Professional Documents
Culture Documents
Kotobati - الإله الجديد
Kotobati - الإله الجديد
اإلله الجديد
رواية
املؤلف :جعفر لعزيز
الطبعة األولى2021 :
لوحة الغالف :للفنانة حفيظة مسلك
التصفيف واإلخراج :محمد عبيد
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
اإليداع القانوني2021MO3878 :
ردمــك978-9920-550-77-2 :
الناشر :جامعة املبدعين املغاربة
الهاتف والواتساب0673224191 :
البريد اإللكترونيgh-mhd@hotmail.com :
جامعة املبدعين املغاربة :جمعية ثقافية فنية أسست بتاريخ 10يوليوز
2010
صفحتنا على الفيسبوك :جامعة املبدعين املغاربة
L’Assemblée Créateurs Marocains
العنوان/ :دار الشباب سيدي مومن /شارع الحسين السوس ي سيدي
مومن الدارالبيضاء.
يعبر املنشور عن رأي صاحبه ،وال يعبر بأي حال من األحوال عن رأي ّ
الجمعية.
الطبع :مطبعة وراقة بالل – فاس /املغرب
الهاتف /الفاكس05 35 61 86 03 :
العنوان :رقم 204شارع املدينة املنورة حي األمل /النرجس – فاس
جعفر لعزيز اإلله الجديد
اهداء
إلى الذين أحبهم
3
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تقديم:
5
جعفر لعزيز اإلله الجديد
استشراف:
أزعم هاهنا أن الرواية ستثير ضجة ،سيتزعزع كل من سيقرأ العمل
وينطبق عليه :وسيصرخ :يا لوقاحة ناب هذا النابت !
وسينظر الى العمل كثيرون -منهم أنا -غابطين املؤلف على فضل
الريادة في الكشف عما يحدث داخل الحرم /املرح الجامعي ،ولسان
حالهم يقول ما قاله ورقة بن نوفل :يا ليتني فيها جذعا !.
الدكتورأيوب بن حكيم
6
"ما قيمة ذلك اإلله الذي ال يستطيع أن يصنع
كل ما يشاء"
طه حسي
جعفر لعزيز اإلله الجديد
1
موت اإلنسانية
أثقلت الحياة كاهل الناس ،وأتعبتهم صوارف الزمان وأحداثه،
وتلبست القلوب السواد، تظنكت املعيشة على أهل هذه األرض الطيبةّ ،
ﺗﻀﻨﻜﺖ
الشر ،تنافت عالمات معرفة سرائر وظواهر ّ وتناسل الخيرون مع أهل
أهل الصفاء ،تأرق جسد اإلنسان ،وتعبست وجاهته ،يحمل في قلبه أكثر
مما ال تطيقه حمله الجبال ،في هذه األرض يحمل اإلنسان أكثر من
طاقته ،يحرق حاله البئيسة ويهلكها بحثا عن ش يء قد يأتي أو ال يأتي،
الكل لـما يحدث لبؤساء العالم:كانت العبارة التي أرددها على مسامع ّ
"لتعلموا يا معشر البؤساء وعبدة الحزن أننا ال نعيش حبا للحياة امللعونة،
بل نعيش لنسارع اللحاق بمن يجعلهم ملك املوت في الئحة امليتين" إننا
ظنكة.ﺔ
نعيش معيشة ﺿﻨﻜ
ألقت بي الحياة إلى العالم داخل غرفة سوداء ،معتمة ،بتأملات أمي
ّ
وحيدة ،ما أعانها على قطع حبلها السري أحد قط ،خرجت من رحمها
الحنون ،بصرخة مدوية ،وسط ظالم حالك ،فوالدتي وحيدا ،إعالن
للسوداوية ضد جفاف الحياة اإلنساني ،سمعت من خالتي رميساء ما
عاشته أمي وسط عائلة مليئة بالجوعى واملتزمتين ،وعديمي الضمير،
الذين يقتاتون من ألم الناس ،ويشبعون معدتهم بجعلهم محط أحاديث
ال تنتهي إال بانتهاء الشخص املتحدث عنه ،ويسدون عطشهم من دموع
البريئين ،فمن البشر من تؤمله سعادتك ،وتحزنه وسامتك ،ويبغضه
ّ
فرحك ،هكذا كانت حياة أمي ،التي زف بها إلى جهنم .أجالس أبي فيكتم
9
جعفر لعزيز اإلله الجديد
عني سيئات حياته وحياة زوجه ،ألن الرجال أقدر على حمل ثقل الزمان
وصعابه وكتمان مساوئه أكثر من النساء ،وحينما أجالس أمي التي شبعت
أملا ،وأقبلت على االنتحار مرات ومرات ،لسوء ما عاشته في ماضيها ،فإنها
علي مكائد العائلة ومفاجعها؛ ألن قلوب النساء أضعف على حمل تتقيأ ّ
آالم الحب والحقد والكره من الرجال ،هن أصدق في كل ش يء ،من هنا
تكونت األحزان ،ومن سجن مسقط الرأس بدأت.
لم أصدق أقاصيص أمي ،فأثناء والدتي ،دائما ما تحضرني فكرة
الوحدة ،ولدت وحيدا ،وسأنام في قبري وحيدا ،وسأحاسب وحيدا ،أعانق
وحدتي ،وأؤنسها ،أحدث أمي أن تحدثني عن طفولتي ،ألعلم عنها دقائق
األمور ،رغم ذلك فلقد تناس ى صاحبنا هاته األحزان ،ألنني مقبل على
أحزان أخرى ،التي أشمها حتى من رائحة الطعام ،حينما تطالني أعين
جدتي وتتصيدني كلما أردت أن ألقي اللقمة في فمي ،أبادل ذلك بالبسمة
فقطّ .
أي وعي كنت أمتاز به وأنا صغير؟ أحدث نفس ي فأقول :نديم ال يعلم
أنه داخل منبت ذاقت فيه أمي جرعات برودة الدم .الحقارة تعم كل مكان،
هي في دواخل الناس ،هي في الشارع ،هي في جانبك دائما .وأنا صريح مع
نفس ي ،حتى في صغائر األمور ،وأحب أن أصارح القارئ ،ليصارح ذاته،
وأن الحقراء سيعترضون طريقك أن الدناسة أمامك فلتحذرهاّ ، لتعلم ّ
وأن األغبياء سيحشرون أنوفهم في حياتك ،فال تكثرت فتجاهلهمّ ،
وأن الجهل والجهالء سيتلونون لإلطاحة بك ،فال تبتئس بما لثرثرتهمّ ،
وأن البؤس سيأتيك من كل جانب فعانقه وكن من البائسين. يفعلونّ ،
نرغب في عيش حياة آمنةّ ،
ولكن الرغبة تتحطم كلما خرجت إلى الشارع،
فأول ما ستراه طرف العين ،عاطلون يبحثون عن العمل ،متشردون
يطلبون ماال ،مرض ى ملقون خارج املستشفى ،أعين مليئة بالدموع ،وجوه
10
جعفر لعزيز اإلله الجديد
11
جعفر لعزيز اإلله الجديد
خشية أال تتسخ روحهم املضيئة بمدنسات الخبيثين ،إنهم من الناجين من
فسق عاملهم بأعجوبة.
أحدث ،شيخي الزاهد العابد املتنور ،وأتحاور معه، ودائما ما ّ
ألتخلص من زوائد املنافقين ،وكسائر الحياة ،وأتعابها ،كنت أتردد إليه
دائما بعد صالة املغرب ،إنه وقت بداية الصفاء وانتهاء أعاجيج البشر
وضجيجهم ،وقت ينسم فيه املنعزلون والهاربون واملتفردون بنسائم املساء
وعليله ،وكلما زرت الشيخ صالح أصلح هللا حاله ،يقول لي :أهال بذي
الطباع الحسنة ،والوجه املنير ،مؤنس ي في الوحدة ،افتح الباب وادخل،
فتح هللا عليك بني ،أدخل إلى بيت شيخ بوجه وأخرج بوجه آخر ،والبيت
إلي ،مأوى الطمأنينة والهناء ،والضحك واملالذ ،بيت الشيخ آمن بالنسبة ّ
الناس ،وسألته مرة عن أسرار بعيد عن سكنى القبيلة ،وبعيد من ضجر ّ
وسر بنائه ،فقال الشيخ :لقد دلتني الحياة يا نديم ّأن أساس عيشها بيته ّ
تجاوز أعشاش الناس ،فقد فقدت والداي بسبب الحسد ،اضطرت من
خالله العمة بوضع أكل مسحور يسمى بالتوكال ،لتخريب محبة أبي وأمي،
وعالقتهما الزوجية ،فلم يتم تخريب العالقة فقط ،بل فقدا عقلهما،
وذهبا إلى الغابة فانتحرا معا ،وكنت آنداك في سن الثالثة عشر ،أعلمت
بكيد ما حصل من املقربين ،فابتعدت ألكون غريبا ،وقررت الرحيل عن
سود حياتي ،فبنيت هذا البيت، العائلة ،واالبتعاد عن السواد ،الذي ّ
فأنشد الشيخ قول الشاعر العربي:
الع ْل َيا ُم َش ّيدهُ َ
واحتل في ذ ْر َوة َ ص َع ُد ُهْ ...للف ْخر َم ْ
ََْ َ َْ َ َ َ
بنيت بيتا سما
ِ ِ
َ َ َ َ َ ُ
األ ْف َق حتى ِخل َت ُه َك ِلفا ...قد َ
ْ
طال ِمن َو ْج ِده فيه تل ُّد ُد ُه قد عانق
ط ُم ْس َت ّنا َت َو ُّق ُدهُ
َ ْ ُّ َ َ ْ ْ ُ ََْ ُّ
ورفي دو ِره ِلعب ومؤتلق ...يعلو وين ِح للن ِ
12
جعفر لعزيز اإلله الجديد
13
جعفر لعزيز اإلله الجديد
لبن معزته الواقفة بجانب كلبه ،والتي تصاحبه في غدوه ورواحه ،فتحدث
ّ
إلي بكالم حكيم ،منحني طاقة العودة إلى مواجهة صعاب الحياة.
نبحث عن إنسان ،يعترف باإلنسانية ،مثل شيخي ،ففي موت
اإلنسانية ،يموت اإلنسان ،وال يموت الذي يحيها ويدخل في امللعونين من
يميتها ،لقد أمس ى اإلنسان بال قلب وبال ضمير ،تالشت إنسانيته ولم يعد
يفكر إال في الهالك ،تعامت بصيرته ،والذت به األيام إلى الفناء ،يخامرني
الشك دائما ،وأتساءل هل يمكن للعالم أن يعيش يوما بال حروب ومأساة؟
هل يمكن للبشرية أن تحقق السعادة؟ هل يغيب الظلم واالستبداد؟ ال
أعلم سر هذه الخصومات ،والهدف من صناعة األسلحة ،هل مات فينا
اإلله؟ تقاد البشرية أمام آلهة أخرى تماما ،تعبدها أكثر مما تعبد هللا
الواحد .نظن أن الحياة بعد فاجعة الوالدة معاناة ال مفر منها ،أرى أن
لحظة الصراخ أثناء الوالدة صراخ ضد العالم اليائس ،وبكاء على تأملاته
الفظيعة ،إن الراحلين من هذه الحياة لم يخسروا شيئا باألساس ،فهم
محظوظون كثيرا ،وسعيدون جدا ،فقد تخلصوا من عبء فوض ى الحياة.
في لحظة حميمة وسعيدة يجتمع فيها الزوجان فينجبان من خاللها
مأساة إنسانية ،األشياء التي تبدأ بطرفة دائما تنتهي بمأساة ،ال أدري
سبب فخر األمهات وهن يحملن في بطونهن كارثة مستقبلية ،فلو كنا
نقيس لحظات األلم التي نمر منها أثناء الوالدة ملا تمنينا أن نولد ،تضببت
الحياة بالنفاق والكذب ،والحقد والبغض ،نعتقد أننا نشق طريقا آخر
نحو الهالك.
لن أحمل نفس ي على تغيير العالم ،والتشغب من أجل إصالحه ،ال
ضرورة من الثرثرة للنداء باإلصالح ،وإنشاد حياة سعيدة ،يكفي أن يزيد
14
جعفر لعزيز اإلله الجديد
اإلنسان خرابا وفسادا في األرض ،ليغضب عليه هللا تعالى ،وينهي مكر
ومأساة هذه الحياة ،هللا رحيم بنا كثيرا ،يا للحقارة التي يمتاز بها اإلنسان،
ال يأخذه الحياء لالستحياء من خالقه ،ولو كان هللا يؤاخذنا بظلمنا ما
ترك على األرض من دابة ،وقال في كتابه العزيز " :ولو ُيؤاخ ُذ َ ُ
ّللا َ
الناس ِ
ّ ُ
ِبظل ِم ِهم ما ترك عليها ِمن د َابة ول ِكن ُيؤ ِخ ُر ُهم ِإلى أجل ُمس ًّمى ف ِإذا جاء
ُ
أجل ُهم ال يستأ ِخ ُرون ساعة وال يستق ِد ُمون".
سئمنا من فظاظة الناس ،وضجرنا من كوارث اإلنسانية ،نتحسر
دائما ،كنا نناشد األمل كل يوم ،ملواكبة حياتنا بما فيها ،ولكن نصاب
بخيبة أمل من أملنا الكاذب ،الحقيقة العاهرة أن العيش في هذا العالم
اغتصاب دائم ال منقطع ،أسقطنا في فحشاء ال ذنوب فيها ،وال عيوب لها،
سنقر حتما ال محالة أن ال مجال لزراعة التفاؤل في وجوه اآلخرين ،إننا
بهذا الفعل نستدرجهم إلى االنفتاح على الشقاء واأللم.
أعود كثيرا إلى مذكرات دفتري القديم ،وإلى كتب أبي ،فأكتب فيه ما
ال أستطيع أن أبوح به للجميع ،حتى للشيخ صالح ،وأصال ال أملك إال
شيخي ،والقلة القليلة من األصدقاء ،الذين أشاهدهم بكثرة في املدرسة
فقط ،أما في القبيلة فقد تعودت على البقاء في املنزل ،أو الذهاب إلى بيت
الشيخ صالح ،أكتب عن األحزان ،عن األوجاع ،عن القسوة التي رأيتها في
عيون أمي ،وأقرأ عن اآلالم ،ليس في الكتب؛ ألن أبي يملك كتب الفقه
والحديث والعلوم الشرعية فقط ،بل أقرأها في عيون الناس ،ومن
حدث دفتري الكبير وجوههم املتأملة ،الشؤم ينخرهم ،الحزن يفجعهم ،وأ ّ
عن املآس ي ،وعن أخبار البؤساء ،ومجازر الحمقى واملغفلين ،ومن شغلهم
تتبع املساوئ وخلقها ،أعود إلى دفتري أو شيخي ،فدائما ما ينبغي أن تتوفر
15
جعفر لعزيز اإلله الجديد
16
جعفر لعزيز اإلله الجديد
الحياة وبيء ،الناس فيها وبيئون ،مطالبها موبوءة ،نتوق فيها شيئا واحدا،
هو الخالص ،ونبتغي فيها رحمة وشفقة إلهية .االستمرار في العيش دون
السعي وراء نيل الرحمة واملغفرة ،عيش متورم وخبيث ،ينبغي أن نتأمل
نوافذ اإلله ،كما يردد ذلك كونديرا ،هللا ينبغي أن يسكن في قلوبنا ،لكي
نقدر على مواجهة الصخب الذي يفجعنا ،ويمنحنا طريقا للسالم ،دائما ما
أقول للرفاق أيام اإلجازة إن الحياة ال تستحق كل هذا العناء ،حملها على
محمل الجد غباء بعينه ،بقينا مأسورين مقيدين في أسوار هذا البلد
الحبيب .إن أفضل األيام التي أنعمت فيها سالما هي التي قضيتها في بطن
أمي ،وما بعد ذلك فمليء باالنتكاسات والفجائع ،فبعد والدتي أدركت أن
املكان مرعب ،مليء بالضاللة .الصراخ الذي نصرخه وقت الوالدة هو في
عمقه رفض للمغامرة الخبيثة املزيفة في هذه الدنيا الزائلة ،التشاؤم
معبدنا الوحيد للبقاء على قيد الحياة ،ما معنى أن تكرس حياتك في
مدارسة الكتب ،واالجتهاد من أجل تحصيل املعرفة ،لتجد نفسك بعد
التخرج وسط غابة سوداء مظلمة ،ال تعرف إلى أي مكان ستأخذك؟ مرت
ثالث سنوات من الكد والتحصيل ،ماذا بعد كل هذا؟ الذهاب للعمل في
البناء ،هذا هو العهر برأسه ،الوظائف التي تعلن عنها الدولة قليلة جدا،
والولوج إليها يريد منك أن تكون آل شيخ ،نحمل خيبات أمل من كل دقيقة
تمر علينا في هذه البالد ،مطامحنا الصغيرة حملت أجنحتها وفرت إلى مكان
آخر ،أحالمنا توقفت لتأخذ نفسا آخر ،وأظنها لن تعود مرة أخرى ،لقد
ي ِئست مما رأته وصادفته ،األحالم في وطني ال تعمر طويال ،ال تستقر على
حال ،وجودها في هذا املكان خطأ وجودي باألساس ،نبني أحالما حقيقية
في وطن مزيف ،قد أكون خاطئا ،أو فاشال ،ومتشائما ،فتعتبرني مسيئا
بهذا الكالم ،وال زيف توهم به نفسك ،لتقول إن كالمي نابع عن فشل أو
17
جعفر لعزيز اإلله الجديد
عدم رغبة في البحث عن حياة سعيدة ،لتطعم اعتراضك بأن الدولة وفرت
مناصب للشغل وعملت على تحسين االقتصاد ،واهتمت بالشباب
العاطلين ،وأهلتهم تأهيال جيدا ،ولكن اعلم أنك تهذي وتتوهم ،فكل هذه
ّ
األشياء التي أسردتها ُو ِفرت لذوي البطون الضخمة ،لهؤالء املاقتين ،الذين
يقدسون اإلله الجديد ،يعبدون املال ،ومن ورائه يقومون بأفظع الجرائم،
يخرجون أمام اإلعالم بأوجه ضباعية ،يتلونون في كالمهم ،ويستميلون
شعبا ضاقت عليه األرض بما رحبت ،ال أدري كيف أسقطنا في أحضان
دولة مرتعشة ،ال قرارة لها وال قرار .الفاسدون في وطننا هم الشرفاء
واألولياء ،هم اإلنسانيون واملساملون ،يتركونك في سالم آمن ،ال يجابهونك،
رأس مالهم الكالم ،وإن الكالم عن كالمهم لصعب ،يدخل في أحشائنا
ويفتتها ،عباراتهم تضاجع أحالمنا لتلد وهما وسرابا ،وعودهم نكحت أيامنا
باالنتظار والسأم.
املسؤولون يقتعدون للناس مقاعد للخبث والسفالة ،ويقعدون في
صراطهم املستقيم ،لربما إن شيطانهم له تعاليم أخرى ،لم يكن يرتكبها
شيطاننا الذي استقل من مهمته اإلغوائية ،تاركا األمر للمسؤولين
والسياسيين وأهل الشأن في البالد ،غادر الشيطان قائال" :إني أخاف رب
العاملين" .ضباع حقيرة تظل في مسكنها أياما ال محصورة ،فتخرج إلى
الصيد أيام االنتخابات ،لتأكل رؤوس الشعب بالكالم ،وتشييد وعود
كاذبة ال تسمن وال تغني من جوع ،لم نعد قادرين على الصبر ،أين زمان
الطلبة اإلخوان والرفاق النجباء؟ املدافعون عن حقوق الضعفاء ،لقد
كانوا طلبة ومفكرين في الوقت نفسه ،يناضلون ويدرسون ،ويكدون
ويجتهدون ،عكس ما نجده اليوم ،طلبة مجانين ال تكاد تعرفهم أطلبة هم
أم تالميذ؟ عالة على الدراسات العليا ،يشتكون من كثرة الدروس ،ومن
18
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ّ
شدة األيام ومحنتها ،ويتباكون كثيرا ،همهم املتعة ال غير ،قلما تجد طالبا
يشعرك باللذة.
كانت الجامعة في وقتها مصدر رعب على الدولة ،ومصدر تقدمها،
كانت تنتج بؤسا يوحي بالسعادة ،واآلن تنتج سعادة ،بعدها شقاء دائم،
وعناء طائل ،كان الطالب في السنة األولى قديما أكثر تمكنا من باحث في
سلك الدكتوراه اليوم ،أما الجامعة بين األمس واليوم ،فخراب آخر،
ومأساة أخرى ،فهي ساحة لضم الفاشلين ،ولتكديس الناس وتجمعيهم،
وجعلهم يتالهون لسنوات؛ ال تكوين فيها وال هم يحزنون ،أي أشياء
استجد بها الزمان علينا اليوم.
آهات الزمان كثيرة ،لقد كان الرفاق قديما ال يفارقون الكتاب ،وال
يجعلون القراءة مجرد متعة ،كان الطالب إذا دخل إلى الحلقة أستاذا،
يغنيك بالفكر املاركس ي والستاليني واللينيني واإلخواني ،وأما اآلن فقد
أورثنا طلبة ينتمون إلى فصائل حماسا ال فكرا ،يطالبون بحقوقهم،
أي نضال هذا؟ ّ
حق علينا وتجدهم غير قادرين على إتمام كتاب في شهرّ ،
القول أننا ولدنا في زمن الفجعة والشدة ،مشربنا مليء بمنومات اليأس ،ال
دولة لها شأن ،وال جامعة ذات قدر ،لربما نحن بهائم ،نموت موتة
إنسانية.
بالي يشغلني بالثورة على الوضع ،واملطالبة باإلصالح ،ولكن دفاعنا
عن املطالب في بالدنا جريمة يعاقب عليها القانون الفاسد ،املغامرة في
القيام بنضال فردي ،نتيجته حتمية ،هي االتهام بالفتنة ،والفتنة أشد من
القتل .كان العم إدريس اإلسكافي ،الذي تعرفت عليه بمدينة العهد
الجميلة ،سنوات اإلجازة يخبرني بذلك ،رحلت عن الشيخ صالح؛ ألن
19
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ظروف إتمام الدراسة بالعهد ،فرضت علي ذلك ،قلت من كثرة ترددي عند
العم إدريس إلصالح حذائي الحديدي ،يقول :إن أمثالك نتيجتهم
محسومة ،دعك من الحديث عن النظام ،وإال ستقمع ويلقون بك في
مناطق ال يعرفها إال هللا تعالى ،فقد كنت مثلك ،أناضل وأثور وأدافع عن
حقوق املقموعين ،وفي األخير حصدت (الدس) كما يقول املغاربة،
مطالبتك بحقك في هذا املكان كفر ،ودفاعك عن اآلخرين ،غباء وجريمة،
عش يا بني حياتك ،ودع عنك الدولة ،اهتم بدراستك ومستقبلك جيدا،
لتبحث لك عن عمل قار ،بمدخول يكافي أسرتك ،فنحن الفقراء ال نملك
سوى رفع الدعاء إلى هللا تعالى ،اسمع كالمي جيدا ،وإال ستكون نتيجتك
ضياع شبابك وعمرك في السجن ،وإذا ضيعت شبابك فال طعم للحياة
وقتئذ.
إن الدولة تملك ما يخيط لك فمك ويجعلك تقعد على قنينة
الثرثارين واملعارضين ،فتضاعف أملك ثالثة أضعاف ألم الحمل عند
النساء ،وقال بيأس محزن :وستلد ولدا اسمه الصمت واالنكماش .تأملت
كالم العم إدريس جيدا ،فوجدته حكيما ،كيف ال؟ والعم قد قض ى جل
حياته في السجن ،بسبب جرأة غرضها الدفاع عن حق املغفلين
الصامتين ،ال أدري متى سيستيقظون من سباتهم العميق ،وفكرت بأن
الحياة غير عادلة ،ال تنصف األبرياء ،واملدافعين عن حقوقهم ،النوم في
بلدي جنة مقدسة ،يستكن إليها جميع الناس ،بدأت أستيقن سبب إنشاد
معروف الرصافي لقصيدته التي يقول فيها:
ّ
يا قوم ل تتكلموا إن الكالم محرم
ّ ُ
ناموا ول تستيقظوا ما فازإل النوم
20
جعفر لعزيز اإلله الجديد
21
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تتسع لكي تحضننا ،تربيك وترمي بك إلى املدينة العاهرة ،إما أن تكمل
دراستك الجامعية ،أو أن تذهب للبحث عن عمل ،تجمع فيه بعض املال،
لتتعاون مع أسرتك ،وإذا لم ييسر هللا لك في عمل جيد ،أو وظيفة ذات
دخل قار ،فإن شبابك يضيع في املدينة غريبا ومستغربا للبحث عن رزقك،
هذا هو حال أهل البوادي ،والحال عندنا في زاكورة ،البلد السعيد الشقي.
22
جعفر لعزيز اإلله الجديد
2
ما بعد اإلجازة
إكمال املرحلة الجامعية األولى ،ليس نهاية مسار العذاب ،بل انتقال
إلى عذاب آخر ،والحصول على اإلجازة فرحة ال تبدأ حتى تدوم ،هل
سنفارق الجامعة أم سنتسمر فيها؟ هذا هو السؤال الذي يخدش عقول
الطلبة ،يعقدون آماال كبيرة للحصول على وظيفة ،أو التسجيل في ماستر
من املاسترات ،عاينت في سنوات اإلجازة مشاهد بئيسة ،عن هؤالء الطلبة
الذين يلجون مسالك املاستر بتقديس األساتذة ،قداسة عمياء للظفر
بمقعد يزيدهم جهال وبأسا على بأس ،الطلبة املتملقون ،يلتصقون في
مؤخرة األساتذة للحصول على نقطة جيدة ،أما نحن البسطاء واملقاتلين،
فال نعرف شيئا كهذا ،نقاتل دون السعاية وراء النقاط ،فهي التي تنادينا
وتأتي عندنا ،نقاتل من أجل املعرفة ،أتذكر صديقي جمال امللقب
بالزهواني ،لولعه الشديد بالطالبات ،كان يسحرهن بكالمه العذب،
وأناقته الجذابة ،يالطفهن ليعوض نقص الجفاف العاطفي الذي عاشه في
زاكورة ،كان يقول لي :إن الطلبة امللقين ،يلتصقون في مؤخرة األساتذة ،أما
الطالبات فيلتصقن على مفتاحهم للحصول على النقاط .لربما فهمت
عزيزي القارئ معنى املفتاح املقصود ،وماذا يفتح ،ال ترغمني على شرح
الواضحات ،واألمر مفضوح وحتى وإن لم يكن واضحا ،أتأسف كثيرا،
لتلك الطالبات اللواتي يستغلن مقوماتهن للحصول على نقطة ال تغني وال
ُ
تسمن من جوع ،في كل جامعة تعرف فيها األستاذ املحترم الذي يتصيد
الطالبات الجميالت ،ويجعلهن محط عينيه الخبيثتين ،ليدخلها في لعبة
23
جعفر لعزيز اإلله الجديد
قصره املسحور ،تجده وسط القاعة يرمي بإشارات ال يفهمها إال اإلناث،
ُ ُ
لغة املتعة والنشوة ،وحتى إذا ما اكت ِشف أمر األستاذ ،فإنه من شدة
االحتراف يخرج نفسه من الورطة ،ويرمي باللوم على فريسته.
اللعنة على هؤالء الخبيثين ،ال ألوم الطالبات ،بقدر ما ألومهم،
أقصد األساتذة ،يستغلون أحالمهن في ال ش يء ،ليذهبوا كلهم إلى الشقاء،
يوظفون معرفتهم املزيفة وأستاذيتهم في ما ال يرض ي هللا ،ويل لهم بما
ُ
كسبت مفاتيحهم ،كم من باب فتح بسببهم ،ولن يغلق مرة أخرى،
يفتحون األبواب في كل مكان ،ويتركونها مشرعة ،ويكملها الطلبة
الخبيثون ،الذين يأتون إلى الكلية لعقد الصلح مع مشاعرهم ،وارضاء
أحاسيسهم وتفريغ كبتهم .تبا لصديقي جمال الزهواني وأمثاله من الطلبة،
وتبا للطالبات ،اللواتي ال يضعن أمام أعينهن صورة األب الذي ال يرجع إال
في وقت متأخر من العمل ،مفتخرا أمام الناس ،بأن ابنته ستصبح
أستاذة ،وستخرجه من املحنة ،وهو ال يدري املسكين ،أن زهرة ابنته قد
فتحت ،وتتفتح كل ليل ،وبكل شوق وراحة ،تشبه الوردة التي تتفتح كل
صباح ،وفي األخير يقتطفها شخص معين ،ويرميها وسط الطريق ،كذلكن
أنتن أيتها الطالبات الساعيات إلى النقاط ،املدعيات للبراءة والتستر ،فال
حياء فيكن ،تطلبن من الرجال أن يأتوا املنازل من أبوابها ،وتخفن بأن
أبوابكن مفتوحة ،نتصيد فيها نحن األبرياء ،نفسد مفتاحنا في باب لم
يغلق أصال حتى نفتحه ،سامحكن هللا ،إذا كنتن تطلبن إتيان األبواب ،وهي
مفتوحة ،فيفضل الشباب البقاء في سجن العزوبية على عدم الزواج بكن.
وإن كان األساتذة الفاسدون يفعلون مثل هذه األفعال ،فأفضل أن
أكون جاهال على أن أكون مثلهم ،تعاهدت مع نفس ي وصبرتها أن تتقوى
24
جعفر لعزيز اإلله الجديد
على مواجهة جميع الصعاب ،صرخة الوالدة ليست فاجعة فقط ،بل هي
تحد لهذه املأساة التي نسبح فيها ،صرخت في وجه الدنيا اللعينة ،بكيت
بحرقة شديدة ،على عمري الضائع بين حقارة هذا العالم.
