Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 168

‫جعفر لعزيز‬

‫اإلله الجديد‬

‫رواية‬
‫املؤلف‪ :‬جعفر لعزيز‬
‫الطبعة األولى‪2021 :‬‬
‫لوحة الغالف‪ :‬للفنانة حفيظة مسلك‬
‫التصفيف واإلخراج‪ :‬محمد عبيد‬
‫جميع الحقوق محفوظة للمؤلف‬
‫اإليداع القانوني‪2021MO3878 :‬‬
‫ردمــك‪978-9920-550-77-2 :‬‬
‫الناشر‪ :‬جامعة املبدعين املغاربة‬
‫الهاتف والواتساب‪0673224191 :‬‬
‫البريد اإللكتروني‪gh-mhd@hotmail.com :‬‬
‫جامعة املبدعين املغاربة‪ :‬جمعية ثقافية فنية أسست بتاريخ ‪ 10‬يوليوز‬
‫‪2010‬‬
‫صفحتنا على الفيسبوك‪ :‬جامعة املبدعين املغاربة‬
‫‪L’Assemblée Créateurs Marocains‬‬
‫العنوان‪/ :‬دار الشباب سيدي مومن ‪ /‬شارع الحسين السوس ي سيدي‬
‫مومن الدارالبيضاء‪.‬‬
‫يعبر املنشور عن رأي صاحبه‪ ،‬وال يعبر بأي حال من األحوال عن رأي‬ ‫ّ‬
‫الجمعية‪.‬‬
‫الطبع‪ :‬مطبعة وراقة بالل – فاس ‪ /‬املغرب‬
‫الهاتف ‪ /‬الفاكس‪05 35 61 86 03 :‬‬
‫العنوان‪ :‬رقم ‪ 204‬شارع املدينة املنورة حي األمل ‪ /‬النرجس – فاس‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫اهداء‬
‫إلى الذين أحبهم‬

‫إلى القارئ الذي ينتظر أول بذرة من إبداعاتي‬

‫إلى البؤساء والضعفاء والطيبين‬

‫إلى من يتجرعون مأساة العالم كل يوم‬

‫إلى الذين يجدون ذاتهم في روايتي‬

‫إلى البسمة التي تنقذني من الضلالة‬

‫أهدي هذا العمل المليء بالأحزان‬

‫‪3‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تقديم‪:‬‬

‫( يا ليتني فيها جذعا )‬


‫الناقد املغربي (جعفر لعزيز)‪ ،‬شاب مهووس بالكتب والقراءة‪ ،‬لذلك‬
‫ُ‬
‫أعفي قارئ كتابه من التعجب لكثرة الشخصيات الكاتبة واملؤلفات الواردة‬
‫في روايته الذهنية هاته‪ ،‬فال يظنن ظان أنه يستعرض؛ بقدر ما هي طبيعة‬
‫املرء البيبليوماني الذي يريد أن يكتب كل ش يء عن لوعة و هم الكتاب في‬
‫أسطر‪ ،‬لذلك فكتابته أشبه بكرونولوجيا تحبل فيها الكتب من تالقح‬
‫السرود التي يطغى عليها تشاؤم مرده مثالية أفالطونية ملا يجب أن يكون في‬
‫ما يكون‪.‬‬
‫رواية ( اإلله الجديد ) يمكن اعتبارها من الكونديريات املعاصرة‪،‬‬
‫نسق تعتمل فيه روح النقد الالذع الساخر الحانق الحاقد‪ ،‬مع ثنائية‬
‫بطولية‪ ،‬والبطالن معا من ورق وواقعيان جدا‪ .‬ومع ذلك يحيران‪ ،‬فال هما‬
‫يحسبان على شخصين وال هما يحسبان على شخص الراوي نفسه‪.‬‬
‫تختلط سبل الحكي ومنعرجاته‪ ،‬شككت طويال أن البطل هو الراوي‬
‫هو الكاتب فاضمحلت مسافة األمان بين جدران السرد‪ .‬وسرعان ما تبعد‬
‫مفسحة املجال لتطرف تأويلي‪ ..‬وكل هذا أمر‪ ،‬وجرأة الطرح الذي ّ‬
‫يلوح‬
‫بالرواية إلى اإلقصاء من الجوائز بل محاسبة الكاتب رمزيا أمر آخر‪.‬‬
‫الى هنا انتهي من هذا التقديم الذي هو محاولة نقدية لفهم الكاتب‬
‫نفسه‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫استشراف‪:‬‬
‫أزعم هاهنا أن الرواية ستثير ضجة‪ ،‬سيتزعزع كل من سيقرأ العمل‬
‫وينطبق عليه‪ :‬وسيصرخ‪ :‬يا لوقاحة ناب هذا النابت !‬
‫وسينظر الى العمل كثيرون ‪ -‬منهم أنا ‪ -‬غابطين املؤلف على فضل‬
‫الريادة في الكشف عما يحدث داخل الحرم ‪ /‬املرح الجامعي‪ ،‬ولسان‬
‫حالهم يقول ما قاله ورقة بن نوفل‪ :‬يا ليتني فيها جذعا !‪.‬‬

‫الدكتورأيوب بن حكيم‬

‫‪6‬‬
‫"ما قيمة ذلك اإلله الذي ال يستطيع أن يصنع‬
‫كل ما يشاء"‬

‫طه حسي‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪1‬‬
‫موت اإلنسانية‬
‫أثقلت الحياة كاهل الناس‪ ،‬وأتعبتهم صوارف الزمان وأحداثه‪،‬‬
‫وتلبست القلوب السواد‪،‬‬ ‫تظنكت املعيشة على أهل هذه األرض الطيبة‪ّ ،‬‬
‫ﺗﻀﻨﻜﺖ‬
‫الشر‪ ،‬تنافت عالمات معرفة سرائر وظواهر‬ ‫ّ‬ ‫وتناسل الخيرون مع أهل‬
‫أهل الصفاء‪ ،‬تأرق جسد اإلنسان‪ ،‬وتعبست وجاهته‪ ،‬يحمل في قلبه أكثر‬
‫مما ال تطيقه حمله الجبال‪ ،‬في هذه األرض يحمل اإلنسان أكثر من‬
‫طاقته‪ ،‬يحرق حاله البئيسة ويهلكها بحثا عن ش يء قد يأتي أو ال يأتي‪،‬‬
‫الكل لـما يحدث لبؤساء العالم‪:‬‬‫كانت العبارة التي أرددها على مسامع ّ‬
‫"لتعلموا يا معشر البؤساء وعبدة الحزن أننا ال نعيش حبا للحياة امللعونة‪،‬‬
‫بل نعيش لنسارع اللحاق بمن يجعلهم ملك املوت في الئحة امليتين" إننا‬
‫ظنكة‪.‬ﺔ‬
‫نعيش معيشة ﺿﻨﻜ‬
‫ألقت بي الحياة إلى العالم داخل غرفة سوداء‪ ،‬معتمة‪ ،‬بتأملات أمي‬
‫ّ‬
‫وحيدة‪ ،‬ما أعانها على قطع حبلها السري أحد قط‪ ،‬خرجت من رحمها‬
‫الحنون‪ ،‬بصرخة مدوية‪ ،‬وسط ظالم حالك‪ ،‬فوالدتي وحيدا‪ ،‬إعالن‬
‫للسوداوية ضد جفاف الحياة اإلنساني‪ ،‬سمعت من خالتي رميساء ما‬
‫عاشته أمي وسط عائلة مليئة بالجوعى واملتزمتين‪ ،‬وعديمي الضمير‪،‬‬
‫الذين يقتاتون من ألم الناس‪ ،‬ويشبعون معدتهم بجعلهم محط أحاديث‬
‫ال تنتهي إال بانتهاء الشخص املتحدث عنه‪ ،‬ويسدون عطشهم من دموع‬
‫البريئين‪ ،‬فمن البشر من تؤمله سعادتك‪ ،‬وتحزنه وسامتك‪ ،‬ويبغضه‬
‫ّ‬
‫فرحك‪ ،‬هكذا كانت حياة أمي‪ ،‬التي زف بها إلى جهنم‪ .‬أجالس أبي فيكتم‬

‫‪9‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫عني سيئات حياته وحياة زوجه‪ ،‬ألن الرجال أقدر على حمل ثقل الزمان‬
‫وصعابه وكتمان مساوئه أكثر من النساء‪ ،‬وحينما أجالس أمي التي شبعت‬
‫أملا‪ ،‬وأقبلت على االنتحار مرات ومرات‪ ،‬لسوء ما عاشته في ماضيها‪ ،‬فإنها‬
‫علي مكائد العائلة ومفاجعها؛ ألن قلوب النساء أضعف على حمل‬ ‫تتقيأ ّ‬
‫آالم الحب والحقد والكره من الرجال‪ ،‬هن أصدق في كل ش يء‪ ،‬من هنا‬
‫تكونت األحزان‪ ،‬ومن سجن مسقط الرأس بدأت‪.‬‬
‫لم أصدق أقاصيص أمي‪ ،‬فأثناء والدتي‪ ،‬دائما ما تحضرني فكرة‬
‫الوحدة‪ ،‬ولدت وحيدا‪ ،‬وسأنام في قبري وحيدا‪ ،‬وسأحاسب وحيدا‪ ،‬أعانق‬
‫وحدتي‪ ،‬وأؤنسها‪ ،‬أحدث أمي أن تحدثني عن طفولتي‪ ،‬ألعلم عنها دقائق‬
‫األمور‪ ،‬رغم ذلك فلقد تناس ى صاحبنا هاته األحزان‪ ،‬ألنني مقبل على‬
‫أحزان أخرى‪ ،‬التي أشمها حتى من رائحة الطعام‪ ،‬حينما تطالني أعين‬
‫جدتي وتتصيدني كلما أردت أن ألقي اللقمة في فمي‪ ،‬أبادل ذلك بالبسمة‬
‫فقط‪ّ .‬‬
‫أي وعي كنت أمتاز به وأنا صغير؟ أحدث نفس ي فأقول‪ :‬نديم ال يعلم‬
‫أنه داخل منبت ذاقت فيه أمي جرعات برودة الدم‪ .‬الحقارة تعم كل مكان‪،‬‬
‫هي في دواخل الناس‪ ،‬هي في الشارع‪ ،‬هي في جانبك دائما‪ .‬وأنا صريح مع‬
‫نفس ي‪ ،‬حتى في صغائر األمور‪ ،‬وأحب أن أصارح القارئ‪ ،‬ليصارح ذاته‪،‬‬
‫وأن الحقراء سيعترضون طريقك‬ ‫أن الدناسة أمامك فلتحذرها‪ّ ،‬‬ ‫لتعلم ّ‬
‫وأن األغبياء سيحشرون أنوفهم في حياتك‪ ،‬فال تكثرت‬ ‫فتجاهلهم‪ّ ،‬‬
‫وأن الجهل والجهالء سيتلونون لإلطاحة بك‪ ،‬فال تبتئس بما‬ ‫لثرثرتهم‪ّ ،‬‬
‫وأن البؤس سيأتيك من كل جانب فعانقه وكن من البائسين‪.‬‬ ‫يفعلون‪ّ ،‬‬
‫نرغب في عيش حياة آمنة‪ّ ،‬‬
‫ولكن الرغبة تتحطم كلما خرجت إلى الشارع‪،‬‬
‫فأول ما ستراه طرف العين‪ ،‬عاطلون يبحثون عن العمل‪ ،‬متشردون‬
‫يطلبون ماال‪ ،‬مرض ى ملقون خارج املستشفى‪ ،‬أعين مليئة بالدموع‪ ،‬وجوه‬

‫‪10‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫حذرة تكتم بكاءها‪ ،‬شباب متسكعون وحيرى‪ ،‬يعضون أصابعهم‪،‬‬


‫ويلتفتون يمنة ويسرة‪ ،‬بائعون هلكى باعتداءات الفاسدين‪ ،‬حزينون لهذا‬
‫السبب‪ّ ،‬‬
‫ألن الرنة املوسيقية التي نسمع صداها في كل مكان‪ ،‬هي التأفف‪،‬‬
‫وأحسب القارئ على علم يقين بهذه الرنة‪ ،‬اتي تحفر قلبه وتجعله يلمس‬
‫صدره ليسمعها‪ .‬حزينون ليس ألننا عشنا طفولة أليمة‪ ،‬بل ألننا في موطن‬
‫تعني فيه السعادة تركه والرحيل عنه‪ ،‬طفل في سن صغيرة‪ ،‬يفقد الثقة في‬
‫ٌ‬
‫وفظيع‪.‬‬ ‫مسقط رأسه‪ ،‬فهو أمر مؤلم‬
‫الحياة النقية اختلطت مجاري أمواهها بمجار عكرة‪ ،‬نتجرع في كل‬
‫يوم نعيشه جرعات من الصبر‪ ،‬لننال املقدرة ملواجهة متاعب أحقاب‬
‫الناس‪ ،‬إنه موطن أهل‬‫هش‪ ،‬ال يليق أن يعيش فيه ّ‬
‫الزمان‪ ،‬مولدي‪ ،‬منبت ّ‬
‫الجنوب‪ ،‬بلد يجمع املحاسن واألضداد‪ ،‬واملفاجع واألفراح‪ ،‬والخبائث‬
‫واملطايب‪ ،‬ومنشأ أحكمته بشاعة عائلتي املمتدة‪ ،‬التي لم تضف ّ‬
‫إلي إال‬
‫اسمها العائلي‪ ،‬نديم حسرة‪ ،‬كان املالذ الذي يجعلني أستمر في معانقة‬
‫مزحة الحياة‪ ،‬هو مجمع أسرتي الضاحكة الفقيرة املاتعة‪ ،‬همي األول‬
‫واألخير أن أنقذهم من البأساء‪ ،‬وأن أفتحهم على نعيم الدنيا ومتاعها‪،‬‬
‫بعدما كانوا في جحيم من أهلكونا‪ ،‬وأتعبونا‪ ،‬وأجحفوا طفولة اخوتي‪،‬‬
‫أن هناك نوعا من البشر‪ ،‬همهم‬ ‫العجيب غير املصدق في هذا العالم‪ّ ،‬‬
‫األسمى الهتك‪ ،‬يهتكون عرض الناس‪ ،‬ويتلذذون بذلك‪ ،‬يهتكون أعراضهم‪،‬‬
‫ويفخرون ويحدثون اآلخرين بذلك‪ ،‬يهتكون أقاربهم ويالسنونهم في الظاهر‬
‫بحلو الكالم‪ ،‬وفي الخفاء بخبثه‪ ،‬لقد كثر الحقراء‪ ،‬وتتكاثر نسائلهم‪،‬‬
‫وتبددت خيوط السالم‪ ،‬وتهشش بيت اإلنسانية‪ ،‬وصار بيتها أهون من‬
‫بيت العنكبوت‪ ،‬ولم يعد للطيبين أثر‪ ،‬تبلعهم األرض‪ ،‬ترفع أرواحهم إلى‬
‫السماء‪ ،‬هم محميون من الخبائث‪ ،‬فسرعان ما تحضنهم األرض تحتها‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫خشية أال تتسخ روحهم املضيئة بمدنسات الخبيثين‪ ،‬إنهم من الناجين من‬
‫فسق عاملهم بأعجوبة‪.‬‬
‫أحدث‪ ،‬شيخي الزاهد العابد املتنور‪ ،‬وأتحاور معه‪،‬‬ ‫ودائما ما ّ‬
‫ألتخلص من زوائد املنافقين‪ ،‬وكسائر الحياة‪ ،‬وأتعابها‪ ،‬كنت أتردد إليه‬
‫دائما بعد صالة املغرب‪ ،‬إنه وقت بداية الصفاء وانتهاء أعاجيج البشر‬
‫وضجيجهم‪ ،‬وقت ينسم فيه املنعزلون والهاربون واملتفردون بنسائم املساء‬
‫وعليله‪ ،‬وكلما زرت الشيخ صالح أصلح هللا حاله‪ ،‬يقول لي‪ :‬أهال بذي‬
‫الطباع الحسنة‪ ،‬والوجه املنير‪ ،‬مؤنس ي في الوحدة‪ ،‬افتح الباب وادخل‪،‬‬
‫فتح هللا عليك بني‪ ،‬أدخل إلى بيت شيخ بوجه وأخرج بوجه آخر‪ ،‬والبيت‬
‫إلي‪ ،‬مأوى الطمأنينة والهناء‪ ،‬والضحك واملالذ‪ ،‬بيت الشيخ‬ ‫آمن بالنسبة ّ‬
‫الناس‪ ،‬وسألته مرة عن أسرار‬ ‫بعيد عن سكنى القبيلة‪ ،‬وبعيد من ضجر ّ‬
‫وسر بنائه‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬لقد دلتني الحياة يا نديم ّأن أساس عيشها‬ ‫بيته ّ‬
‫تجاوز أعشاش الناس‪ ،‬فقد فقدت والداي بسبب الحسد‪ ،‬اضطرت من‬
‫خالله العمة بوضع أكل مسحور يسمى بالتوكال‪ ،‬لتخريب محبة أبي وأمي‪،‬‬
‫وعالقتهما الزوجية‪ ،‬فلم يتم تخريب العالقة فقط‪ ،‬بل فقدا عقلهما‪،‬‬
‫وذهبا إلى الغابة فانتحرا معا‪ ،‬وكنت آنداك في سن الثالثة عشر‪ ،‬أعلمت‬
‫بكيد ما حصل من املقربين‪ ،‬فابتعدت ألكون غريبا‪ ،‬وقررت الرحيل عن‬
‫سود حياتي‪ ،‬فبنيت هذا البيت‪،‬‬ ‫العائلة‪ ،‬واالبتعاد عن السواد‪ ،‬الذي ّ‬
‫فأنشد الشيخ قول الشاعر العربي‪:‬‬
‫الع ْل َيا ُم َش ّيدهُ‬ ‫َ‬
‫واحتل في ذ ْر َوة َ‬ ‫ص َع ُد ُه‪ْ ...‬‬‫للف ْخر َم ْ‬
‫ََْ َ َْ َ َ َ‬
‫بنيت بيتا سما‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫األ ْف َق حتى ِخل َت ُه َك ِلفا‪ ...‬قد َ‬
‫ْ‬
‫طال ِمن َو ْج ِده فيه تل ُّد ُد ُه‬ ‫قد عانق‬
‫ط ُم ْس َت ّنا َت َو ُّق ُدهُ‬
‫َ ْ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ ُ ََْ‬ ‫ُّ‬
‫ورفي دو ِره ِلعب ومؤتلق‪ ...‬يعلو وين ِح‬ ‫للن ِ‬

