليت مرت معنا‪.‬‬


‫فيكون خالصة القول يف عمل أهل املدينة أنه كما ذكرنا على درجات ومراتب‪.‬‬
‫فما كان يف القرون األوىل ومل خيالف نًص ا كما ذكر شيخنا حفظه اهلل تعاىل فهو‬
‫قرينة مرجحة‪.‬‬
‫وبذلك تنتهي احملاضرة السابعة عشر‪.‬‬
‫بقي لنا أن نكتب أسئلة الواجب‬
‫السؤال األول‪:‬‬
‫من هم اخللفاء الراشدون؟‬
‫السؤال الثاين‪ :‬هل إمجاعهم حجة شرعية؟‬
‫السؤال الثالث‪ :‬من هو الصحايب؟ و ماذا تعرف عن قوله هل حيتج به أم ال؟‬
‫السؤال الرابع ‪ :‬إمجاع أهل املدينة حجة عند من؟ وما دليله على ذلك؟‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬

‫الدرس الثامن عشر‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته احملاضرة الثامنة عشر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إن احلمد هلل تعاىل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال‬
‫إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪ ،‬أما بعد؛‬
‫أيها األحبة يف اهلل طلبة وطالبات كلية العلوم الشرعية‪.‬‬
‫مرحبا بكم يف هذا الدرس والذي سوف نتناول فيه باقي [األدلة االستئناسية]‪.‬‬
‫وكنا قد تكلمنا يف الدرس املاضي عن‪:‬‬
‫إمجاع اخللفاء الراشدين‬
‫وعن قول الصحايب‬
‫وعن قول إمجاع أهل املدينة‬
‫و اليوم إن شاء اهلل تعاىل سوف نتناول باقي هذه األدلة وهي‪:‬‬
‫االستصحاب‪.‬‬
‫والعرف‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫واملصاحل املرسلة‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الرابع‪ :‬على الفقيه أن يستصحب األصل في األحكام حتى َيثُبَت ناقٌل صحيٌح‬

‫معىن هذا الكالم‪ :‬أن الفقيه إذا ظهر له حكم فإنه يستصحب هذا احلكم‪ ،‬أو ينظر‬
‫إىل حاله‪.‬‬
‫ونعّر ف االستصحاب أوال ‪:‬‬
‫يف اللغة‪ :‬هو طلب املصاحبة واالستمرار أو طلب الصحبة‪.‬‬
‫واصطالحا‪ :‬هو احلكم بثبوت أمر يف الزمان الثاين بناء على أنه كان ثابتا يف الزمان‬
‫األول‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو الرجوع إىل األصل عند عدم الدليل الشرعي املثبت للحكم أو النايف له ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو جعل احلكم الذي كان ثابتا يف املاضي باقيا على حاله حىت يقوم دليل‬
‫على انتقاله‪.‬‬
‫يبقى هذه هي تعريفات االستصحاب‪.‬‬
‫ومعىن هذا‪ :‬إذا ثبت حكم بدليل معني يف وقت معني يبقى ذلك احلكم ثابتا حىت‬
‫َيِر د دليل يرفُعه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫‪24‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أن رجال توضأ وصلى العصر مث أراد أن يصلي املغرب هبذا الوضوء لكنه شك يف‬
‫احلدث‪.‬‬
‫هل أحدث أم ال؟‬
‫فنقول‪ :‬إذا اليقني واالستصحاب أنك كنت متوضًئا وشككت يف احلدث‪ ،‬فهنا‬
‫نقول االستصحاب أنك ما زلت على الوضوء حىت تتيقن أنك قد أحدثت‪.‬‬
‫فهذا هو املثال‪.‬‬
‫وعكس هذا رجل تيقن أنه أحدث‪.‬‬
‫مث شك هل توضأ أم ال؟‬
‫فنقول‪ :‬األصل أنك أحدثت فيستصحب هذا األصل حىت يأيت دليل أو تتذكر إن‬
‫كنت توضأت أو ال‪.‬‬
‫ومعىن هذا‪[[ :‬أن اجملتهد يستصحب احلكم األول وهو بقاء ما كان على ما‬
‫كان]]‪.‬‬
‫يستدل بذلك حبديث عباد بن متيم عن عمه أنه شكا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الرجل الذي خييل إليه أنه جيد الشيء يف الصالة‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال ينفتل أو ال ينصرف حىت يسمع صوتا أو جيد رحيا"‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫يبقى هنا هذا املصلي استصحب احلكم األول أنه متوضٌئ حىت يتيقن أنه قد‬
‫أحدث‪ ،‬وليس املراد هو مساع الصوت أو وجود الريح‪.‬‬
‫لكن املقصود أنه قد تيقن احلدث‪.‬‬
‫واالستصحاب أنواع‪:‬‬
‫أوهلا‪[ :‬الرباءة األصلية]‪.‬‬
‫أي‪ :‬براءة ذمة اإلنسان من التكاليف الشرعية واحلقوق املالية حىت يقوم دليل على‬
‫شغلها‪ .‬وهذا هو احلكم الثابت‪.‬‬
‫لو قلنا مثال‪ :‬هل هناك صالة سادسة؟‬
‫نقول‪ :‬احلكم الثابت بعدم وجود صالة سادسة‪.‬‬
‫طيب لو قال قائل‪ :‬جيب صوم شهر شعبان‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ال جيب‪.‬‬
‫فإذا قال‪ :‬وبأي دليل تنفون الوجوب؟‬
‫نقول‪ :‬باالستصحاب‪.‬‬
‫أي [الرباءة األصلية]‪ ،‬أن اهلل عز وجل فرض صيام رمضان‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا هو احلكم الثابت‪ ،‬فيبقى الفرض هو رمضان حىت يقوم الدليل على وجوب‬
‫غريه‪.‬‬
‫وكذا يف املعامالت األصل براءة الذمة‪.‬‬
‫فال نقول فالن هذا عليه دين كذا وكذا حىت يأيت دليل حنكم به أنه عليه دين‪.‬‬
‫ثانيا‪[ :‬استصحاب احلكم الذي دل الدليل على ثبوته ومل يقم دليل على تغيريه]‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬رجل تقدم خلطبة امرأة وَعقد عليها ودخل هبا‪.‬‬
‫فنقول هنا احلكم بثبوت الزوجية بناء على عقد النكاح الصحيح من غري أن يطالب‬
‫الزوج بدليل على بقاء العقد‪.‬‬
‫قال رجل‪ :‬هذه زوجيت‪.‬‬
‫منذ مىت تزوجتها؟‬
‫يقول‪ :‬منذ عشرين سنة‪.‬‬
‫ما الدليل على أهنا ما زالت زوجتك؟‬
‫نقول‪[ :‬األصل استصحاب احلكم الثابت بعقد الزوجية]‪.‬‬
‫فإذا أرادت املرأة أن تنفي هذا‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬ال ليس بزوجي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فنقول‪ :‬هذا ادعاء من املرأة فتحتاج عليه إىل دليل‪ ،‬وإال فاألصل بقاء الزوجية‪.‬‬
‫فإن جاءت بوثيقة طالق أو بشهود يشهدون أنه طلقها ومل يردها أو أي بينة‪ ،‬وإال‬
‫فاألصل بقاء الزوجية‪.‬‬
‫ثالثا‪[ :‬استصحاب الدليل مع احتمال ا عارض]‪.‬‬
‫ُمل‬
‫فإذا جاء فإننا نعمل به وال نرتكه حىت يأيت دليل ينقل احلكم إىل غريه‪.‬‬
‫وبعض العلماء مينع تسمية هذا النوع استصحاًبا‪ ،‬ألن العمل هنا ليس‬
‫باالستصحاب إمنا بالنص وبالدليل‪.‬‬
‫رابعا‪[:‬استصحاب احلكم الثابت باإلمجاع يف حمل اخلالف]‪.‬‬
‫فلو وقع خالف وجاء إمجاع‪ ،‬فهذا ُيستصحب‪.‬‬
‫فمثال صحة الصالة بالتيمم قبل رؤية املاء متفق عليه‪.‬‬
‫يبقى رجل دخل وقت الصالة ومل جيد ماًء فتيمم مث صلى‪ ،‬مث جاء املاء بعدما فرغ‬
‫من الصالة‪.‬‬
‫الصالة حكمها صحيحة ودليل ذلك اإلمجاع‪.‬‬
‫أما إذا رأى املاء يف أثناء الصالة أو قبل الفراغ منها‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬هذه مسألة خمتلف فيها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذن االستصحاب هو‪:‬‬


‫[أن تستصحب احلكم األول يف املسألة حىت يأيت دليل ينقله عنها]‬
‫حجية العمل باالستصحاب‬
‫نقول كما قال شيخنا‪ :‬إنه ليس دلياًل بذاته إمنا يستصحب ويستأنس به على‬
‫احلكم‪.‬‬
‫وإن كان كثري من العلماء جعله دلياًل ‪.‬‬
‫كما يف قول ابن عباس رضي اهلل عنه‪" :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قضى أن‬
‫اليمني على املدعى عليه"‪.‬‬
‫[فجعل األصل براءة الذمة وال يثبت شغلها إال بالبينة الصحيحة]‪.‬‬
‫وكذلك العمل باالستصحاب عمل بالظاهر‪.‬‬
‫والعمل بالظاهر حىت يثبت خالفه مما اتفق عليه الصحابة والتابعون واألئمة بعده‪.‬‬
‫ولذلك قّعد العلماء قواعد مبنية على االستصحاب‪:‬‬

‫القاعدة األوىل يف العبادات وهي‪ [ :‬اليقين ال يزول بالشك ]‬


‫رجل ُخ َّيل إليه يف الصالة أنه جيد الشيء‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال ينصرف‬
‫حىت يسمع صوتا أو جيد رحيا"‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫القاعدة الثانية‪ [:‬األصل بقاء ما كان على ما كان ]‬


‫أي إذا ثبت للشيء صفة معينة فاألصل بقاؤها حىت يرد ما يدل على تغريها‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬رجل ورث أرضا من أبيه وهي حتت يده فال يأيت آخر يقول‪" :‬هذه أرضي"‬
‫إال ببينة‪.‬‬
‫فال يطالب من حتت يده األرض بالبينة‪ ،‬إمنا يطاَلُب هبا ا ّد ِعي‪.‬‬
‫ُمل‬
‫وإال فاألصل بقاء ما كان على ما كان‪.‬‬
‫كما يف حديث احلضرمي والكندي‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة‪ [:‬األصل براءة الذمة] وهذه تكلمنا فيها‪.‬‬

‫القاعدة الرابعة‪ [:‬األصل في الصفات العارضة العدم]‬


‫فالصفات اليت تعرض لألشياء وليس الثابتة هلا يف األصل ال حيكم بوجودها إال‬
‫بدليل‪.‬‬
‫فمن اشرتى سلعة وقبضها مث ادعى بعد زمن أهنا كانت معيبة فال يقبل قوله إال‬
‫ببينة تشهد لذلك‪ .‬ألن العيب من الصفات العارضة واألصل عدمها‪.‬‬
‫كذلك من القواعد‪:‬‬

‫القاعدة اخلامسة ‪ [:‬األصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته ]‬

‫‪30‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫رجل صلى العشاء‪ ،‬مث بعد الصالة وجد يف سرواله منّيا‪.‬‬


‫هذا املين نتيجة احتالم‪.‬‬
‫فنقول حيكم أنه من آخر نومة نامها‪.‬‬
‫فإن كان مل ينم من ليلة أمس نأمره باالغتسال وإعادة الصلوات اخلمس‪.‬‬
‫وإن كان نام بعد املغرب نأمره أن يغتسل ويعيد صالة العشاء فقط‪.‬‬
‫هذا بالنسبة للحكم األول وهو [االستصحاب]‪.‬‬
‫ثانيا‪ [ :‬العرف والعادة ]‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الخامس‪ :‬المعروف عرفا كالمشروط شرطا ما لم يخالف نصا‬

‫هذا ضابط جامع مانع‪.‬‬


‫العرف‪ :‬هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول‪ ،‬وتلقته الطبائع بالقبول‪.‬‬
‫وهو حجة‪.‬‬
‫وكذا العادة‪ :‬وهي ما استمر الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرة بعد‬
‫أخرى‪.‬‬
‫يقول العلماء‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫العرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك‪ ،‬ويسمى‪( :‬العادة)‬
‫ويف لسان الشرعيني‪ :‬ال فرق بني العرف والعادة‪.‬‬
‫فالعرف العملي‪:‬‬
‫مثل تعارف الناس على البيع باملعاطاة من غري صيغة لفظية‪.‬‬
‫والعرف القويل‪:‬‬
‫مثل تعارف الناس على إطالق الولد على الذكر دون األنثى‪.‬‬
‫وكتعارفهم على أال يطلقوا على السمك لفظ اللحم‪.‬‬
‫فهذه أعراف مع أن اللغة حتتملها‪.‬‬
‫والعرف من حيث مصدره قسمان‪:‬‬
‫العرف العام وهو‪ :‬ما تعارف عليه أكثر الناس يف مجيع البلدان‪.‬‬
‫مثل‪ :‬إطالق لفظ الدابة على الفرس‪ ،‬عند أهل العراق‪ ،‬بينما خيتلف ذلك يف مصر‪.‬‬
‫كذلك العرف الشرعي هذا القسم الثاين‪ :‬وهو اللفظ الذي استعمله الشرع مريًد ا‬
‫به معىًن خاًص ا‪.‬‬
‫مثل‪ :‬لفظة الصالة فإهنا يف األصل الدعاء‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولكن الشرع أراد هبا الصالة املخصوصة اليت هي أقوال وأفعال خمصوصة مفتتحة‬
‫بالتكبري خمتتمة بالتسليم‪.‬‬
‫يعين لو أن رجال قال البنه‪ :‬هل صليت يا بين؟‬
‫فماذا يقصد الرجل بكلمة هل صليت؟‬
‫يقصد الصلوات اخلمس‪ [ :‬الفجر والظهر والعصر واملغرب والعشاء ]‬
‫وال يقصد هل دعوت‪ .‬فهذا هو املعىن املقصود‪.‬‬
‫وكذلك العرف من حيث سببه ومتعلقه قسمان‪:‬‬
‫‪-1‬عرف قويل ولفظي‪.‬‬
‫‪-2‬وعرف فعلي‪.‬‬
‫فكما قلنا إن العرف اللفظي‪:‬‬
‫هو ما يتعارف عليه أكثر الناس على إطالق لفظ على معىن ليس موصوفا به‪ ،‬حبيث‬
‫يتبادر إىل ذهن عند مساعه بدون قرينة وال عالقة عقلية‪.‬‬
‫كما ذكرنا الدابة أو لفظ الغائط‪.‬‬
‫والعرف الفعلي هو ما كان موضوعا يف بعض األعمال ويف اعتماد الناس يف أفعاهلم‬
‫عليها‪ ،‬كالِبيع ا عاطاة‪.‬‬
‫ُمل‬
‫‪33‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫رجل يذهب إىل البائع فُيعطيه مبلغا مث يأخذ سلًعا قد علم مثنها‪ ،‬فال يتكلم املشرتي‬
‫وال يتكلم البائع‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬هل العرف حجة ما تعارف عليه الناس؟ وخصوصا يف املعامالت أو يف‬
‫أحكام األسرة أو يف غري ذلك؟‬
‫العلماء قالوا‪:‬‬
‫العرف حجة ودليل شرعي تثبت به األحكام الشرعية بشروط‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬أن يكون العرف عاما أو غالبا‪.‬‬
‫أي يعمل به غالب الناس‪ ،‬ال يكون عرًفا خاًص ا بقرية أو بقبيلة أو بفئة من الناس‪،‬‬
‫بل يكون عرًفا عاًم ا على القطر‪.‬‬
‫ومن ذلك أعراف الزواج‪.‬‬
‫يف بعض البلدان يتعارف الناس أن املهر كله على الزوج‪.‬‬
‫ويف بعض البلدان يتعارف بينهم أن ويل الزوجة هو الذي يقدم مهًر ا للزوج‪.‬‬
‫ويف بعض البلدان يكون األمر بينهما فَيشرتك الرجل واملرأة يف تأسيس بيت‬
‫الزوجية‪.‬‬
‫هذه أعراف‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وإذا تعارف أهل بلد على عرف من هذا وكان عاما فال حرج يف العمل به‪.‬‬

‫الشرط الثاين‪ :‬أن يكون العرف مطردا أو أكثرية‪.‬‬


‫مبعىن أن يعمل به غالب الناس ال يعمل به شخص أو شخصان أو عدة أشخاص‪،‬‬
‫بل يعمل به أكثر الناس‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون العرف موجودا عند إنشاء التصرف‪.‬‬
‫ألنه كانت هناك أعراف قدمية اندثرت‪ ،‬فعندما ننشئ تصرًفا ال نقول نعمل بالعرف‬
‫القدمي الذي كان يتعارف عليه الناس قبل عشرين سنة‪.‬‬
‫أي جيب أن يكون العرف موجوًد ا اآلن بني الناس‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬أن يكون العرف ُمِلزما‪ ،‬أن يتحتم العمل مبقتضاه يف نظر الناس‪.‬‬
‫يعين الرجل يؤسس بيت الزوجية واملرأة تشرتك معه ببعض األشياء‪.‬‬
‫فنقول هذا العرف ملزم‪.‬‬
‫حينما يتزوج الرجل بال شروط وال اتفاق‪.‬‬
‫فعند البناء إذا مل تأِت املرأة بشيء نقول‪ :‬ال يلزمك على أعراف الناس أن تأيت‬
‫بكذا وكذا وكذا‪.‬‬
‫أما إذا اشرتطوا فالشرط قاسٌم لذلك وناٍه للخالف‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الشرط اخلامس‪ :‬أن يكون العرف غَري خمالٍف لدليل معتمد‪.‬‬


‫يعين ال خيالف نًص ا شرعًيا‪.‬‬
‫مثال‪ :‬لو تعارف الناس أهنم ُيقرضون بالربا‪.‬‬
‫اشتهرت هذه البلدة بأن الرجل إذا أراد مبلغا من املال أخذه مث رده بزيادة كذا‪،‬‬
‫وتعارف الناس عليه‪.‬‬
‫هل نقول إن هذا عرف ينبغي العمل به؟‬
‫اجلواب‪ :‬ال‪.‬‬
‫ألن هذا العرف خالف نصا شرعًيا وهو‪:‬‬
‫(( حترمي الربا ))‬
‫لو تعارف الناس كما يف بعض قرى الفالحني االختالط بني الرجال والنساء يف‬
‫األسرة الواحدة‪.‬‬
‫الرجل جيلس مع زوجة أخيه ومع زوجة ابن عمه‪ ،‬واملرأة جتلس مع خال زوجها‬
‫ومع عم زوجها وجتلس مع الرجال األجانب وجيتمعون على الطعام ويتصافحون‬
‫ويتسامرون وقد خيلو الرجل باملرأة‪.‬‬
‫ويقولون هذه عادات وأعراف وقد تربينا عليها‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫نقول هذه عادات وأعراف خمالفة للشرع‪.‬‬


‫فال جتوز املصافحة‪.‬‬
‫وال جيوز اختالط الرجال بالنساء‪.‬‬
‫وال جيوز أن خيلو الرجل بامرأة أجنبية‪.‬‬
‫وهكذا ‪....‬‬
‫إذا توافرت هذه الشروط صح العمل بالعرف وصار حجة وينبين عليه أحكام‪.‬‬
‫الثالث‪ [:‬املصاحل املرسلة ]‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط السادس‪ :‬يشرع العمل بالمصالح المرسلة ما لم تخالف نصا‬

‫أوال‪ :‬شرعت املصلحة املرسلة حلفظ الكليات اخلمس‪.‬‬


‫واملصلحة‪ :‬هي كل منفعة داخلة يف مقاصد الشرع اخلمس‪ ،‬اليت هي الكليات‬
‫اخلمس‪:‬‬
‫‪-1‬حفظ الدين‪.‬‬
‫‪-2‬وحفظ النفس‪.‬‬
‫‪-3‬وحفظ العقل‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪-4‬وحفظ املال‪.‬‬
‫‪-5‬وحفظ العرض‪.‬‬
‫هذه يسميها العلماء‪ (( :‬الكليات اخلمس ))‬
‫فإذا شرعت مصلحة من أجل حفظ واحدة من هذه صارت معتربة‪.‬‬
‫كمصلحة توثيق الزواج اآلن‪.‬‬
‫فهذا من أجل احملافظة على النسل‪.‬‬
‫فنقول جيب توثيق الزواج عند القاضي أو عند املأذون (أي وكيله) من أجل حفظ‬
‫احلقوق‪ ،‬ألن هذه صارت مصلحة‪.‬‬
‫واملصلحة باعتبار أمهيتها تنقسم إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫‪-1‬الضروريات‪.‬‬
‫‪-2‬واحلاجيات‪.‬‬
‫‪-3‬والتحسينات‪.‬‬
‫طيب؛ ما هي الضرورة؟‬
‫الضرورة‪:‬‬
‫هي اليت ال بد منها حلياة اإلنسان‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫رجل يعيش أو نزل بالصحراء ومل جيد إال امليتة ليأكلها أو اخلمر ليشرهبا وإال هلك‪.‬‬
‫نقول هذه ضرورة‪.‬‬
‫فمثال‪ [ :‬الكسوة‪ ،‬املسكن‪ ،‬املطعم‪ ،‬واملشرب ]‬
‫هذه ضروريات ال بد للحياة منها‪.‬‬
‫وهذه اليت يسميها العلماء أن املصاحل يف الدين والدنيا ال تقوم إال هبا‪.‬‬
‫احلاجيات‪:‬‬
‫وهي املصاحل واألعمال والتصرفات اليت ال تتوقف عليها احلياة واستمرارها‪.‬‬
‫لكن ال بد منها ومن باب رفع الضيق واحلرج واملشقة‪.‬‬
‫ولذلك يف الضرورة أباح الشرع ‪:‬‬
‫قتل الكافر ا ِض ل‪.‬‬
‫ُمل‬
‫وقتل مرتد الداعي إىل ردته‪.‬‬
‫وُش ِرع اجلهاد حلفظ النفس‪.‬‬
‫وشرعت عقوبة القصاص كذلك هلا‪.‬‬
‫وُعقوبة الدية‪.‬‬
‫ووجوب األكل والشرب عند الضرورة‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كل ذلك حلفظ النفس‪.‬‬


‫وُش رع عقوبة اخلمر حلفظ العقل‪.‬‬
‫وعقوبة الزنا حلفظ النسل‪.‬‬
‫وعقوبة قطع يد السارق حلفظ املال‪ ،‬نعم نقطع يد السارق من أجل أن حنافظ على‬
‫املال‪.‬‬
‫أما احلاجيات‪ :‬فتنتقل من الضرورة إىل التوسعة‪.‬‬
‫َك تسليط الشرع لألب أن يقوم بتزويج ابنته الصغرية من الكفؤ الذي يناسبها‪.‬‬
‫ألن يف تركها ضرر عليها‪.‬‬
‫كذلك حتتاج املصاحل إىل الكفؤ [ كالوكالة‪ ،‬والوالية‪ ،‬والنظارة‪ ،‬والوصاية ] هذه‬
‫حاجيات‪.‬‬
‫فلو أردنا أن نكيف ذلك يف رجل يريد أن يسكن يف بيت‪.‬‬
‫فوجود البيت ضرورة‪.‬‬
‫وجود الطعام والشراب ضرورة‪.‬‬
‫وجود امللبس الذي يسرت به العورة ضرورة ويقيه الربد واحلر‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث إذا انتقلنا إىل وجود الكهرباء مثال ضرورة ال ميكن أن يستغىن عنها اآلن لكن‬
‫كان يستغىن عنها قدميا‪.‬‬
‫أما احلاجات‪:‬‬
‫وجود الُف رش حاجة‪.‬‬
‫وجود األشياء اليت يتنعم هبا كالثالجة والغسالة وغريها ‪ ..‬هذه من احلاجات اليت‬
‫صارت من لوازم احلياة اآلن وليست ضرورة ال ُيستغىن عنها‪.‬‬
‫أما التحسينات‪:‬‬
‫فهي املصاحل واألعمال اليت ال تتوقف احلياة عليها وال تفسد وال ختتل‪.‬‬
‫بل هي من األشياء املكملة من قبيل التزين والتجمل‪.‬‬
‫يعين رعاية أحسن طرق للحياة‪ ،‬اليت هي األشياء الرتفيهية‪.‬‬
‫كأن يقوم بشراء تكييف للبيت يقيه احلر والربد‪.‬‬
‫تركيب املراوح يف السقف‪.‬‬
‫كل هذا مما ليس من الضرورة وال احلاجة أي ُيستغىن عنها‪.‬‬
‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم ملا قال‪:‬‬
‫"الناس شركاء يف ثالثة‪( :‬هذه مصلحة عامة) يف املاء والكأل والنار"‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومن املصلحة اخلاصة‪( :‬الويل يف النكاح)‬


‫صيانة للمرأة عن أن تعقد أو تباشر عقد النكاح بنفسها‪.‬‬
‫واملصاحل املرسلة تنقسم إىل عدة أقسام‪:‬‬
‫‪ -1‬مصلحة معتربة ‪:‬‬
‫وهي املصاحل اليت اعتربها الشرع وأثبتها‪.‬‬
‫‪ -2‬ومصاحل ألغاها‪:‬‬
‫وهي املصاحل اليت خالفت النصوص‪ ،‬وحكم بإلغائها‪ ،‬كنكاح الِش غار‪ ،‬واحمللل‬
‫ملصلحة‪.‬‬
‫(أن الرجل إذا طلق املرأة ثالث مث أراد أن حيلها تزوجت بآخر مث يطلقها مث ترجع‬
‫لألول)‪ .‬هذه مصلحة‪ .‬لكن الشرع ألغى هذه املصلحة‪.‬‬
‫وقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لعن اهلل احملِلل واحملَلل له"‪.‬‬
‫مث بقيت املصاحل املرسلة وهي اليت نعنيها هنا‪[ ،‬أي املطلقة]‪.‬‬
‫وهي كل منفعة داخلة يف مقاصد الشرع‪.‬‬
‫كما قلنا‪ :‬توثيق الزواج‪.‬‬
‫كما قلنا‪ :‬بطاقات اهلوية‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كما قلنا‪ :‬وثيقة السفر‪.‬‬


‫هذه كلها مصاحل مرسلة‪.‬‬
‫كما نقول يف قوانني املرور واإلشارات واالجتاهات‪ ،‬فهذا من املصاحل املرسلة‪.‬‬
‫كتضمني الصناع‪ ،‬كما ضمن اخللفاء الصناع‪.‬‬
‫وكما اشرتى عمر دارا وجعلها سجنا‪ ،‬وغري ذلك من اجتهادات العلماء‪.‬‬
‫كجمع القرآن أيضا‪.‬‬
‫كإنشاء الدواوين للجنود‪.‬‬
‫وكإجراء الرواتب هلم‪.‬‬
‫كل ذلك من املصاحل املرسلة اليت أثبتها الشرع‪.‬‬
‫وحجية املصلحة املرسلة هي‪:‬‬
‫مصلحة تعارف عليها الشرع ووضع هلا شروًطا‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬أن يغلب على الظن وجود املصلحة‪ ،‬فال تكون متومهة أو مشكوك‬
‫فيها‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬أن تكون املصلحة يف الكليات اخلمس‪[ :‬الدين‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنفس‪،‬‬
‫واملال‪ ،‬والعرض]‬

‫‪43‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الشرط الثالث‪ :‬أن تتفق مع أصول وقواعد الشريعة وال تصادم الدليل‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬أال تكون يف العبادات واملقدرات كاملواريث وأنصبة الزكاة‪.‬‬
‫الشرط اخلامس‪ :‬أن تكون مصلحة عامة ال خاصة‪ ،‬وال تعارضها مصلحة أرجح‬
‫منها‪.‬‬
‫فهذه الشروط اخلمس اليت إذا توافرت جاز العمل هبا‪.‬‬
‫ومن هنا نشري إىل مسألة وهي‪:‬‬
‫(( مسألة سد الذرائع ))‬
‫والذرائع‪ :‬مجع ذريعة وهي الوسيلة‬
‫املؤدية إىل الشيء‪.‬‬
‫واصطالحا‪ :‬الوسيلة املوصلة للممنوع املشتمل على مفاسد‪ ،‬أو للمشروع املتمثل‬
‫يف مصلحة‪ ،‬وحبسب ما يكون‪.‬‬
‫ذريعة مشروعة وهي املوصلة إىل مشروع‪:‬‬
‫مثل‪ :‬السعي إىل اجلمعة‪.‬‬
‫فهذه ذريعة توصل إىل شهود اجلمعة وهذا مشروع‪.‬‬
‫ولذلك يقال‪ :‬األمر بالسعي إليها باب من أبواب الذرائع‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وهناك ذريعة ممنوعة وهي املوصلة إىل املمنوع‪.‬‬


‫كاخللوة باملرأة األجنبية‪.‬‬
‫فهي ذريعة توصل إىل الزنا‪ .‬ومُي نع اخللوة باألجنبية سدا للذريعة‪.‬‬
‫وكذلك الذريعة حبسب ورود النص وعدمه‪.‬‬
‫فذريعة مشروعة وهي املوصلة إىل مشروع‪.‬‬
‫وذريعة ممنوعة وهي املؤدية إىل املمنوع‪.‬‬
‫والكالم يف ذلك يأيت‪.‬‬
‫وهبذا نكون قد انتهينا من باب األدلة االستئناسية‪.‬‬
‫ويبقى لنا عدة أسئلة‪.‬‬

‫السؤال األول‪:‬‬
‫عرف العرف والعادة‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪ :‬ما هي الشروط اليت يشرتطها العلماء للعمل بالعرف والعادة؟‬

‫السؤال الثالث‪ :‬ما هي أقسام املصاحل؟ ومىت ُيعمل باملصلحة املرسلة؟‬


‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب اليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس التاسع عشر‬

‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‬


‫احملاضرة‪ :‬التاسعة عشر‪.‬‬

‫الباب التاسع‬
‫[قواعد فهم النصوص الشرعية]‬
‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪،‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‬
‫وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك‬
‫محيد جميد‪،‬‬
‫أما بعد؛‬
‫مرحبا بكم طلبة وطالبات كلية العلوم الشرعية يف شرح مادة األصول‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذه هي احملاضرة التاسعة عشر‪.‬‬


‫ونبدأ يف قواعد فهم النصوص الشرعية‪.‬‬
‫فتلخيص ما سبق‪:‬‬
‫أننا بدأنا بتعريف أصول الفقه‪.‬‬
‫مث تكلمنا عن األحكام الشرعية‪.‬‬
‫واألحكام التكليفية‪.‬‬
‫واألحكام الوضعية‪.‬‬
‫واألدلة الشرعية‪.‬‬
‫واألدلة االستئناسية‪.‬‬
‫فانتهينا من التعريفات‪.‬‬
‫واليوم نبدأ يف فهم قواعد النصوص‪.‬‬
‫أي كيفية االستدالل على احلكم من الدليل‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الباب التاسع‪ :‬قواعد فهم النصوص الشرعية‬
‫وفيه اثنا عشر ضابطا‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الضابط األول‪:‬‬
‫المجمل‪ :‬ما احتمل أكثر من معنى دون رجحان‪.‬‬
‫والمبين‪ :‬ما دل على المعنى المراد‪.‬‬
‫الضابط الثاني‪:‬‬
‫العام هو‪ :‬اللفظ المستغرق لكل ما يصلح له دفعة واحدة‪.‬‬
‫والخاص‪ :‬قصر حكم العام على بعض أفراده‪.‬‬
‫ويحمل العام على الخاص‪.‬‬
‫الضابط الثالث‪ :‬ترك االستفسار في مقام االحتمال ينزل منزلة العموم في المقال‪.‬‬

‫هذه الضوابط الثالثة هي ملخص حماضرة اليوم‪.‬‬


‫فأقول مستعينا باهلل عز وجل‪:‬‬
‫الضابط األول‪:‬‬

‫المجمل‬
‫وتعريف اجململ يف اللغة هو‪:‬‬
‫املبهم واجملموع من أمجل األمر إذا أهبم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو اجملموع من أمجل احلساب إذا مجع وجعل مجلة واحدة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو املتحصل من أمجل الشيء إذا حصله‪.‬‬
‫اجململ يف االصطالح هو كما قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬

‫‪48‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ما احتمل أكثر من معىن دون رجحان‪.‬‬


‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫لفظة (العني)‪،‬‬
‫ولفظة (القرء)‪،‬‬
‫ولفظة (الشفق)‬
‫ولفظة (عسعس)‬
‫هذه ألفاظ جاءت يف الشرع هلا أكثر من معىن‪ .‬فهل حنملها على معىن معني؟‬
‫هذا معىن عام‪.‬‬
‫(العني)‬
‫تأيت مبعىن‪ :‬الذهب‪.‬‬
‫وتأيت مبعىن‪ :‬العني الباصرة‪.‬‬
‫وتأيت مبعىن‪ :‬البئر‪.‬‬
‫وتايت مبعىن‪ :‬اجلاسوس‪.‬‬
‫كذلك (القرء)‬
‫تأيت مبعىن‪ :‬احليض‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وتأيت مبعىن‪ :‬الطهر‪.‬‬


‫فإذا جاءت اللفظة ( هذه جمملة )‬
‫(عسعس)‬
‫تأيت مبعىن‪ :‬أقبل و أدبر‪.‬‬
‫فهنا اهلل عز وجل يقول‪:‬‬
‫{ واملطلقات يرتبصن بأنفسهن ثالثة قروء }‬
‫القرء‪ :‬لفظ مشرتك بني احليض وبني الطهر‪.‬‬
‫فهذا عام حيتاج إىل دليل يعينه‪.‬‬
‫فجاءت السنة فبينت أن املقصود بالقرء هو‪ ( :‬احليض )‬
‫أي املرأة املطلقة إذا كانت من ذوات القروء‪ ،‬أي ممن حتيض فعدهتا ثالث‬
‫حيضات‪.‬‬
‫واستدلوا لذلك بقول النيب صلى اهلل عليه وسلم للمرأة املستحاضة تدع الصالة أيام‬
‫أقرائها اليت كانت حتيض‪.‬‬
‫أي األيام كانت تأتيها فيها احليض‪.‬‬
‫ومثال ما حيتاج إىل غريه يف بيان صفته‪( :‬العبادات)‬

‫‪50‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫اهلل عز وجل قال‪ { :‬وأقيموا الصالة } هذا جممل‪.‬‬


‫ما كنا ندري ما هي الصلوات و كيف نصلي‪ .‬فجاءت السنة فبينت أن الصلوات‬
‫اخلمس‪:‬‬
‫الظهر أربع ركعات‪.‬‬
‫والعصر أربع ركعات‪.‬‬
‫واملغرب ثالث ركعات‪.‬‬
‫العشاء أربع ركعات‪.‬‬
‫والفجر ركعتني‪.‬‬
‫فهذا مما بينه النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫مثاله قوله تعاىل‪ { :‬وءاتوا الزكاة }‬
‫هذا عام‪ .‬فجاءت السنة فبينة املقدار الواجب‪ ،‬واملقادير اليت خترج من األصناف‬
‫[ كالعشر‪ ،‬ونصف العشر‪ ،‬واخلمس ] وغري ذلك‪.‬‬
‫هذا بالنسبة للمجمل‪.‬‬
‫أما املبني فهو‪:‬‬
‫املظهر واملوضح‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫واصطالحا‪:‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪ :‬ما دل على املعىن املراد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو ما استقل بنفسه يف الكشف عن املراد و مل يفتقر إىل معرفة املراد إىل‬
‫غريه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫األلفاظ املوضوعة لألشياء‪.‬‬
‫كالسماء‪ ،‬واألرض‪ ،‬واجلبل‪ ،‬وكلفظ (العدل) أي صفة العدل‪ ،‬وصفة الظلم‪،‬‬
‫والصدق‪ ،‬والكذب‪.‬‬
‫فهذه الكلمات موضوعة بأصل الوضع وال حتتاج إىل غريها‪.‬‬
‫ومثاله‪ :‬العبادات بعدما بينها لنا النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل‪ { :‬وأقيموا الصالة وآتوا الزكاة }‬
‫ال يقول قائل اآلن‪ :‬أن الصالة جمملة‪ ،‬أو أن الزكاة جمملة‪.‬‬
‫بل هي مبينة بعدما بينها النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ولذلك العمل يف األصل باجململ وكذلك املبني‪ .‬فإذا جاء نص جممل ونص مبني‪.‬‬
‫قال شيخنا‪ [ :‬وحيمل اجململ على املبني ]‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فقوله‪ :‬حيمل اجململ على املبني‪.‬‬


‫وذلك إذا تعذر العمل باجململ بدون تبيني‪.‬‬
‫(كالصالة) يف بداية األمر‪.‬‬
‫وكذلك الذكاة‪،‬‬
‫وكذلك صفة احلج‪،‬‬
‫قبل أن يبينها النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫قد خيفى على البعض بعض األشياء ألسباب‪:‬‬
‫كنقص العلم‪.‬‬
‫أو كقصور الفهم‪.‬‬
‫أو كالتقصري يف طلب العلم‪.‬‬
‫أو كسوء القصد‪.‬‬
‫والعلماء قالوا‪:‬‬
‫جيب على املكلف عقد العزم على العمل باجململ مىت حصل بيانه‪.‬‬
‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم بني ألمته باألقوال وباألفعال وهبما معا بيان اجململ‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فمما بينه بالقول‪:‬‬