أيامي لم أتمتع بها كثيرا ،لم أذق طعم التجول مع الجميالت
الفاتنات ،لم أجلس في الحديقة ألبحث عن قمرية ليلية ،لم أسع إلرضاء
شهوتي مع بنات الليل ،تمنعت عن الرفقة في الجامعة ،كنت مع العم
إدريس ،وصديقي جمال فقط ،الصادق الوثوق ،الجميل ،الرجل الذي
تعول عليه ،رغم زهوانيته التي أكرهها ،إال أنه ينصحني بأن أبتعد عن تلك
الرذائل ،عشرتنا كانت جميلة ،ثالث سنوات ،قضيتها مع الكتب رفضا
للعالم الذي يرفض أن يتجه اتجاه مطامحنا ،وقضاها جمال مع
األنيسات ،إال أنه في األخير حصل على فرصة للعمر ،هاجر فيها خارج
البالد ،عن طريق صديقة ليلية ،تعرف عليها من طرف صديقة له ،رشيقة
ومن مشتقات القمر في الليل ،وسليلة الشمس بالنهار ،أصدقت جمال
الوعد ،بأن تمتعه باملال ،شريطة أن يمتعها من باب آخر ،صديقي غير
جلباب بلدنا األخالقي ،بلباس الجلباب املالي ،هو اآلن مسافر ال يفكر في
هموم التحصيل املعرفي ،وال تهمه لحظة إعالن نقاط االمتحانات
بالجامعة ،وجد ما يرغب فيه الناس ويتقاتلون من أجله ،اقرأ أنت
وحدك ،أما الناس فيريدون املال ،ويعبدون املال.
حقا هذه الحياة ليست عادلة ،لم أحسد جمال على رزقه هذا،
ضرب عرض الحائط ،آه آه ياولكن بدا لي أن السهر والجهد الذي عشتهُ ،
نديم ،رمت بك لياليك إلى متاهة نهارية ال تقبل شعر املتنبي وأبي نواس،
والبحتري ،وال نحو سيبويه والكسائي واملكودي ،الواقع ال يعرف شيئا
25
جعفر لعزيز اإلله الجديد
اسمه املعلقات وال يعترف بش يء اسمه الكتب ،رغم كل هذا فإنها تريحنا
منه ،وتجعلنا قادرين على تجاوز معاناته .سأعقد العزم على االستمرار ،إن
عارضتنا الحياة ،فإننا سنتقوى ،وسنضاعف جهودنا ،أضعافا مضاعفة،
لنبحث عن سبيل العيش في حياة هزمنا في منذ الصرخة األولى.
فكرت أن أتسجل في املاستر بعد سنوات اإلجازة املتعبة الحلوة ،فال
ش يء أعز عندي من القراءة ،هي الوحيدة التي تسعفني على مواجهة الجهل
الذي يعج به املكان ،وأجعل في مخيلتي كالم الشيخ صالح الذي ترك وصية
البيت لي بعد وفاته ،مباشرة بعد السنة األولى بجامعة العهد للغات،
واستحضر نصائح العم إدريس ،الذي أغلق محله وانتقل به ابنه إلى بلد
آخر ،وفيه استبدلت حذائي بحذاء آخر ،رحل العم ورحل معه صاحبي،
سأواصل كفاحي ،من أجل نفس ي ،وأسرتي ،التي تفتخر بي أمام أجماع
القرية ،بأن نديم قد أكمل دراسته ،وسيصير أستاذا ،لكم الحق أن
تفتخروا بالسأم الذي أصابني ،افخروا بي فسأظل أدافع عن أحالمي،
وسأخرجكم بعون هللا فيما أنتم فيه من ضيق.
26
جعفر لعزيز اإلله الجديد
3
أيام
تستقبلني األيام ضعيف الجسد ،محطم املعنويات ،عصبي املالمح،
عاجزا عن الحركة ،لم أعد أحس بالوقت ،العقارب تأكل حياتنا ونحن لم
نصنع شيئا لنوقفها ،التفكير في املستقبل دودة زائدة ،ينبغي أن نزيلها،
وأن نترك األمر لعالم الغيبيات ،ومصور الحياة ،فهو القادر على تحويل
لِل غي ُب َ َ
ات
السماو ِ حياتنا إلى أفضل حال ،وجاء في كتابه العزيز " :وِ ِ
َ ُ ُّ
ض و ِإلي ِه ُيرج ُع األم ُر كل ُه فاع ُبد ُه وتوكل علي ِه وما رُّبك ِبغا ِفل ع َما
واألر ِ
ُ
تعملون ( .)123أصبح ليلي كنهاري ،ال زمان لدي ،فالعطالة عن العمل،
تعطيل للحياة ولكل ش يء يتعالق معها ،تظل محصورا في ذاتك ،ال ترغب في
رؤية أحد ،وسكونك إلى نفسك إنجاز ال يحققه أي شخص ،حينما
تستقبلك الوحدة ،فاعلم بأن العالم ال يرغب بأن يشركك في مأساته ،وال
رغبة له إلدخالك إلى حياة مليئة بالضجر ،والسعادة الكاذبة ،أي قول
هذا ،طبعا لقد أصبت بالهذيان ،ال تؤاخذني عزيزي القارئ ،أحس أنك
ُ ّ
تريد أن تكون وحدتك ،أن تهرب مثلي من الصخب ،أن ال تشارك
أحاسيسك مع أحد ،أقول لك :إنك مؤنس ي في وحدتي ،لربما قد تمازجنا
وأصبحنا نتشارك الحياة نفسها ،أظنك حتى أنت تبحث عن السعادة ،عن
الحب ،عن الحياة ،عن املتعة ،تالطفك أحالمك وتناديك ،أن أقبل،
صدقني الحياة ال تحتاج منك كل هذا التفكير ،وكل هذا العناء ،فقد
عانيت كثيرا ،وسهرت الليالي ،وفي األخير ال ش يء ،أرى أن جهد السنوات
ضاع ،وأكله الزمن ،أريد أن أحدثك عن ش يء ما ،يجعلنا نسترجع قوتنا
27
جعفر لعزيز اإلله الجديد
معا ،ونعود بصورة أخرى لهذا الوجود ،أكيد لن نعود بوجوه مبشوشة
وضاحكة ،وال بمالمح مبتسمة ،سنختار صورة تتناسب مع الحياة
القاتمة ،سنؤوب بوجوه ضجرة ،ومتشائمة ،وكئيبة ،ونفوس يغمرها
األس ى ،وتملؤها الصرامة ،قد ال يناسبنا هذا األمر ،ولن يكون مفيدا،
ولكن اقتضت الضرورة أن نسلك هذا املسلك ،وأن نتجه إلى هذا السبيل،
سيوصلنا إلى البحث عن ذاتنا في متاهة األرواح ،وظالل النسيان ،ال حل
لنا غير هذا الحل ،وإال سنبقى أحياء مع املوتى.
قد تأملت عزيزي القارئ كالمي جيدا ،وقرأته بصمت ،ألنك قارئ
ّ
تجلت فيك أسرار القراءة ،لربما أنت مصاب ببعض االستغراب ،من هذا
التشاؤم الكتابي ،مع رغبتي إلشراكك في هذا التشاؤم ،ينبغي أن تقرر فال
وقت لالستغراب ،ألنني مهدت لك في افتتاحية كالمي بما أصاب البشرية،
وعم اإلنسانية ،فقد تغير فيها كل ش يء ،تتجه نحو طريق الدمار ،وال شأن ّ
لها فيك ،وال في حياتك .الهالك هو الغاية املنشودة لإلنسانية ،قد ال
تصدق إذا قلت لك ،إن والدتنا كانت بمثابة كارثة فظيعة ،وننتظر الكارثة
النهائية ،ونحن ُمقادون نحوها ،العالم يناشد دينا جديدا ،وينصب إلها
جديدا ،أرجوك ال تعتبر كالمي كفرا ،أو خلال في العقيدة ،فأنا أؤمن باهلل،
حق العبادة ،أردت تنبيهك فقط ،حتى ال تقول لي ما جاء في قوله وأعبده ّ
ُ ُ َ
تعالى" :قال ل ُه ص ِاح ُب ُه و ُهو ُيح ِاو ُر ُه أكفرت ِبال ِذي خلقك ِمن تراب ث َم ِمن
ُ ُنطفة ُث َم س َواك ر ُجال ( )37لك َنا ُهو َ ُ
ّللا رِّبي وال أش ِر ُك ِبرِّبي أحدا (.)38 ِ
وألزيل عنك كل الشك والريب ،وأن تعلم أني سليم العقيدة بما
أقول ،ونواصل الحديث املاتع فيما بيننا ،أورد لك قول هللا عزوجلُ " :هو
يم (ُ )22هو ّللا َالذي ال إله إ َال ُهو عال ُم الغيب و َ
الشهاد ِة ُهو َ
الرحم ُن َ
الر ِح ُ َُ
ِ ِ ِ ِ ِ
28
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ُ ُ
السال ُم املؤ ِم ُن املهي ِم ُن الع ِز ُيز الج َب ُار
وس َ ّللا َال ِذي ال إله إ َال ُهو امل ِل ُك ال ُق ُّد ُ
َُ
ِ ِ
ُ املُتك ّب ُر ُسبحان َّللا ع َما ُيشر ُكون (ُ )23هو َ ُ
ّللا الخ ِال ُق الب ِار ُئ املص ّ ِو ُر ل ُه ِ ِ ِ
ات واألرض و ُهو العز ُيز الح ِكيمُ َ ُ ُ ّ ُ ُ ُ
ِ ِ األسماء الحسنى يس ِبح له ما ِفي السماو ِ
(.")24
أستيقن أن هذه اآلية من سورة الحشر ،كافية وشافية ،ودقيقة
ورقيقة ،لتجعل خاطرك هادئا ،وقد تستميلك ،لتشعرك بالتسلية
واالرتياح ،لتقول إن صديقك نديم ،ال يعرج أن يشكك في عقيدتك ،وال أن
يبعدك عن دينك ،ووافية أيضا ،لتتأمل كالمي ،الذي سنتحدث فيه،
وسيكون حديثا شيقا رائقا وعميقا .أخبرتك أن اإلنسانية ذات مهد جديد،
ودين حديث ،ومعبد مشيد بما أراده اإلله الجديد ،دين ذو تحانيف
توص ي بفعل أعجب األفاعيل ،وصل العالم إلى مقدار من القذارة التي ال
يمكنك تصورها ،وتمثلها ،وباألساس ال يمكنك تصديقها ،املرارة تسود كل
مكان ،األرض تبتلع الناس من كثرة الحروب ،السماء تحسرت وجفت
دموعها من شدة فظاعة ما يحدث ،أتدري ملاذا؟ ألن الفضائل تماحت،
والقيم انتهت ،وهللا عند قادة العالم ال حسيب له ،وأعوذ باهلل من هذا
القول ،حتى ال تفقد ثقتي فيما سأقول لك ،هؤالء الناس يا عزيزي
يسبحون في الظلمات من أجل حصد املال ،وإبادة البشرية ،والتحكم فيها،
عميلهم األول واألخير هو الشيطان ،املال في أيدهم سفالة ،والسلطة
عندهم حماقة مذلة ،ينشؤون منظمات الحقوق والسلم العاملي ومكافحة
اإلرهاب ،ال تثق من هذا السبك املصفوف املرفوف الذي كتبت به
عبارتهم ،فإن الكالم ال يشتري الخضر كما يقول املثل الشعبي عندنا،
فأكثر واضعي القوانين هم الذين يخرقونها ،ستكتشف ّأن الناس يلعبون
لعبة الخداع املاكرة ،بالتويهمات التي يوهموننا ،شرف الحياة ذهب بفعل
29
جعفر لعزيز اإلله الجديد
عهر القادة ،لقد أطلت عليك عزيزي من السأم كثيرا ،يحق لك أن تفعل
هذا األمر ،فعميل الشيطان جعلوا العيش مريرا ،وأمس ى العالم بفعلهم
مسرحية تمثيل ال متناهية املكر والخداع .البسطاء والطيبون واألفاضل
من الناس ال يعرفون هذا ،يريدون العيش في سالم فقط ،فيظنون أن كل
ش يء في الدنيا جميل ،وأن النعيم مسبح يغرق فيه الجميع ،لقد أخبرتك
أن مجيء اإلنسان إلى الوجود كارثة عظمى تكبر كل يوم.
ال أعرف كيف يأمرهم اإلله الجديد بزرع الفتنة ،وصنع األسلحة،
وعقد مؤتمرات شن الحروب ،وأخذ تبريرات بوضع األمن في مناطق
النزاعات ،وهم أصل هذا النزاع ،سأقف إلى هذا الحد عزيزي القارئ ،ألنني
عييت كثيرا ،ال قدرة لي على تخريب ضميرك ،فكر في اتفاقنا الذي عقدناه،
تخلص من الطيبة الزائدة ،تعلم كيف تخلص نفسك من بشاعة الواقع
املعيش ،عايش مكر الناس ،وتدبر خدعاهم ،لقائي معك ال ينبغي أن
يضيع في ال ش يء ،كن صارما ،وكن إنسانيا ،ال تتخلص من الفضيلة التي
تمتاز بها ،ولكن تحد بؤس الدهرانية ،وافهم فكرانية اإلنسان ،عش مع
وحدتك ،دع نفسك في مقبرة الكتب املنسية ،تمتع بها ،تذكر أن الكتب
تمزق وتحرق ،ويتم منعها من النشر ،ويتم نفي أصحابها ،ألنهم تخنقهم،
الكتب ستض يء عقلك وستنير دربك ،تقوى وال تندهش حينما تجد كل ما
أخبرتك به مماثال للواقع ،سأودعك اآلن ،ال أعرف هل سنلتقي مرة أخرى
أم ال؟ ولكن أعجبت بك وبتفكيرك سنحدد لقاء آخر وفي موضوعات
أخرى ،سأذهب ألبحث عن نفس ي في العالم البئيس ،لقد تركت أسرتي،
وأنا اآلن عاطل عن الحياة ،عاطل عن كل ش يء ،وداعا عزيزي القارئ،
تذكر إنني أحبك كثيرا ،وسأعقد معك لقاء ماتعا ،أخبرك بموضوعه
حينما يحين ونلتقي ،سيكون الفراق عسيرا.
30
جعفر لعزيز اإلله الجديد
4
الجفاء اإلنساني
ال يمكن أن أحدد مقياس الجفاء اإلنساني الذي نعيش فيه ،أصرخ
كل يوم ،الصرخة ال تكفي للتعبير عن مقدار األلم الذي في داخلي ،تمنيت
لو عادت بنا األيام إلى سيرتها األولى ،ماذا فعل هؤالء األبرياء الذين يموتون
في أوطاننا؟ ما هدف العالم من هاته الصراعات؟ كيف تخبرني أمي بأن
أعيش سعيدا ،وأنا أشاهد هذه املشاهد ،اللعبة املاكرة ،لست أدري،
كيف أكون سعيدا؟ وماذا لو كان آدم سعيدا؟ سيوران كان يعلم قذارة
ّ
الوجود ،لذلك ألف هذا الكتاب ،أه لهؤالء القذرين الفاشلين املنغصين
للمعيشة ،والقاتلين للضعفاء ،أستيقظ كل صباح على هذه األفكار،
فت هذا التشاؤم الشغف الذي كان لدي حول الحياة ،بدأ يختفي ،أل ُ
ِ
وأستمتع به ،ال خوف من املوت ،أيتها الكاتبة الجميلة إريكا يونغ ،تماما ال
خوف من املوت ومن كل هذه الضاللة ،التي سأغترف منها قبحها ألكون
قادرا على املواصلة ،أه إلى أين تقود البشرية نفسها؟ أال يعلمون أن هللا
وعدنا بالرحمة واملغفرة ،وأمرنا بنشر السلم واملحبة ،سيحل علينا غضب
هللا ،رحمته التي وسعت كل ش يء سيرفعها عنا ،ألننا لم نعد قادرين على
نشر الرحمة بين الناس ،الخوف هو الرهبة التي تفشت في قلوبنا ،لسنا
إنسانيين بما يكفي لتحل علينا الرحمة ،سيحصل لنا ما حصل مع قوم
موس ى حينما قال لقومه ،كما جاء في قوله تعالى" :فرجع ُموس ى ِإلى قو ِم ِه
ُ ُ ُ
غضبان أ ِسفا قال يا قو ِم ألم ي ِعدكم رُّبكم وعدا حسنا أفطال عليك ُم
ُ ُ ُ
العه ُد أم أردتم أن ي ِح َل عليكم غض ٌب ِمن رِّبكم فأخلف ُتم مو ِع ِدي (.")86
31
جعفر لعزيز اإلله الجديد
32
جعفر لعزيز اإلله الجديد
فالقضية قضية مبادئ ،ال قضية تغيير األمكنة .لعلي حظيت بحظ وفير؛
ألن فهمي للحياة وبشاعتها ،أخذته من رأس شيخي صالح.
قلت إن أحمد استغل ثقتي امللعونة ،ليبحث عن حيلة يشوه بها
سمعتي ،وما قام به غريب جدا ،وال أتصور أن الشيطان قد يفعل مثل
أفاعيله ،واستغل أيضا لحظة سفر جمال لزيارة أهله بعد سماعه بمرض
جدته ،قبل سفره إلى الخارج ،جمال ال وثاقة له مع أحمد ،لذلك يكرهه
ويبغضه ،بعدما خدعه مع طالبة صديقة عزيزة عليه ،وأنتم تعرفون ماذا
فعل معها؟ وإن كان جمال يصنع صنيع أحمد مع الطالبات ،إال أنه
شخص تعول عليه ،عكس خبث أحمد ،يتخلى عنك بعد قضاء مصالحه،
أي شنيعة رمتها زاكورة لنا؟ أي بطن يحمل مثل هذه الكوارث؟ الناس
مخطئون في معتقدهم ،بأن جميع أبناء زاكورة تنطبق عليهم عبارة "هللا
اعمرها دار" ،ال حشركم هللا مع وجوه محشوة في عقولها بأكل الحمير ،ال
تعتقدوا ما يدور في أذهانكم أنه معتقد سليم ،فقد أخبرتكم بأن الحياة ال
تقف على الجمال و القبح ،أو الخير والشر ،أو مسلم وكافر ،هذا اعتقاد
خاطئ ،فالناس تعرفهم في املواقف واملصالح ،وما سوى هذا فال أظن.
ليزيل املغاربة فكرة التعميم ،ففيها تضليل وتنكيل ،صور اإلنسان
تشابهت ،وصارت واحدة ،فهم منساقون وراء تعاليم اإلله الجديد ،إله
املال ،وإله املصلحة ،وأشياء كثيرة ،دعني أخبرك بما ساء لي مدعي الفكر
والفلسفة.
كان اليوم يوم األحد ،من املعلوم عند الطلبة في هذا اليوم ،أن هناك
مكانا يلتقون فيه ،الستعراض ثقافتهم الشعبية ،من أغان وفولكلور،
وصور شهداء ،يعرضها املاركسيون املزيفون ،واألمازيغ ونجد في هذا
33
جعفر لعزيز اإلله الجديد
34
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تلك القطة الجميلة ،سألته عن أحواله وأحوال األسرة ،فقال :إنه لم
يتواصل معهم ،وال يريد أن يتواصل معهم ،لم أساله عن السبب ،أكيد
ربما وصل فساده إلى أهل القرية ،فعندنا أناس بمثابة رادارات توصل عنك
دقائق األمور ،قال :ال تكترث لألمر ،أخبرني أين صديقك العزيز جمال؟
ربما لم يعد قادرا على اللقاء بي ،أم أنه تاب عن أفعاله؟ أخبرته بأنه سافر
ليطمئن على جدته ،وهو مع صاحبته يستمتع بوقته ،كانت ردته سخيفة،
أي لقاء يا نديم ،أنتم أهل الدراسات العربية واإلسالمية ،تعيشون خرفا،
ال فكر لكم ،أنتم تحفظون فقط ،فكروا قليال ،ال لقاء بعد املوت يا
صديقي ،إن أردت أن أقدم لك أدلة ،فمرحبا ،قطعت كالمه ،هدأت من
روعي ،وقلت في خاطري ،لم يكن أحمد الطفولة الذي أعرفه ،لقد تغير في
كل ش يء ،انقلب رأسا على عقب ،أي سفالة ينعم فيها؟ ينبغي أن يعود إلى
رشده ،فقد فهم الفلسفة فهما خاطئا.
أخبرته بأني ال أحتاج أدلة وال هم يحزنون ،وال شأن لي بالفلسفة
أصال ،إذا كانت تنتج مثل هؤالء السفالة األمقات ،الذين يعتقدون في
التصابح والتماس ي أنهم مفكرون وعباقرة ،فسالم عليهم وفلسفتهم وعن
فكرها ووعيها ،أنعم هللا علينا بسيبويه والكسائي واملكودي والجرجاني
والطائفة ،كان رده مستفزا ،أنتم أهل العربية التكراريون والحفاظون،
تتربصون وتحشرون املعرفة في دماغهم دون تفحصها ،قلت في خاطري:
أفضل أن أكون سطال يمأل بالخراء على أن أكون سافال ،أنفي وجود هللا.
بعدما تأكدت من سر عدواته مع جمال ،لهذا السبب إذن ،لم أزد
معه كلمة سوى طلب الهداية من هللا والسالم ،فوقف الجبان ضاحكا،
قائال :أنا أنعم في السالم ،وال أحتاج كالمك هذا ،انظر إلى نفسك ربما
35
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تنقصك املتعة ،فلك ذلك إن أردت ،ودون الرد على كالمهُ ،عدت إلى
أدراجي ،ذهبت إلى البيت ،دون التفكير في عبارته األخيرة ،تنقصك املتعة،
لك ذلك ،بعد العودة إلى البيت ،كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليال،
دخلت إلى البيت وتفكيري كله في وضع أحمد ،كيف يمكن مساعدته ليعود
إلى رشده؟ ويتصالح مع العائلة ،التي ابتعد عنها ،وابتعد عن البلد ،ربما
يحتاج مساعدة ،أخرست نفس ي دون إشغال بالي به ،الليلة كلها مرت
بالتفكير في فاجعة أحمد ،قبل أن تحل ّ
علي الفاجعة الكبرى ،التي دبر لها
الشيطان األخرس أحمد ،يا هللا كل كلمة تخرج من فيه تحوي سما قاتال،
ود وطيبة ،فكأن هذا ّ
الود ال أعرف كيف صبرت على استفزازاته ،عرفته ذا ّ
لم يكن ولم يعرف به ،ربنا أفرغ علينا مودة وصبرا لتجاوز هذه املعضلة
املتعلقة بالكرامة ،ترقق قلبي ،ووضعت صورة أم أحمد الحقير في ذهني،
امرأة طيبة ،ولدت نغال وبغال ال يعرف حدا في املعصية ،صبرت كثيرا،،
وأفكر في مصدر الصبر الذي أفرغ ّ
علي أثناء ادعاءاته الكاذبة وجرأته على
الحديث في العقيدة ،ماذا فعلت خالتي حتى رزقها هللا بهذا االبن العاق؟
كان صديقي أيام الثانوية ،كنا ال نفترق ،وكان شخصا طيبا ،وبعد دخوله
إلى الجامعة تغير تغيرا جذريا ،كنت أحسبه الظل الذي ال يفارق صاحبه
حتى في الظالم ،ولكن بعد فعلته التي سأحدثك عنها ،نسيت شيئا اسمه
الصداقة ،ونسيت شخصا اسمه أحمد األخرس.
في أحايين كثيرة ،تكون صداقاتنا مصدرا للضرر واأللم ،صداقات
اكتسبنا فيها ومنها املضرة أكثر من املنفعة .في الحياة ال نكون في حاجة
لرسم صور األصدقاء في قلوبنا ،يكفي أن نضعهم كأشجار مثمرة تتساقط
كلما دارت عليها الفصول ،البؤساء في حياتنا هم الباحثون عن صداقة
دائمة ومستمرة ،ويحملون فكرا مثاليا عن العالقات ،وال يحسبون حسيبا
36
جعفر لعزيز اإلله الجديد
بمكرية اإلنسان ،وثعلبيته ،لم تعد حياتنا مهداة لآلخرين ،ال يهمنا
رحيلهم ،وال فجاءة بما يمكرون ،أساس الوجود االهتمام بعاملنا الناسوتي
شد الوثاق بأصالة الصداقة، الداخلي ،لم نولد لنسعد حقراء العالم ،وال ّ
خلقنا باألساس بقلب واحد ،وعقل واحد ،ومصيرنا واحد ،قلبنا ال يتسع
ليحمل زيف أولئك الخبثاء ،سندفن وحيدين وسنحاسب وحيدين،
وسيأتينا هللا يوم القيامة فرادى ،ولكن ال أستطيع الحسم اقرارا بأن
جميع الصداقات ميؤوسة ،فقد يأتيك هللا بصداقة تنعم بها ،وتسعد بها،
ُ
جمال ،وأبشر به صديقا مخلصا ماتعا ورفيقا واثقا رقيقا، ف ِنعم الجمال
وإن كان غريبا ،وليس ابن منطقتي فهو شخص أعتز به وأرجو له كل
الخير.
لعنت الشيطان ،وتركت التفكير في فعلة أحمد ،فقمت وأكلت ُ
بعض األشياء ،أسد بها رمق جوعي فقط ،دون الوصول إلى الشبع ،وقرأت
صفحات من ديوان املعري ،فأثارني قول عجيب وغريب ،قاله الشاعر:
ّ
فعلهم وأن تكون لدى الجالس ممقوتاوجانب الناس تأمن سوء ِ
ل ّبد من أن يذموا كل من صحبوا ولو أراهم حصا العزاء ياقوتا
كنت أعتبر الرفقة محمدة ونعمة ربانية ،أما اآلن فهي مقت وسوء،
لسنا مجبرين على اعتناق أرواح الناس ،اعتناق أنفسنا أفضل ما يمكن
تحقيقه ،أما اعتناق اآلخرين فال نجد فيه سوى األلم والبشاعة ،كانت
فعلة أحمد في تلك الليلة السودادوية صدمة وكارثة بالنسبة ّ
إلي ،ملا علم
أحمد أنني وحيد تلك الليلة ،أخبر طالبة تحترف املسامرات املاجنة ،راغبة
في املال ،وراغبة في املتعة ،فقدم لها عنوان البيت الذي أقطن فيه ،فزارتني
تلك اللية املتظلمة ،قائلة أخبرني صديقك بأنك تبحث عن فتح أبواب
37
جعفر لعزيز اإلله الجديد
املتعة ،وترغب في االستمتاع بجسد أنثوي مثير ،وتتشوق إلى زيارة أكثر
منطقة تظنونها مثيرة في املرأة ،أخبرتها بأنني لم أفهم قصدها ،عن أي
صديق تتحدثين؟ وما محلك من اإلعراب؟ ال ينقصني سوى همك ،حدثتها
أنني ال أتقن الحديث مع البنات ،ولكن ماذا تريدين؟ أجابت ،جئت ألقدم
لك املتعة كما قال صديقك ،مع مقابل مادي زهيد ،ال تخف ،لن أطلب
منك الكثير ،أرى فيك حقا أنك لم تجرب من قبل ،هكذا قال صديقك
أحمد ،أدركت قصدها وفهمت مقصدها بعد ذكرها السم أحمد ،قلت لها:
رجاء سيدتي أنا لم أطلب منه شيئا ،أراد فقط أن يوقعني في الرذيلة كما
فعل مع أصدقاء كثيرين ،فعل بهم مثل هذه األفاعيل ،لم ألتق به ألطلب
منه أمرا كهذا ،أجد حرجا أصال في إطالة الحديث معك ومع اإلناث عامة،
فكيف أزعم على طلب ما تسمينه باملتعة ،كنت قد صادفته في املعرض
الطالبي اليوم ،وسلمت عليه ،ألنه ابن منطقتنا ،الجنوب الشرقي،
إلي ،وأنت مجرد ضحية فأخبرته بأنني وحيد ،فاستغل الفرصة فأرسلك ّ
مستغلة بغباء ،ال أدري كيف تسول لك نفسك املجيء بهذه السهولة
والبرودة؟ ال أعرف كيف تستطيعين بيع جسدك بهذه السذاجة؟.
قالت :أنا صديقة ألحمد ،وأثق فيه كثيرا ،وملا أخبرني بالطلب قدم لي
العنوان ،لم أستفسر عن الشخص ،ولم أزد على املوافقة بكالم آخر،
وجئت إليك مباشرة ،استغربت من حديثها هذا ،فقلت لها :املال أعز وأرقى
من قداسة ذاتك ،وفي هذه الليلة الظلماء تأتين رغبة في تحصيله ،دون
وضع اعتبار لكرامتك ،ربما أوقعك أحمد بكالمه الساحر واملتلون،
وجعلك في مصيدة الثقة الزائفة ،ال أحتاج إلى متعة يأتي بعدها ندم
شديد ،وال رغبة لي في تجربة مثل هذه األمور ،افهميني أنا إنسان جنوبي
مشاعري معطلة ،ورغباتي مفقودة ،متعتي اآلن يا سيدتي مع الكتب،
38
جعفر لعزيز اإلله الجديد
39
جعفر لعزيز اإلله الجديد
الحب امللجأ الذي يسدد حاجاتها ،املسكينة أي مال ستجدينه عند أحمد
وعندي أنا؟ ال نملك سوى دراهم نأكل بها وجبة واحدة ،منتظرين خروج
املحنة التي تقدمها الدولة للطلبة ،حزنت لحالتها ،ولصدقها وصداقتها
وبراءتها وثقتها ،كانت طالبة جميلة الوجه ،حسنة املنظر ،معتدلة القوام،
ضائعة في شرفها ،وفي شوارع املدينة ،بكت كثيرا ،بعدما سمعت كالمي،
وتحسرت على ما تفعله ،وما فعله أحمد بها ،ال لومة على أمثالك ،اللومة
على الذين يستغلون عجزك لقضاء مصالحهم ،واللعنة عليهم وعلى
أموالهم.
لم يفلح أحمد إليقاعي في ضاللته ،ما فعله جعلني أمقته مقتا،
وأكرهه كرها ،ال أعلم ما به ،وماذا أصابه؟ أرجو له الهداية ،ولكن عالقتي
ودعت الطالبة، معه انتهت ،لن أسمح لنفس ي أن تلتقي معه مرة أخرىّ ،
وتعرفت عليها ،وقلت لها إن احتاجت مساعدة أن تتصل وع ّرفتها بنفس يّ ،
بي وتتواصل معي ،وإن كنا نحن أكثر املحتاجين إلى املساعدة ،ذهبت
ودموع الحسرة تتساقط عليها ،كنت صارما معها بهدوء ،تأثرت بما قلته،
لم أكن أعلم أنني أتقن االحتضان الكالمي ،واستمالة الناس والتأثير فيهم
لهذه الدرجة ،كان اسمها سارة ،آخر كلمة قالتها بعد ذهابها ،هلل القدرة
على ّرد عبده إلى الطريق املستقيم ،لم أندم على مقابلتك يا نديم ،ففي كل
شر خير ال نعلمه ،واصلت الكالم قائلة :أنني أحترق من كيد أحمد بك ،أما
أنا فوددت لو ألقيت بنفس ي في مكان عل بسبب صنعته ومكيدته النكراء
الشنعاء ،واملشكلة أن أسرتي ال علم لها بما أصنعه وأفعله ،وهذه مشكلتنا
نحن اإلناث ،ال نلقي حسيبا لشرف األسرة ،نفعل ما يمليه علينا عقلنا متى
كنا بعيدين عنهم ،ووحيدين في مكان ال يراقبنا فيه إال هللا.