‫‪12‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف ُمدرع‪َ ...‬ي ُس ُّله في ُّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َّ‬


‫الد َجى ط ْورا َويغ ِم ُد ُه‬ ‫كأنه صارم في ك ِ ِ‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫َْ ُ َ ُْ‬ ‫ُ‬ ‫اسه َم ْج ُده ُ‬ ‫َأ َس ُ‬
‫ضله والسقف ُسؤ َد ُد ُه‬ ‫ود َحا ِئطه‪ ...‬وأرضه ف‬ ‫والج ُ‬
‫َ ُ َ ْ َ َْ‬
‫الب ْيت نغشاه ونق ِص ُد ُه‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ض َب ْيت هللا ن ْع ِرف ُه ِذكرا وذا‬ ‫َْ‬ ‫ََْ‬
‫بيت ِان في األر ِ‬
‫الشيخ صالح‪ ،‬صاحبته‪ ،‬طوال سنوات دراستي‪ ،‬من السن اإلعدادية‬
‫حتى حصولي على الباكالوريا‪ ،‬وفي صحبته هاته‪ ،‬تذوقت نسمة الوحدة‪،‬‬
‫وأدركت معها قيمة نفس ي‪ ،‬فاستوت لي خرائط الحياة‪ ،‬ألن قلب شيخي‪،‬‬
‫ّ‬
‫السن‬ ‫الذي أشرف على سن التسعين مليء بالقبسات الربانية‪ ،‬كبار‬
‫مليئون بالحكمة‪ ،‬والكالم السديد؛ ألنهم تشربوا الحياة وعلموا حلوها‬
‫ّ‬
‫ومرها‪ ،‬وجيدها وسقيمها‪ ،‬وسليمها وسيئها‪ ،‬كلما عجزت عن فهم عويصة‪،‬‬
‫أو اشتقت إلى فهم مشكل‪ ،‬أوي إلى شيخي‪ ،‬الذي يخرج من فيه كلمات ترفع‬
‫قلبك إلى درجة اإليمان‪ ،‬وتخرج عقلك من حيرته الدائمة‪ ،‬قلت إنني‪ ،‬أدخل‬
‫إليه بوجه‪ ،‬وأخرج عنده بوجه آخر‪ ،‬ابحثوا في حياتكم عن رجال كهلى‪،‬‬
‫فإنهم يالمسون قلوب الشباب‪ ،‬ويفهمون سرائرنا‪ ،‬لقد مرت الحياة أمام‬
‫أعينهم‪ ،‬وال يعجزه أن يريك ما يؤملك‪ ،‬فمن أول نظرة رأيت فيها الشيخ‪،‬‬
‫أدرك أنني ميت باالنتظار‪ ،‬وأبحث عن أمل يأتي أو ال يأتي‪ ،‬وجدني قرب‬
‫بيته‪ ،‬متكئا تحت ظل شجرته‪ ،‬أتأمل حالي‪ ،‬وحال أسرتي‪ ،‬فالمس رأس ي‬
‫قائال‪ ،‬وصوته خافت ال يكاد يسمع‪ ،‬لوال قربه مني‪ ،‬ستفرج يا صغيري‪،‬‬
‫وستنال ما تنتظره‪ ،‬أبشر باعتزال ما يضرك وستصل‪ ،‬خفق قلبي قليال ملا‬
‫سمعت الصوت‪ ،‬والتفتت إلى ورائي‪ ،‬فوجدته يتكئ على عكازه‪ ،‬وجهه مليء‬
‫بتضاريس االنتكاسات‪ ،‬واألحزان‪ ،‬والهموم والصعاب‪ ،‬ووقفت فقبلت يده‬
‫ورأسه؛ ألنه من عاداتنا تقبيل يد ورأس الكبار‪ ،‬فجلست معه‪ ،‬فقدم لي‬

‫‪13‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫لبن معزته الواقفة بجانب كلبه‪ ،‬والتي تصاحبه في غدوه ورواحه‪ ،‬فتحدث‬
‫ّ‬
‫إلي بكالم حكيم‪ ،‬منحني طاقة العودة إلى مواجهة صعاب الحياة‪.‬‬
‫نبحث عن إنسان‪ ،‬يعترف باإلنسانية‪ ،‬مثل شيخي‪ ،‬ففي موت‬
‫اإلنسانية‪ ،‬يموت اإلنسان‪ ،‬وال يموت الذي يحيها ويدخل في امللعونين من‬
‫يميتها‪ ،‬لقد أمس ى اإلنسان بال قلب وبال ضمير‪ ،‬تالشت إنسانيته ولم يعد‬
‫يفكر إال في الهالك‪ ،‬تعامت بصيرته‪ ،‬والذت به األيام إلى الفناء‪ ،‬يخامرني‬
‫الشك دائما‪ ،‬وأتساءل هل يمكن للعالم أن يعيش يوما بال حروب ومأساة؟‬
‫هل يمكن للبشرية أن تحقق السعادة؟ هل يغيب الظلم واالستبداد؟ ال‬
‫أعلم سر هذه الخصومات‪ ،‬والهدف من صناعة األسلحة‪ ،‬هل مات فينا‬
‫اإلله؟ تقاد البشرية أمام آلهة أخرى تماما‪ ،‬تعبدها أكثر مما تعبد هللا‬
‫الواحد‪ .‬نظن أن الحياة بعد فاجعة الوالدة معاناة ال مفر منها‪ ،‬أرى أن‬
‫لحظة الصراخ أثناء الوالدة صراخ ضد العالم اليائس‪ ،‬وبكاء على تأملاته‬
‫الفظيعة‪ ،‬إن الراحلين من هذه الحياة لم يخسروا شيئا باألساس‪ ،‬فهم‬
‫محظوظون كثيرا‪ ،‬وسعيدون جدا‪ ،‬فقد تخلصوا من عبء فوض ى الحياة‪.‬‬
‫في لحظة حميمة وسعيدة يجتمع فيها الزوجان فينجبان من خاللها‬
‫مأساة إنسانية‪ ،‬األشياء التي تبدأ بطرفة دائما تنتهي بمأساة‪ ،‬ال أدري‬
‫سبب فخر األمهات وهن يحملن في بطونهن كارثة مستقبلية‪ ،‬فلو كنا‬
‫نقيس لحظات األلم التي نمر منها أثناء الوالدة ملا تمنينا أن نولد‪ ،‬تضببت‬
‫الحياة بالنفاق والكذب‪ ،‬والحقد والبغض‪ ،‬نعتقد أننا نشق طريقا آخر‬
‫نحو الهالك‪.‬‬
‫لن أحمل نفس ي على تغيير العالم‪ ،‬والتشغب من أجل إصالحه‪ ،‬ال‬
‫ضرورة من الثرثرة للنداء باإلصالح‪ ،‬وإنشاد حياة سعيدة‪ ،‬يكفي أن يزيد‬

‫‪14‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫اإلنسان خرابا وفسادا في األرض‪ ،‬ليغضب عليه هللا تعالى‪ ،‬وينهي مكر‬
‫ومأساة هذه الحياة‪ ،‬هللا رحيم بنا كثيرا‪ ،‬يا للحقارة التي يمتاز بها اإلنسان‪،‬‬
‫ال يأخذه الحياء لالستحياء من خالقه‪ ،‬ولو كان هللا يؤاخذنا بظلمنا ما‬
‫ترك على األرض من دابة‪ ،‬وقال في كتابه العزيز‪ " :‬ولو ُيؤاخ ُذ َ ُ‬
‫ّللا َ‬
‫الناس‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ِبظل ِم ِهم ما ترك عليها ِمن د َابة ول ِكن ُيؤ ِخ ُر ُهم ِإلى أجل ُمس ًّمى ف ِإذا جاء‬
‫ُ‬
‫أجل ُهم ال يستأ ِخ ُرون ساعة وال يستق ِد ُمون"‪.‬‬
‫سئمنا من فظاظة الناس‪ ،‬وضجرنا من كوارث اإلنسانية‪ ،‬نتحسر‬
‫دائما‪ ،‬كنا نناشد األمل كل يوم‪ ،‬ملواكبة حياتنا بما فيها‪ ،‬ولكن نصاب‬
‫بخيبة أمل من أملنا الكاذب‪ ،‬الحقيقة العاهرة أن العيش في هذا العالم‬
‫اغتصاب دائم ال منقطع‪ ،‬أسقطنا في فحشاء ال ذنوب فيها‪ ،‬وال عيوب لها‪،‬‬
‫سنقر حتما ال محالة أن ال مجال لزراعة التفاؤل في وجوه اآلخرين‪ ،‬إننا‬
‫بهذا الفعل نستدرجهم إلى االنفتاح على الشقاء واأللم‪.‬‬
‫أعود كثيرا إلى مذكرات دفتري القديم‪ ،‬وإلى كتب أبي‪ ،‬فأكتب فيه ما‬
‫ال أستطيع أن أبوح به للجميع‪ ،‬حتى للشيخ صالح‪ ،‬وأصال ال أملك إال‬
‫شيخي‪ ،‬والقلة القليلة من األصدقاء‪ ،‬الذين أشاهدهم بكثرة في املدرسة‬
‫فقط‪ ،‬أما في القبيلة فقد تعودت على البقاء في املنزل‪ ،‬أو الذهاب إلى بيت‬
‫الشيخ صالح‪ ،‬أكتب عن األحزان‪ ،‬عن األوجاع‪ ،‬عن القسوة التي رأيتها في‬
‫عيون أمي‪ ،‬وأقرأ عن اآلالم‪ ،‬ليس في الكتب؛ ألن أبي يملك كتب الفقه‬
‫والحديث والعلوم الشرعية فقط‪ ،‬بل أقرأها في عيون الناس‪ ،‬ومن‬
‫حدث دفتري الكبير‬ ‫وجوههم املتأملة‪ ،‬الشؤم ينخرهم‪ ،‬الحزن يفجعهم‪ ،‬وأ ّ‬
‫عن املآس ي‪ ،‬وعن أخبار البؤساء‪ ،‬ومجازر الحمقى واملغفلين‪ ،‬ومن شغلهم‬
‫تتبع املساوئ وخلقها‪ ،‬أعود إلى دفتري أو شيخي‪ ،‬فدائما ما ينبغي أن تتوفر‬

‫‪15‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫على شخص تؤوب إليه في كل انكساراتك‪ ،‬حينما تؤملك مآس ي الدنيا‪،‬‬


‫وتفجعك أحداث الزمان‪ ،‬ومن كثرة تردادي إلى بيت الشيخ‪ ،‬أمر على بيت‬
‫جواد علي‪ ،‬أحد كاتمي مفاجع ّ‬
‫الناس لالمتناهية‪ ،‬أمر أمام‬ ‫الفقيه‪ ،‬اإلمام ّ‬
‫بيته أسمع الصراخات والعويالت‪ ،‬وسألت شيخي ذات مساء عن ذلك‪،‬‬
‫قال لي يا بني‪ :‬لقد أخبرتك عن سبب فاجعتي‪ ،‬السحر والشعوذة ووضع‬
‫التوكال ورش املاء‪ ،‬أو املاء املرشوش‪ ،‬باستغالل املناسبات واألعراس‪ ،‬ففي‬
‫العرس يذهب العريسان ضحية الحسد والحقد‪ ،‬فيسحران دون أن يعلما‬
‫ذلك‪ ،‬إما برش منزلهما‪ ،‬أو وضع ش يء يقدمه املشعوذ للخبيثين لوضعه في‬
‫أن ذلك من األقارب‬ ‫الطعام املقدم لهما‪ ،‬الغريب يا صغيري نديم‪ّ ،‬‬
‫املتزمتين‪ ،‬أما الغرباء فال يعرفونك وسعيهم للمضرة أمر بعيد جدا‪،‬‬
‫األقارب أقرب شرا إليك‪ ،‬وأقدرهم على فعله‪ ،‬وأبعدهم نفعا لك‪ ،‬فال‬
‫تغرنك البسمات املتعالية‪ ،‬والدعوات املترددة منهم‪ ،‬فلو اطلعت على ما في‬
‫قلوبهم يا نديم لسبقت إلى قطع رؤوسهم بالسيوف‪ ،‬واستغربت من قول‬
‫سر إخفاء هللا تعالى ما في قلوب ّ‬
‫الناس‪ ،‬فهو يعلم‬ ‫الشيخ‪ ،‬فقلت‪ :‬أعلم اآلن ّ‬
‫وسر ما يكتمون‪ .‬الحياة سهلة‪ ،‬ويأتي إليك من يصعبها عليك‪،‬‬ ‫سرنا ّ‬ ‫ّ‬
‫بسيطة فتلتقي باألوغاد فيبخسونها في وجهك‪ ،‬هي معبر فيأتي من يظنون‬
‫أنهم مقيمون فيها ليكدرونها عليك‪ ،‬ضوضاء وضجيج مستمر‪ ،‬وسبيل‬
‫النجاة واحد‪.‬‬
‫أتم الشيخ صالح كالمه‪ ،‬فقال‪ :‬أكثر األشياء التي يتردد إليها‬ ‫ّ‬
‫املتوجعون في هذا العالم‪ ،‬بيوت الفقهاء بسبب الصرع والعين والحسد‪،‬‬
‫واملستشفيات بسبب املرض والحسد والحقد أيضا‪ ،‬اإلنسان ضعيف لكن‬
‫خبثه أقوى وأشد قساوة‪ ،‬اإلنسان لطيف‪ّ ،‬‬
‫لكن مكره أظهر وأعتى‪ ،‬فبئس‬
‫ما يكتمه من خبث‪ ،‬وما يصنعه من الخبائث‪ ،‬األمر فظيع حقا‪ ،‬فسقم‬