‫إخباره عن أنصبه الزكاة ومقاديرها‪.‬‬
‫كما قال صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬يف الركاز اخلمس "‪.‬‬
‫وكما قال‪ " :‬فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقى النضح‬
‫نصف العشر "‪.‬‬
‫ومثال بيانه بالفعل‪:‬‬
‫قيامه بأفعال املناسك أمام األمة يف‪:‬‬
‫املبيت مبىن‪.‬‬
‫والوقوف بعرفة‪.‬‬
‫ورمي اجلمار‪.‬‬
‫واحللق‪.‬‬
‫والتقصري‪.‬‬
‫والطواف‪.‬‬
‫والسعي‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا بيان جممل قول اهلل عز وجل‪ { :‬وهلل على الناس حج البيت من استطاع إليه‬
‫سبيال }‬
‫فحج النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وجعل يظهر للناس على راحلته ويقول‪:‬‬
‫"خذوا مناسككم‪ ،‬أين ال أدري لعلي ال أحج بعد حجيت هذه"‪.‬‬
‫ومثال ما بينه بالقول والفعل معا‪ ( :‬الصالة)‬
‫يف قوله تعاىل‪ { :‬وأقيموا الصالة }‬
‫جعل يقرأ (قول) ويركع (فعل) ويسجد مث يقول‪ " :‬صلوا كما رأيتموين أصلي "‪.‬‬
‫بل قد يكون البيان بالرتك‪.‬‬
‫كما يف حديث جابر‪.‬‬
‫كان آخر األمرين من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ترك الوضوء مما مست به‬
‫النار‪.‬‬
‫إذن هذه هي املسألة األوىل والضابط األول‪:‬‬
‫اجململ‪ :‬ما احتمل أكثر من معىن دون رجحان‪ ،‬واملبني‪ :‬ما دل على املعىن املراد‪.‬‬
‫وحيمل اجململ على املبني‬
‫كما قلنا اآلن‪:‬‬

‫‪55‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫يأتينا قوله تعاىل‪ { :‬وأقيموا الصالة } هذا جممل يف أصله‪.‬‬


‫لكن مبني يف صفته‪.‬‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم بني لنا إقامة وصفة الصالة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثاين‪:‬‬
‫العام‪ :‬هو اللفظ املستغرق لكل ما يصلح له دفعة واحدة‪.‬‬
‫واخلاص‪ :‬قصر حكم العام على بعض أفراده‪.‬‬
‫وحيمل العام على اخلاص‬
‫فقوله‪ :‬العام هو اللفظ املستغرق لكل ما يصلح له دفعة واحدة‪.‬‬
‫فالعام يف اللغة مبعىن‪ :‬الشامل‪.‬‬
‫والعموم مبعىن‪ :‬الشمول‪.‬‬
‫ومنه قوله‪ :‬عمهم اخلري‪ ،‬أي إذا مشلهم وأحاط هبم‪.‬‬
‫والعام يف االصطالح كما قال شيخنا‪:‬‬
‫هو اللفظ املستغرق جلميع ما يصلح له دفعة واحدة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو اللفظ الشامل ألجناس أو أنواع أو أفراد كثرية‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقيل‪ :‬اللفظ املستغرق جلميع أفراده بال حصر‪.‬‬


‫وهذه كلها معان واحدة‪.‬‬
‫هذا معىن العام‪.‬‬
‫وأما اخلاص‪،‬‬
‫فاخلاص يف اللغة‪ :‬اإلفراد‪ .‬وهو ضد العام‪.‬‬
‫مأخوذ من قوهلم‪ :‬اختص فالن بكذا‪ .‬أي انفرد به‪ .‬فالن خاص بفالن أي منفرد‬
‫به‪.‬‬
‫واخلاص يف االصطالح‪:‬‬
‫اللفظ الدال على مسمى واحد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬قصر حكم العام على بعض أفراده‪.‬‬
‫ال بد قبل أن نتكلم عن العام وعن اخلاص أن نعرف [[ ألفاظ و صيغ العموم ]]‪.‬‬
‫فيدل على العموم عدة ألفاظ‪:‬‬
‫قال العلماء‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما دل على العموم مبادته‪.‬‬
‫ألفاظ وضعت يف اللغة تدل على العموم‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كلفظ‪[ :‬كل‪ ،‬ومجيع‪ ،‬وكافة‪ ،‬وعامة‪ ،‬وأي‪ ،‬وسائر]‬


‫فمن األول لفظ‪( :‬كل)‬
‫قوله تعاىل‪ { :‬إنا كل شيء خلقناه يقدر }‬
‫وقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬كل أميت معاىف إال اجملاهرين "‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬كل أميت يدخلون اجلنة إال من أىب "‬
‫فلفظ‪( :‬كل) تعم وتشمل مجيع الناس‪:‬‬
‫[الرجال والنساء الكبار والصغار الفقراء واألغنياء العبيد واألحرار] ‪( ....‬كل)‬
‫الثاين‪( :‬مجيع)‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬وإن كل ملا مجيع لدينا حمضرون }‬
‫ومن السنة‪ " :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم ُيضحي بالشاة الواحدة عن مجيع‬
‫أهله"‪.‬‬
‫فلفظ مجيع يدخل فيه الكل‪.‬‬
‫و(كافة)‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬وما أرسلناك إال كآفة للناس بشريا ونذيرا ولكن أكثر الناس ال‬
‫يعلمون }‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬كان النيب يبعث إىل قومه خاصة وُبعثت إىل الناس‬
‫كآفة "‪.‬‬
‫ولفظ‪( :‬عامة)‬
‫كقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬قمت على باب اجلنة فكان عامة من دخلها‬
‫املساكني وأصحاب اَجلد احملبوسون "‪.‬‬
‫نسأل اهلل أن يرزقنا اجلنة‪.‬‬
‫و(أي)‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬قال ذلك بيين وبينك أميا األجلني قضيت فال عدوان عليه واهلل‬
‫على ما نقول وكيل }‬
‫وكقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬أميا امرأة مات هلا ثالثة من الولد كانوا حجاًبا هلا‬
‫من النار "‪.‬‬
‫وكقوله صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" أميا مسلم شهد له أربعة خبري أدخله اهلل اجلنة‪ .‬قلنا وثالثة؟ قال‪ :‬وثالثة‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫واثنان؟ قال‪ :‬واثنان‪ ،‬مث مل نسأله عن الواحد "‪.‬‬
‫ولفظ‪( :‬سائر)‬

‫‪59‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كما يف صفة غسل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬كان يأخذ ثالثة أكف ويفيضها‬
‫على رأسه مث يفيض املاء على سائر جسده صلى اهلل عليه وسلم "‬
‫وكقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على‬
‫سائر الطعام "‪.‬‬
‫فهذا هو الدليل األول‪.‬‬
‫ألفاظ موضوعة تدل على العموم‪.‬‬
‫أمساء الشرط‪:‬‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬من عمل صاحلا فلنفسه ومن أساء فعليها }‪.‬‬
‫من عمل‪( :‬من) اسم شرط‪.‬‬
‫أي كل من عمل صاحلا أجازه اهلل به‪.‬‬
‫كذلك أمساء االستفهام‪.‬‬
‫ف(من) للعقالء‪.‬‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم مباء معني }‬
‫من يأتيكم؟ اجلواب ال أحد‪.‬‬
‫و(أين) وتعم األمكنة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كقوله تعاىل‪ { :‬فأين تذهبون }‬


‫كذلك االستفهام اإلنكاري‪:‬‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬قل أرأيتم إن جعل اهلل عليكم الليل سرمدا إىل يوم القيامة من إله‬
‫غري اهلل يأتيكم بضياء أفال تسمعون }‬
‫ا عرف بأل واملعرف باإلضافة مفردا كان أو جمموعة‪:‬‬
‫ُمل‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬فاذكروا آالء اهلل لعلكم تفلحون }‪.‬‬
‫وا عرف بأل االستغراقية‪:‬‬
‫ُمل‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬وخلق اإلنسان ضعيفا }‬
‫فكلمة اإلنسان تشمل كل الناس‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬واذا بلغ األطفال منكم اُحلُلم فليستأذنوا }‪.‬‬
‫تشمل مجيع األطفال‪.‬‬
‫وهنا نقول‪ :‬ال بد أن تعلم أن اخلاص ُيعمل وحيمل العام على اخلاص‬
‫ولذلك قال العلماء‪:‬‬
‫يشرتط يف محل اخلاص على العام أمور‪:‬‬
‫فقبل أن حنمل العام على اخلاص نذكر ختصيص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قد خيصص الكتاب بالكتاب‪.‬‬


‫وقد خيصص الكتاب بالسنة‪.‬‬
‫وقد ختصص السنة بالكتاب‪.‬‬
‫وقد ختصص السنة بالسنة‪.‬‬
‫فأما ختصيص الكتاب بالكتاب‪:‬‬
‫فقول اهلل عز وجل‪ { :‬واملطلقات يرتبصن بأنفسهن ثالثة قروء }‬
‫فهذا عام يف كل النساء‪.‬‬
‫وخص بقوله تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم املؤمنات مث طلقتموهن من‬
‫قبل أن متّس وهن فما لكم عليهن من عدة تعتدوهنا فمتعوهن وسرحوهن سراًح ا‬
‫مجياًل }‪.‬‬
‫إذن املرأة إذا طُلقت بعد الدخول فعّد هتا ثالث حيضات‪.‬‬
‫ولكن إذا ُطلقت قبل الدخول فليس هلا عدة‪.‬‬
‫وهذا ما خصص الكتاب بالكتاب‪.‬‬
‫وأما ختصيص الكتاب بالسنة‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فكقوله تعاىل يف آية املواريث‪ { :‬يوصيكم اهلل يف أوالدكم للذكر مثل حظ‬
‫األنثيني}‬
‫فهذه آية عامة أن الرتكة ُتقّس م بني األوالد‪ ،‬سواء كانوا كافرين‪ ،‬سواء كانوا‬
‫مسلمني‪ ،‬سواء كانوا غري ذلك‪.‬‬
‫فجاءت السنة فخصصت أن هذا باملسلم‪ ،‬أي إذا كان امليت مسلًم ا‪.‬‬
‫وبالكافر إذا كان كافرا‪.‬‬
‫ففال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ال يرث املسلم الكافر وال الكافر املسلم "‬
‫فال توارث بينهما‪.‬‬
‫فكانت السنة خمصصة للقرآن‪.‬‬
‫وأما ختصيص السنة بالكتاب‪:‬‬
‫فقد قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ما ُقِط ع من البهيمة فهو ميت "‬
‫ويف رواية‪ " :‬فما ُقِط ع من حي فهو ميت"‬
‫يعين أي شيء يقطع من حي‪،‬‬
‫يعين لو قطعت ساًقا من هبيمة فهي ميتة‪.‬‬
‫ال جيوز أكلها‪ ،‬تلقى‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إلية شاة‪ ،‬تلقى ال تؤكل‪ ،‬طاملا أن الشاة كانت حية‪.‬‬


‫لكن جاء القرآن فخصص أشياء ُيقطع من احلي ويصح استعماهلا‪.‬‬
‫كقوله تعاىل‪ { :‬ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إىل حني}‬
‫فيجوز قطع الصوف والوبر والشعر من احلي واستعماله‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك ايضا‪:‬‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬خذوا عين خذوا عين قد جعل اهلل هلن سبيال‪،‬‬
‫البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة‪ ،‬والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"‪.‬‬
‫هذا يشمل احلر والعبد‪.‬‬
‫فجاء القرآن فبني أن ال رجم على العبيد إمنا هذا خاص باألحرار‪.‬‬
‫فقال تعاىل‪ { :‬فإذا أحصّن فإن أتني بفاحشة فعليهن نصف ما على احملصنات من‬
‫العذاب }‪.‬‬
‫وأما ختصيص السنة بالسنة فكثرية منها‪:‬‬
‫ختصيص القولية بالقولية‪:‬‬
‫كما جاء يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا‬
‫الُعشر وما سقي من نضح نصف العشر"‬

‫‪64‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا عام يف كل قليل وكثري‪.‬‬


‫فجاءت السنة فبينت أنه قال صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ليس فيما دون مخسة أوسق‬
‫صدقة"‪.‬‬
‫فوضع حًد ا للنصاب‪.‬‬
‫كذلك النيب صلى اهلل وسلم‪ " :‬حينما رأى رجال ورأى عليه زحاًم ا‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬
‫هذا؟ قالوا‪ :‬صائم‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ليس من الرب الصوم يف السفر "‪.‬‬
‫هذا عام مث ُخ صص بفعله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫كما يف حديث جابر وأيب الدرداء قال‪ " :‬خرجنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫بعض أسفاره يف يوم حار حىت يضع الرجل يده على رأسه من شدة احلر وما فينا‬
‫صائم إال ما كان من النيب صلى اهلل عليه وسلم وابن رواحة "‪.‬‬
‫فهذا مع قوله‪ " :‬ليس من الرب الصوم يف السفر " إال أنه صام‪.‬‬
‫فدل على أنه إذا وجدت املشقة ال يصوم‪.‬‬
‫[ وحيمل العام على اخلاص ]‪.‬‬
‫فالنيب صلى اهلل عليه وسلم حينما يقول أو ينهى أن ميس الرجل ذكره بيمينه‪.‬‬
‫هذا هني عام من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث يأيت حديث آخر فيقول صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ال مُي سكَّن أحدكم ذكره بيمينه‬
‫و هو يبول"‪.‬‬
‫فاحلديث األول‪ ( :‬عام ) يف كل أمر‪.‬‬
‫والثاين‪ ( :‬خاص ) حال البول فقط‪.‬‬
‫فهنا حيمل العام على اخلاص ويكون النهي عن مسك الذكر باليمني أثناء البول‪.‬‬
‫مثال ذلك أيضا‪:‬‬
‫حديث حذيفة رضي اهلل عنه أنه قال‪ " :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا قام من‬
‫الليل يشوص فاه بالسواك "‪.‬‬
‫هذا عام يف كل قيام‪:‬‬
‫إذا قام ليأكل‪.‬‬
‫ليشرب‪.‬‬
‫ليذهب إىل اخلالء‪.‬‬
‫ليصلي‪.‬‬
‫إذا قام من الليل‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث جاءت الرواية األخرى أيضا قال‪ " :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا قام من‬
‫الليل ليتهجد يشوص فاه بالسواك "‬
‫فكان القيام عاًم ا والسواك ُخ صص بالقيام للتهجد‪.‬‬
‫فيحمل العام على اخلاص‪.‬‬
‫فيعمل باخلاص هنا‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثالث‪:‬‬
‫[ ترك االستفصال يف مقام االحتمال ُينَز ل يف منزلة العموم ]‪.‬‬
‫يعين إذا أمر النيب صلى وسلم بأمر عام‪ ،‬ومل يفصل فاألمر على عمومه‪.‬‬
‫مثال لذلك‪ :‬حديث غيالن الثقفي‪ " :‬أنه أسلم وحتته عشرة نسوة‪ ،‬فقال له النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أمسك منهن أربًعا وفارق سائرهن"‪.‬‬
‫فهنا النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" أمسك منهن أربع "‬
‫ومل يبني‪:‬‬
‫هل األول؟‬

‫‪67‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هل األواخر؟‬
‫هل الوساطى؟‬
‫هل الكبار؟‬
‫هل الصغار؟‬
‫هل من أجننب؟‬
‫هل من مل تنجب؟‬
‫أطلق النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فيكون هنا ترك االستفصال يتنزل أو يقوم مقام العموم‪.‬‬
‫إذن على قول اجلمهور خيتار أي أربع نسوة منهن يكون مث يفارق الباقي بعد ذلك‪.‬‬
‫ومثاله قوله تعاىل‪ { :‬وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل هلم }‬
‫( وطعام الذين أوتوا الكتاب ) أي طعام سواء كان حلًم ا أو غريه‪.‬‬
‫وأهل الكتاب‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬
‫هذا معىن قوله‪ :‬ترك االستفصال يف مقام االحتمال ُينزل منزلة العموم‪.‬‬
‫يعين إذا جاءك حكم ال تسأل عن التفصيل‪ .‬ألنه لو كان أو أراد النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن ُيضيف إىل هذا القول شيئا ألضاف‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إمنا ملا ترك مل يستفصل السائل من هن األربع اليت أمسك‪ ،‬وسكت فكان األمر‬
‫على التخيري‪.‬‬
‫وبذلك تنتهى احملاضرة التاسعة عشرة ويبقى لنا بعض األسئلة‪.‬‬
‫السؤال األول‪:‬‬
‫عرف اجململ واملبني مع ضرب مثال‪.‬‬
‫السؤال الثاين‪:‬‬
‫عرف العام واخلاص مع ضرب مثال‪.‬‬
‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫اذكر األلفاظ الدالة على العموم مع التمثيل‪.‬‬
‫هذا و سبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬نشهد أن ال اله إال أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس العشرون‬
‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪.‬‬
‫من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده‬
‫ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪ .‬اللهم صل على حممد وعلى آل حممد‬
‫كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك محيد جميد‪.‬‬
‫أيها األحبة يف اهلل هذه هي احملاضرة العشرون وما زلنا يف [قواعد فهم النصوص]‬
‫وتكلمنا يف احملاضرة السابقة عن [اجململ واملبني]‬
‫وكذلك تكلمنا عن [العام واخلاص]‪.‬‬
‫واليوم إن شاء اهلل تعاىل نكمل يف فهم قواعد النصوص الشرعية‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الضابط الرابع‪:‬‬
‫الظاهر هو المتبادر إلى الذهن عند سماع اللفظ‪ ،‬والتأويل معنى آخر يحتمله اللفظ‪.‬‬
‫والظاهر ال يؤول إال بشروط ثالثة‬
‫‪-1‬عند تعذر حمل اللفظ على الظاهر‬
‫‪-2‬بدليل يرجح المعنى اآلخر‬
‫‪70‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪-3‬أن يكون المعنى اآلخر مما تحتمله اللغة العربية ]]‪.‬‬

‫قال‪ :‬الظاهر‪ :‬هو املتبادر إىل الذهن عند مساع اللفظ‪.‬‬


‫الظاهر لغة‪:‬‬
‫الواضح والبني‪ ،‬ومنه الظهور والصعود والغلبة‪ .‬ومسي الظهر ظهرا لعلوه وبيانه‬
‫ومسي الصعود إىل الشيء ظهورا‪.‬‬
‫الظاهر اصطالًح ا‪:‬‬
‫ما احتمل أمرين أحدمها أظهر من اآلخر كلفظ األسد‪ ،‬فلو قال قائل رأيت اليوم‬
‫أسدا فإن ظاهر اللفظ أنه رأى احليوان املفرتس ألنه املعىن احلقيقي‪.‬‬
‫واملعىن أيضا حيتمل أنه رأى رجال شجاعا‪ .‬فلو قال رأيت اليوم أسدا على املنرب‬
‫يأمر باملعروف وينهى عن املنكر فهذا حُي مل على املعىن اآلخر‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألنه حيتمله‪.‬‬
‫وقيل ما دل بنفسه على معىن راجح مع احتمال غريه‪.‬‬
‫فإذا ما قال رأيت أسدا‪ ،‬املعىن الظاهر أنه رأى احليوان املفرتس واملعىن اآلخر‬
‫احملتمل أنه رجل رأى رجال شجاعا فيه صفة من صفات األسد‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثال ذلك ملا سئل النيب صلى اهلل عليه وسلم عن الوضوء من حلوم الغنم قال‪" :‬إن‬
‫شئت فتوضأ وإن شئت فال تتوضأ"‪.‬‬
‫وسئل عن حلوم اإلبل قال‪" :‬نعم توضأ من حلم اإلبل"‪.‬‬
‫فإن الظاهر يف الوضوء غسل أعضاء الوضوء‪ ،‬والوضوء املشروع الذي جاء عن‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ومحله بعض العلماء على غسل اليدين فقط‪ .‬وهذا بعيد‬
‫جدا فيكون املعىن الظاهر أنك إذا أكلت حلم اجلزور جيب عليك أن تتوضأ‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬الظاهر هو املتبادر إىل الذهن‪ .‬فيكون األمر األول هو‪:‬‬
‫[ ينبغي العمل بالظاهر حىت يأيت دليل يصرفه عن اللفظ املراد ]‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل { َو َج آَء َر ُّبَك وامللك صفا صفا } املعىن الظاهر أن اهلل عز‬
‫وجل جييء جميًئا حقيقيا يليق جبالله‪ ،‬والذي يدعي وقال وجاء أمر ربك تأويل على‬
‫خالف الظاهر حيتاج إىل دليل‪.‬‬
‫ومن السنة قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ينزل ربنا تبارك وتعاىل كل ليلة إىل‬
‫السماء الدنيا حني يبقى ثلث الليل اآلخر‪ ،‬يقول‪ :‬من يدعوين فأستجيب له؟ من‬
‫يسألين فأعطيه؟ من يستغفرين فأغفر له؟"‪.‬‬
‫الظاهر أن اهلل سبحانه وتعاىل ينزل بذاته نزوال يليق جبالله بال تكييف وال تعطيل‬
‫وال متثيل وال تأويل‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ملاذا؟‬
‫ألنه قال سبحانه‪ { :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصري } فمن يؤول ذلك‬
‫بنزول الرمحة أو نزول املغفرة أو غري ذلك حيتاج إىل دليل‪.‬‬
‫ومن املعامالت قول النيب صلى اهلل عليه وسلم "ال نكاح إال بويل"‪ ،‬الظاهر أنه ال‬
‫نكاح صحيحا إال بويل‪.‬‬
‫ومن حيمله على "ال نكاح تام" حيتاج إىل دليل‪.‬‬
‫فهنا ال بد أن حنمل النص على ظاهره وال نلجأ للتأويل‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫قال العالمة العثيمني رمحه اهلل‪ :‬ألمور أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن هذه طريقة السلف رضي اهلل عنهم أهنم كانوا حيملون النصوص على‬
‫ظاهرها‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أنه أحوط أن جيري اإلنسان النص على ظاهره‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه أبرأ للذمة ألنه أجرى النصوص على ظاهرها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ألنه أقوى يف التعبد واالنقياد ألن كمال التعبد أن تذل للمعبود عز وجل‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬

‫‪73‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫والتأويل معىن آخر حيتمله اللفظ‬


‫تعريف املؤول لغة‪:‬‬
‫املؤول من اَألْو ِل وهو الرجوع‪ .‬يقال آل األمر إليه إذا رجع إليه‪.‬‬
‫واصطالًح ا‪:‬‬
‫ما مُح ل لفظه على املعىن املرجوح‪.‬‬
‫والتأويل يف الكتاب والسنة على معنيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬التفسري‪.‬‬
‫ومنه قول اهلل تعاىل‪َ { :‬نِّبْئَنا ِبَتْأِو يِلِه ِإَّنا َنَر اَك ِم َن اْلُم ْح ِس ِنَني }‪ .‬يعين بتفسريه‪ ،‬ألهنم‬
‫رأوا رؤيا وارادوا من يوسف أن يعربها هلم‪.‬‬
‫ومن السنة حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وضع يده على كتفه أو على منكبه وقال‪" :‬اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل" أي‬
‫التفسري‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املآل مبعىن اإلخبار أو االمتثال‪.‬‬
‫َّلِذ‬ ‫يِت‬ ‫ِإ‬
‫أما اإلخبار فقوله تعاىل‪َ { :‬ه ْل َينُظُر وَن اَّل َتْأِو يَلُهۚ َيْو َم َيْأ َتْأِو يُلُه َيُقوُل ا يَن‬
‫َنُس وُه ِم ن َقْبُل َقْد َج اَءْت ُر ُس ُل َر ِّبَنا ِباَحْلِّق }‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أي هل ينظر هؤالء املكذبون إال وقوع ما أخرِب وا به؟‬


‫ومن االمتثال قول عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫"ما صلى النيب صلى اهلل عليه وسلم صالة بعد أن نزلت عليه "إذا جاء نصر اهلل‬
‫والفتح" اال يقول فيها "سبحانك ربنا وحبمدك اللهم اغفر يل"‪.‬‬
‫قوله‪ :‬والظاهر ال يؤول إال بشروط ثالثة‪ :‬أي األصل أننا حنمل اللفظ على الظاهر‬
‫إال إذا تعذر محله فهنا ال بد من شروط‪:‬‬
‫الشرط األول‪:‬‬
‫قال عند تعذر محل اللفظ على املعىن الظاهر‪.‬‬
‫مثال ذلك قوله تعاىل { واسأل القرية اليت كنا فيها }‪:‬‬
‫هنا ال بد من محل النص على املعىن املرجوح‪ ،‬محل النص على أهل القرية اليت كنا‬
‫فيها ألنه إذا سأل القرية سيسأل املساكن والدور وغري ذلك‪.‬‬
‫ومثال ذلك أيضا قوله تعاىل‪َ { :‬أْو َج آَء َأَح ٌد ِّم نُك م ِّم َن اْلَغآِئِط }‬
‫الغائط يف اللغة‪ :‬هو املكان املنخفض وليس املقصود جمرد الذهاب واجمليء منه‬
‫يوجب الوضوء‪ ،‬إمنا محل على املعىن املرجوح أي إذا قضى الرجل حاجته حبث عن‬
‫املنخفض فيحمل اللفظ عليه‪.‬‬
‫الشرط الثاين‪:‬‬
‫‪75‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال بدليل يرجح املعىن اآلخر‪.‬‬


‫فقد يأيت دليل ولكن ال يرجح بالنص إمنا باهلوى كما يقول الروافض يف قوله تعاىل‬
‫{ ِإَّن الّٰل َه َيْأُمُر ُك ْم َأن َتْذ ُحَبوا َبَق َر ًة }‪.‬‬
‫قالوا املراد ذبح عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬
‫كذلك قوله تعاىل { َو الَّش َج َر َة اْلَم ٔل ُعوَنَة يِف اْلُقْر َءاِن }‬
‫قالوا يقصد اهلل عز وجل هبا بين أمية وهذا تأويل ال دليل عليه فهو تأويل فاسد ال‬
‫يقبل ويرد عليهم‪.‬‬
‫وكتأويلهم يف قوله تعاىل‪ { :‬الَّر َٰمْحُن َعَلى اْلَعْر ِش اْس َتَو ى }‪.‬‬
‫قالوا استوى مبعىن استوىل‪ ،‬هذا أيضا تأويل فاسد ال حيتمله اللفظ وال يوجد عليه‬
‫دليل وال حتتمله اللغة‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪َ { :‬و ِس َع ُك ْر ِس ُّيُه الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر َض }‪.‬‬
‫محله املعطلة واملعتزلة واجلهمية واألشاعرة وغريهم على تأويل فاسد وفسروا‬
‫الكرسي مبعىن العلم‪ ،‬هذا أيضا تأويل فاسد‪.‬‬
‫فينبغي أن حيمل اللفظ على ظاهره وال يلجأ إىل التأويل إال عند تعذر محل اللفظ‬
‫عليه‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫‪76‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الضابط الخامس‪:‬‬
‫النص هو اللفظ الذي ال يحتمل إال معنى واحدا وهو أقوى من الظاهر‬

‫النص هو اللفظ الذي ال حيتمل إال معىن واحدا وهو أقوى من الظاهر‪.‬‬
‫تعريف يف اللغة‪:‬‬
‫هو الظهور والرفع‪ .‬الظهور مشتق من منصة العروس وهو الكرسي الرتفاعه على‬
‫غريه‪.‬‬
‫واصطالحا كما قال شيخنا‪:‬‬
‫الذي ال حيتمل إال معىن واحدا ‪.‬‬
‫وقيل هو ما تأويله تنزيله‪ ،‬اي ما يفهم مبجرد مساعه‪.‬‬

‫مثاله قوله تعاىل‪َ { :‬فَم ن ْمَّل ِجَي ْد َفِص َياُم َثاَل َثِة َأَّياٍم يِف اَحْلِّج َو َس ْبَعٍة ِإَذا َر َج ْع ُتْم ۗ ِتْلَك‬
‫َعَش َر ٌة َك اِم َلٌة }‪.‬‬
‫فقوله ثالثة أيام ال حيتمل غريها زيادة وال نقصان‪ ..‬ال نقول يصوم يومني وال‬
‫اربعة‪ ،‬وكذلك قوله سبعة ال حيتمل ستة وال مخسة ولذلك قال تلك عشرة كاملة‪.‬‬
‫وكل ألفاظ العدد نصوص ال حتتمل غريها‪.‬‬
‫كقوله تعاىل‪َ { :‬فَم ن ْمَّل َيْس َتِط ْع َفِإْطَعاُم ِس ِّتَني ِم ْس ِكيًنا }‬
‫وقوله تعاىل { َقاَل َفِإَّنَه ا َحُمَّر َم ٌة َعَلْيِه ْم َأْر َبِعَني َس َنًة }‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أي لن يدخلوها قبل ذلك احلني‪.‬‬


‫{ َو اْلَو اِلَد اُت ُيْر ِض ْع َن َأْو اَل َدُه َّن َحْو َلِنْي َك اِم َلِنْي }‪ .‬هذا ظاهر‪ ،‬نص‪.‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم ملا سئل عن ماء البحر قال‪" :‬هو الطهور ماؤه اِحلُّل‬
‫ميتته"‪.‬‬
‫"فالطهور ماؤه" نص يفهم‪ ،‬ال حيتاج اىل تفسري‪ .‬وهو أقوى من الظاهر‪.‬‬
‫ملاذا؟ ألن النص ليس له إال معىن واحدا دل عليه كما ذكرنا عشرة كاملة ليس هلا‬
‫معىن آخر‪.‬‬
‫الظاهر حيتمله معىن آخر وإن كان مرجوًح ا كما سبق أن قلنا يف قوله تعاىل (واسأل‬
‫القرية اليت كنا فيها) حيمل على املعىن املرجوح‪ :‬واسأل (أهل) القرية اليت كنا فيها‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط السادس‪:‬‬
‫السياق من المقيدات وترجيح أحد المحتمالت‬

‫ومثال ذلك املثال الذي ذكرناه يف أول احملاضرة‪ ،‬لو قال رجل‪ :‬رأيت اليوم أسدا‪،‬‬
‫فالظاهر أنه احليوان املفرتس‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬رأيت اليوم أسدا يأمر باملعروف وينهى عن املنكر على املنرب‪ ،‬فهنا السياق‬
‫قَّيد أنه رأى رجال فيه صفة من صفات األسد‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫لكن لو قال‪ :‬رأيت اليوم أسًد ا يأكل غزااًل ‪ ،‬فهنا السياق بني أنه يقتل األسد‬
‫املعروض وهو احليوان‪.‬‬

‫ومثال ذلك اآلية اليت ذكرنا‪َ{ :‬و اْس َأُهْلْم َعِن اْلَق ْر َيِة اَّليِت َك اَنْت َح اِض َر َة اْلَبْح ِر ِإْذ‬
‫َيْع ُد وَن يِف الَّس ْبِت }‪ ،‬هنا املراد قرية وليس القرية نفسها‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪َ { :‬و َو َّصْيَنا اِإْل نَس اَن ِبَو اِلَد ْيِه ِإْح َس اًناۖ َمَحَلْتُه ُأُّم ُه ُك ْر ًه ا‬
‫َو َو َض َعْتُه ُك ْر ًه اۖ َو ْمَحُلُه َو ِفَص اُلُه َثاَل ُثوَن َش ْه ًر ا}‪ .‬فبني اهلل عز وجل أن مدة احلمل‬
‫والرضاعة ثالثون شهرا‪.‬‬
‫ِل ِه‬
‫مث قال سبحانه يف اآلية األخرى‪َ { :‬و َو َّصْيَنا اِإْل نَس اَن ِبَو ا َد ْي َمَحَلْتُه ُأُّم ُه َو ْه ًنا َعَلٰى‬
‫َو ْه ٍن َو ِفَص اُلُه يِف َعاَم ِنْي } فبني هنا أن مدة الرضاعة عامني‪ ،‬وبني يف اآلية األوىل أن‬
‫مدة احلمل والرضاعة جمملة ثالثون شهرا‪.‬‬
‫فهنا قضى الصحابة أن أقل مدة للحمل ستة أشهر وهذا معىن السياق من املقيدات‪.‬‬
‫كذلك ملا قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اخلالة مبنزلة األم"‪.‬‬
‫هل هي يف الرضاع أم يف احلضانة أم يف املرياث؟‬
‫جاء السياق وبني أهنا املقصود هبا يف احلضانة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثال ذلك حديث الرباء يف قصة ابنة محزة‪ .‬ملا تبعت النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فقالت له يا عم يا عم‪ .‬فتناوهلا علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه فأخذ بيدها وقال‬
‫لفاطمة عليها السالم‪ :‬دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر‪.‬‬
‫فقال علي‪ :‬أنا أحق هبا وهي ابنة عمي‬
‫وقال جعفر‪ :‬ابنة عمي‪ ،‬وخالتها حتيت‪،‬‬
‫وقال زيد‪ :‬ابنة أخي‪ ،‬فقضى هبا النيب صلى اهلل عليه وسلم خلالتها وقال‪" :‬اخلالة‬
‫مبنزلة األم"‪.‬‬
‫هنا بني النيب صلى اهلل عليه وسلم أي يف احلضانة فقط وليس يف باقي األحكام‬
‫كاملرياث والنفقة والكسوة وغري ذلك‪.‬‬
‫نقول يف هذا إن السياق من املقيدات‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط السابع‪:‬‬
‫المطلق ما كان شائعا في جنسه والمقيد ما قيده بوصف‬

‫املطلق ضد املقيد‪ ،‬وقيل املنفك من كل قيد حسي كان أو معنوي‪.‬‬


‫واملطلق ما كان شائعا يف جنسه ودل على احلقيقة بال قيد‪.‬‬
‫واملقيد ما قيده بوصف‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫املقيد يف اللغة‪ :‬أي جعل فيه القيد والقيد ما حيد احلركة‪..‬‬


‫وهنا انتقل شيخنا حفظه اهلل إىل بيان املطلق واملقيد‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪َ { :‬و اَّلِذ يَن ُيَظاِه ُر وَن ِم ن ِّنَس اِئِه ْم َّمُث َيُعوُدوَن ِلَم ا َقاُلوا‬
‫َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ِّم ن َقْبِل َأن َيَتَم اَّس ا }‪.‬‬
‫هنا كلمة "فتحرير رقبة" جاءت مطلقة‪ ،‬فلو أعتقت أي رقبة كان ممتثال لألمر‪،‬‬
‫سواء كانت صغرية او كبرية‪ ،‬ذكرا أو أنثى‪ ،‬سليمة أو معيبة‪ ،‬أجزأت‪ .‬فال يلزم‬
‫كون الرقبة متصفة بصفات خاصة‪.‬‬
‫ولذلك قال العلماء‪ :‬لو أعتق رقبة مسلمة أو كافرة‪ ،‬سليمة أو معيبة‪ ،‬ذكرا أو‬
‫أنثى‪ ،‬كبرية أو صغرية أجزأ ذلك‪.‬‬

‫َّب‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫َأ‬ ‫َن‬ ‫و‬ ‫َذ‬ ‫ُك‬ ‫ن‬ ‫َّف َن ِم‬ ‫ي‬ ‫ومثال ذلك أيضا قول اهلل تعاىل‪ { :‬اَّلِذ‬
‫ْص‬
‫َو ًج َيَتَر َن‬ ‫ْز‬ ‫ْم َو َي ُر‬ ‫َو َن ُيَتَو ْو‬
‫ِبَأنُف ِس ِه َّن َأْر َبَعَة َأْش ُه ٍر َو َعْش ًر ا }‬
‫فكلمة "أزواًج ا" وردت مطلقة‪ ،‬سواء قبل الدخول أو بعده فهي زوجة‪.‬‬
‫لذلك امجع العلماء على أن الزوجة غري املدخول هبا إذا مات عنها زوجها فعدهتا‬
‫أربعة أشهر وعشًر ا‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثامن ‪:‬‬

‫‪81‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وال يحمل المطلق على المقيد إال إذا اتفقا في الحكم والسبب‬

‫قلنا أوال‪ :‬وجوب العمل باملطلق‪.‬‬


‫ثانيا‪ :‬محل املطلق على املقيد إذا احتدا يف احلكم والسبب‪.‬‬
‫وهذا أمر دقيق يف أصول الفقه‪.‬‬
‫ومعىن هذا الكالم أن املطلق حيمل على املقيد إذا اتفقا يف احلكم والسبب‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪ِ { :‬إَمَّنا َح َّر َم َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَتَة َو الَّد َم َو ْحَلَم اِخْلنِز يِر }‪.‬‬