40
جعفر لعزيز اإلله الجديد
41
جعفر لعزيز اإلله الجديد
5
العدو الداخلي
اليأس من الحياة ال يعد جريمة ،فقد يكون املحدد الرئيس ملسارك،
فكرت بأن أكمل مساري الدراس ي ،فتقدمت ملباراة ماستر بمدينة النصر،
كلية اآلداب ،جامعة ابن الياسمين ،لعلي أحتضن مقاما تأمليا آخر يغير
نظرة ُج ِرم الحياة ومأساتها ،ألسافر بالناس بعبارات مطروزة ومسكوكة
تحيي فيهم آمال عيش جديدة ،نغير األمكنة واملأساة على حالها ،تحركنا
الظروف والحياة من مدينة العهد ،إلى مدينة النصر ،التي سأكتشف
عاملها ،إذا ولجت سلك املاستر ،مدينة العهد ،عهد بيني وبين نفس ي على
مصالحتها ،وعهد على مواصلة ما نصحني به الشيخ صالح ،والعم إدريس،
وأبي وأمي العزيزان ،وأنا أترك مدينة العهد ،أتذكر قول الشاعر العربي:
َ َ ْ َ ُ ّ َ َ
يار ِإذا تحم َل أهل َهاَ ...د َرست فلم ُيعلم لها َبمك ِان ليت الد
َ الد َي َاروإن َت َ
قادم َع ْه ُدهاّ ...مما ُت َه ّيج َد َ إ ّن ّ
ائم األ ْح َز ِان ِ ِ ِ
مدينة النصر عهد آخر في جامعة الياسمين ،أناصر فيه حالي،
وأعانق فيه أملي ،وأتجاوز فيه أحزاني ،نعم أتجاوزها ،ألنني أهلكت نفس ي
بها .يكاد يكون قولي صحيحا ،ولكن أفقد أملي من األمل الذي أعقده على
الحياة ،بسبب املناظر التي نسبح فيها ،وأحدثك أنني تفوقت في ولوج سلك
املاستر ،بعد مباراتي الكتابي والشفوي ،لم أصطنع فرحة ،ألنني ال أفرح
بما أصنع ،أحمد هللا فقط ،تلك املثالية التي نسمع بها عن املاستر ،زالت
من اللقاء األول مع منسقي املاستر ،يظهر أننا سنحصد البؤس بهذه
آمل أن أسرد على القارئ شيئا ،مما يقع الكلية ،تباشير غير محمودة ،ال ُ
42
جعفر لعزيز اإلله الجديد
43
جعفر لعزيز اإلله الجديد
44
جعفر لعزيز اإلله الجديد
45
جعفر لعزيز اإلله الجديد
طلب املعرفة هو أملنا الوحيد ،نقدم لها كل ش يء ،نصرف وقتنا من
أجلها ،نأكل أكلة واحدة من أجلها ،نغادر بلدنا ونعيش غربة مريرة من
أجلها ،ابتعدنا عن أحضان األمومة ،وفقدنا نصائح األبوة ،وتشوقنا لدعاء
الجدة ،وسخائها ،وفي األخير نجد حرم املعرفة ،أو حريم الجامعة ،مطبخا
يطبخ فيه الجهل والغش والتفاضل والحقد والبغض ،ويكبر فيه العدو
الداخلي ،الضمير الفاسد ،املنتج لضمائر فاسدة.
46
جعفر لعزيز اإلله الجديد
6
انعطافة جديدة ومسار جديد
في النصر صادفت شخصا آخر وصداقة أخرى ،الصديق سعيد،
الذي يخالفني كثيرا في أفكاري ،يحاول أن يقنعني بأن اإلنسان يستطيع أن
يخلق السعادة لنفسه ،وأن يعيش عيشة هانئة ،فقط ينقصه اإليمان
بالحياة ،وربط الصلة بها وبخالقها ،لم أر نظرة تشاؤم على وجه صديقي،
الذي عرفته في النصر املشؤومة ،إنني أجده شخصا بشوشا وقورا ،وقارئا
نهما ،جميل الوجه ،معتدل الجسم ،نقي السريرة ،حافظ األسرار وكاتمها،
وصادق الرفقة ،عشنا أياما تلتصق في الذاكرة ،وتتملص من النسيان،
ورغم عقدي مع نفس ي وثاقا بعدم الثقة ،ولكن أخالقه جرتني على ال ِعشرة
معه ،فهو ابن مدينة النجد الجميلة ،كان سعيد يخبرني دائما بأنه يريد أن
يصبح مثقفا عضويا تكون له القدرة على التأثير واالستمالة واالستهواء،
سعيا منه إلى تغيير نظرتهم ،وتوعيتهم بما لهم وعليهم ،هذا هو مسعاه
حينما تعارفنا ،كنت أقول له :إنك تخط على ماء يا صديقي ،فرأس مالنا
هو الصمت والرجاء من القدرة الربانية التدخل ،إليقاف هذه الفواجع
والفوض ى ،التي تسبح فيها البشرية.
يحدثني صديقي دائما ،تجاوز تشاؤميتك البئيسة يا نديم ،أرى أنك
زدت تعلقا بهزل كونديرا ،وأولعت بتشاؤمية العدمي سيوران ،وتجاذبت
أفكار سالفوي جيجك ،وناوكي ياناس ي ،وبيل هيكس ،ونيتشه ،وشوبنهاور
وقائمتك طويلة جدا ،فيما سيصلح لك هذا؟ وبم سينفعك؟ ولكن العيب
وجهوك ليس عليك ،العيب على نقاشتنا مع مدعي الفلسفة بالكلية الذين ّ
47
جعفر لعزيز اإلله الجديد
إلى قراءة هذه الكتب ،وخصوصا صديقك أدهم ،الذي أرجو أن تتملص
منه ومن أفكاره الخاطئة عن التفلسف ،وقال لي :أال تعرف أن أدهم هذا
ال صلة له بالدين ،تجده في كل نقاشاته املزيفة بالفلسفة يعارض سنة هللا
في كونه ،ويردد أن ال حياة بعد املوت ،ال يصلي أبدا ،ويعتبر أن تقاليد
وعادات الدين اإلسالمي مجرد تخاريف وهرطقات نقوم بها ،هل أنت راض
عن هذه األفكار؟ هل تعتقد أنه فهم الفلسفة حق الفهم؟ إن تخصصه في
الفلسفة يا نديم ،تخصص مزيف ،يتباهى بنفسه كلما نطق بقولة
فيلسوف ،ويتعالى كلما تأثر بأفكاره ،أظنه ظنا يقينا أنه عالة على الفكر
والوعي يا نديم ،وإذا كان الفالسفة يدعون إلى ما يسفه به أدهم ،فأف على
هذه الفلسفة الحقيرة.
لربما إن الطلبة الذين يتخصصون في الفلسفة بالجامعة هم من
قتلوها ،وجعلوها منفرة في عقول الناس ،يقرأون سطر كتاب ،ويحفظون
قولة كاتب ،فيظنون أنهم عقالء ومفكرون وفالسفة ،لهم األحقية في
توعية الناس.
سارعت إلى إسكات سعيد ،وقد اتفقت مع رأيه في الطلبة الذين
ّ
وجيفوها وقامواوالتفلسف ،إنهم أفسدوا الفلسفةّ ، ّيدعون الفلسفة
بتشويهها تشويها مؤملا وفظيعا ،قلت لهِ :لتعلم يا سعيد الحكيم ،أنني كنت
أرض ي أدهم في كالمه فحسب ،لكوني ال أريد أن أتزايد معه في الكالم ،ال
أحتمله فأسارع إلى التخلص منه بارتضاء مقوله ،وأسعى إلى هذا بأية
طريقة ،وما ترى من األفكار التي أنطق بها هواء وعفوية ،فال أزعم فيها أنني
فليسوف أو ما شابه ،أو مفكر يبتغي التغيير ويقصده ،هي أفكار أخذتها
من الكتب التي أقرأها ،وسهرت معها ،فتولدت في عقلي بمحض إرادتها.
48
جعفر لعزيز اإلله الجديد
49
جعفر لعزيز اإلله الجديد
قليال بحرية .أجاب :آمالنا في هللا ،سنصل إلى ما نريد بالصبر ،ودعنا نكون
طالبين مجدين بهذا املاستر ،نحصل النقط واملعرفة ،ينبغي فقط أن
نتخذ القراءة شيئا مقدسا ،ال نفارقها ،وال تفارقنا ،وسنكمل بعضنا
بعضا ،أنا ذو تكوين تراثي ،وأنت تجمع بين هذا وذاك ،تأخذ من كل علم
بطرف.
صديقي مولع بالشعر ،وقارئ عميق للروايات ،ورأيه في الفلسفة
نابع من عدم حبه لقراءتها ،ال يشبنهي في قراءاتي التي أقرأ ،نتشارك حب
األدب ،وننفصل في قراءة الفلسفة ،التي قرأتها دفاعا عنها من أمثال أحمد
وأدهم ،وأستيقن حتما أن سعيد إذا اطلع على شذرات فلسفية ،سيتعلق
بها أشد تعلق ،وسيسهر معها ليالي ،متأمال كتبها ،ومتفحصا أفكارها،
وسيبتعد عن اآلراء التي أقرها في ذهنه عن الفالسفة ،وباألحرى من
الصورة التي ينقلها الطلبة الفالسخة املزيفون عن الفلسفة ،فقط
تنقصه املبادرة إلى فعل ذلك ،حدثته بأن يترك العربية قليال ،وأن يدرس
الفلسفة.
وأسردت عليه هذا املوقف فخاطبني وقال :اسمع يا نديم ،كالمك
منطقي جدا ،وذو اعتبار سليم ،ولكن ماذا أفعل بالفلسفة ما دمت
متخصصا في العربية؟ أال تدري أن عيب طلبة الدراسات العربية ،أنهم ال
يفقهون تخصصهم ،ويذهبون إلى دراسة تخصصات أخرى؟ ال أريد أن
أكون من تلك الفئة ،التي إذا الكت الكالم ،مزقته وشوهته ،ولحنت فيه،
هم غير ِمن ِط ِقين باللغة ،إنهم ملوثون لغويا ،عربيتهم العرباء خرباء
وفاسدة ،يكفي أن أكون متمكنا في تخصص ي ،أما الفلسفة فال عالقة لي
50
جعفر لعزيز اإلله الجديد
51
جعفر لعزيز اإلله الجديد
7
الصرخة
ُ
الناس يولدون ويأتون معهم بصرخة دائمة ،وبعدها يخلقون
بأنفسهم صرخات تسمع صداها في جميع األرجاء ،ويرحلون ويتركون
صرخات ال متناهية ،فالصرخة تتولد فينا كل يوم ،تخلق فينا الجفاء ،هي
امللجأ الوحيد الذي نواجه به مأساتنا ،وجنون ما أصاب العالم ،أينما
أدرت وجهك تسمع صرخة ،أي قلق أصبنا به وتناسل معنا؟ لقد بدا لي
أنني مشتاق لعزيزي القارئ ،ألحدثه وأتحاور معه ،فأظنه يضم في داخله
صرخات ،وأحسبه يالمسه القلق والفزع والخوف ،تشوقت لنتحاور قليال،
أرجو أن يكون اللقاء األول ذا فائدة عظيمة وسديدة ،لعلك صرخت في
وجه العالم ،وتغيرت تعامالتك معه ،قد يتحقق هذا ،أتدري أننا نكتب عن
الحزن ليس ألننا عشنا حياة ممقوتة ،أو طفولة متزمتة؟ لقد كنا سعداء
بما فيه الكفاية ،وعشنا أيام فرحة ،رغم ما أسردته من كالم عن معاناة
أمي وشقاء أبي ،فلما انفصلنا عشنا السعادة واألمان ،ولكن ملا تصادف
نضجنا مع الواقع تغيرت الحال ،وأصبحنا يائسين أكثر من الالزم ،ظننا أن
السعادة شعور يشعر به الجميع ،وإحساس تتشاركه اإلنسانية ،وأنها
سمة تعم ظالل الكون وتغطي مالمح الوجود ،لكن عزيزي القارئ ،هذا
غير باد ،وغير ظاهر ،فالتعاسة أصل هذا الوجود ،الصرخة ولدتنا،
بدايتنا صرخة ونهايتنا صرخة ،تدللنا الصرخات كثيرا ،تباغتنا الجروح،
نعيش باألحزان التي نكتب عنها ال ألننا عشنا أحزانا ،بل لرفضنا حزن
اآلخرين ،فهم مدفونون في األلم ،محشورون في صدر الصراخ ،إننا ننتظر
52
جعفر لعزيز اإلله الجديد
النجاة واملآل بكل شوق ،أحالمنا بسيطة هو أن نعيش حياة هادئة ،نريد
أن نغرق في السكينة ،فصمتنا لم تعد له القدرة ،إنه صمت مفجع.
يكفي أن نتجول في الشوارع لنرى مقدار الصرخات التي يولدها
الناس ،ننتظر القرار اإللهي الحاسم ،إلنهاء هذه املسرحية املأسوية،
لنذهب إلى مكان ال نهائي ،ال فظاعة يمكن الحلم بها بعدها ،إن العالم
موبوء باألشياء الرهيبة ،أيها القارئ إننا نصرخ منتظرين سالما وحبا وأمال
وحياة نعيمة ،لعلي سأحدثك عن قول لألديب اإليرلندي صمويل بيكيت،
رائد مسرح العبث ،ملا سئل في حوار له مع توم درايفر ،في حفل نظم
لتكريم مثقف إنجليزي ،سأله األخير ملاذا يكتب دوما عن األحزان؟ أخبره
بأنه عاش طفولة سعيدة جدا ،فتضاعف شعور السائل بالضاللة ،فترك
صمويل الحفل وخرج وركب سيارة تاكس ي ،فرأى ثالث الفتات ،كتبت عليها
ثالث عبارات ،واحدة تطلب املساعدة للعميان ،وأخرى لأليتام ،والثالثة
ملساعدة الجئي الحروب ،فقال :أنت لست بحاجة للبحث عن األحزان،
فهي تصرخ في وجهك حتى في تاكسيات لندن ،فهمت القصد أيها القارئ،
فاألحزان تصرخ في وجوهنا في كل مكان ،ال نكتب عنها فقط ،بل هي تأكل
معنا وتعيش بجوارنا ،نعيش عنفا عامليا ،مولدا لهذه األحزان.
تخرج إلى الشارع فتجد املتسولين ،وتفتح التلفاز فتشاهد مجازر
وحروب العالم ،تذهب إلى املسجد فتجد أمرا بصالة الجنازة على إنسان
ُ
قتل ظلما ،تتمرح ليال حتى تشاهد مطاردات بوليسية ،تلج إلى املحكمة
فتجدها منفجرة بقضايا الخصومات ،تزور املستشفيات فبئس مناظرها
ومشاهدها ،كيف تريدون أن نبتسم ،وأن نضحك للدنيا؟ لم يكن قصدي
أن أحزنك عزيزي القارئ بعد شوقي إليك ،أردت فقط إخبارك ،ألنك ربما
53
جعفر لعزيز اإلله الجديد
واس
سئمت من األحزان التي تبوح بها لغيرك ولم يراعيها أي اهتمامِ ،
نفسك ،وأحزانك ،ودعها مكتنزة في داخلك ،فالعالم مليء بها ،واصرخ متى
شئت ،وابك متى أردت ،وال تؤاخذني بما أقول لك ،ألنني متناقض ،لعقدي
معك اللقاء ألبوح لك بما أحمله في صدري من صرخات.
54
جعفر لعزيز اإلله الجديد
55
جعفر لعزيز اإلله الجديد
8
مأساة الجامعة
األخالق سمة الفاشلين والضعفاء ،هذه هي خالصة الجامعة ،ترى
فيها كل ش يء ،لم تعد الحرم الجامعي الذي كنا نسمع عنه ،بل أضحت
مقبرة إلقبار الجهل في عقول الطلبة ،وترسيخ السلطوية فيهم ،كنت
أتجول مع صديقي سعيد بالكلية بعد حصة مليئة بالذاتية مع أستاذ ال
أذكر اسمه ،يلحن في كالمه حتى في الحديث عن نفسه ،وما بالك في شرح
الدرس وبسطه ،هناك أساتذة يجبرونك على الصمت والحوقلة ،وأساتذة
تتمنى لو دامت حصصهم سنوات عدة .أثناء تجولنا في الساحة ،رأينا
تجمعات طالبية تغرق في الضحك والالمباالة ،طالب بأشكال متنوعة ال
تكاد تحدد جنسهم ،ما لم تبحث في بطاقتهم الوطنية ،وطالبات كأنهن في
عرس ليلي ،أو دار ماله ،يصبغن وجوههن بألوان تزيدهن بخاسة ووقاحة،
ال ندري أحقا نحن في حرم جامعي ،أم ملهى جامعي؟ منظر مرعب ومفزع،
أصبحت فيه الكلية ملجأ مريحا للمتعة ،ومشربا ألحاديث فارغة،
وتجمعات تعرف ما تفعله بالوقت ،وبينما كنا نظن أن الجامعة كانت
مفزعا نفزع إليه ،ألخذ العلم وتعلم القيم ،إال أنها في الحقيقة مزرعة
الحيوان ،تنتج بقرا متشابها ألوانه ،يأكل من أعشاب الجهلُ ،ويسرح في
حظيرة الدولة كما تشاء ،ويمس ي املركب الثقافي الذي يتحكم فينا ضائعا،
ومبنيا على الهزل والتفاهة.
الجامعة التي نبني فيها أحالمنا ،أصبحت اآلن مدخال لقتلها ومخرجا
للفتك بها ،ونحن نتمش ى قلت للصديق :أترى يا سعيد ما نحن فيه؟ أجئنا
56
جعفر لعزيز اإلله الجديد
57
جعفر لعزيز اإلله الجديد
هم لهم سوى الضحك والدعابة ،يذكرني هذا يا يفعل هؤالء الطلبة ،ال ّ
صديقي بقول كونديرا"" :التفاهة ،إنها تحت نور أسطع وأكثر كشفا،
التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود ،إنها معنا على الدوام في كل مكان،
إنها حاضرة حتى في املكان الذي ال يرغب أحد برؤيتها فيه ،في الفظائع ،في
املعارك الدامية ،في أسوأ املصائب" .تذكر هذا يا سعيد جيدا ،فالتفاهة
تسكننا وتعبث معنا ،أيجدر بنا أن نغير نظرتنا نحو الحياة؟ ال نقدر على
ُ
فعل هذا ،كتب علينا الحزن أياما معدودات ،وأحل لنا كل ما في الحياة إلى
أن يأتي أمر ال ُيرد.
بعدها ذهبنا للمكتبة ،لنقرأ شيئا من شعر أبي العالء املعري ،الذي
الزمته منذ فترة اإلجازة ،فشعره يؤكد لي عبثية الحياة ،وضجرها،
ومأساتها ،حينما أقرأ خطابه الشعري ،أتذكر مباشرة ما يتحدث عنه
الروماني سيوران في "لو كان آدم سعيدا" و"مثالب الوالدة" ،فهو يعتبر
الوجود جسرا نعبر منه كعبيد ،ويذكر أننا أجبرنا على املجيء لهذه الحياة،
يعجبني يأسه كثيرا ،كله متعلق بما يقوله رسول التشاؤم جياكوميو
ليوباردي ،الذي عاش حياة منعزلة ورهيبة ،وقد نعيش املصير نفسه،
العجب لهؤالء السعداء في العالم ،طبعا ال يملكون قلبا ليصلوا لحد
اليأس ،وعجبا للطالب املرجلين والطالبات امليؤوسات ،سنسمع قدرهم
ومآلهم مستقبال ،سيبحثون عن حل للخروج من املغرب الحبيب ،الذي ال
يرحم الضعفاء مثلهم ،سيظلون يغردون في مواقع التواصل االفتراض ي أن
الدولة لم توفر لهم مناصب الشغل ،ولقد كانوا سلفا يتابهون ويتالسنون
مرحا وشبقا كأنهم في نعيم الجنة .نحن اليائسون العابثون الضائعون
الشامتون النائمون ،في مسرحية مأسوية على أنغام سمفونية لودفيج فان
58
جعفر لعزيز اإلله الجديد
بيتهوفن الخالد ،الذي وجد في املوسيقى جودو الخاص به ،لقد أنقذه من
مأساته.
سألت سعيد في تلك اللحظة عن صدفة عجيبة جاءت في سياق
الحديث عن بيتهوفن ،وهي أن الذين يحملون عاهة مستديمة ،في هذه
الحياة ،أصبحوا خالدين ،بيتهوفن فقد سمعه في سن الشباب ،وصار من
أشهر املؤلفين املوسيقيين ،تجد سمفونياته واوكستراه في كل مكان ،فقد
سمعه ويسمع صخب العالم ،ترى املعري كيف صور الحياة وكان من
ّ
العميان ،طه حسين الحبيب إلى قلبك يا سعيد ،خلف آثارا أدبية ونقدية
تصنف ضمن اآلداب العاملية ،ولن أحدثك عن لويس خورخي بورخيس
العجيب ،الشهير بلقب األعمى ،الذي يمارس السرد بألعاب قرائية تأويلية،
ّ
السرد عنده لعب تأويلي خالق.
وأنا أتحدث قال سعيد :وهناك هوميروس صاحب األوديسة،
والشاعر اإلنجليزي جون ميلتون ،هم كثيرون يا صديقي ،أما نحن
املبصرون املقمعون فلم نصنع شيئا ،تكفينا التعاسة التي تصرخ في
وجوهنا ،واملسخ الجامعي الذي نطلب فيه العلم ،دعنا من هذه التشاؤمية
نديم ،ولنمرح قرائيا.
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ،جلسنا في خزانة الكلية،
عفوا ملهى الكلية ،وأردنا أن نستغل الوقت املتبقي للحصة املسائية مع
الساعة الثالثة مساء في القراءة ،آخذت أقرأ في ديوان املعري ،وأخذ سعيد
يقرأ رواية الحركة لعبد اإلله بلقزيز ،وكنا سندرس مساء مادة تحليل
وجدت محاضراته لدى طالب من طلبة اإلجازة درسُ الخطابات ،مع أستاذ
عنده قديما ،ويدرسها لنا اآلن ،دون تغيير وتحيين ،فاألتعس أن تحلل
59
جعفر لعزيز اإلله الجديد
60
جعفر لعزيز اإلله الجديد
بعد لكي نلبسها ،وأنا أواصل قراءة الديوان فإنني أتأمل كل بيت أقرأه، ُ
وأنظر فيه وأتأوله ،وأقرنه بفكرة قد يريدها سيوران ،أجد أبياته خصبة
وخصيبة تحوي معاني ودالالت ال محدودة ،تقودني إلى عالم آخر من
التأمالت ،التي يتباهى بها طلبة الفلسفة أمامنا ،ال يعرفون أننا نملك أدباء
فالسفة ،يتأملون في الحياة والوجود ووحدة الوجود ،واملطلق ومسائل
الطبيعة وغيرها ،ال يعرفون ابن عربي والحالج ،فهم يمتلكون سرا أدبيا
لفهم الوجود.
بينما سعيد غارق في الرواية ،أخبرني بأنه قريب من انهائها ،فأخبرته
مزاحا بأنني أنتظر خالصة موجزة عنها ،فقال :تريدون أن تكون جميع
األشياء محضرة لكم في طبقِ ،انس الخالصة وما شابه ذلك يا نديم ،اقرأ
الرواية بنفسك فستفيدك كثيرا ،فالقراءة مرتعنا ومأونا الوحيد ،ففهيا
جميع حاجاتنا ،واآلن دعني أنهي الرواية ،فحصة تحليل الخطابات لم
يتبق لها سوى ساعة ،حركت رأس ي مبتسما ،وقلت ال يمكنك إطالقا يا
سعيد إدراك كل أحداث الرواية ،ولذلك لن أقبل خالصتك حتى لو أردت
تقديمها ،فالرواية محصنة برداءة النسيان كما يقول كونديرا" ،الرواية
قصر محصن برداءة النسيان" ،قصر تستطيع أن تتذكر فيه القليل من
األحداث ،وأما الباقي فيضيع ،بفعل النسيان ،الحيلة التي يمكن أن تمتاز
بها الرواية لكي تجذب القارئ هي النسيان ،أن تدخله إلى قصرها البهي
الغني املشوق ،فتجعله ينس ى ما قرأ ،فحينما أقرأ لألديب الروس ي
دوستويفسكي ،ينبغي أن آخذ قلما وورقة ،ألسجل شخصياتها التي تفوق
املئة ،فحتما منذ الصفحات األولى ستنبهر بكم هائل من الشخصيات،
وسيكون النسيان هو حليفك ،وال يهمنا هذا ،بقدر ما نتمنى أن نكون ّ
قراء
جيدين ،ألننا نقض ي وقتنا حبيسين مع الكتاب ،بعدما رفض العالم
61
جعفر لعزيز اإلله الجديد
االهتمام بنا ،هكذا يقول صاحب مقبرة الكتب ،كارلوس زافون ،طردتنا
بشاعة الحياة من عالم بئيس إلى عالم خصيب متناسل ،عالم القراءة
األبدي.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة ،فذهبنا إلى حصة تحليل الخطابات،
فمرت متصدعة تشقق الرأس ،يحدثنا عن دور الحجاج في فهم الخطاب،
ومسخه ،إني ال أجد متعة في توظيف قوالب جاهزة على النصوص
والخطابات ،فطبعا هي بمثابة قوالب جاهزة ،تمسخ الخطابات ،فنضيع
حياتنا في ال ش يء ،واملؤسف هو الحماس الذي يشعر به الطلبة تجاه هذه
األشياء ،وكأن فهم الخطاب الحجاجي وما تعالق معه ،سيجعلني طالبا
بارعا ،نكذب على أنفسنا ،ونكذب على النصوص ،كنت أمازح الصديق،
فأقول له ما الفائدة من فهم خطبة الحجاج بن يوسف؟ وما الفائدة من
فهم خطاب ترامب؟ وما الغاية من مضيعة الوقت في البحث عن األنساق
التي تضمرها رسائل ابن القرامني؟ مجرد هراء وثرثرة صاخبة ،وسعيد
كعادته يرد :دعنا نقرأ لنبحث عن مستقبلنا ونرسم طريقا ُم ّ
شرعا
ألحالمنا ،أما هذه األشياء فال قيمة لها بتاتا ،عبارات مضخمة ،من قبيل
إن الحجاج ومعاوية وابن العميد وظفوا آليات حجاجية يبتغون من ورائها
دالالت ومقاصد ال يفهمها إال املحلل الحاذق ،وال تنس أن تقلب الذال
زايا ،وكأنهم عاشروهم وعاشوا معهم ليقولوا :إنهم وظفوا واستعانوا بكذا
وكذا واستطاعوا أن يؤثروا ويستميلوا الناس .املعتوهون من ينصبون
أنفسهم محللين لفهم خطابات أناس ماتوا ،وهم لم يفهموا أنفسهم قط،
ولم يدركوا معنى حياتهم ،نتباهى بأننا نجيد إجادة تامة فهم خطاب قاله
شخص توفي خالل القرن الثالث الهجري ،ألناس ماتوا وأكل عليهم الدهر
وشرب ،هذا هو العبث بروحه.
62
جعفر لعزيز اإلله الجديد
التأنق بهذه األشياء من أجل التألق ال يؤدي إال إلى الالش يء ،هذه
اآلليات التي نعتز بها نحن أهل الدراسات العربية ،وضعها أصحابها لفهم
مستجدات حاضرهم ،ال إلى العودة من أجل فهم القعقاع والتأكيد على
فصاحة الحجاج ،ومدى استطاعة طارق بن زياد على إقناع جنوده .في
أحايين كثيرة نتأكد أن املسائل التي نعتبرها جادة مسائل تغرق في التفاهة،
وتشرب من مشرب التفاهة ،إن العالم أصال في حفلة تفاهة فظيعة.
مرت الحصة كما هو معهود ،كالم محمول على كالم فقط ،وثرثرة
فوق األرض ،وضمير منهي متزمت ،في دراسة محاضرات حفظتها جذران
الكلية ،وأقرت بأنها بمثابة مخطوط أسطوري توجد فيه بركة األولياء ،ال
تؤاخذني عزيزي القارئ هذا ما بدا لي حقيقة ،بعد انتهاء الحصة خرجنا مع
الساعة السادسة مساء ،وجلسنا في الساحة قليال تداولنا بعض
النقاشات مع الطلبة ،وقمنا بضحكات استهزائية حيث أصبحنا قادرين
على فهم بواطن النصوص ،وفي تلك اللحظة أحسست بأن بطوننا تصرخ
بالجوع ،وسرعان ما أنهيت كالمي مع الطلبة وانعزلت أفتش في هاتفي،
أبحث لعلي أجد اتصاال ما ،سعيد استمر في الحديث مع الطلبة ،يسألونه
عن بعض الكتب التراثية ،وأمهات املصادر ،ويطلبون منه أن يراجع معهم
مضمون حصة تحليل الخطابات ،كان طالبا مجدا ومنفتحا ،عكس ي أنا
مجد ولكن صامت ال أفتح قلبي ألحد.