‫‪16‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الحياة وبيء‪ ،‬الناس فيها وبيئون‪ ،‬مطالبها موبوءة‪ ،‬نتوق فيها شيئا واحدا‪،‬‬
‫هو الخالص‪ ،‬ونبتغي فيها رحمة وشفقة إلهية‪ .‬االستمرار في العيش دون‬
‫السعي وراء نيل الرحمة واملغفرة‪ ،‬عيش متورم وخبيث‪ ،‬ينبغي أن نتأمل‬
‫نوافذ اإلله‪ ،‬كما يردد ذلك كونديرا‪ ،‬هللا ينبغي أن يسكن في قلوبنا‪ ،‬لكي‬
‫نقدر على مواجهة الصخب الذي يفجعنا‪ ،‬ويمنحنا طريقا للسالم‪ ،‬دائما ما‬
‫أقول للرفاق أيام اإلجازة إن الحياة ال تستحق كل هذا العناء‪ ،‬حملها على‬
‫محمل الجد غباء بعينه‪ ،‬بقينا مأسورين مقيدين في أسوار هذا البلد‬
‫الحبيب‪ .‬إن أفضل األيام التي أنعمت فيها سالما هي التي قضيتها في بطن‬
‫أمي‪ ،‬وما بعد ذلك فمليء باالنتكاسات والفجائع‪ ،‬فبعد والدتي أدركت أن‬
‫املكان مرعب‪ ،‬مليء بالضاللة‪ .‬الصراخ الذي نصرخه وقت الوالدة هو في‬
‫عمقه رفض للمغامرة الخبيثة املزيفة في هذه الدنيا الزائلة‪ ،‬التشاؤم‬
‫معبدنا الوحيد للبقاء على قيد الحياة‪ ،‬ما معنى أن تكرس حياتك في‬
‫مدارسة الكتب‪ ،‬واالجتهاد من أجل تحصيل املعرفة‪ ،‬لتجد نفسك بعد‬
‫التخرج وسط غابة سوداء مظلمة‪ ،‬ال تعرف إلى أي مكان ستأخذك؟ مرت‬
‫ثالث سنوات من الكد والتحصيل‪ ،‬ماذا بعد كل هذا؟ الذهاب للعمل في‬
‫البناء‪ ،‬هذا هو العهر برأسه‪ ،‬الوظائف التي تعلن عنها الدولة قليلة جدا‪،‬‬
‫والولوج إليها يريد منك أن تكون آل شيخ‪ ،‬نحمل خيبات أمل من كل دقيقة‬
‫تمر علينا في هذه البالد‪ ،‬مطامحنا الصغيرة حملت أجنحتها وفرت إلى مكان‬
‫آخر‪ ،‬أحالمنا توقفت لتأخذ نفسا آخر‪ ،‬وأظنها لن تعود مرة أخرى‪ ،‬لقد‬
‫ي ِئست مما رأته وصادفته‪ ،‬األحالم في وطني ال تعمر طويال‪ ،‬ال تستقر على‬
‫حال‪ ،‬وجودها في هذا املكان خطأ وجودي باألساس‪ ،‬نبني أحالما حقيقية‬
‫في وطن مزيف‪ ،‬قد أكون خاطئا‪ ،‬أو فاشال‪ ،‬ومتشائما‪ ،‬فتعتبرني مسيئا‬
‫بهذا الكالم‪ ،‬وال زيف توهم به نفسك‪ ،‬لتقول إن كالمي نابع عن فشل أو‬

‫‪17‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫عدم رغبة في البحث عن حياة سعيدة‪ ،‬لتطعم اعتراضك بأن الدولة وفرت‬
‫مناصب للشغل وعملت على تحسين االقتصاد‪ ،‬واهتمت بالشباب‬
‫العاطلين‪ ،‬وأهلتهم تأهيال جيدا‪ ،‬ولكن اعلم أنك تهذي وتتوهم‪ ،‬فكل هذه‬
‫ّ‬
‫األشياء التي أسردتها ُو ِفرت لذوي البطون الضخمة‪ ،‬لهؤالء املاقتين‪ ،‬الذين‬
‫يقدسون اإلله الجديد‪ ،‬يعبدون املال‪ ،‬ومن ورائه يقومون بأفظع الجرائم‪،‬‬
‫يخرجون أمام اإلعالم بأوجه ضباعية‪ ،‬يتلونون في كالمهم‪ ،‬ويستميلون‬
‫شعبا ضاقت عليه األرض بما رحبت‪ ،‬ال أدري كيف أسقطنا في أحضان‬
‫دولة مرتعشة‪ ،‬ال قرارة لها وال قرار‪ .‬الفاسدون في وطننا هم الشرفاء‬
‫واألولياء‪ ،‬هم اإلنسانيون واملساملون‪ ،‬يتركونك في سالم آمن‪ ،‬ال يجابهونك‪،‬‬
‫رأس مالهم الكالم‪ ،‬وإن الكالم عن كالمهم لصعب‪ ،‬يدخل في أحشائنا‬
‫ويفتتها‪ ،‬عباراتهم تضاجع أحالمنا لتلد وهما وسرابا‪ ،‬وعودهم نكحت أيامنا‬
‫باالنتظار والسأم‪.‬‬
‫املسؤولون يقتعدون للناس مقاعد للخبث والسفالة‪ ،‬ويقعدون في‬
‫صراطهم املستقيم‪ ،‬لربما إن شيطانهم له تعاليم أخرى‪ ،‬لم يكن يرتكبها‬
‫شيطاننا الذي استقل من مهمته اإلغوائية‪ ،‬تاركا األمر للمسؤولين‬
‫والسياسيين وأهل الشأن في البالد‪ ،‬غادر الشيطان قائال‪" :‬إني أخاف رب‬
‫العاملين"‪ .‬ضباع حقيرة تظل في مسكنها أياما ال محصورة‪ ،‬فتخرج إلى‬
‫الصيد أيام االنتخابات‪ ،‬لتأكل رؤوس الشعب بالكالم‪ ،‬وتشييد وعود‬
‫كاذبة ال تسمن وال تغني من جوع‪ ،‬لم نعد قادرين على الصبر‪ ،‬أين زمان‬
‫الطلبة اإلخوان والرفاق النجباء؟ املدافعون عن حقوق الضعفاء‪ ،‬لقد‬
‫كانوا طلبة ومفكرين في الوقت نفسه‪ ،‬يناضلون ويدرسون‪ ،‬ويكدون‬
‫ويجتهدون‪ ،‬عكس ما نجده اليوم‪ ،‬طلبة مجانين ال تكاد تعرفهم أطلبة هم‬
‫أم تالميذ؟ عالة على الدراسات العليا‪ ،‬يشتكون من كثرة الدروس‪ ،‬ومن‬

‫‪18‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ّ‬
‫شدة األيام ومحنتها‪ ،‬ويتباكون كثيرا‪ ،‬همهم املتعة ال غير‪ ،‬قلما تجد طالبا‬
‫يشعرك باللذة‪.‬‬
‫كانت الجامعة في وقتها مصدر رعب على الدولة‪ ،‬ومصدر تقدمها‪،‬‬
‫كانت تنتج بؤسا يوحي بالسعادة‪ ،‬واآلن تنتج سعادة‪ ،‬بعدها شقاء دائم‪،‬‬
‫وعناء طائل‪ ،‬كان الطالب في السنة األولى قديما أكثر تمكنا من باحث في‬
‫سلك الدكتوراه اليوم‪ ،‬أما الجامعة بين األمس واليوم‪ ،‬فخراب آخر‪،‬‬
‫ومأساة أخرى‪ ،‬فهي ساحة لضم الفاشلين‪ ،‬ولتكديس الناس وتجمعيهم‪،‬‬
‫وجعلهم يتالهون لسنوات؛ ال تكوين فيها وال هم يحزنون‪ ،‬أي أشياء‬
‫استجد بها الزمان علينا اليوم‪.‬‬
‫آهات الزمان كثيرة‪ ،‬لقد كان الرفاق قديما ال يفارقون الكتاب‪ ،‬وال‬
‫يجعلون القراءة مجرد متعة‪ ،‬كان الطالب إذا دخل إلى الحلقة أستاذا‪،‬‬
‫يغنيك بالفكر املاركس ي والستاليني واللينيني واإلخواني‪ ،‬وأما اآلن فقد‬
‫أورثنا طلبة ينتمون إلى فصائل حماسا ال فكرا‪ ،‬يطالبون بحقوقهم‪،‬‬
‫أي نضال هذا؟ ّ‬
‫حق علينا‬ ‫وتجدهم غير قادرين على إتمام كتاب في شهر‪ّ ،‬‬
‫القول أننا ولدنا في زمن الفجعة والشدة‪ ،‬مشربنا مليء بمنومات اليأس‪ ،‬ال‬
‫دولة لها شأن‪ ،‬وال جامعة ذات قدر‪ ،‬لربما نحن بهائم‪ ،‬نموت موتة‬
‫إنسانية‪.‬‬
‫بالي يشغلني بالثورة على الوضع‪ ،‬واملطالبة باإلصالح‪ ،‬ولكن دفاعنا‬
‫عن املطالب في بالدنا جريمة يعاقب عليها القانون الفاسد‪ ،‬املغامرة في‬
‫القيام بنضال فردي‪ ،‬نتيجته حتمية‪ ،‬هي االتهام بالفتنة‪ ،‬والفتنة أشد من‬
‫القتل‪ .‬كان العم إدريس اإلسكافي‪ ،‬الذي تعرفت عليه بمدينة العهد‬
‫الجميلة‪ ،‬سنوات اإلجازة يخبرني بذلك‪ ،‬رحلت عن الشيخ صالح؛ ألن‬

‫‪19‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ظروف إتمام الدراسة بالعهد‪ ،‬فرضت علي ذلك‪ ،‬قلت من كثرة ترددي عند‬
‫العم إدريس إلصالح حذائي الحديدي‪ ،‬يقول‪ :‬إن أمثالك نتيجتهم‬
‫محسومة‪ ،‬دعك من الحديث عن النظام‪ ،‬وإال ستقمع ويلقون بك في‬
‫مناطق ال يعرفها إال هللا تعالى‪ ،‬فقد كنت مثلك‪ ،‬أناضل وأثور وأدافع عن‬
‫حقوق املقموعين‪ ،‬وفي األخير حصدت (الدس) كما يقول املغاربة‪،‬‬
‫مطالبتك بحقك في هذا املكان كفر‪ ،‬ودفاعك عن اآلخرين‪ ،‬غباء وجريمة‪،‬‬
‫عش يا بني حياتك‪ ،‬ودع عنك الدولة‪ ،‬اهتم بدراستك ومستقبلك جيدا‪،‬‬
‫لتبحث لك عن عمل قار‪ ،‬بمدخول يكافي أسرتك‪ ،‬فنحن الفقراء ال نملك‬
‫سوى رفع الدعاء إلى هللا تعالى‪ ،‬اسمع كالمي جيدا‪ ،‬وإال ستكون نتيجتك‬
‫ضياع شبابك وعمرك في السجن‪ ،‬وإذا ضيعت شبابك فال طعم للحياة‬
‫وقتئذ‪.‬‬
‫إن الدولة تملك ما يخيط لك فمك ويجعلك تقعد على قنينة‬
‫الثرثارين واملعارضين‪ ،‬فتضاعف أملك ثالثة أضعاف ألم الحمل عند‬
‫النساء‪ ،‬وقال بيأس محزن‪ :‬وستلد ولدا اسمه الصمت واالنكماش‪ .‬تأملت‬
‫كالم العم إدريس جيدا‪ ،‬فوجدته حكيما‪ ،‬كيف ال؟ والعم قد قض ى جل‬
‫حياته في السجن‪ ،‬بسبب جرأة غرضها الدفاع عن حق املغفلين‬
‫الصامتين‪ ،‬ال أدري متى سيستيقظون من سباتهم العميق‪ ،‬وفكرت بأن‬
‫الحياة غير عادلة‪ ،‬ال تنصف األبرياء‪ ،‬واملدافعين عن حقوقهم‪ ،‬النوم في‬
‫بلدي جنة مقدسة‪ ،‬يستكن إليها جميع الناس‪ ،‬بدأت أستيقن سبب إنشاد‬
‫معروف الرصافي لقصيدته التي يقول فيها‪:‬‬
‫ّ‬
‫يا قوم ل تتكلموا إن الكالم محرم‬
‫ّ ُ‬
‫ناموا ول تستيقظوا ما فازإل النوم‬

‫‪20‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وتأخروا عن كل ما َيقض ي بأن ّ‬ ‫ّ‬


‫تتقدموا‬
‫َ‬ ‫ود ُعوا ُّ‬ ‫َ‬
‫التفهم جانبا فالخيرأن ل تفهموا‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ ُّ‬
‫فالشر أن تتعلموا‬ ‫وتثبتوا في جهلكم‬
‫ّ‬
‫أما السياسة فاتركوا أبدا وإل تنموا‬
‫سرها لو تعلمون ُم َ‬
‫طلسم‬ ‫إن السياسة ّ‬
‫أحق الرصافي الحق في قوله‪ ،‬لم يعد الكالم يؤثر في هؤالء األشقياء‬
‫والهالكين‪ ،‬الذين ال يعرفون معنى الدفاع عن حقوقهم‪ ،‬إن تكلمت‬
‫سيعتبرونك خائنا‪ ،‬وغير محب للوطن‪ ،‬لو كنا نتحكم في قدرنا ملا اخترنا أن‬
‫نولد مع مثل هؤالء‪ ،‬عقلية ميتة‪ ،‬وضمير ميت‪ ،‬وحياة قاتمة‪ ،‬ما زالوا‬
‫يظنون أن الحياة هي األكل والشرب‪ ،‬هكذا كان يقول جدي من أمي‪ ،‬الخبز‬
‫والشاي وشرب الحريرة يكفينا‪ ،‬ال نريد شيئا آخر‪ ،‬ويشعل خاطري بعبارة‬
‫إن أهل الثراء يعيشون في رفاهية كاذبة‪ ،‬وال يعرفون معنى السعادة‪ ،‬أما‬
‫نحن يا بني‪ ،‬فإننا حامدون وشاكرون هللا على فضله‪ ،‬فقد رزقنا القناعة‬
‫والرضا‪ ،‬وجعل االبتسامة دائمة على وجوهنا‪ .‬رحمك هللا يا جدي‪ ،‬على‬
‫كالمك املضلل‪ ،‬ولست أنت فحسب من يمتلك هذه األفكار‪ ،‬ويرددها‪ ،‬بل‬
‫ُ‬
‫إن أسالفنا وأجددنا أبلسوا بهذه العبارات‪ ،‬وأخرسوا بها‪ ،‬إنها ضاللة‬
‫قديمة يريدون أن نغرق فيها‪ ،‬أليس لنا الحق في الثراء‪ ،‬واالستمتاع‬
‫بالحياة؟ أال يحق لنا أن نحدد أحالمنا كما نريد؟ السأم ينخرنا كل يوم‪،‬‬
‫وأسرتي تنتظرني ألكون رجال وأعوضهم‪ ،‬وأجعلهم يخرجون من ضيق‬
‫الحياة‪.‬‬
‫لست أنا الوحيد املتأزم العابس اليائس‪ ،‬فأغلب األبناء في قريتي‬
‫يعيشون هذه الظروف‪ ،‬أسرنا تعيش في ضيق‪ ،‬ولدنا في منطقة ضيقة‪ ،‬ال‬