‫وقال تعاىل‪ُ { :‬قل اَّل َأِج ُد يِف َم ا ُأوِح َي ِإَّيَل َحُمَّر ًم ا َعَلٰى َطاِعٍم َيْطَعُم ُه ِإاَّل َأن َيُك وَن‬
‫َم ْيَتًة َأْو َدًم ا َّم ْس ُفوًح ا َأْو ْحَلَم ِخ نِز يٍر َفِإَّنُه ِر ْج ٌس }‪.‬‬
‫فبالنظر لآليتني جند أن لفظ "الدم" يف اآلية األوىل مطلق‪ ،‬ويف اآلية الثانية مقيد‬
‫بالدم املسفوح‪.‬‬
‫وننظر إىل احلكم فيهما فنجده واحًد ا وهو‪ :‬حرمة الدم‪.‬‬
‫وكذلك السبب يف بيان حكم املطاعم احملرمة يف اآليتني فيكون السبب واحدا‬
‫واحلكم واحدا‪ ،‬فيحمل هنا املطلق على املقيد فيكون احملرم هو الدم املسفوح‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل‪ِّ { :‬م ن َبْع ِد َو ِص َّيٍة ُتوُصوَن َهِبا َأْو َد ْيٍن } ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ِ { :‬م ن َبْع ِد َو ِص َّيٍة ُيوَص ٰى َهِبا َأْو َد ْيٍن َغْيَر ُمَض اٍّر }‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فأطلق الدين يف اجلزء األول من اآلية‪ ،‬لكنه قيده يف اجلزء الثاين بكونه "غري مضار"‬
‫أي مل يقصد به اإلضرار بالورثة‪.‬‬
‫فهنا حيمل املطلق على املقيد‪.‬‬
‫لكن إذا اختلف احلكم واحتد السبب‪ ،‬أو اختلف احلكم والسبب‪ ،‬فاألصل أنه ال‬
‫حيمل املطلق على املقيد‪.‬‬
‫ومثال الذي احتد يف احلكم واختلف يف السبب‪:‬‬
‫قوله تعاىل‪َ { :‬و اَّلِذيَن ُيَظاِه ُر وَن ِم ن ِّنَس اِئِه ْم َّمُث َيُعوُدوَن ِلَم ا َقاُلوا َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ِّم ن‬
‫َقْبِل َأن َيَتَم اَّس ا }‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪َ { :‬و َم ا َك اَن ِلُم ْؤ ِم ٍن َأن َيْق ُتَل ُمْؤ ِم ًنا ِإاَّل َخ َطًأ َو َم ن َقَتَل ُمْؤ ِم ًنا َخ َطًأ‬
‫َفَتْح ِر يُر َر َقَبٍة ُّم ْؤ ِم َنٍة }‬
‫ففي اآلية األوىل أطلق اهلل عز وجل "الرقبة" ومل يقيدها‪.‬‬
‫ويف اآلية الثانية قيدها "باإلميان" فقال "رقبة مؤمنة"‪ .‬فهل حيمل املطلق على املقيد‬
‫هنا؟‬
‫ننظر يف اآليتني فنجد أن احلكم واحد يف اآليتني وهو عتق الرقبة‪ .‬لكن لو نظرنا‬
‫للسبب‪ ،‬فنجد ان السبب يف اآلية األوىل الظهار‪ .‬والسبب يف اآلية الثانية القتل‪.‬‬
‫فال حيمل املطلق على املقيد على قول اجلمهور خالفا للشافعي رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ثانًيا‪ [[ :‬إذا اختلف احلكم واحتد السبب ]]‬

‫ُك‬ ‫و‬ ‫وا‬‫ُل‬ ‫ومثاله قوله تعاىل‪ { :‬ا َأُّي ا اَّلِذ ي آ ُنوا ِإَذا ُق ُت ِإىَل الَّصاَل ِة َفاْغ ِس‬
‫َه‬
‫ُو ُج ْم‬ ‫ْم ْم‬ ‫َي َه َن َم‬
‫َو َأْيِدَيُك ْم ِإىَل اْلَم َر اِفِق }‬

‫ُك‬ ‫وقوله تعاىل‪َ { :‬ل ِجَت ُد وا ا َّم وا ِعيًد ا َطِّي ا َفا وا ِب وِه‬
‫ًب ْم َس ُح ُو ُج ْم‬ ‫َم ًء َفَتَي ُم َص‬ ‫َف ْم‬
‫َو َأْيِديُك ْم }‪.‬‬
‫فاحلكم يف اآلية األوىل‪ :‬وجوب غسل األيدي‪ ،‬ورد مقيًد ا باملرفق‪.‬‬
‫ويف الثانية‪ :‬وجوب مسح اليد يف التيمم‪ ،‬فأطلقت‪.‬‬
‫فالسبب يف النصني واحد‪ :‬وهو القيام إىل الصالة‪ .‬لكن احلكم هنا خمتلف‪ ،‬هنا‬
‫الغسل وهنا التيمم‪.‬‬
‫فال حيمل املطلق على املقيد فيقال متسح اليد إىل املرفق‪ ،‬بل إىل الرسغ‪.‬‬
‫أما إذا اختلف احلكم واختلف السبب‪ ،‬فال حيمل املطلق على املقيد‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ { :‬الَّس اِر ُق الَّس اِر َقُة َفاْقَط وا َأ ِد ا ا َمِبا َك ا َنَك ااًل ِّم الَّلِه‬
‫َن‬ ‫ُع ْي َيُه َم َجَز ًء َس َب‬ ‫َو‬ ‫َو‬
‫والّٰل ُه َعِز يٌز َح ِكيٌم }‪.‬‬
‫ِد‬ ‫ِة ِس‬ ‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِذ‬
‫وقال تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّل يَن آَم ُنوا َذا ُقْم ُتْم ىَل الَّصاَل َفاْغ ُلوا ُو ُج وَه ُك ْم َو َأْي َيُك ْم‬
‫ِإىَل اْلَم َر اِفِق }‪.‬‬
‫ففي اآلية األوىل‪ ،‬احلكم قطع يد السارق بسبب السرقة‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ويف اآلية الثانية احلكم‪ :‬غسل اليدين من أجل الوضوء‪.‬‬


‫فاختلف احلكم والسبب‪.‬‬
‫فال يقال‪ :‬حيمل املطلق على املقيد وتقطع يد السارق من املرفقني بل من الرسغ‬
‫كما جاءت به السنة‪.‬‬
‫هبذا ينتهي الدرس وتنتهي احملاضرة العشرون‪.‬‬

‫أسئلة الدرس‪:‬‬

‫السؤال األول‪:‬‬
‫عرف الظاهر واملؤول‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪:‬‬
‫مىت يؤول النص وما هي الشروط؟‬

‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫السياق من املقيدات‪ .‬اشرح ذلك‪.‬‬

‫السؤال الرابع‪:‬‬
‫مىت حيمل املطلق على املقيد؟‬
‫سبحانك اللهم وحبمدك نشهد أال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس الحادي والعشرون‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫هذه هي احملاضرة احلادية والعشرون‪.‬‬
‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪.‬‬
‫أما بعد؛‬
‫أحبيت يف اهلل مرحبا بكم يف هذه احملاضرة الطيبة من حماضرات أصول الفقه‪.‬‬
‫كنا قد وصلنا إىل الباب التاسع‪:‬‬
‫باب قواعد فهم النصوص الشرعية‬
‫ووصلنا إىل الضابط التاسع من هذه الضوابط‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الضابط التاسع ‪:‬‬
‫األمر للوجوب إال بقرينة صارفة إلى غيره‪ ،‬قال‪ :‬وله صيغ مشهورة‬

‫فما زال يبني كيف يفهم الفقيه واألصويل النصوص الشرعية‪.‬‬


‫فبعدما تكلمنا عن اجململ واملبني‪.‬‬
‫وتكلمنا عن العام واخلاص‪.‬‬
‫وتكلمنا عن الظاهر واملؤول‪.‬‬
‫و تكلمنا عن النص واملطلق واملفيد‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ما زال يبني شيخنا حفظه اهلل تعاىل كيف نفهم نصوص الشرع‪.‬‬
‫اليوم نتكلم عن ((األمر))‬
‫إذا جاء إلينا أمر من اهلل عز وجل‪.‬‬
‫هل هذا األمر يقتضي الوجوب أم يقتضي االستحباب؟‬
‫فقال‪ :‬األمر للوجوب‪ ،‬هذا هو األصل‪.‬‬
‫أن األوامر الشرعية سواء كانت قرآن أو سنة صحيحة عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪،‬‬
‫فإن هذا األمر يقتضي الوجوب‪.‬‬
‫واألمر يف اللغة‪:‬‬
‫هو نقيض النهي‪ ،‬مصدر أمر‪.‬‬
‫وأمر بالشيء إذا طلب وقوعه‪.‬‬
‫يقال‪ :‬أمره به‪ ،‬وأمره إياه‪ ،‬وأمره أمرا‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬استدعاء الفعل‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يراد به الطلب على وجه اخلصوص‪.‬‬
‫وقد يراد به الفعل‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولذلك قال‪ :‬األمر يف االصطالح‪:‬‬


‫استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو اقتداء مستعل ممن هو دونه فعال بالقول أو الفعل‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو طلب الفعل بالقول على وجه العلو‪.‬‬
‫ألن األمر قد يكون من األعلى‪.‬‬
‫كقوله تعاىل‪َ { :‬و اْذُك ُر وا الَّلَه يِف َأَّياٍم َّم ْع ُد وَدات }‬
‫فهذا أمر من اهلل عز وجل بالقول‪.‬‬
‫فيجب ذكر اهلل عز وجل يف أيام التشريق‪.‬‬
‫وهذا خاص باحلج‪.‬‬
‫وقيل جيب على احلاج‪ ،‬ويستحب لغريه‪.‬‬
‫أو قد يكون األمر بالفعل‪.‬‬
‫كقوله تعاىل‪َ { :‬و َأِقيُم وا الَّصاَل َة َو آُتوا الَّز َك اَة َو اْر َك ُعوا َمَع الَّر اِكِعَني (‪} )43‬‬
‫فهذا أمر ال ينّف ذ إال بالفعل‪.‬‬
‫وهو أداء الصالة وإيتاء الزكاة‪.‬‬
‫هذا هو األمر‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذا جاءك األمر افعل وكان األمر أعلى من املأمور وجب على املأمور أن ميتثل هذا‬
‫األمر‪.‬‬
‫قوله األمر للوجوب كما ذكرنا‪،‬‬
‫فجملة ذلك‪:‬‬
‫أن األمر إذا جاء جمردا فإنه يقتضي الوجوب على الراجح من أقوال أهل العلم‪.‬‬
‫وهذا قول األئمة األربعة‪.‬‬
‫وقد تواترت األدلة على أن األمر إذا جاء جمردا فإنه يقتضي الوجوب‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬

‫َن‬ ‫و‬ ‫ُك‬ ‫َأن‬ ‫ا‬ ‫َأ‬ ‫ُل‬ ‫و‬ ‫َّل‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫َق‬ ‫ا‬ ‫َذ‬‫ِإ‬ ‫قوله تعاىل‪ { :‬ا َك اَن ِل ْؤ ِم ٍن اَل ْؤ ِم َنٍة‬
‫ُه َو َر ُس ُه ْم ًر َي ُهَلُم‬ ‫َض‬ ‫ُم َو ُم‬ ‫َو َم‬
‫اِخْلَيَر ُة ِم ْن َأْم ِر ِه ْم ۗ َو َم ن َيْع ِص الَّلَه َو َر ُس وَلُه َفَقْد َض َّل َض اَل اًل ُّم ِبيًنا }‬
‫وجه الداللة من اآلية‪:‬‬
‫ملا وصف من يعصي األمر بالضالل املبني‪.‬‬
‫لزم محل األمر على الوجوب‪.‬‬
‫ِص‬ ‫ِص ِف‬ ‫ِل‬ ‫ِذ‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬فْلَيْح َذ ِر اَّل يَن َخُيا ُفوَن َعْن َأْم ِر ِه َأن ُت يَبُه ْم ْتَنٌة َأْو ُي يَبُه ْم َعَذ اٌب‬
‫َأِليٌم }‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فالتهديد الشديد ملن خيالف األمر أن يصيبه الفتنة أو العذاب األليم‪ ،‬يدل على لزوم‬
‫محل األمر على الوجوب‪.‬‬
‫ثالثا من األدلة على ذلك‪:‬‬
‫إطالق اسم املعصية على ترك األمر‪.‬‬
‫يدل على الوجوب‪.‬‬
‫كما يف قوله تعاىل‪ { :‬اَّل َيْع ُصوَن الَّلَه َم ا َأَم َر ُه ْم َو َيْف َعُلوَن َم ا ُيْؤ َم ُر وَن }‬
‫ِج‬
‫وقوله تعاىل عن موسى واخلضر‪َ { :‬قاَل َس َت ُد يِن ِإن َش اَء الَّلُه َص اِبًر ا َو اَل َأْع ِص ي َلَك‬
‫َأْم ًر ا }‪.‬‬
‫وقال تعاىل عن موسى وهارون‪َ { :‬قاَل َيا َه اُر وُن َم ا َم َنَعَك ِإْذ َر َأْيَتُه ْم َض ُّلوا َأاَّل‬
‫َتَّتِبَعِن ۖ َأَفَعَص ْيَت َأْم ِر ي }‪.‬‬
‫واملعصية موجبة للعقوبة من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫كما قال تعاىل‪َ { :‬و َم ن َيْع ِص الَّلَه َو َر ُس وَلُه َو َيَتَعَّد ُح ُد وَد ُه ُيْد ِخ ْلُه َناًر ا َخ اِلًد ا ِفيَه ا‬
‫َو َلُه َعَذ اٌب ُّم ِه ٌني }‪.‬‬
‫أيضا قول اهلل عز وجل عن إبليس حني أىب أن يسجد آلدم‪.‬‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬قاَل َم ا َم َنَعَك َأاَّل َتْس ُج َد ِإْذ َأَم ْر ُتَك }‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فلو مل يكن معىن "اسجدوا" مفيًد ا بنفسه الوجوب واالمتثال مل يكن هناك وجه‬
‫لإلنكار على إبليس‪.‬‬
‫ومن السنة حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬لوال أن أشق على أميت ألمرهتم بالسواك"‪.‬‬
‫فهنا بني النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه ترك األمر بالسواك خمافة املشقة‪.‬‬
‫كذلك من األدلة على أن األمر يقتضي الوجوب‪ :‬داللة اللغة‪.‬‬
‫فتفيد الداللة أن األمر اجملرد يقتضي الوجوب‪.‬‬
‫فإذا أمر احلاكم الرعية أو الوالد الولد أو السيد العبد‪ ،‬فلم يستجب‪ ،‬يعد ذلك‬
‫معصية‪.‬‬
‫مث سبق وقد بينا األوامر النبوية‪.‬‬
‫فقد يكون األمر للتشريع‪.‬‬
‫وقد يكون األمر للمصلحة‪.‬‬
‫وقد يكون األمر أمر عادي فردي‪.‬‬
‫فمن التشريع ما ُقصد منه أن يكون شرعا لألمة اإلسالمية‪.‬‬
‫فيكون الزما ملن مسعه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مثل قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬صلوا كما رأيتموين أصلي"‪.‬‬
‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لتأخذوا عين مناسككم فإين ال أدري لعلي ال أحج‬
‫بعد حجيت هذه"‪.‬‬
‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أسبغ الوضوء وبالغ يف االستنشاق إال أن تكون‬
‫صائما"‪.‬‬
‫فهذه ونظائرها من األوامر اليت جاءت يف القرآن أو يف السنة النبوية الصحيحة تدل‬
‫على أن هذا األمر شرع وجيب االمتثال له‪.‬‬
‫وقد يكون األمر للمصلحة‪.‬‬
‫وهو أمر يصدر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم بصفته ولًيا للمسلمني أو ويل أمر‬
‫املسلمني يف وقته أو لكونه القائد‪.‬‬
‫كما قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال يصلني أحٌد العصر إال يف بين قريظة"‪.‬‬
‫فكان هذا أمرا للمصلحة وال يلزم إال من ُو ِّج َه إليه األمر‪.‬‬
‫أو قد يكون أمرا عاديا‪.‬‬
‫كأن يأمر السيد اخلادم أن يفتح الباب‪ ،‬أو أن يأيت بطعام أو شراب أو بذبح شاة‬
‫وغريها‪.‬‬
‫وهذا ال يلزمه الوجوب‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال شيخنا حفظه اهلل‪ :‬األمر للوجوب إال بقرينة صارفة إىل غريه‬
‫أي يكون األمر يقتضي الوجوب مث تأيت قرينة تصرفه من الوجوب إما إىل‬
‫االستحباب وإما إىل اإلباحة‪.‬‬
‫وقد يصرف األمر يف نفس النص أو يف نص آخر‪.‬‬
‫مثال ما ُص رف من الوجوب إىل الندب‪:‬‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إذا دخل أحدكم املسجد فلريكع ركعتني قبل أن‬
‫جيلس"‪.‬‬
‫فهنا أمر بالصالة قبل اجللوس‪.‬‬
‫قال‪ (( :‬فلريكع ))‬
‫وهذه قرينة وصيغة من صيغ الوجوب اليت ستأيت‪.‬‬
‫إذن لو كان هذا النص جمردا لقلنا إن صالة ركعتني عند دخول املسجد واجبة‪.‬‬
‫لكن ملا قال صلى اهلل عليه وسلم مخس صلوات يف اليوم والليلة‪،‬‬
‫فقال هل علي غريها؟‬
‫قال‪ :‬ال؛ إال أن تتطوع‪.‬‬
‫فبني النيب صلى اهلل عليه وسلم أن ما زاد عن الصلوات اخلمس ليس بواجب‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقد يصرف األمر من الوجوب إىل اإلباحة‪:‬‬


‫كقوله تعاىل‪َ { :‬و ِإَذا َح َلْلُتْم َفاْص َطاُدوا }‬
‫ال يفهم منه الوجوب وال االستحباب إمنا يراد به اإلباحة‪.‬‬
‫ألن األمر عاد إىل ما كان عليه قبل احلذر‪.‬‬
‫ومثال ذلك أيضا ‪.‬‬
‫قول اهلل عز وجل‪َ { :‬فِإَذا ُقِض َيِت الَّصاَل ُة َفانَتِش ُر وا يِف اَأْلْر ِض }‪.‬‬
‫يراد هبا اإلباحة وهذا سيأتينا قريبا‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪ :‬وله صيغ مشهورة‬
‫أي الصيغ الدالة على الوجوب‪.‬‬
‫أول صيغة‪:‬‬
‫فعل األمر حنو (( افعل ))‪.‬‬
‫وصيغ األمر عند اإلطالق تقتضي وجوب املأمور به‪.‬‬
‫فقوله تعاىل‪ { :‬اْتُل َم ا ُأوِح َي ِإَلْيَك ِم َن اْلِكَتاِب }‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ا ِإٰىَل ِبيِل ِّب ِباِحْلْك ِة اْل ِعَظِة ا ِة اِد م ِباَّليِت ِه‬
‫َي‬ ‫َحْلَس َن َو َج ُهْل‬ ‫َم َو َمْو‬ ‫ْد ُع َس َر َك‬
‫َأْح َس ُن }‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثل ذلك حديث أيب هريرة حديث املسيء يف صالته‪.‬‬


‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"إذا قمت إىل الصالة فكرب‪ ،‬مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن‪ ،‬مث اركع حىت تطمئن‬
‫راكعا‪ ،‬مث ارفع حىت تعتدل قائما‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجدا"‪.‬‬
‫كل هذه أوامر من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫[ كرب‪ ،‬اقرأ‪ ،‬اركع‪ ،‬ارفع‪ ،‬اسجد ] وهكذا ‪...‬‬
‫فتأيت هذه‪" :‬مث قال‪ :‬مث افعل ذلك يف صالتك كلها"‪.‬‬
‫فهنا األمر للوجوب‪.‬‬
‫لكن قد يفهم من السياق أن األمر ال يراد به الوجوب‪.‬‬
‫قد يراد به الندب أو اإلباحة أو الوعيد أو االمتنان أو التعجيز أو التهذيب‪.‬‬
‫فمن ذلك‪:‬‬
‫قول اهلل عز وجل‪َ { :‬و َأنِكُح وا اَأْلَياَم ٰى ِم نُك ْم َو الَّصاِحِلَني ِم ْن ِعَباِدُك ْم َو ِإَم اِئُك ْم ۚ ِإن‬
‫َيُك وُنوا ُفَق َر اَء ُيْغِنِه ُم الَّلُه ِم ن َفْض ِلِهۗ َو الَّلُه َو اِس ٌع َعِليٌم }‪.‬‬
‫هذا أمر بالنكاح‪.‬‬
‫وتعلمون أن األصل يف النكاح االستحباب‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك قد يراد هبذا األمر اإلباحة‪.‬‬


‫كقوله تعاىل‪ُ { :‬ك ُلوا َو اْش َر ُبوا ِم ن ِّر ْز ِق الَّلِه َو اَل َتْع َثْو ا يِف اَأْلْر ِض ُمْف سدين }‬
‫(( كلوا )) واألكل مباح وليس بواجب وليس مبستحب‪.‬‬
‫وقد يراد به غري ذلك من األمور اليت يكون السياق سبب فيها‪.‬‬
‫كذلك من األمور والصيغ اليت يفهم منها أن األمر للوجوب‪:‬‬
‫(( اسم فعل األمر ))‬
‫مثل قوله تعاىل‪َ { :‬أُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا َعَلْيُك ْم َأنُفَس ُك ْم }‪.‬‬
‫أي الزموها‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬و اْلَق اِئِلَني ِإِل ْخ َو اِهِنْم َه ُلَّم ِإَلْيَناۖ َو اَل َيْأُتوَن اْلَبْأَس ِإاَّل َقِلياًل }‬
‫(( هلَّم )) اسم فعل أمر‪.‬‬
‫وهلذا مل يقل‪ :‬هلموا‪.‬‬
‫مع أن خمرجهم خمرج اجلماعة فهو امسه فعل أمر‪.‬‬
‫وكذا حينما يقول املؤذن‪ :‬حي على الصالة‪ ،‬أي اقبلوا إىل الصالة‪.‬‬
‫ومن الصيغ الدالة على الوجوب‪:‬‬
‫(( املصدر النائب عن فعل األمر ))‬
‫‪97‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كقوله تعاىل‪َ { :‬فِإَذا َلِق يُتُم اَّلِذيَن َك َف ُر وا َفَض ْر َب الِّر َقاِب }‬


‫فكلمة (( ضرب )) هنا مصدر‪.‬‬
‫ولكنه نائب عن فعل األمر‪.‬‬
‫والتقدير هنا‪ :‬إذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا الرقاب‪.‬‬
‫كذلك من الصيغ اليت تدل على الوجب‪:‬‬
‫(( املضارع املقرون بالم األمر ))‬
‫قوله تعاىل‪ِّ { :‬لُتْؤ ِم ُنوا ِبالَّلِه َو َر ُس وِلِه َو ُتَعِّز ُر وُه َو ُتَو ِّقُر وُه }‬
‫قوله تعاىل‪ِ { :‬لُينِف ْق ُذو َسَعٍة ِّم ن َسَعِتِه }‬
‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم يف حديث أيب هريرة‪" :‬الرجل على دين خليله فلينظر‬
‫أحدكم من خيالل"‪.‬‬
‫وتعرف الم األمر إذا جاءت ساكنة بعد‪ [ :‬الفاء‪ ،‬والواو‪ ،‬ومث ]‬
‫الُّد ْنَيا اآْل ِخ ِة َفْلَيْم ُدْد ِب َبٍب‬ ‫َيُظُّن َأن َّلن َينُص ُه الَّلُه يِف‬ ‫مثل قوله تعاىل‪َ { :‬م ن َك اَن‬
‫َس‬ ‫َو َر‬ ‫َر‬
‫}‪.‬‬ ‫َه ْل ُيْذ ِه َّنَب َك ْيُد ُه َم ا َيِغيُظ‬ ‫إىل السماء مث ْلَيْق َطْع َفْلَينُظْر‬
‫(( فالالم )) يف قوله‪ :‬فليمدد‪ .‬وقوله‪ :‬مث ليقطع قوله‪ :‬فلينظر [الم األمر]‪.‬‬
‫وأيضا من الصيغ اليت تدل على الوجوب‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫(( لفظ أمر وما اشتق منه ))‬


‫حنو قوله تعاىل‪ { :‬واذ قال موسى لقومه إن اهلل يأمركم أن تذحبوا بقرة }‬
‫وقوله تعاىل‪ِ { :‬إَّن الَّلَه َيْأُمُر ُك ْم َأن ُتَؤ ُّدوا اَأْلَم اَناِت ِإٰىَل َأْه ِلَه ا }‬
‫وحديث ابن عباس رضي اهلل عنهما يف وفد عبد القيس ملا قالوا‪ :‬يا رسول اهلل؛ إنا‬
‫من هذا احلي من ربيعة ولسنا نصل إليك إال يف الشهر احلرام فمرنا بشيء نأخذه‬
‫عنك‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬آمركم بأربع وأهناكم عن أربع‪ ،‬آمركم‪،‬‬
‫باإلميان باهلل‪( ،‬مث فسرها هلم‪ ):‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأين رسول اهلل‪ ،‬وإقام‬
‫الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وأن تؤدوا إيل مخس ما غنمتم‪ ،‬وأهنى عن‪ :‬الدباء‪ ،‬واحلنتم‪،‬‬
‫واملقري‪ ،‬والنقري"‪.‬‬
‫فهذا أمر من النيب صلى اهلل عليه وسلم أمر أو فرض أو غري ذلك‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط العاشر‪:‬‬
‫األمر بعد الحظر يدل على حكم الفعل قبل الحظر‬

‫وهو ما يسميه العلماء [أن األمر بعد الفعل عاد إىل ما كان عليه قبل الفعل]‪.‬‬
‫ونبني ذلك كما جاء عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فهنا هذه املسألة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مسألة األمر بعد احلظر‪.‬‬


‫العلماء‪ .‬اختلفوا فيها‪:‬‬
‫فبعضهم يقول‪ :‬أن األمر بعد احلظر لإلباحة‪.‬‬
‫وعلى هذا مجاهري األصوليني‪.‬‬
‫و هو قول‪ [ :‬الشافعي‪ ،‬ومالك‪ ،‬ورواية عن أمحد]‬
‫ويستدلون لذلك بأدلة منها‪:‬‬
‫قوله تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا اَل َتْق ُتُلوا الَّص ْيَد َو َأنُتْم ُح ُر ٌمۚ }‬
‫قالوا‪ :‬هنى اهلل عز وجل عن قتل الصيد الربي حال اإلحرام‪ ،‬مث أمر به بعد التحلل‪.‬‬
‫فقال‪َ { :‬و ِإَذا َح َلْلُتْم َفاْص َطاُدوا }‬
‫فدل على اإلباحة‪ ،‬ألن الصيد مباح‪.‬‬
‫ِم‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ِإَذا ُنوِدَي ِللَّصاَل ِة ِم ن َيْو اُجْلُم َعِة َفاْسَعْو ا ِإٰىَل‬
‫ِذْك ِر الَّلِه َو َذُر وا اْلَبْيَع ۚ َٰذ ِلُك ْم َخ ْيٌر َّلُك ْم ِإن ُك نُتْم َتْع َلُم وَن }‬
‫قالوا‪ :‬فاألصل يف البيع اجلواز‪.‬‬
‫مث أن اهلل عز وجل حرمه‪ ،‬بل يف حق من تلزمه اجلمعة بعد النداء‪.‬‬
‫مث قال‪َ { :‬فِإَذا ُقِض َيِت الَّصاَل ُة َفانَتِش ُر وا يِف اَأْلْر ِض }‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا أمر باالنتشار واالبتغاء من فضل اهلل‪.‬‬


‫وهذا أيضا مباح‪.‬‬
‫ومثل قوله تعاىل‪َ { :‬و َيْس َأُلوَنَك َعِن اْلَم ِح يِض ۖ ُق ُه َأًذى َفاْعَتِز ُلوا الِّن ا يِف‬
‫َس َء‬ ‫ْل َو‬
‫اْلَم ِح يِض ۖ َو اَل َتْق َر ُبوُه َّن َح ٰىَّت َيْطُه ْر َن ۖ َفِإَذا َتَطَّه ْر َن َفْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َر ُك ُم الَّلُه }‬
‫وهذا أمر باعتزال النساء حال احليض‪.‬‬
‫فإذا طهرت املرأة من احليض جاء األمر بإتياهنا‪.‬‬
‫ولكن هذا األمر يدل على اإلباحة‪.‬‬
‫وهو قوله تعاىل‪َ { :‬فِإَذا َتَطَّه ْر َن َفْأُتوُه َّن }‪.‬‬
‫فبعد الطهر ال يلزم الرجل أن يأيت أهله بل يستحب‪.‬‬
‫وهذا القول األول‪.‬‬
‫والقول الثاين قول احلنفية ورواية عن أمحد‪.‬‬
‫واختارها ابن حزم أن األمر بعد احلظر يفيد الوجوب‪.‬‬
‫يبقى األول يفيد اإلباحة‪.‬‬
‫والثاين يفيد الوجوب‪.‬‬
‫ويستدلون على ذلك‪:‬‬
‫‪101‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬فإذا أقبلت احليض فاتركي الصالة‪ ،‬فإذا ذهب قدرها‬
‫فاغسلي عنك الدم وصلي"‪.‬‬
‫قالوا إن األمر للمستحاضة بالصالة بعد هنيها عنها يدل على الوجوب وليس على‬
‫اإلباحة‪.‬‬
‫والقول الثالث‪ :‬أن األمر بعد احلظر عاد إىل ما كان عليه قبله‪.‬‬
‫وهو قول‪ [ :‬القاضي أيب يعلى وأيب الطيب الطربي والشرياذي ] وغريهم‪.‬‬
‫وكذلك عليه أكثر الفقهاء وكل املتأخرين من األصوليني‪.‬‬
‫وهو الذي اختاره شيخنا حفظه اهلل‪.‬‬
‫وهذا مجعا بني أدلة الفريقني‪.‬‬
‫فال ميكن محل الصيد على الوجوب‪.‬‬
‫وال ميكن محل الصالة على اإلباحة‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬هذا القول هو الصحيح مجعا بني األدلة وعمال هبا مجيعها‪ ،‬أن األمر بعد‬
‫احلظر عاد إىل ما كان عليه‪.‬‬
‫فالصيد مباح‪ ،‬فنهي عنه مث أمر به‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬عاد إىل اإلباحة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الصالة واجبة مث هنيت املستحاضة عنها أو احلائض مث أمرت هبا‪.‬‬


‫فيعود إىل الوجوب‪.‬‬
‫وهنا كما قلنا قبل ذلك‪:‬‬
‫أن األمر املطلق يقتضي الفورية كما بيننا‪ ،‬وكما أمر اهلل عز وجل وجاءت األدلة‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫ويستدل هلذا بأن اهلل عز وجل أنكر على إبليس عدم امتثال األمر فورا‪.‬‬
‫كما قال تعاىل‪َ { :‬قاَل َم ا َم َنَعَك َأاَّل َتْس ُج َد ِإْذ َأَم ْر ُتَك ۖ َقاَل َأَنا َخ ْيٌر ِّم ْنُه َخ َلْق َتيِن ِم ن‬
‫َّناٍر َو َخ َلْق َتُه ِم ن ِط ٍني }‪.‬‬
‫فلما مل يسجد إبليس أنكر اهلل عز وجل عليه‪.‬‬
‫وملا أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم الصحابة أن يتحللوا يف صلح احلديبية ومل‬
‫يستجيبوا غضب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وملا أمرهم أن يتحللوا يف احلج وتكاسلوا أرادوا أن يظلوا على إحرامهم حىت‬
‫يفرغوا من احلج‪.‬‬
‫فلما تباطؤوا قال افعلوا ما أمرتكم فلوال أين سقت اهلدي لفعلت مثل الذي أمرتكم‬
‫به ولكن ال حيل مين حرام حىت يبلغ اهلدي حمله‪.‬‬
‫فهذا ما يستدل به العلماء على أن األمر يقتضي الفورية ‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث القاعدة الثانية‪:‬‬


‫األمر املطلق ال يدل على التكرار إال بدليل‬
‫يعين إذا جاء األمر من النيب صلى اهلل عليه وسلم أو من الشرع فإنه يقتضي عدم‬
‫التكرار إال إذا جاء دليل يدل على ذلك‪.‬‬
‫فالنيب صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬يا أيها الناس قد فرض اهلل عليكم احلج‬
‫فحجوا"‪ ،‬فقال رجل‪ :‬أكل عام يا رسول اهلل؟ فسكت حىت قاهلا ثالثا‪ ،‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لو قلت نعم لوجبت وملا استطعتم"‪ ،‬مث قال‪" :‬ذروين ما‬
‫تركتكم"‪.‬‬
‫فهذا أمر من اهلل عز وجل ومن نبيه صلى اهلل عليه وسلم أن يأمر الناس باحلج‪ ،‬أن‬
‫اهلل كتب أو فرض عليكم احلج فحجوا‪.‬‬
‫فهذا األمر يقتضي عدم التكرار إال إذا تكرر األمر‪.‬‬
‫كما يف قوله تعاىل‪ { :‬الَّز اِنَيُة َو الَّز ايِن َفاْج ِلُد وا ُك َّل َو اِح ٍد ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْلَد ٍة }‬
‫هذا أمر‪ ،‬لكن إذا تكرر الزنا تكرر اجللد إذا كان بكرا‪.‬‬
‫هذا ملخص األمر‪.‬‬
‫و بذلك تنتهي هذه احملاضرة‪ ،‬ويبقى لنا بعض األسئلة‪.‬‬

‫السؤال األول‪:‬‬
‫‪104‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫عرف األمر لغة واصطالحا‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪:‬‬
‫هل األمر يقتضي الوجوب؟ مع بيان الدليل‪.‬‬

‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫اذكر مع التمثيل صيغ الوجوب‪.‬‬

‫السؤال الرابع‪:‬‬
‫هل األمر بعد النهي يرجع إىل الوجوب أم إىل اإلباحة؟‬
‫هذا‪ ،‬وسبحانك اللهم وحبمدك نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫‪.‬والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‬

‫‪105‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس الثاني والعشرون‬

‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬


‫احملاضرة الثانية والعشرون‪ :‬النهي‬
‫إن احلمد هلل تعاىل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممد عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪.‬‬
‫أما بعد؛‬

‫‪106‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أيها األحبة يف اهلل؛ سوف نتكلم اليوم عن القاعدة األخرية من قواعد فهم النصوص‬
‫الشرعية أال وهي ‪ :‬النهي‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الحادي عشر‪:‬‬
‫النهي للتحريم إال بقرينة صارفة إلى غيره‪ ،‬وله صيغ مشهورة‬

‫كما تكلمنا يف اللقاء السابق عن األمر وتعريفه وصيغه‪.‬‬


‫قال‪ :‬النهي للتحرمي‪.‬‬
‫والنهي يف اللغة‪ :‬املنع‪.‬‬
‫يقال هناه عن كذاأي منعه عنه‪.‬‬
‫ومنه مًس ي العقل هنية ألنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما خيالف الصواب‪ ،‬ومينعه‬
‫عنه‪ ،‬وهو ضد األمر ‪.‬‬
‫والنهي اصطالحا‪ :‬طلب الكف عن الفعل على وجه االستعالء (ال تفعل)‬
‫والنهي للتحرمي يف األصل‪:‬‬
‫أنه إذا جاء هني من الشرع يقتضي التحرمي وال ُيصرف عنه إال بقرينة‪.‬‬
‫وهذا باتفاق األئمة األربعة رمحهم اهلل‪.‬‬
‫ويستدلون لذلك بعدة أدلة منها‪:‬‬
‫‪107‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قوله تعاىل‪َ { :‬و َم ا آَتاُك ُم الَّر ُس وُل َفُخ ُذ وُه َو َم ا َنَه اُك ْم َعْنُه َفانَتُه وا }‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫أن اهلل عز وجل أمر باالنتهاء عما هنى عنه رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فدل على أن املنهي عنه على سبيل احلتم واإللزام بالرتك‪.‬‬
‫واهلل عز وجل قال بصيغة النهي عن احملرمات‪.‬‬
‫فقال تعاىل‪ُ { :‬قْل َتَعاَلْو ا َأْتُل َم ا َح َّر َم َر ُّبُك ْم َعَلْيُك ْم ۖ َأاَّل ُتْش ِر ُك وا ِبِه َش ْيًئاۖ َو ِباْلَو اِلَد ْيِن‬
‫ِح‬ ‫ٍق‬
‫ِإْح َس اًناۖ َو اَل َتْق ُتُلوا َأْو اَل َدُك م ِّم ْن ِإْم اَل ۖ ْحَّنُن َنْر ُز ُقُك ْم َو ِإَّياُه ْم ۖ َو اَل َتْق َر ُبوا اْلَف َو ا َش‬
‫ا َظ ِم ا ا َط ۖ اَل ْق ُلوا الَّنْف اَّليِت َّر الَّل ِإاَّل ِبا ِّق ۚ َٰذ ِلُك َّصاُك م ِبِه‬
‫ْم َو‬ ‫َس َح َم ُه َحْل‬ ‫َم َه َر ْنَه َو َم َب َن َو َت ُت‬
‫َلَعَّلُك ْم َتْع ِق ُلوَن }‪.‬‬
‫فهذا هني من الشرع عن ارتكاب احملرمات‪.‬‬
‫وكما جاء يف السنة من حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أنه قال‪" :‬دعوين ما تركتكم‪ ،‬إمنا هلك من كان قبلكم بسؤاهلم واختالفهم‬
‫على أنبيائهم‪ ،‬فإذا هنيتكم عن شيء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما‬
‫استطعتم"‪.‬‬
‫فهنا بني النيب صلى اهلل عليه وسلم وجوب الرتك عند النهي فقال‪" :‬فإذا هنيتكم عن‬
‫شيء فاجتنبوه "‬