سئمت من االنتظار ،والصديق يواصل أحاديثه مع الطلبة ،وتركني
وحدي واقفا ،وبينما أنا أنتظر نادتني ندى ،أهال أخي نديم ،وبعد ندائها
رأيتها قادمة نحوي ،فاضطربت قليال ،واعتدلت في الوقفة حينما اقتربت
أكثر ،رحبت بها ،وأنا أشعر بخجل ،ألنني أجد الحرج في افتتاح موضوع مع
63
جعفر لعزيز اإلله الجديد
البنات ،وال أقود نفس ي نحو مسابقة الحديث معهن ،ألنهن يحملن وعيا
جمعيا وفكرا مشتركا ،بأننا نحن الطالب نلهث نحوهن ،ونصدع بحرق
أنفسنا ،للبحث عن طريقة للدخول معهن في صداقة دائمة وحديث ال
منقطع ،وبأننا نشتاق للبحث عن أحاديث عاطفية ،نمأل بها الفراغ الذي
يثقبنا وينخرنا ،إنهن يضعن أنفسهن في صورة مثالية غير مستحقة،
يحسبن أن جميع الذكور عميان ،الذين يحلمون في أوقات فراغهم ،بفتاة
تمتلك قواما معتدلة ،ولها حقها من الجمال والجالل ،إنهن يفخرن
باألنوثة املزيفة ،وبالفتحتين املشوهتين ،التي ينساق نحوهن ذكر أعمى
وفحل جرته الفحولة نحو متعة زائلة ،ال أشبه هؤالء ،ولست متجذرا من
شجرة تبتغي العناق والوصل والشوق ،إني أبحث عن مخلص يفهم عاملي
الداخلي ،ويبعثني من جديد ،أيها الرجال دعوهن يفخرن بما يملكن ،فما
نريد جنسا أنثويا يفخر بمظهره الداخلي ،وبفتحتين سببتا فيكم الهلع
والخوف والكبت ،وابحثوا عن منقذ ينقذكم من الضاللة.
وحتى ال أسوق حديثا طويال متشائما ،أمر إلى حديثي مع ندى ،فقد
تناقشنا في بعض أمور الدراسة فقط ،وأخبرتني بأن أنضم إلى الطلبة،
قلت لها :سنذهب اآلن ،أنتظر صديقي فقط ،وتساءلت هل توجد مشكلة
ما لك معنا؟ قلت في خاطري ،ماذا تريد هذه املعتوهة ،لم ينقصني سواها،
استدركت مجيبا ،ال مشكلة لي معكم أختي ندى ،كل ما في األمر أنني لست
اجتماعيا.
واستوقفت نفس ي قليال ،أقول :لن أتكلف في وصفها كثيرا ،فذلك
أمر ال يحرك في دواخلي شيئا ،ولكن أقول أني أرى في عينيها نظرة براءة،
وثغرا باسما ،ووجها مشرقا ،يا للهول ،أظن أنني متناقض أشد التناقض،
64
جعفر لعزيز اإلله الجديد
65
جعفر لعزيز اإلله الجديد
الصديق عن ذلك ،فأجاب ضاحكا وهللا لم أتذكر شيئا سوى أنها رواية
تعود بنا إلى أحداث حركة عشرين فبراير ،وأحداث الربيع العربي ،وما
أتذكره جيدا هو قول بلقزيز" :إن السياسيين جميعا من نسل الشيطان،
يحتالون على الناس ويسرقون أصواتهم في االنتخابات ،بعد أن يصدقهم
هؤالءـ لكي يغتنوا".
وضعت يدي على كتفه فقلت :حقا يا صديقي ال تذكرني بهم،
فالسياسيون وضعوا أنفسهم على عرش الشيطان ،حثالة الضمير تنخر
في أجسادهم ،وال يستحقون أن نطيل الحديث عنهم ،فقط أخبرك أنني
قرأت الحركة لعبد اإلله بلقزيز سابقا ،وقرأت سراديبه ولياليه ،وأنصحك
بقراءتها ،واحذر فإن الرواية قصر محصن برداءة النسيان.
أكلنا ما تيسر أكله بمنطقة الرحاب في مدينة النصر ،وشبعنا
وحمدنا هللا ،وأنا أكل تذكرت نظرات ندى ،لم تكن بريئة حقا ،هي تخفي
شيئا ما ،وتضمر في قلبها سرا ما ،أو ربما أنا مخطئ ألنني ال أفهم في خبايا
النساء وعالم الطالبات شيئا ،قد أكون مخطئا لعدم ِإلفي التعامل مع
الفنون الجميلة بنوع من اللطافة ،أنا قاس جدا ،شردت قليال ،فانتبه
سعيد لذلك ،ووجدته قد أنهى طبق الفاصوليا الذي نأكله في أحسن
ظروفنا ،وأنا لم أصل بعد إلى انهاء النصف من اللوبيا ،استغرب سعيد
قائال :أنت تأكل كالفريسة ما الذي أصابك؟ هل أنت مريض؟ هل عدت إلى
تشاؤمك مرة أخرى؟ ألديك مشكلة ما؟ أخبرني أرجوك ،ال تجعل دماغي
مشوشا ،أنا صديقك ،حزن لحالي كثيرا .ال يعلم سعيد أن تلك الشعلة
املضيئة داخل قلب اإلنسان ،وجدت املكان الذي ستستضاء فيه،
وتفاجأت من شدة إحساس سعيد ،بقوله :أض ئ شمعتك املرحة ،وأخرجها
66
جعفر لعزيز اإلله الجديد
إلى الوجود ،لعلها تلتقي بمن يشبهك ،وتتصادف بمن يحمل نفس
همومك ،أض ئ شمعة قلبك ليستض يء بها العابرون ،ال تجعل أحزانك
سلطان حياتك .كم هو جميل أن تعاشر أمثال سعيد ،رغم أنه غريب
عني ،إال أنه يقف معك وقفة رجل ،ليس مثل الذي يقطن معك في البلدة
نفسها ،وينغص عليك أيامك ،ويكدرها ،فال مقدرة له على رؤيتك،
ُ
وأعلم ما حدث لي مع أحمد في العهد ،فما يحسدك على أبسط األشياء،
فعله معي لن يفعله أقس ى أعدائي وأشدهم ،بئس الوجوه الضاحكة
نفاقا ،صدق املعري قائال:
والناس خيرهم كشرهم وتساوت النعرات ّ
والدبر
إن أناس أهل البلدة يحقدون عليك ،وعلى إنجازاتك ،تحسبهم
لطفاء وظرفاء ،فتجد عكس ذلك ،وتظنهم يبغون لك الخير ،ولكن
ودوا لو أعدموك ،ولو سمح هللا بقتل يحملون عليك حقدا شديداّ ،
البشر ،ألعدموك من أول نظرة ،وخاصة بعض الطلبة ،أمثال أحمد،
وتصلنا أخبارهم الخبيثة مع البنات ،يقضون أياما في الخواء فيمصمصون
شفاههم فقط ،ويعضونها ،ويشدون رأسهم حسدا ،ألنك كنت تسهر
الليالي لتحصل املعرفة ،وأنك تنجح في اجتياز فصولك في الدورة العادية.
اطمأن سعيد بعد أن علم بأنني بخير ،وأما أنا فنسيت أمر ندى.
عاطلون عن الحياة ،ويائسون منها ،لم ينقصنا سوى الحب ،الحب لن
يبحث لنا عن الخبز ،أتم سعيد طبقي ،وعدنا إلى البيت ،الذي ال يصلح إال
للنوم وإعداد العروض ،دخلنا وصلينا العشاء ،وتذكرنا عرض أستاذ مادة
األدب ،الذي كلفنا بإنجاز دراسة عن كتابه ،حيث أجبرنا بشرائه وألح على
فعل ذلك ،ونحن ال نملك ما يكفينا للوجبات الثالث في اليوم ،واملعضلة
67
جعفر لعزيز اإلله الجديد
أنه كتاب مشرد ال قيمة له ،يحمل قوال على قول ،ومليء باألخطاء
النحوية ،وموضوعاته مقعرة الشكل وخاوية املضمون ،عار عليهم أن
يأكلوا من أكتاف الطلبة ،بإرغامهم على شراء كتبهم ،لجمع مال يضيعونه
إما في الطالبات الليليات ،أو لشراء سيارة يتباهون بها أمام املأل ،واألجدر
أنهم إذا كانوا قديما يطلبون العلم بشروطه وأسسه ،ومصاعبه ومتاعبه
ومهلكاته ،فسيعرفون ظروفنا ،ولن يلزمونا على فرض كتبهم البخيسة
علينا ،لو كانوا يعرفون ما نحن فيه ما فرضوا علينا طبع ورقة ،والتهديد
الضمني بأن ذلك سيقرر في االمتحان.
ونحن ننجز قراءة حول الكتاب ،اشمأز سعيد من موضوعاته،
وأسلوبه الرديء ،وأخطائه الفظيعة ،حدثني قائال :الحياة عالم بئيس،
ُ
كتاب
ِ نجد بأسها مغلفا في كل األمكنة ،ماذا يعني أن تجبر على شراء
أستاذ ،ال سبب يبرر شراءه سوى أنه أستاذك الذي كتبه وألفه ،ويظن
نفسه شهما بيننا ،إال أنه عكس ذلك ،فإنه يحط من قيمته.
تأففت ورميت الكتاب جانبا ،ألنه يستفزنا بما فيه من مباحث
مأخوذة من دكتوراه جافة ،وملا رأيت الغضب يتالش ى في دواخلي ،فقد
طبقت قول محمود شاكر" :لكل كتاب فهرسته ،فأقرأ فهرست الكتاب"،
اطلعنا نحن االثنان على فهرس الكتاب ،وبدأنا الكتابة عنه ،ولم تمر
ساعة حتى أنهينا ذلك ،فرقناه في الحاسوب ،بعد تقسيم العمل بيننا،
أخذنا نتحدث عن طريقة اإللقاء غدا ،ألننا بهذا التحضير نبهر الجميع،
طلبة وأساتذة ،وكنا نقوم بهذا في مختلف املواد ،ال مشكل يتعقبنا ،فه ُّمنا
الوحيد هو التحصيل ،لنضمن مستقبال نحصل به على طرف الخبز كما
يقول املثل املغربي ،تعبنا كثيرا ،والساعة متأخرة ،وأردنا الخلود إلى النوم،
68
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ففاجأني سعيد بقول هزلي ،أرى أن البنات بدأن يتطايرن عليك ،إنهن
العاشقات يا نديم ،جميلة الفصل ندى وقفت معك اليوم بعد حصة
تحليل الخطابات ،لست أدري هل تريد أن تخفف عنك أتعابك ،أم أن
االمتحانات على األبواب ،وتريد منك أن تكون أستاذها أليام معدودات،
فينتهي ذلك ويتجدد في أوقات االمتحان مرة أخرى؟
ضحكت من قوله ،مرددا عبثا عبثا تحاول يا سعيد ،ال حب لبئيس ُ
مثلي ،وال وله وال عشق ،سألتني ندى فقط عن سر االبتعاد عن تجمعات
طلبة قسمنا ،أعاد علي ما قلت هزال ،فقال :األيام بيننا كاشفة ،أظن أن
ندى سترويك وستغير نظرتك التشاؤمية هذه ،امنحها فرصة ،وافتح لها
ّ
قلبك القاس ي ،إن النساء يحتجن إلى االهتمام والدالل ،فيولد فيهن كل
ش يء ،قلت صه ومه يا سعيد ،فال نية لي في إقامة عالقة مع ندى أو غيرها،
فسوق النساء مليء باألشواك ،وال نشتري منه سوى الضجر والعجيج،
تبيع لهن سالمك وهدوءك فيقابل بكثرة الضجر ،نم يا سعيد فسنستيقظ
باكرا ،وسنصبح على مادة األدب ،ودعك من ندى ،فتلك ملحة أخرى،
وعالم آخر ،ال نحبذ أن نعرض تفاصيله الشيطانية في سهراتنا الليلية.
69
جعفر لعزيز اإلله الجديد
9
التسلط
استيقظنا باكرا كعادتنا ،متجهين إلى املكان امللعون ،الذي يتركب
فيه الجهل ،وتتعالى فيه أصوات أشباه املثقفين واألساتذة ،كانت حصة
األدب ،ولدينا فيها عرض حول كتاب األستاذ" ،األدب العربي القديم:
وتنبؤات الحداثة" ،مر العرض في نصف ساعة ،وبقيت ساعتان ونصف
للملل واالستعالئية والذاتية ،أطال األستاذ القول ،بأننا كنا موفقين في
فهم الكتاب ،وتحقيق مطالبه والوصول إلى أفكاره ،وأريد من هذا العرض
أن يكون مقاال ،بعد إدخال بعض التعديالت ،وإن فكرتم في نشره،
فسأتكلف بذلك ،وبابتسامة حارقة ،وافقنا على أساس أن الكتاب سيتنبأ
بمستقبلنا الحداثي لألدب ،كما تنبأ بمستقبل وحداثة طبقات فحول
الشعراء ،وكما يقول طالب معنا كثير املزحة والطرفة والنكتة ،طبقات
وحوش الشعراء ،ما الغريب فقد يتنبؤون بكوارث العالم ،ومأساته ،هذه
هي التنبؤات الصادقة ،وما سوى ذلك فمرج وعجيج وجعجعة ال طحين
فيها.
املستقبل الزاهر لإلنسانية يوجد في مخيلة املوتى ،أما األحياء فال
حق لهم إال استطالع كارثة مستقبلية ،حتى ال أخرج عن جو الفصل ،فقد
شكرنا الطلبة بما قدمنا لهم ،وما أثارني هو تدخل ندى ،كانت مذهلة ،لم
تكن تشارك وتتدخل في الفصل أبدا ،تحدثت بلغة جيدة ،أي صدفة
هذه؟ ملاذا تدخلت في عرضنا فقط دون عروض أخرى؟ ربما لتثير انتباهي
وتحظى بصداقتي ،علي أي ،هذا مجرد هذيان ،ال شأن لي في تدخلها ،ذلك
70
جعفر لعزيز اإلله الجديد
71
جعفر لعزيز اإلله الجديد
72
جعفر لعزيز اإلله الجديد
صادقة وغير متلونة ويصعب التالعب بها ،فكما قالت في اللقاء التعريفي،
فهي متأثرة بكتابات نوال السعداوي ،وفاطمة املرنيس ي ورضوى عاشور
وأحالم مستغانمي ،وأجاثا كريستي ،وجاين أوستن ،وتذكرني بشخصية
رواية أوليف كيتدريج إلليزابيث ستروت ،املتقلبة إلى صرامة ويأس وصبر
وشدة ،ال تدخل في تفاصيل الجميع ،تسعى للبحث عن فهم أحق لحالتها
وذاتها ،أشترك معها هم القراءة ،وسمة التشاؤم.
ألقى سعيد لباس الهزل واملزاح ،وتحول مباشرة إلى إنسان مجد
فجرني للذهاب إلى قضاء حاجته ،كان يود قضاء وعميق وصاحب عقلّ ،
مسألة إدارية بالكلية ،عند السيدة املتسلطة آمال ،وعباس الرجل
املعذب ،إدارة تذهب إليها لطلب وثيقة أو إلنجاز ش يء ما ،فتندم حياتك
كلها على الذهاب إليها ،اإلدارة عندنا هي الوحيدة التي تعتبر أن الناس كلهم
في إجازة وال أشغال لديهم ،لذلك تمنحهم بعض الراحة في االنتظار،
مهمتهم املبجلة تضييع الوقت ،وتأخير إنجاز الطلبات ،يود سعيد أن
يتقدم ملدرسة التعليم الخصوص ي وأراد سحب أوراقه ،إلعادة نسخها،
وجعلها نسخا مطابقة لألصل ،فذهبنا ونحن نلوك كالما عن مآسينا وفي
ضرورة حاجاتنا إلى عمل نساير به شدة املعيشة في هذه الحياة امللعونة.
ملا وصلنا إلى اإلدارة تحدثنا باحترام مع املتسلطة آمال ،وأخبرناها
بطلبنا ،فبدأت بعملها االحترافي ،بتصدير الطلبة وتصنيمهم في مكان
يطول فيه االنتظار ،بعد معرفتها الطلب ،قالت لسعيد امأل هذه الورقة
ّ
وانتظر حتى يأتي النائب ليوقع عليها ،انتظرنا وطال االنتظار كثيرا ،فرجع
عندها سعيد ليخبرها بمرور نصف ساعة كاملة في ال ش يء ،ولدينا عمل
آخر لقضائه ،قال لها :رجاء سيدة آمال ،اتصلي به ،أو ليكلفك أنت
73
جعفر لعزيز اإلله الجديد
74
جعفر لعزيز اإلله الجديد
خرجنا من اإلدارة دون قضاء الحاجة ،تبا إلدارتهم التي تدير رأسها
عنا ،سعيد غاضب وقلق ،ربتت على كتفه ،وهدأت من روعه .في هذا البلد
الحبيب كتب علينا الشقاء ،إننا سيزيفيون في أرض الخراب ،املشتغلون في
الجامعة أشربوا في قلوبهم سوء التدبير وانعدام الضمير ،هؤالء اإلداريون
همهم الوحيد أخذ املال فقط ،فهو عقيدتهم وإيمانهم وشرفهم وكرامتهم،
صدق الفيلسوف الذي نسيت اسمه ملا قال بأن اإلدارة ملا دخلت إلى
الجامعة عطلت كل ش يء فيها ،األساتذة يعتذرون عن عدم املجيء للحصة
بسبب اجتماع طارئ ،سبحان هللا كأنهم يخططون للحد من املنظمات
اإلرهابية ،كثرة االجتماعات فيما بينهم أكثر من الحصص التي ندرسها
نحن ،اإلدارة عندنا شققت رؤوسنا بفعل االنتظار ،صبرنا وما زلنا نصبر
على هذا العبث والشؤم ،حتى حينما نطلب دعما إلنجاز نشاط طالبي
داخل الكلية ،تأتي اإلدارة لتعرقلنا ولتعكر علينا املزاج ،وتفتح لغة مكرها
بأن القانون ال يسمح بما أنتم فاعلون ،أي قانون جعلهم يعترضون على
الحياة املعرفية في الكلية؟ آمال وعباس والنائب ،نماذج ملا يحصل في
جامعات أخرى ،اإلدارة وحدها كافية لتجعلك تسافر وترحل عن املغرب،
وتهجره لبلد يسرك أن تشتغل فيه عامل نظافة.
ُ
ونحن نخرج من باب الكلية صادفنا آمنة املحجبة فجاءة ،حركت
رأسها إشارة إلى السالم دون أن تتوقف لتحدثنا ،فهمس سعيد بقوله :يا
لها من معقدة ،وكأنها اللؤلؤ واملرجان ،تظن نفسها محصنة ،وأمثالها
يصنعن العجائب والفظائع وراء شاشة الهاتف ،بأجساد فيسبوكية
متعددة الحركات ،لم تتكلم وكأن كالمها سيبعث فينا األمل من جديد،
ُ
ضحكت من وسيمحي معاناتنا في النصر ،وينسينا ّ
هم ما نحن فيه اآلن،
قوله ،قلت :دعك منها فلها حرية الحديث مع من تشاء ،لن نلزمها على
75
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ش يء ،وأصال ال ينقصنا سوى كالمها ،فقد ضيعنا وقتنا ههنا مع امللعونين،
ونريد فقط الذهاب إلى البيت ،نصنع غذاء من البيض والطماطم،
ونذهب إلى خزانة الكلية لنقرأ شيئا ما ،ونستدرك ما ضاع من الوقت في
هذه الحظيرة.
76
جعفر لعزيز اإلله الجديد
10
المنزع التقديسي
ذات يوم ،مساء الجمعة ،ذهبنا إلى املكتبة مع الساعة الثالثة بعد
الزوال ،لنطلع على بعض األطاريح املنجزة حديثا في موضوع النقد القديم،
كلفنا بها األستاذ ،لننظر في املوضوعات التي تم إنجازها ،والطريقة التي
صدع رأسنا في الحصة ،وشقه، أنجزت بها ،باعتباره مشرفا عليها ،فقد ّ
بقوله إن األطروحات التي أشرفت عليها متميزة ،ونالت حق الطبع،
وأصحابها يدرسون في جامعات أخرى ،وما أشاهده من البحوث اليوم غير
الئق بمستوى البحث العلمي ،وأطال القول بأن األساتذة اآلخرين في النقد
الحديث والسرد واللسانيات ،نجد أطروحاتهم التي أشرفوا عليها مسيئة
للبحث العلمي ،هذا أمر يشق على النفس ،هكذا في جميع الحصص،
األستاذ يعتبر نفسه العالم في كل ش يء ،لم ندرس حصة إال وقال فيها إن
األستاذ والدكتور فالن قد ذكرني في كتابه ،واعتبرني من املؤسسين األوائل
للنظريات الفكرية والنقدية التي تحدث عنها النقاد القدماء ،أمثال ابن
سالم الجمحي وابن األثير والجرجاني ،سمعنا أحاديثه وأقواله وصدقناها،
وبدأنا ننشر ذلك بين الطلبة ،فأستاذنا متمكن وموسوعي وصاحب قدر
وشأن في الدراسات النقدية بالعالم العربي ،األمر مؤسف طبعا ،لم أثق
فيما يقول وفيما يدعيه ،فما أعرفه أن املتمكنين تتحدث عنهم إنجازاتهم،
وال يتحدثون عن أنفسهم في الفراغ.
سبق وأن قرأت بأن نيتشه يخبر طلبته بعدم اتباعه وتقديس
أفكاره ،وينصحهم بالتمرد عليه ،فيقول لهم" :انفضوا عني وال تعودوا إال
77
جعفر لعزيز اإلله الجديد
إذا أنكرتموني" ،ونحن اليوم نرى أن أستاذنا يشكر نفسه ،كأنه يقول
ضمنيا اتبعوا مساري ،وال تتبعوا مسار شخص آخر ،أي اعتزاز هذا؟
نسأل هللا بهذا أن يجعل أستاذ النقد مذكورا في تاريخ هيرودوت ،لم ال؟
فهو أستاذ يفهم كل ش يء ،ويبحث في كل ش يء ،ويكتب في كل ش يء.
جلسنا في املكتبة ،وبدأنا نتصفح األطروحات التي أشرف عليها
األستاذ املبجل ،فوجدنا الهراء والثرثرة في الكالم في الدكتوراه املبجلة،
وتأسف سعيد على تصفحها ،وندم ندما شديدا ،فما فيها من األخطاء
واألحكام القيمية والقداسة أمر ال يحص ى ،وآثار انتباهي أنهم يستشهدون
باألستاذ كثيرا ،لم ال يفخر وقد ذكر في أطروحات أخذت حق الطبع؟
قال سعيد :سمعت أن هذا األستاذ متعصب كثيرا ،وقد سجل
سجال من أسماء الطلبة الذين عارضوه في مواقفه وآرائه دون معرفتهم،
يرسبهم في املادة التي يدرسها ،ويكون مانعا من إكمالهم السنة الجامعية في
سنواتها الثالثة ،رغم أنهم يقدمون أجوبة مقنعة وفي املستوى ،واإلشكال
أنه يتحدث مع أساتذة آخرين ليتخذوا املوقف نفسه من هؤالء الطلبة،
الذين يتركون عائالتهم ويشقون متاعب كثيرة ،ليأتي أستاذ فيه ثرثرة
زائدة ،فيقف في طريقهم ،ويمنعهم من تحقيق أحالمهم ،بسبب مخالفتهم
لرأيه ،قال سعيد بعدما رفع رأسه بعد تصفح عميق لألطروحات ،تعددت
األسباب والفساد واحد يا صديقي نديم ،ستعصف تشاؤميتك من جديد
أعلم هذا.
استغربت حقا من هذه الفاجعة ،األمور تسير من س يء إلى أسوأ في
هذه الدنيا ،ال أمل للتمسك بها ،ال أعرف مقدار الرحمة املوجودة في قلب
هذا األستاذ ،والذين يشبهونه ،يمارسون سلطة الجهل والقمع وفساد
78
جعفر لعزيز اإلله الجديد
صبرنا هللا على تحمل هذا ،فلم نعد قادرين الضمير ،وانعدام الشفقةّ ،
على تصديق ما يحصل ،الشهرة واالعتزاز والفخر كلها مسائل إغوائية
تفسد اإلنسان ،وتحقره ،وتنقله من اإلنسانية إلى الداروينية ،سئمت مما
سمعته عن األستاذ ،وتأكدت منه في الفصل ،فاستأذنت سعيد بالخروج
إلى ساحة الكلية قليال ،وأخذت معي كتاب "املصالح واملصائر" لعلي حرب،
فخرجت وجلست ،وبدأت أتصفح الكتاب ،فأثارني عنوان جميل" ،املنزع
التقديس ي" ،فذهبت مباشرة أقرأ ما سطره الكاتب ،لكوني معجب بكتاباته
ألنه يقربني من مشاكل العالم العربي ومأساته ،وأزماته ،ومطالبه ،ملا قرأت
ما قاله عن القداسة ،وجدته يضرب في أمثال هؤالء األساتذة ،الذين
يبتغون قداسة من طالبهم ،ويسيرون وراء منزع الشهرة الفارغة ،وقفت
على قول علي حرب في املنزع التقديس ي":،هذا املنزع هو أصل العلة وجذر
املشكلة ،كما يتجسد في تقديس األصول والنصوص أو في عبادة األشياء
واألشخاص ،إنه مصدر العجز والفقر ومصنع القصور والتخلف ،أوال
ألن القداسة هي أداة حجب ومحو ،بقدر ما هي مصدر رهبة ورعب ،وثانيا:
وتشل طاقته الحيوية علىّ ألن العبادة تدمر لدى الفرد منابع القوة
التفكير الخالق".
مؤسف حقا ،أن تجد مثقفا وأستاذا جامعيا يرسخ مبدأ القداسة في
طلبته ،ويعمي بصيرتهم بالتقليد دون التجديد ،وال يربي فيهم ملكة النقد
والشك ،التعلق باألسماء وتبجيلها ،آفة مضاعفة ومريضة ،نعاني منها
بالكلية ،األمر الذي ينتج كسال وتأخرا وهزاال وجوديا ،كأننا في زمن األلوهة
والحضارات القديمة ،التي تتعلق باألساطير واآللهة لتمارس حياتها
وتضمن عيشها ،مصالحنا ومصائرنا محددة بتنقية الجامعة من فيروس
الجهل والقداسة ،ننتقد كثيرا ،ونقول :إن املشكل في وزارة التعليم ،بل
79
جعفر لعزيز اإلله الجديد
80
جعفر لعزيز اإلله الجديد
81
جعفر لعزيز اإلله الجديد
82
جعفر لعزيز اإلله الجديد
83
جعفر لعزيز اإلله الجديد
84
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ُ
وتتركنا في العراء ،األمر واضح هي تس ّير أمور الجبناء للسطو علينا ،ولو كنا
نملك ما يسطون عليه بنا ،لجئناهم به ،عطاء منا وجزاء شكورا ،كنت
أستيقن أننا عديمو الحظ ،ولكن سنرض ى بما كتبه هللا علينا ،وسنصبر
حتى ندرك ما كتبه هللا لنا ،برر الرجل الضخم ثمنه ،بأنه أرخص مما
نصرفه في شهر كامل ،وبأنكما ستأكالن أكال طيبا في الريسطو ،فكرا جيدا
لدي شغل آخر ،إذا وافقتما علي ،فأنا اآلن سأترككما ّ فيما أقول وردا ّ
فقوال ذلك ملسعود ،فهناك طالبات متعددات ،يرغبن في الغرف ،أمنحكما
يوما واحدا ،فالطالبات يقدمن الثمن دون مناقشة وزيادة .لم نرد على
كالمه ،فأخبرناه بأننا سنفكر في األمر الليلة ،ونشكرك على مساعدتك لنا
وللطلبة.
ذهب الضخم تاركا في الدماغ عنفا كبيرا ،يخبرني سعيد ملاذا
تتشاءم؟ وملاذا يشدك اليأس؟ أطلق سراح الحياة واضحك يا نديم.
الصديق يعلم أن والدتي ندم وفاجعة ،رغم السعادة التي أنعمت بها في
صغري ،ال علم له بأن الندامة تشدني كلما رأيت مشاهد مسيئة
باإلنسانية ،أشدها ما رأيناه قبل قليل ،وحراه يبرر لي الرجل الضخم
قوله ،باألكل في الريسطو ،وحسرتاه على قوم يظنون أن الخبز واألكل هو
الحياة ،أال يعلمون أن اإلنسان يأكل ويتآكل في دواخله بهذه املساوئ
املمقوتة.
تودد ّ
إلي سعيد بالتجول قليال في حديقة الحي ،ملعانقة جوه ونسيمه
املكفهر قبل مغادرته ،ربت على كتفي ،وقد مصمصت شفتاي بسبب
الغضب ،قال اهدأ يا نديم ،انس ما حصل ،وهيا نشاهد مناظر الحي.
ونحن نتمش ى في الحديقة ،فنسمع القهقهات األنثوية ،والهمسات
85
جعفر لعزيز اإلله الجديد
86
جعفر لعزيز اإلله الجديد
87
جعفر لعزيز اإلله الجديد
88
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ونحن نتمش ى رأيت الدموع في عيون سعيد ،ولم أسع ملنعه ،وبينت كأنني لم
أر شيئا.
أردت أن أزيح عنه بعض الحزن ،رغم أنني أشد حزنا منه ،أبتغي أن
أفتح عليه باب االبتسامة ،فذكرته بإلهام صديقته املقربة في الفصل،
فضحك ضحكة مليئة ببعض مالمح العشق ،وقال :اترك إلهام ،وافرغ
رأسك من ش يء اسمه العشق أو الحب ،أال ترى ما نحن فيه اآلن ،لم نتغذ
والساعة اآلن التاسعة مساء ،فقد حرم علينا الحب وما شابهه في هذه
الحياة ،لقد لقينا مرارة فظيعة ،والحب لن يطعمك الخبز كما تقول،
فالعطالة عطالتنا عن كل ش يء ،وال نظن أننا سنتفرغ للعشق يوما ما،
وأصال الصالحات الصادقات العابدات انقرضن ،والصالحون
والصادقون العابدون انقرضوا ،فذوي الفضائل الحميدة قليلون ،قلت
له :هيا نشتري شيئا بهذه الدراهم بدل أكل اللوبيا عند عمي إبراهيم ،الذي
يعرفنا ويعرف حالتنا ،وكم مرة رفض أخذ النقود منا ،البسطاء يشفقون
علينا ويحنون على عبارة نرددها دائما ،نحن مجرد طلبة ،نطلب العلم
للوصول إلى الرزق ،اشترينا قليال من لحم الدجاج وبعض الخضروات،
إلعداد طاجين يكفينا معا ،ونغير به روتين املعجنات والبيض.