‫‪21‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تتسع لكي تحضننا‪ ،‬تربيك وترمي بك إلى املدينة العاهرة‪ ،‬إما أن تكمل‬
‫دراستك الجامعية‪ ،‬أو أن تذهب للبحث عن عمل‪ ،‬تجمع فيه بعض املال‪،‬‬
‫لتتعاون مع أسرتك‪ ،‬وإذا لم ييسر هللا لك في عمل جيد‪ ،‬أو وظيفة ذات‬
‫دخل قار‪ ،‬فإن شبابك يضيع في املدينة غريبا ومستغربا للبحث عن رزقك‪،‬‬
‫هذا هو حال أهل البوادي‪ ،‬والحال عندنا في زاكورة‪ ،‬البلد السعيد الشقي‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪2‬‬
‫ما بعد اإلجازة‬
‫إكمال املرحلة الجامعية األولى‪ ،‬ليس نهاية مسار العذاب‪ ،‬بل انتقال‬
‫إلى عذاب آخر‪ ،‬والحصول على اإلجازة فرحة ال تبدأ حتى تدوم‪ ،‬هل‬
‫سنفارق الجامعة أم سنتسمر فيها؟ هذا هو السؤال الذي يخدش عقول‬
‫الطلبة‪ ،‬يعقدون آماال كبيرة للحصول على وظيفة‪ ،‬أو التسجيل في ماستر‬
‫من املاسترات‪ ،‬عاينت في سنوات اإلجازة مشاهد بئيسة‪ ،‬عن هؤالء الطلبة‬
‫الذين يلجون مسالك املاستر بتقديس األساتذة‪ ،‬قداسة عمياء للظفر‬
‫بمقعد يزيدهم جهال وبأسا على بأس‪ ،‬الطلبة املتملقون‪ ،‬يلتصقون في‬
‫مؤخرة األساتذة للحصول على نقطة جيدة‪ ،‬أما نحن البسطاء واملقاتلين‪،‬‬
‫فال نعرف شيئا كهذا‪ ،‬نقاتل دون السعاية وراء النقاط‪ ،‬فهي التي تنادينا‬
‫وتأتي عندنا‪ ،‬نقاتل من أجل املعرفة‪ ،‬أتذكر صديقي جمال امللقب‬
‫بالزهواني‪ ،‬لولعه الشديد بالطالبات‪ ،‬كان يسحرهن بكالمه العذب‪،‬‬
‫وأناقته الجذابة‪ ،‬يالطفهن ليعوض نقص الجفاف العاطفي الذي عاشه في‬
‫زاكورة‪ ،‬كان يقول لي‪ :‬إن الطلبة امللقين‪ ،‬يلتصقون في مؤخرة األساتذة‪ ،‬أما‬
‫الطالبات فيلتصقن على مفتاحهم للحصول على النقاط‪ .‬لربما فهمت‬
‫عزيزي القارئ معنى املفتاح املقصود‪ ،‬وماذا يفتح‪ ،‬ال ترغمني على شرح‬
‫الواضحات‪ ،‬واألمر مفضوح وحتى وإن لم يكن واضحا‪ ،‬أتأسف كثيرا‪،‬‬
‫لتلك الطالبات اللواتي يستغلن مقوماتهن للحصول على نقطة ال تغني وال‬
‫ُ‬
‫تسمن من جوع‪ ،‬في كل جامعة تعرف فيها األستاذ املحترم الذي يتصيد‬
‫الطالبات الجميالت‪ ،‬ويجعلهن محط عينيه الخبيثتين‪ ،‬ليدخلها في لعبة‬

‫‪23‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫قصره املسحور‪ ،‬تجده وسط القاعة يرمي بإشارات ال يفهمها إال اإلناث‪،‬‬
‫ُ ُ‬
‫لغة املتعة والنشوة‪ ،‬وحتى إذا ما اكت ِشف أمر األستاذ‪ ،‬فإنه من شدة‬
‫االحتراف يخرج نفسه من الورطة‪ ،‬ويرمي باللوم على فريسته‪.‬‬
‫اللعنة على هؤالء الخبيثين‪ ،‬ال ألوم الطالبات‪ ،‬بقدر ما ألومهم‪،‬‬
‫أقصد األساتذة‪ ،‬يستغلون أحالمهن في ال ش يء‪ ،‬ليذهبوا كلهم إلى الشقاء‪،‬‬
‫يوظفون معرفتهم املزيفة وأستاذيتهم في ما ال يرض ي هللا‪ ،‬ويل لهم بما‬
‫ُ‬
‫كسبت مفاتيحهم‪ ،‬كم من باب فتح بسببهم‪ ،‬ولن يغلق مرة أخرى‪،‬‬
‫يفتحون األبواب في كل مكان‪ ،‬ويتركونها مشرعة‪ ،‬ويكملها الطلبة‬
‫الخبيثون‪ ،‬الذين يأتون إلى الكلية لعقد الصلح مع مشاعرهم‪ ،‬وارضاء‬
‫أحاسيسهم وتفريغ كبتهم‪ .‬تبا لصديقي جمال الزهواني وأمثاله من الطلبة‪،‬‬
‫وتبا للطالبات‪ ،‬اللواتي ال يضعن أمام أعينهن صورة األب الذي ال يرجع إال‬
‫في وقت متأخر من العمل‪ ،‬مفتخرا أمام الناس‪ ،‬بأن ابنته ستصبح‬
‫أستاذة‪ ،‬وستخرجه من املحنة‪ ،‬وهو ال يدري املسكين‪ ،‬أن زهرة ابنته قد‬
‫فتحت‪ ،‬وتتفتح كل ليل‪ ،‬وبكل شوق وراحة‪ ،‬تشبه الوردة التي تتفتح كل‬
‫صباح‪ ،‬وفي األخير يقتطفها شخص معين‪ ،‬ويرميها وسط الطريق‪ ،‬كذلكن‬
‫أنتن أيتها الطالبات الساعيات إلى النقاط‪ ،‬املدعيات للبراءة والتستر‪ ،‬فال‬
‫حياء فيكن‪ ،‬تطلبن من الرجال أن يأتوا املنازل من أبوابها‪ ،‬وتخفن بأن‬
‫أبوابكن مفتوحة‪ ،‬نتصيد فيها نحن األبرياء‪ ،‬نفسد مفتاحنا في باب لم‬
‫يغلق أصال حتى نفتحه‪ ،‬سامحكن هللا‪ ،‬إذا كنتن تطلبن إتيان األبواب‪ ،‬وهي‬
‫مفتوحة‪ ،‬فيفضل الشباب البقاء في سجن العزوبية على عدم الزواج بكن‪.‬‬
‫وإن كان األساتذة الفاسدون يفعلون مثل هذه األفعال‪ ،‬فأفضل أن‬
‫أكون جاهال على أن أكون مثلهم‪ ،‬تعاهدت مع نفس ي وصبرتها أن تتقوى‬

‫‪24‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫على مواجهة جميع الصعاب‪ ،‬صرخة الوالدة ليست فاجعة فقط‪ ،‬بل هي‬
‫تحد لهذه املأساة التي نسبح فيها‪ ،‬صرخت في وجه الدنيا اللعينة‪ ،‬بكيت‬
‫بحرقة شديدة‪ ،‬على عمري الضائع بين حقارة هذا العالم‪.‬‬
‫أيامي لم أتمتع بها كثيرا‪ ،‬لم أذق طعم التجول مع الجميالت‬
‫الفاتنات‪ ،‬لم أجلس في الحديقة ألبحث عن قمرية ليلية‪ ،‬لم أسع إلرضاء‬
‫شهوتي مع بنات الليل‪ ،‬تمنعت عن الرفقة في الجامعة‪ ،‬كنت مع العم‬
‫إدريس‪ ،‬وصديقي جمال فقط‪ ،‬الصادق الوثوق‪ ،‬الجميل‪ ،‬الرجل الذي‬
‫تعول عليه‪ ،‬رغم زهوانيته التي أكرهها‪ ،‬إال أنه ينصحني بأن أبتعد عن تلك‬
‫الرذائل‪ ،‬عشرتنا كانت جميلة‪ ،‬ثالث سنوات‪ ،‬قضيتها مع الكتب رفضا‬
‫للعالم الذي يرفض أن يتجه اتجاه مطامحنا‪ ،‬وقضاها جمال مع‬
‫األنيسات‪ ،‬إال أنه في األخير حصل على فرصة للعمر‪ ،‬هاجر فيها خارج‬
‫البالد‪ ،‬عن طريق صديقة ليلية‪ ،‬تعرف عليها من طرف صديقة له‪ ،‬رشيقة‬
‫ومن مشتقات القمر في الليل‪ ،‬وسليلة الشمس بالنهار‪ ،‬أصدقت جمال‬
‫الوعد‪ ،‬بأن تمتعه باملال‪ ،‬شريطة أن يمتعها من باب آخر‪ ،‬صديقي غير‬
‫جلباب بلدنا األخالقي‪ ،‬بلباس الجلباب املالي‪ ،‬هو اآلن مسافر ال يفكر في‬
‫هموم التحصيل املعرفي‪ ،‬وال تهمه لحظة إعالن نقاط االمتحانات‬
‫بالجامعة‪ ،‬وجد ما يرغب فيه الناس ويتقاتلون من أجله‪ ،‬اقرأ أنت‬
‫وحدك‪ ،‬أما الناس فيريدون املال‪ ،‬ويعبدون املال‪.‬‬
‫حقا هذه الحياة ليست عادلة‪ ،‬لم أحسد جمال على رزقه هذا‪،‬‬
‫ضرب عرض الحائط‪ ،‬آه آه يا‬‫ولكن بدا لي أن السهر والجهد الذي عشته‪ُ ،‬‬
‫نديم‪ ،‬رمت بك لياليك إلى متاهة نهارية ال تقبل شعر املتنبي وأبي نواس‪،‬‬
‫والبحتري‪ ،‬وال نحو سيبويه والكسائي واملكودي‪ ،‬الواقع ال يعرف شيئا‬

‫‪25‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫اسمه املعلقات وال يعترف بش يء اسمه الكتب‪ ،‬رغم كل هذا فإنها تريحنا‬
‫منه‪ ،‬وتجعلنا قادرين على تجاوز معاناته‪ .‬سأعقد العزم على االستمرار‪ ،‬إن‬
‫عارضتنا الحياة‪ ،‬فإننا سنتقوى‪ ،‬وسنضاعف جهودنا‪ ،‬أضعافا مضاعفة‪،‬‬
‫لنبحث عن سبيل العيش في حياة هزمنا في منذ الصرخة األولى‪.‬‬
‫فكرت أن أتسجل في املاستر بعد سنوات اإلجازة املتعبة الحلوة‪ ،‬فال‬
‫ش يء أعز عندي من القراءة‪ ،‬هي الوحيدة التي تسعفني على مواجهة الجهل‬
‫الذي يعج به املكان‪ ،‬وأجعل في مخيلتي كالم الشيخ صالح الذي ترك وصية‬
‫البيت لي بعد وفاته‪ ،‬مباشرة بعد السنة األولى بجامعة العهد للغات‪،‬‬
‫واستحضر نصائح العم إدريس‪ ،‬الذي أغلق محله وانتقل به ابنه إلى بلد‬
‫آخر‪ ،‬وفيه استبدلت حذائي بحذاء آخر‪ ،‬رحل العم ورحل معه صاحبي‪،‬‬
‫سأواصل كفاحي‪ ،‬من أجل نفس ي‪ ،‬وأسرتي‪ ،‬التي تفتخر بي أمام أجماع‬
‫القرية‪ ،‬بأن نديم قد أكمل دراسته‪ ،‬وسيصير أستاذا‪ ،‬لكم الحق أن‬
‫تفتخروا بالسأم الذي أصابني‪ ،‬افخروا بي فسأظل أدافع عن أحالمي‪،‬‬
‫وسأخرجكم بعون هللا فيما أنتم فيه من ضيق‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪3‬‬
‫أيام‬
‫تستقبلني األيام ضعيف الجسد‪ ،‬محطم املعنويات‪ ،‬عصبي املالمح‪،‬‬
‫عاجزا عن الحركة‪ ،‬لم أعد أحس بالوقت‪ ،‬العقارب تأكل حياتنا ونحن لم‬
‫نصنع شيئا لنوقفها‪ ،‬التفكير في املستقبل دودة زائدة‪ ،‬ينبغي أن نزيلها‪،‬‬
‫وأن نترك األمر لعالم الغيبيات‪ ،‬ومصور الحياة‪ ،‬فهو القادر على تحويل‬
‫لِل غي ُب َ‬ ‫َ‬
‫ات‬
‫السماو ِ‬ ‫حياتنا إلى أفضل حال‪ ،‬وجاء في كتابه العزيز‪ " :‬وِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ُّ‬
‫ض و ِإلي ِه ُيرج ُع األم ُر كل ُه فاع ُبد ُه وتوكل علي ِه وما رُّبك ِبغا ِفل ع َما‬
‫واألر ِ‬
‫ُ‬
‫تعملون (‪ .)123‬أصبح ليلي كنهاري‪ ،‬ال زمان لدي‪ ،‬فالعطالة عن العمل‪،‬‬
‫تعطيل للحياة ولكل ش يء يتعالق معها‪ ،‬تظل محصورا في ذاتك‪ ،‬ال ترغب في‬
‫رؤية أحد‪ ،‬وسكونك إلى نفسك إنجاز ال يحققه أي شخص‪ ،‬حينما‬
‫تستقبلك الوحدة‪ ،‬فاعلم بأن العالم ال يرغب بأن يشركك في مأساته‪ ،‬وال‬
‫رغبة له إلدخالك إلى حياة مليئة بالضجر‪ ،‬والسعادة الكاذبة‪ ،‬أي قول‬
‫هذا‪ ،‬طبعا لقد أصبت بالهذيان‪ ،‬ال تؤاخذني عزيزي القارئ‪ ،‬أحس أنك‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تريد أن تكون وحدتك‪ ،‬أن تهرب مثلي من الصخب‪ ،‬أن ال تشارك‬
‫أحاسيسك مع أحد‪ ،‬أقول لك‪ :‬إنك مؤنس ي في وحدتي‪ ،‬لربما قد تمازجنا‬
‫وأصبحنا نتشارك الحياة نفسها‪ ،‬أظنك حتى أنت تبحث عن السعادة‪ ،‬عن‬
‫الحب‪ ،‬عن الحياة‪ ،‬عن املتعة‪ ،‬تالطفك أحالمك وتناديك‪ ،‬أن أقبل‪،‬‬
‫صدقني الحياة ال تحتاج منك كل هذا التفكير‪ ،‬وكل هذا العناء‪ ،‬فقد‬
‫عانيت كثيرا‪ ،‬وسهرت الليالي‪ ،‬وفي األخير ال ش يء‪ ،‬أرى أن جهد السنوات‬
‫ضاع‪ ،‬وأكله الزمن‪ ،‬أريد أن أحدثك عن ش يء ما‪ ،‬يجعلنا نسترجع قوتنا‬