‫‪108‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك داللة اللغة تدل على أن‪ :‬النهي ينبغي أن يرتك وأن فاعله يوصف باملخالف‬
‫ويستحق العقوبة‪.‬‬
‫وسوف يأيت ذلك تفصيال يف صيغ النهي‪.‬‬
‫فقال حفظه اهلل‪:‬‬
‫النهي للتحرمي إال بقرينة صارفة إىل غريه‪.‬‬
‫أي تصرفه إىل الكراهة‪.‬‬
‫كحديث الرباء أن النيب صلى اهلل عليه وسلم هنى عن الصالة يف َمَبارك اإلبل فقال‪:‬‬
‫"ال تصلوا يف َمَبارك اإلبل"‪.‬‬
‫وأمر بالصالة يف َمَبارك الغنم فقال‪:‬‬
‫"صلوا فيها فإهنا بركة"‪.‬‬
‫فهنا قال العلماء‪:‬‬
‫النهي ال يقتضي التحرمي‪ ،‬إمنا يقتضي الكراهة فقط‪.‬‬
‫أي يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال تصلوا"‪ ،‬وهذا أمر (ال تفعلوا)‪" ،‬ال تصلوا يف‬
‫َم بَارك اإلبل"‬

‫‪109‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫لكن جاء عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬األرض كلها مسجد إال املقربة‬
‫واحلمام"‪.‬‬
‫وليس فيها َمَبارك اإلبل‪.‬‬
‫فدل على أن النهي هنا عن الصالة فيها ليس على التحرمي وإمنا هو على الكراهة‪.‬‬
‫وكذلك حينما هنى النيب صلى اهلل عليه وسلم كما يف البخاري ومسلم‪" :‬أن يسافر‬
‫بالقرآن إىل أرض العدو"‪.‬‬
‫واستدل البخاري‪:‬‬
‫بفعل الصحابة أهنم سافروا بالقرآن‪.‬‬
‫وفعل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬سافروا وهم يعلمون ويعّلمون القرآن‪.‬‬
‫فدل على أن األمر للكراهة وليس للتحرمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وله صيغ مشهورة‪ ،‬كما سبق يف األمر له صيغ مشهورة‪ ،‬كذلك النهي له‬
‫صيغ مشهورة‪.‬‬
‫قال العلماء‪:‬‬
‫بل للنهي صيغة واحدة أصلية‪ ،‬وباقي الصيغ فرعية‪.‬‬
‫والصيغة األصلية هي‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫[ الفعل املضارع اجملزوم ب(ال) الناهية ]‬


‫(ال تفعل) هذه هي األصل‪.‬‬
‫كما سبق يف اآلية‪.‬‬
‫يف قوله تعاىل‪ُ { :‬قْل َتَعاَلْو ا َأْتُل َم ا َح َّر َم َر ُّبُك ْم َعَلْيُك ْم ۖ َأاَّل ُتْش ِر ُك وا ِبِه َش ْيًئاۖ ‬
‫َو ِباْلَو اِلَد ْيِن ِإْح َس اًناۖ َو اَل َتْق ُتُلوا َأْو اَل َد ُك م ِّم ْن ِإْم اَل ٍق } اآلية‪.‬‬
‫فهنا هنى اهلل عز وجل عن فعل احملرمات‪ ،‬ومجلة من النواهي تقتضي التحرمي‪.‬‬
‫أي ال تفعلوا‪.‬‬

‫ومثال ذلك أيضا قوله تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اَل َتْق َر ُبوا الَّصاَل َة َو َأنُتْم ُس َك اَر ٰى‬
‫َح ٰىَّت َتْع َلُم وا َم ا َتُقوُلوَن }‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اَل َحُتِّر ُموا َطِّيَباِت َم ا َأَح َّل الَّلُه َلُك ْم َو اَل َتْع َتُد واۚ ‬
‫ِإَّن الَّلَه اَل ِحُي ُّب اْلُم ْع َتِديَن }‪.‬‬
‫ال تقربوا الصالة وأنتم سكارى‪.‬‬
‫أي (ال تفعلوا)‬
‫قوله تعاىل‪ { :‬اَل َحُتِّر ُموا َطِّيَباِت َم ا َأَح َّل الَّلُه َلُك ْم َو اَل َتْع َتُد وا }‬
‫فأي هني يقتضي التحرمي‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وهناك صيغ فرعية تدل على النهي أيضا منها‪:‬‬


‫صيغ النهي الصرحية‪:‬‬
‫َّل‬ ‫ِن اْلَف َش اِء اْل نَك ِر اْل ْغِي ۚ ِع‬
‫مثل قوله تعاىل‪َ { :‬و َيْنَه ٰى َع ْح َو ُم َو َب َي ْم َع ْم‬
‫ُك‬ ‫َل‬ ‫ُك‬‫ُظ‬
‫َتَذ َّك ُر وَن }‪.‬‬
‫(وينهى) عن الفحشاء واملنكر والبغي‪.‬‬
‫كذلك صيغ الزجر‪.‬‬
‫إذا زجر القرآن أو زجرت السنة عن شيء فهو حمرم‪.‬‬
‫كما يف حديث جابر أنه سئل عن مثن الكلب والسنور فقال‪" :‬زجر النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم عن ذلك كله"‪.‬‬
‫أي هنى‪.‬‬
‫وكذلك صيغ األمر باالنتهاء‪.‬‬
‫كقوله تعاىل ‪َ { :‬و اَل َتُقوُلوا َثاَل َثٌةۚ انَتُه وا }‪.‬‬
‫وكما جاء يف السنة من حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يأيت الشيطان أحدكم فيقول‪ :‬من خلق كذا من خلق كذا‬
‫حىت يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعْذ باهلل ولينتِه"‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك صيغة األمر بالرتك‪.‬‬


‫ِر‬ ‫اَل‬ ‫اَأْل‬ ‫ا‬ ‫اَأْلن‬ ‫اْل ِس‬ ‫ا‬ ‫ا‬‫َمَّن‬‫ِإ‬ ‫وا‬ ‫آ‬ ‫ي‬ ‫كقوله تعاىل‪ { :‬يا َأُّي ا اَّلِذ‬
‫ُم ْج ٌس‬ ‫ْز‬ ‫ْم ُر َو َم ْي ُر َو َص ُب َو‬‫َخْل‬ ‫ُن‬ ‫َه َن َم‬
‫ِّم ْن َعَم ِل الَّش ْيَطاِن َفاْج َتِنُبوُه َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن }‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬و َيْس َأُلوَنَك َعِن اْلَم ِح يِض ُق ُه َأًذى َفاْعَتِز ُلوا الِّن ا يِف‬
‫َس َء‬ ‫ْل َو‬
‫اْلَم ِح يِض }‪.‬‬
‫وكحديث أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫"اجتنبوا السبع املوبقات‪ ،‬قالوا يا رسول اهلل وما هن؟ قال‪ :‬الشرك باهلل‪ ،‬والسحر‪،‬‬
‫وقتل النفس اليت حرم اهلل إال باحلق‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬والتويل يوم‬
‫الزحف‪ ،‬وقذف احملصنات املؤمنات الغافالت"‪.‬‬
‫فهنا قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬اجتنبوا)‬
‫أي انتهوا هذا أمر بالرتك‪.‬‬
‫وكذلك كل ما رتب عليه الشرع عقوبة‪ ،‬أو وعيد دنيوي أو أخروي كعقوبة‬
‫احلدود‪ .‬فقال اهلل عز وجل‪َ { :‬و الَّس اِر ُق َو الَّس اِر َقُة َفاْقَطُعوا َأْيِد َيُه َم ا }‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪ { :‬الَّز اِنَيُة َو الَّز ايِن َفاْج ِلُد وا ُك َّل َو اِح ٍد ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْلَد ٍة }‪.‬‬
‫فاملقصود منها النهي عن الزنا‬
‫وكذلك التوعد بالعقاب‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كقوله تعاىل‪َ { :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اَّتُقوا الَّلَه َو َذُر وا َم ا َبِق َي ِم َن الِّر َبا ِإن ُك نُتم‬
‫و‬ ‫ُك‬ ‫َل‬ ‫ُت‬ ‫ن‬ ‫ِإ‬ ‫ۖ ‬ ‫ُّم ْؤ ِمِن َفِإن ْف ُلوا َفْأَذُنوا ٍب ِّم الَّلِه وِلِه‬
‫َحِبْر َن َو َر ُس َو ُتْب ْم َف ْم ُرُء ُس‬ ‫َني ْمَّل َت َع‬
‫َأْم َو اِلُك ْم اَل َتْظِلُم وَن َو اَل ُتْظَلُم وَن }‪.‬‬
‫فهذا توعد من اهلل عز وجل بأن من مل ينته عن أكل الربا‪ ،‬فسوف حياربه اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬وما رأينا آكل ربا إال وقد حمق اهلل ماله وبركته‪ ،‬وعاد عليه باخلزي‬
‫واخلسران‪.‬‬
‫وعن جابر رضي اهلل عنه عن ابن مسرة قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"لينتهني أقوام يرفعون أبصارهم إىل السماء يف الصالة أو ال ترجع إليهم"‪.‬‬
‫فهذا توعد بالعقاب‪.‬‬
‫وكقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬لينتهني أقوام عن ودعهم اجلمعات أو ليختمن اهلل‬
‫على قلوهبم وليكونوا من الغافلني"‪.‬‬
‫كذلك ترتيب اللعنة على الفعل‪ ،‬فإهنا تقتضي النهي‪.‬‬
‫ُك َّف ا ُأوَٰلِئَك َل ِه َل َنُة الَّلِه‬ ‫ِذ‬
‫َع ْي ْم ْع‬ ‫كقوله تعاىل‪ { :‬إَّن اَّل يَن َك َف ُر وا َو َم اُتوا َو ُه ْم ٌر‬
‫َو اْلَم اَل ِئَك ِة َو الَّناِس َأَمْجِعَني }‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي اهلل عنها عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال يف مرضه الذي‬
‫مات فيه‪" :‬لعن اهلل اليهود والنصارى اختذوا قبور أنبيائهم مساجد"‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قالت‪ :‬ولوال ذلك ألبرز قربه غري أين أخشى أن ُيتخذ مسجدا"‪.‬‬
‫ففيه النهي عن بناء املساجد على القبور‪ ،‬أو بناء القبور يف املساجد‪.‬‬
‫وهذا اللعن يرتتب عليه أن يكون الفعل حراًم ا‪.‬‬
‫كذلك من صيغ اليت تدل على التحرمي‪ :‬تسمية الفعل‪[ :‬فسق‪ ،‬أو خطيئة] أو غري‬
‫ذلك‪.‬‬
‫لكن هذا يدل على التحرمي كما سبق يف تعريف احلرام والصيغ الدالة عليه‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثاني عشر‪:‬‬
‫إذا انصب النهي على ذات الفعل أو شرط من شروطه اقتضى الفساد والبطالن‪ ،‬وإذا‬
‫انصب على أمر مقارن ال يقتضي ذلك‬

‫هذا هو الضابط األخري يف قواعد فهم النصوص‪.‬‬


‫[النهي يفيد التحرمي]‪.‬‬
‫هذا هو األصل إذا كان جمردا‪ ،‬فال جيوز للمكلف فعل املنهي عنه‪ ،‬وإال حلقه اإلمث‬
‫واستحق العقاب يف اآلخرة‪.‬‬
‫وهذا جزاء أخروي‪.‬‬
‫أما يف الدنيا‪ ،‬فهل النهي يقتضي الفساد أم ال؟‬

‫‪115‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ففصل وفرق شيخنا حفظه اهلل فقال‪:‬‬


‫[إذا انصب النهي على ذات الفعل أو على شرط من شروطه اقتضى الفساد‬
‫والبطالن]‪.‬‬
‫ومجلة ذلك أن النهي عندما ينصب على ذات الفعل صار الفعل فاسدا وباطال‪ ،‬فال‬
‫ترتتب عليه اآلثار‪.‬‬
‫وهذا بال خالف بني العلماء‪.‬‬
‫فمن ذلك حديث أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها حينما قالت‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه أو ما ليس فيه فهو‬
‫رد"‪.‬‬
‫ويف رواية‪ " :‬من عمل عمال ليس عليه أمرنا فهو رد"‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬كل هني يقتضي الفساد‪.‬‬
‫يعين لو أن رجال أنشأ صالة وجعل يصلي يف كل ركعة ثالث ركعات وثالث‬
‫سجدات‪ ،‬زيادة يف اخلري‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬هذه الصالة باطلة‪ ،‬وال أجر لك فيها يف اآلخرة‪.‬‬
‫ملاذا ؟‬
‫ألنك أتيت بشيء وأمر مل يفعله النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك حديث أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪" :‬ملا جاء بالل إىل النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بتمر برين‪ ،‬فقال‪ :‬من أين هذا؟ قال بالل‪ :‬كان عندنا متر رديء فبعت‬
‫منه صاعني بصاع لنطعم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه عند ذلك‪:‬‬
‫أوه أوه عني الربا عني الربا (ال تفعل) ولكن إذا أردت أن تشرتي هذا فبع التمر‬
‫ببيع آخر مث اشرته"‪.‬‬
‫ففهم الصحابة أن املراد بذلك فساد البيع‪ ،‬ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم أمر برده‪.‬‬
‫ومن ذلك أي من املنهيات اليت تقتضي الفساد والبطالن وأن النهي منصب على‬
‫ذات الفعل‪.‬‬

‫قوله تعاىل‪َ { :‬و اَل َتنِكُح وا َم ا َنَك َح آَباُؤ ُك م ِّم َن الِّنَس اِء ِإاَّل َم ا َقْد َس َلَف ۚ ِإَّنُه َك اَن‬
‫َفاِح َش ًة َو َم ْق ًتا َو َس اَء َس ِبياًل }‪.‬‬
‫يف هذه اآلية النهي عن أن يتزوج الرجل بامرأة أبيه‪ ،‬فلو فعل وعقد على امرأة أبيه‪،‬‬
‫نقول هنا‪ :‬العقد باطل‪ ،‬ويأمث فاعله وال ترتتب عليه آثار‪.‬‬
‫ألن النهي منصب على ذات الفعل وهو‪( :‬نكاح زوجة األب)‪.‬‬
‫ومن ذلك حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"هنى عن صيام يومني‪ :‬يوم األضحى ويوم الفطر"‪.‬‬
‫فال جيوز ألحد صيامهما‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فلو أن رجال كان عليه كفارة صيام شهرين فجاء يوم العيد يف وسط الشهرين‪.‬‬
‫نقول‪ :‬يفطر هذا اليوم مث يكمل الكفارة‪.‬‬
‫طيب ماذا لو صام ؟‬
‫نقول‪ :‬صيامك باطل وال جيزئ‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن النهي منصب على ذات الفعل (ال يصومن يوم الفطر ويوم األضحى)‪،‬‬
‫كذلك هنى النيب صلى اهلل عليه وسلم عن مثن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن‪.‬‬
‫فلما هنى عن مثن الكلب قال العلماء‪ :‬إن بيع الكالب باطل‪ ،‬وأن النهي منصب‬
‫على شرط من شروط البيع‪.‬‬
‫قال أيضا صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"أميا امرأة نكحت بغري إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل"‪،‬‬
‫فلو تزوجت املرأة بغري إذن الويل فالنكاح باطل‪ ،‬وال ُيعتد به على الراجح من أقوال‬
‫أهل العلم‪.‬‬
‫لذلك بّو ب اإلمام البخاري يف صحيحه فقال‪:‬‬
‫[ باب‪ :‬ال نكاح إال بويل ]‬

‫‪118‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقوله تعاىل‪َ { :‬فاَل َتْع ُضُلوُه َّن }‬


‫وذكر حديث معقل بن يسار قال رمحه اهلل‪" :‬فدخل فيه الثيب وكذلك البكر‪.‬‬
‫وقال‪َ{ :‬و اَل ُتنِكُح وا اْلُم ْش ِر ِكَني َح ٰىَّت ُيْؤ ِم ُنوا }‬
‫وقال‪َ { :‬و َأنِكُح وا اَألَياَم ى ِم ْنُك ْم }‬
‫قال‪ :‬واألمثلة على ذلك كثرية‪.‬‬
‫قال‪ :‬أو شرط من شروطه‪.‬‬
‫أي من شروط صحة الفعل‪.‬‬
‫كقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال تقبل صالة بغري طهور وال صدقة من غلول"‪.‬‬
‫فمن صلى بال وضوء مع القدرة عليه فصالته باطلة‪ ،‬ألن النهي منصب على شرط‬
‫من شروط صحة الصالة‪.‬‬
‫أو صلى إىل غري القبلة مع معرفته هبا‪ ،‬فصالته باطلة‪.‬‬
‫أو صلى عريانا مع قدرته على سرت العورة‪ ،‬فصالته باطلة‪.‬‬
‫ومثاله كما ذكرنا يف قوله‪" :‬ال نكاح إال بويل"‪.‬‬
‫فهنا الويل شرط من شروط صحة النكاح‪.‬‬
‫ألن النكاح له‪ :‬ركنان‪ ،‬ومخسة شروط‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أما األركان فهي‪:‬‬


‫[ اإلجياب والقبول ]‬
‫وأما الشروط فهي‪:‬‬
‫[ الرضا‪ ،‬والتعيني‪ ،‬والويل‪ ،‬والشهود‪ ،‬واخللو من املوانع ]‪.‬‬
‫قوله‪ :‬اقتضى الفساد والبطالن‪.‬‬
‫أي الفساد والبطالن‪.‬‬
‫الفاسد والباطل ال فرق بينهما عند مجاهري العلماء إال يف مسألتني‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬يف احلج‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬يف النكاح‪.‬‬
‫فأما مسألة احلج‪:‬‬
‫فالفاسد يف احلج هو‪:‬‬
‫من فاته ركن من أركان احلج [ كعرفة‪ ،‬أو اإلحرام‪ ،‬أو جامع قبل التحلل األول ]‪.‬‬
‫فهنا نقول فسد احلج‪.‬‬
‫لكن جيب عليك املضي فيه حىت تنتهي من املناسك‪.‬‬
‫[ هذا الفاسد ]‬
‫‪120‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫خبالف الباطل‪.‬‬
‫فلو أن هذا الرجل ارتد عن اإلسالم يف عرفة‪.‬‬
‫نقول‪ :‬بطل حجك وال جيب املضي فيه‪،‬‬
‫بل خُي رج وال يدخل مكة‪.‬‬
‫وكذلك يف النكاح الفاسد ما فقد شرًطا من شروطه كنكاح املرأة بغري إذن وليها‪،‬‬
‫أو اخلالف يف عدد الرضعات‪.‬‬
‫[ فهذا فاسد ] ترتتب عليه آثاره‪.‬‬
‫امرأة ثيب أخذت بقول احلنفية‪ ،‬فتزوجت بغري ويل وهي بالغة عاقلة رشيدة‪ ،‬مث‬
‫أجنبت أبناء‪ ،‬مث مات الزوج‪.‬‬
‫يقول العلماء‪:‬‬
‫وإن كنا برجحان فساد النكاح‪ ،‬إال أن اآلثار مرتتبة عليه‪.‬‬
‫فينسب األوالد إىل الرجل‪ ،‬وترث املرأة منه وتعتد‪.‬‬
‫هذا بالنسبة للفاسد ألنه فقد شرًطا‪.‬‬
‫وقلنا ركنان‪ :‬اإلجياب والقبول‪،‬‬
‫ومخسة شروط منها‪ :‬الويل‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك لو تزوج رجل بامرأة مث ظهر أنه رضع عليها عدة رضعات (أكثر من مخس‬
‫رضعات معلومات)‪.‬‬
‫فهنا ُيفرق بينهما لفساد النكاح‪.‬‬
‫لكن ترتتب عليه اآلثار يف نسبة األوالد إليه‪.‬‬
‫أما من تزوج بامرأة أبيه فهذا نكاح باطل‪ ،‬وال ترتتب عليه اآلثار‪.‬‬
‫طيب ما علة أو كيف نفرق بني الفاسد والباطل؟‬
‫قال العلماء‪:‬‬
‫الفاسد‪ :‬يف النكاح ما اختلف العلماء يف فساده‪.‬‬
‫والباطل‪ :‬ما أمجع العلماء على فساده‪.‬‬
‫يعين أمجع العلماء على فساد الزواج‪:‬‬
‫باألم واألخت والعمة واخلالة وزوجة األب‪ ،‬واحملرمات السبع‪.‬‬
‫كذلك أمجعوا على بطالن من تزوج أخته من الرضاعة وهو يعلم‪.‬‬
‫لكن اختلفوا يف من تزوج‪:‬‬
‫بال ويل‬
‫أو بال رضا‬
‫‪122‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أو بال شروط خالفا للحنفية‪.‬‬


‫مث قال حفظه اهلل‪:‬‬
‫[ وإذا انصب على أمر مقارن ال يقتضي ذلك ]‬
‫أي ال يقتضي الفساد وال التحرمي‪.‬‬
‫كالصالة يف األرض املغصوبة‪.‬‬
‫وكالصالة يف الثوب املغصوب‪.‬‬
‫وكالوضوء باملاء املغصوب‪.‬‬
‫وكالصالة يف ثوب من احلرير للرجال‪،‬‬
‫وكبيع النجش‪.‬‬
‫أو بيع املّصراة‪.‬‬
‫أو البيع والشراء يف املسجد‪،‬‬
‫((الفعل صحيح والفاعل آمث))‬
‫كقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬فقولوا‪ :‬ال أربح اهلل جتارتك"‪.‬‬
‫فهذا قلنا بصحة الفعل النفكاك اجلهة‪،‬‬
‫فالفعل صحيح واإلمث على الفاعل‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وهذا ما يسميه العلماء بقاعدة [ انفكاك اجلهة ]‬


‫هبذا ينتهي باب قواعد فهم النصوص الشرعية وبقي األسئلة‪:‬‬

‫السؤال االول‪:‬‬
‫هل النهي املطلق يقتضي التحرمي؟‬
‫مع بيان الدليل على ما تقول‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪:‬‬
‫ما هي صيغ النهي املشهورة؟‬

‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫ما الفرق بني الفساد والبطالن؟‬

‫السؤال الرابع‪:‬‬
‫ما هي اآلثار املرتتبة وما الفرق بني هذين املثالني؟‬
‫رجل تزوج امرأة بغري ويل‪،‬‬
‫وآخر تزوج بأخته الشقيقة‪.‬‬
‫ما الفرق بني هذا وذاك؟‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪.‬والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‬

‫الدرس الثالث والعشرون‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم؛‬
‫احملاضرة الثالثة والعشرون‪ :‬النسخ‬
‫إن احلمد هلل تعاىل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪ ،‬أما بعد؛‬
‫أيها األحبة يف اهلل طلبة وطالبات كلية العلوم الشرعية والعربية‪.‬‬
‫مرحبا بكم يف هذا اللقاء الذي نتحدث فيه عن (( النسخ ))‬

‫‪125‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وما زلنا يف حماضرات أصول الفقه‪.‬‬


‫وهذه هي احملاضرة الثالثة والعشرون‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬

‫الباب العاشر‪ :‬النسخ‬


‫النسخ يف اللغة‪ :‬هو اإلزالة والنقل‪.‬‬
‫كما يقال‪ :‬نسخت الشمس الظل أي أزالته‪.‬‬
‫وكقوله‪ :‬زالت الريح األثر أي أخفته‪.‬‬
‫ِل‬ ‫ِتِه‬ ‫ِك‬ ‫ِق‬
‫كما قال تعاىل‪َ { :‬فَينَس ُخ الَّلُه َم ا ُيْل ي الَّش ْيَطاُن َّمُث ْحُي ُم الَّلُه آَيا ۗ َو الَّلُه َع يٌم‬
‫َح ِكيٌم }‬
‫وقيل‪ :‬معناه النقل‪.‬‬
‫من قوهلم نسخت ما يف الكتاب أي نقلته‪.‬‬
‫كما قال تعاىل‪ِ { :‬إَّنا ُك َّنا َنْس َتنِس ُخ َم ا ُك نُتْم َتْع َم ُلوَن }‬
‫ومعىن النسخ يف االصطالح‪ :‬هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي مرتاٍخ ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬خطاب دال على ارتفاع احلكم الثابت باخلطاب املتقدم‪.‬‬
‫يعين كان عندنا مسألة (كاستقبال القبلة)‬
‫‪126‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫يف بداية اإلسالم كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يستقبل بيت املقدس مث بعد سبعة‬
‫عشر أو مثانية عشر شهرا نزل قوله تعاىل‪َ { :‬فَو ِّل َو ْجَه َك َش ْطَر اْلَمْس ِج ِد اَحْلَر اِۚم }‬
‫فهذه اآلية نسخت احلكم السابق وصار النيب صلى اهلل عليه وسلم والصحابة وكل‬
‫املسلمون يستقبلون البيت احلرام إىل اآلن‪.‬‬
‫فهذا احلكم املتأخر نسخ احلكم األول‬
‫هذا معىن الكالم‪ ،‬وسوف يأتينا يف بيان األحكام‪.‬‬
‫والنسخ ثابت يف الكتاب ويف السنة‬
‫وجاء النسخ يف الوحي واهلل عز وجل بني ذلك‬
‫فمنه‪ :‬أي مما وقع‪،‬‬
‫قول اهلل عز وجل {َم ا َننَس ْخ ِم ْن آَيٍة َأْو ُننِس َه ا َنْأِت َخِبٍرْي ِّم ْنَه ا َأْو ِم ْثِلَه اۗ َأْمَل َتْع َلْم َأَّن‬
‫الَّلَه َعَلٰى ُك ِّل َش ْي ٍء َقِد يٌر }‬
‫وقوله تعاىل {ْمَيُح و الَّلُه َم ا َيَش اُء َو ُيْثِبُت ۖ َو ِعنَد ُه ُأُّم اْلِكَتاِب }‬
‫وغريها من اآليات اليت يبني اهلل عز وجل فيها أنه ميكن أن يبدل حكًم ا مكان‬
‫حكم آخر‪.‬‬
‫وكذلك جاء النسخ يف السنة‬

‫‪127‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كحديث ُبريدة رضي اهلل عنه أنه قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "هنيتكم‬
‫عن زيارة القبور فزوروها"‬
‫كان قد هنى عن زيارة القبور‪ ،‬مث رخص صلى اهلل عليه وسلم يف ذلك فقال‬
‫فزروها‪ ،‬فجاءت اللفظة األخرية ناسخة للحكم األول‪.‬‬
‫ولكن قد يقول قائل ما احلكمة من النسخ؟‬
‫يقول الشيخ ابن عثيمني رمحه اهلل تعاىل ما ملخصه‪ :‬للنسخ حكم متعددة منها‪:‬‬
‫مراعاة مصاحل العباد بتشريع ما هو أنفع هلم يف دينهم ودنياهم‪:‬‬
‫كمسألة حتويل القبلة‪ ،‬لكي ُيعلم املسلم من غري املسلم‪.‬‬
‫ألنه عندما كانوا يستقبلون بيت املقدس‪ ،‬فكان ذلك قبلة املسلمني والنصارى‬
‫واليهود‪ .‬فال ُيعرف هذا من ذاك‪ ،‬فلما استقبل املسلمون املسجد احلرام تبني املسلم‬
‫من غري املسلم‪.‬‬
‫احلكمة الثانية‪ :‬التطور التشريعي حىت يظهر الكمال‪:‬‬
‫كالصالة ُفرضت ركعتني ركعتني يف أول اإلسالم‪ ،‬مث بعد ذلك زيدت يف احلضر‬
‫وبقيت يف السفر‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬اختبار املكلفني باستعدادهم لقبول التحول من حكم إىل حكم آخر مع‬
‫رضاهم‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كمسألة حترمي اخلمر نزلت شيئا فشيئا حىت قبلها الناس ورضوها‪.‬‬
‫كذلك اختبار املكلفني بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إىل أخف كاجلهاد‪.‬‬
‫ولذلك جاء يف شريعة موسى النسخ‬
‫وجاء يف شريعة عيسى النسخ‬
‫وجاء يف شريعة حممد صلى اهلل عليه وسلم النسخ‪،‬‬
‫حىت أن الشرائع ينسخ بعضها بعًض ا‪،‬‬
‫فشريعة عيسى عليه السالم نسخت شريعة موسى‬
‫وشريعة حممد صلى اهلل عليه وسلم نسخت مجيع الشرائع‪.‬‬
‫لكن هناك أمور ال يدخلها النسخ‪:‬‬
‫كالتوحيد‪ ،‬وأصول اإلميان ال يدخلها النسخ‪.‬‬
‫لقوله تعاىل {َو اْع ُبُد وا الَّلَه َو اَل ُتْش ِر ُك وا ِبِه َش ْيًئا}‬
‫فال ميكن أن تأيت آية أخرى تقول ال تعبدوا اهلل به وأشركوا به‪،‬‬
‫فهذا من أصول اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر‪.‬‬
‫كذلك ال يقع النسخ يف األخبار‪،‬‬
‫إذا جاء خرب وجاء أمر يف أمور الغيب أو يف غريها ال ميكن أن ُينسخ‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫لقوله تعاىل {َو َج اَء َر ُّبَك َو اْلَم َلُك َص ًّف ا َص ًّف ا } فال ميكن أن يأيت نص يقول أن اهلل‬
‫ال جييء‪ ،‬ونقول إن هذا نسخ هذا‪.‬‬
‫كذلك ال يقع النسخ يف أصول أو نصوص األخالق والفضائل‪ ،‬فاهلل عز وجل يأمر‬
‫باإلحسان ويأمر بالعدل ويأمر بالصلة وال ميكن أن يأيت نص يأمر بعكس ذلك‪ ،‬أو‬
‫يأمر مبساوئ األخالق‪ ،‬أو بقطيعة الرحم‬
‫كذلك ال يقع النسخ يف النهي عن مساوئ األخالق كالفجور والكذب والبخل‪،‬‬
‫فال ميكن أن يأيت أمر يأمر بذلك‪.‬‬
‫وملخص هذا الباب مجعه شيخنا حفظه اهلل يف ستة ضوابط فقال‪:‬‬
‫الباب العاشر‪ :‬النسخ‬
‫وفيه ستة ضوابط ‪:‬‬
‫الضابط األول‪ :‬النسخ يقع في نصوص الكتاب والسنة‬

‫هذه أول مسألة معنا يف لقاء الليلة‬


‫النسخ يقع يف نصوص الكتاب والسنة‬
‫معىن هذا الكالم أنه قد جاءت آية يف القرآن نزلت‪ ،‬مث ُنسخت هذه اآلية‪.‬‬
‫وأول مسألة هو أن القرءان ُينسخ بالقرآن‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وال خالف بني أهل العلم يف جواز ذلك كما نقله الشوكاين رمحه اهلل‪.‬‬
‫وكذلك ال خالف يف أن السنة تنسخ السنة‪.‬‬

‫أما نسخ القرآن بالقرآن فآية املصابرة يف قوله تعاىل‪ِ { :‬إن َيُك ن ِّم نُك ْم ِعْش ُر وَن‬
‫ِذ‬ ‫ِل‬ ‫ِل ِم‬
‫َص اِبُر وَن َيْغ ُبوا اَئَتِنْي ۚ َو ِإن َيُك ن ِّم نُك م ِّم اَئٌة َيْغ ُبوا َأْلًف ا ِّم َن اَّل يَن َك َف ُر وا ِبَأَّنُه ْم َقْو ٌم‬
‫اَّل َيْف َق ُه وَن }‬
‫يف هذه اآلية‪ :‬أن املسلم إذا وقع القتال ال جيوز له الفرار من أرض املعركة إال إذا‬
‫جتاوز العدد الذي يقاتله عشرة أشخاص‪ .‬يعين لو يقاتله مخسة أو ستة أو سبعة أو‬
‫مثانية أو حىت عشرة‪ ،‬ال يفر منهم‪.‬‬
‫يقاتل لوحده العشرة؟‬
‫نعم‪ ..‬هبذه اآلية {ِعْش ُر وَن َص اِبُر وَن َيْغِلُبوا ِم اَئَتِنْي }‪.‬‬
‫فإذا زادوا عن عشرة جاز له أن يفر منهم‬
‫مث نزل التخفيف فقال تعاىل‪{ :‬اآْل َن َخ َّف َف الَّلُه َعنُك ْم َو َعِلَم َأَّن ِفيُك ْم َض ْع ًف اۚ َفِإن‬
‫َيُك ن ِّم نُك م ِّم اَئٌة َص اِبَر ٌة َيْغِلُبوا ِم اَئَتِنْي ۚ َو ِإن َيُك ن ِّم نُك ْم َأْلٌف َيْغِلُبوا َأْلَف ِنْي ِبِإْذِن الَّلِهۗ ‬
‫َو الَّلُه َمَع الَّصاِبِر يَن }‪.‬‬
‫هذه تسمى آية التخفيف‪ .‬فبعدما كنت تقاتل عشرة جعلهم اهلل اثنني‬
‫فتقاتل واحًد ا‪ ،‬وتقاتل اثنني‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإذا جاء الثالث جاز لك أن تفر وترتكه‪.‬‬


‫فهذا ختفيف من اهلل عز وجل‬
‫ونسخت اآلية الثانية اآلية األوىل‬

‫ُك‬ ‫َّل‬ ‫ا‬ ‫ومثال ذلك قوله تعاىل {ُأِح َّل َلُك َل َلَة الِّص اِم الَّرَف ِإٰىَل ِن اِئُك ۚ َّن ِل‬
‫ُث َس ْم ُه ٌس ْم‬
‫َب‬ ‫َي‬ ‫ْم ْي‬
‫َو َأنُتْم ِلَباٌس ُهَّلَّن ۗ َعِلَم الَّلُه َأَّنُك ْم ُك نُتْم ْخَتَتاُنوَن َأنُفَس ُك ْم َفَتاَب َعَلْيُك ْم َو َعَف ا َعنُك ْم ۖ ‬
‫َفاآْل َن َباِش ُر وُه َّن َو اْبَتُغوا َم ا َك َتَب الَّلُه َلُك ْم ۚ َو ُك ُلوا َو اْش َر ُبوا َح ٰىَّت َيَتَبَنَّي َلُك ُم اَخْلْيُط‬
‫ِش‬ ‫ِإ‬ ‫ِد ِم‬ ‫ِط‬ ‫ِم‬
‫اَأْلْبَيُض َن اَخْلْي اَأْلْس َو َن اْلَف ْج ِر ۖ َّمُث َأُّمِتوا الِّص َياَم ىَل الَّلْيِل ۚ َو اَل ُتَبا ُر وُه َّن َو َأنُتْم‬
‫َعاِكُفوَن يِف اْلَم َس اِج ِدۗ ِتْلَك ُح ُد وُد الَّلِه َفاَل َتْق َر ُبوَه اۗ َك َٰذ ِلَك ُيَبُنِّي الَّلُه آَياِتِه ِللَّناِس‬
‫َلَعَّلُه ْم َيَّتُقوَن }‬
‫فكان الصيام يف بداية اإلسالم‪ ،‬أن الرجل إذا أفطر أو صلى العشاء أمسك إىل‬
‫غروب اليوم التايل‪ ،‬فبني اهلل عز وجل أنه جيوز له أن يأكل ويشرب إىل طلوع‬
‫الفجر‪.‬‬
‫وغريها من األدلة على ذلك‬
‫الثاين‪ :‬نسخ القرآن بالسنة‬
‫وذهب مجهور األصوليني إىل أنه جيوز نسخ القرآن بالسنة املتواترة‬

‫‪132‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وذهب الشافعي وأمحد إىل أنه ال جيوز نسخ القرآن بالسنة‪ .‬بل ال ينسخ القرآن إال‬
‫قرآن مثله‪.‬‬
‫وهذا الذي اختاره ابن قدامة‪ ،‬ومال إليه ابن تيمية‪.‬‬
‫ولكن يف احلقيقة الراجح ما عليه مجهور األصوليني‬
‫مث اختلف من أجاز نسخ القرآن بالسنة‪:‬‬
‫هل ينسخ بالسنة املتواترة فقط دون اآلحاد؟ أم ينسخ بسنة اآلحاد أيضا؟‬
‫على قولني ألهل العلم‪.‬‬