دخلنا إلى البيت وأعددنا الطاجين ،فجمعنا الغداء مع العشاء ،هذه
هي حالتنا أكلة أو أكلتين في اليوم ،ألن همنا الوحيد هو التحصيل ،وال
ش يء غير التحصيل املعرفي ،غدا السبت ماذا سنفعل؟ والبيت ضيق
ومتزمت ،ال مدخل للهواء فيه ،وشبكة الهاتف تكون فيه معطلة ،أي
مأساة هاته ،واملشكل أن مكتبة الكلية ال تفتح يوم السبت ،واملكتبة
الوطنية نكرهها ملا فيها من صخب وضجيج وعجيج ،سنصبر وسنبقى في
89
جعفر لعزيز اإلله الجديد
90
جعفر لعزيز اإلله الجديد
إن الرحمة هي أرقى حكمة ،كما يقول التلمود" ،فبدأت أتأمل كيف
يستطيع بعض الكتاب تنبأ ما يقع في الواقع ،إن الرحمة في اإلنسان
منعدمة حقا ،وإن فرعون الحي الجامعي أدل على ما قالته إريكا ،كل يوم
نعيشه في هذه الحياة مليء بحكم نؤمن من خاللها بأن العالم مقبل على
كوارث مدمرة لإلنسانية ،فشلنا في تبليغ رحمة هللا إلى اآلخرين ،فشل
اإلنسان في إفشاء السالم ،لقد أمرنا الحق سبحانه بهذا ،وأمرنا به النبي
صلى هللا عليه وسالم ،لقد قال" :انشروا السالم بينكم" ،نجحنا فقط في
نشر الفساد والخبث والتضليل ،نجحنا في تخريب العالم ،وإفساده ،لقد
خلق اإلنسان كل أنواع الدمار ،وفشل في التحكم فيها ،بعد تأمل العبارة،
قلت :أظن أنني مقبل على صدمة داخلية بعد العنف الذي يخرب دماغي
كل يوم ،ونادني النوم لبعض للراحة ،فتركت الكتاب ونمت وتركت
الصديق يقرأ القرآن الكريم ،ليحس بالطمأنينة ،وينعم بالقبسات
القرآنية العظيمة ،ويلج إلى أعماقها ،لكن صديقي يمر على اآليات دون
تأمل ،يقرأ قراءة عادية ،دون الوقوف لتدبر اآليات وفهمها ،وأنا كلما
حملت القرآن ألقرأه ،أظل مع كل آية أكثر من عشر دقائق ،أتأمل بطونها
وأسرارها وخباياها ،مستحضرا فكرة الشيرازي في أن كل كلمة في القرآن
تحوي سبعة أبطن.
91
جعفر لعزيز اإلله الجديد
11
األدب ينتحر بتكاثره المجنون
حل الصباح واستيقظنا على صرخة جديدة في وجهنا ،والبيت معتم ّ
وال علم لنا بشروق الشمس أو إشراقها ،ولكن يظهر أن هذا اليوم سيكون
يوما جميال ،بزيارة معرض الكتاب ،فالكتاب مسكننا الرحب ،الذي
نخاطب فيه شخصيات حية بمكتوباتها ،تناولنا فطورا سريعا ،بالتلهف إلى
رؤية الكتب ،خرجنا وذهبنا إلى املعرض مشيا ،ألننا نتقشف لنكمل بمالنا
أشهرا عديدة ،وصلنا إلى املعرض وبدأنا نتجول في أروقة الكتب ،رواق
األدب والفلسفة والتاريخ ،ساعة كاملة ونحن نتجول ،األثمنة غالية
واملحتويات ال قيمة لها ،وكأننا في معرض تجاري لجمع األموال ،ال لنشر
ّ
املعرفة ،اإلله الجديد بخس كل ش يء وأقرفه ،حتى املأوى الذي نرتاح فيه
لم يسلم من هذه املتاجرات ،ففي رواق األدب وجدنا الكتب كارثية في
مجال السرد والشعر ،بدأ جو السأم يسود املعرض ،كل ما بنينا عليه
آمالنا تحطم ،ليتني لم أوافق على رأي سعيد ،ورفضت طلبه دون املجيء،
خسرنا وقتا ثمينا ،فلم تكن الكتب تثيرنا ،ولم تستهوينا ،طبعات رديئة
ومحتوى أدبي هزيل ،ولغة ركيكة الحنة ،تبتدئ بقراءة عمل ما وتتنفر منه
بسرعة ،قال لي سعيد :أفضل أن أظل معتكفا على قراءة الكتب القديمة
رقمية على عدم شراء ورقة واحدة من هذه الكتب الحديثة ولو كانت
مجانا ،وقلت بنبرة يأس كتب علينا الكتاب الرقمي في عصر رقمي ،في ظل
أننا ال نملك ماال لشراء أمات الكتب ،وفي ظل بخاسة اإلصدارات الجديدة.
92
جعفر لعزيز اإلله الجديد
93
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ال يليق بحمل صفة كتاب ،طالسيم ال نفهم فيها شيئا ،وال ندري بأي لغة
كتبت ،وخصوصا شق األدب يا ندى ،وتعلمين أننا ملهمون بكتب األدب
كثيرا ،فجئنا لنطلع على جديد السرد والشعر ،فلم نجد سوى الهزل،
والكالم في هذا طويل ويطول .فهمت ندى خطب سعيد ،وركزت عينيها
نحوي ،فقالت :طبعا يا سعيد فلم يعد لألدب طعم في املؤلفات التي تظهر
اآلن ،فقد يئست منها أنا أيضا ،وعشت الشعور نفسه السنة املاضية ملا
جئت إليه ،فصديقتكم عاشقة للكتب ،وتلتهم كثيرا ،ولم أصادق طالبا
غيركما ،طمعا في معرفة الكتب التي تقرأونها.
قلت إطراء لها :الظاهر أنك ستكونين مثل شهرزاد املغرب ،فاطمة
املرنيس ي ،ردت بضحكة لطيفة ،أكيد تسخر مني يا نديم ،ال أعرف إذا
كنت مثلها ،هل ستفتح عقدة لسانك معي ،تتكلم كلمة أو كلمتين ثم تلجأ
إلى صمتك ،قد تكون جاحظيا بهذا األساس ،وصمتك يا عزيزي يجذبني
نحوك ،ألكتشف عاملك املخبوء ،ألرى السر الذي يجعلني أقول عنك ،إنك
شخص ال تشبه اآلخرين ومختلف عنهم ،تنفست بشدة غير دار ما أقوله،
غيرت املوضوع ،سائال ندى سؤاال في سياق طبيعة كتب األدب ،هل بدا لك
أن الكتاب اليوم ،خليق بأن يسمى كتابا؟ فقد رأيت أن أمر التأليف
والكتابة قد هزل هزال شديدا ،ويوحي بالرداءة املنتشرة في جميع األمكنة،
رد سعيد قبل ندى ،فاستحضر مواقف طه حسين ،التي ّ
يحمل فيها
املسؤولية لدور النشر ،التي تبتغي ربحا ماديا بدل الربح املعرفي ،ومن ثمة
ُ
فتسهم في نشر التفاهة ،وذكر موقفا آخر ،راجع باألساس إلى الكتاب
الذين يكتبون وكأنهم نيام ،بحكم أنهم ال يقرأون كثيرا ،والذي ال يقرأ فال
مقدرة له على الكتابة ،واستمر سعيد في شرح موقف طه حسين ،ونحن
نستمع بدقة وننظر في املوقفين بتأمل ،وختم قوله بقول طه عن نفسه في
94
جعفر لعزيز اإلله الجديد
رواية القصر املسحور :،أقرأ كثيرا وأكتب قليال ،استحسنت ندى طريقة
نقاش سعيد ،في عرضه لألفكار ،وهذا ليس بغريب عن الصديق ،فلي معه
عشرة ،يقلد فيها أبلغ الفصحاء في العربية.
وبعدها أجابت ندى عن سؤالي بإيراد موقف ميالن كونديرا ،مبينة
بأن األدب ينتحر بتكاثره املجنون ،وههنا تضاعفت الصدمة بعد صدمة
مجاملة اللقاء األول ،كيف يعقل أن تالقيك الصدفة لتدرس مع فتاة تقرأ
لكاتب تعشقه عشقا عظيما ،وتضعه في قائمة مقرواءتك اليومية ،لم
يكذبوا حينما قالوا ،إن بعض الحب قد يأتي ويتولد بسبب تشاركك عشق
كاتب مع فتاة معينة ،أي هذيان هذا؟ لن ينفع معي حب وما شابهه،
استغربت ألن ندى كانت تحدثني بأنها تقرأ األدب النسوي فحسب ،ولم
أظن يوما أنها قد تقرأ مليالن كونديرا ،املسألة عجيبة حقا ،تقتض ي وقفة
تأملية.
تصاعدت األنفاس ،وبدأت التأويالت ،وكأن القلب بدأ يستجيب
لهذه الصدمة ،ما سر التالقي بيننا ،معنى هذا أنها ذهبت لتبحث عن
ُ
الكتاب الذين أقرأ لهم ،وأداوم على قراءتهم ،أنام معهم وأستيقظ معهم.
أكيد عرفت أنني أقرأ لكونديرا ،أخبرتها بذلك أثناء حديثنا بساحة الكلية،
وفي نقاشاتنا للعروض داخل القسم ،لم أظهر أي استغراب في قولها،
تناقشت معها ،بأن هذا االنتحار األدبي الذي أسفر عنه كونديرا ،قول
أصدره بناء على مصاحبة متأنية لألعمال الخالدة ،ألدباء يصعب تقليدهم
كتابيا ،أدباء عرفوا كيف يستميلون القراء ،بالسيطرة عليهم ،واالنتصار
والظفر عليهم ،إنه كان قارئا لروايات دوستويفسكي ،وغابرييل غارسيا
ماركيز ،وهرمان بروخ ،وسرفانتس وغيرهم ،فلما اطلع على ما كتب في
95
جعفر لعزيز اإلله الجديد
عصره ،وجده أدبا رديئا ال قيمة له ،كلما قرأته أحسست بملل وبأنك تأكل
أكلة سريعة لن تشبعك.
فظلت ندى تراقب كالمي بتأمل صادق ،وبعد انتهائي من كالمي،
عبرت عن عشقها الولهان مليالن كونديرا ،وأدبه الهزلي والتأملي والتأويلي
السردي ،وطال كالمها حول ميالن ،وباألعمال التي قرأت له ،وباملواضيع
ّ
أي
التي يناقشها ،قالت :أتعرف يا نديم لوالك ملا عرفته؟ ونطق سعيدِ :
عليكما ،هذا إقصاء فظيع ،سامحكما هللا ،أنا سأذهب لالستمتاع ببعض
الكتب ،وأنتما ناقشا الغراميات بالكتب ،فهو أصدق حب يمكن أن
يعيشه اإلنسان ،وفي مكان صادق ،شعرت ببعض الخجل ،وابتسمت ندى
ابتسامة خفيفة ،وسارعت إلى الرد :ال تهذ يا صديقي ،ال تنس أنني ال
محمل يحملني ألركب أمواج الحب ،وال تدعني أسرد عليك غراميات إلهام
تجاهك ،وما سالت من دموع عنك ،وما تكتبه عنك في مذكراتها النصرية،
وألخصه لك في قول شاعرنا العربي:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ...تروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ول رضا ...فإين حالوة الرسائل والكتب
ضحك سعيد بهزل ،فقال ساخرا إلهام الخبيرة في علم البنات ،هي
إلي كلما ّ
شق عليها ش يء في الدراسة ،وبحكم أنها مجرد صديقة عادية ،تلجأ ّ
تريد معرفة األدب العربي القديم ،فال أفتح معها بابا آخر ،وسكتت ندى،
تنظر إلينا ،فأبهرت "سعيد" بقولها :إننا نحن البنات يا سعيد نبحث عن
ملجأ نلج فيه إلى شخص نجد فيه العالم الذي ينقصنا في دواخلنا ،وعاملنا
املفقود ،وإن الطالبة النفعية تسأل مرة واحدة ثم تذهب وتأتي لقضاء
غرض نفعي آخر ،وأما الطالبة البريئة ،مثل إلهام ،فهي ال تتردد إليك ثم
96
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تنقطع ،إنها تسعى إليك كل يوم ،لتعانق روحك النقية ،وألن الصديق
هزلي ،فقد قال :هللا هللا على ندى القمرية املحللة االجتماعية ،والخبيرة في
شؤون العشاق وأخبارهم ،دعينا من هذه األقاويل ،فهي أباطيل ال حقيقة
تحكمها ،أعتبرها سروجية فقط.
فتركنا وذهب ضاحكا ،وانقطع الكالم بيني وبين ندى مدة قليلة،
كنت أراقب مشية الصديق إلى أن اختفى بين أناس معرض الكتاب ،وبعد
اختفائه شعرت بش يء ساخن يصعد في داخلي ،فينتج عرقا واضطرابا ،ثم
بأبأة في الكالم ،ملا رأيت الصمت يعلو بيننا ،تذكرت موضوع حديثنا عن
رداءة األدب ،واستحضار قولة ميالن ،فسألتها عن الكتب التي قرأتها له،
وملا رأت بأن نقاش الكتب ماتع ،أمرتني بأن نجلس في مكان ما ،لقد تعبنا
ُ
واعتذرت منها ،بضرورة ترك رسالة هاتفية لسعيد إلخباره من الوقوف،
بمكان جلوسنا حتى يلتحق بنا حينما ينتهي .جلسنا في الحديقة املجاورة
ُ
للمعرض ،التي يعمها جو ثقافي يتناسب مع مناسبة املعرض ،ق ّراء يقرأون
كتبهم ،وتجمعات مصغرة مع أدباء جاءوا إلى املعرض ،وترى بعض الناس
وجوههم مبتسمة بحمل الكتب ،لعدم درايتهم بجودة الكتابات ورداءتها،
والبعض اآلخر كأنه ألقي في نار حميئة ،بسبب الخطر الذي ألحق الكتابة،
ُ
إن الكتاب أيها القارئ ،يكتبون وكأنهم نيام ،وهم ال يعلمون أن سكرات
املوت الكتابي أشد قسوة وأملا من سكرات موتهم البيولوجي ،إنهم كتاب
يعلنون استسالمهم أمام القارئ منذ بداية الصفحة األولى ،وهناك أدباء
مشهورون ملا تعرضوا إلى املوت الكتابي ،لجأوا إلى التسويق اإلعالمي،
للعودة إلى الواجهة.
97
جعفر لعزيز اإلله الجديد
كنا نقرأ كتبا عديدة دون أن نعي مسكوتاتها ،ودون أن ندرك معانيها
كليا ،لم نستطع أن نحدد معنى واحدا لها ،دائما ما تبقى مفتوحة على
أبواب من التآويل الالنهائية ،ونحن اآلن محرومون من نعمة الفهم ،لرداءة
أدبنا املعاصر ،ومقيدون بقداسة ما يصنعه اإلعالم عن كاتب ما ،جاهلون
ملعنى القراءة ،فأن نقرأ معناه أن نحيا وأن نعيش ،وأننا نمارس مهنة أو
حرفة ،ويقتض ي تعلم الحرفة وجود أدب حقيق بها ،وخليق بالتعايش معه
ومالزمته ،القراءة فعل وجودي يمنحنا حرية االقتراب أكثر من املقروء،
يفكك خيوط العجز ،ويرفعنا لنتعالى عن الكاتب ونسلب منه نصه،
وإعادة تأويله ،إن القبسة القرائية تالزم األعمال الخالدة ،وتظل معها
لتض يء للقارئ جوانبها املعتمة.
جلست مع ندى تحدثني عن ما قرأته مليالن ،وكأن ميالن كونديرا
وجد ليكون سببا في لقائنا ،وليجمع بيننا ،لنلج مقبرة الكتب ،ونغوص في
عواملها ،أحقا قد تكون ندى هي الروح التي ستنقلني من تشاؤمية العالم،
إلى الزاوية الضيقة املضيئة في هذه الحياة؟ كان لقائي معها عاديا ،ثم كتب
القدر أن تتكاثر اللقاءات بعد كل حصة ،وأن تجذبني بقبسة فكرها ،ونور
تجليها القرائي ،سيكون خلودها في قلبي ،بفعل مالمستنا قبسا قرائيا
مشتركا ،وألن اليوم يوم عطلة ،وال شغل لدينا ،وال عرض كلفنا به ،فقد
طال نقاشنا ،وبدأت تعرض ّ
علي ما استفدته مما قرأته.
بدأت برواية "الجهل" :قالت :الجهل في رواية الجهل ليس املقصود
به املعنى املناقض للعلم ،بل هو درجة مرتبطة بالحنين ،وبينت أن الجهل
عمل تأملي فلسفي ،يتأمل فيه ميالن موضوعات متعددة ،أولها أن الحنين
ألم مرتبط بالجهل أو الش يء املجهول ،ألن البعد عن الش يء واشتياقنا له
98
جعفر لعزيز اإلله الجديد
يكون لجهلنا إياه ،وبنوع من الطرافة ،قالت :سأعيش جهال حنينيا حينما
تفرقنا األقدار بعد نهاية املاستر ومناقشة البحوث ،لم أعرف كيف أرد،
كم أنا جبان؟ أقرأ الجاحظ ،ولم أستفد منه طرقا للفهم واإلفهام
واالستمالة ،كان ردي باردا ومطعما بابتسامة هادئة ،بأننا سنجتمع في
لقاءات أخرى ،أو قد أصادفها يوما ما في محاضرة عن األدب النسوي،
وأخبرتها بمواصلة الحديث عن رواية الجهل ،وبنظرة ساحرة ،قالت :أما
املوضوع الثاني ،فمتعلق بالذاكرة التي تختفي بفعل الغياب والفراغ،
فكلما اشتد الحنين يا نديم ،تفرغ ذكرياتنا ،فالحنين ال يبعث الذكريات وال
يحرك الذاكرة ،إنما يمتص عاطفتنا ليشعرنا باأللم ،ويغرقنا في النسيان،
ويجعلنا الغياب أيضا نتذكر أحداثا قليلة ،وننس ى جزءا آخر دون معرفة
السبب ،والشق الثالث الذي تناولته الرواية متعلق باملرأة ،وألني قرأت
الرواية ،وأشعر بنوع من الحرج في إيرادها للمضمون الثالث ،فقد تمنعت
عن ذلك ،الرتباط املوضوع ،بتأمالت في جسد املرأة اإليقاعي واملوسيقي
املتناسق ،وعالقتها الحميمة مع الرجل ،واستدركت ندى القول ،وأظهرت
أنه تحدث أيضا عن الهجرة واللغة واملنفى والحب واملوسيقى،
واستحضاره أيضا لوقائع تاريخية زمان الشيوعية ،وذكره ألسطورة
عوليس ،عموما فالرواية ماتعة ممزوجة بسحر األدب وتأمالت الفلسفة.
وأخبرتني أنها قرأت رواية البطء ،التي يعقد فيها كونديرا مقارنة بين
عصرين ،واحد متسم بالبطء ،املترابط مع الذاكرة والتذكر ،وآخر متسم
بالسرعة والوشيج مع النسيان ،وقالت ندى ،بأن رواية البطء تقربنا من
طبيعة العالقات الحميمة في عصرنا الحاضر ،التي أصبحت بمثابة فيلم
مستعرض ،ال لذة فيه وال متعة ،ويسعى ميالن إلعادة النبض لهذه
العالقات الجافة واملتسارعة ،ويقربنا أيضا من اإلعالم الخبيث ،والشهرة
99
جعفر لعزيز اإلله الجديد
التي أمست تشبه مكاتب التأمين االجتماعي ،أليس كذلك يا نديم؟ حدثتها،
بلى أختي ندى :فرواية البطء ،عمل يسعى إلعادة تبديد الحاضر وتخليصه
من السرعة والعجلة ،وجعله يسير على سكة البطء لالقتراب من املتعة في
الحياة.
قالت أيضا :قرأت رواية الستارة ،التي يكشف فيها حقيقة العالم
والوجود واألدب ،بطريقة سردية شبيهة بطريقة لويس خورخي بورخيس
وعبد الفتاح كيليطو ،ولم يترك الستارة ممزقة ،بل أعاد خياطتها من
جديد ،متجوال بنا في أعمال روائية خالدة ،بتأويالته العجيبة ،كاشفا
حقيقة فن الرواية ،ودورها في إدراك الوجود ،وفهم الحياة ،التي اعتبرها
هزيمة محتومة يعيشها اإلنسان ،وهذه الرواية تتناسب مع موضوع
الرداءة املنتشرة في األدب اليوم ،الذي وقف على عتبة املوت .عطفت
كالمها ،بالتساؤل حول إجادتها ،في تبليغ مضمون الستارة ،وهي ال تعلم
أنها مزقت ستارة قلبي ،وأعادت خياطتها من جديد ،سكتت مصدوما،
وتساءلت مرة أخرى ألم يعجبك املضمون؟ قلت :بلى فقد كنت جيدة في
تبليغ مضامين هذه األعمال ،التي يظهر أنك تأثرت بها تأثرا شديدا.
لقد أحسست بالريبة والشك ،لقد تمازجت ندى مع أفكاري ،تعرف
أنني أعشق الكاتبين ،تساءلت حول سر معرفتها لهما؟ وأجابت بأن جميع
الكتاب الذين سقتهم في أحاديثي معها ،اطلعت على بعض أعمالهم،
وخبرتها ،أن الطالبات اللواتي جمعتني معهن اللقاءات ،كان همهن النقاشّ
في أنا أريد أن أعمل وأن أحصل على وظيفة قارة ،وأن أبحث عن محصد
مالي ،بعدها أفكر في الزواج ،عقلهن مليء باملال والزواج والحب اآللي،
الذي يتالش ى سريعا ،إنهن طالبات ال صلة لهن بالكتب ،يعقدن لقاءات
100
جعفر لعزيز اإلله الجديد
101
جعفر لعزيز اإلله الجديد
102
جعفر لعزيز اإلله الجديد
مرتعكما ،ربما ستكونان أنيسين مؤنسين ،أما أنا فقد تركني وسيتركني
نديم وحيدا ،وتكلمت ندى ،قائلة ،يكفيك يا سعيد هزال ،فنديم ال يفهم
في الحب وما شابه ،وال يريد طرق هذا الباب أصال ،أما أنت ،فقد شغفت
بك إلهام كثيرا ،وأظن أنها تعلمت منك الكثير ،وابتليت بالنفحات التراثية
التي تعلمها لها ،فقد وجدتها مرة في خزانة الحي مع طوق الحمامة البن
حزم ،أرى أنها تحضر طبقا شعريا تمهد فيه لالعتراف بحبها لك ،وإن
عينيها ال تفارقان النظر إليك داخل الفصل.
فضحك سعيد مقهقها ،وربت على كتفي ،متسائال :ماذا تقول ندى يا
نديم؟ قل لها :إننا لسنا نليق بالحب ،فالحب ال يوفر الخبز في هذا الجيل،
أخبرها يا نديم عن الذي تقول له :اإلله الجديد ،إنه املال ،يوفر لك كل
ش يء ،نريد مالنا فالحياة معطلة إذا استمرت عطالتنا.
كنت كاملستمع بين ردود ندى وسعيد ،استمرا في الحديث عن
السعادة والشقاء ،وملا رأيت نقاشهما قد يطول تركتهما ألنظر في بعض
الكتب املستعملة ،فقد أجد غنيمة رخيصة الثمن ،أفضل من كتاب
جديد باهض الثمن ،ولو كان مالنا قليل ،فحينما يتعلق األمر بالكتب،
فنصرفه كامال دون ندم وحسرة ،فاشتريت ثالثة كتب ألجاثا ،بعشرة
دراهم لكتاب واحد ،وبعدها عدت إلى مكان ندى وسعيد ،ظال في مكانهما،
يتناقشان في موضوع ندوة األربعاء ،وملا جئت ،رأتني ندى أتأبط كتبا،
فقالت :وسعداه بزوجتك ،ستنال حظا وفيرا من كتبك ،ستكون بطلة
رواياتك وبطلة حياتك ،فلتفخر التي ستكون من نصيبها ،دعني أرى ما
اشتريت ،وبنوع من الذهول واالستغراب ،قالت :أشتريت مؤنستي أجاثا؟
لغز الصورة ،والتضحية الكبرى ،وذكريات ،فقد قرأت هذه الروايات يا
103
جعفر لعزيز اإلله الجديد
104
جعفر لعزيز اإلله الجديد
105
جعفر لعزيز اإلله الجديد
نام مباشرة ،ترامى على فراشه ،ولم يمض إال وقت يسير حتى غرق
في النوم ،وأطفأت املصباح ،ولجأت إلى النوم ،وأنا بدأت أفكر في ندى،
وبعض مالمحها ،ونبراتها الصوتية أثناء نقاشنا ،وتخيلت صورة وجهها
أمامي ،ما زال وجها طفوليا مشرقا ،أتخيل نظراتها ،سهوت ألجعلها على
مقربة مني ،أيصح أن تكون ندى مغرمة بي؟ رميت نفس ي أتأمل الغرفة،
وألقي الجسد عن يمنيني وعن شمالي ،مبتسمة مرة ،ومتجهمة مرة أخرى،
متأففا أبحث عن سبيل أسوق فيه نفس ي إلى النوم ،نمت قليال فحسب ثم
استيقظت ،بقيت على تلك الحال ،متذبذبا ومنهمكا ،بين حالة سعيد
القلقة ،وإحساس ي تجاه ندى الغريب والجديد ،سهوت راحال إلى عالم
ُ
وتوقفت عن أتأمل فيه ما أنا عليه ،سهرت السمر كله إلى أن ّ
حل الصباح،
التفكير املباح.
106
جعفر لعزيز اإلله الجديد
12
شوق ولوعة
كان اليوم يوم األحد ،يوم عطلة ،سأمضيه في القراءة وحدي،
سأحاول تتمة الصفحات املتبقية من ديوان املعري ،ألفتح ديوان الحالج،
بعد مداومة متأنية للمعري تحققت لي فيها أسرار الحياة وعجائبها ،سعيد
لن يكون معي اليوم ،سيلتقي بإلهام ،ليراجع معها بعض الدروس،
سيلتقيان باملقهى مع الساعة العاشرة صباحا ،والساعة اآلن التاسعة،
وسعيد غارق في نومه ،ترامى ونس ي اللقاء املعرفي أو باألحرى الحميمي ،مع
طالبة تمتلك حقها من الجمال والجاللّ ،نزاعة إلى الصمت داخل الفصل،
تكون مع آمنة املحجبة في أوقات االستراحة ،مزاحة ولطيفة ،وعلى ما قال
لي سعيد ،إنها طالبة مجدة ،تبهره كل يوم بملخصات عن كتب تراثية
يعشقها ،وهي من نواحي مدينة فرح ،حصلت على اإلجازة في جامعة ابن
اللبانة ،جاءت للنصر لتكمل مسارها العلمي ،وتبحث عن إنسان ينسيها
صخب النصر وضجره ،ربما وجدت في سعيد ذلك الشخص الذي يحدثها
في عاملها الداخلي ،ويمأل فراغ شوقها ،ويسد بعض حنين أهلها ،وقبل
استيقاظ الصديق من أجل الفطور ،أخذت القرآن الكريم ،ألقرأ فيه
قليال ،وأتأمل فيه بعض اآليات التي جاءت في سياق حديث الحق سبحانه
عن اإلنسان ،قبل أخذ الديوان ،وقفت عند قوله تعالى في سورة إبراهيم:
﴿إ َن اإلنسان لظ ُل ٌ
وم ك َف ٌار ﴾ ،بدا أمر اآلية متناسبا مع مقترحات اإلله ِ ِ
الجديد وتراتيله التي زرعها اإلنسان في عقله ،اإلنسان ظلوم أشد الظلم،
ولم يترك شيئا إال وظلمه ،يحبب إلى اآلخر الحياة .اإلنسان َ
كفار أزهد في
107
جعفر لعزيز اإلله الجديد
كفره ،فكفر باإلنسانية وبالضمير ،ولم يعد قادرا على الوقوف أمام هللا،
وقد أدركنا يقينا أن الدنيا مزحة سيئة ،ال تبعث على ش يء من املرح
والفرح ،مجرد دار خربة ،أجسادنا مليئة بالجروح والقروح خوفا من كارثة
يواجهها العالم ،الذي ينكر القدرة اإللهية ويبددها ،وال يعلن على حقيقة
هذه القدرة إال حينما يتعرض إلى األنقاض ،أو حينما يكون مقبال على
فاجعة إنسانية دامية ،وهذا منزع أشار إليه دانتي في الكوميديا اإللهية،
بأن اإلنسان ال يعلن القدرة اإللهية إال حينما يقف على أعتاب كارثة
أليمة.
ور" ٦٦ ُ َ
ووقفت عند قوله تعالى في اآليات اآلتية"﴿ :إن اإلنسان لكف ٌ
ِ ِ
ان أكثر ش يء جدال ٥٤الكهف﴾ و﴿"ك َال إنَ الحج﴾ و﴿"وكان اإلنس ُ
ِ ِ
ود" 6العاديات﴾ و﴿إنَاإلنسان ليطغى" 6العلق﴾ و﴿إ َن اإلنسان لرّبه لك ُن ٌ
ِ ِ ِِ ِ ِ ِ
ُ
اإلنسان ل ِفي خسر 2العصر﴾ ،فاإلنسان تبعا لهذه اآليات املختارة، ِ
وغيرها من اآليات ،جعل الحياة مزحة سيئة يهلع بها كل من جاء إليها ،إن
الكفر والطغيان والجدل والكنود ،مواصفات ستلقي بنا في الضاللة ،وفي
العقاب وفي املأساة وفي الخراب والفساد ،ولم يكن سؤال املالئكة هللا
سبحانه سؤاال بريئا ،بعد ابتغائه جعل اإلنسان خليفة في األرض ،وعلم
املالئكة بفساد هذا اإلنسان الخليفة وطغيانه وسفكه للدماء ،وما حدث
ويحدث وسيحدث أمر يبين أن تاريخ اإلنسانية تاريخ دموي.