‫‪27‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫معا‪ ،‬ونعود بصورة أخرى لهذا الوجود‪ ،‬أكيد لن نعود بوجوه مبشوشة‬
‫وضاحكة‪ ،‬وال بمالمح مبتسمة‪ ،‬سنختار صورة تتناسب مع الحياة‬
‫القاتمة‪ ،‬سنؤوب بوجوه ضجرة‪ ،‬ومتشائمة‪ ،‬وكئيبة‪ ،‬ونفوس يغمرها‬
‫األس ى‪ ،‬وتملؤها الصرامة‪ ،‬قد ال يناسبنا هذا األمر‪ ،‬ولن يكون مفيدا‪،‬‬
‫ولكن اقتضت الضرورة أن نسلك هذا املسلك‪ ،‬وأن نتجه إلى هذا السبيل‪،‬‬
‫سيوصلنا إلى البحث عن ذاتنا في متاهة األرواح‪ ،‬وظالل النسيان‪ ،‬ال حل‬
‫لنا غير هذا الحل‪ ،‬وإال سنبقى أحياء مع املوتى‪.‬‬
‫قد تأملت عزيزي القارئ كالمي جيدا‪ ،‬وقرأته بصمت‪ ،‬ألنك قارئ‬
‫ّ‬
‫تجلت فيك أسرار القراءة‪ ،‬لربما أنت مصاب ببعض االستغراب‪ ،‬من هذا‬
‫التشاؤم الكتابي‪ ،‬مع رغبتي إلشراكك في هذا التشاؤم‪ ،‬ينبغي أن تقرر فال‬
‫وقت لالستغراب‪ ،‬ألنني مهدت لك في افتتاحية كالمي بما أصاب البشرية‪،‬‬
‫وعم اإلنسانية‪ ،‬فقد تغير فيها كل ش يء‪ ،‬تتجه نحو طريق الدمار‪ ،‬وال شأن‬ ‫ّ‬
‫لها فيك‪ ،‬وال في حياتك‪ .‬الهالك هو الغاية املنشودة لإلنسانية‪ ،‬قد ال‬
‫تصدق إذا قلت لك‪ ،‬إن والدتنا كانت بمثابة كارثة فظيعة‪ ،‬وننتظر الكارثة‬
‫النهائية‪ ،‬ونحن ُمقادون نحوها‪ ،‬العالم يناشد دينا جديدا‪ ،‬وينصب إلها‬
‫جديدا‪ ،‬أرجوك ال تعتبر كالمي كفرا‪ ،‬أو خلال في العقيدة‪ ،‬فأنا أؤمن باهلل‪،‬‬
‫حق العبادة‪ ،‬أردت تنبيهك فقط‪ ،‬حتى ال تقول لي ما جاء في قوله‬ ‫وأعبده ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تعالى‪" :‬قال ل ُه ص ِاح ُب ُه و ُهو ُيح ِاو ُر ُه أكفرت ِبال ِذي خلقك ِمن تراب ث َم ِمن‬
‫ُ‬ ‫ُنطفة ُث َم س َواك ر ُجال (‪ )37‬لك َنا ُهو َ ُ‬
‫ّللا رِّبي وال أش ِر ُك ِبرِّبي أحدا (‪.)38‬‬ ‫ِ‬
‫وألزيل عنك كل الشك والريب‪ ،‬وأن تعلم أني سليم العقيدة بما‬
‫أقول‪ ،‬ونواصل الحديث املاتع فيما بيننا‪ ،‬أورد لك قول هللا عزوجل‪ُ " :‬هو‬
‫يم (‪ُ )22‬هو‬ ‫ّللا َالذي ال إله إ َال ُهو عال ُم الغيب و َ‬
‫الشهاد ِة ُهو َ‬
‫الرحم ُن َ‬
‫الر ِح ُ‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫‪28‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السال ُم املؤ ِم ُن املهي ِم ُن الع ِز ُيز الج َب ُار‬
‫وس َ‬ ‫ّللا َال ِذي ال إله إ َال ُهو امل ِل ُك ال ُق ُّد ُ‬
‫َُ‬
‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫املُتك ّب ُر ُسبحان َّللا ع َما ُيشر ُكون (‪ُ )23‬هو َ ُ‬
‫ّللا الخ ِال ُق الب ِار ُئ املص ّ ِو ُر ل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات واألرض و ُهو العز ُيز الح ِكيمُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األسماء الحسنى يس ِبح له ما ِفي السماو ِ‬
‫(‪.")24‬‬
‫أستيقن أن هذه اآلية من سورة الحشر‪ ،‬كافية وشافية‪ ،‬ودقيقة‬
‫ورقيقة‪ ،‬لتجعل خاطرك هادئا‪ ،‬وقد تستميلك‪ ،‬لتشعرك بالتسلية‬
‫واالرتياح‪ ،‬لتقول إن صديقك نديم‪ ،‬ال يعرج أن يشكك في عقيدتك‪ ،‬وال أن‬
‫يبعدك عن دينك‪ ،‬ووافية أيضا‪ ،‬لتتأمل كالمي‪ ،‬الذي سنتحدث فيه‪،‬‬
‫وسيكون حديثا شيقا رائقا وعميقا‪ .‬أخبرتك أن اإلنسانية ذات مهد جديد‪،‬‬
‫ودين حديث‪ ،‬ومعبد مشيد بما أراده اإلله الجديد‪ ،‬دين ذو تحانيف‬
‫توص ي بفعل أعجب األفاعيل‪ ،‬وصل العالم إلى مقدار من القذارة التي ال‬
‫يمكنك تصورها‪ ،‬وتمثلها‪ ،‬وباألساس ال يمكنك تصديقها‪ ،‬املرارة تسود كل‬
‫مكان‪ ،‬األرض تبتلع الناس من كثرة الحروب‪ ،‬السماء تحسرت وجفت‬
‫دموعها من شدة فظاعة ما يحدث‪ ،‬أتدري ملاذا؟ ألن الفضائل تماحت‪،‬‬
‫والقيم انتهت‪ ،‬وهللا عند قادة العالم ال حسيب له‪ ،‬وأعوذ باهلل من هذا‬
‫القول‪ ،‬حتى ال تفقد ثقتي فيما سأقول لك‪ ،‬هؤالء الناس يا عزيزي‬
‫يسبحون في الظلمات من أجل حصد املال‪ ،‬وإبادة البشرية‪ ،‬والتحكم فيها‪،‬‬
‫عميلهم األول واألخير هو الشيطان‪ ،‬املال في أيدهم سفالة‪ ،‬والسلطة‬
‫عندهم حماقة مذلة‪ ،‬ينشؤون منظمات الحقوق والسلم العاملي ومكافحة‬
‫اإلرهاب‪ ،‬ال تثق من هذا السبك املصفوف املرفوف الذي كتبت به‬
‫عبارتهم‪ ،‬فإن الكالم ال يشتري الخضر كما يقول املثل الشعبي عندنا‪،‬‬
‫فأكثر واضعي القوانين هم الذين يخرقونها‪ ،‬ستكتشف ّأن الناس يلعبون‬
‫لعبة الخداع املاكرة‪ ،‬بالتويهمات التي يوهموننا‪ ،‬شرف الحياة ذهب بفعل‬

‫‪29‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫عهر القادة‪ ،‬لقد أطلت عليك عزيزي من السأم كثيرا‪ ،‬يحق لك أن تفعل‬
‫هذا األمر‪ ،‬فعميل الشيطان جعلوا العيش مريرا‪ ،‬وأمس ى العالم بفعلهم‬
‫مسرحية تمثيل ال متناهية املكر والخداع‪ .‬البسطاء والطيبون واألفاضل‬
‫من الناس ال يعرفون هذا‪ ،‬يريدون العيش في سالم فقط‪ ،‬فيظنون أن كل‬
‫ش يء في الدنيا جميل‪ ،‬وأن النعيم مسبح يغرق فيه الجميع‪ ،‬لقد أخبرتك‬
‫أن مجيء اإلنسان إلى الوجود كارثة عظمى تكبر كل يوم‪.‬‬
‫ال أعرف كيف يأمرهم اإلله الجديد بزرع الفتنة‪ ،‬وصنع األسلحة‪،‬‬
‫وعقد مؤتمرات شن الحروب‪ ،‬وأخذ تبريرات بوضع األمن في مناطق‬
‫النزاعات‪ ،‬وهم أصل هذا النزاع‪ ،‬سأقف إلى هذا الحد عزيزي القارئ‪ ،‬ألنني‬
‫عييت كثيرا‪ ،‬ال قدرة لي على تخريب ضميرك‪ ،‬فكر في اتفاقنا الذي عقدناه‪،‬‬
‫تخلص من الطيبة الزائدة‪ ،‬تعلم كيف تخلص نفسك من بشاعة الواقع‬
‫املعيش‪ ،‬عايش مكر الناس‪ ،‬وتدبر خدعاهم‪ ،‬لقائي معك ال ينبغي أن‬
‫يضيع في ال ش يء‪ ،‬كن صارما‪ ،‬وكن إنسانيا‪ ،‬ال تتخلص من الفضيلة التي‬
‫تمتاز بها‪ ،‬ولكن تحد بؤس الدهرانية‪ ،‬وافهم فكرانية اإلنسان‪ ،‬عش مع‬
‫وحدتك‪ ،‬دع نفسك في مقبرة الكتب املنسية‪ ،‬تمتع بها‪ ،‬تذكر أن الكتب‬
‫تمزق وتحرق‪ ،‬ويتم منعها من النشر‪ ،‬ويتم نفي أصحابها‪ ،‬ألنهم تخنقهم‪،‬‬
‫الكتب ستض يء عقلك وستنير دربك‪ ،‬تقوى وال تندهش حينما تجد كل ما‬
‫أخبرتك به مماثال للواقع‪ ،‬سأودعك اآلن‪ ،‬ال أعرف هل سنلتقي مرة أخرى‬
‫أم ال؟ ولكن أعجبت بك وبتفكيرك سنحدد لقاء آخر وفي موضوعات‬
‫أخرى‪ ،‬سأذهب ألبحث عن نفس ي في العالم البئيس‪ ،‬لقد تركت أسرتي‪،‬‬
‫وأنا اآلن عاطل عن الحياة‪ ،‬عاطل عن كل ش يء‪ ،‬وداعا عزيزي القارئ‪،‬‬
‫تذكر إنني أحبك كثيرا‪ ،‬وسأعقد معك لقاء ماتعا‪ ،‬أخبرك بموضوعه‬
‫حينما يحين ونلتقي‪ ،‬سيكون الفراق عسيرا‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪4‬‬
‫الجفاء اإلنساني‬
‫ال يمكن أن أحدد مقياس الجفاء اإلنساني الذي نعيش فيه‪ ،‬أصرخ‬
‫كل يوم‪ ،‬الصرخة ال تكفي للتعبير عن مقدار األلم الذي في داخلي‪ ،‬تمنيت‬
‫لو عادت بنا األيام إلى سيرتها األولى‪ ،‬ماذا فعل هؤالء األبرياء الذين يموتون‬
‫في أوطاننا؟ ما هدف العالم من هاته الصراعات؟ كيف تخبرني أمي بأن‬
‫أعيش سعيدا‪ ،‬وأنا أشاهد هذه املشاهد‪ ،‬اللعبة املاكرة‪ ،‬لست أدري‪،‬‬
‫كيف أكون سعيدا؟ وماذا لو كان آدم سعيدا؟ سيوران كان يعلم قذارة‬
‫ّ‬
‫الوجود‪ ،‬لذلك ألف هذا الكتاب‪ ،‬أه لهؤالء القذرين الفاشلين املنغصين‬
‫للمعيشة‪ ،‬والقاتلين للضعفاء‪ ،‬أستيقظ كل صباح على هذه األفكار‪،‬‬
‫فت هذا التشاؤم‬ ‫الشغف الذي كان لدي حول الحياة‪ ،‬بدأ يختفي‪ ،‬أل ُ‬
‫ِ‬
‫وأستمتع به‪ ،‬ال خوف من املوت‪ ،‬أيتها الكاتبة الجميلة إريكا يونغ‪ ،‬تماما ال‬
‫خوف من املوت ومن كل هذه الضاللة‪ ،‬التي سأغترف منها قبحها ألكون‬
‫قادرا على املواصلة‪ ،‬أه إلى أين تقود البشرية نفسها؟ أال يعلمون أن هللا‬
‫وعدنا بالرحمة واملغفرة‪ ،‬وأمرنا بنشر السلم واملحبة‪ ،‬سيحل علينا غضب‬
‫هللا‪ ،‬رحمته التي وسعت كل ش يء سيرفعها عنا‪ ،‬ألننا لم نعد قادرين على‬
‫نشر الرحمة بين الناس‪ ،‬الخوف هو الرهبة التي تفشت في قلوبنا‪ ،‬لسنا‬
‫إنسانيين بما يكفي لتحل علينا الرحمة‪ ،‬سيحصل لنا ما حصل مع قوم‬
‫موس ى حينما قال لقومه‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪" :‬فرجع ُموس ى ِإلى قو ِم ِه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫غضبان أ ِسفا قال يا قو ِم ألم ي ِعدكم رُّبكم وعدا حسنا أفطال عليك ُم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العه ُد أم أردتم أن ي ِح َل عليكم غض ٌب ِمن رِّبكم فأخلف ُتم مو ِع ِدي (‪.")86‬‬

‫‪31‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫كنت ذا ثقة زائدة‪ ،‬أعامل الناس بأدب مفرط‪ ،‬أتشارك معهم‬


‫أحزانهم‪ ،‬ولكن هذا لن يستمر‪ ،‬أكيد‪ ،‬لن يدوم‪ ،‬ألن هناك أمورا خبيثة‬
‫تجعلنا نتخذ مثل هذه القرارات‪ ،‬ونعقد العزم على عدم التراجع‪ ،‬يالقينا‬
‫القدر بأشخاص سيئين يعلموننا معنى االستمرار على قيد الحياة‪ ،‬هم في‬
‫الحقيقة جيدون ولطفاء وفضالء‪ ،‬ليسوا سيئين‪ ،‬بل هم متلونون‬
‫ومزيفون‪ ،‬ومقنعون‪ ،‬فاإلنسان قد يتحول إلى مالك في أي لحظة‪ ،‬يظهر‬
‫لك أنه إنسان كامل‪ ،‬كل هذا بفعل املصلحة‪ ،‬أينما وجدت املنفعة‬
‫تجدهم‪ ،‬وإن اقتضت الضرورة أن يستمروا معك مكرا وخداعا مدة‬
‫طويلة‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬ليس خيرا وال شريرا‪ ،‬هو فقط يتلون حسب‬
‫طبيعة مصلحته‪ ،‬ال أصدق مقدار الخيبات التي أصابتني ومن أقرب‬
‫إلي‪ ،‬الصديق املتفلسف أحمد‪ ،‬متلون املالمح طالب تخصص‬ ‫األشخاص ّ‬
‫الفلسفة‪ ،‬قارئ جيد وذكي‪ ،‬إال أنه مقرف وقبيح‪ ،‬محترف الغواية في علم‬
‫البنات‪ ،‬وفتح األبواب‪ ،‬وتركها مشرعة‪ ،‬بعد وعود زائفة في ال ش يء‪ ،‬حقارته‬
‫أدت به إلى التخلي عن معتقده‪ ،‬ظنا بأنه ذو فكر تنويري‪ ،‬أه على عزاء‬
‫الفلسفة من هؤالء‪ ،‬ما يؤسفني كثيرا‪ ،‬هو الفخر الذي تفخره أمه في‬
‫قريتنا‪ ،‬مرددة ابني يدرس في الجامعة‪ ،‬وسيصبح أستاذا‪ ،‬كم أنت مخطئة‬
‫يا خالتي‪ ،‬ففخرك ثعلب وفاسد‪ ،‬إن أهل البادية سرعان ما يفقدون‬
‫عقلهم في املدينة‪ ،‬يتبعون أهواءهم نتيجة الكبت الذي أقام في داخلهم‬
‫كالجبال‪ ،‬ال أدري‪ ،‬هل هذا من سوء التربية؟ أم حقا ألن املدينة تفسد‬
‫عقول شباب البادية‪ ،‬نتيجة القمع والكبث في البوادي‪ ،‬ولكن ال أظن‪،‬‬
‫املسألة ليست متعلقة بالتربية أو الفساد‪ ،‬أو انعدام الحرية عندنا‪ ،‬أتذكر‬
‫أننا كنا أحرارا‪ ،‬عشنا حياتنا كما نريد‪ ،‬بعد تخلصنا من عقدة العائلة‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫فالقضية قضية مبادئ‪ ،‬ال قضية تغيير األمكنة‪ .‬لعلي حظيت بحظ وفير؛‬
‫ألن فهمي للحياة وبشاعتها‪ ،‬أخذته من رأس شيخي صالح‪.‬‬
‫قلت إن أحمد استغل ثقتي امللعونة‪ ،‬ليبحث عن حيلة يشوه بها‬
‫سمعتي‪ ،‬وما قام به غريب جدا‪ ،‬وال أتصور أن الشيطان قد يفعل مثل‬
‫أفاعيله‪ ،‬واستغل أيضا لحظة سفر جمال لزيارة أهله بعد سماعه بمرض‬
‫جدته‪ ،‬قبل سفره إلى الخارج‪ ،‬جمال ال وثاقة له مع أحمد‪ ،‬لذلك يكرهه‬
‫ويبغضه‪ ،‬بعدما خدعه مع طالبة صديقة عزيزة عليه‪ ،‬وأنتم تعرفون ماذا‬
‫فعل معها؟ وإن كان جمال يصنع صنيع أحمد مع الطالبات‪ ،‬إال أنه‬
‫شخص تعول عليه‪ ،‬عكس خبث أحمد‪ ،‬يتخلى عنك بعد قضاء مصالحه‪،‬‬
‫أي شنيعة رمتها زاكورة لنا؟ أي بطن يحمل مثل هذه الكوارث؟ الناس‬
‫مخطئون في معتقدهم‪ ،‬بأن جميع أبناء زاكورة تنطبق عليهم عبارة "هللا‬
‫اعمرها دار"‪ ،‬ال حشركم هللا مع وجوه محشوة في عقولها بأكل الحمير‪ ،‬ال‬
‫تعتقدوا ما يدور في أذهانكم أنه معتقد سليم‪ ،‬فقد أخبرتكم بأن الحياة ال‬
‫تقف على الجمال و القبح‪ ،‬أو الخير والشر‪ ،‬أو مسلم وكافر‪ ،‬هذا اعتقاد‬
‫خاطئ‪ ،‬فالناس تعرفهم في املواقف واملصالح‪ ،‬وما سوى هذا فال أظن‪.‬‬
‫ليزيل املغاربة فكرة التعميم‪ ،‬ففيها تضليل وتنكيل‪ ،‬صور اإلنسان‬
‫تشابهت‪ ،‬وصارت واحدة‪ ،‬فهم منساقون وراء تعاليم اإلله الجديد‪ ،‬إله‬
‫املال‪ ،‬وإله املصلحة‪ ،‬وأشياء كثيرة‪ ،‬دعني أخبرك بما ساء لي مدعي الفكر‬
‫والفلسفة‪.‬‬
‫كان اليوم يوم األحد‪ ،‬من املعلوم عند الطلبة في هذا اليوم‪ ،‬أن هناك‬
‫مكانا يلتقون فيه‪ ،‬الستعراض ثقافتهم الشعبية‪ ،‬من أغان وفولكلور‪،‬‬
‫وصور شهداء‪ ،‬يعرضها املاركسيون املزيفون‪ ،‬واألمازيغ ونجد في هذا‬