‫ومثلوا ولذلك بقوله تعاىل‪َ{ :‬و الاَّل يِت َيْأِتَني اْلَف اِح َش َة ِم ن ِّنَس اِئُك ْم َفاْس َتْش ِه ُد وا َعَلْيِه َّن‬
‫ِت‬ ‫ِس‬
‫َأْر َبَعًة ِّم نُك ْم ۖ َفِإن َش ِه ُد وا َفَأْم ُك وُه َّن يِف اْلُبُيو َح ٰىَّت َيَتَو َّفاُه َّن اْلَمْو ُت َأْو ْجَيَعَل الَّلُه‬
‫ُهَلَّن َس ِبياًل }‬
‫قال العلماء‪ :‬اتفق أهل التفسري على أن حد الزانيني احملصن وغري احملصن كان‬
‫احلبس واألذى املذكورين يف هذه اآلية‪.‬‬
‫مث نسخ ذلك عنهما باجللد لغري احملصن والرجم للمحصن‪:‬‬
‫حبديث عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى عليه وسلم‪:‬‬
‫"خذوا عين خذوا عين‪ ،‬قد جعل اهلل هلن سبيال‪ ،‬البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة‪،‬‬
‫والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثال ذلك أيضا قوله تعاىل‪ُ{ :‬ك ِتَب َعَلْيُك ْم ِإَذا َح َض َر َأَح َد ُك ُم اْلَمْو ُت ِإن َتَر َك‬
‫َخ ْيًر ا اْلَو ِص َّيُة ِلْلَو اِلَد ْيِن َو اَأْلْقَر ِبَني ِباْلَم ْع ُر وِف ۖ َح ًّق ا َعَلى اْلُم َّتِق َني }‬
‫فإنه منسوخ بالسنة املتواترة‪:‬‬
‫عن عمرو بن خارجة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إن اهلل أعطى كل ذي‬
‫حق حقه وال وصية لوارث"‬
‫وقيل بل نسخت بآية املواريث‪.‬‬
‫احلكم الثالث‪ :‬نسخ السنة بالسنة‬
‫وهذا أمجع العلماء على جوازه‪ ،‬وال فرق بني سنة اآلحاد واملتواترة يف أنه ينسخ‬
‫بعضه بعًض ا‪.‬‬
‫ومثال ذلك احلديث الذي مر يف أول الدرس‪ ،‬وهو حديث بريدة رضي اهلل عنه أنه‬
‫قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬هنيتكم عن زيارة القبور فزوروها‪ ،‬وهنيتكم‬
‫عن حلوم األضاحي فوق ثالث فأمسكوا ما بدا لكم‪ ،‬وهنيتهم عن النبيذ يف سقاء‬
‫فاشربوا يف األسقية كلها وال تشربوا مسكرا"‪.‬‬
‫فهذه سنن أو أحكام نسخت األحكام السابقة‬
‫ومن ذلك أيضا‬
‫‪134‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫حديث أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إمنا‬
‫املاء من املاء"‬
‫فمعىن هذا أن الرجل إذا جامع امرأته مث مل ينزل‪ ،‬فهنا نقول ليس عليه غسل‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫لقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إمنا املاء من املاء"‪ ،‬أي ال يغتسل إال إذا أنزل‬
‫املاء‪ ،‬سواء باالستمناء‪ ،‬أو باالحتالم‪ ،‬أو اجلماع‬
‫مث قال صلى اهلل عليه وسلم يف حديث أيب هريرة‪" :‬إذا جلس بني شعبها األربع مث‬
‫جهدها فقد وجب الغسل"‪.‬‬
‫ويف رواية‪" :‬وإن مل ُينزل"‪.‬‬
‫فصار هذا احلكم ناسخا للحكم األول‬
‫فمىت أتى الرجل امرأته وجب عليهما الغسل‪ ،‬وإن مل ينزل‪.‬‬
‫كذلك احلكم الرابع‪« :‬نسخ السنة بالقرآن »‪.‬‬
‫إذن عندنا‪:‬‬
‫نسخ القرآن بالقرآن‬
‫نسخ القرآن بالسنة‬

‫‪135‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫نسخ السنة بالسنة‬


‫نسخ السنة بالقرآن‬
‫والعلماء ميثلون لذلك حبديث استقبال القبلة‪:‬‬
‫فعن الرباء بن عازب رضي اهلل عنه قال‪" :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حنو‬
‫بيت املقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫حيب أن ُيوجه إىل الكعبة‪ ،‬فأنزل اهلل عز وجل {قد نرى تقلب وجهك يف السماء}‬
‫فتوجه حنو الكعبة"‬
‫يف هذا احلديث نقول‪ :‬إنه كان يستقبل بيت املقدس بالسنة مث نسخ هذا االستقبال‬
‫بالقرآن‪.‬‬
‫مث قال العلماء‪ :‬النسخ يف القرآن على ثالثة أوجه‪:‬‬
‫األول‪ :‬نسخ احلكم مع بقاء التالوة‬
‫كاآليات اليت مرت معنا‬

‫كقوله تعاىل مثال {َو الاَّل يِت َيْأِتَني اْلَف اِح َش َة ِم ن ِّنَس اِئُك ْم َفاْس َتْش ِه ُد وا َعَلْيِه َّن َأْر َبَعًة‬
‫ِّم نُك ْم ۖ َفِإن َش ِه ُد وا َفَأْم ِس ُك وُه َّن يِف اْلُبُيوِت َح ٰىَّت َيَتَو َّفاُه َّن اْلَمْو ُت َأْو ْجَيَعَل الَّلُه ُهَلَّن‬
‫َس ِبياًل }‬
‫هذه اآلية نسخت باحلديث‪:‬‬
‫‪136‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وبقوله تعاىل {الَّز اِنَيُة َو الَّز ايِن َفاْج ِلُد وا ُك َّل َو اِح ٍد ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْلَد ٍة}‬
‫أيضا هذه اآلية ُنسخت حكما وبقيت تالوًة‪.‬‬
‫الثاين‪« :‬نسخ التالوة مع بقاء احلكم‬
‫كما جاء يف حديث عمر من حديث ابن عباس‪ ،‬وهذا واهلل واقع بني األمة اآلن‬
‫وانتبه واستمع إىل هذا احلديث جيدا‬
‫واحلديث متفق عليه‪:‬‬
‫قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬قال عمر بن اخلطاب وهو جالس على منرب رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬إن اهلل قد بعث حممدا صلى اهلل عليه وسلم باحلق‪ ،‬وأنزل‬
‫عليه الكتاب‪ ،‬فكان مما أنزل عليه آية الرجم‪ ،‬قرأناها‪ ،‬ووعيناها‪ ،‬وعقلناها‪ ،‬فرجم‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ورمجنا بعده‪ ،‬فأخشى إن طال بالناس زمان أن‬
‫يقول قائل‪ ،‬ما جند الرجم يف كتاب اهلل‪ ،‬فيضل برتك فريضة أنزهلا اهلل‪ ،‬وإن الرجم‬
‫يف كتاب اهلل حق على من زىن إذا أحصن من الرجال والنساء‪ ،‬إذا قامت البينة‪ ،‬أو‬
‫كان احلبل‪ ،‬أو االعرتاف"‪.‬‬
‫هذا حديث متفق عليه‪.‬‬
‫واآلية غري موجودة يف املصحف مع ثبوت احلكم وهو الرجم للمحصن‪ ،‬كما رجم‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ماعًز ا والغامدية وغريمها‬

‫‪137‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولذلك ذكر بعض العلماء هذه اآليات‬


‫وبعضهم يقول مل تثبت بأثر صحيح‬
‫وبعضهم يقرأها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة)‪.‬‬
‫احلكم الثالث‪ :‬نسخ احلكم والتالوة‬
‫🔺 كما يف حديث عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬كان فيما أنزل من القرآن عشر‬
‫رضعات معلومات حيرمن‪ ،‬مث نسخن خبمس معلومات‪ ،‬فتويف رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"‬
‫أي أنه كان قد نزل قرآن ينص على أن عشر رضعات حيرمن‪.‬‬
‫ونسخت هذه اآلية حكما وتالوة خبمس رضعات معلومات‪،‬‬
‫فال جند اآلية وال جند احلكم‪.‬‬
‫لكن كيف نعرف أن هذا احلكم ناسخ أو منسوخ؟‬
‫نعرف ذلك بثالثة طرق‪:‬‬
‫الطريق األول‪ :‬داللة اللفظ عليه‬
‫كما يف احلديث "هنيتكم عن زيارة القبور فزوروها"‪.‬‬
‫سواء كان يف اللفظ أو يف لفظ آخر‬

‫‪138‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كحديث أيب هريرة قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول "توضؤوا مما‬
‫مّس ت النار"‪.‬‬
‫فجاء النسخ حبديث آخر‬
‫من حديث جابر قال‪" :‬كان آخر األمرين من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ترك‬
‫الوضوء مما غريت النار"‪.‬‬
‫كان آخر األمرين‪ ..‬فهذه داللة اللفظ‬
‫الطريقة الثانية‪« :‬قرينة يف سياق النص»‬

‫كما يف آية رجم الزاين يف قوله تعاىل‪َ{ :‬ح ٰىَّت َيَتَو َّفاُه َّن اْلَمْو ُت َأْو ْجَيَعَل الَّلُه ُهَلَّن‬
‫َس ِبياًل }‬
‫فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬خذوا عين خذوا عين‪ ،‬قد جعل اهلل هلن سبيال‪،‬‬
‫البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة‪ ،‬والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)‬
‫ففهم من السياق أن هذا احلديث نسخ اآلية‪ ،‬بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬قد جعل‬
‫اهلل هلن سبيال"‪.‬‬
‫الطريقة الثالثة‪« :‬معرفة تاريخ املتقدم واملتأخر»‬
‫كحديث أنس رضي اهلل عنه‪ :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم "زجر عن الشرب‬
‫قائما"‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث جاء يف حجة الوداع فشرب صلى اهلل عليه وسلم قائما‪.‬‬
‫فدل هذا بالسياق املتأخر أنه جيوز الشرب قائما‪ ،‬مع كونه جالسا أوىل‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‬
‫الضابط الثاني‪:‬‬
‫اإلجماع ال ينسخ نصا من الكتاب أو السنة‬

‫ألن النص إن كان قطعي الداللة امتنع انعقاد اإلمجاع على خالفه‪.‬‬
‫فإنه ال يتصور أن يأيت إمجاع بعد النيب صلى اهلل عليه وسلم خمالفا للنص‬
‫تعلمون أننا قلنا قبل ذلك إن «اإلمجاع»‪ :‬إمجاع جمتهدي األمة يف عصر من العصور‬
‫على أمر من األمور بعد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فال بد أن ينعقد اإلمجاع بعد موت النيب صلى وسلم‪ ،‬مث جتمع األمة على أمر من‬
‫األمور ومسألة من املسائل‬
‫هل هذا اإلمجاع إذا خالف نصا يكون ناسخا له؟‬
‫هذا ال يتصور‬
‫فإذا قلنا أنه ال إمجاع إال بعد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم فأيضا ال يتصور النسخ‬
‫يف القرآن أو يف السنة بعد موت النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫إذا انعقد اإلمجاع يف حياته فإنه ال ينعقد بدونه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪140‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإذا خالف قوهلم قوله فال عربة لقوهلم‪ ،‬فهو لغو باطل‪ ،‬وال يعتد به‪ ،‬وال يلتفت‬
‫إليه‪ ،‬إمنا يؤخذ بقوهلم املوافق لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذا علمت هذا عرفت أن اإلمجاع ال ينعقد إال بعد أيام النبوة‬
‫وبعد أيام النبوة قد انقطع الوحي‪ ،‬فانقطع الزيادة أو النقصان يف الكتاب‪ ،‬وكذلك‬
‫السنة‪ ،‬فال ميكن يكون اإلمجاع ناسخا هلما‬
‫مث قال‪:‬‬
‫الضابط الثالث‪:‬‬
‫النص ال ينسخ إجماعا‬

‫أي أن الناسخ ال بد أن يكون متأخرا عن املنسوخ‬


‫والنصوص من الكتاب والسنة متقدمة على اإلمجاع كما سبق‬
‫فإن اإلمجاع ال يعتد به إال بعد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫والنصوص (القرآن والسنة) انقطعت مبوت النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فال ُينسخ اإلمجاع بالنص‪ ،‬ألن اإلمجاع متأخر‬
‫قال العثيمني‪ :‬ال ميكن أن جُت مع األمة على خالف دليل صحيح صريح غري منسوخ‬
‫أي إذا أمجعت األمة على حق‪ ،‬فال ميكن أن جتتمع على خالف دليل صحيح صريح‬
‫غري منسوخ‪ ،‬ألن هذا باطل‬
‫‪141‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فالذي خيالف الدليل الصحيح الصريح الذي مل ينسخ‪ ،‬ال بد أن يكون باطال‪،‬‬
‫واألمة ال جتتمع على باطل‪.‬‬
‫قال شيخنا‪:‬‬
‫الضابط الرابع‪:‬‬
‫القياس ال ينسخ نصا وال إجماعا‬
‫أما نسخ القياس لإلمجاع فقد تقدم معنا‬
‫ونسخ القياس للنص أو لإلمجاع فال ميكن أبدا‪.‬‬
‫فإذا قلنا إن اإلمجاع ال ينسخ‬
‫فمن باب أوىل أن القياس ال ينسخ النص‬
‫وال يصلح أن يكون ناسخا لنص من كتاب أو سنة أو إمجاع‬
‫ألن من شروط القياس أن ال خيالف نصا‬
‫قال الزركشي‪ :‬ال جيوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس‬
‫ألن القياس يستعمل مع عدم النص فال جيوز أن ينسخه‬
‫وألنه دليل حمتمل‪ ،‬والنسخ يكون بأمر مقطوع‬
‫وألن شرط صحة القياس أال يكون يف األصول ما خيالفه‬

‫‪142‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ففي نسخ األصول بالقياس حتقيق للقياس دون شرطه وهو ممتنع‬
‫وألنه لو عارض نصا أو إمجاعا فالقياس فاسد‪.‬‬
‫إذن اإلمجاع ال ينسخ نصا‬
‫والنص ال ينسخ إمجاعا‬
‫والقياس ال ينسخ نصا وال إمجاعا‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‬
‫الضابط الخامس‪:‬‬
‫ال يقال بالنسخ إذا أمكن الجمع بين النصين‬

‫وهذه مسألة ستأتينا يف قواعد الرتجيح بني النصوص‬


‫ومجلته‪ :‬أنه إذا أمكن العمل بالنصوص الواردة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم فال‬
‫حرج يف ذلك‬
‫كحديث أيب سعيد املتقدم الذي قال فيه النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إمنا املاء من‬
‫املاء"‬
‫قلنا بأنه نسخ حبديث أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إذا جلس بني شعبها األربع مث جهدها فقد‬
‫وجب عليه الغسل وإن مل ينزل"‬
‫‪143‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال بعض أهل العلم ‪ :‬نسخ املاء باملاء يف اليقظة وبقي العمل به يف االحتالم‬
‫أي إذا رأى الرجل املاء وهو نائم وجب عليه الغسل‬
‫كما يف حديث أم سلمة رضي اهلل عنها‪" :‬ملا سألت النيب صلى اهلل عليه وسلم هل‬
‫على املرأة من غسل إن هي احتلمت؟ قال‪ :‬نعم إذا رأت املاء"‬
‫كذلك االغتسال للجمعة‬
‫فقد ورد يف حديث أيب سعيد رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"غسل اجلمعة واجب على كل حمتلم"‬
‫قال بعض أهل العلم إنه منسوخ‬
‫حبديث أيب هريرة أيضا رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪" :‬من توضأ فأحسن الوضوء مث أتى اجلمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه‬
‫وبني اجلمعة وزيادة ثالثة أيام"‬
‫فقال بعض أهل العلم إنه ليس مبنسوخ‪ ،‬بل معمول به‪ ،‬لكنه لتأكيد الندب ال‬
‫الوجوب‬
‫كذلك حديث أيب أيوب أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ":‬إذا أتيتم الغائط فال‬
‫تستقبلوا القبلة وال تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا"‬
‫فهذا ينهى عن االستقبال واالستدبار وساوى بني البنيان وبني الفضاء‬
‫‪144‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث جاء حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال ‪":‬ارتقيت فوق ظهر بيت‬
‫حفصة لبعض حاجيت‪ ،‬فرأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقضي حاجته‬
‫مستدبر القبلة مستقبل الشام"‬
‫فاجلمع بني احلديثني يقتضي الرخصة يف البنيان‪ ،‬واملنع يف الصحراء‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط السادس‪:‬‬
‫ال يقال بالنسخ إال إذا عرف المتقدم والمتأخر‬

‫إذا أردنا أن نقول أن هذا النص ناسخ هلذا ال بد أن يكون املنسوخ متقدًم ا على‬
‫الناسخ‪.‬‬
‫وذلك ملا يف حديث الربيع بن صربة اجلهين‪ ،‬أنه كان مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال‪" :‬يا أيها الناس إين قد كنت أذنت لكم يف االستمتاع من النساء"‪.‬‬
‫إذن هذا رخصة يف املتعة‪ ،‬أن يستمتع الرجل باملرأة وإن كانت أجنبية شريطة أن‬
‫يعطيها أجرهتا‪.‬‬
‫مث قال‪" :‬يا أيها الناس إين قد كنت أذنت لكم يف االستمتاع من النساء‪ ،‬وإن اهلل‬
‫قد حرم ذلك إىل يوم القيامة‪ ،‬فمن كان عنده منهن شيء فليخِّل سبيله‪ ،‬وال‬
‫تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫حديث رواه مسلم‪.‬‬


‫فهذا النص األخري‪ ،‬خالفا للروافض والشيعة الذين ما زالوا يقولون بنكاح املتعة‪،‬‬
‫فأهل السنة واجلماعة حيرم ذلك‪ ،‬حيرمون نكاح املتعة‪ ،‬وبالتأكيد أخذمتوه يف الفقه‬
‫يف األنكحة احملرمة وحرمه اهلل إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫كذلك حديث عائشة كما أخربت "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات‬
‫معلومات مث نسخن خبمس معلومات"‬
‫فبينت عائشة أن العشر كن متقدمات فجاء اخلمس فنسخن العشر‪،‬‬
‫حىت قالت‪ " :‬فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"‪.‬‬
‫أي لقرابة النسخ من موت النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فهذا ملخص باب النسخ‪.‬‬
‫بقي لنا بعض األسئلة‪.‬‬

‫السؤال األول‪:‬‬
‫عرف النسخ لغة واصطالحا‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪:‬‬
‫النسخ يف القرآن والسنة على أربعة أقسام‪ .‬اذكرها‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫مبا يعرف النسخ؟‬

‫السؤال الرابع ‪:‬‬


‫هل اإلمجاع ينسخ النص والعكس أم ال؟‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬نشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫الدرس الرابع والعشرون‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم؛‬

‫الباب الحادي عشر‬


‫[ التعارض والترجيح ]‬
‫‪147‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إن احلمد هلل تعاىل‪ ،‬حنمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد وبعد؛‬
‫تكلمنا قبل ذلك عن النسخ‪.‬‬
‫واليوم وصلنا إىل احملطات األخرية يف هذا الباب [[ التعارض والرتجيح ]]‬
‫فبعد االنتهاء من أبواب‪:‬‬
‫األدلة املتفق عليها واملختلف فيها‪.‬‬
‫والقواعد العامة‪.‬‬
‫رمبا يظهر ملن ينظر يف بعض األدلة من اجملتهدين فيجد أهنا متعارضة يف ظاهرها‬
‫فيلزمه الرتجيح بينهما‪.‬‬
‫فجاء هذا الباب املاتع من أبواب أصول الفقه‪ ،‬وأنا أقول هذا من أمجل وأمتع‬
‫أبواب أصول الفقه إن مل يكن أحسنها‬

‫التعارض والترجيح‬
‫‪148‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫التعارض لغة هو‪ :‬التقابل والتمانع‪.‬‬


‫ومنه (تعارض البينات)‪ ،‬ألن كل واحدة تعرتض األخرى ومتنع نفوذها‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬تفاعل من الُعرض بضم العني‪.‬‬
‫وهو الناحية واجلهة‪.‬‬
‫فالكالم املتعارض يقف بعضه يف عرض بعض‪ ،‬أي من ناحيته وجهته فيمنعه من‬
‫النفوذ‪.‬‬
‫والتعارض اصطالحا‪ :‬تقابل الدليلني حبيث خيالف أحدمها اآلخر‪.‬‬
‫فعن أيب موسى رضي اهلل عنه‪" :‬أن رجلني اختصما إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف دابة‪ ،‬ليس لواحد منهما بينة‪ ،‬فقضى هبا بينهما نصفني"‪.‬‬
‫هذا املعىن وإن كان األثر ضعيًف ا ال يثبت‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن البينات تعارضت‪ .‬والرتجيح‪...‬‬
‫الرتجيح لغة‪ :‬هو التمييز وهو زيادة املوزون‪.‬‬
‫نقول‪ :‬رجحت امليزان أي ثقلت‪.‬‬
‫أو ثقل كفته باملوزون‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أو رجحت الشيء للتثقيل‪ ،‬فضلته‪.‬‬


‫واصطالحا‪ :‬اقرتان أحد صاَحلنْي للداللة على املطلوب مع تعارضهما بواجب العمل‬
‫به وإمهال اآلخر‪.‬‬
‫ومجع شيخنا حفظه اهلل تعاىل من املرجحات ثالثة وعشرون مرجحا‪.‬‬
‫لكن قبل أن نبدأ يف بياهنا نقول‪ :‬وضع ضابطا مهما جدا للمجتهد‪:‬‬
‫فقال حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط األول‪:‬‬
‫ال تعارض بين نصوص الشريعة في الحقيقة وإنما هو في ذهن المجتهد‬

‫نعم ألن الشريعة جاءت حمكمة‪.‬‬


‫قال اهلل عز وجل‪َ { :‬أَفاَل َتَد َّب وَن اْلُق آَن ۚ َل َك اَن ِم ِعنِد َغِرْي الَّلِه َل ُد وا ِفيِه‬
‫َو َج‬ ‫ْن‬ ‫ْر َو ْو‬ ‫َي ُر‬
‫اْخ ِتاَل ًفا َك ِثًريا }‬
‫فالقرآن بفضل اهلل ليس فيه اختالف وال تعارض بني آياته‪.‬‬
‫فقال تعاىل‪ { :‬ال يأتيه اْلَباِط ُل ِم ن َبِنْي َيَد ْيِه َو اَل ِم ْن َخ ْلِف ِهۖ َتنِز يٌل ِّم ْن َح ِكيٍم ِمَح يٍد }‬
‫فال ميكن أن يكون هناك تعارض بني آيات القرآن‪ ،‬وكذلك السنة‪.‬‬
‫ألن اهلل جعلها وحًيا منه سبحانه‪.‬‬
‫فقال تعاىل‪َ{ :‬و َم ا َينِط ُق َعِن اَهْلَو ٰى ِإْن ُه َو ِإال َو ْح ٌي ُيوَح ى}‬
‫‪150‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقال تعاىل‪َ{ :‬و َأنَز ْلَنا ِإَلْيَك الِّذ ْك َر ِلُتَبَنِّي ِللَّناِس َم ا ُنِّز َل ِإَلْيِه ْم َو َلَعَّلُه ْم َيَتَف َّك ُر وَن }‬
‫قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫أنزلنا إليك السنة لتبني للناس القرآن‪ ،‬فالسنة وحي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وإمنا التعارض هو يف ذهن اجملتهد‪ .‬وحيصل ذلك التعارض لقصور الفهم‪ ،‬أو‬
‫قصور العلم‪ ،‬أو قصور التدبر‪.‬‬
‫فإذا اجتمع؛ [ العلم‪ ،‬والفهم‪ ،‬والتدبر ]‬
‫ال ميكن أن يقع اخلطأ وال يقع التعارض يف النصوص القرآنية أو النبوية‪.‬‬
‫ولذلك هذه مقدمة مهمة‪.‬‬
‫إذا رأيت دليلني متعارضني فتعلم وافهم وتدبر‪ ،‬سوف جتد أنه ليس بينهما تعارض‪.‬‬
‫مث قال حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثاني‪:‬‬
‫المرجحات عند التعارض ثالثة وعشرون مرجحا‬

‫املرجحات عند التعارض‪:‬‬


‫ال بد أوال كما أسلفنا يف احملاضرة املاضية أن حناول أن جنمع بني الدليلني ما أمكن‪.‬‬
‫وأن نعمل هبما خري من إمهال أحدمها‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثلنا لذلك حبديث أيب سعيد‪" :‬إمنا املاء من املاء"‪.‬‬


‫أنه ُنسخ حبديث‪" :‬إذا جلس بني شعبها األربع مث جهدها فقد وجب عليه الغسل"‪.‬‬
‫نقول‪ :‬العمل حبديث أيب سعيد أوىل من تركه‪ ،‬فينسخ يف حق املستيقظ ويبقى يف‬
‫حق النائم إذا رأى املاء‪.‬‬
‫إذن أول مسألة حماولة اجلمع بني األدلة‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ [ :‬القول بالنسخ ]‬
‫إذا ثبت املتقدم واملتأخر قلنا بالنسخ بينهما‪.‬‬
‫كاألدلة اليت مرت معنا يف حماضرة النسخ‪ ،‬كآية التخفيف يف القتال‪.‬‬
‫{ اآلن خفف اهلل عنكم }‬
‫وكحديث اإلذن يف زيارة القبور‪.‬‬
‫وحديث ادخار حلوم األضاحي‪.‬‬
‫واالنتباذ يف سائر األوعية‪.‬‬
‫كل هذه أدلة وأحكام نسخت‪.‬‬
‫ثالثا‪ [ :‬الرتجيح بني األدلة ]‬
‫إذن لكي أصل إىل الرتجيح‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ال بد أوال من إعمال اجلمع بني األدلة إن امكن‪.‬‬


‫فإن مل ميكن أنظر يف الناسخ واملنسوخ‪.‬‬
‫فإن مل يتبني يل أنتقل إىل املرحلة الثالثة وهي الرتجيح بني األدلة عند تعذر اجلمع أو‬
‫القول بالنسخ‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫أول املرجحات‬
‫‪ -1‬يرجح المتواتر على اآلحاد‬

‫ومجلة ذلك‪ :‬أن املتواتر من القرآن والسنة قطعي الثبوت من جهة املنت‪ ،‬ولذلك ال‬
‫بد بالقول به‪.‬‬
‫وبينا قبل ذلك أن القرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة املتواترة‪.‬‬
‫والسنة تنسخ بالسنة وبالقرآن‪.‬‬
‫لكن قال يرجح املتواتر‪.‬‬
‫ما هو املتواتر؟‬
‫التواتر لغة‪ :‬التتابع‪ .‬وهو جميء الواحد تلو اآلخر‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫واصطالحا‪ :‬ما رواه عدد كثري حتيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إىل‬
‫منتهاه وكان مستند انتهائهم احلس‪.‬‬
‫واآلحاد‪ :‬مجع أحد‪ ،‬كحجر وأحجار‪.‬‬
‫واصطالحا‪ :‬ما فقد شرطا من شروط املتواتر املتقدمة سواء كانت رواية واحدة أو‬
‫عددا‪.‬‬
‫وسبق وتكلمنا عن ذلك يف مسائل‪ ،‬أو باب السنة النبوية‪.‬‬
‫وسبق وأخذمت ذلك يف كتاب تيسري مصطلح احلديث‪ ،‬أو شرح مصطلح احلديث‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫حديث عبد اهلل بن عباس قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل علسلم يقول‪" :‬إذا دبغ‬
‫اإلهاب فقد طهر"‬
‫وحديث عبد اهلل بن عكي أنه قرأ عليهم من كتاب رسول اهلل صلى اهلل وسلم‪:‬‬
‫"أال تنتفعوا من امليتة بإهاب وال عصب"‪.‬‬
‫إذن حديث ابن عباس‪" :‬إذا دبغ اإلرهاب فقد طهر"‪ ،‬وحديث عبد اهلل بن عكي‪:‬‬
‫"ال تنتفعوا من امليتة بإهاب وال عصب" ظاهرمها التعارض‪.‬‬
‫فإذا أردنا أن نرجح بينهما‪:‬‬
‫فحديث عبد اهلل بن عباس حديث متواتر‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وحديث عبد اهلل بن عكي حديث آحاد‪.‬‬


‫فرجح العلماء األول على الثاين‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬تطهر جلود امليتة بالدباغ‪.‬‬
‫فيقدم املتواتر على اآلحاد‪.‬‬
‫هذا هو املرجح األول‪.‬‬
‫الثاين‪:‬‬
‫‪ -2‬يرجح المتصل على المرسل‬

‫املتصل هو ما اتصل إسناده بأخذ كل راو عمن فوقه إىل منتهاه‪.‬‬


‫فيكون اإلسناد متصال إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫واملرسل هو ما أضافه التابعي إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم مما مسعه من غريه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ما سقط من آخره من بعد التابعني‪ ،‬وهو ما رواه التابعي ومن دونه عن النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذا تعارض دليل متصل ودليل مرسل‪ ،‬قدم املتصل‪.‬‬
‫وإذا ثبت الذي رواه التابعي عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهذا مقبول‪.‬‬
‫ألن الصحابة كلهم عدول‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫لكن عند التعارض يقدم املتصل‪.‬‬


‫مثال ذلك‪ :‬حديث أورده اإلمام البخاري قال‪ :‬حدثنا حممد بن عبد الرحيم قال‪:‬‬
‫حدثنا عفان بن مسلم قال‪ :‬حدثنا وهيب عن حيىي بن سعيد بن حيان عن أيب زرعة‬
‫عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬أن أعرابيا أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال دلين‬
‫على عمل دخلت اجلنة قال‪:‬‬
‫"تعبد اهلل وال تشرك به شيئا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤدي الزكاة املفروضة‪ ،‬وتصوم‬
‫رمضان"‬
‫مث قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" من سره أن ينظر إىل رجل من أهل اجلنة فلينظر إىل هذا"‬
‫مث قال اإلمام البخاري‪ :‬حدثنا مسدد عن حيىي عن أيب حيان قال‪ :‬أخربين أبو زرعة‬
‫عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫(فهذا أسقط من إسناده الصحايب)‬
‫هذا اإلسناد الثاين‪ ،‬إسناد مسدد‪ ،‬أسقط أبو هريرة‪.‬‬
‫مث جاء اإلمام البخاري فرجح اإلسناد املتصل‪.‬‬
‫قال احلافظ‪ :‬قوله‪ :‬حدثنا مسدد عن حيىي هو القطان بن أيب حيان وحيىي بن سعيد‬
‫بن حيان‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال املذكور يف الذي قبله قال‪ :‬وأفادت هذه الرواية‪ ،‬تصريح أيب حيان بسماعه له‬
‫من أيب هريرة‪.‬‬
‫ووقع الرتدد‪.‬‬
‫فرجح العلماء الرواية األوىل املتصلة على الرواية املرسلة بصحة املتصل والتصريح‬
‫بسماع الصحابة‪.‬‬
‫الثالث‪:‬‬
‫‪ -3‬ترجح رواية األوثق واألضبط واألفقه على من دونهم‬

‫فلو قال‪ :‬الراوي ثقة ثبت‪ ،‬قدم حديثه على الراوي الثقة فقط‪.‬‬
‫سأل ذلك حديث حيىي بن حيىي التميمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬قرأت على مالك عن نعيم بن عبد اهلل اجملمر أن حممد بن عبد اهلل بن زيد‬
‫األنصاري (وعبد اهلل بن زيد‪ ،‬هو الذي كان رأى النداء بالصالة) أخربه عن أيب‬
‫مسعود األنصاري؛ قال‪ :‬أتانا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحنن يف جملس سعد‬
‫بن عبادة فقال له بشر بن سعيد‪" :‬أمرنا اهلل أن نصلي عليك يا رسول اهلل فكيف‬
‫نصلي عليك؟ قال‪ :‬فسكت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت متنينا أنه مل يسأله‪،‬‬
‫مث قال رسول اهلل‪ :‬قولوا اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على آل‬
‫إبراهيم وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على آل إبراهيم يف العاملني‬
‫إنك محيد جميد والسالم كما قد علمت"‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مدار هذا احلديث على نعيم بن عبد اهلل اجملمر‪.‬‬


‫فرواه مالك عن نعيم عن حممد بن عبد اهلل بن زيد‪.‬‬
‫ورواه داود بن قيس عن نعيم عن أيب هريرة‪،‬‬
‫وتابعه جعفر بن حممد بن علي اهلامشي هبذا اإلسناد‪.‬‬
‫قال‪ :‬واألول أصح‪.‬‬
‫ألن مالكا أحفظ وأضبط‪.‬‬
‫ولذلك ملا سئل ابن أيب حامت عن هذا احلديث ملا قيل له قد تابع هذا داود بن قيس‬
‫قال مالك أحفظ‪.‬‬
‫واحلديث حديث مالك‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن مالك أحفظ وأضبط وأثبت وأفقه‪.‬‬
‫فيقدم الراوي الثقة على الراوي األقل منه‪.‬‬
‫رابعا‪[ :‬يرجح األكثر رواة على األقل]‪.‬‬
‫إذا جاء حديث وعليه األكثر فإنه يرجح بكثرة الرواة‪.‬‬
‫ألن العدد الكثري أبعد عن اخلطأ من العدد القليل‪.‬‬
‫‪158‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وألن كل من الكثري يفيد ظنا فإذا انضم إىل غريه قوي وصار يقينا‪.‬‬
‫مثال ذلك‬
‫يف قصة صالة النيب صلى اهلل عليه وسلم والصحابة ملا سلم من ركعتني‪ ،‬فقال ذو‬
‫اليدين‪ :‬نسيت أم قصرت الصالة؟‬
‫قال‪ :‬ما نسيت وما قصرت الصالة‪.‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫أحقا كما يقول ذو اليدين؟‬
‫فقالوا‪ :‬بلى (فأيدوا ما قاله)‪.‬‬
‫فقام النيب صلى اهلل عليه وسلم وأتى ما ترك من الصالة‪.‬‬
‫فكانت رواية األكثر مرجحة لقول ذي اليدين‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫مسألة رفع اليدين يف غري تكبرية اإلحرام‪.‬‬
‫عند الركوع‪.‬‬
‫وعند الرفع منه‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فروى إبراهيم بن علقمة عن ابن مسعود‪" :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يرفع‬
‫يديه عند تكبرية اإلحرام مث ال يعود"‪.‬‬
‫وأظن هذا مذهب احلنفية‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر‪" :‬أنه صلى اهلل عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصالة‪،‬‬
‫وإذا كرب للركوع‪ ،‬وإذا رفع رأسه من الركوع"‪.‬‬
‫ورواه ابن عمر ووائل بن حجر وأبو محيد الساعدي يف عشرة من الصحابة منهم‪:‬‬
‫أبو قتادة‪.‬‬
‫وأبو أسيد‪.‬‬
‫وسهل بن سعد‪.‬‬
‫وحممد بن مسلمة‪.‬‬
‫ورواه أيضا‪:‬‬
‫أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وأنس‪ ،‬وجابر‪ ،‬وابن الزبري‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬ومجع غريهم‬
‫بلغوا ثالثة وثالثني صحابيا كلهم يروي هذا احلديث‪.‬‬
‫أي أن الرفع يف ثالثة مواضع بعد تكبرية اإلحرام‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولذلك هنا رجح العلماء رواية ابن عمر ألن عليها أكثر أهل العلم‪ ،‬على رواية ابن‬
‫مسعود‪.‬‬
‫خامسا‪:‬‬
‫‪ -5‬ترجح رواية الراوي المتفق على عدالته على المختلف في عدالته‬