الكثير من الناس لم تعد لهم القدرة على الصبر .املشردون
والعابثون واملقمعون واليائسون والعابثون واملجهولون يطلبون مفرا
للخالص من مآسيهم وآالمهم ،قد يرضون بجهنم على عدم العيش في هذه
الدنيا ،يريدون مفرا ومخلصا هانئا ،ومطلبا من رحمة والهناءة والسالم،
108
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تجاوزا للمرارة التي تتكرر كل يوم ،مشربنا في الحياة كان مرا وعسيرا ،فقط
ننتظر جودو الذي سيأتي ،ليخصلنا وينجينا ،وفي الحقيقة يبدو أن جودو
الخاص بي ،موجود في ندى ،ش يء ما مخبوء في داخلي تجاهها ،بالغت
إنكارا لحياتي السيئة ،أتجرع كل يوم صدمة ،وأالقي كل يوم أسفا ،فجاءت
ندى لتكون املنقذة من وحدتي الطائلة واملمتدة ،ستقودني إلى األعالي،
قل معها حديثي ،أماكنت صرفت عنها النظر داخل الفصل وفي الساحة ،و ّ
اآلن ،فقد تغير كل ش يء تماما .لم أكن أنتبه حقا لنظراتها ،لكن بعد لقائنا
في املعرض ،بدت لي أن صورتها ليست غريبة عني ،ربما هي الفتاة التي أحلم
بها ،أو رأيتها في حلمي ،أو صادفتها في رواية ما ،ليست غريبة عني ،ال أتذكر
بالضبط أين رأيتها ،وأين التقيت بها؟ ،حاولت أن أتذكر ،لكن التذكر
مصاحب للنسيان ،إنها الفتاة التي راودتني في أحالمي ،وما زالت تراودني،
سحرها سيطر على العين فأعماها عن كل ش يء ،إال هي ،مخيلتي مشغولة
للبحث عن مكان لقائي معها في ذاكرة املاض ي امليت.
إنها قبسة أضاءت عتمة قلب ظل طول سنواته فارغا من مشقة
الهوى ،ولم يتجرأ على خوض تجربة عشق مع شخص ما ،كأنني أحلم،
ولكن طبعا وجدت لوعة أشواقي ،النور الساري في ضلوعي ،وجمال
يستوطن في جنباتها ،ليقيدني لكي ال أبتعد عنها ،ألقتني صريعا ملقيا على
وجهي ،هل سأكون واحدا من العاشقين الذين ذكرهم صاحب مصارع
العشاق؟ التي لم أكن أعلم بأن أسواقهم مليئة بالنور ،إال أنه نور يشق
على العاشقين ،ويذهب عقلهم ،ويستهويهم ويرخيهم.
يلقي هللا العشق في القلب دون استئذان ،يالقي األرواح رغم بعد
املسافات ،هو القادر على صنعنا وتصويرنا وخلقنا ،يخلقنا في الدنيا
109
جعفر لعزيز اإلله الجديد
مرتين ،حينما نخرج من بطن أمهاتنا ،وحينما يالقينا بروح أخرى نتالش ى
فيها وتتالش ى فينا ،لنصبح ذاتا واحدة ،مزجت فيها ذاتان ،في الحب ُتخترق
كل سنن الكون ،ال أدري حقا هل ما أنا فيه حقيقة أم مجرد حلم؟ فندى
ذات قامة مالئكية صافية الوجه ،نقية السريرة ،زاهية النظرات ،سامراء
الوجه ،تخطفك من أول نظرة إليها ،أنا لم تخطفني من أولها ،ولكن اآلن
خطفتني بكلي ،معذبتي األنيسة ،مؤنستي الجميلة ،متى سيجمعنا اللقاء؟
متى نلتقي معا؟
اللقاء وحده يحمل أفقا ربانيا ،فيه تالمسك نعائم الرب ،وتداعبك
نسمات سمائه .بشائر اللقاء يقودها ش يء واحد ،هو الشوق ،شوقي
بمثابة أمواج تناجي هللا لترسوا في سالم ،لتهدأ ولتجعل البحر هادئا ،لم
نكن ندري أن موج البحر يناشد العشاق ويالطفهم ،وينشدهم أغاني
ملحونة بقطراته األخيرة ،أيها البحر دلني على طريقك املجهول ،ألبوح لك
بمالمحها ،لعل صداي ينتقل إليها ،ويهمسها كل ليلة بأني أرغب في وصلها،
وربما نتجول في الشاطئ الذي يجتمع فيه العاشقون ،الذين يحاكون فيما
بينهم أسرارهم ،ويتبادلون عناقتهم ،ويمازجونها بالقبالت ،هل يا ترى تحس
بما أحس؟ هل حقا قد القى هللا بين روحينا؟ قلوب العشاق ال تعرف معنى
للحقد والكراهية ،إن قلوبنا تعيش باإلحساس ،ووحدها تملك موجات
خفية ،ال كاشف لها إال هللا.
ندى هي الفتاة التي حلمت بها ،أو التي التقيت بها في املستقبل ،نعم،
تفكيري حول هذا العالم التعيس أن أعيش وحيدا ،كنت أدافع عن هذا
أمام زمالئي ،وأشتد فيه مع سعيد ،إني خلقت أللج إلى عاملي فقط ،ولكن
أحاسيس القلب ال تؤمن بالقناعات واملبادئ ،وأوجاع الصبابة تغير كل
110
جعفر لعزيز اإلله الجديد
111
جعفر لعزيز اإلله الجديد
وظني في محله ،إذ يرى أن العالم يحتاج إلى الحب ،وأعلم عزيزي القارئ أن
روسو وضعه من حاجات اإلنسان الضرورية ،الحب رغبتنا األولى لنحقق
السالم ،لنواجه عبثية اإلله الجديد ،فقد أفسد تاريخ البشرية وأعماها،
وبدا أمر حاجتنا إلى الحب ،كون أن هللا أحب أن يعرف نفسه ،فخلق
اإلنسان ُليعرف ،واملبدأ الحاكم لخلق اإلنسان هو الحب ،ومطالبنا
السامية تتحقق بالحصول على الحب وتحققه.
بينما أنا مستمر في القراءة التأملية لآليات التي استعرضها ،وربطها
بواقعنا اليائس ،رن هاتف سعيد ،ربما إنها إلهام ،وهو غارق في النوم،
والساعة تشير إلى العاشرة ،ونس ي موعده مع إلهام ،أظن أن شيئا آخر غير
مراجعة الدروس جعل سعيد ينام كل هذه املدة ،املعهود عليه االستيقاظ
سر أو مكيدة ،لم يستطع أن يخبرني بها ،حاولت إيقاظه، باكرا ،في املسألة ّ
إلخباره برنين هاتفه ،استفاق متثاقال ،ونظر إلى هاتفه ،وقال لي :صباح
الخير نديم ،لقد تأخرت ،تركت إلهام تنتظر في املقهى ،سألته عن سبب
شروده؟ أجاب بأنه تعب آخر األسبوع فقط ،وال ش يء يجعلك لتقلق يا
علي شيئا ما ،وسأدعه يذهبنديم ،لم أصدقه في قوله ،وقلـت :إنه يكتم ّ
فالعشيقة تنتظره ،وسأتأكد من عدم وجود خطب يزعجه ويقلقه بعد
عودته ،قام وصلى وأكل بعض التمر الذي أحضرته من زاكورة ،فخرج ،وال
علم لي بالساعة التي سيعود فيها.
ُ
عدت إلى نفس ي أتحاور معها ،أ ِع ُّد عدد املأساة التي تحوم حولي،
طبعا ،إن املصائب ال تأتي فرادى ،سعيد لديه خطب ما ،هذيان حب ال
أعرف حقيقة شعوره ،أسرتي التي تنتظرني ألشتغل ،لنحسن ظروفنا
قليال ،بعد حدث تفرقتنا مع العائلة ،التي كنا نعيش فيها حياة شبه
112
جعفر لعزيز اإلله الجديد
113
جعفر لعزيز اإلله الجديد
114
جعفر لعزيز اإلله الجديد
على عقول الناس ،التي منحها هللا الحرية للتفكر والتأمل والتدبر ،إن
املقتولين بسبب كتبهم شكلوا عائقا أمام عجز الرقابة املسؤولة للرد عليهم
باألدلة املنطقية ،وإن الكتب املحروقة واملمنوعة ما زالت تنير عقولنا،
وتخنقنا بدخانها الالمتناهي ،ألننا نظل مشمرين للتفكر فيها ،والبحث عن
أسباب منعها ،دون النظر إلى األسباب التي توردها الرقابة.
يسمحون للرداءة أن تنتقل إلى عقولنا بكتب تتناول موضوعات
اجتماعية ،يمكن مشاهدتها في فيلم سينمائي ،بدت املسائل واضحة
عندنا اآلن ،وأدركنا أن ما يمنع وما يحرق ،يكون في نظر السلطة قد ارتكب
خطيئة عظيمة ،ويحسب أهل الرقابة أن املحروقين واملعذبين ارتكبوا
خطيئة تنويرية يخشون منها منح الشرعية العقلية إلى عامة الناس،
ويظلون مراقبين لهم ،لكي ال يقوموا بمحاولة استهدافية أخرى.
هكذا كانت نظرتي ،ملا قرأت سيرة الحالج ،قبل الدخول إلى متاهات
شعره املفتوح على آفاق تأويلية متعددة ،فجأة نظرت إلى الساعة،
فوجدتها الثالثة زواال ،وسعيد لم يعد بعد ،والجوع بدأ ينخر بطني قليال،
وفكرت في أن أخرج ملطعم شعبي آكل فيه عدسا ،وال بديل من غير مطعم
عمي إبراهيم ،خرجت وأكلت وأحسست براحة وسكينة ،وعدت إلى البيت،
واسترخيت بعض الش يء ،ألخذ طاقة أكمل بها الليل قراءة ،ولم تمض إال
ربع ساعة على االسترخاء ،حتى سمعت رنين هاتفي ،لم أعرف صاحب
الرقم ،وترددت في اإلجابة ،وتفاجأت ألنني ألفت فقط اتصال أبي أو أمي،
هذان هما الرقمان األكثر سجال عندي.
تركت الهاتف يرن إلى أن انقطع االتصال ،ولم أجب ،وسمعت الرنة
مرة أخرى ،وأجبت ،ووجدت أن إلهام هي املتصلة ،وشعرت ببعض الذعر
115
جعفر لعزيز اإلله الجديد
والخوف ،ربما حصل مكروه أو ما شابه لسعيد ،كانت الصديقة سريعة في
كالمها ،لدرجة أنني لم أسمع منها شيئا ،هدأتها وطلبت منها إعادة ما قالته،
فأخبرتني أن الصديق سعيد كان جالسا معها باملقهى ،يراجع معها ،وفجأة
صرخ وتعالى صوته بالبكاء ،وغادر دون أن يقول شيئا ،واتصلت بك
ألخبرك هل هو في البيت؟ أم أنه لم يصل بعد ،لقد قلقت عليه كثيرا،
أتصل به وال يجيب .بعد سماع ما قالته إلهام ،شعرت بصاعقة في داخلي،
وكأن شيئا حارقا يصعد ثم ينزل ،أخبرتها أنه لم يتصل ،ولم يأت إلى البيت،
وطلبت منها االنتظار في مكانها ،لنبحث عنه ،وأنا خارج فعقلي كله مع
سعيد.
قلت :أه فقد يفعل شيئا خطيرا بحاله ،ترامت ّ
علي أفكار سيئة،
أرجو أن يكون بخير ،وربطت االتصال به ملا وصلت إلى مكان إلهام ،وال
يجيب ،كانت الصديقة مصدومة ومبهوتة ،ترتجف خوفا من أن تكون
سببا في حصول مكروه ما ،حالتها يائسة ،تبكي من شدة الحسرة ،حاولت
تهدئتها ولم أفلح ،أي إنسان أنا ،ال يقدر حتى على تبريد مشاعر الخوف
والحزن ،تشجعت شيئا ما وأغلقت عيني ،وضممتها إلى صدري ،ربتت على
صدرها ،وهدأتها ،وأخبرتها بأننا سنجده وسيكون بخير.
استمرت في البكاء ،وقالت :أرجوك يا نديم افعل شيئا ،إنني أحبه
أكثر من نفس ي ،إني مليئة به ولن أستطيع الصبر إذا حصل له مكروه ما،
إني متيمة به وأعشقه عشقا جنونيا ،هللا أعلم بحالي ،وبعشقي له ،أريده
كما هو ،قلت :سنجده صديقتي ،امسحي دموعك ،فالناس ينظرون إلينا،
فقد يظنون أنني السبب في بكائك ،توقفت عن البكاء ،وذهبنا لنبحث عن
الصديق في األماكن العامة بدروب الرحاب.
116
جعفر لعزيز اإلله الجديد
117
جعفر لعزيز اإلله الجديد
مسكن أقدر على حصر فساد أخالقهم من غير القبر ،وقال آخر في
سخرية هزلة :يتالعبان فيما بينهما ويضحكان ويمرحان وحينما يقعان في
مصيبة يظالن متحسرين ،إنه جيل حيونة اإلنسان ،جيل من الضباع،
هذه ظنون الناس ،وإن بعض الظن إثم ،لم يأت أحد ليعرف سبب بكائها
وصراخها ،يعرفون الحكم من بعيد ،الثرثرة هي رأس مال هؤالء البشر ،لم
أكترث ملا يقولون ،وساعدت إلهام على الوقوف ،ذهبنا إلى الحديقة
لالستراحة ،ولتأخذ نفسا جديدا ،تعود به إلى مقر سكنها بالحي ،تساءلت
إلهام ما إذا كنا نملك مكان معهودا نذهب إليه معا؟ أخبرتها بأننا عهدنا
الذهاب إلى املكتبة فقط ،وأما يوم السبت واألحد فنقضيه في البيت
فحسب ،لم تكن قادرة على تمالك نفسها ،فعانقتني قائلة لقد ذهب
سعيد يا نديم.
بادلتها العناق ونفس ي ترتجف من شدة الخوف ،لربما إني لم أذق
طعم العناق مرة ،وخاصة حينما يكون من فتاة ،وتكون اللحظة مليئة
بمشاعر الحزن ،إننا حقا محتاجون لعناقات تتالمس فيها قلوبنا وتتحاور
مع بعضها البعض ،إن العناق هو البديل األسمى لبعث األمل في النفوس،
واألمل هو آخر ما يموت في اإلنسان ،آمالنا محفوظة مع كل عناق نبادله
بيننا وبين اآلخرين.
تأخر الوقت ولم نعرف ولو معلومة عن الصديق ،وإلهام تموت أملا،
طلبت منها أن تعود إلى الحي ،أنا سأكمل البحث عن صديقي ،أخذت
سيارة أجرة وذهبت ،استلقت على كرس ي السيارة متثاقلة ومهمومة،
حمرته شمس الزوال في زاكورة ،ظاهرها فيه مالمح وجهها شبيهة بمن َ
العذاب وباطنها هللا أعلم به ،أكيد أنه يشتد تأملا ،وأما أنا فظاهري فيه
118
جعفر لعزيز اإلله الجديد
البشاشة وباطني فيه العذاب ،تساءلت قائال أين سيكون سعيد؟ ذهبت
إلى البيت ربما أجده مستلقيا وفرحا ونشيطا ،وهناك أتحدث معه،
ونتحاور معا عن مشاكله ،وسبب حرقته ،كنت أصال أعلم منذ ليلة
البارحة أن لديه خطبا معينا ،وال يريد أن يخبرني به ،أو ال يريد أن يزيد من
تعاستي ،فهو يحاول دائما أن يمنحني أمال في هذه الحياة التعيسة ،وأن
ينقذني من تشاؤميتي ،وأملي عاد من جديد ،ملا أحسست ببعض خيوط
التجاذب مع عاشقة أجاثا كريستي ،حتى لقاؤها معي شبيه باملطاردات
البوليسية الشبيهة بما يدور في رواياتها ،أجلس وحيدا ،وأجدها واقفة
أمامي كاملعتوهة.
عدت محطما إلى البيت ،أحمل معي الخيبة املؤملة ،وأجر معي بعض
خيوط األمل والتفاؤل .ما بال الطيبين وذوي الفضيلة يتذوقون مرارة
العيش ،ويساقون إلى مهالك األمور في هذه الحياة ،ويشربون من كأس
الضياع ،نحن مرغمون للبحث عن مصيرنا املأسوي ،ولسنا مرغمين
للبحث عن أنفسنا واكتشاف عاملنا املفقود ،حتى الحب بالنسبة إلينا
مصير مأسوي ،ال ضمانة لنا فيه ملعانقة حياة سعيدة ،وما بدا لي في إلهام
من أحاسيس مظهر لهذا ،التي أجرمت على قتل نفسها بهذا التعلق
الشديد ،والذي قد يكون حيلة من حيل كيد الطالبات ،أو عالم الطالبات
املغبون ،فإنهن يظهرن كل ش يء حقيقيا ،يهتمن بك ويبادلنك أطراف
الحديث حتى فيما يشبع غريزتك ،وهذا له مقابل ،فإلهام استفادت من
سعيد ما لم تستفده من دراستها في املاستر ،وبه فرغم إظهارها الصدق في
مشاعرها ،إال أنني أدركت أن عالم الطالبات مغبون لن تفهم فيه شيئا،
ومتلون مليء باألكاذيب واألساطير ،وقد يظهر صدق إلهام بعد نهاية سنتي
املاستر.
119
جعفر لعزيز اإلله الجديد
120
جعفر لعزيز اإلله الجديد
121
جعفر لعزيز اإلله الجديد
قليال ونام ساعة من الوقت حتى اآلن ،وال تقلق ستتحسن حالته حينما
يستيقظ.
قادتني جلسة انتظار استيقاظ سعيد إلى إطالة الحديث مع عمي
الشيخ ،والتقرب منه أكثر ،والتحاور معه في مساوئ الدنيا ،وكيف قادها
املال إلى فسادها ،وعرفت معه ما لم أعرفه من مشاهير الفقهاء الذين تم
تغطيتهم وتسويقهم إعالميا ،يبدون كلمة واحدة على الشاشة فتلقى
اهتمام الناس واستأثرهم ،وهي في جوهرها ال قيمة لها ،شيخنا إذا نطق
بكلمة حركت فيك مشاعر ماضيك وأنبهتك عن مطالب مستقبلك،
وأخرجتك من أسجانك وأشجانك .كان منزل عمي الشيخ هادئا ،تملؤه
السكينة ،وتسكنه الطمأنينة ،شعرت بسكينة شبيهة بإحساس املتصوفة
في وحدتهم اإليمانية ،هم في عزلتهم أقرب إلى أنفسهم ،وبهذا يفهمون
الناس ،ويلبون مطالبهم.
فجأة ،تذكرت إلهام ،لم أخبرها أنني وجدت سعيد ،استأذنت شيخي
بالخروج لالتصال بها ،وقبل ذلك وجدت أنها اتصلت مرات عديدة ،ولم
ُ
اتصلت بها وأجابت أجب ،كنت قد وضعت الهاتف في وضع صامت،
بسرعة ،و أول ما قالته :قل لي إنك وجدت صديقك ،أرجوك أخبرني ،لم أر
طعما اليوم ،ولم أذق نوما ،أخبرتها أنني وجدته في منزل عمي الشيخ ،جاء
عنده ليشتكي إليه أمرا َ
حل به ليلة البارحة ،وهو نائم اآلن ولم يستيقظ
بعد ،وأرادت االستفسار حول وضعه ،وأجلت ذلك إلى الغد ،فقطعت
االتصال.
دخلت ووجدت الصديق مستيقظا ،أحسست برعشة االطمئنان،
لم أتمالك نفس ي حينما رأيته ،سارعت إلى معانقته ،ضممته إلى صدري،
122
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ولم ينبس ببنت شفة ،حركته ليتكلم ،وأخبرته بالقلق الذي عشته ملا
أخبرتني إلهام بهروبك من املقهى ،قلت له :بحثنا عنك في أماكن متعددة،
وال أثر لك ،كأن دروب الرحاب بلعتك ،وبعدها عدت إلى البيت غضبان
آسفا حينما لم أجدك ،ولكن ملا تذكرت عالقتك الطيبة مع عمي الشيخ،
جئت عنده ،فأخبرني بأنك نائم ،وجلست معه ،نتحدث ونتناقش،
والصديق ال يقدر على رفع صوته ،إنما هو كمن يتكلم في بئر .قال الشيخ
لسعيد :إن صديقك يحبك كثيرا ،ال تفرط فيه ،لقد قلق عليك ،لدرجة
أنه تتعتع في كالمه ملا فتحت له الباب ،ومالمح محياه مسودة ،من فرط ما
لقيه بسبب البحث عنك.
وضع شيخي يده على رأس ي ،قائال ال ّ
فرق هللا بينكما ،وأسأله أن يديم
محبتكما ،قلت للشيخ :لقد اتفقنا يا عم أن يكون البيت الذي يجمعنا بيتا
يضمنا في كل ش يء ،في أحزاننا وأفراحنا ،ولكن سعيد لم يفعل ذلك ،جاء
عندك دون أن يخبرني بش يء ما .طلب الصديق السماحة وأعتذر ،وكانت
نيته أنه ال يريد أن يشوش عقلي ،وأن يزيدني تشاؤما ،فربتت على كتفه،
وقلت له :أي تشاؤم وأي تشويش؟ لقد بتنا مستيقنين أن االحزان تسكننا
وال تسقطنا ،بل هي تزيدنا قوة لنتجاوزها إلى أحزان أخرى تليق بنا .قلت
لسعيد :لوال عمي الشيخ لقدر هللا كيف ستكون حالتك اآلن؟ ضحك
سعيد ،ونظر إلى الشيخ فشكره على جميله ،فقال الشيخ :ال تقل هذا يا
بني ،لم أقم بش يء ،قم اآلن ورافق صديقك ،وال تتركه مرة أخرى ،شارك
معه ما يضرك ،وال تخف عنه شيئا .شكرت الشيخ على أفضاله الكثيرة مع
صديقي ،وردد قائال :البيت بيتكما واللحاف لحافكما ،اذهبا بطريقتكما
الفضلى.
123
جعفر لعزيز اإلله الجديد
عدنا إلى البيت ،وسعيد ال تظهر عليه مالمح الراحة ،وآالمه لم تخمد
بعد ،كنت أستفسره عن سبب ما أصابه ،لكنه رفض الحديث عن
موضوع ما أصابه ،كانت حالته ال تبشر بالخير ،جسمه متعبُّ ،
أي مصاب
أصابه حتى يكون هكذا؟ تغيرت صورته جذريا ،لقد كان كثير الضحك
واملزح ،لم يعد كما كان ،لبس لباسا آخر ،ال أعرف هل يعود إلى صورته
املعهودة أم ال؟
استيقظت صباحا وسعيد لم يستفق بعد ،ولدينا حصة األدب
العاملي ،مع أستاذ يستلهمنا بكالمه ،ويستهوينا بأسلوبه الفريد ،وبمعارفه
الغزيرة ،وبطرق تعامله مع الطلبة ،والصديق النائم يتشوق إلى حصصه
دائما ،وما عساه في ذلك اليوم لم يحرك ساكنا ،قلت :ال أعرف ما به ،ال
يريد أن يتحدث ،حاولت إيقاظه ،استفاق متثاقال ،ورفض الذهاب إلى
الكلية ،لشعوره بالقلق وحالته سيئة جدا ،وصوته يتقطع بسبب شهقات
البكاء التي ما زال أثرها منذ ليلة البارحة ،ألححت عليه أن يقوم ،لكن
أصر على عدم الذهاب ،تركته في راحة ووداعة ،وذهبت وحيدا للكلية ،وملا
علي إلهام بشغف تسأل عن حال سعيد ،وملاذا دخلت إلى الفصل ،أقبلت َ
لم يأت معي؟ كذبت عليها بأن لديه شيئا مهما ،لذلك لم يحضر ،وكان
يظهر عليها أنها لم تصدق كالمي .دخلنا الفصل وهي غير مطمئنة ،ساكنة
ال تتحرك ،واضعة وجهها على يديها ،بقيت أنظر إليها دون فعل ش يء،
وبعدها تفاجأت مباشرة بنظرات ندى ،بدأت تتأمل مالمحي وتتصفحها،
وتتبين حالي ،لعلها تصل إلى تشاؤم أشد من التشاؤم املألوف في الفصل.
نطقت قائلة :اليأس كعادتك يا نديم ،هيا اجلس بجانبي فحصة
اليوم ستكون ماتعة ،همست قائالُّ ،
أي متعة وصديقي سعيد ال أقدر على
124
جعفر لعزيز اإلله الجديد
مساعدته ومعرفة مشكله؟ ،جلست بجانبها وبدأنا نتبادل الكالم فيما بيننا
عن محاسن أستاذنا ،الذي يعلمنا التفكير والنقد ويقول لنا دائما :اعلموا
أن الجامعة ال دور لها في جعلكم أدباء ومفكرين ،بل اجعلوا من أنفسكم
ذلك بممارسة القراءة والكتابة يوميا ،يقول :إن أفضل سالح يمكن أن
تواجهوا به واقعكم املأسوي هو التسلح بالكتابة .تماما جميع الطلبة في
وإن سعيدا من الولهين به ،يظل يقلده في لغته الفصل يشيدون باألستاذّ ،
وأسلوبه ،ويتتبع نصائحه وإرشاداته ،قالت ندى :إن موضوع اليوم هو فن
الرواية ،وقد قرأت عنه كتابا جميال لصديقك ميالن كونديرا ،ابتسمت
ابتسامة خفيفة؛ نوهت فيها بجودة الكتاب الذي قرأته.
إن كنت أتحدث معها في تلك اللحظات ،فعقلي كله مع الصديق،
انتهت الحصة في جو ظريف لطيف ،عمه نقاش ماتع ،أبرز فيه األستاذ
أهم املدافعين عن فن الرواية ،ومهد بالبدايات األولى لها ،وختم املحاضرة
بآراء كونديرا حولها ،بالتركيز أساسا على الكتاب الذي قرأته " ندى" ،التي
أصبحت خلوتها مع الكتب فقط ،تخلو مع الكتب حتى يناديها النوم
بالراحة ،وإذا رأيتها في ظاهرها تظن أنها مثل الطالبات املسامرات والليليات
في الحي ،فهي ذات لباس عصري ،وتظهر شعرها الطويل للعيان ،دون أن
تكترث آلراء الناس ومقاالتهم .بخالف صديقتها آمنة املحجبة املدعية لش يء
ظاهر ال يوجد في باطنها ،وإن كنت أس يء الظن فتصلني عنها أخبار كثيرة
يتم الهمس بها داخل الفصل ،من قبيل ما يسمى بالنكاح الفيسبوكي مع
أبي البنات ،مسعود املشهور ،ولكن سمعي ال يصغي ألحاديثهم ،فما لم تر
عيني لن أصدقه أبدا.
125
جعفر لعزيز اإلله الجديد
وملا أردنا الخروج سألنا األستاذ ،عن سعيد ،قائال :أين زميلكم
التراثي الفصيح ،تغيب عن حصة اليوم ،لم أجد له همسا اليوم وال أثرا،
يغني به نقاش اليوم ،أرجو أن يكون بخير ،أخبرته بأنه في موعد حاجة
ذهب ليقضيها.
ضحك األستاذ ضحكة أمل ،فقال :ال تفرط في ذلك الصديق ،إنه
باحث رصين ومجد ،ونطقت إلهام قائلة :إنه لطيف أيضا أستاذي ،ال يرد
لنا طلبا ،وال تشق عليه املساعدة ،ويظل دائما بوجه بشوش ،وبدأ الطلبة
ينظرون إليها وينصتون إلى كالمها ،وبعدها قال األستاذ مازحا :أرى مصارع
العشاق ههنا ،ارتفعت قهقهات الطلبة ،وأحست إلهام ببعض الخجل،
ولم تنبس ببنت شفة ،وجدت الصمت أنسب لها .حرك األستاذ رأسه،
فأشار إلينا بالخروج ،خرج البعض ،والبعض اآلخر اجتمع عليه ،ليسألوه
أسئلة ما ،أو يستشيروا معه في أمر معين ،أو ليظهروا له أنهم طلبة
ّ
مجدون ومهتمون باملادة ،وأنهم تخلقت لديهم إشكاالت متعددة ،يريدون
البحث فيها مستقبال ،أو أنهم يسعون لتنظيم ندوة علمية ،يتم من خاللها
اإلجابة عن تساؤالت الطلبة املعرفية ،هذا هو عالم الطلبة ،مليء بالحركة
والضجيج.
خرجت من القسم مهروال ،والساعة تشير إلى الواحدة إال الربع ،وأنا
حل به،أنوي الذهاب إلى البيت ،ألدرك سعيد ،وأعلم منه الخطب الذي ّ
سئمت نفس ي هذا الصباح ،حتى الدرس مر عابرا ،لم يكن عقلي معه ،ولمُ
أنتبه حتى ألحاديث ندى ،لم أرع أي اهتمام ملا قالته ،عقلت منها رأيها في
كتاب فن الرواية فحسب .وأنا أخرج من باب الكلية ،سمعت صوتا أنثويا
رقيقا ينادي باسم نديم ،صوت يشبه رنين ندى ،أدرت رأس ي إلى الوراء ،إنها
126
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ندى ،رأيتها تهرول نحوي ،ال أعلم خطبها ،كل ما لدي من كالم قد نفد في
القسم ،بم سأحدثها وتحدثني ،لتكن شهرزاد ،وألكون شهريار ،أبقى
صامتا ،وتمأل هي جو املحادثة بالكالم املباح ،توقفت أنتظرها ،وصلت
وخاطبتني قائلة :أدركتك أخيرا ،خرجت كالبرق من القسم ،ما خطبك؟ ما
بك اليوم لم تطل الكالم معي؟ هذا غير معهود فيك معي.
علمت مني أن صديقي سعيد ليس بخير ،وأنني أسرعت للحاق به،
وإدراكه ألطمئن عليه ،تحسرت بعدما سمعت ما أصابه ،ودخلت في
املوضوع مباشرة ،بأنها كانت تريد أن تعرض َ
علي أن نراجع مساء في
املكتبة؛ ألن مساء االثنين فارغ ،وال شغل لدينا غير القراءة ،تعذر حصول
ما ترغب فيه ندى ،تفهمت املسألة ولم تصر على الدعوة ،إن حالة سعيد
أنقذتني هذه املرة من لقاء في مساء كامل مع ندى ،أجزم فيه أنه لن يكون
في املراجعة كلية ،الصديق ينقذني حتى في غيابه من االصطدام بندى
ومالزمتها وقتا دائما ال منقطعا في الكلية.