‫‪33‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫التجمع الطالبي الثقافي‪ ،‬التنوع الذي تزخر به الثقافة املغربية‪ ،‬وأنا‬


‫أشاهد تلك املناظر الجميلة‪ ،‬في مساء صاخب‪ ،‬وجو حار‪ ،‬وفضاء يحيل‬
‫باملتعة‪ ،‬أصوات بمختلف الرنات تأتيك من كل الجهات‪ ،‬وقبالت العاشقين‬
‫تسمع اصطفاقها‪ ،‬نغمات موسيقية تطرق سمعي‪ ،‬ال تكاد تنتهي إلى‬
‫داخلك حتى تطرقك أخرى‪ ،‬وغالبا ما طرقت سمعي أصغي ألقالل زاكورة‪،‬‬
‫وأحيدوس‪ ،‬وبعض األغاني الثورية‪ ،‬وأمتعت عيني بجمال األلبسة املغربية‬
‫التراثية على أجساد الفاتنات األنيقات‪ ،‬وجوه توحي بالجمال يتمايل‬
‫ويبتسم تارة ويثرثر تارة‪ ،‬ووجوه كأنها القبح بعينه‪ ،‬وجوه كلما نظرت إليها‬
‫أصابك الضجر مما تراه‪ ،‬ففي تلك اللحظة تلعن شيئا اسمه األنثى‪ ،‬نظرا‬
‫ملناظر القبح التي تمأل املكان‪ ،‬إال أن املالمح النيرة املبتهجة رغم قلتها‪،‬‬
‫تجعلنا نتأمل ونستمتع‪ ،‬متى سيحن علينا الزمن‪ ،‬ليجعلنا بين أحضان‬
‫الفنون الجميلة؟ فقط ينقصنا أن نكون رجاال‪ ،‬كما يقول لي أبي كن رجال‬
‫يا نديم‪ ،‬هكذا يقول لي أبي‪ ،‬وللجلوس في مثل هذه األحضان تنقصني‬
‫األموال ثم األموال ثم األموال ثم الرجولة يا أبي‪.‬‬
‫وأنا أتجول ألستمتع باملناظر املسائية في التجمع‪ ،‬رأيت أحمد‪،‬‬
‫كعادته في لقاء حميمي‪ ،‬املاقت يحمل بحرا من املشاعر الكاذبة في داخله‪،‬‬
‫كافية لتوقع ما ال حصر له من الطالبات‪ ،‬ال أريد أن أضيع عليه لقاءه‬
‫الحميمي‪ ،‬تركته في راحة ماسخة‪ ،‬يستدرج فيها طالبة معتدلة القامة‪ ،‬بهية‬
‫البسمة‪ ،‬ذات قوام جسدي مثير‪ ،‬تمتلك شعرا سحريا‪ ،‬صافية الوجه‪،‬‬
‫مرتاحة الضمير‪ ،‬تلوك العلكة بحركات توحي بالرغبة في السرير‪ ،‬يظهر‬
‫عليها أنها وقعت في شباك أحمد الغرامية‪ ،‬بفعل حالوة كالمه‪ .‬رفع رأسه‬
‫فجمد الطالبة في مكانها‪ ،‬وأتى عندي‪ ،‬سلمت عليه‪،‬‬ ‫فجأة‪ ،‬وعلم أني رأيته‪ّ ،‬‬
‫ولم يرد السالم بأحسن منه‪ ،‬ردد عبارة تافهة‪ ،‬أصال أنا أنعم في السالم مع‬

‫‪34‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تلك القطة الجميلة‪ ،‬سألته عن أحواله وأحوال األسرة‪ ،‬فقال‪ :‬إنه لم‬
‫يتواصل معهم‪ ،‬وال يريد أن يتواصل معهم‪ ،‬لم أساله عن السبب‪ ،‬أكيد‬
‫ربما وصل فساده إلى أهل القرية‪ ،‬فعندنا أناس بمثابة رادارات توصل عنك‬
‫دقائق األمور‪ ،‬قال‪ :‬ال تكترث لألمر‪ ،‬أخبرني أين صديقك العزيز جمال؟‬
‫ربما لم يعد قادرا على اللقاء بي‪ ،‬أم أنه تاب عن أفعاله؟ أخبرته بأنه سافر‬
‫ليطمئن على جدته‪ ،‬وهو مع صاحبته يستمتع بوقته‪ ،‬كانت ردته سخيفة‪،‬‬
‫أي لقاء يا نديم‪ ،‬أنتم أهل الدراسات العربية واإلسالمية‪ ،‬تعيشون خرفا‪،‬‬
‫ال فكر لكم‪ ،‬أنتم تحفظون فقط‪ ،‬فكروا قليال‪ ،‬ال لقاء بعد املوت يا‬
‫صديقي‪ ،‬إن أردت أن أقدم لك أدلة‪ ،‬فمرحبا‪ ،‬قطعت كالمه‪ ،‬هدأت من‬
‫روعي‪ ،‬وقلت في خاطري‪ ،‬لم يكن أحمد الطفولة الذي أعرفه‪ ،‬لقد تغير في‬
‫كل ش يء‪ ،‬انقلب رأسا على عقب‪ ،‬أي سفالة ينعم فيها؟ ينبغي أن يعود إلى‬
‫رشده‪ ،‬فقد فهم الفلسفة فهما خاطئا‪.‬‬
‫أخبرته بأني ال أحتاج أدلة وال هم يحزنون‪ ،‬وال شأن لي بالفلسفة‬
‫أصال‪ ،‬إذا كانت تنتج مثل هؤالء السفالة األمقات‪ ،‬الذين يعتقدون في‬
‫التصابح والتماس ي أنهم مفكرون وعباقرة‪ ،‬فسالم عليهم وفلسفتهم وعن‬
‫فكرها ووعيها‪ ،‬أنعم هللا علينا بسيبويه والكسائي واملكودي والجرجاني‬
‫والطائفة‪ ،‬كان رده مستفزا‪ ،‬أنتم أهل العربية التكراريون والحفاظون‪،‬‬
‫تتربصون وتحشرون املعرفة في دماغهم دون تفحصها‪ ،‬قلت في خاطري‪:‬‬
‫أفضل أن أكون سطال يمأل بالخراء على أن أكون سافال‪ ،‬أنفي وجود هللا‪.‬‬
‫بعدما تأكدت من سر عدواته مع جمال‪ ،‬لهذا السبب إذن‪ ،‬لم أزد‬
‫معه كلمة سوى طلب الهداية من هللا والسالم‪ ،‬فوقف الجبان ضاحكا‪،‬‬
‫قائال‪ :‬أنا أنعم في السالم‪ ،‬وال أحتاج كالمك هذا‪ ،‬انظر إلى نفسك ربما‬

‫‪35‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تنقصك املتعة‪ ،‬فلك ذلك إن أردت‪ ،‬ودون الرد على كالمه‪ُ ،‬عدت إلى‬
‫أدراجي‪ ،‬ذهبت إلى البيت‪ ،‬دون التفكير في عبارته األخيرة‪ ،‬تنقصك املتعة‪،‬‬
‫لك ذلك‪ ،‬بعد العودة إلى البيت‪ ،‬كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليال‪،‬‬
‫دخلت إلى البيت وتفكيري كله في وضع أحمد‪ ،‬كيف يمكن مساعدته ليعود‬
‫إلى رشده؟ ويتصالح مع العائلة‪ ،‬التي ابتعد عنها‪ ،‬وابتعد عن البلد‪ ،‬ربما‬
‫يحتاج مساعدة‪ ،‬أخرست نفس ي دون إشغال بالي به‪ ،‬الليلة كلها مرت‬
‫بالتفكير في فاجعة أحمد‪ ،‬قبل أن تحل ّ‬
‫علي الفاجعة الكبرى‪ ،‬التي دبر لها‬
‫الشيطان األخرس أحمد‪ ،‬يا هللا كل كلمة تخرج من فيه تحوي سما قاتال‪،‬‬
‫ود وطيبة‪ ،‬فكأن هذا ّ‬
‫الود‬ ‫ال أعرف كيف صبرت على استفزازاته‪ ،‬عرفته ذا ّ‬
‫لم يكن ولم يعرف به‪ ،‬ربنا أفرغ علينا مودة وصبرا لتجاوز هذه املعضلة‬
‫املتعلقة بالكرامة‪ ،‬ترقق قلبي‪ ،‬ووضعت صورة أم أحمد الحقير في ذهني‪،‬‬
‫امرأة طيبة‪ ،‬ولدت نغال وبغال ال يعرف حدا في املعصية‪ ،‬صبرت كثيرا‪،،‬‬
‫وأفكر في مصدر الصبر الذي أفرغ ّ‬
‫علي أثناء ادعاءاته الكاذبة وجرأته على‬
‫الحديث في العقيدة‪ ،‬ماذا فعلت خالتي حتى رزقها هللا بهذا االبن العاق؟‬
‫كان صديقي أيام الثانوية‪ ،‬كنا ال نفترق‪ ،‬وكان شخصا طيبا‪ ،‬وبعد دخوله‬
‫إلى الجامعة تغير تغيرا جذريا‪ ،‬كنت أحسبه الظل الذي ال يفارق صاحبه‬
‫حتى في الظالم‪ ،‬ولكن بعد فعلته التي سأحدثك عنها‪ ،‬نسيت شيئا اسمه‬
‫الصداقة‪ ،‬ونسيت شخصا اسمه أحمد األخرس‪.‬‬
‫في أحايين كثيرة‪ ،‬تكون صداقاتنا مصدرا للضرر واأللم‪ ،‬صداقات‬
‫اكتسبنا فيها ومنها املضرة أكثر من املنفعة‪ .‬في الحياة ال نكون في حاجة‬
‫لرسم صور األصدقاء في قلوبنا‪ ،‬يكفي أن نضعهم كأشجار مثمرة تتساقط‬
‫كلما دارت عليها الفصول‪ ،‬البؤساء في حياتنا هم الباحثون عن صداقة‬
‫دائمة ومستمرة‪ ،‬ويحملون فكرا مثاليا عن العالقات‪ ،‬وال يحسبون حسيبا‬

‫‪36‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫بمكرية اإلنسان‪ ،‬وثعلبيته‪ ،‬لم تعد حياتنا مهداة لآلخرين‪ ،‬ال يهمنا‬
‫رحيلهم‪ ،‬وال فجاءة بما يمكرون‪ ،‬أساس الوجود االهتمام بعاملنا الناسوتي‬
‫شد الوثاق بأصالة الصداقة‪،‬‬ ‫الداخلي‪ ،‬لم نولد لنسعد حقراء العالم‪ ،‬وال ّ‬
‫خلقنا باألساس بقلب واحد‪ ،‬وعقل واحد‪ ،‬ومصيرنا واحد‪ ،‬قلبنا ال يتسع‬
‫ليحمل زيف أولئك الخبثاء‪ ،‬سندفن وحيدين وسنحاسب وحيدين‪،‬‬
‫وسيأتينا هللا يوم القيامة فرادى‪ ،‬ولكن ال أستطيع الحسم اقرارا بأن‬
‫جميع الصداقات ميؤوسة‪ ،‬فقد يأتيك هللا بصداقة تنعم بها‪ ،‬وتسعد بها‪،‬‬
‫ُ‬
‫جمال‪ ،‬وأبشر به صديقا مخلصا ماتعا ورفيقا واثقا رقيقا‪،‬‬ ‫ف ِنعم الجمال‬
‫وإن كان غريبا‪ ،‬وليس ابن منطقتي فهو شخص أعتز به وأرجو له كل‬
‫الخير‪.‬‬
‫لعنت الشيطان‪ ،‬وتركت التفكير في فعلة أحمد‪ ،‬فقمت وأكلت‬ ‫ُ‬
‫بعض األشياء‪ ،‬أسد بها رمق جوعي فقط‪ ،‬دون الوصول إلى الشبع‪ ،‬وقرأت‬
‫صفحات من ديوان املعري‪ ،‬فأثارني قول عجيب وغريب‪ ،‬قاله الشاعر‪:‬‬
‫ّ‬
‫فعلهم وأن تكون لدى الجالس ممقوتا‬‫وجانب الناس تأمن سوء ِ‬
‫ل ّبد من أن يذموا كل من صحبوا ولو أراهم حصا العزاء ياقوتا‬
‫كنت أعتبر الرفقة محمدة ونعمة ربانية‪ ،‬أما اآلن فهي مقت وسوء‪،‬‬
‫لسنا مجبرين على اعتناق أرواح الناس‪ ،‬اعتناق أنفسنا أفضل ما يمكن‬
‫تحقيقه‪ ،‬أما اعتناق اآلخرين فال نجد فيه سوى األلم والبشاعة‪ ،‬كانت‬
‫فعلة أحمد في تلك الليلة السودادوية صدمة وكارثة بالنسبة ّ‬
‫إلي‪ ،‬ملا علم‬
‫أحمد أنني وحيد تلك الليلة‪ ،‬أخبر طالبة تحترف املسامرات املاجنة‪ ،‬راغبة‬
‫في املال‪ ،‬وراغبة في املتعة‪ ،‬فقدم لها عنوان البيت الذي أقطن فيه‪ ،‬فزارتني‬
‫تلك اللية املتظلمة‪ ،‬قائلة أخبرني صديقك بأنك تبحث عن فتح أبواب‬