‫ترجح رواية الراوي املتفق على عدالته‪.‬‬


‫ألن الراوي املتفق عليه بني أهل العلم يكون أقوى من حيث الضبط والرواية‪.‬‬
‫راٍو ثقة ثبت‪.‬‬
‫وراٍو صدوق أو ثقة فقط‪.‬‬
‫يقدم املتفق على عدالته‪.‬‬
‫وروى آخر‪:‬‬
‫فالن ثقة‪.‬‬
‫فالن ثبت‪.‬‬
‫فالن صدوق‪.‬‬
‫فالن له أوهام‪.‬‬
‫فالن كذا‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫اختلفوا فيه‪.‬‬
‫لكن راٍو آخر‪:‬‬
‫كلهم يقولون‪ :‬ثقة ثبت‪.‬‬
‫إمام حافظ‪.‬‬
‫أمري املؤمنني يف كذا‪.‬‬
‫كلهم يتفقون على عدالة هذا الراوي وضبطه‪ ،‬فنقول هذا يقدم‪.‬‬
‫ومثال ذلك حديث أيب داود قال‪ :‬حدثنا مسدد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا حيىي عن ابن أيب‬
‫ذئب‪ ،‬قال‪ :‬حدثتنا صاحل موىل التوأمة عن أيب هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من صلى على جنازة يف املسجد فال شيء عليه"‪.‬‬
‫ويف رواية‪" :‬فال شيء له"‬
‫وشتان الفارق بني هذه وتلك‪.‬‬
‫( ال شيئ له) أي من األجر‪.‬‬
‫(وال شيء عليه ) أي من اإلمث‪.‬‬
‫فظهر التعارض بينه وبني حديث مسلم‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال مسلم‪ :‬حدثنا حممد بن حامت‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا هبز‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا رهيب‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬
‫موسى بن عقبة عن عبد الواحد العباد بن عبد اهلل بن الزبري حيدث عن عائشة أهنا‬
‫"ملا تويف سعد بن أيب وقاص أرسل أزواج النيب صلى اهلل عليه وسلم أن مير جبنازته‬
‫يف املسجد فيصلني عليه‪ ،‬فوقف به على حجرهن يصلني عليه أخرج به من باب‬
‫اجلنائز الذي كان إىل املقاعد فبلغنا الناس أن الناس عابوا ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬ما كانت يف‬
‫اجلنائز يدخل هبا املسجد‪ ،‬فبلغ ذلك عائشة‪ ،‬فقالت‪" :‬ما أسرع الناس أن يعيبوا ما‬
‫ال علم هلم به‪ ،‬عابوا علينا أن مير جبنازة يف املسجد وما صلى رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إال يف جوف املسجد"‪.‬‬
‫إذن عندنا الدليل األول‪:‬‬
‫"من صلى فال شيء عليه أو فال شيء له"‬
‫والدليل الثاين‪:‬‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم صلى يف املسجد‪.‬‬
‫فرجح العلماء حديث مسلم جبواز الصالة على اجلنازة يف املسجد‪ ،‬وهو قول‬
‫اجلمهور‪.‬‬
‫وذلك ألن الرواة كلهم عدول‪.‬‬
‫أما احلديث األول حديث أيب داود ففيه صاحل موىل التوأمة اختلف العلماء فيه‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال اإلمام أمحد‪ :‬صاحل احلديث‪.‬‬


‫ما أرى به بأس‪.‬‬
‫وقال ابن معني‪ :‬ثقة ثبت خرف قبل أن ميوت‪.‬‬
‫وقال العجلي‪ :‬ثقة‪.‬‬
‫وقال ابن عدي‪ :‬ال بأس به إذا مسعوا منه قدميا‪.‬‬
‫قال مالك بن أنس‪ :‬ضعفه وترك السماع منه‪.‬‬
‫قال حيىي القفطان‪ :‬مل يكن بثقة‪.‬‬
‫وقال احلافظ‪ :‬صدوق اختلط‪.‬‬
‫إذن هذا الراوي اختلف فيه‪ ،‬وهو صاحل موىل التوأمة بني موثق وبني آخذ منه ما‬
‫تقدم وتارك ما تأخر‪ ،‬ومنهم ما ترك كل ما روي عنه‪.‬‬
‫فلذلك رجحت رواية العدول املتفق على عدالتهم كرجال مسلم على املختلف‬
‫فيه‪.‬‬
‫سادًس ا‪:‬‬
‫‪ -6‬يرجح ما سلم من االضطراب على المضطرب‬

‫الرواية املضطربة إسنادا أو متنا فيها خالف‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫والرواية املتفق عليها الساملة من املعارضة‪ ،‬نقول‪ :‬ليس فيها خالف بني أهل العلم‪.‬‬
‫قال ابن النجار‪ :‬وتقدم رواية املتفقة (أي مل خيتلف لفظها وال معناها وال مضطربة)‬
‫على رواية خمتلفة أو مضطربة مطلقا على الصحيح‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬اخلالف بني ساعة اإلجابة اليت يف يوم اجلمعة على قولني‪.‬‬
‫القول األول‪ :‬ما رواه اإلمام مسلم يف صحيحه قال‪" :‬حدثين أبو الطاهر وعلي بن‬
‫خشرب‪ ،‬قال‪ :‬أخربنا ابن وهب عن خمرمة بن بكري‪ ،‬قال‪ :‬وحدثنا هارون بن سعيد‬
‫قال األيلي‪ ،‬وأمحد بن عيسى قال‪ :‬حدثنا ابن وهب‪ ،‬قال‪ :‬أخربنا خمرمة عن أيب‬
‫هريرة عن أيب بردة بن أيب موسى‪ ،‬قال‪ :‬قال يل عبد اهلل بن عمر‪" :‬أمسعت أباك‬
‫حيدث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف شأن ساعة اجلمعة؟ قال‪ :‬قلت نعم‬
‫مسعته يقول‪ :‬مسعت رسول اهلل وسلم يقول‪ :‬هي ما بني أن جيلس اإلمام إىل أن‬
‫ُتقضى الصالة‬
‫هذا هو الوقت األول‪.‬‬
‫احلديث الثاين‪:‬‬
‫حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه أنه مسع النيب صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫"يوم اجلمعة اثىن عشرة ساعة‪ ،‬فيه ساعة ال يوجد فيها عبد مسلم يسأل اهلل إال آتاه‬
‫إياه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر"‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذن القول الثاين أهنا بعد العصر‪.‬‬


‫أيهما أرجح؟‬
‫هل رواية السنن رواية أيب داود أم رواية اإلمام مسلم؟‬
‫اختلف العلماء‪.‬‬
‫قال النووي‪ :‬عن خمرمة بن بكري عن أبيه عن أيب بردة عن أبيه عن النيب‪.‬‬
‫هذا مرفوع إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫قال هذا احلديث مما استدركه الدارقطين على مسلم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬مل يسنده غري خمرمة عن أبيه عن أيب بردة‪.‬‬
‫ورواه مجاعة عن أيب بردة من قول‪.‬‬
‫إذن احلديث مرسل‪.‬‬
‫ومنهم من بلغ به أبا موس‪ ،‬ومل يرفعه‪.‬‬
‫إذن موقوف‪.‬‬
‫فهذا احلديث حديث مسلم جاء‪:‬‬
‫مرة مرساًل ‪.‬‬
‫ومرة موقوفا‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومرة مرفوًعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬والصواب أنه من قول أيب بردة‪.‬‬
‫هذا ما رجحه‪.‬‬
‫أنه يقال‪ :‬كذلك رواه حيىي القطان عن الثوري عن أيب إسحاق عن أيب بردة وتابعه‬
‫واصل األحدب وجمانب روياه عن أيب بردة من قوله‪.‬‬
‫وقال النعمان بن عبد السالم‪ ،‬عن الثوري عن أيب إسحاق عن أيب بردة عن أبيه‬
‫موقوفا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال يثبت قوله عن أبيه‪.‬‬
‫وقال أمحد بن حنبل عن محاد بن خالد‪ :‬قلت ملخرمة مسعت من أبيك شيئا؟‬
‫قال‪ :‬ال؛ هذا كالم الدار قطين‪.‬‬
‫فجاء احلديث األول‪:‬‬
‫جاء موقوفا‪.‬‬
‫وجاء مرفوعا‪.‬‬
‫وجاء مرسال‪.‬‬
‫أما حديث جابر‪ ،‬وحديث أيب هريرة‪ ،‬وحديث أيب "أهنا آخر ساعة بعد العصر "‬

‫‪167‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كلهم يروونه مرفوعا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫لذلك رجح العلماء القول الثاين‪.‬‬
‫(أهنا بعد العصر آخر ساعة)‬
‫وهو قول‪:‬‬
‫عبداهلل ابن سالم‪.‬‬
‫وأىب هريرة‪.‬‬
‫واإلمام أمحد‪.‬‬
‫وخلق كثري‪.‬‬
‫ولذلك جاءت هذه الرواية عن عبد اهلل بن سالم قلت‪ :‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم جالس إنا ال جند يف كتاب اهلل يف يوم اجلمعة ساعة ال يوافقها عبد مؤمن‬
‫يصلي يسأل اهلل فيها شيئا إال قضى له حاجته‪.‬‬
‫قال عبد اهلل فأشار إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو بعض ساعة‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫صدقت أو بعض ساعة‪ ،‬قلت‪ :‬أي ساعة هي؟ قال‪ :‬هي آخر ساعة‪ ،‬آخر ساعات‬
‫النهار‪ ،‬قلت‪ :‬إهنا ليست ساعة صالة‪ ،‬قال بلى؛ إن العبد املؤمن إذا قام يصلي أو‬
‫إذا صلى مث جلس ال حيبسه إال الصالة فهو يف صالة"‪.‬‬
‫ولذلك رجح العلماء هذه الرواية على رواية أيب بردة اليت سبقت‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فيقول ساعة اإلجابة هي آخر ساعة بعد العصر‪.‬‬


‫وإىل هنا تنتهي هذه احملاضرة وبقي لنا األسئلة‪.‬‬

‫السؤال األول‪:‬‬
‫ما هي الطرق اليت يتخذها اجملتهد قبل أن يلجأ إىل الرتجيح؟‬

‫السؤال الثاني‪:‬‬
‫هل هناك تعارض حقيقي بني نصوص القرآن والسنة؟‬

‫السؤال الثالث‪:‬‬
‫اذكر ثالثة مرجحات مما درست‪.‬‬
‫مع ذكر مثال لكل مرجح‪.‬‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬نشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‬

‫‪169‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس الخامس والعشرون‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫احملاضرة‪ :‬اخلامسة والعشرون‪.‬‬
‫الباب احلادي عشر‪:‬‬
‫التعارض والرتجيح‬
‫إن احلمد هلل تعاىل‪ ،‬حنمده نستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد‪ ،‬كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك‬

‫‪170‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى آل‬
‫إبراهيم إنك محيد جميد أما بعد؛‬
‫أحبيت يف اهلل طلبة وطالبات كلية العلوم الشرعية والعربية‪.‬‬
‫مرحبا بكم يف هذه احملاضرة وما زلنا نواصل يف الضوابط اخلاصة‪:‬‬
‫بالتعارض والرتجيح‬
‫وقلنا‪ :‬عند تعارض األدلة ال بد من الرتجيح‪.‬‬
‫وقلنا إن املرجحات ثالثة وعشرون مرجحا‪.‬‬
‫ذكرنا منها يف احملاضرة السابقة ستة مرجحات‪.‬‬
‫واليوم إن شاء اهلل تعاىل نكمل بعضها‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫السابع‪:‬‬
‫‪-7‬يرجح ما له شواهد على ما ال شاهد له‬

‫ومعىن هذا الكالم أن من املعترب عند أهل احلديث ترجيح احلديث الذي له شواهد‬
‫على احلديث الذي ال شاهد له‪.‬‬
‫ورد عندنا دليل ومسألة عن صحايب‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث ورد ما خيالف هذه املسألة عن عدة من الصحابة‪.‬‬


‫فيقدم قول األكثر على رواية الراوي الواحد‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫حديث طلق بن علي أنه قال‪" :‬خرجنا وفدا حىت قدمنا على رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فبايعناه وصلينا معه‪ ،‬فلما قضى الصالة جاء رجل كأنه بدوي‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول اهلل ما ترى يف رجل مس ذكره يف الصالة؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫وهل هو إال مضغة منك (أو بضعة منك)"‬
‫ففي هذا احلديث مل يشر النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل أن مس الذكر ينقض‬
‫الوضوء‪ .‬مث جاء احلديث اآلخر حديث بصرة بنت صفوان أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪" :‬من مس ذكره فليتوضأ"‪.‬‬
‫فنظر العلماء إىل حديث طلق فلم جيدوا له شاهدا من السنة‪.‬‬
‫ونظروا إىل حديث بصرة فوجدوا له شواهد كثرية تؤيده‪.‬‬
‫فرجحوا حديث بصرة على حديث طلق بن علي‪.‬‬
‫كما قال الرتمذي رمحه اهلل بعد حديث بصرة قال‪ :‬ويف الباب عن أم حبيبة‪ ،‬وأيب‬
‫أيوب‪ ،‬وأيب هريرة‪ ،‬وأروى بنت أنيس‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وجابر‪ ،‬وزيد بن خالد‪ ،‬وعبد اهلل‬
‫بن عمرو‪ ،‬قال أبو عيسى‪:‬‬

‫‪172‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬


‫فكل هذه الشواهد عن الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬وقد ذكرها املباركفوري رمحه‬
‫اهلل يف حتفة األحوازي ووصل األسانيد إىل الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫لذلك رجحوا أن ما له شاهد‪ ،‬وله روايات كثرية عن مجع من الصحابة بلغ حد‬
‫التواتر يقدم على ما ليس له شاهد‪.‬‬
‫ثامنا‪:‬‬
‫‪ -8‬ترجح رواية الصحابي صاحب الواقعة على غيره‬

‫فلو ورد أمر ما عن بعض الصحابة‪ ،‬فقال‪ :‬فعلت كذا‪ ،‬مث جاء ما خيالفه ويعارضه‬
‫عن صحايب آخر‪ ،‬فقال فالن‪ :‬مل يفعل‪.‬‬
‫فأيهما يقدم؟‬
‫صاحب الواقعة الذي قال فعلت‪ ،‬أم اآلخر الذي قال مل يفعل؟‬
‫صاحب الواقعة‪.‬‬
‫ألنه أعلم هبا كما قال أهل العلم‪.‬‬
‫ومثلوا ولذلك‪:‬‬
‫حبديث ابن عباس رضي اهلل عنهما الذي قال فيه‪" :‬تزوج النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ميمونة وهو حمرم"‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا احلديث رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫مث جاء حديث ميمونة رضي اهلل عنها فقالت‪" :‬تزوجين رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وهو حالل"‪.‬‬
‫فنظروا فوجدوا أن ميمونة رضي اهلل عنها وهي صاحبة الواقعة‪ ،‬تروي أن النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم تزوجها وهو حالل‪.‬‬
‫ويروي ابن عباس رضي اهلل عنهما أن النيب صلى اهلل عليه وسلم تزوجها وهو‬
‫حمرم‪.‬‬
‫فقدموا قول ميمونة على قول ابن عباس‪.‬‬
‫وهذا قول مجاهري العلماء‪ ،‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حالل‪.‬‬
‫كذلك ذكر أبو رافع الواسطة بني النيب صلى اهلل عليه وسلم أو الرسول بني النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وبني ميمونة‪.‬‬
‫فقال‪ :‬تزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ميمونة وهو حالل‪ ،‬وبىن هبا وهو‬
‫حالل‪ ،‬وكنت أنا الرسول فيما بينهما‪.‬‬
‫فرجح أهل العلم حديث ميمونة وأيب رافع على حديث ابن عباس رضي اهلل عن‬
‫اجلميع‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫‪174‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫تاسعا‪:‬‬
‫‪ -9‬ترجح رواية الراوي على رأيه‬

‫فلو روى راٍو حديثا‪ ،‬مث عمل مبا خيالفه‪.‬‬


‫فأيهما يرجح؟ الرواية أم العمل؟‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪ :‬ترجح رواية الراوي على رأيه‪.‬‬
‫فإذا روى الراوي حديًثا‪ ،‬مث اجتهد وخالف هذا اجلواب‪.‬‬
‫وميثل لذلك بفعل ابن عمر رضي اهلل عنه حينما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪" :‬صالة الليل والنهار مثىن مثىن"‪.‬‬
‫فُيفهم من هذا احلديث أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬جعل صالة الليل والنهار‬
‫ركعتني ركعتني‪ ،‬يصلي ركعتني ويسلم‪ ،‬مث يصلي ركعتني ويسلم وهكذا‪.‬‬
‫مث ذكر أو ُذكر عن ابن عمر رضي اهلل عنه أنه كان يصلي أربعا متصلة‪ ،‬ال يسلم‬
‫من ركعتني‪ ،‬يف سنة الظهر القبلية رمبا كان يصليها كما يصلي الظهر أربع ركعات‬
‫بتشهدين‪ ،‬وال يسلم يف وسطهما‪.‬‬
‫فقوله‪ :‬صالة الليل والنهار مثىن مثىن‪ ،‬يقدم على فعله وعلى رأيه‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك مثال آخر‪ :‬حديث عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬ما كان رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ليدع العمل وهو حيب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض‬
‫عليه‪ ،‬وما سبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُس بحة الضحى قط وإين ألسبحها"‪.‬‬
‫فقد روت عائشة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يصِّل الضحى قط‪.‬‬
‫مث أخربت أهنا كانت تصليها‪.‬‬
‫وعللت املخالفة بأن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان ليدع العمل وهو حيب أن‬
‫يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليه‪.‬‬
‫وإن كان ثبت األمر يف أحاديث أخرى إال أن هذا مرجح لبيان أن سنة الضحى‬
‫سنة مؤكدة‪.‬‬
‫من ذلك أيضا قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫‪ -10‬ترجح رواية المثِبت على النافي‬

‫فإذا جاء حديث فيه زيادة علم‪ ،‬والنايف ينفي هذه الزيادة لعدم علمه به‪ ،‬أو ألنه مل‬
‫يشاهده‪ ،‬فيقدم قول املثبت على قول النايف‪.‬‬
‫ومثال ذلك حديث عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬ما رأيت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم صائما يف العشر قط"‪.‬‬
‫أي العشر األول من ذي احلجة‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث جاء عن هنيدة بن خالد عن امرأة عن بعض أزواج النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قالت‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصوم تسع ذي احلجة‪ ،‬ويوم‬
‫عاشوراء‪ ،‬وثالثة أيام من كل شهر"‪.‬‬
‫هذا احلديث صححه الشيخ األلباين يف سنن النسائي وسنن ابن ماجة‪.‬‬
‫فقدم العلماء احلديث الثاين على احلديث األول ألنه أثبت زيادة علم وهي‬
‫استحباب صيام التسع من ذي احلجة‪.‬‬
‫مثال آخر يف هذا املرجح‪ :‬حديث عائشة رضي اهلل عنها قالت‪" :‬من حدثكم أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بال قائما فال تصدقوه‪ ،‬ما كان يبول إال جالسا"‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فهذه عائشة رضي اهلل عنها تنفي أن يكون النيب صلى اهلل النيب قد بال قائما قط‪.‬‬
‫مث جاء حديث حذيفة رضي اهلل عنه يف الصحيحني‪ ،‬فقال‪" :‬أتى النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما‪ ،‬مث دعا مباء فجئته مباء فتوضأ"‪.‬‬
‫فأثبت حذيفة رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم بال قائما‪.‬‬
‫فقدم العلماء املثبت على النايف‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬جيوز البول قائما‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫‪177‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪ -11‬يرجح ما اتفق على رفعه على ما اختلف في رفعه ووقفه‬

‫فلو جاء حديث مرفوع عن النيب صلى اهلل عليه وسلم بأمر ما‪ ،‬مث جاء حديث آخر‬
‫يعارض هذا احلديث‪ ،‬لكنه روي مرة مرفوعا وروي مرة موقوفا على الصحايب‪،‬‬
‫فيقدم العلماء رواية املرفوع على املضطرب الذي روي مرة مرفوًعا وروي مرة‬
‫موقوفا‪.‬‬
‫ومثلوا لذلك حبديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪" :‬أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪ :‬كل صالة ال يقرأ فيها بأم الكتاب فهي ِخ داج إال أن تكون وراء‬
‫اإلمام"‪.‬‬
‫روي هذا احلديث موقوفا على جابر كما يف املوطأ‪.‬‬
‫عن جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه قال‪" :‬من صلى ركعة مل يقرأ فيها بأم القرآن‬
‫فلم يصِّل‪ ،‬إال وراء اإلمام"‪.‬‬
‫وقد روي هذا احلديث موقوفا ومرفوعا‪،‬‬
‫واملوقوف أصح كما ذكر األلباين رمحه اهلل‪ ،‬يعد من حديث جابر املرفوع‪.‬‬
‫والصواب فيه موقوف كما سبق والذي قبله‪.‬‬
‫مث جاء حديث عن أيب هريرة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من صلى صالة‬
‫مل يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثالث) غري تام"‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وعن عبادة بن الصامت عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬ال صالة ملن مل‬
‫يقرأ بفاحتة الكتاب"‪.‬‬
‫فاتفقت الرواية الثانية املرفوعة أنه ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب‪.‬‬
‫سواء كان وراء اإلمام‪ ،‬أو منفردا‪ ،‬أو إماما‪.‬‬
‫فقدمت الرواية اليت فيها إثبات القراءة على الرواية املختلف فيها‪.‬‬
‫ولذا قال اإلمام الرتمذي رمحه اهلل بعد حديث عبادة‪ :‬ويف الباب عن أيب هريرة‪،‬‬
‫وعائشة‪ ،‬وأنس‪ ،‬وأيب قتادة‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو‪ ،‬قال أبو عيسى‪ :‬حديث عبادة‬
‫حسن صحيح‪ ،‬والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم منهم‪[ :‬عمر بن اخلطاب‪ ،‬وعلي بن أيب طالب‪ ،‬وجابر بن عبد اهلل‪ ،‬وعمران‬
‫بن حصني] وغريهم‪...‬‬
‫قالوا‪ :‬ال جتزئ صالة إال بقراءة فاحتة الكتاب‪.‬‬
‫وقال علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‪" :‬كل صالة مل يقرأ فيها بفاحتة الكتاب فهي‬
‫خداج غري تام"‪.‬‬
‫وبه يقول ابن املبارك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأمحد‪ ،‬وإسحاق‪.‬‬
‫فهؤالء كلهم يرجحون رواية قراءة الفاحتة سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا‪.‬‬
‫هذا مثال‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مثال آخر‪ :‬القبلة للصائم‪ :‬عن عطاء بن يسار أن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما‬
‫سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب"‪.‬‬
‫قال أبو هريرة رضي اهلل عنه‪" :‬إن رجال سأل النيب صلى اهلل عليه وسلم عن‬
‫املباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه‪ ،‬فإذا الذي رخص له شيخ وإذا‬
‫الذي هناه شاب"‪.‬‬
‫حديث صحيح‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي اهلل عنها أهنا قالت‪" :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقبل‬
‫وهو صائم‪ ،‬ويباشر وهو صائم‪ ،‬ولكنه أملككم إلربه"‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي اهلل عنها‪" :‬أن رسول صلى اهلل عليه وسلم كان يباشر وهو‬
‫صائم‪ ،‬وكان يقبل وهو صائم"‬
‫فبالنظر إىل أثر ابن عباس وأيب هريرة رضي اهلل عنهم جند أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم رخص ومنع من القبلة للصائم‪.‬‬
‫ويف حديث عائشة أنه كان يقبل وهو صائم حىت يف رمضان‪.‬‬
‫وقد اختلف يف رفع ووقف عن ابن عباس وأيب هريرة‪.‬‬
‫وأما حديث عائشة فمتفق على رفعه‪.‬‬
‫فلذلك قال العلماء‪ :‬الراجح أنه جيوز للصائم أن يقبل‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ولذلك جاء أثر عمر رضي اهلل عنه قال‪:‬‬


‫"هششت فقبلت وأنا صائم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل صنعت اليوم أمرا عظيما‪ ،‬قبلت‬
‫وأنا صائم‪ ،‬قال‪ :‬أرأيت لو متضمضت من املاء وأنت صائم؟"‪.‬‬
‫فهنا يرجح رواية املتفق على رفعه على املضطرب‪ ،‬الذي روي موقوفا ومرفوعا‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الثاين عشر‪:‬‬
‫‪ -12‬يرجح ما اتفق على وصله على ما اختلف في وصله وإرساله‬

‫فهذا كالذي قبله يف مزية املتفق عليه على غريه‪ ،‬ألنه سلم من القطع يف سننه‪،‬‬
‫واتصل السند من مجلة احلديث الصحيح‪.‬‬
‫فهذا إسناد متصل‪.‬‬
‫خبالف املقطوع أو املرسل‪.‬‬
‫وقلنا قبل ذلك إن املرسل من مجلة األحاديث الضعيفة‪ ،‬إال مراسيل الصحابة كما‬
‫هو معلوم فإنه يعد من مجلة األحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫لكن ما دون الصحايب فاألصل أن املراسيل أحاديث ضعيفة‪.‬‬
‫قال اآلمدي‪ :‬أن يكون أحد اخلربين قد اختلف يف كونه موقوفا على الراوي‬
‫واآلخر متفًق ا على رفعه إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فاملتفق على رفع أوىل ألنه أغلب على الظن‪.‬‬


‫كحديث الساعة اليت يف يوم اجلمعة‪.‬‬
‫فجاءت رواية متفق على رفعها أهنا آخر ساعة بعد العصر‪.‬‬
‫وهذا مر معنا قبل ذلك‪.‬‬
‫وجاء أهنا من حني صعود اخلطيب املنرب إىل أن ينتهي من الصالة‪.‬‬
‫وهذا الثاين روي مرسال موقوفا على أيب بردة‪.‬‬
‫وروي موقوفا على أيب موسى‪.‬‬
‫وروي مرفوعا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فحدث اضطراب يف السند‪.‬‬
‫هل هو من قول أيب بردة؟‬
‫هل هو من قول أيب موسى؟‬
‫هل هو من قول النيب صلى اهلل عليه وسلم؟‬
‫ومن العلماء من يرجح الوقف على الرفع واإلرسال‪.‬‬
‫لكن احلديث الثاين حديث صحيح ال اختالف يف كونه مرفوًعا إىل النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬


‫الثالث عشر‪:‬‬
‫‪ -13‬ترجح رواية من ال يجّو ز رواية الحديث بالمعنى على من يجّو ز ذلك‬

‫ومعىن هذا‪:‬‬
‫أن العلماء اختلفوا‪.‬‬
‫هل جيوز أن يروى احلديث باملعىن أم ال بد من ضبط النص؟‬
‫هذه مسألة اختلف فيها العلماء على عدة مذاهب‪:‬‬
‫املذهب األول‪:‬‬
‫أن ذلك جائز؛ من عارٍف مبعاين األلفاظ وبلغة العرب‪.‬‬
‫أما إذا كان ال يعرف معىن األلفاظ؛ فال جيوز له الرواية باملعىن باإلمجاع‪.‬‬
‫وبعضهم اشرتط أن يكون يعلم املرادفات كاجللوس مكان القعود أو العكس‪.‬‬
‫ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويا لألصل يف اجلالء واخلفاء‪.‬‬
‫ولذلك العلماء قالوا‪:‬‬
‫جيوز الرواية باملعىن إذا كان ذلك وجًه ا من وجوه اللغة‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومثلوا لذلك قالوا أن يبدل اللفظ مبرادفه كاجللوس بالقعود‪ ،‬وهذا جائز بال‬
‫خالف‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن يظن داللة على مثل ما دل عليه األول من غري أن يقطع بذلك‪ ،‬فال‬
‫يؤخذ هبذا وال يعمل به‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يقطع بفهم املعىن‪ ،‬ويعرب عما فهم بعبارة‪.‬‬
‫فهذا أيضا مما منع العلماء ممن جوزه من عارف مبعاين األلفاظ‪.‬‬
‫املذهب الثاين‪:‬‬
‫املنع من الرواية باملعىن مطلقا‪.‬‬
‫بل جيب نقل اللفظ بصورته من غري فرق بني العارف وغريه‪.‬‬
‫وهذا الذي نقله القاضي عن كثري من السلف وأهل التحري يف احلديث‪ .‬وذكر أنه‬
‫مذهب مالك ومعظم احملدثني وبعض األصوليني‪.‬‬
‫واملذهب الثالث‪:‬‬
‫من فرق بني األلفاظ اليت ال جمال للتأويل فيها وبني األلفاظ اليت للتأويل فيها جماز‪،‬‬
‫فيجوز النقل باملعىن يف األول دون الثاين وهذا مروي عن بعض أصحاب الشافعي‪.‬‬
‫املذهب الرابع‪:‬‬

‫‪184‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫التفصيل بني أن حيفظ الراوي اللفظ أم ال‪.‬‬


‫فإن حفظه‪ ،‬جاز أن يروي بغريه‪ .‬وإن مل حيفظه مل جيز له أن يرويه بغريه‪.‬‬
‫املذهب اخلامس‪:‬‬
‫التفصيل بني األوامر والنواهي وبني األخبار‪.‬‬
‫فأما األوامر والنواهي‪ :‬فيجوز روايتها باملعىن‪.‬‬
‫وأما األخبار‪ :‬فال جيوزون روايتها باملعىن‪.‬‬
‫فإذا جاء حديث فيه أوامر ونواٍه مثل‪:‬‬
‫ال تبع الذهب بالذهب‪.‬‬
‫أو اقتلوا األسودين يف الصالة‪.‬‬
‫فقد روي "أنه صلى اهلل عليه وسلم أمر بقتل األسودين يف الصالة"‪.‬‬
‫هذا جائز‪.‬‬
‫أما إن كان إخباًر ا عن اآلخرة‪ ،‬عن اجلنة والنار‪ ،‬ال بد من اللفظ‪.‬‬
‫املذهب السادس‪:‬‬
‫التفصيل بني احملكم وغريه‪.‬‬
‫فتجوز الرواية باملعىن يف األول دون الثاين‪.‬‬
‫‪185‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فاجململ واملشرتك يف اجملاز ال جيوز الرواية باملعىن‪ ،‬أما احملكم فيجوز‪.‬‬


‫املذهب السابع‪:‬‬
‫أن يكون املعىن موضوعا يف مجلة ال يفهمه العامي إال بأداء تلك اجلملة‪.‬‬
‫فهنا ال جيوز روايته إال بأداء تلك اجلملة بلفظها‪.‬‬
‫املذهب الثامن واألخري‪:‬‬
‫التفصيل بني أن يورده على قصد االحتجاج والفتيا أو يورده بقصد الرواية‪.‬‬
‫خالصة هذا األمر‪:‬‬
‫أن العلماء اختلفوا يف هل جتوز الرواية باملعىن أو ال جتوز‪.‬‬
‫والراجح اجلواز كما بيّنا‪.‬‬
‫فلو جاء حديث روي باملعىن يعارضه حديث روي بالنص فيقدم املروي بالنص‬
‫على املروي باملعىن‪.‬‬
‫مثاله حديث أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪" :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أبصر‬
‫خنامة يف قبلة املسجد فحكها حبصاة مث هنى أن يبصق الرجل بني يديه أو عن ميينه‬
‫ولكن عن يساره أو حتت قدمه اليسرى"‪.‬‬
‫هذا احلديث روي من طريق سليمان بن حرب بلفظ‪:‬‬

‫‪186‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫"إذا كان أحدكم يف صالة فال يبصقن عن ميينه وال عن يساره وال بني يديه ولكن‬
‫حتت قدمه اليسرى‪ ،‬فإن مل يستطع ففي ثوبه"‪.‬‬
‫فخالف الرواية املتفق عليها وهي‪" :‬ولكن عن يساره"‪.‬‬
‫إذن رواية سليمان بن حرب هنى عن البصق عن اليمني وعن اليسار‪.‬‬
‫الرواية األوىل‪ :‬رواية أيب سعيد‪ ،‬أنه هنى عن اليمني فقط‪ ،‬ورخص يف اليسار‪.‬‬
‫فرواه بزيادة (ال) فقال‪" :‬وال عن يساره"‬
‫فخطأ العلماء سليمان ألنه كان يروي احلديث باملعىن‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسئل أبو زرعة عن حديث رواه سليمان بن حرب‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن القاسم‬
‫بن مهران‪ ،‬عن أيب رافع‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا‬
‫كان أحدكم يف صالة فال يبصقن عن ميينه وال عن يساره وال بني يديه ولكن حتت‬
‫قدمه اليسرى فإن مل يستطع ففي ثوبه"‪.‬‬
‫قال أبو زرعة‪ :‬ما روي عن النيب صلى اهلل عليه بأن يبزق عن يساره أصح من الذي‬
‫ذكر "وال يبصق عن يساره"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أخطأ سليمان بن حرب فيما روى من منت هذا احلديث بأال يبزق عن‬
‫يساره‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فقد حدثنا أيب عن أيب الوليد‪ ،‬وآدم العسقالين‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن القاسم بن مهران‪،‬‬
‫عن أيب رافع‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬إذا كان‬
‫أحدكم يف صالة أو يصلي فال يبزق بني يديه وال عن ميينه لكن عن يساره حتت‬
‫قدمه"‪.‬‬
‫هكذا منت حديث أيب الوليد‪ ،‬وآدم عن شعبة ورواه هشيم‪ ،‬عن القاسم بن مهران‬
‫أيب رافع أيب هريرة‪ ،‬عن النيب صلى اهلل عليه وسلم واتفاق متون سائر األحاديث‬
‫عن النيب صلى اهلل عليه وسلم مثل ذلك سواء‪.‬‬
‫قال اخلطيب‪:‬‬
‫كان سليمان يروي احلديث على املعىن فتتغري ألفاظه يف روايته‪.‬‬
‫إذن رجح العلماء رواية جواز البصق على اليسار على رواية النهي عنه‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن سليمان بن حرب كان يروي احلديث باملعىن‪.‬‬
‫أحبيت يف اهلل هبذا املرجح تنتهي حماضرة اليوم وبقي لنا سؤال‪.‬‬
‫اذكر ثالثة مرجحات مما ذكرنا يف هذه احملاضرة مع الشرح والتمثيل ملا تقول‪.‬‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬نشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس السادس والعشرون‬


‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده‪ ،‬ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد‪ ،‬وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪ ،‬أما بعد؛‬
‫أحبيت يف اهلل طلبة وطالبات كلية العلوم الشرعية والعربية مرحبا بكم يف هذه‬
‫احملاضرة السادسة والعشرين‬
‫يف الباب‪ :‬احلادي عشر‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫التعارض والرتجيح‬
‫وقد سبق أن تكلمنا يف حماضرتني سابقتني عن بعض قواعد واملرجحات عند‬
‫تعارض األدلة‪.‬‬
‫وقد وصلنا إىل املرجح الرابع عشر‪.‬‬
‫يقول شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪ -14‬يرجح النص على الظاهر‬

‫وتكلمنا قبل ذلك عن النص‪.‬‬


‫أي‪ :‬اخلرب الوارد يف املسألة بنصها الذي ال حيتمل معىن آخر‪.‬‬
‫وكذلك الظاهر الذي له معىن ظاهر وآخر مرجوح‪.‬‬
‫قال‪ :‬يرجح النص على الظاهر‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪( :‬زكاة احللي)‬
‫ورد فيها حديثان‪.‬‬
‫أحدمها نص املسألة وهو حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪" :‬أن امرأة‬
‫أتت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومعها ابنة هلا‪ ،‬ويف يدها مسكتان غليظتان من‬
‫ذهب‪ ،‬فقال هلا‪ :‬أتعطني زكاة هذا؟ قالت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬أيسرك أن يسورك اهلل هبما‬

‫‪190‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫سوارين من نار؟ قال‪ :‬فخلعتهما فألقتهما إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫مها هلل عز وجل ولرسوله"‪.‬‬
‫هذا حديث حسن رواه أبو داود وغريه‪.‬‬
‫وورد عاًم ا يف زكاة احللي أو يف زكاة الذهب بصفة عامة وهو حديث أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ما من صاحب ذهب‬
‫وال فضة ال يؤدي منها حقها إال إذا كان يوم القيامة ُص فحت له صفائح من نار‬
‫فأمحي عليها يف نار جهنم فيكوى هبا جنبه وجبهته وظهره‪ ،‬كلما ضربت عليه‬
‫أعيدت له يف يوم كان مقداره مخسني ألف سنة‪ ،‬حىت يقضى بني العباد فريى سبيله‬
‫إما إىل اجلنة وإما إىل النار"‪.‬‬
‫فهنا هذا حديث ظاهر‪ ،‬واألول نص يف مسألته‪.‬‬
‫لذلك اختلف العلماء‪.‬‬
‫هل يف حلي املرأة زكاة؟‬
‫على أقوال مخس أرجحها أن فيه الزكاة‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫هلذا النص الوارد وغريه من األدلة‪ ،‬ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم بني أن يف احللي‬
‫الزكاة‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫قال الشيخ ابن العثيمني رمحه اهلل‪:‬‬


‫فعندما نستدل إلثبات احلكم يف هذه املسألة بأن نبدأ باخلاص ألنه نص يف‬
‫املوضوع‪ ،‬إذ أن العام ميكن للمعارض أن يقول‪ :‬خرج من عمومه كذا وكذا‪.‬‬
‫لكن النص الذي خيص هذا الشيء بعينه ال ميكن املنازعة فيه‪ ،‬إال يف ثبوته إذا كان‬
‫ميكن النزاع يف ثبوته‪.‬‬
‫ولذا قال‪ :‬إذن يقدم النص على الظاهر‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫‪ -15‬ويرجح الظاهر على المؤول‬