أطلقت سراحي ،ولم أكد أودعها حتى وقفت إلهام تخاطبني ،أريد
الذهاب معك إلى الرحاب ،ألطمئن على حالة سعيد ،فلم أنم ليلة البارحة،
لقد رأيت في مالمحك صباحا ،أنه لم يذهب لقضاء حاجة ما ،وأصال لم
تحدثني عن ما حصل له ،حينما اتصلت بي وأخبرتني أنك وجدته ،ولم
همست في خاطري ،أي مصيبة ُ أعرف منك تفاصيل ما نزل عليه من ثقل،
تحل على الواحد إذا تعلقت الفتاة بش يء ما؟ إنها تقدم كل ش يء لتظهر له،
أنه الشخص الوحيد الذي تبصره من بين رجاالت العالم ،تقوم بأشياء
جنونية دون وعي ،توظف جميع مقوماتها ،حتى املحظورة منها ،التي تعد
127
جعفر لعزيز اإلله الجديد
السالح األخير الذي تمتلكه ،وتستغله لتكتسب ثقة عشيقها ،لكن إلهام
لم تصل إلى هذا بعد.
أحاول البحث عن مبرر ما ،أتخلص به من إلهام ،ولكن لن ينفع
معها ش يء ،ستصر كثيرا ،وال قدرة لي على إقناعها لكي ال تذهب معي ،ال
علة أقدمها ملنعها ،فقررت أن تذهب معي ،أما ندى فقد ذهبت إلى املكتبة،
مسكنها ومرتعها ،لم تنتبه ملا أقوله مع إلهام ،وفي وقت مفاجئ جاءت
صديقتها آمنة ،سلمت شيئا لندى ،ثم مرت أمامنا ملقية السالم ،دون أن
تقف معنا ،مرت بسرعة البرق ،بقينا ننظر فيها وهي تهرول ،وكأنها في موعد
مع شخص مهم .مازحت الصديقتين ،فقلت :إنها ذهبت لتصلي وتعبد هللا،
أال ترون أنها شبيهة بجلسة املتصوفة في القسم ،ال نسمع حسيسها ،هي
مجرد أمانة جامدة ،إنها في الحقيقة ال تعرف معنى للكالم ،والغريب حينما
تكون في الساحة مع الطلبة ،أراها مرات ومرات مداومة الوقوف والحديث
مع مسعود أبي البنات ،وأما نحن فال مقدرة لها على الحديث معنا.
فضحكتا بهمس ،وقالتا :دعك منها ،فهي فتاة متدينة ،وال تحب
حديث الطلبة .لم أزد على ضحكتي الخفيفة ،سوى توديع ندى ،ومصاحبة
إلهام معي في الطريق إلى رؤية سعيد ،وصلنا البيت ،وأمرتها باالنتظار في
الخارج ،دخلت وبدا لي أن الصديق استيقظ؛ ألن ضوء البيت املعتم
مشتعل ،لقد كان الصديق غارقا مع كتبه ،مستأنسا بها ،ومتعالجا
بمنافعها ،يداوي جرحه بالكتب ،وظهرت على وجهه بعض التباشير
املوحية بأنه بخير ،وبعد دخولي املباشر ،سلمت عليه ،فأخبرته أن إلهام
تنتظره في الخارج ،وتريد أن تراه ،بقي ساكتا مدة حتى تكلم بكالم خافت،
سمعت منه وشوشة فقط ،لم يفصح بش يء يبلغني معنى مفيدا.
128
جعفر لعزيز اإلله الجديد
جلست ،وأنتظر أن يقوم إلى إلهام ،ولم يقم ،وأخبرته مرة أخرى،
ولكن رفض لقاءها ،وأصررت على أن يذهب ،فالفتاة أتت من أجله ،قال:
ال ينقصني سوى صداعها يا نديم ،لم تعد الحياة حلوة ،طعمها مرير،
تكدرت حياتي منذ ليلة أمس األحد ،وددت لو شققت األرض حتى أدخلها،
أضحى اإلنسان متبعا ملا تقول عنه اإلله الجديد ،فظيع حقا ،وستكتشف
فظاعة مؤملة ،حينما أخبرك بخبر نزل علي كالصاعقة ،دعني اآلن أرى ماذا
تريد تلك املعتوهة واملجنونة ،خرج سعيد ،وتفاجأ بعناق مصحوب بدموع
الشوق من قبل إلهام ،بقي الصديق مصدوما ،أحس باضطراب ،لم تكن
له ردة فعل سوى االرتخاء ،إلى أن بادلها العناق نفسه ،اكتشف أن في
العناقات تضمد الجروح ،وتختفي بعض املعاناة ،ويحس املتعانقان ببعض
الطمأنينة ،وأصدق عناق هو الذي يأتيك وأنت ال تملك شيئا ،ويعرف
اآلخر أنك ال تملك شيئا ،استمر عناقهما مدة طويلة ،حتى أخبرت إلهام
سعيد :أنها قلقت عليه كثيرا ،وكانت تود أن تعرف منه ما حصل له ،حينما
هرب أثناء مراجعته معها في املقهى ،لم يقل شيئا سوى أنه اعتذر منها،
فخبرها بأنه سمع شيئا مؤملا من أمه ،فشده ذلك ّ
وأزمه وألحت عليهّ ،
كثيرا ،فذهب عند الشيخ ليحكي له أمره.
وألن تفاصيل الحادث ستطول ،فقد جاء عندي الصديق ،فقرر أن
حل به ،وافقتنذهب إلى الحديقة ومعنا إلهام ،ليحدثنا عن األمر الذي َ
على ذلك ،رغم أنني شعرت بالجوع في تلك اللحظة ،وطلبت منهما أن يذهبا
إلى أن آكل شيئا ،وألتحق بهما ،تم األمر ،وألحقت بهما ،ووجدتهما سارحين
في الكالم ،تائهين ،وبدا على حديثهما الحزن واأللم ،ورأيت عينيهما محمرتين
من كثرة البكاء ،اقتربت منهما ،وجلست بجانب الصديق ،وجدتهما قد
تحدثا في كل ش يء ،وسردا معا حكاياتهما ،رغم ذلك أعاد ّ
علي سعيد ما
129
جعفر لعزيز اإلله الجديد
حكاه إللهام ،سمعت منه أن أباه الذي يحدثني عنه بسمت أخالقه
طلق أمه بسبب ُّ ّ
تمنعها عن أخذ الحسنة والطيبة ،ومحاسن القيم ،بأنه
ارثها من أسرتها بعد وفاة أبيهم ،لم ترغب أمه في أخذه ،لحاجتهم إليه
كثيرا ،تركته ولم تأخذه ،ليكون مصرفا لجنازة أبيها ،وتزامن ذلك مع عرس
أختها نهاد ،فقررت تركه ،فأثار ذلك حفيظة أبيه ،فهددها بالطالق ،وأمه
ال تملك سوى أختين ،نهاد وجميلة ،وال تملكان دخال بعد وفاة أبيهما .إال
ّ
أن أب سعيد ،شعر بالطمع ،وتعامت بصيرته ،وعاد إلى أرذل العمر ،ملا
رأى في زوجته كنزا ثمينا ،يحقق به مطالبه وآمانيه ومساعيه.
ّأم سعيد رفضت ،واألب أصر على أخذها لإلرث ،وملا استحيت من
مخاطبة أمها في ذلك ،وترك أختيها بال مأوى ،قرر أن يطلقها ،وهذا أمر
أفجع الصديق وأيأسه وأتعسه .حقا مقبلون على كارثة فظيعة وال
إنسانية ،إال أننا مجبرون على تقبل ما نسبح فيه .لقد غرقنا في الفظاظة
اململة.
خاطبنا سعيد فقال :كنت أرى في أبي رجال تقيا مؤمنا صالحا ،كثير
النصح واإلرشاد ،وملا سمعت صنيعه ،أحسست بالصدمة ،فآخر ما يمكن
أن أتوقع منه أن يرتكب فعال كهذا هو أبي ،فعله لم أتقبله ،ترك أمي
بسبب املال ،تركنا بسبب املال ،واستدرك قوله متسائال :أي ش يء فعلنا
لنولد؟ ونصادف مثل هذه املآس ي ،حياتي اآلن أصبحت بال طعم ،البطالة
والدراسة في الجامعة ،وطالق أمي ،وحال إخوتي ،آيمن وخالد ،وأروى
وسعاد ،ما زالوا بريئين ،ال يعلمون أنهم مقبلون على مرارة فظيعة ،وأنهم
ولدوا ليزيدوا في نسبة املعاناة ،اشتدت حالتي ،واختنقت كثيرا ،تظلمت
الدنيا.
130
جعفر لعزيز اإلله الجديد
131
جعفر لعزيز اإلله الجديد
13
ندوة المجامالت
بعد أسبوعين من حادثة سعيد ،استعاد حاله ،وتداوى وتعافى
باللقاءات املستمرة مع إلهام ،وفور انتهاء الفصل الثالث ،عقد منسق
الشعبة لقاء مع الطلبة ،وتم اإلقرار فيه على تنظيم ندوة حول الخطاب
السياس ي :آفاق ورؤى ،من قبل بعض أساتذة املاستر ،وأساتذة خارج
الكلية ،فسهرنا نحن الطلبة على اللجنة التنظيمية ،بإعداد املدرج وتهيئه
يوم الثالثاء ،قبل بدء الندوة بيوم ،وكالعادة فأشباه الطلبة يتحمسون
ملثل هذه املناسبات ،ويخططون ويقررون ،تراهم في الكالم واالقتراحات
هم األوائل ،يعجبك قولهم وتنفرك أفعالهم ،وأثناء العمل يصطفون جنبا
ويتحدثون في ال ش يء ،يمثلون مسرح الالمعقول ،اجتمعنا على كيفية
توزيع األدوار أثناء الندوة ،ثم الحضور لتهيئة املدرج يوم الثالثاء ،على
الساعة التاسعة والنصف مساء ،حينما حضرت أنا وسعيد إلى الكلية ،لم
نجد أحدا سوى اإلداري املكلف بمدرجات الكلية ،وصلنا في الوقت
املحدد ،وبعد مض ي ربع ساعة من مجيئنا ،أقبلت بعض الطالبات ،جئن
يتحدثن ويقهقهن فيما بينهن ،وكانت ندى وآمنة وإلهام بينهن ،أقبلن علينا،
قائالت :املجدان املتميزان ،التراثي والحداثي سبقونا ،وظال ينتظران في
الفراغ ،وتسألن عن اآلخرين؟
أجبتهن بأننا جئنا ولم نجد أحدا ،ضحكن وقلن ننتظر نحن أيضا
قليال ،إلى أن يأتي اآلخرون ،وبالنظر إلى األصدقاء ،فقد رأيت إلهام توزع
نظراتها على سعيد فقط ،الذي انزوى وحيدا لم يتحدث ،وقد ألف
132
جعفر لعزيز اإلله الجديد
133
جعفر لعزيز اإلله الجديد
الزواج منعرجا خطيرا ،نقف فيه على شفا حفرة أخرى ،ال نجاة لنا منها،
أيكون الحب مغيرا لجميع هذه املعتقدات ،وهذه األفكار ،إن الحب يقودنا
نحو تغيير مفهوم الحياة الواقعي إلى مفهوم آخر ،من حياة الشقاء إلى
النعيم ،ومن الضاللة إلى الهناء ،من الهزيمة إلى االنتصار.
بقينا نتناقش ،فجأة الحظت حدثا مؤملا ،عناق آخر من قبل إلهام
للصديق ،كانا يتحدثان في أمر ما ،يفكان عن نفسيهما ثقل هموم النصر،
ويخففان عنهما أعباء الدنيا ،بما تجود به علينا من مصائب ،قالت ندى:
إنه موقف رائع يا نديم ،ليتنا نجد من يعانقنا ليضمد آالمنا التي لم نبح بها
لشخص ما ،ووقعت أنا في حيص بيص ،ال أعرف الطريقة التي أتناول بها
مثل هذا الكالم ،وأفكر في رد سريع ،يخفي عني خجلي واضطرابي ،قلت في
خاطري :أيعقل أن يجمع هللا شتاتين كتما أمر معاناتهما وأحزانهما عن
اآلخرين؟ لم أتشارك أحزاني مع فتاة ما ،ولربما إن ندى أيضا ،لم تبح
بآالمها ألحد ،يعني هذا ،أن لنا نظرتين متشابهتين ،وإحساسين يالمسان
بعضهما بعضا في اللقاء ،فينبض القلبان معا.
جعلت من نفس ي أنني لم أفهم شيئا ،فقلت :إن العناق جناح من
أجنحة جبريل ،يحمل قلوب العاشقين ليتعانقا في عالم نوراني رباني،
وضحكت قائلة :الحب ال يريد كل هذا التعقيد يا نديم ،تلك العبارات
املسبوكة واملصفوفة التي يسبكها املتصوفة معقدة ،وال نقدر عليها ،الحب
ش يء بسيط ،به تحيا قلوب الناس امليتة ،فأجسام البشر اليوم بال قلب
وال إنسانية .لم أكد أنطق بكالم ،حتى نادت الطالبات ،لقد التحق أربعة
طلبة فقط ،ومن بين الطلبة مسعود أبو البنات.
134
جعفر لعزيز اإلله الجديد
135
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ملا انتهينا من تجهيز القاعة ،استرحنا قليال ،وجاء الطلبة القابعون في
أمكنة النزهة ملا كنا نعمل يقولون :ما شاء هللا عليكم ،وينادون لنلتقط
صورة جماعية ،نغري بها الغائبين ،وهم ال يعلمون أن حضورهم أفظع
بكثير من غيابهم ،ونطق طالب :ماذا سنفعل مع الذين لم يأتوا؟ سنعاقبهم
جميعا ،تحدثت خديجة بنبرة حادة ،فقالت :دعونا من هذا الكالم الفارغ،
ماذا فعل الحاضرون حتى يفعله الغائبون ،اعتذرت وانصرفت ،لم يعتد
على خديجة هذا الغضب ،أكيد أنها غير قادرة على تحمل مقدار كبير من
النفاق ،والسخرية واالستهزاء ،وبعد انصراف خديجة ،انصرفنا معها،
دون إطالة الثرثرة مع املتحدثين من املستهزئين.
في مساء يوم األربعاء ،مع الساعة الرابعة ،بدأت الندوة ،وبدأ
الحضور يحضر بكثرة ،تسابق الغائبون عن تحضيرات الندوة إلى املبادرة
للقيام بأعمال خيالية تصويرا وتوجيها ،وأما الحاضرون الذين اعتبرونا
جدتهم ،تسابقوا إلى الظهورمهرجين أثناء التحضيرات ،فقد أظهروا أيضا ّ
في الصفوف األمامية ،ليظهروا أنهم العاملون على أشغال الندوة ،وأنهم
الذين وقفوا وما قعدوا ،إن تلك املناظر تقترب من أفعال الشياطين،
وأظن أنه لن يكيد بنا الشيطان هذا الكيد ،ظننا أن الطيبة التي تظهر
عليهم غير محفورة عليهم ،وملا رأيناهم على تلك الحال ،وبذلك الحماس
الزائد ،تنحينا جانبا ،وتركناهم ليفعلوا كل ش يء ،هم شبيهون بتلك
الفتيات اليائسات ،الراغبات في الزواج ،واللواتي يحتجن إلى سد حاجتهن،
فيذهبن إلى العرس بزينة وجمال بهي ،فيقمن إلى الوسط لخدمة جموع
من النساء ،حتى تنتبه إليهن امرأة تبحث البنها عن عروس جميلة بهية،
وقادرة على تحمل أعباء البيت ،همهن اصطياد زوج ،ولو لم يكن يعرفنهن،
فكذلك هؤالء الطلبة الذين لم يحضروا أثناء التجهيزات األولية ،فحضروا
136
جعفر لعزيز اإلله الجديد
أثناء بداية الندوة ،لتتعين لألساتذة رؤية جدتهم وحسن عملهم ،ورغبتهم في
نجاح املخفل العلمي ،عفوا املحفل ،طمعا في مكانة ،أو رغبة في تحصيل
نقطة جيدة .األمران متشابهان ،ال فاصل بينهما ،كالهما يتعالقان مع
املنفعة والطمع في الظهور ،أما نحن البسطاء فال نملك إال وجها واحدا
اعتداه الجميع في الكلية.
كانت ندى تقف أمامي؛ والندوة لم تفتح بعد ،وقالت لي :اآلن بدأت
أعرف سر مفارقتك لهؤالء الجماعة املزيفة ،بدأت أعي أسرار ولوجك إلى
ذاتك فحسب ،مواقفك تتضح مع األيام وحوادث الزمان ،أنظر ماذا
يفعلون ،يظهرون أنهم الذين قاموا بكل ش يء ،حتى مسعود رمى بنفسه
بينهم ،أنظر إلى صديقتي التي تبتعد عن التجمعات الذكورية ،ألقت
ُ
بنفسها تستقبل الحضور ،فاتحة شدقيها ،ال نعرف املستمد األخالقي الذي
يغتنون منه ،ال نعلم هل يملكون ضميرا يجعلهم يحسون بحقيقة ذاتهم
قليال ،وفي حسرة صاحبتها ضحكة سخرية ،قائال :أتعرفين سر تفوقنا
عنهم؟ يا عاشقة أجاثا ،ويا شهرزاد املستقبلية ،لم أتمم اطرائي حتى
قاطعت كالمي ،فقالت :أنتم الناس أيها األدباء اتقوا هللا في قلوب الطالبات
البريئات ،وصاحبت الضحكة تحوريها لبيت أحمد شوقي ،فرددت قائلة
أصبحت شوقية ،رددتها وهي ال تدري أن أشواقها حقا بدأت تستوطن
قلبي ،وبلغة حربية تستعمر قلبي ،وبلغة رافعية ملا دخلت أشواقها قلبي
ّ
غلقت األبواب ،فأبت الخروج ،لقد كانت مسامرتي الليلية تبدأ بالقراءة
وتنتهي بالقراءة ،وأما اآلن فأنا في الليل يوسفها ،فليلي يبدأ بالقراءة وينتهي
بأشواقها ،ندى قمرية سرقت قلبي ،يقولون :إن القمر سرق ضوء
الشمس ،وهي سرقت قبس ي.
137
جعفر لعزيز اإلله الجديد
138
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ّ
مر سعيد بجانبي ،وكنت جالسا ،فانحذر عندي ،وهمس في أذني،
فقال :أي عبث نحن فيه يا نديم؟ فضحونا وشققوا لنا رؤوسنا بأن الندوة
وطنية ،وسيحضرها أساتذة أجالء ،وما رأيناه أمر جلل ،فذهب وهو
يحرك رأسه ،قلت في خاطري :لم تر شيئا يا سعيد :فالجامعة مطبخ
ألكالت غريبة ،يتم تزيينها واعتبارها مصنوعة صنعة خارجية ،والندوات ال
تهدف إلى إغناء البحث العلمي ،بل يتغيا فيها أصحابها في غالب األحايين،
ملء امللف العلمي ،من أجل الترقية ال غير ،حتى لو كانت ورقته بعيدة كل
البعد عن موضوع الندوة ،ثم يفخر األستاذ بأن مقالي سيخرج في كتاب
جماعي ،عن ندوة ألقينا فيها كلمتنا ،والشاهد أنهم حينما يحصلون على
مبتغاهم ،لن تجدهم يعتكفون ولو دقيقة على كتابة ورقة علمية أو ما
شابه ،نحن الطلبة ال ندرك هذا ،يصلنا فقط صدى ما يقال ،ونرى صورة
مزيفة يتم تحضريها بعناية في مطبخ ما يسمونه باملختبرات الجامعية.
اقتربت الندوة من االنتهاء ،حتى يتم فتح باب التساؤالت ،تتبعت
الندوة بدقة ،ولم أسجل ملحوظات من شدة السأم ،وسئمت من كثرة
الثرثرة التي سمعتها عن تساؤالت املتدخلين في موضوع اآلفاق والرؤى ،وفي
اإلجابة بدأ املحاضرون يستعرضون عضالتهم اللغوية ،ومهاراتهم في
التواصل ،فنسوا املوضوع نسيا منسيا ،وما أنساهم الشيطان ذلك ،بل في
مل الحاضرون وبدأوا تركيزهم بسعي كل واحد إلى التفوق والتعاليَ ،
ينصرفون ،لم تفدهم الورقات بش يء ،وإن كنت أصوليا فال أقصد
بالورقات الكتاب املشهور في أصول الفقه ،إنما أقصد الورقات التي
ّيدعون أنها علمية.
139
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تركت املذكرة خاوية ،والقلم بين أسناني ،ويدي تنتف شعري ،دون
تسجيل ملحوظات ،اليأس ثم اليأس وال ش يء غير اليأس ،هذا ليس دليال
على العمق ،بل دليال على طبيعة جو الندوة ،الذي يملؤه امللل ويعلوه
الكلل ،وأما طلبة املاستر فيضحكون كأن شيئا لم يقع ،يستمتعون
بالتقاط الصور ،واملحادثة فيما بينهم ،والبعض اآلخر من الطلبة جلس
من أجل احصاء الجمال الذي يمأل القاعة ،ومبادلة اإلطراءات فيما بينهم.
الطعم العلمي الذي كنا نرجوه في الجامعة ،أصبح مرا ومرذوال ،فيه أشباه
األساتذة املشهورين عند العامة ،بأنهم يجيدون الحديث ويتقنون فن
الكالم ،ويضبطون تخصصهم ،وما رأيته يعكس هذا الشأن ،،ال نحمل
عنهم كالما مسبقا ،بل إن في جباههم عبارات تبدي لهم حقيقتهم املقعرة.
األغبياء من ظنوا أنفسهم عظماء بمحض صدفة الشهرة التي
يمتازون بها ،حتى ولو قالوا كالما عاديا ،تتطاير حوله العامة ،وتجده
منتشرا مذاعا بين الناس ،فأن تظن بمحض الشهرة أنك السيد في مكانك،
تقول كالما فيهتز له خاطر الناس ،فهو أمر ّ
يحق عليه البكاء ،ألنه يسهم في
ترسيخ الغباء ورسم طريق القداسة العمياء ،ورحم هللا القدماء ،ملا قالوا:
لو أخذنا بفكرة ما ترك األولون لألخيرين شيئا ملا وصلنا إلى هذا التقدم،
وال دراية لألساتذة الذين ألقوا كلماتهم ،أن الحاضرين سئموا منهم،
وذهبوا وتركوهم ،بقي القليل فقط ،انطلقت األسئلة والتدخالت ،والش يء
نفسه بعضها في املوضوع ،والبعض اآلخر كأن صاحبها في عالم آخر غير
املدرج ،وطبعا انتهت املداخالت ،واإلجابات عنها نحت منحى آخر ،لم تعر
االهتمام أبدا للمتدخلين ،انقضت الندوة مع الساعة السادسة ،وذهب
كل إلى مرتعه ومسكنه ،وأغلبية طلبتنا باملاستر ذهبوا ليأخذوا صور ذكرى
مع األساتذة ،ليشاركوها مع زمالئهم على مواقع التواصل االجتماعي ،انتهت
140
جعفر لعزيز اإلله الجديد
مهمة إظهارهم في بيع صورتهم املزيفة ،وتسويق أنفسهم ليقال عنهم أنعم
بطلبتنا وحضورهم الوازن ،وأقول أنا :أبئس بها من ندوة مليئة بالنفاق
والتزوير ولغط الكالم ،وفساد املعارف وتقديس األشخاص ،انتهت مهمة
التصوير ،ففر الجميع ،كأن الكلية بلعتهم ،لم نجد لهم حسيسا وال أثرا،
بقينا نحن جنود الخفاء لنقتطع وقتا آخر ،نجمع فيه املدرج ونعيد
املستلزمات التي أحضرناها إلى اإلدارة.
جلست على الكرس ي مرتخيا ،شعرت ببعض العياء ،أحسست
بالحسرة إثر ما رأيته في الندوة ،بقيت أنظر وأتأمل غرق مسعود وعشيرته
في التقاط السلفيات ،كل صورة بتغيير مالمح الوجه ،الطالبات ووجوههن
مملوءة بمساحيق التجميل ،يلتقطن صورا دون حد ،لدرجة أن العاكسة
تحس بالدوار ،والطلبة يتبجحون فيما بينهم.
حملت ندى مذكرتها منزوية في ركنة مع أستاذ أجاد في إلقاء كلمته
إجادة ،ليس أستاذا في الكلية ،لقد جاء من كلية الجاحظ لآلداب بمدينة
السناء ،واستحسنت كالمه أنا أيضا ،فندى غارقة تتحدث معه ،وتتناقش
معه في مسائل مرتبطة بآفاق تحليل الخطاب السياس ي ،لم تغريها متعة
التصوير ،بل أغرتها متعة أخذ العلم من أفواه العلماء ،وأما إلهام فما
زالت تقدم شهادات الحضور للذين حضروا للندوة من أجلها فقط ،ال
رغبة في االستفادة ،يريدون شهادات الحضور ليزيدوا بها عدد الساعات
املطلوبة ملناقشة أطروحة الدكتوراه ،وقد يسرنا مهمة أخذها؛ ألننا قد
أعددناها وبتوقيع من منسق الشعبة ،فتكلفت إلهام منذ بداية دخول
الحاضرين بتسجيل أسمائهم ثم تقديمها .من كانوا يرغبون في أخذها فقد
صبروا حتى انتهت الندوة ،وأما املساكين الذين أتوا حبا في االستفادة
141
جعفر لعزيز اإلله الجديد
142
جعفر لعزيز اإلله الجديد
143
جعفر لعزيز اإلله الجديد
144
جعفر لعزيز اإلله الجديد
14
المتعة المزيفة
تخربت صورة آمنة ،وازدادت رفعة مسعود ،الذي كان يأتي إلى
الفصل وكأن شيئا لم يقع ،ال إحساس له بما وقع من ذنب .العدو الداخلي
قد نخره ،وحط من قيمته ،العدو املصاحب لنا حتى في أسوأ حالتنا ،هو
الضمير ،انعدام ضمير مسعود ،جعله يعيش حياة هاوية ،حياة ال قيمة
لها ،وأما آمنة فقد غابت عن املشهد ،ولم تعد تظهر ،الخبر املشكوك الذي
نعرفه أنها مريضة ،وال قدرة لها على املجيء ،ولكنه مجرد كذبة ،فآمنة كما
حكى مسعود لسعيد ،أنهما كانا في عالقة افتراضية على مواقع التواصل
االجتماعي ،وظال يتحدثان بكالم ال بأس به ،في بداية تعارفهما ،وبعدها
تطورت العالقة ،وأصبحا مهووسين منفتحين على موضوعات ما بعد
الثانية عشرة ليال ،وهي الساعة التي تصبح فيها جميع اإلناث على نسخة
واحدة ،كانت آمنة تبعث صورها مخلة ،كمن ولدتها أمها ،بعد أن ألقى بها
مسعود في مصيدة الحب الكاذب ،والكالم الحلو ،واألحالم العاهرة،
فتالشا بعضهما في بعض فصارا في تواصلهما ليليين ،ومسعود ابتغى
فضيلة االستمتاع بجسدها االيروتيكي ،ويريد أن يهمس لها بكالم يسعى
فيه إلى املتعة الحقيقية بدل االفتراضية ،فاملتعة في االفتراض كالقبلة من
وراء زجاج ،لقد أراد كسر الزجاج واستغل فرصة الندوة ،فوقع ما وقع.
مسعود استغل كبتها ،وجهلها ،واشتياقها للمتعة ،فأسقطها في فخ
الزواج ،الكثيرات اللواتي يبحثن عن فارس أحالمهن في االفتراض ،وهن ال
يعلمن أن ما يبنى في االفتراض سرعان ما يزول ،ألن العالقة تكتس ي
145
جعفر لعزيز اإلله الجديد
146
جعفر لعزيز اإلله الجديد
15
مسار
اقتربت االمتحانات الجامعية النهائية ،وبدأ الطلبة يجتمعون
للمراجعة ،يمألون املكتبات والحدائق ،لالستعداد الجيد ،تبدأ الطالبات
بالهجوم على الطلبة املتميزين واملتمكنين ،طلبة ألفوا الجد واالجتهاد ال
ينتظرون الدقائق األخيرة للمراجعة ،وهؤالء الطالبات الالئي يعتبرن
ّ
أنفسهن جميالت وأنيقات ،ال يجئن إلى املحاضرات ،ولكن يسخرن ما
يمتلكن من مقومات في استدراج املتمكنين ،بتوظيف جميع السبل التي
تؤدي إلى استيفاء املجزوءات ،وحينما تنتهي االمتحانات فسالم عليهن
وعلى ما يملكن ،واملعضلة أنهن يستدرجن الطلبة واألساتذة ،ومن ثمة
فينجحن في إدخال املواد ،أما الذين يكافحون ويقاتلون فال حديث عن
مشاكلهم ومصاعبهم.
وال تظهر طالبات املصلحة فقط ،بل يظهر املستغلون لحاجة
الطالبات املعرفية أيضا ،هم أولئك املدعون للمعرفة ،وهم في الحقيقة
تحصل في عقلك من املطالب، فارغو العقول واألدمغة ،وإنما مبتغاهم ما ّ
أولئك الذين يوظفون مواهبهم في استغالل الناس هم في حقيقة األمر
خبثاء وحقراء ،سيأخذون الجزاء األحق بهم ،ونسأل هللا الهداية ،وممن
عرفت في الجامعة يفعل هذا ،مدعي الفلسفة أدهم شبيه ابن بلدتنا
أحمد ،فهو أصال كما قلت ،أدهم ال يعرف معنى هللا ،وال يعبده ،يرى أن
الحياة ميسرة غير مخيرة ،ولكن هذا ال يمنعني من الحديث معه ،فهو
إنسان وال مشكلة لي معه ،وقد كان يخبرني بمعاناته مع صاحب البيت بعد
147
جعفر لعزيز اإلله الجديد
التأخير في أداء واجب الكراء ،ال يرحمه ،ويظل يشاغبه بالكالم ،هؤالء
الناس سيئون غير رحمين ،همهم الوحيد هو جمع املال ،يسبحون في
الظلمات من أجل الحصول عليه ،يقتلون عليه النفس لتحصيله ،النصر
بجميع الضمائر بلد ال يصلح ألي ش يء ،مدينة تحتاج ملرقاة أخالقية
صاعدة ،خباثة األخالق في أهل املدينة تفيض بال حدود.