‫‪37‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫املتعة‪ ،‬وترغب في االستمتاع بجسد أنثوي مثير‪ ،‬وتتشوق إلى زيارة أكثر‬
‫منطقة تظنونها مثيرة في املرأة‪ ،‬أخبرتها بأنني لم أفهم قصدها‪ ،‬عن أي‬
‫صديق تتحدثين؟ وما محلك من اإلعراب؟ ال ينقصني سوى همك‪ ،‬حدثتها‬
‫أنني ال أتقن الحديث مع البنات‪ ،‬ولكن ماذا تريدين؟ أجابت‪ ،‬جئت ألقدم‬
‫لك املتعة كما قال صديقك‪ ،‬مع مقابل مادي زهيد‪ ،‬ال تخف‪ ،‬لن أطلب‬
‫منك الكثير‪ ،‬أرى فيك حقا أنك لم تجرب من قبل‪ ،‬هكذا قال صديقك‬
‫أحمد‪ ،‬أدركت قصدها وفهمت مقصدها بعد ذكرها السم أحمد‪ ،‬قلت لها‪:‬‬
‫رجاء سيدتي أنا لم أطلب منه شيئا‪ ،‬أراد فقط أن يوقعني في الرذيلة كما‬
‫فعل مع أصدقاء كثيرين‪ ،‬فعل بهم مثل هذه األفاعيل‪ ،‬لم ألتق به ألطلب‬
‫منه أمرا كهذا‪ ،‬أجد حرجا أصال في إطالة الحديث معك ومع اإلناث عامة‪،‬‬
‫فكيف أزعم على طلب ما تسمينه باملتعة‪ ،‬كنت قد صادفته في املعرض‬
‫الطالبي اليوم‪ ،‬وسلمت عليه‪ ،‬ألنه ابن منطقتنا‪ ،‬الجنوب الشرقي‪،‬‬
‫إلي‪ ،‬وأنت مجرد ضحية‬ ‫فأخبرته بأنني وحيد‪ ،‬فاستغل الفرصة فأرسلك ّ‬
‫مستغلة بغباء‪ ،‬ال أدري كيف تسول لك نفسك املجيء بهذه السهولة‬
‫والبرودة؟ ال أعرف كيف تستطيعين بيع جسدك بهذه السذاجة؟‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا صديقة ألحمد‪ ،‬وأثق فيه كثيرا‪ ،‬وملا أخبرني بالطلب قدم لي‬
‫العنوان‪ ،‬لم أستفسر عن الشخص‪ ،‬ولم أزد على املوافقة بكالم آخر‪،‬‬
‫وجئت إليك مباشرة‪ ،‬استغربت من حديثها هذا‪ ،‬فقلت لها‪ :‬املال أعز وأرقى‬
‫من قداسة ذاتك‪ ،‬وفي هذه الليلة الظلماء تأتين رغبة في تحصيله‪ ،‬دون‬
‫وضع اعتبار لكرامتك‪ ،‬ربما أوقعك أحمد بكالمه الساحر واملتلون‪،‬‬
‫وجعلك في مصيدة الثقة الزائفة‪ ،‬ال أحتاج إلى متعة يأتي بعدها ندم‬
‫شديد‪ ،‬وال رغبة لي في تجربة مثل هذه األمور‪ ،‬افهميني أنا إنسان جنوبي‬
‫مشاعري معطلة‪ ،‬ورغباتي مفقودة‪ ،‬متعتي اآلن يا سيدتي مع الكتب‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وتحصيل املعرفة‪ ،‬أبحث فيها عن متعة دائمة ال متناهية‪ ،‬ابحثي لك عن‬


‫بديل آخر‪ ،‬أما إذا كانت متعتك محدودة باملال فهناك ِمه ٌن تحافظين فيها‬
‫على جسدك اإليروتيكي‪ ،‬دون أن ترميه كبقايا السيجارة‪ ،‬على سرير‬
‫رخيص‪ ،‬وأمام أشخاص وحوش‪ ،‬يتمتعون ويستمتعون ثم يرمونك‪،‬‬
‫ويجعلونك في ألسنتهم باغية وعاهرة‪.‬‬
‫إن ممارسة البغاء مقابل املقابل املادي‪ ،‬من تباشير اإلله الجديد‪،‬‬
‫تف ّهمت الطالبة األمر‪ ،‬وشعرت ببعض الخجل‪ ،‬ووضعت يدها على رأسها‪،‬‬
‫رأيت في وجهها براءة ضائعة‪ ،‬وجماال ضائعا في البغاء‪ ،‬مع الخبثاء‪ ،‬رأيت‬
‫فيها ثقة زائدة لعينة‪ ،‬ملا رأيتها في تلك الحالة أخبرتها بأن نخرج إلى الخارج‬
‫ونتحدث قليال‪ ،‬حتى ال ينفضح حالي مع الجيران‪ ،‬رغم تأخر الوقت‪،‬‬
‫خرجنا ألكون طرفا يغير حالها إلى أفضل‪ ،‬حال‪ ،‬ورغم أننا نقر على عدم‬
‫االكتراث ألوامر الناس‪ ،‬فإن ضميرنا ال يسمح لإلنسانية أن تتالش ى وأن‬
‫تزول‪.‬‬
‫جلست معها في حديقة قرب مقر الكراء‪ ،‬وكانت الساعة العاشرة‬
‫والنصف ليال‪ ،‬أخبرتها بما يسعى إليه أحمد‪ ،‬تجمدت الفتاة في مكانها‪،‬‬
‫سر تتبعها لطريق البغاء‪ ،‬وغاية اتباعها للمسامرات‪ ،‬كانت‬ ‫حاولت أن أفهم ّ‬
‫تحمل هموما مثل الجبال‪ ،‬قالت‪ :‬أنها لم تجد ما تصرفه على نفسها‪،‬‬
‫ملشقة ظروفها وكثرة أعباء الحياة عليها‪ ،‬وكونها عاشت حياة شديدة في‬
‫طفولتها‪ ،‬لم تستمتع بها‪ ،‬ولم تكن تألف جو املدينة‪ ،‬وال دراية لها بما فيها‬
‫من تطور وتقدم‪ ،‬وحرية عرائية‪ ،‬جاءت من القرية‪ ،‬لتكمل دراستها‬
‫الجامعية في الحقوق‪ ،‬فاندهشت مما رأت وبدا لها منتشرا في املدينة‪،‬‬
‫وسعت في العهد لتبحث عن عمل ولم تجده‪ ،‬فوجدت طريق ممارسة‬

‫‪39‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الحب امللجأ الذي يسدد حاجاتها‪ ،‬املسكينة أي مال ستجدينه عند أحمد‬
‫وعندي أنا؟ ال نملك سوى دراهم نأكل بها وجبة واحدة‪ ،‬منتظرين خروج‬
‫املحنة التي تقدمها الدولة للطلبة‪ ،‬حزنت لحالتها‪ ،‬ولصدقها وصداقتها‬
‫وبراءتها وثقتها‪ ،‬كانت طالبة جميلة الوجه‪ ،‬حسنة املنظر‪ ،‬معتدلة القوام‪،‬‬
‫ضائعة في شرفها‪ ،‬وفي شوارع املدينة‪ ،‬بكت كثيرا‪ ،‬بعدما سمعت كالمي‪،‬‬
‫وتحسرت على ما تفعله‪ ،‬وما فعله أحمد بها‪ ،‬ال لومة على أمثالك‪ ،‬اللومة‬
‫على الذين يستغلون عجزك لقضاء مصالحهم‪ ،‬واللعنة عليهم وعلى‬
‫أموالهم‪.‬‬
‫لم يفلح أحمد إليقاعي في ضاللته‪ ،‬ما فعله جعلني أمقته مقتا‪،‬‬
‫وأكرهه كرها‪ ،‬ال أعلم ما به‪ ،‬وماذا أصابه؟ أرجو له الهداية‪ ،‬ولكن عالقتي‬
‫ودعت الطالبة‪،‬‬ ‫معه انتهت‪ ،‬لن أسمح لنفس ي أن تلتقي معه مرة أخرى‪ّ ،‬‬
‫وتعرفت عليها‪ ،‬وقلت لها إن احتاجت مساعدة أن تتصل‬ ‫وع ّرفتها بنفس ي‪ّ ،‬‬
‫بي وتتواصل معي‪ ،‬وإن كنا نحن أكثر املحتاجين إلى املساعدة‪ ،‬ذهبت‬
‫ودموع الحسرة تتساقط عليها‪ ،‬كنت صارما معها بهدوء‪ ،‬تأثرت بما قلته‪،‬‬
‫لم أكن أعلم أنني أتقن االحتضان الكالمي‪ ،‬واستمالة الناس والتأثير فيهم‬
‫لهذه الدرجة‪ ،‬كان اسمها سارة‪ ،‬آخر كلمة قالتها بعد ذهابها‪ ،‬هلل القدرة‬
‫على ّرد عبده إلى الطريق املستقيم‪ ،‬لم أندم على مقابلتك يا نديم‪ ،‬ففي كل‬
‫شر خير ال نعلمه‪ ،‬واصلت الكالم قائلة‪ :‬أنني أحترق من كيد أحمد بك‪ ،‬أما‬
‫أنا فوددت لو ألقيت بنفس ي في مكان عل بسبب صنعته ومكيدته النكراء‬
‫الشنعاء‪ ،‬واملشكلة أن أسرتي ال علم لها بما أصنعه وأفعله‪ ،‬وهذه مشكلتنا‬
‫نحن اإلناث‪ ،‬ال نلقي حسيبا لشرف األسرة‪ ،‬نفعل ما يمليه علينا عقلنا متى‬
‫كنا بعيدين عنهم‪ ،‬ووحيدين في مكان ال يراقبنا فيه إال هللا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫حركت رأس ي‪ ،‬وهمست في خاطري‪ ،‬أبعد عنا هللا الحرام‪ ،‬واحلل‬


‫عقدة لساني ملساعدة إنسانة بريئة‪ ،‬أتت من العالم السفلي‪ ،‬عالم منس ي‪،‬‬
‫وذهبت‪ ،‬وقلت‪ :‬ال رغبة في إعادة ما حدث لشخص ما‪ ،‬فما وقع لي مع‬
‫أحمد أمر غير مصدق‪ ،‬نسيت ما حصل‪ ،‬وبعد مرور أسبوع عن الحادثة‬
‫وصلتني أخبار بأن الطالبة قد وبخت أحمد وفضحته أمام املأل بكلية‬
‫الحقوق‪ ،‬وكان وداعهما بالسب والشتم‪ ،‬وحسنا فعلت فال محل لبريئة‬
‫مثلها مع ذلك الخبيث‪ ،‬مدعي التفلسف‪ ،‬وجاهل الفلسفة‪ ،‬هوى به عقله‬
‫إلى دراسة الفلسفة وهوت به نفسه‪ ،‬إلى ادعاء أنه مفكر‪ ،‬وظن أن‬
‫الفلسفة متعارضة مع الدين‪ ،‬هوت به نفسه‪ ،‬إلى اعتبار الحرية هي حرية‬
‫فعل ما يشاء‪ ،‬الحرية مغلطة في عقله‪ ،‬إن الحرية هي املصالحة مع الذات‪،‬‬
‫واألخذ بسبل تنميتها‪ ،‬وأن نأخذ ذواتنا على النقد‪ ،‬فحتى قولة نيتشه‬
‫الشهيرة يأخذ أحمد وأمثاله بظاهرها‪ ،‬مات اإلله ونحن من قتلناه‪،‬‬
‫يفهمون أن هللا حقا ميت‪ ،‬واألساس أن عقولهم هي امليتة‪ ،‬التي تستقبل‬
‫جميع املعارف دون إعمال بصيرة‪ ،‬وإقرار شك‪ ،‬وإظهار نقد‪ ،‬وإن كنت‬
‫طالبا في الدراسات العربية‪ ،‬فالفلسفة ّبراءة من هذه األفكار‪ ،‬التي يرددها‬
‫متخصصو الفلسفة في اإلجازة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪5‬‬
‫العدو الداخلي‬
‫اليأس من الحياة ال يعد جريمة‪ ،‬فقد يكون املحدد الرئيس ملسارك‪،‬‬
‫فكرت بأن أكمل مساري الدراس ي‪ ،‬فتقدمت ملباراة ماستر بمدينة النصر‪،‬‬
‫كلية اآلداب‪ ،‬جامعة ابن الياسمين‪ ،‬لعلي أحتضن مقاما تأمليا آخر يغير‬
‫نظرة ُج ِرم الحياة ومأساتها‪ ،‬ألسافر بالناس بعبارات مطروزة ومسكوكة‬
‫تحيي فيهم آمال عيش جديدة‪ ،‬نغير األمكنة واملأساة على حالها‪ ،‬تحركنا‬
‫الظروف والحياة من مدينة العهد‪ ،‬إلى مدينة النصر‪ ،‬التي سأكتشف‬
‫عاملها‪ ،‬إذا ولجت سلك املاستر‪ ،‬مدينة العهد‪ ،‬عهد بيني وبين نفس ي على‬
‫مصالحتها‪ ،‬وعهد على مواصلة ما نصحني به الشيخ صالح‪ ،‬والعم إدريس‪،‬‬
‫وأبي وأمي العزيزان‪ ،‬وأنا أترك مدينة العهد‪ ،‬أتذكر قول الشاعر العربي‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ َ َ‬
‫يار ِإذا تحم َل أهل َها‪َ ...‬د َرست فلم ُيعلم لها َبمك ِان‬ ‫ليت الد‬
‫َ‬ ‫الد َي َاروإن َت َ‬
‫قادم َع ْه ُدها‪ّ ...‬مما ُت َه ّيج َد َ‬ ‫إ ّن ّ‬
‫ائم األ ْح َز ِان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مدينة النصر عهد آخر في جامعة الياسمين‪ ،‬أناصر فيه حالي‪،‬‬
‫وأعانق فيه أملي‪ ،‬وأتجاوز فيه أحزاني‪ ،‬نعم أتجاوزها‪ ،‬ألنني أهلكت نفس ي‬
‫بها‪ .‬يكاد يكون قولي صحيحا‪ ،‬ولكن أفقد أملي من األمل الذي أعقده على‬
‫الحياة‪ ،‬بسبب املناظر التي نسبح فيها‪ ،‬وأحدثك أنني تفوقت في ولوج سلك‬
‫املاستر‪ ،‬بعد مباراتي الكتابي والشفوي‪ ،‬لم أصطنع فرحة‪ ،‬ألنني ال أفرح‬
‫بما أصنع‪ ،‬أحمد هللا فقط‪ ،‬تلك املثالية التي نسمع بها عن املاستر‪ ،‬زالت‬
‫من اللقاء األول مع منسقي املاستر‪ ،‬يظهر أننا سنحصد البؤس بهذه‬
‫آمل أن أسرد على القارئ شيئا‪ ،‬مما يقع‬ ‫الكلية‪ ،‬تباشير غير محمودة‪ ،‬ال ُ‬

‫‪42‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ويحصل في مطبخ الكلية‪ ،‬ولكن دعني أقول لك بأن الفضيلة‪ ،‬أمست‬