‫وسبق أن بينا أن األصل يف األحكام هو‪:‬‬


‫محل النص على ظاهره وال نلجأ إىل التأويل إال إذا تعذر محله على الظاهر‪.‬‬
‫وذكرنا من فوائد محل النص على ظاهره‬
‫األول‪ :‬أن هذه طريقة السلف رضي اهلل عنهم‪ ،‬أهنم كانوا حيملون النصوص على‬
‫ظاهرها‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أنه أحوط أن جُي ري اإلنسان النص على ظاهره حىت يسرتيح ويأمن العاقبة‬
‫وال يعرض نفسه للخطر‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الثالث‪ :‬أنه أبرأ للذمة‪ .‬ألنه إذا أجرى النصوص على ظاهرها فقد برئت ذمته وصار‬
‫له حجة عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه أقوى يف التعبد واالنقياد‪.‬‬
‫ألن كمال التعبِد أن تذل للمعبود عز وجل وختضع لكالمه‪.‬‬
‫لذا لو جاء نصان أحدمها يدل على املسألة ظاهًر ا والثاين على خالفها تأويال‪ ،‬أخذنا‬
‫بالظاهر‪.‬‬
‫ومثال ذلك يف‪ [ :‬العبادات واملعامالت ]‬
‫أما العبادات‪:‬‬
‫ففي مسألة الوضوء من حلم اإلبل‪.‬‬
‫محله اجلمهور على غسل اليدين‪.‬‬
‫ومحله احلنابلة على ظاهر النص‪.‬‬
‫(توضؤوا من حلوم اإلبل)‬
‫فيقدم الظاهر الذي هو‪ :‬الوضوء املعروف على املؤول‪.‬‬
‫(أي غسل اليدين واملضمضة واالستنشاق وغسل الوجه والذراعني ومسح الرأس‬
‫واألذنني وغسل الرجلني)‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا هو الوضوء‪ ،‬هذا ظاهر احلديث‪.‬‬


‫ومن محله على غسل اليدين وهم مجاهري العلماء‪ ،‬أولوا كلمة الوضوء هبذا‪.‬‬
‫والصحيح قول احلنابلة يف املسألة‪:‬‬
‫أنه جيب الوضوء من أكل حلم اإلبل‪.‬‬
‫ولذلك يقول اإلمام النووي رمحه اهلل (ومعلوم أنه شافعي املذهب)‪ ،‬يقول‪ :‬وإن‬
‫كان يف مذهب اجلماهري على عدم الوضوء من حلوم اإلبل إال أن هذا املذهب أقوى‬
‫دليال‪( .‬أي مذهب احلنابلة)‪.‬‬
‫كذلك يف املعامالت‪:‬‬

‫قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال نكاح إال بويل"‪.‬‬
‫الصحيح أو الظاهر‪ :‬أنه ال نكاح صحيحا إال بويل‪.‬‬
‫ومحله على‪( :‬ال نكاح تاَّم) تأويل حيتاج إىل دليل‪.‬‬
‫لذلك قال العلماء‪:‬‬
‫الراجح أنه ال نكاح صحيح‪ ،‬من باب ترجيح الظاهر على املؤول‪.‬‬
‫كذلك قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪ -16‬يرجح المنطوق على المفهوم‬

‫واملنطوق‪ :‬هو ما يفهم من النص الوارد‪.‬‬


‫واملفهوم‪ :‬هو ما يفهم من عكس أو خالف النص املذكور‪.‬‬
‫ولذلك قال العلماء‪:‬‬
‫املنطوق هو‪ :‬ما دل عليه اللفظ يف حمل النطق‪.‬‬
‫واملفهوم هو‪ :‬ما دل عليه النص ما دل على املفهوم أو ما دل عليه اللفظ ال يف حمل‬
‫النطق‪.‬‬
‫فإذا تعارض منطوق ومفهوم قدم املنطوق على املفهوم‪.‬‬
‫ألنه إمنا يفهم من اللفظ مباشرة‪ ،‬وال يعمل باملفهوم إال إذا وافق املنطوق‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫حديث أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه قال‪" :‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل؛ أنتوضأ من بئر‬
‫بضاعة؟"‬
‫(وهي بئر يلقى فيها احليض وحلوم الكالب والننت)‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن املاء طهور ال ينجسه شيء"‪.‬‬
‫هذا منطوق هذا احلديث‪ :‬أن املاء طهور ال ينجسه شيء‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وحديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال‪" :‬سئل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عن املاء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال‪" :‬إذا كان املاء قلتني مل حيمل‬
‫اخلبث"‪.‬‬
‫هذا احلديث يدل مبنطوقه على أن املاء إذا كان كثريا أكثر من قلتني ال ينجس‪.‬‬
‫ويدل مبفهومه على أن املاء إذا كان دون القلتني فإنه ينجس مبجرد مالقاة النجاسة‬
‫وإن مل يتغري أحد أوصافه‪.‬‬
‫فهذا املفهوم يتعارض مع احلديث األول‪" :‬إن املاء طهور ال ينجسه شيء"‬
‫فمنطوق احلديث األول نص على أن املاء طهور ال ينجسه شيء إذا تغري أحد‬
‫أوصافه‪.‬‬
‫ومفهوم احلديث الثاين يقول أو ُيفهم منه أن املاء إذا كان دون القلتني فإنه ينجس‬
‫مبجرد املالقاة‪.‬‬
‫فرجح العلماء املنطوق على املفهوم‪ .‬ولذا نقول الراجح يف هذه املسألة‪:‬‬
‫أن املاء طهور ال ينجسه شيء‪ ،‬إال ما غلب على أحد أوصافه‪.‬‬
‫هذ معىن قول املصنف حفظه اهلل‪ :‬يرجح املنطوق على املفهوم‪.‬‬
‫مث قال السابع عشر‪:‬‬
‫‪ -17‬يرجح القول على الفعل‬
‫‪196‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإذا قال النيب صلى اهلل عليه وسلم قوال مث فعل فعال يعارض القول‪ ،‬فنقول‪ :‬القول‬
‫يقدم على الفعل‪ ،‬وذلك ألن املشرع الذي ُيتعبد بقوله وفعله دون غريه من البشر‪.‬‬
‫فإذا تعارض قول وفعل للنيب صلى اهلل عليه وسلم قدم القول صراحة لالتفاق على‬
‫داللة القول‪.‬‬
‫خبالف الفعل‪ ،‬فقد يكون هناك احتمال أنه يكون خاص به صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وهناك احتمال أنه يكون من األفعال اجلبلية‪.‬‬
‫وهناك احتمال أن يكون هذا الفعل فعله النيب صلى اهلل عليه وسلم على عادات‬
‫العرب‪.‬‬
‫ولذلك ميثل بعض الفقهاء يف عدم اجلمع بني أدلة استقبال القبلة واستدبارها‪.‬‬
‫فحديث أيب أيوب األنصاري رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا‬
‫أتيتم الغائط فال تستقبلوا القبلة وال تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا"‬
‫قال أبو أيوب‪ :‬فقدمنا الشام (أي يف خالفة عمر) فوجدنا مراحيض بنيت ِقَبَل القبلة‬
‫فننحرف ونستغفر اهلل تعاىل‪.‬‬
‫فهذا هني من النيب صلى اهلل عليه وسلم عن استقبال القبلة أو استدبارها‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مث جاء أنه فعله صلى اهلل عليه وسلم كما يف حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل‬
‫عنهما قال‪" :‬ارتقيت يوما فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجيت‪ ،‬فرأيت النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام"‪.‬‬
‫فهذا الفعل يتعارض مع القول‪.‬‬
‫ولذا من مل جيمع بني احلديثني يقول‪ :‬يقدم القول (أي حديث أيب أيوب) على‬
‫حديث ابن عمر‪ .‬وهذا هو القول األول يف املسألة‪.‬‬
‫واستدلوا لذلك بفهم أيب أيوب رضي اهلل عنه أنه ملا قدم الشام يف خالفة عمر‬
‫فوجد املراحيض قد بنيت حنو الكعبة‪ ،‬فكان ينحرف عن القبلة ويستغفر اهلل عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫لكن يف هذه املسألة ميكن اجلمع بني األدلة‪ ،‬فال نلجأ إىل الرتجيح‪.‬‬
‫وهذا فهم عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما "ملا أناخ الراحلة وجلس يبول إليها‪.‬‬
‫فقال مروان األصفر‪ :‬يا أبا عبد الرمحن أمل يكن قد هُن ي عن ذلك؟‬
‫قال‪ :‬بلى؛ هذا إذا مل يكن بينك وبني القبلة شيء"‪.‬‬
‫فلذلك رخصوا يف البنيان‪ ،‬ومنعوا يف الفضاء مجعا بني األدلة‪.‬‬
‫ومثال ذلك أيضا‪:‬‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ال َيْنِكح احملرم وال ُيْنَك ح وال خيطب"‬
‫‪198‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فهذا تعارض مع حديث ابن عباس‪:‬‬


‫"أن النيب صلى اهلل عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حمرم"‪.‬‬
‫فقدم العلماء القول على الفعل‪.‬‬
‫وإن كان هذا من املرجحات‪ ،‬ألن ميمونة أخربت أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫تزوجها وهو حالل‪ .‬ولو مل خُت رب لقدم القول أي النهي على الفعل‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الثامن عشر‪:‬‬
‫‪ -18‬يرجح ما ذكرت علته على ما لم تذكر‬

‫ومعىن ذلك أن ذكر العلة من املرجحات‪.‬‬


‫فإهنا تنص على املقصود من احلديث فترتجح على ما مل تظهر علته‪.‬‬
‫ولذلك العلماء قالوا يف حديث عبد اهلل بن عقيل قال‪" :‬أتانا كتاب رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أال ننتفع من امليتة بإهاب وال عصب"‪.‬‬
‫هذا حديث ظاهره أنه ال ينتفع اإلنسان من امليتة بشيء‪.‬‬
‫مث جاء حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال‪" :‬وجد النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم شاة ميتة ُأعطيتها موالة مليمونة من الصدقة‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫هال انتفعتم جبلدها؟ قالوا يا رسول اهلل إهنا ميتة‪ .‬قال‪ :‬إمنا حرم أكلها"‬
‫‪199‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذن هنا بني النيب صلى اهلل عليه وسلم أن املنهي من امليتة إمنا هو األكل فقال‪" :‬إمنا‬
‫حرم أكلها"‪ ،‬فجاز أخذ اجللد ودبغه واالنتفاع به‪.‬‬
‫وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم‪.‬‬
‫ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم بني العلة من احلرمة‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫التاسع عشر‪:‬‬
‫‪ -19‬يرجح الحظر على اإلباحة‬

‫ومعىن هذا أنه لو جاء هني عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وجاء أمر يف نفس‬
‫املسألة فإن احلظر أي النهي مقدم على األمر‪.‬‬
‫وذلك لقاعدة‪:‬‬
‫[دفع املفسدة مقدم على جلب املصلحة]‬
‫فيقدم النهي‪.‬‬
‫وألن النيب صلى اهلل عليه وسلم بني ذلك‪.‬‬
‫ولو نظرنا حلديث عثمان السابق رضي اهلل عنه يف قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال َيْنِكح احملرم وال ُيْنَك ح وال خيطب"‪ ،‬فهذا هني عن اخلطبة والنكاح‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫مع حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال‪" :‬تزوج النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ميمونة وهو حمرم"‪ ،‬فنقول هنا الثاين مبيح واألول مينع‪.‬‬
‫فيقدم املانع على املبيح‪.‬‬
‫وهناك قاعدة شرعية أصال تقول‪:‬‬
‫[ لو اشتبه مباح مبحرم ُغِّلب جانب احلرمة واحلظر ]‪.‬‬
‫كرجل أتى بقطع من اللحم فوضعها يف املاء مث أوقد عليها النار‪ ،‬وبعدما استوت‬
‫ونضجت قالوا‪ :‬إن هذه القطع من اللحم فيها قطعة من حلم اخلنزير‪ ،‬وباقي القطع‬
‫قطع احلالل من حلم شاة‪.‬‬
‫فماذا يصنع الذي أعد وطهى الطعام؟‬
‫نقول‪ :‬حيرم عليه أن يأكل أي قطعة من هذه القطع‪.‬‬
‫رجل أمامه مخس نسوة‪ ،‬يريد أن يتزوج بإحداهن فقيل له‪ :‬هؤالء النسوة فيهم‬
‫امرأة أختك من الرضاعة لكننا ال نعلم من هي‪.‬‬
‫هل هي الكربى؟ أم الوسطى؟ أم الصغرى؟ أم البيضاء؟ أم السوداء؟‬
‫ال ندري‪ .‬لكننا على يقني أن هؤالء النسوة فيهم أختك من الرضاعة‪.‬‬
‫ماذا يصنع هذا الرجل ومل يهتِد إليها؟‬

‫‪201‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫نقول حيرم عليه أن يتزوج بامرأة من هؤالء اخلمس‪.‬‬


‫ملاذا؟‬
‫ألنه ال جيوز للرجل أن يتزوج بأخته من الرضاع‪ .‬وال ندري من هي اليت رضعت‬
‫معه‪ .‬فنقول حيرم عليه اجلميع‪.‬‬
‫لذلك مثلوا هلذا بقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال حيل للمرأة ان تصوم وزوجها‬
‫شاهد إال بإذنه"‪.‬‬
‫فلو أن امرأة أرادت أن تصوم يوم عرفة‪ ،‬أو عاشوراء‪ ،‬أو االثنني‪ ،‬أو اخلميس‪ ،‬أو‬
‫األيام البيض‪ ،‬أو تسع ذي احلجة‪ ،‬أو ست من شوال‪ ،‬أو غالب احملرم‪ ،‬أو شعبان‪،‬‬
‫فإنه ال جيوز هلا الصيام وحيرم عليها ذلك إال إذا استأذنت من الزوج الذي موجود‬
‫معها‪.‬‬
‫ملاذا؟ ألن النهي مقدم على اإلباحة‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‬
‫املرجح العشرون‪:‬‬
‫‪ -20‬يرجح الخاص على العام‬

‫فلو جاء حديث عام فإنه حيمل على اخلاص‪ ،‬ويرجح اخلاص على العام‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فمن األحاديث العامة قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬فيما سقت السماء والعيون‬
‫أو كان عثريا الُعشر وما سقي بالنضح نصف العشر"‪.‬‬
‫فهذا حديث عام يف كل ما خيرج من األرض سواء كان قليال أو كثريا‪.‬‬
‫"فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر"‬
‫فلو كان هذا احملصول وسًق ا واحًد ا لوجب إخراج الزكاة منه‪ ،‬على عموم هذا‬
‫احلديث‪.‬‬
‫مث يأيت احلديث اخلاص فيقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ليس فيما دون مخسة‬
‫أوسق صدقة"‪.‬‬
‫فهذا اخلاص خصص العموم الذي يف احلديث األول‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬إذا أخرجت األرض مخسة أوسق فأكثر وجب إخراج الزكاة‪.‬‬
‫وإذا أخرجت دون مخسة أوسق ال زكاة فيه‪.‬‬
‫فهنا يقدم اخلاص على العام‪.‬‬
‫أيضا قال حفظه اهلل‪:‬‬
‫املرجح احلادي والعشرون‪:‬‬
‫‪ -21‬يرجح المقيد على المطلق‬

‫‪203‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫تكلمنا عن املقيد واملطلق قبل ذلك وقلنا إنه‪:‬‬


‫[حيمل املطلق على املقيد‪ ،‬إذا اتفقا يف السبب واحلكم]‪.‬‬
‫ويرتجح عليه عند التعارض كذلك‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫قوله تعاىل‪ِ { :‬إَمَّنا َح َّر َم َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَتَة َو الَّد َم َو ْحَلَم اِخْلنِز يِر }‬

‫وقوله تعاىل‪ُ { :‬قل اَّل َأِج ُد يِف َم ا ُأوِح َي ِإَّيَل َحُمَّر ًم ا َعَلٰى َطاِعٍم َيْطَعُم ُه ِإاَّل َأن َيُك وَن‬
‫َم ْيَتًة َأْو َدًم ا َّم ْس ُفوًح ا َأْو ْحَلَم ِخ نِز يٍر َفِإَّنُه ِر ْج ٌس }‬
‫فبالنظر إىل اآليتني جند أن لفظ (الدم) يف اآلية األوىل مطلق‪ ،‬فأي دم حيُر م‪.‬‬
‫ويف اآلية الثانية مقيد "باملسفوح"‪.‬‬
‫فننظر إىل احلكم فيهما فنجده واحدا وهو حرمة الدم‪.‬‬
‫كذلك السبب يف بيان حكم املطاعم احملرمة يف اآليتني‪.‬‬
‫فيكون احلكم والسبب فيهما واحًد ا‪ ،‬فيحمل املطلق على املقيد‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعاىل‪ِّ{ :‬م ن َبْع ِد َو ِص َّيٍة ُتوُصوَن َهِبا أو دين}‬
‫هذه اآلية أطلقت الوصية‪ ،‬حىت ولو كان هبا إضرار بالورثة‪.‬‬
‫لكن جاء يف اآلية اليت تليها قال‪ِ{ :‬م ن َبْع ِد َو ِص َّيٍة ُيوَص ٰى َهِبا َأْو َدْيٍن َغْيَر ُمَض اٍّر }‬
‫‪204‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإطالق الوصية يف اآلية األوىل قيد يف اآلية الثانية بكونه "غري مضار"‪ ،‬أي مل يقصد‬
‫به اإلضرار بالورثة‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الثاين والعشرون‪:‬‬
‫‪ -22‬يرجح المبين على المجمل‬

‫وقد تكلمنا يف هذا املرجح قبل ذلك بالتفصيل‪ ،‬فإذا جاء احلكم جمماًل وجاء مبينا‪،‬‬
‫قدم املبني على اجململ‪.‬‬
‫مثاله‪:‬‬
‫أفعال العبادات كالصالة واملناسك‪.‬‬
‫اهلل عز وجل قال‪َ { :‬و ِلَّلِه َعَلى الَّناِس ِح ُّج اْلَبْيِت َم ِن اْس َتَطاَع ِإَلْيِه َس ِبياًل }‬
‫حج البيت هذا جممل‪.‬‬
‫مث حج النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال يوم عرفة‪" :‬لتأخذوا عين مناسككم فإين ال‬
‫أدري لعلي ال أحج بعد حجيت هذه"‪.‬‬
‫فإذا تعارض جممل ومبني‪ ،‬يقدم املبني على اجململ‪ ،‬ألنه يفهم من املبني املراد من‬
‫النص‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فكما بني احلج بالقول والفعل‪ ،‬وكما بني الصالة بالقول والفعل‪ ،‬فال ميكن ألحد‬
‫أن يقدم اجململ ويقول‪ :‬أقيموا الصالة صلوا كما تشاءون أو حجوا كما تشاؤون‪.‬‬
‫نقول‪ :‬هذا ال ميكن‪ ،‬بل ينبغي علينا أن نقدم املبني على اجململ‪ ،‬فنأخذ احلج من‬
‫أفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وكذلك نأخذ الصالة من أفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم ألنه قال‪" :‬صلوا كما‬
‫رأيتموين أصلي"‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الثالث والعشرون واألخري‪.‬‬
‫‪ -23‬يرجح الحقيقة على المجاز‬

‫واحلقيقة‪ :‬هي اللفظ املستعمل فيما وضع له‪.‬‬


‫واجملاز‪ :‬اللفظ املستعمل يف غري ما وضع له‪.‬‬
‫وتكلمنا قبل ذلك وقلنا كلمة‪( :‬أسد)‬
‫احلقيقة‪ :‬أهنا تقال للحيوان املفرتس املعروف‪.‬‬
‫وجمازا‪ :‬تقال للرجل الشجاع‪.‬‬
‫كذلك كلمة (الصالة)‬

‫‪206‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫احلقيقة اللغوية معناها‪ :‬الدعاء‪.‬‬


‫واحلقيقة الشرعية معناها‪ :‬الصالة املعروفة املفتتحة بالتكبري واملختتمة بالتسليم‪.‬‬
‫فاملقصود بقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم إذا أحدث‬
‫حىت يتوضأ" املقصود احلقيقة الشرعية‪.‬‬

‫وكذلك جاءت الصالة مبعىن‪ :‬الدعاء يف قوله تعاىل‪ُ" :‬خ ْذ ِم ْن َأْم َو اِهِلْم َص َد َقًة‬
‫ُتَطِّه ُر ُه ْم َو ُتَز ِّك يِه م َهِبا َو َص ِّل َعَلْيِه ْم ۖ ِإَّن َص اَل َتَك َس َك ٌن ُهَّلْم ۗ َو الَّلُه ِمَس يٌع َعِليٌم }‬
‫فقوله‪( :‬وصِل عليهم)‬
‫هل املقصود هنا احلقيقة الشرعية أم احلقيقة اللغوية؟‬
‫قال العلماء‪ :‬احلقيقة اللغوية هي املقصودة‪ ،‬أي الدعاء‪.‬‬
‫ولذلك قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ملا أتى عبد اهلل بن أيب أوىف بصدقته‪ ،‬قال‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬اللهم صِّل على آِل أيب أوىف"‪.‬‬
‫فجعل املقصود هنا هو الدعاء‪.‬‬
‫فهذه هي املرجحات عند تعارض األدلة‪ ،‬وبذلك تنتهي هذه احملاضرة‪.‬‬
‫بقي لنا األسئلة‪:‬‬
‫هو سؤال واحد‪ :‬اذكر مخسة من املرجحات مع الشرح والتمثيل‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا وسبحانك اللهم حبمدك‪ ،‬نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫الدرس السابع والعشرون‬
‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫احملاضرة‪ :‬السابعة والعشرون‪.‬‬

‫الباب‪ :‬الثاني عشر‬


‫[ االجتهاد والتقليد ]‬
‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده نستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪،‬‬
‫إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد أما بعد؛‬
‫أيها األحبة يف اهلل؛ هذه هي احملاضرة السابعة والعشرون‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وقد وصلنا إىل الباب قبل األخري وهو بعنوان‪:‬‬


‫االجتهاد والتقليد‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الضابط الثاني عشر‪.‬‬
‫االجتهاد والتقليد‬
‫قال‪ :‬وفيه سبعة ضوابط‪.‬‬
‫الضابط األول‪:‬‬
‫االجتهاد بذل العاِلم المؤهل وسعه في استنباط الحكم الشرعي‬

‫وقبل أن نبدأ يف هذا الباب نقول‪:‬‬


‫االجتهاد لغة‪ :‬هو بذل الوسع والطاقة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬بذل اجلهد إلدراك أمر شاق‪.‬‬
‫وال يستعمل إال فيما فيه جهد ومشقة‪.‬‬

‫واصطالحا‪ :‬كما عرفه شيخنا حفظه اهلل بقوله‪ :‬هو بذل العامِل وسعه يف استنباط‬
‫احلكم الشرعي لكن قيد العامل باملؤهل‪.‬‬
‫وقال العلماء‪ :‬بذل الوسع يف النظر يف األدلة الشرعية الستنباط األحكام الشرعية‬

‫‪209‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هنا جاء دليل من الكتاب أو من السنة أو من اإلمجاع‪.‬‬


‫فينظر اجملتهد فيه من عدة نواٍح ليستنبط منه حكما شرعيا أو ليقيس عليه أمرا‬
‫حمدثا‪.‬‬
‫وقال العلماء يؤخذ من هذا التعريف عدة أمور وهي‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يبذل اجلهد واجملتهد وسعه باستفراغ غايته حبيث يعجز عن املزيد‪.‬‬
‫يعين يصل إىل درجة العجز يف االجتهاد‪.‬‬
‫قال الثاين‪ :‬أن يكون الباذل جهده جمتهدا‪.‬‬
‫فإذا كان من غري أهل االجتهاد فال يقبل قوله‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون الغرض من االجتهاد معرفة األحكام الشرعية العملية دون غريها‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون التعرف على األحكام الشرعية بطريق االستنباط‪.‬‬
‫واالجتهاد‪ :‬تتنوع احلوادث وحاجة املكلفني إىل معرفة أحكام دينهم فيها‪.‬‬
‫فإنه جيب أن يكون فيهم من حيقق الكفاية هلم يف ذلك‪.‬‬

‫قال تعاىل‪َ{ :‬و َم ا َك اَن اْلُم ْؤ ِم ُنوَن ِلَينِف ُر وا َك اَّفًةۚ َفَلْو اَل َنَف َر ِم ن ُك ِّل ِفْر َقٍة ِّم ْنُه ْم َطاِئَف ٌة‬
‫ِّلَيَتَف َّق ُه وا يِف الِّديِن َو ِلُينِذُر وا َقْو َمُه ْم ِإَذا َر َجُعوا ِإَلْيِه ْم َلَعَّلُه ْم ْحَيَذ ُر وَن }‬

‫‪210‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فاألمة من بعد نبيها صلى اهلل عليه وسلم وبعدما بني هلا الدين‪ ،‬ال بد أن يكون‬
‫هناك حوادث‪ ،‬ويكون هناك أمور حادثة فيجتمع هلا أهل العلم وجيتهدون يف‬
‫استنباط احلكم الشرعي‬
‫وقدر اهلل عز وجل‪ ،‬وأثناء تسجيل هذه احملاضرة وقع بالعامل أمر جلل وهو (فريوس‬
‫كورونا)‪..‬‬
‫وُم نع الناس من النزول إىل الشارع‪.‬‬
‫ومنعت الصلوات يف املساجد‪.‬‬
‫ومنعت صالة اجلمعة‪.‬‬
‫هذه مسألة حادثة مل تقع على عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ومل تقع على عهد الصحابة‪.‬‬
‫وال على عهد التابعني‪.‬‬
‫وال على عهد األئمة الكبار‪ ،‬أن مينع الناس من الصالة يف املساجد أو من صالة‬
‫اجلمعة‪.‬‬
‫فال بد للعلماء يف هذا الزمان أن جيتمعوا وأن يلحقوا هذا األمر احلادث‪،‬‬
‫ويستنبطوا له األحكام الشرعية‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وليس لكل داعية وال كل عامل وال كل أحد من آحاد الناس أن خيرج على الناس‬
‫بفتيا يقول جيوز أو ال جيوز‪.‬‬
‫بل ال بد أن جيتمع هلا أهل العلم مث يقرروا يف هذه النازلة ماذا يصنعون‪.‬‬
‫ومن هذا يتبني لنا أن هناك أمور ال اجتهاد فيها‪:‬‬
‫كمسائل العقائد‪ ،‬العقيدة توقيفية ال جيوز االجتهاد فيها ليس ألحد أن يقول برأيه‪.‬‬
‫كذلك املقطوع حبكمه‪:‬‬
‫كفرضية الصالة‪.‬‬
‫والزكاة‪.‬‬
‫وصيام رمضان‪.‬‬
‫وحرمة الزنا‪.‬‬
‫والربا‪.‬‬
‫والسرقة‪.‬‬
‫وشرب اخلمر‪.‬‬
‫هذه أمور وأحكام مقطوع هبا‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كذلك النص املقطوع بصحته‪ :‬كالنصوص القطعية يف احلدود كرجم الزاين‬


‫ا حصن وجلد البكر‪.‬‬
‫ُمل‬
‫وكفرضية املرياث‪.‬‬
‫وحقوق املستحقني للرتكة‪.‬‬
‫وغري ذلك‪...‬‬
‫أما جمال االجتهاد فهو يف أمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪:‬‬
‫إثبات النصوص الظنية الثبوت يف صحة نقل اخلرب عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم مبا ال يدع جماال للشك يف ثبوته‪.‬‬
‫الثاين‪:‬‬
‫هو داللة النص على احلكم‪.‬‬
‫وهذا يف النصوص ظنية الداللة‪.‬‬
‫ولذلك قال شيخنا‪ :‬النصوص من حيث الداللة والثبوت تنقسم إىل أربعة أقسام‪.‬‬
‫قطعي الداللة‪.‬‬
‫قطعي الثبوت‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وهذا ال جمال لالجتهاد فيه‪.‬‬


‫ظين الداللة‪.‬‬
‫ظين الثبوت‪.‬‬
‫وهذا فيه االجتهاد من الوجهني‪.‬‬
‫قطعي الداللة ظين الثبوت‬
‫وظين الداللة قطعي الثبوت‪.‬‬
‫فهذا فيه االجتهاد من جهة دون أخرى‪.‬‬
‫مث قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الثاني‪:‬‬
‫االتباع قبول قول القائل مع معرفة دليله‪ .‬والتقليد قبول قول القائل بدون معرفة دليله‬

‫إذن من هنا نفهم أن الناس ينقسمون إىل ثالثة أقسام‪:‬‬


‫جمتهد‪.‬‬
‫متبع‪.‬‬
‫مقلد‪.‬‬
‫فإذا كنت من أهل االجتهاد‪:‬‬

‫‪214‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فال جيوز لك أن تتبع أحًد ا‪ ،‬وال أن تقلد أحًد ا‪.‬‬


‫بل جيب عليك أن تنظر يف األدلة‪ ،‬وتستفرغ الوسع‪ ،‬وخترج باحلكم الشرعي‪.‬‬
‫وإذا كنت من أهل االتباع‪:‬‬
‫فإنك تعرف دليل من تتبع‪.‬‬
‫ولذلك قال العلماء‪ :‬املتبع البد أن يعلم دليل من يتبع‪.‬‬
‫وأضرب لكم مثاال للثالثة‪:‬‬
‫لو سئلت مثال عن حكم الوضوء من حلم اإلبل‪.‬‬
‫إذا كنت من اجملتهدين‪:‬‬
‫فيجب عليك أن تنظر يف األدلة ويف أقوال أهل العلم‪ ،‬ويف ثبوت األدلة‪.‬‬
‫مث إذا استقر عندك يف النفس قول‪،‬‬
‫تقول‪ :‬أرى أن الوضوء من أكل حلم اإلبل واجب‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫لألدلة واالستنباط‪.‬‬
‫وتبدأ ختربنا مبا وصلت إليه‪.‬‬
‫هذا إذا كنت من أهل االجتهاد‪.‬‬
‫‪215‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أما إذا كنت من أهل االتباع‪:‬‬


‫فيجب عليك أن تعرف دليل من تتبع‪.‬‬
‫وهذا يكون يف طلبة العلم كبارهم وصغارهم‪.‬‬
‫فإذا ُس ئلت ما حكم الوضوء من أكل حلم اإلبل؟‬
‫تقول‪ :‬يرى اإلمام أمحد وجوب الوضوء من حلم اإلبل وبه أقول‪.‬‬
‫لقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬توضؤوا من حلوم اإلبل"‪.‬‬
‫إذن أنت اتبعت اإلمام أمحد وعرفت الدليل‪.‬‬
‫فإذا كنت من أهل التقليد‪:‬‬
‫فيكفيك أن تقول أنه جيب‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫أنا أقلد اإلمام أمحد‪ ،‬آخذ بقوله‪ ،‬ال أعرف األدلة وال أتكلم فيها‪.‬‬
‫ولذلك التقليد مأخوذ من القالدة اليت يقلد اإلنسان هبا غريه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬جعل الشيء يف العنق‪.‬‬
‫واصطالحا‪ :‬اتباع من ليس قوله حجة‪.‬‬
‫فخرج من ليس قوله حجة‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫اتباع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واتباع اخللفاء األربعة‪ ،‬واتباع أهل اإلمجاع‪،‬‬
‫واتباع الصحايب‪ ،‬ألن أقواهلم حجة‪.‬‬
‫أما من قلد غريهم‪ :‬فال يكون قوله حجة‪.‬‬
‫فرمبا يكون قول اجلمهور هو الراجح‪.‬‬
‫بأن أكل حلم اإلبل ال ينقض الوضوء‪.‬‬
‫فأنت قلدت اإلمام أمحد حىت ولو مل تعرف خمرجه وال دليله‪.‬‬
‫واملقلد العامي ال يشرتط أن يعلم الدليل‪.‬‬
‫لقوله تعاىل‪َ{ :‬فاْس َأُلوا َأْه َل الِّذ ْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل َتْع َلُم وَن }‬
‫جمرد أن تأخذ الفتيا ينبغي لك أن تعمل هبا وال حتتاج أن تسأل العامل‪.‬‬
‫ما الدليل على كذا؟‬
‫ومن أين أخذت هذا احلكم؟‬
‫ومن أين أتيت به؟‬

‫مث قال‪:‬‬
‫‪217‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الضابط الرابع‪:‬‬
‫قد يكون العالم مجتهدا في إثبات النص مقلدا في استنباط الحكم والعكس‬

‫وهذه مسألة مهمة تفتح الباب أمام كثري من طلبة العلم‪.‬‬


‫أن يأخذوا بابا من أبواب االجتهاد‪.‬‬
‫فال يشرتط ان يكون اجملتهد عاملا جبميع األحكام ومجيع املسائل‬
‫ولذلك قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫قد يكون العامل جمتهدا يف إثبات النص‪ ،‬نعم‪ ،‬عنده معرفة بعلل احلديث ورجاله‬
‫ودرجة كل راٍو وأقوال أهل العلم فيه‪ ،‬ويستطيع أن يقول هذا احلديث صحيح أو‬
‫به علة كذا وكذا وكذا‪.‬‬
‫كعلماء اجلرح والتعليل‪.‬‬
‫ومن احملدثني اجملتهدين يف إثبات النصوص‪:‬‬
‫األعمش‪.‬‬
‫وابن عيينة‪.‬‬
‫وابن معني‪.‬‬
‫وأمحد بن حنبل‪.‬‬
‫وغريهم كثري‬
‫‪218‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومن الفقهاء الذين جيتهدون يف استنباط األحكام ويقلدون يف إثبات النص‪:‬‬


‫أبو حنيفة والشافعي وغريمها‬
‫ومن أهل الفقه يف هذا العصر نقول‪:‬‬
‫من أهل االجتهاد يف إثبات النصوص‪:‬‬
‫العالمة األلباين رمحه اهلل‪.‬‬
‫ومن اجملتهدين يف استنباط األحكام‪:‬‬
‫الشيخ ابن العثيمني رمحه اهلل‪.‬‬
‫فإذا أردنا احلكم الشرعي للمسألة نظرنا إىل كالم العالمة العثيمني‪.‬‬
‫وإذا أردنا إثبات النص من حيث الصحة وعدمها نظرنا إىل كالم العالمة األلباين‪.‬‬
‫فهذا معىن الكالم‪.‬‬
‫ولذلك ذكر ابن عدي يف الكامل يف أخبار أيب حنيفة رمحه اهلل قال‪ :‬حدثنا أمحد بن‬
‫حممد بن عبيد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا املزين إمساعيل بن حيىي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا علي بن معبد عن‬
‫عبيد عن عبيد اهلل بن عمر اجلذري قال‪ :‬قال األعمش‪ :‬يا نعمان؛ (يعين أبا حنيفة)‬
‫ما تقول يف كذا؟ قال‪ :‬كذا‪ ،‬قال‪ :‬ما تقول يف كذا؟ قال‪ :‬كذا‪ ،‬قال من أين قلت؟‬
‫قال‪ :‬أنت‪ .‬حدثين عن فالن عنه‪ ،‬فقال األعمش‪ :‬يا معشر الفقهاء أنتم األطباء‬
‫وحنن الصيادلة"‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فانظر رمحك اهلل كيف باألعمش وهو حمدث الزمان يسأل أبا حنيفة عن مسائل يف‬
‫الفقه واالستنباط‪.‬‬
‫مث يسأل عن مصدرها فريد اإلمام األمر إليه‪.‬‬
‫وكذا اإلمام الشافعي كان يقلد يف احلديث ويستنبط يف الفقه‬
‫فقد روى البيهقي بإسناده قال‪ :‬أخربنا أبو عبد اهلل قال أخربنا عبد اهلل بن حممد بن‬
‫حيان قال‪ :‬حدثنا حممد بن عبد الرمحن بن زياد قال‪ :‬مسعت عبد اهلل بن أمحد بن‬
‫حنبل يقول‪ :‬قال أيب قال لنا الشافعي‪ :‬إذا صح عندكم احلديث فقولوا لنا حىت‬
‫نذهب إليه‪.‬‬
‫انظر الشافعي خيرب اإلمام أمحد يقول‪ :‬إذا صح عندكم احلديث فقولوا لنا حىت‬
‫نذهب إليه‪.‬‬
‫وكذلك انظر إىل هذه القصة العجيبة لرتى أدب العلماء والفقهاء واألئمة مع‬
‫بعضهم البعض‪ ،‬ال كما حيدث بني طلبة العلم اليوم من التنابذ والتنافر واخلصام‬
‫والسب واللعن‪.‬‬
‫فقد روى أهل اجلرح والتعديل عن عبد الرمحن أن أبا عثمان اخلوارزمي فيما كتب‬
‫إيل قال‪ :‬مسعت حممد بن الفضل البزاز قال‪ :‬مسعت أيب يقول‪ :‬حججت مع أمحد بن‬
‫حنبل ونزلنا يف مكان واحد فلما صليت الصبح درت املسجد (أي احلرام) فجئت‬