كانت ليالينا متشابهة ،طوال سنوات املاستر ،تمر من نفس
األحداث ،والكلية تبشر بمآل إنساني كئيب ،الحياة في الكلية لم تعد
تطاق ،املشاهد مؤملة جدا ،همنا األساس ،أنا وسعيد ،هو االعتكاف من
أجل الدراسة ،وإنجاز العروض ،ال نكل وال نمل ،نأخذ بقول العرب :اثنان
ال يشبعان ،طالب علم وطالب مال ،اآلن ال نطلب شيئا إال العلم ،أما املال
فهو الذي يطلبنا ،وقتنا ليله كنهاره ،ال جديد سوى القراءة ،في الكلية
صباحا وفي البيت القذر ليال ،كنت ألتقي بندى كثيرا ،في ساحة الكلية،
مهموما وكئيبا ،أقرأ في مالمحها كل يوم مشهدا من مشاهد الحياة
املنتظرة ،عشنا أصدقاء طوال الفترة الدراسية دون أن نحب بعضنا
بعضا ،ال أحد يتجرأ على الحديث بش يء يتعلق باملشاعر املتبادلة ،كنت
أقول إنها جاءت لتنقذني من الضاللة ،وجئت إليها لتعانق أمال ،وننشد
معا أغنية الخالص ،كانت تقول لي عيونها :لقد وجدت فيك الحلم الذي
يراودني في كتبي ،وفي أحالمي ،وكانت صورتي تنطق بأنني ال أحب الوداع ،ال
أحب الفراق ،أحتاج إلى سند يعينني ويؤنسني ،ويخفف عني محنة أعباء
الحياة.
148
جعفر لعزيز اإلله الجديد
16
ال أحب الوداع
الصديق سعيد ،بعد حادثة أبيه لم يعد يثق في أحد ،الحياة عنده
موبوءة ،اصطدم بواقع مؤلم جدا ،ونحن على عتبة ختام املاستر ،أحس
بأن إلهام بدأ يخفت اهتمامها به قليال ،وخاصة بعد انتهاء الفصل الثالث،
كان يحس بهذا األمر ويخبرني به ،وكنت أرى ذلك بعيني ،قضت مصالحها،
وانتهت أشغالها في سعيد ،واإلشكال أن الصديق ،ذهب معها بعدا من
أبعاد الصداقة اآلهلة ملبادلة مشاعر الحب ،إال أنه وجد في ذلك تمثيال،
يحق لنا أن نقول وبصدق تام ،إن جميع اإلناث يراودنك إذا وجدن فيك
ملذة ومبتغى ،إنهن يستطعن االستمرار معك في التمثيل الكاذب ،ولو
اقتض ى ذلك أن تكن معهن في خلوة ،ال يهمها أي ش يء ،تلك املشاعر التي
كانت تظهر على إلهام ،بدأت تذبل ،وبالكاد ذبلت ،ألن مقصدها انتهى،
وغايتها ذهبت ،أخذت من سعيد كل ما تريد ،وما بدا منها من اهتمام
يجعل مشاعرها صادقة ،ولكن في الحياة الدنيا ال ش يء تعول عليه،
فجميع األشياء قابلة لتتغير عنك ،الحياة ال تستحق منا إال التظاهر
بالغباء في النظر إلى األشياء ،من كان يتوقع من إلهام هذا الفعل ،فقد كفر
باهلل ،وساءت سريرته ،وفي الحقيقة فقد اقتنعنا أن عالم اإلناث عالم
مغبون ال ُمستحق للخوض فيه ،والتعلق به لفهم خباياه ،فهو عالم
سروجي متلون ،ترى في كل تلون حقيقة مثالية ،قابلة للتصديق ،عاملهن
مليء بالحيل من أجل الوصول إلى مصالحهن ،وأظن أن مقامات الحريري
التي يجسد بطلها أبو زيد السروجي ،تصف شيئا من كينونة األنثى.
149
جعفر لعزيز اإلله الجديد
150
جعفر لعزيز اإلله الجديد
كان يقول لي :إنني يا نديم على مقربة من اسعاد أسرتي ،رغم ما يصيبنا من
مفاسد في مغربنا الحبيب ،ولي طموح كبير بأن أوقد في الناس شعلة
الضمير امليت واإلنسانية امليتة ،وأن أحرك قلب العالم املتوقف عن
النبض.
تلك هي أماني سعيد ،وأحالمه ،ال يدري أنه ما دمنا مركونين في
الحياة ،ونحن بجانب كومة من املجانين والحمقى واألغبياء ،وعبدة اإلله
الجديد ،ومنعدمي الضمير ،فال سبيل إلى طلب تغيير العالم وقلبه ،ما
علينا إال السكوت ،واالبتعاد عن ضجيج البشرية ،واتخاذ الوحدة املهد
األساس البتغاء االستمرارية دون ألم ،وبهذا القول ّ
أقرت ندى :التي غيرت
نظرة تعاملها مع جميع الناس ،بعدما شهدت حدث آمنة التي وصلني أنها
في بيتي زوجها ،وهو ال علم له بما حدث.
إلهام فمرة تقف معنا ،ومرة تظل لوحدها ،ألن غرضها محقق وال
غاية لها بعد اقتراب انتهاء األسدس الثالث ،أما ندى فتتوضأ بالنقاش معي
كما تقول :وهي اآلن في وحدتها مع بحث تنجزه عن ميالن كونديرا ،تبتغي
فيه دراسة فعل القراءة والتأويل في األعمال الروائية للكاتب ،وال تظهر في
الكلية ،إال إذا أرادت أن تحدثني في أمر ما يخص بحثها ،وفي يوم شتائي
مسائي ،نسمع فيه قطرات املطر في خزانة الكلية ،وسعيد جالس يطلع
علي ندى كالما ،شبيه بمن خدش قلبي ،وألقى على بعض الكتب ،ألقت َ
فيه شعلة من نار ،أخبرتني أنها ال تحب الوداع ،وأنها وقعت في حبي،
وقالت :تقبل قولي يا نديم أحبك ولكن ال أقدر على الزواج بك ،ال أتحملك
زوجا ،بل أريدك بطال أحلم به وأكتب عنه ،أحبك بألف كلمة ،وأتمنع عن
الزواج بك بكل لغات العالم ،ال أريدك وال أتحمل ظلك زوجا ،دعني أحبك
151
جعفر لعزيز اإلله الجديد
علي الغيث من حزنك ،ما يشفي أحزاني ،إني أتوضأ كما أريد ،وامطر ّ
بحزننا ألصلي صالة الوداع الذي ال أحبه ،وألضع صورتك أمام كل رواية
سأكتبها ،وأمام كل حزن سأعيشه ،أعلم أنني تأخرت إلخبارك بهذا،
وأستيقن أنك صادقتني في صداقتنا ،ونحن على أبواب مناقشة البحوث يا
غل الحب ،وشدة أمله ،فنحن املهووسين نديم ،أخبرتك بما في صدري من ّ
بالقراءة ،مشاعرنا معطلة ،ال تشتغل إال عند الوداع ،ونحن القراء،
يصعب أن نجد شخصا يستحق الحب ،إن الصديق بمثابة كتاب يستحق
القراءة بعد االنتهاء من قراءته واالستمتاع به ،ومن ثمة فأنت صديق
تستحق الحب ،بعد سنتين من األحداث الشيقة املاتعة.
تأملت كالمها جيدا ،واألمر الحقيق بالقول ،أنني لم أقل شيئا ،فقد
أبلستني بكالمها ،ولم تترك لي فسحة للحديث ،قلت لها :إن هللا هو من
يلقي بالحب في قلوبنا ،وال مدعاة إلنكاره ،أقول هذا الكالم ،وفي قلبي
ضرب من معاني "إنما" كما يقول الجرجاني ،كتمت كل ما في قلبي ،وهدأت
خاطرها بأن إحساسها تجاهي ،شرف ال متناه ،نخاف أن نحرقه ،حتى ال
ّ
يخلف في قلبنا نارا ال متناهية ،اعتبرتها جودو املنتظر ،ولكن والحق يقال،
فال نستحق نحن أبناء الجنوب الشرقي حبا ،وما شابه ،نحن في قرى
منسية وفي مكان منس ي معتوه ،يملؤه الحقد والبغض ،عاطلون عن
العمل ،قريبون من التشرد ،بعيدون من السعادة ،ومتشبثون بالتشاؤم،
يائسون من الحياة ،بعيدون عن الحياة والحب .ولكن متشبثون بالحياة،
مرافقون لألمل ،وصادقون في كل ش يء ،صادقون في الحب ،ولكن لن
نفعل به شيئا حتى وإن اعترفنا به .إنها تحبني حقا ،وأحبها ،لم أخاصمها
يوما ،ولم تخاصمني ،رغم اعترافها بحبي فقد بقينا أصدقاء دون أن نعاتب
بعضنا.
152
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ومنذ شتاءة ذلك اليوم ،في الخزانة ،لم نر بعضنا ،كنت أقول :كيف
يحدث ذلك وقد ألقت بما في قلبها لشخص تافه؟ ال يعرف في الحب سوى
الصمت ،فلتكن في أمان ،إنني أحبها ،بكل أحاسيس ي ،لكن الحب وحده في
هذا الزمان ال يكفي ،حتى لو كانت التي تحبك حبا ال مقاس له ،فأحيانا
يكون الواقع املحدد الرئيس لطبيعة استمرار األشياء من عدمها ،ويكون
أيضا أساسا محددا لتحقق أحالمنا وخياالتنا ،الحلم بالحياة السعيدة في
واقع ال يعرف إال تباشير اإلله الجديد فهو أمر مستحيل ،فإلهام كانت
مثالية ،تظاهرت بأخالق محمودة طيلة املوسمين ،غاية تحقيق مسعاها،
حتى األخالق التي نتلبس بها ،أمست أداة سحرية اغوائية عند الحقراء،
جميع الناس يجرون أذيالهم ويرفعون رؤوسهم ،للوصول إلى مبتغاياتهم
املنشودة .إنني تعبت من فقدان الناس الذين أحبهم ،وال قدرة لي على
فقدان ندى ،إنني ال أحب الوداع ،ولكن للواقع كلمة الحسم في هذا.
153
جعفر لعزيز اإلله الجديد
17
حيوان أنفوميديا" :إعالمي سياسي"
وصلت معك عزيزي القارئ محطة اللقاء األخير ،فقد اشتقت
ملحاورتك والحديث معك ،ومبادلتك بعض األحاديث ،سأحدثك في هذا
اللقاء عن حيوان أنفوميديا ،أو ما يسمى اإلعالمي السياس ي ،وقرأته في
كتاب ال أتذكر اسمه واسم كاتبه ،إال أنني أتذكر باألساس مضمونات
الكتاب وموضوعاته ،وإن كنت قارئا عميقا فستؤوب إليه لترى ذلك ،املهم
أننا في لقاء أخير ،وفي موضوع آخر وأخير ،دعنا نتحدث عن طبيعة اإلعالم
في مغربنا الحبيب ،مغرب املأساة والضاللة ،فحيوانات أنفوميديا كثيرون
عندنا ،إعالميون ضالون فاشلون ،ال انتماء لهم سوى الدفاع عن
السياسية الفاسدة ،ونشر التفاهة والغباء في الناس ،ما تكرسه الجامعة
من جهل ،يتمه اإلعالم بجهل آخر ،الصحفيون النزهاء في وطننا سرعان ما
تبتلعهم اإلغراءات املادية ،واألموال الطائلة التي تعرض عليهم ،لتغيير
بدلتهم ومواقفهم تجاه سياسة البالد ،وانتقالهم من معارضين إلى مؤيدين.
بدا لك أن معتقدات اإلله الجديد ترسخت في جميع األمكنة ،حتى
في السياسة امللعونة ،السياسيون اإلعالميون ملعونون ،املدافعون عن
تظلمات الدولة ومفاسدها ،ويجعلون ما تفعله األحزاب شيئا محببا لدى
الشعب ،الصورة اإلعالمية صورة توحي بحيونة اإلنسان ،وتكريس سياسة
الجهل والعبودية والجمود والكسل ،وما شابه هذه املسائل.
إن أشد معضلة يمكن أن تحل باإلنسان ،هو حينما ال يجد من يبلغ
صوته ورسالته ،ومن يدافع عن مطالبه ،حينما يجد إعالمه إعالما
154
جعفر لعزيز اإلله الجديد
سياسيا ومن ثمة حيوانيا ،ال ينقل إال الفضائح واملطبات ،قد تعرف
عزيزي القارئ ،شخصيات إعالمية لم تتضامن ولم تترابط مع السياسة
فكان مصيرها الخفوت والفشل ،والسجون ،وتعرف شخصيات عارضت
النظام السياس ي ،ونقلت الفضائح البرملانية فكان مآلها العقاب في سجن
يتجرعون فيه مآس ي كثيرة ،ويتذوقون فيه أشد العقابات ،ويجلسون على
قرعة نكحت املاليين من األبرياء الذين دافعوا عن مطالب الناس ،فولدوا
األلم والبكاء ،أي حسرة عزيزي القارئ تشدنا وتشدك إذا رأيت اإلعالم
املشهور عندنا ،ينقل فضائح الكبت والجنس والقتل واالنتحار والخبث،
هم أسرع من سرعة الضوء في نقل جميع الفضائح ،وهم أثقل من
السلحفاة في نقل مطالب الشعب ومعاناتهم ،نأسف األسف الشديد
عزيزي القارئ ،الصمت ألذ ش يء لنتقبل ما نسبح فيه ،ولنكن مع هللا وإلى
هللا مصيرنا ،هللا الذي رتب هذا العالم ترتيبا مثيرا ،وهذه عبارة من الرمل
للويس خورخي بورخيس ،فاهلل قادر على أن يزرع في قلوبنا ما نستطيع به
العيش مع متبعي اإلله الجديد ،والقادر على منحنا قوة غير محصورة من
الصبر ،لنتأمل نوافذ هللا ،ولنتدبر خلقه ،ولنترك اإلنسان فهو فاجعة
صغرى ،نتذوق مفاجعها كل يوم ،حتى في الحريم الجامعي ،وقصدي الحرم
الجامعي ،وأذكرك بقول يعجب ندى أن تردده دائما ،وأحسبك تعرفها
جيدا ،وأكثر مني ،إنها تردد عبارة مليالن كونديرا من رواية البطء ،وهو
قوله" :من يتأمل نوافذ اإلله ال يسأم ،بل يكون دوما سعيدا".
تأمل نوافذ هللا يبقينا على استمرارية لتقبل هزيمة الحياة عزيزي ُ
القارئ ،وتقبل حيوانية أنفوميديا ،وتجرع جميع مآسينا ،ومن لطيف ما
قرأت البن عربي في رسائله ،وأحب أن أشاركه معك في وصله بفكرة تأمل
نوافذ اإلله ،قوله" :ما خلقت لك اإلدراكات إال لتدركني" ،معنى هذا أن هللا
155
جعفر لعزيز اإلله الجديد
تعالى منح اإلنسان حواسه إلدراكه والتأمل في بدائعه دون مجاوزتها إلى
ُ
ش يء آخر ،ويتطابق هذا القول مع نص لإلمام السهيلي وجدت ُه في صنيع
البغدادي "خزانة األدب"؛ إذ يقول :إن الصيغة الصرفية والتركيبية
للحواس اإلدراكية لدى اإلنسان تتعدى إلى مفعول واحد فقط" ،وفس ُر
هذا أن حواسنا منحت لنا لعلة غائية واحدة ،هي إدراك عظمة هللا
عزوجل ال غير ،ويتطابق هذا املعنى مع صيغة املدركات والحواس
الصرفية ،لكونها تتعدى إلى مفعول واحد فحسب ،ومن ثمة فتتناسب مع
فكرة أن هللا منحنا إياها لندركه وحده ونتأمله ،دون تأمل ش يء آخر ،ونحو
هذا قولنا" :سمعت الخبر ،وأبصرت األثر ،ومسست الحجر ،وشممت
الطيب ،فهي أفعال ذات خصيصة ربانية نورانية ،أساسها إضاءة طريق
االستقامة وازاحة ظلمة الحياة ،فلنزح ظلمة الحياة وعبثها وفسادها،
بعدم حمل الحياة على محمل الجد ،وعدم التفكير في تغييرها إلى األحسن،
وبتأمل عالم الالهوت ،وإن كنت ال أحب الوداع أيها القارئ ،فالوداع سنة
الحياة.
156
جعفر لعزيز اإلله الجديد
18
فاجعة الوالدة
اإللقاء باألطفال في هذا العالم اليائس واملرعب ،عمل فظيع ومؤلم،
بسبب أنانية تواقة ،غايتها تحقيق السعادة ،وإن إنجاب األطفال أفظع
جريمة يقترفها اإلنسان ،وصدق سوفوكليس ملا قال" :الحظ األعظم يعود
ملن لم يولد بعد" .الحياة غبية ومرعبة ،ال ينبغي حملها على محمل الجد،
ال تعلمك شيئا ،وال تفيدك بش يء ،وأكذب ما يكتب قولهم :علمتني الحياة،
وأبخس ما يكتب قولهم ،كن سعيدا ،وكيف تحقق السعادة؟ صورة
الحياة بخيسة وزائفة ،تلميعها للناس ش يء نأسف عليه كثيرا ،وتحبيبها
إلينا أمر مجحف حقا ،هذه هي العبارات التي يرددها سعيد ،ويعيدها كلما
جلست معه في البيت ،تلك الضحكة والبسمة التي ينعم بها وتمأل محياه،
تالشت وإن وما زاده بؤسا ،أنه صار يمقت شيئا اسمه الفنون الجميلة،
إنه أصبح متشبثا بفكرة شوبنهاور ،إن املرأة تسهم في امتداد الشر
وتوالده ،لم تعد له الرغبة في الخروج ،يكرس اهتمامه على دراسته فقط،
دائما يسألني إنني أود الثأر على الوضع ،أريد البحث عن حقوقي ،أصبحنا
نتشارك في التشاؤم واملأساة ،صرنا الوحيدين البائسين ،نتألم وال أحد
يسأل عنا ،أما نحن فما إن رأينا أبسط حالة سنتضامن معها ،ونكون
إنسانيين مفرطين في إنسانيتا.
ّ
آخر عقدة أملت بالصديق ،أنه علم بإقبال أمه على االنتحار ملا جاء
أبوه إلى بيت أمها ،فهددها بالقتل ،ما لم تأخذ إرثها ،شده الطمع إلى مالها،
ولم يشده الحنين إليها .يظنون أن األبوة هي جماع بائس وبشارة بمولود،
157
جعفر لعزيز اإلله الجديد
أيها الناس فما لم يكن اإلنسان قادرا على تحمل ثقل األبوة وشدتها ،فال
ينجب أبناء ،يلقي بهم في عالم املأساة ،ويلقي بنفسه في عالم الندم
والصرخات والضجر واملحاكم .األبوة ليس مسعاها اإلنجاب ،واملتعة
واللذة ،بل املسعى املنشود منها ،هو قدرتك على تحمل عبء ما ستنجبه،
إنك أمام فاجعة خرجت منك وتكبر أمامك وأنت ال تعرف كيف تحدد
مصيرها ،واستيقنت أن مصيرها موكول إلى هللا.
بعد حادث االنتحار ذهب سعيد لزيارة أمه رغم ثقل البحث الذي
ألم به ،ولكن ال مانع يقف أمامه إلكمال مساره الدراس ي ،وجد أمه في حال ّ
بئيسة مؤملة ،كأنها مقبلة على الوداع ،لم تتقبل صدمة زوجها ،كل هذا
رغبة في اإلرث ،رغبة في اتباع تباشير اإلله الجديد ،املال أفسد علينا
الحياة وقزمها ،لم يكد سعيد يتقبل حال أمه ووضعها ،واملشكل أنه عاجز
عن فعل أي ش يء ،تألم سعيد قائال ملا عاد من الزيارة :ينبغي باألساس يا
نديم قلب سنة الحياة ،فالوالدة مناسبة تقتض ي تعزية وعزاء ،مصحوبة
بأنشودة الصراخ ملدة يوم كامل ،واملوت بمثابة فرح لالنتقال من حياة
الفاجعة إلى حياة املجد والخلود ،مناسبتها الفرح والسعادة ،نظرا لتخلص
صاحبها من أعباء الحياة ومفاجعها.
أراد سعيد أن يحرك قلب العالم الجامد ،وقلوب الناس األصمة
والباردة ،وابتغى أن يوقظ مشاعرهم امليتة ،كان يحمل عن العالم صورة
األمن والسالم واملحبة والعدالة ،وبعدها اشتدت املعاناة عليه ،ولم يعد
قادرا على مواجهة مزق الحياة ،كان إنسانا فضيال ،ومفرطا في إنسانيته،
يقابل وجوه الناس املليئة بالحقد والبغض والنفاق ،ومفظعات مساوئ
األخالق ،بوجه بشوش وضاحك ،ال يتردد في مساعداتهم ،سعيد اسم على
158
جعفر لعزيز اإلله الجديد
159
جعفر لعزيز اإلله الجديد
160
جعفر لعزيز اإلله الجديد
العالم ،هكذا تكلم اإلله الجديد ،تمعن فكرة الشجرة العمالقة التي كانت
سببا في هذه املأساة ،الش يء الذي يعنف الدماغ أيها الصديق ،هل
نستطيع أن نعتنق دين اإلله الجديد؟ لن تجيب طبعا ،أعرف أنك لن
تصدق هذا ،ولن أحملك على تصديقه ،ولكن ال تأخذ الحياة على محمل
الجد.
مصمص صديقي شفتيه من شدة الحيرة والحسرة ،أصر على
اإليمان باإلنسانية واملحبة والسالم ،ولكنه أيقن تماما أن رئيس العالم
ينكر ذلك في تعاليمه ،هو اإلله الجديد أو إله هذا الدهر ،فقد أحكم
سلطته على الناس ،وأصبحت مساعيه في عقولهم املعنفة مشروعة
ّ
وتخبرني دائما يا صديقي ،أن اإلله الجديد ومحمودةّ .
خبرتني نفس ي
ّ
لإلنسانية قد علمهم االستمالة واالستدراج والتلبس والتالعب ،وأشياء
كثيرة ،يتقنونها بدقة ،لدرجة أنه قد ألبسهم قناع الخبث في صدورهم،
يتجرعون الحقد والكراهية كل يوم ،هم ال يعلمون ما بك ،ولن يحاولوا
ولو مرة ،تستكن إلى نفسك ،وتبادر إلى تحقيق رغباتهم ،يصرون على أن
تشتري لهم السعادة ،وأنت مت فإنك البئيس الذي ال إحساس له ،إنهم
يردون منك أن تكون عبدا ،تحقق جميع طلباتهم ،يعرضون عليك
ينومونك بمشاعرهم الكاذبة ،لتفتح لهممشاكلهم بالجملة لتستجيبّ ،
قلبك ،وتطلب أن تساعدهم.
لقي من إلهام ما لقي ،التي رأته أثناء مناقشة البحوث ،وأدارت وجهها
عنه ،قلت له :هذا هو اإلله الجديد صديقي ،ال يطلب منك أن تمتلك
الفضيلة ،يكفي أن تتلون وأن تلبس ستارة الشيطان املمزقة بالنفاق.
فكن لك يا صديقي ،وال تكن لغيرك.
161
جعفر لعزيز اإلله الجديد
وفي اليوم الذي اجتمعنا فيه ملناقشة بحوث املاستر ،أو شبه
املناقشة أو صورتها فقط ،فقد بدت املناقشة مملة ،نعلم أن املناقشة في
الجامعة قائمة على املجاملة ،مناقشة األكلة السريعة ،دون حضور ودون
فخر ،ودون تقدير ملجهود طالب سهر الليالي ،ولم ينم قط ،مروا على
البحوث مرور الكرام ،حتى قراءة ما أنجزناه تمت قراءته قراءة باهتة ،وفي
ذلك اليوم جاءت ندى تحدثني بقولها ،أرى أن حالة سعيد ليست على ما
يرام ،وهو ينتظر دوره في املناقشة ،حالته أشد سوءا من حالتك؟
تقول ذلك وأنا أنظر فيها وفي مالمحها ،وفي لحظة قولها أحبك وال
أحب الوداع ،غرقت ساهيا فيها ،وأعدت عقلي إلى رأس ي فقلت لها :إن قلب
صديقي ملتهب بأحالم الحرية والعدالة ،وتعلمينه صديقا ال يفارق روايات
أدب السجون ،حديثي معه مطعم دائما بأقوال الثوريين واملناضلين ،نظل
نتناقش في الثقوب السوداء املرتسمة في عقول الناس ،يجد نفسه غريبا
وسط شعب تالشت فيه اإلنسانية وكل مبادئ الحياة ،شهد أحداثا ال
تليق بالجامعة ،تلقى صدمات من أبيه ،تنغصت معيشته بسبب مرض
أمه ،بهت بمسرحية إلهام الغرامية املتقنة ،تشده الغصة في قلبه البئيس
حول ما يقع ،أصبح حاقدا وساخطا! يرى أن ال أمل ملستقبل زاهر ،في هذه
ُ
البالد السعيدة ،اتخذ قرار الثورة على الوضع ،أخبره دائما أن يشد زاوية
راكنا فيها دون الخوض في هذه املتاهات ،فالدولة التسلطية عندنا
ملعونة ،كما قال العم إدريس ،لن يقدر على مواجهة فسادهم ،ال يعلم أنه
وسط شعب مليء بالثقوب؟ وتعلمين يقينا ماذا أقصد بالثقوب ،إنك
قارئة عميقة كما عرفتك.
162
جعفر لعزيز اإلله الجديد
163
جعفر لعزيز اإلله الجديد
فضممته إلى صدري ،تأملت كثيرا ملا يقع له ،لم يتمالك نفسه فاستمر في
البكاء ،لقد ذاب جسده في جسدي لشدة التهابه ،حزنت لصديقي ويئست
لحاله ،إعصار متوهج في داخله ،ملا سألته عن حاله ،أخبرني بأنه تلقى خبر
وفاة أمه ،التي مرضت منذ تهديد زوجها لها ،نحن املتأملون الصامتون،
البائسون املقمعون ،املتحسرون املتأملون ،نعيش وسط مستنقع أكلتنا
فيه البراغيث.
ملا كان هادئا بعض الش يء ،أخذ شربة ماء ،وأيقظت فيه أمل العيش
لنفسه وإلخوته ،القدر أراد أن يخطف منه عزيزة على قلبه ،التي يظل
يذكر أقوالها ،وأحالمها ،أفحمته أن ال أحد يستحق كل حزنك وغيرتك
وحقدك ،دعك لنفسك اآلن ودافع عن أحالمك الذاتية ،وكن عونا
ألسرتك ،واسيته ذلك اليوم ،وكنت بجانبه ،فقرر بعد غد السفر لحضور
جنازتها.
وملا علم سبب وفاتها ،أخبرني ،أنهم نقلوها إلى املستشفى وتركوها
تنتظر في العراء ،وبعد أن رأوا فيها امرأة ال تملك ماال ،وال قيمة لها ،وبقيت
تنتظر إلى أن وافتها املنية ،إننا نعلم يقينا أننا محاطون بخطر يهددنا كل
لحظة ،نعلم أننا مقادون نحو الهالك ،نحس بأن العالم على وشك
الخالص ،نتألم كثيرا لحالنا البائس العابس ،نحن في وطن ال يملك أبسط
الضروريات وال يوفر لشعبه أبسط املطالب ،وفي األخير ينبغي أن نقر بهذه
األمور ،وأن نقتنع أن ال مجال لألفضل ،أو لإلصالح ،ولكن هذا لن يمنعنا
من استصحاب األمل ،واإلحساس بالهدوء ،والتحرر من الفزع ،وترك
فسحة للنجاة ،سنكون مجبورين على التعاون والتالحم مع أبعاضنا
لنتجاوز هاته املحنة ،محنة الحياة وعلتها ،ولنتفق فالبلد غير مؤهل
164
جعفر لعزيز اإلله الجديد
ملواجهة حرب مثل حرب مرضية قد تلم به ،أو فاجعة قد تصيبه ،كلنا
نعلم السبب في ذلك ،وبها تمنى كل واحد منا الهجرة إلى الخارج ،لعدم
ارتضائه وضع الدولة البئيس ،نرى أنفسنا مسوقين نحو أمور ال محمدة
فيها ،فالبلية حتما ستزول وستنتهي ،ونهايتها الذهاب إلى عالم ال حقد فيه
وال حسد ،لن تكون املصائب واملعاناة حاجزا مانعا لخلق حياة سعيدة،
لنعش حياتنا املعهودة ،لنتعاطف ونتسامح ،لنجعل العالم عائلة واحدة،
سننتصر على مطباتنا بتربية جيل حقيق بالوالدة على أخالق إنسانية،
لنشعر بالهدوء والسكينة ،ولنتحرر من الخوف ،وإذا أصبنا بالوباء في
بلدنا أو مرضنا في بلدنا ،وقادنا األمر بالذهاب إلى مستشفى نعلم حاله
ومصيبته ،فسنحمد هللا على مرضنا دون البقاء في مرتع حشرات عفوا في
مستشفى بلدنا الحبيب.
إن أوفى املنازل إلى أولئك الناس الذين لم يأخذوا بالفضائل والقيم،
القبر ،هو القادر على الحد من حقارتهم ،ومن نشر مفاسدهم التي يدعو
إليها اإلله الجديد ،وأدل ما أستحضره قول أبي العالء املعري:
ونعوذ باألخالق من أمم أوفى املنازل منهم القبر
انتهت محطة النصر ،تحصيلها حصولنا على شهادة املاستر،
واالقتراب أكثر من الحزن ،واالبتئاس من الواقع .في النصر سأتذكر ندى،
وسأحبها بشغف ،سأشتاق لسعيد ،وسيظل في ذاكراتي وسأحافظ على
حزني ،سأنقذ أسرتي ،سأعيش بدعاء أمي وسند أبي ،سأصير يوما ما أريد،
وسأعشق األحزان؛ ألنها السند في وحدتي ،ال تلموني على كثرة التشاؤم؛
ألنني صارحتكم بما يفتيه عليكم خاطركم من مزق الواقع وشؤمه...
رواية اإلله الجديد ،زاوية سيد الناس ،السبت 28يوليوز2021م
165
جعفر لعزيز اإلله الجديد
الفهرس
إهداء 3 ..........................................................................................
موت اإلنسانية9..............................................................................
167
جعفر لعزيز اإلله الجديد
168