‫‪220‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إىل جملس سفيان بن عيينة وكنت أدور جملسا جملسا ألطلب طلبا ألمحد بن حنبل‬
‫حىت وجدت أمحد عند شاب أعرايب وعلى رأسه مجة‪ ،‬فزامحته حىت قعدت عند‬
‫أمحد بن حنبل فقلت‪ :‬يا أبا عبد اهلل؛ تركت ابن عيينة عنده الزهري وعمرو بن‬
‫دينار وزياد بن عالقة والتابعون ما اهلل به عليم فقال يل‪ :‬اسكت فإن فاتك حديث‬
‫بعلو جتده بنزول‪ ،‬وال يضرك يف دينك‪ ،‬وال يف عقلك‪ ،‬وإن فاتك عقل هذا الفىت‬
‫أخاف أال جتده إىل يوم القيامة‪ ،‬ما رأيت أحدا أفقه يف كتاب اهلل عز وجل من هذا‬
‫الفىت القرشي‪ ،‬قلت‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬حممد بن إدريس الشافعي‪.‬‬
‫سبحان اهلل الشافعي يسأل أمحد عن سند احلديث وأمحد يبحث عن عقل الشافعي‬
‫يف الفقه واالستنباط‪.‬‬
‫وهذا واضح‪.‬‬
‫ولذلك قال‪ :‬قد يكون مقلدا يف باب جمتهدا يف آخر‪.‬‬
‫وكما ذكرنا لكم أن هذه اجلملة ستأيت يف شروط اجملتهد‪.‬‬
‫قال الشيخ العثيمني رمحه اهلل‪ :‬والصحيح أن االجتهاد يتجزأ‪.‬‬
‫يعين أن اإلنسان قد جيتهد يف مسألة معينة من مسائل العلم‪ ،‬أو يف باب معني من‬
‫أبواب العلم‪ ،‬ولكنه ال يكون جمتهدا يف غري ذلك‪.‬‬
‫رجل جيتهد يف علم الفراغ فيحصله ويضبطه‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ورجل جيتهد يف علم التفسري‪.‬‬


‫وآخر جيتهد يف علم الفقه عامة‪.‬‬
‫وثالث جيتهد يف علم احلديث‪.‬‬
‫ورابع جيتهد يف علم اللغة‪.‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫فال يشرتط أن يكون اجملتهد عا ا بكل أحكام الدين‪.‬‬
‫ًمل‬
‫هذا خيذنا إىل‬
‫الضابط الخامس‪:‬‬
‫شروط المجتهد تسعة‬

‫لكي يصبح اإلنسان من أهل االجتهاد ال بد من توافر هذه الشروط‪.‬‬


‫وقلنا إن اجملتهد ال يشرتط أن يكون جمتهدا يف مجيع العلوم‪.‬‬
‫وهذه الشروط التسعة عرفها العلماء باالستقراء والتتبع‪.‬‬
‫أوال‪ :‬اإلسالم‪.‬‬

‫فال يصح االجتهاد من الكافر يف أمور الدين‪ .‬ألن االجتهاد يكون يف األحكام‬
‫الشرعية املتعلقة بالدين اإلسالمي‪ ،‬فال يقبل من الكافر قوله يف مسألة وإن بلغ مرتبة‬
‫اجملتهد ألن أقواله مردودة‪.‬‬
‫‪222‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ثانيا‪ :‬التكليف‬

‫فال يصح االجتهاد من الصيب وال اجملنون وال املعتوه وال السكران وال غريمها‪.‬‬
‫ألن عقوهلما قاصرة عن الفهم واالستنباط والنظر يف األدلة وغريها من آالت‬
‫االجتهاد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون عالما بالقرآن‬

‫والعلم بالقرآن املقصود‪ :‬أن يعرف كيف يستنبط األحكام من نصوصه‪.‬‬


‫وهو يتطلب معرفة مخسة علوم من علوم القرآن وهي‪:‬‬
‫أحكام القرآن‪ :‬فيعرف آيات األحكام‪ ،‬وقيل إن آيات األحكام هي حنو مخسمائة‬
‫آية‪.‬‬
‫وقد صنف العلماء يف آيات األحكام مصنفات‪:‬‬
‫ككتاب أحكام القرآن للقصاص احلنفي‪.‬‬
‫ومثله أليب بكر بن العرب املالكي‪.‬‬
‫ومن اجلوامع اجلامع ألحكام القرآن أليب عبد اهلل القرطيب‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬علم أسباب النزول‪.‬‬
‫ملاذا نزلت؟ ومىت نزلت؟‬

‫‪223‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ألنه قد يقول سبب النزول فيه معرفة الوقوف على احلكم التشريعي ومقاصد‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫وترى أن أسباب النزول قد تكون خاصة ولكن يؤخذ هبا عامة‪.‬‬
‫كذلك معرفة علم الناسخ واملنسوخ كما مر معنا وهو قليل يف القرآن‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬علم اختالف القراءات ينبغي أن يكون على علم هبا‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬أن يكون عاملا بالتفسري واستنباط األحكام من اآليات‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أن يكون عالما بالسنة مميزا صحيحها من سقيمها‬

‫ومعىن ذلك أن السنة تنقسم إىل قسمني‪:‬‬


‫سنة متواترة‪ ،‬فهذه ال حتتاج إىل اجتهاد‪.‬‬
‫وسنة آحاد‪ ،‬حتتاج إىل اجتهاد يف الوصول إىل صحة األثر‪.‬‬
‫كذلك اجلميع يف استنباط األدلة واألحكام‪.‬‬
‫ويكون على علم بالكتب املعتمدة‪:‬‬
‫كالصحة يف الصحيحني‪.‬‬
‫والسنن األربعة‪.‬‬
‫واملسند‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫واملوطأ‪.‬‬
‫وغريها من كتب أهل العلم‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬أن يكون عالما باللغة العربية‬

‫ومعىن العلم باللغة‪ :‬أن يكون عاملا بلسان العرب‪.‬‬


‫ألن هذه لغة القرآن والسنة‪.‬‬
‫ولن يستنبط األحكام من ال علم له بالنحو والصرف والبالغة‪.‬‬
‫واإلملام بأساليب اللغة العربية من التقدمي والتأخري واحلذف‪.‬‬
‫فال بد أن يكون على علم بدقائق األسرار‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬أن يكون عالما بأصول الفقه‬

‫كما تقدم يف األبواب السابقة‪.‬‬


‫استنباط األدلة الشرعية‪:‬‬
‫معرفة األدلة الوضعية‪.‬‬
‫االستئناسية‪.‬‬
‫القواعد العامة‪.‬‬
‫العام واخلاص‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫املطلق واملقيد‪.‬‬
‫اجملمدة واملبني‪.‬‬
‫قواعد الرتجيح والنظر لعند تعارض األدلة‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬أن يكون على علم بمسائل اإلجماع التي سبقت هذا الزمان‬

‫فإذا كان يف املسألة إمجاع فال جمال لالجتهاد‪.‬‬


‫وكتب اإلمجاع كثرية‪.‬‬
‫كمراتب اإلمجاع البن حزم‪.‬‬
‫واإلمجاع البن املنذر‪.‬‬
‫وصدر حديثا موسوعة اإلمجاع جملموعة العلماء تأيت من اإلمجاعات السابقة‪.‬‬
‫ألن اجملتهد ال ينبغي أن خيالف اإلمجاع كما سيأتينا‪.‬‬
‫ثامنا‪ :‬أن يكون عالما بالناسخ والمنسوخ‬

‫حىت يستطيع أن يصل إىل احلكم األخري‪.‬‬


‫فال يبين اجتهاده على نص منسوخ مث يتبني له بذلك‬
‫تاسعا‪ :‬أن يكون ذا ذكاء وفطنة‬

‫ومعىن هذا أن اإلنسان إذا كان قليل الذكاء ال يستطيع أن جيتهد‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫بل لكي حيسن التصرف يف األدلة ويستفيد منها يف استنباط احلكم أن يكثر من‬
‫املطالعة والقراءة يف كتب الفقهاء واألئمة املتقدمني‪ ،‬والتمرن على الطريقة‪ ،‬وغري‬
‫ذلك‪.‬‬
‫كأن يقرأ يف‪:‬‬
‫كتاب املدونة لإلمام مالك‪.‬‬
‫واألم لإلمام الشافعي‪.‬‬
‫واملغين البن قدامة‪.‬‬
‫واحمللل البن حزم‪.‬‬
‫وفتح الباري البن حجر‪.‬‬
‫وغريها‪ ،‬حىت يستطيع أن ميرن نفسه على االجتهاد‪.‬‬

‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬


‫الضابط السادس‪:‬‬
‫االجتهاد ال ينقض باجتهاد آخر‬

‫ومعىن هذا الكالم‪ :‬أن اجملتهد إذا اجتهد فحكم حبكم مث بعد ذلك رجع عنه‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فإن قوله الثاين ال ينقض قوله األول‪.‬‬


‫ومثال ذلك‪:‬‬
‫لو أن رجال يف الصحراء وال يعلم أين القبلة فاجتهد فصلى يف جهة ما الظهر‪.‬‬
‫مث ملا جاء العصر تغري اجتهاده إىل اجلهة األخرى واجتهد وصلى العصر‪.‬‬
‫السؤال اآلن هل يلزمه أن يعيد صالة الظهر اليت صالها إىل غري هذه اجلهة؟‬
‫اجلواب‪ :‬ال‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألنه انتقل من اجلهة األوىل إىل اجلهة الثانية باجتهاد‪.‬‬
‫فال يلزمه اإلعادة‪.‬‬
‫فعلى هذا نقول‪ :‬إن صالة الظهر صحيحة وإن صالة العصر صحيحة‪.‬‬
‫فإذا جاء املغرب وغري االجتهاد إىل جهة ثالثة أيضا ال يلزمه أن يعيد مثل هذه‬
‫الصلوات‪.‬‬
‫إذن االجتهاد ال ينقض باجتهاد آخر‪.‬‬
‫الضابط السابع‪:‬‬
‫ال يجوز التقليد إال بشرطين‬

‫‪228‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫يعين مىت يقلد اإلنسان غريه؟‬


‫قالوا‪ :‬ال جيوز لك أن تكون مقلدا إال بشرطني‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون المقلد عاميا عاجزا عن فهم الدليل‪.‬‬

‫فال جيوز لطالب العلم إن استطاع أن ينظر يف األدلة‪.‬‬


‫أو العامل أن يكون مقلدا‪.‬‬
‫بل املقلد هو الذي ال يستطيع أن ينظر يف‬
‫األدلة وال أن يستنبط منها احلكم الشرعي‪.‬‬
‫كذا يكون عاجزا عن فهم الدليل الوارد يف احلكم فال جيوز له أن يقلد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يستفتي عالما ثقة تقيا‪.‬‬

‫فإذا استفىت طالب العلم عاملا ثقة تقيا جاز له أن يقلده‪.‬‬


‫ولذلك نقول‪ :‬جيب على من كان عنده مسألة أن يبحث عن عامل ثقة مشهود له‬
‫بالعلم والتقوى والورع واخلشية من اهلل يف قول وفعل‪.‬‬
‫وال يبحث املقلد عن عامل يأخذ منه ما يوافق هواه أو خيالف قوله فعله‪.‬‬
‫ألن اهلل عز وجل قال‪َ{ :‬فاْس َأُلوا َأْه َل الِّذ ْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل َتْع َلُم وَن }‬
‫فأباح السؤال عند اجلهل‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪:‬‬


‫"أصاب رجال جرح يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مث احتلم فأمر‬
‫باالغتسال‪ ،‬فاغتسل فمات فبلغ ذلك رسول اهلل صلى وسلم‪ ،‬فقال‪" :‬قتلوه قتلهم‬
‫اهلل‪ ،‬أمل يكن شفاء العي السؤال (أي اجلهل) إمنا كان يكفيهم أن يعصب رأسه‬
‫خبرقة وأن ميسح عليها األثر"‪.‬‬
‫فلذلك ينبغي على املقلد أن يبحث عن عامل تقي خياف اهلل فيسأله عن فتياه‪.‬‬
‫هبذا نصل إىل هناية هذه احملاضرة ويبقى لنا األسئلة‪.‬‬

‫السؤال األول‪ :‬عرف اجملتهد‪.‬‬

‫السؤال الثاني‪ :‬ما الفرق بني اجملتهد واملتبع واملقلد؟‬

‫السؤال الثالث‪ :‬اذكر شروط االجتهاد مع شرح ثالثة منها‪.‬‬


‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك‪ ،‬نشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫الدرس الثامن و العشرون‬

‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‬


‫احملاضرة‪ :‬الثامنة والعشرون واألخرية‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إن احلمد هلل تعاىل حنمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪،‬‬
‫إنه من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪.‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم صل على حممد وعلى آل حممد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‬
‫إنك محيد جميد وبارك على حممد وعلى آل حممد كما باركت على إبراهيم وعلى‬
‫آل إبراهيم إنك محيد جميد‪.‬‬
‫أما بعد؛‬
‫أيها األحبة يف اهلل‪ :‬مرحبا بكم يف هذا اللقاء األخري من لقاءات دروس شرح مادة‪:‬‬
‫أصول الفقه من كتاب‪[ :‬البداية يف علم أصول الفقه]‬
‫ونشرحه من كتاب‪[ :‬غاية املأمول يف شرح البداية يف علم األصول] حملدثكم غفر‬
‫اهلل له ولوالديه ولسائر املسلمني واملسلمات‪.‬‬
‫أقول وباهلل التوفيق يف هذا الباب األخري الباب الثالث عشر‪:‬‬
‫يقول شيخنا حفظه اهلل تعاىل‪:‬‬

‫الباب الثالث عشر‬

‫‪231‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫كيفية الوصول إلى الحكم الشرعي‬


‫يف اللقاء السابق تكلمنا عن اجملتهد وشروط اجملتهد‪.‬‬
‫يف هذا اليوم سنأخذ بعض املسائل اليت تبني لنا كيف يصل اجملتهد إىل حكم‬
‫شرعي‪.‬‬
‫يقول شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫وفيه مثانية ضوابط‪.‬‬
‫الضابط األول‪:‬‬
‫تصور المسألة تصورا صحيح‬

‫إذا أردت أن تبحث مسألة أو أن تتكلم يف مسألة من املسائل فال بد أن تتبع‬


‫اخلطوات التالية‪:‬‬
‫أول خطوة يف املسألة هي‪:‬‬
‫أنك تتصور هذه املسألة تصورا صحيحا‪.‬‬
‫ولنأخذ مسألة من املسائل اليت اختلف فيها أهل العلم لنضعها أمامنا‪.‬‬
‫أستأذنكم أن يكون مع كل طالب وطالبة ورقة وقلم أو عدة أوراق وقلم‪.‬‬
‫ويبدأ معي يف تصور املسألة‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫املسألة اليت سنأخذها‪:‬‬


‫((حكم غسل اجلمعة))‬
‫هذا هو العنوان يف وسط السطر‪.‬‬
‫إذن تصور املسألة‪:‬‬
‫هل غسل اجلمعة واجب أم مستحب؟‬
‫فننظر أوال يف أقوال أهل العلم يف هذا األمر‪ .‬فنجد أهنم قد اختلفوا على قولني‪:‬‬
‫القول األول‪:‬‬
‫أن غسل اجلمعة واجب على كل من جتب عليه اجلمعة‪.‬‬
‫اكتب هذا يف الورقة األوىل‪.‬‬
‫يف املقابل يف الورقة الثانية‪:‬‬
‫القول الثاين‪:‬‬
‫أن غسل اجلمعة مستحب فقط وال جيب‪.‬‬
‫ما هي مثرة اخلالف بني العلماء؟‬
‫(هذا ال يكتب)‪.‬‬
‫أن من قال بالوجوب قال يأمث من ترك الغسل‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ومن قال باالستحباب قال ال يأمث‪.‬‬


‫فهو فعل خالف األوىل‪.‬‬
‫قال‬
‫الضابط الثاني‬
‫إذا كان في المسألة إجماع فال نخالفه‬

‫ننظر يف هذه املسألة اليت بني أيدينا‪.‬‬


‫هل هناك إمجاع على قول من القولني للوجوب أو باالستحباب؟‬
‫ال جند يف هذه املسألة إمجاًعا‪.‬‬
‫إذن ليس أمامنا إال أن نبحث أقوال أهل العلم‪.‬‬
‫ملاذا إذا كان يف املسألة إمجاع ال خنالفه؟‬
‫ألن خمالف اإلمجاع مبتدع‪.‬‬
‫فلو مثال وجدنا قواًل يقول إن غسل اجلمعة بدعة‪.‬‬
‫هذا قول ليس مبشروع‪.‬‬
‫طيب لو أردنا أن نأخذ إمجاعا يف هذه املسألة نقول‪:‬‬
‫اإلمجاع على أن غسل اجلمعة مشروع‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫(يشرع الغسل للجمعة)‬


‫هذا باإلمجاع‪.‬‬
‫لكن هذه املشروعية اختلف العلماء فيها بني موجب ومستِح ب‪.‬‬
‫إذن أنا عرفت املسألة وتصورهتا‪.‬‬
‫ومل أجد فيها إمجاعا‪.‬‬
‫الضابط الثالث‪:‬‬
‫االطالع على أقوال أهل العلم في المسألة ومعرفة أدلة كل فريق‬

‫معنا ورقتان‪.‬‬
‫يف الورقة األوىل قلنا‪ :‬غسل اجلمعة واجب‪.‬‬
‫ويف الورقة الثانية قلنا‪ :‬غسل اجلمعة مستحب‪.‬‬

‫نأيت على الورقة األوىل‪:‬‬


‫((غسل اجلمعة واجب ويأمث تاركه))‪.‬‬
‫القائلون بذلك‪:‬‬
‫أبو هريرة ومل يصرح باالسم‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫أبو سعيد اخلدري ومل يصرح باالسم‪.‬‬


‫عمرو بن سليم‪.‬‬
‫احلسن البصري‪.‬‬
‫رواية عن مالك‪.‬‬
‫رواية عن أمحد لكنها ضعيفة غري مشهورة‪.‬‬
‫ابن حزم الظاهري‪.‬‬
‫هؤالء هم العلماء الذين قالوا بوجوب غسل اجلمعة‪.‬‬
‫انتقل إىل الورقة الثانية الذين يقولون‪(( :‬غسل اجلمعة مستحب))‪:‬‬
‫عبد اهلل بن مسعود‪.‬‬
‫عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫أبو حنيفة‪.‬‬
‫الشافعي‪.‬‬
‫عطاء‪.‬‬
‫أمحد‪.‬‬
‫وغريهم من أهل العلم‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذا القول الثاين‪.‬‬


‫إذن عرفنا األقوال وعرفنا من قال هبا‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪:‬‬
‫معرفة أدلة كل فريق‬
‫من يستدلون بوجوب اجلمعة‪ :‬ارجع إىل الورقة األوىل‪.‬‬
‫حديث أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"غسل يوم اجلمعة واجب على كل حمتلم"‪.‬‬
‫الدليل الثاين عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬من جاء منكم اجلمعة فليغتسل"‪.‬‬
‫طبعا وجه االستدالل يف احلديث األول‪ :‬قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :‬واجب‬
‫))‬
‫وكلمة واجب من ألفاظ الوجوب‪ ،‬كما سبق يف الدراسة‪.‬‬
‫وجه الداللة من احلديث الثاين‪:‬‬
‫دخول الم األمر على الفعل املضارع (( فليغتسل ))‬

‫‪237‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدليل الثالث‪ :‬عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم انه قال‪:‬‬
‫"حق هلل على كل مسلم أن يغتسل يف كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده"‪.‬‬
‫هذا أمر‪ ،‬وكلمة ((حق)) من ألفاظ الوجوب‪.‬‬
‫هذه أدلة القول األول يف الورقة األوىل‪.‬‬
‫ننتقل إىل أدلة القول الثاين يف الورقة الثانية‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪" :‬بينما عمر بن اخلطاب خيطب‬
‫الناس يوم اجلمعة إذ دخل عثمان بن عفان رضي اهلل عنهم فعرض به عمر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان‪ :‬يا أمري املؤمنني ما زدت حني‬
‫مسعت النداء أن توضأت مث أقبلت‪ ،‬فقال عمر‪ :‬والوضوء أيضا؟ أمل تسمعوا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬إذا جاء أحدكم إىل اجلمعة فليغتسل؟"‬
‫ووجه الداللة قالوا‪:‬‬
‫لو كان الغسل واجًبا أللزمه عمر للرجوع واالغتسال‪ .‬لكنه أقره على اجللوس‪.‬‬
‫الدليل الثاين‪ :‬حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪" :‬من توضأ فاحسن الوضوء مث أتى اجلمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه‬
‫وبني اجلمعة وزيادة ثالثة أيام ومن مس احلصى فقد لغا"‪.‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬

‫‪238‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫"من توضأ فأحسن الوضوء مث أتى اجلمعة" ومل يذكر غسال‪.‬‬


‫فلو كان واجبا لذكره‪.‬‬
‫الدليل الثالث على مسرة قال‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من توضأ يوم اجلمعة فبها ونعمة‪ ،‬ومن‬
‫اغتسل فهو أفضل"‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬هذا حديث صريح يف عدم الوجوب‪.‬‬
‫إذن عرفنا أدلة القول األول‪ ،‬وعرفنا أدلة القول الثاين‪.‬‬
‫قال شيخنا حفظه اهلل‪:‬‬
‫الضابط الرابع‪:‬‬
‫دراسة أدلة العلماء من وجهين‬
‫‪ -1‬الثبوت‬
‫‪ -2‬الداللة‬

‫فلو نظرنا إىل أدلة الفريق األول يف الورقة األوىل لوجدنا أن‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬حديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫والدليل الثاين أيضا‪ :‬حديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫والدليل الثالث أيضا‪ :‬حديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪239‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫إذن أدلة الفريق األول صحيحه ال غبار عليها‪.‬‬


‫مث ننظر إىل أدلة الفريق الثاين فنجد أن‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬دليل صحيح أخرجه مسلم‪.‬‬
‫والدليل الثاين‪ :‬دليل صحيح أخرجه مسلم‪.‬‬
‫والدليل الثالث‪ :‬دليل حسن أخرجه أبو داود والرتمذي والنسائي وابن ماجة وأمحد‬
‫وحسنه األلباين وحسنه شاكر‪.‬‬
‫رحم اهلل اجلميع‪.‬‬
‫مث تنازع الفريقان يف الدليل األخري‪.‬‬
‫فقال املوجبون‪:‬‬
‫(هذا حديث ضعيف) ألنه من رواية احلسن البصري عن مسرة‪.‬‬
‫ومل يسمع منه غري حديث العقيقة على الراجح‪ ،‬وإمنا كان حيدث عن صحيفة‬
‫أخرجها له أبناء مسرة بن جندب‪.‬‬
‫وقال القائلون باالستحباب‪:‬‬
‫ال نسلم لكم بذلك‪ ،‬ألن هناك أربعة من علماء احلديث الكبار أثبتوا مساع احلسن‬
‫من مسرة وهم‪:‬‬

‫‪240‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫علي بن املديين‪.‬‬
‫واإلمام البخاري‪.‬‬
‫والرتمذي حيث نقل كالم البخاري وأقره وحسن احلديث‪.‬‬
‫واحلاكم يف املستدرك‪.‬‬
‫مث أردف املستحبون القائلون باالستحباب‪ :‬ولو سلمنا لكم بأن احلسن مل يسمع‬
‫هذا احلديث من مسرة فقد وردت له شواهد‪:‬‬
‫منها حديث أنس عند ابن ماجة والطحاوية والبزار عبد الرزاق‪.‬‬
‫ومنها حديث أيب سعيد عند البيهقي والبزار وابن عبد الرب ويف التمهيد‪.‬‬
‫ومنها حديث جابر رواية عبد بن محيد وعبد الرزاق وابن عدي‪.‬‬
‫ومنها حديث أيب هريرة رواه البزار يف مسنده وابن عدي يف الكامل‪.‬‬
‫ومنها حديث عبد الرمحن بن مسرة رواه الطرباين يف األوسط والبيهقي‪.‬‬
‫ومنها حديث ابن عباس رواه البيهقي‪.‬‬
‫وقد فصل صاحب نصب الراية الشواهد واآلثار فذكر أن هذا احلديث هبذه‬
‫الشواهد صحيح‪.‬‬
‫إذن من حيث الثبوت‪ :‬ثبتت األدلة‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫من حيث الداللة‪ :‬جند أن أدلة الفريق األول أقوى يف الداللة على غسل اجلمعة‪.‬‬
‫لذا قال املوجبون‪:‬‬
‫ماذا تصنعون بأحاديث الوجوب وهي أقوى إسنادا من هذا احلديث وال تقاومها‬
‫ألهنا كلها متفق عليها؟‬
‫فكيف ترتكون العمل هبا وهي أقوى من أحاديثكم؟‬
‫فرد املستحبون فقالوا‪:‬‬
‫أدلة الفريق الثاين كذلك صحيحة ولكنها تزيد على أهنا صرحية يف عدم وجوب‬
‫غسل اجلمعة‪.‬‬
‫لذا قال املستحبون‪ :‬إذا تعذر اجلمع‪ ،‬نلجأ إىل الرتجيح‪.‬‬
‫وهنا ال يتعذر اجلمع‪.‬‬
‫بل ميكن اجلمع بني هذه األحاديث وهذه األدلة والعمل هبا مجيعا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كيف ميكن اجلمع؟‬
‫قال حنمل أحاديث غسل اجلمعة واجب وحق‪ ،‬ومن كان على شاكلتها‪ ،‬على‬
‫تأكيد الفعل‪.‬‬
‫وحيمل حديث مسرة على صرف الوجوب إىل االستحباب‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فنقول‪ :‬غسل اجلمعة سنة مؤكدة يف حق كل حمتلم‪.‬‬


‫قال املوجبون‪ :‬ولكن األمر ال يصرف على الوجوب إال لقرينة وليس لديكم إال‬
‫حديث مسرة وهو خمتلف يف صحته‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬ليس حديث مسرة هو القرينة الوحيدة الصارفة‪ .‬هناك قرائن أخرى‪.‬‬
‫فما هي؟‬
‫حديث عثمان وإقرار عمر له على عدم الغسل‪.‬‬
‫فقال املوجبون‪ :‬هذا احلديث حجة عليكم‪ ،‬ألنه لو مل يكن الغسل واجبا ملا قطع‬
‫عمر اخلطبة وعّر ض بعثمان والمه على عدم الغسل‪.‬‬
‫قال املستحبون‪ :‬ال‪ ،‬بل إن عمر يسأله عن السنة املؤكدة كما ثبت يف مسلم أن‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قطع خطبته وقال لسليك الغطفاين‪" :‬قم فصل ركعتني"‬
‫مع أن ركعيت حتية املسجد ليستا بواجبتني‬
‫قال املوجبون‪:‬‬
‫وهل من قرائن أخرى؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪،‬‬
‫حديث أيب هريرة‪ ،‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من توضأ فأحسن الوضوء‬
‫مث أتى اجلمعة"‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫هذه قرينة صارفة‪.‬‬


‫ألنه لو كان واجبا ويأمث من تركه لبينه النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وتعلمون أنه ال جيوز تأخري البيان عن وقت احلاجة‪.‬‬
‫فرتجح لدينا أن غسل اجلمعة مستحب ليس بواجب على الراجح من أقوال أهل‬
‫العلم‪.‬‬
‫إذن خالصة القول أن غسل مجعة (( مستحب )) وليس بواجب‪.‬‬
‫قال شيخنا‪:‬‬
‫الضابط الخامس‪:‬‬
‫البحث عن أدلة أخرى توضح حكم الشرع في المسألة‪.‬‬

‫ومجلة ذلك أن اجملتهد ال يقتصر يف حتقيق مناط املسألة على أقوال من سبق‪ ،‬فينظر‬
‫يف أدلة جديدة تؤيد احلكم‪.‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬من اغتسل يوم اجلمعة غسل اجلنابة مث راح فكأمنا‬
‫قرب بدنة" احلديث‪.‬‬
‫وكذلك حديث عائشة‪" :‬كان الناس مهنة أنفسهم‪ ،‬وكانوا إذا راحوا إىل اجلمعة‬
‫راحوا يف هيئتهم‪ ،‬فقيل هلم‪ :‬لو اغتسلت!"‬

‫‪244‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫وحديث أوس بن أوس‪" :‬من اغتسل يوم اجلمعة وغسل وبكر ودنا واستمع‬
‫وأنصت كان له بكل خطوة خيطوها أجر سنة صيامها وقيامها"‪.‬‬

‫فهذه األحاديث كلها تؤيد أقوال أهل العلم‪.‬‬


‫أيضا قال‪:‬‬
‫الضابط السادس‪:‬‬
‫االطالع على أقوال المجامع الفقهية ودور الفتوى والعلماء المعاصرين في المسألة‬

‫مثل فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‪.‬‬


‫مثل فتاوى دار اإلفتاء املصرية‪.‬‬
‫مثل فتاوى جممع الفقه اإلسالمي مبكة املكرمة‪.‬‬
‫وغريها من املوسوعات الفقهية املعاصرة‪:‬‬
‫كاملوسوعة الفقهية الكويتية‪.‬‬
‫ونأخذ مثاال على ذلك‪:‬‬
‫مثال مسألة نقل الدم من الصحيح إىل املريض‪.‬‬
‫هل جيوز أم ال؟‬

‫‪245‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫اجلواب‪ :‬لو نظرنا إىل هذه املسألة وجدناها مسألة حادثة مل تكن موجودة قدميا‪.‬‬
‫ومل تكن على عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم وال الصحابة وال التابعني‪.‬‬
‫بل هي مسألة حادثة‪.‬‬
‫فال سبيل إىل معرفة احلكم إال بالنظر يف أقوال جلان الفتيا‪.‬‬
‫فنجد السؤال األول من الفتوى رقم ‪١٣٢٥‬‬
‫هل جيوز نقل دم اإلنسان إىل آخر وإن اختلف دينهما؟‬
‫اجلواب‪ :‬إذا مرض اإلنسان أو اشتد ضعفه وال سبيل لتقويته أو عالجه إال بنقل دم‬
‫من غريه إليه وتعني ذلك طريقا إلنقاذه وغلب على ظن أهل املعرفة انتفاعه بذلك‪،‬‬
‫فال بأس بعالجه بنقل دم غريه إليه ولو اختلف دينهما‪.‬‬
‫فينقل الدم من كافر ولو حربيا ملسلم‪.‬‬
‫وينقل من مسلم لكافر غري حريب‪.‬‬
‫أما احلريب فنفسه غري معصومة (فال جتوز) إعانته‪ .‬بل ينبغي القضاء عليه‪.‬‬
‫هذه الفتيا للجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز‬
‫رمحه اهلل‪.‬‬
‫وكذلك قرار هيئة كبار العلماء رقم‪:‬‬

‫‪246‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫‪ ٦٥‬لسنة ‪ ١٣٩٩‬هجرية‪ ،‬قالوا‪:‬‬


‫احلمد هلل والصالة والسالم على رسوله صلى اهلل عليه وسلم وآله وصحبه وبعد؛‬
‫ويف الدورة الثالثة االستثنائية جمللس هيئة كبار العلماء املنعقدة مبدينة الرياض يف املدة‬
‫من ‪ ١٣٩٩/٢/١‬إىل ‪ ١٣٩٩/٢/٦‬اطلع اجمللس على ما جاء يف كتاب معايل األمني‬
‫العام لرابطة العامل اإلسالمي إىل مساحة الرئيس العام إلدارات البحوث العلمية‬
‫واإلفتاء والدعوة واإلرشاد برقم‪:‬‬
‫‪ ١٨ ،٧٨١٥‬من شعبان لعام ‪،١٣٩٨‬‬
‫املبنية على ما ورد إليه من املقام السامي إلجراء ما يلزم حنو مقرتح املدعو‪ :‬فتوح‬
‫بن سلمان النجار من إنشاء بنك إسالمي حلفظ الدم لإلسعاف السريع جلرحى‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫فبقبول ما يتربع به الناس من دمائهم واالحتفاظ بكميات هائلة منه إلسعاف‬
‫جرحى املسلمني وبعد دراسة املوضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه قرر اجمللس‬
‫األكثرية ما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬جيوز أن يتربع اإلنسان من دمه مبا ال يضره عند احلاجة إىل ذلك إلسعاف من‬
‫حيتاجه من املسلمني‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ثانيا‪ :‬جيوز إنشاء بنك إسالمي لقبول ما يتربع به الناس من دمائهم وحفظ ذلك‬
‫اإلسعاف ملن حيتاج إليه من املسلمني‪.‬‬
‫على أال يأخذ البنك مقابال ماليا عن املرضى أو أولياء أمورهم عوضا عن ما‬
‫يسعفهم به من الدماء‪.‬‬
‫وأال يتخذ ذلك وسيلة جتارية للكسب ملا يف ذلك من املصلحة العامة للمسلمني‪.‬‬
‫واهلل املوفق وصلى على حممد‪.‬‬
‫هيئة كبار العلماء‪.‬‬
‫إذن هذه املسائل اليت ال نص فيها وال إمجاع‪ ،‬جيتمع هلا أهل احلل والعقد يف كل‬
‫بلد ليخرجوا حبكم شرعي‪.‬‬

‫مث قال‪:‬‬
‫الضابط السابع‪:‬‬
‫إذا لم نجد قوال للعلماء وال نص المسألة ننظر إلى عموميات النصوص الشرعية‬
‫وإدراجها تحتها إن كانت من أفرادها‬

‫إذن هذه املسألة إذا مل جيد اجملتهد هلا نًص ا وال قواًل ‪:‬‬

‫‪248‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫ال من قرآن‪.‬‬
‫وال سنة‪.‬‬
‫وال قول صحايب‪.‬‬
‫وال إمجاع‪.‬‬
‫نظر يف النصوص العامة فيلحقها هبا‪.‬‬
‫ومثل لذلك (بزكاة األرز)‬
‫فإننا مل جند نصا يوجب فيه الزكاة‪.‬‬
‫وال مينع من التفاضل فيه من جنسه‪.‬‬
‫وذلك لكونه مل يكن موجودا يف زمن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وال زمن الصحابة‪.‬‬
‫ومل جند للعلماء قوال فيه قدميا‪.‬‬
‫فإننا ننظر يف العموميات اخلاصة بالزكاة أو الربا‪.‬‬
‫فنجد قوله تعاىل‪َ{ :‬و آُتوا َح َّق ُه َيْو َم َحَص اِدِه}‬
‫فهذا عام يف كل ما حيصد‪ ،‬فيدخل فيه األرز وغريه‪.‬‬
‫أيضا قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫‪249‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫"فيما سقت السماء والعيون‪ ،‬أو كان عثريا العشر‪ ،‬وفيما سقي بالنضح نصف‬
‫العشر"‬
‫هذا عام أيضا‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫حديث أيب سعيد رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ليس يف حب‬
‫وال مثر صدقة حىت يبلغ مخسة أوسق"‪.‬‬
‫فأوجد العلماء من هذه العموميات وجوب إخراج الزكاة يف األرز‪.‬‬
‫وأنه جيري فيه الربا قياسا على الرب (أي القمح)‬
‫الضابط الثامن‪:‬‬
‫إذا لم يجد قاسها على ما يشابهها أو يتفق معها في العلة‬

‫ومثلوا لذلك‪ :‬بالكحول املسكر‪.‬‬


‫قاسوه على اخلمر‪.‬‬
‫وسبق وبينا ذلك يف كتاب القياس‪.‬‬
‫فوجدوا‪:‬‬
‫األصل املقيس عليه وهو‪( :‬اخلمر)‬
‫واحلكم الثابت له وهو‪( :‬احلرمة)‬
‫‪250‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫والفرع امللحق له وهو‪( :‬الكحول)‬


‫والعلة اجلامعة بينهما وهو‪( :‬اإلسكار)‬
‫فقالوا‪ :‬إن الكحول املسكر يأخذ حكم اخلمر من حيث احلرمة‪ ،‬فهو حرام‪.‬‬
‫ال جيوز شربه وال الطهارة به وهو جنس على قول األئمة األربعة‪.‬‬
‫هذه هي طريقة االستنباط‪ ،‬وطريقة الوصول إىل احلكم الشرعي‪.‬‬
‫أحبيت يف اهلل‪ ،‬بذلك ينتهي الكتاب‪ ،‬وتنتهي حماضرات العام األول من أعوام كلية‬
‫العلوم الشرعية والعربية‪.‬‬
‫أسأل اهلل العظيم رب العرش العظيم أن يوفق اجلميع إىل ما حيبه ويرضاه‪.‬‬
‫هذا وسبحانك اللهم وحبمدك‪.‬‬
‫نشهد أن ال إله إال أنت نستغفرك ونتوب إليك‪.‬‬
‫والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫فهرس الدروس‬
‫الدرس السابع عشر‪2..........................................‬‬
‫الدرس الثامن عشر‪23.........................................‬‬
‫الدرس التاسع عشر‪46........................................‬‬
‫الدرس العشرون‪70.............................................‬‬
‫الدرس الحادي والعشرون‪87..................................‬‬
‫الدرس الثاني والعشرون‪107.................................‬‬
‫الدرس الثالث والعشرون‪126.................................‬‬
‫الدرس الرابع والعشرون‪149..................................‬‬
‫الدرس الخامس والعشرون‪172...............................‬‬
‫الدرس السادس والعشرون‪191...............................‬‬
‫الدرس السابع والعشرون‪210.................................‬‬

‫‪252‬‬
‫تفريغ دروس مادة أصول الفقه ‪2‬‬

‫الدرس الثامن والعشرون‪233.................................‬‬

‫‪253‬‬

You might also like