‫اليوم لصيقة ومترابطة بالذين ال يبتغون علوا وال تقدما‪ ،‬همهم األكبر‬
‫العيش بما كتب لهم هللا من رزق‪ ،‬وما وجد في يومهم‪ ،‬وما يأتي غدا فاهلل‬
‫حسيبه‪ ،‬يسعون إلى احتضان املحبة والسلم في قلوبهم‪ ،‬هؤالء الطيبون‬
‫قليلون جدا‪ ،‬ال يدمون طويال‪ ،‬أما الذين يريدون املتاع والفوز في الدنيا‬
‫فاألخالق وعائلتها‪ ،‬ال قيمة لها عندهم‪ ،‬يعتبرونها وسيلة لقضاء املصالح‪،‬‬
‫وابتغاء تحصيل املال‪ ،‬كان طه حسين محقا ملا قال عبارة جميلة‪ " :‬األخالق‬
‫في وجه هؤالء رثة ال قيمة لها"‪ ،‬كل ما يحقق لهم األساس الذاتي وإن كان‬
‫مذموما فله قيمة عظيمة‪ ،‬هم الذين يحملون حقدا داخليا‪ ،‬ففي دواخلهم‬
‫مقبرة مدمرة لإلنسانية‪ ،‬اإلنسان يحمل عدوا قاتال‪ ،‬ال يظهر للعيان‪ ،‬بل‬
‫وال مقياس وال محدد له‪ ،‬يتالش ى في عروق اإلنسان ليقض ي عليه‪ .‬فداخل‬
‫املاستر وجدت أن اسم األستاذ الجامعي تسمية تضخيمية للبعض‪ ،‬سموا‬
‫بذاك االسم فقط‪ ،‬هذا هو الحال في كلية اآلداب‪ ،‬وباقي الكليات في البالد‪،‬‬
‫فال مرقاة لهم ليكونوا إنسانيين‪ ،‬وأما األستاذية فأبع ُد عنهم بكثير بعد‬
‫املشرقين واملغربين‪ ،‬أفاعيلهم وسلوكاتهم تضر الخاطر‪ ،‬والعلم ّبر ٌاء منهم‪،‬‬
‫واألجل‪ ،‬ملء الخزينة وشراء سيارة فخمة‪ ،‬والفخر بمنزل‬ ‫ّ‬ ‫همهم األسمى‬
‫يطل على البحر‪ ،‬أما املعرفة حبيبي الطالب فمطروحة في بطون الكتب‪،‬‬
‫حصلها أو دعها‪ ،‬أما هم ال يلقون إال كلمات رنانة عليك‪ ،‬فتظن أن‬ ‫ّ‬
‫صنيعهم جليل ومحمود‪ ،‬والوالجون إلى املاستر‪ ،‬ليسوا باحثين كما تظن‪،‬‬
‫بل أدنى من ذلك وأزل‪ ،‬وال تجعل قولي معمما‪ ،‬فضع االستثناء معك‬
‫جانبا‪ ،‬وتعلم أن االستثناء ال يقاس عليه‪ ،‬ما عايناه من املشاهد في‬
‫الجامعة أفظع مما سمعناه‪ ،‬وليس الشاهد كالعيان‪ ،‬الطالبات ال يعرفن‬
‫االسم من الفعل‪ ،‬واملبتدأ من الخبر‪ ،‬وال يفرقن بين املقابلة والطباق‪ ،‬وال‬

‫‪43‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫يعلمن أصال من أصول النحو العربي‪ ،‬تسألك وتحدثها بكالم يفيض‬


‫ببعض األسماء القديمة فال تكاد تفهم شيئا‪ ،‬إنهن يدرسن في املاستر‪ ،‬ال‬
‫هن بباحثات وال هم يحزنون‪ ،‬وأنت تعلم ما هن‪ ،‬وأنبهك على استحضار إال‬
‫في اللغة وعملها مرة أخرى‪ ،‬وإذا تحدثن بكلمة‪ ،‬أو نطقن بحديث وقعن في‬
‫فاحش اللحن‪ ،‬فال مقدرة لهن على تكوين جملة صحيحة وسليمة‪ّ ،‬‬
‫وأما‬
‫الطالب في هذه الكلية‪ ،‬وخاصة طالب املاستر‪ ،‬فأب ِخس بها من قاعدة‬
‫لديهم‪ ،‬وأف ملا يفعلون‪ ،‬يستعرضون عضالتهم أمام طالبات اإلجازة‬
‫املبتدئات‪ ،‬بأنهم باحثون متميزون متمكنون‪ ،‬هم خيرة ما أنجبت‬
‫الجامعة‪ ،‬وهم ال يعلمون شيئا‪ ،‬وال يعرفون في تخصصهم مقدار حبة من‬
‫خرذل‪ ،‬فقط يسعون إلى كسب الصداقة‪ ،‬وسد مشاعرهم املمقوتة‪ ،‬هم‬
‫أقرب من البحث العلمي تفاخرا‪ ،‬وأبعد منه جدا واجتهادا‪ ،‬تبا ملن يظن أن‬
‫الشهادة ترسم اسم الشخص‪ ،‬وتبا ملن يظن نفسه فاهما وحاذقا وعاملا في‬
‫تخصصه‪ ،‬أن يلقي بك هللا وسط الضجر أيسر وأسهل من أن يلقي بك في‬
‫مكان ماقت اسمه الجامعة‪ ،‬تتبدد لدينا فيها كل الصور الجمالية‬
‫والتقديسية التي كنا نسمعها‪ ،‬العلم مع الفئة التي حدثك عنها أكرهتنا من‬
‫ش يء اسمه الجد‪ ،‬عقولهم وعقولهن خاوية ومليئة بالكسل واللحس‬
‫باملعنى الدراجي للكلمة‪ ،‬وأتساءل مستغربا عن سبب ولوجهم للماستر؟‬
‫لن أجيب‪ ،‬فاألمر واضح‪ ،‬وضوح املكر في عيون اإلنسان‪ ،‬واملسائل‬
‫مكشوفة ومفضوحة‪ ،‬أساسها أن احتراف امللق والعبودية يحقق لك ما‬
‫تريد‪ ،‬وأما األساتذة املضخمون الذين ينعتون الطلبة بأنهم ال يرقون‬
‫ملقدار التلمذة‪ ،‬فهم أصال ال يعدون إنسانيين‪ ،‬وال يرقون ليكونوا تالمذة‪،‬‬
‫وما بالك عن األستاذية‪ ،‬البحث العلمي عندهم‪ ،‬والدراسة لديهم ذهبت في‬
‫خبر هذا أعرفه ويأتيني بأخبار الحاقدين‪ ،‬وهذه إيروتيكية‪ ،‬وذات جسد‬

‫‪44‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ايتيكتي‪ .‬قبعوا في الجامعة ليمارسوا هذه املهمة‪ ،‬ويقولون في األخير نريد‬


‫ماال ال علما‪ ،‬سامحهم هللا‪ ،‬يعيبون على الطلبة منقصتهم املعرفية‪،‬‬
‫وعجزهم عن القراءة‪ ،‬وهم أشد فظاظة‪ ،‬فهم مرض ى داخليا‪ ،‬بمرض‬
‫داخلي‪ ،‬ليس خبيثا فقط‪ ،‬بل هو عدو متزمت‪ ،‬هو فساد الضمائر‪ ،‬ليسوا‬
‫متخذين أن العلم ال يهدف إلى بغية ذاتية‪ ،‬وال إلى تحقيق مصلحة‬
‫عاطفية‪ ،‬وال إلى إظهار شأن‪ ،‬وإقرار عظمة‪ ،‬وإعالء قدر‪ ،‬فالعلم أيها‬
‫السادة اصطفاء رباني‪ ،‬ال يجعل الضمير عبثيا‪.‬‬
‫بدا أن اإلنسان عامة يعاني من عدو داخلي هو خبث الضمير‬
‫وفساده‪ ،‬ضمير منفصل عن اإلنسانية‪ ،‬وعن الحياة‪ ،‬وعن املحبة‬
‫والسالم‪ ،‬ومتصل بالخبث والحقارة والفساد والجفاء‪ ،‬والتمرد‪ ،‬إن‬
‫اإلنسان يستتر الحقد الدفين ويلقيه في العالم فيتكاثر فتنشب به حروبا‬
‫وكوارث‪ ،‬البؤس هو مكسبنا الوحيد‪ ،‬أما الفرح فهو اصطناع بشري نواجه‬
‫به العدو الداخلي‪ ،‬والحزن ال يكون مصطنعا‪ ،‬فهو معنا أينما حللنا‪،‬‬
‫واملشكلة املعضلة‪ ،‬املأسوف عليها‪ ،‬أن مصدر الثقافة عندنا‪ ،‬والغناء‬
‫املعرفي‪ ،‬وتكوين األفكار ومركز بناء العقول‪ ،‬مريض أخالقيا‪ ،‬فالجامعة‬
‫تضم أساتذة ال مجال لهم بما يدرسون‪ ،‬وكفى بما يكتبون ويدرسوننا‬
‫شهادة على ما أقول‪ ،‬وكفى بعدم خوضهم في مجال إنتاج املعرفة‬
‫وتجديدها شهادة قاطعة ومقنعة‪ ،‬تنتج الجامعة عندنا ضمائر منفصلة‬
‫عن الواقع ومنفصلة عن مستجدات حياتنا‪ ،‬ومتصلة بتخريب حيواتنا‬
‫ومعيشتنا‪ ،‬ما أصبغت به الجامعة عزيزي القارئ‪ ،‬زيف متناه‪ ،‬وما يطبخ‬
‫فيها وفي دواخلها طعمه فاسد‪ ،‬وال أتحدث عن هذا تعميما‪ ،‬بل داخل‬
‫التعميم تخصيص لثلة أساتذة نفخر بهم وبمحاضرتهم‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫طلب املعرفة هو أملنا الوحيد‪ ،‬نقدم لها كل ش يء‪ ،‬نصرف وقتنا من‬
‫أجلها‪ ،‬نأكل أكلة واحدة من أجلها‪ ،‬نغادر بلدنا ونعيش غربة مريرة من‬
‫أجلها‪ ،‬ابتعدنا عن أحضان األمومة‪ ،‬وفقدنا نصائح األبوة‪ ،‬وتشوقنا لدعاء‬
‫الجدة‪ ،‬وسخائها‪ ،‬وفي األخير نجد حرم املعرفة‪ ،‬أو حريم الجامعة‪ ،‬مطبخا‬
‫يطبخ فيه الجهل والغش والتفاضل والحقد والبغض‪ ،‬ويكبر فيه العدو‬
‫الداخلي‪ ،‬الضمير الفاسد‪ ،‬املنتج لضمائر فاسدة‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪6‬‬
‫انعطافة جديدة ومسار جديد‬
‫في النصر صادفت شخصا آخر وصداقة أخرى‪ ،‬الصديق سعيد‪،‬‬
‫الذي يخالفني كثيرا في أفكاري‪ ،‬يحاول أن يقنعني بأن اإلنسان يستطيع أن‬
‫يخلق السعادة لنفسه‪ ،‬وأن يعيش عيشة هانئة‪ ،‬فقط ينقصه اإليمان‬
‫بالحياة‪ ،‬وربط الصلة بها وبخالقها‪ ،‬لم أر نظرة تشاؤم على وجه صديقي‪،‬‬
‫الذي عرفته في النصر املشؤومة‪ ،‬إنني أجده شخصا بشوشا وقورا‪ ،‬وقارئا‬
‫نهما‪ ،‬جميل الوجه‪ ،‬معتدل الجسم‪ ،‬نقي السريرة‪ ،‬حافظ األسرار وكاتمها‪،‬‬
‫وصادق الرفقة‪ ،‬عشنا أياما تلتصق في الذاكرة‪ ،‬وتتملص من النسيان‪،‬‬
‫ورغم عقدي مع نفس ي وثاقا بعدم الثقة‪ ،‬ولكن أخالقه جرتني على ال ِعشرة‬
‫معه‪ ،‬فهو ابن مدينة النجد الجميلة‪ ،‬كان سعيد يخبرني دائما بأنه يريد أن‬
‫يصبح مثقفا عضويا تكون له القدرة على التأثير واالستمالة واالستهواء‪،‬‬
‫سعيا منه إلى تغيير نظرتهم‪ ،‬وتوعيتهم بما لهم وعليهم‪ ،‬هذا هو مسعاه‬
‫حينما تعارفنا‪ ،‬كنت أقول له‪ :‬إنك تخط على ماء يا صديقي‪ ،‬فرأس مالنا‬
‫هو الصمت والرجاء من القدرة الربانية التدخل‪ ،‬إليقاف هذه الفواجع‬
‫والفوض ى‪ ،‬التي تسبح فيها البشرية‪.‬‬
‫يحدثني صديقي دائما‪ ،‬تجاوز تشاؤميتك البئيسة يا نديم‪ ،‬أرى أنك‬
‫زدت تعلقا بهزل كونديرا‪ ،‬وأولعت بتشاؤمية العدمي سيوران‪ ،‬وتجاذبت‬
‫أفكار سالفوي جيجك‪ ،‬وناوكي ياناس ي‪ ،‬وبيل هيكس‪ ،‬ونيتشه‪ ،‬وشوبنهاور‬
‫وقائمتك طويلة جدا‪ ،‬فيما سيصلح لك هذا؟ وبم سينفعك؟ ولكن العيب‬
‫وجهوك‬ ‫ليس عليك‪ ،‬العيب على نقاشتنا مع مدعي الفلسفة بالكلية الذين ّ‬

‫‪47‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫إلى قراءة هذه الكتب‪ ،‬وخصوصا صديقك أدهم‪ ،‬الذي أرجو أن تتملص‬
‫منه ومن أفكاره الخاطئة عن التفلسف‪ ،‬وقال لي‪ :‬أال تعرف أن أدهم هذا‬
‫ال صلة له بالدين‪ ،‬تجده في كل نقاشاته املزيفة بالفلسفة يعارض سنة هللا‬
‫في كونه‪ ،‬ويردد أن ال حياة بعد املوت‪ ،‬ال يصلي أبدا‪ ،‬ويعتبر أن تقاليد‬
‫وعادات الدين اإلسالمي مجرد تخاريف وهرطقات نقوم بها‪ ،‬هل أنت راض‬
‫عن هذه األفكار؟ هل تعتقد أنه فهم الفلسفة حق الفهم؟ إن تخصصه في‬
‫الفلسفة يا نديم‪ ،‬تخصص مزيف‪ ،‬يتباهى بنفسه كلما نطق بقولة‬
‫فيلسوف‪ ،‬ويتعالى كلما تأثر بأفكاره‪ ،‬أظنه ظنا يقينا أنه عالة على الفكر‬
‫والوعي يا نديم‪ ،‬وإذا كان الفالسفة يدعون إلى ما يسفه به أدهم‪ ،‬فأف على‬
‫هذه الفلسفة الحقيرة‪.‬‬
‫لربما إن الطلبة الذين يتخصصون في الفلسفة بالجامعة هم من‬
‫قتلوها‪ ،‬وجعلوها منفرة في عقول الناس‪ ،‬يقرأون سطر كتاب‪ ،‬ويحفظون‬
‫قولة كاتب‪ ،‬فيظنون أنهم عقالء ومفكرون وفالسفة‪ ،‬لهم األحقية في‬
‫توعية الناس‪.‬‬
‫سارعت إلى إسكات سعيد‪ ،‬وقد اتفقت مع رأيه في الطلبة الذين‬
‫ّ‬
‫وجيفوها وقاموا‬‫والتفلسف‪ ،‬إنهم أفسدوا الفلسفة‪ّ ،‬‬ ‫ّيدعون الفلسفة‬
‫بتشويهها تشويها مؤملا وفظيعا‪ ،‬قلت له‪ِ :‬لتعلم يا سعيد الحكيم‪ ،‬أنني كنت‬
‫أرض ي أدهم في كالمه فحسب‪ ،‬لكوني ال أريد أن أتزايد معه في الكالم‪ ،‬ال‬
‫أحتمله فأسارع إلى التخلص منه بارتضاء مقوله‪ ،‬وأسعى إلى هذا بأية‬
‫طريقة‪ ،‬وما ترى من األفكار التي أنطق بها هواء وعفوية‪ ،‬فال أزعم فيها أنني‬
‫فليسوف أو ما شابه‪ ،‬أو مفكر يبتغي التغيير ويقصده‪ ،‬هي أفكار أخذتها‬
‫من الكتب التي أقرأها‪ ،‬وسهرت معها‪ ،‬فتولدت في عقلي بمحض إرادتها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫سعيد صديقي الجميل‪ ،‬طالب معي في الدراسات العربية بسلك‬


‫املاستر‪ ،‬بجامعة ابن الياسمين بالنصر‪ ،‬التقينا أول مرة في االمتحان‬
‫جلست في ساحة الكلية‪ ،‬فجاء يحدثني سائال‪ ،‬هل لك أن‬ ‫ُ‬ ‫الكتابي‪ ،‬ملا‬
‫تجيبني أخي عن مسألة خاصة باإلعراب القاهر‪ ،‬وباألحرى مسألة مشهورة‬
‫بين النحاة‪ ،‬إني أجد مشكلة عويصة في التعامل معها‪ ،‬قلت له تفضل‬
‫صديقي‪ ،‬ما عويصتك؟ فأخبرني أنه يريد معرفة مسألة لغة أكلوني‬
‫البراغيث؟ فأجبته هزال‪ ،‬وهللا لقد أكلتنا البراغيث وضاجعتنا الخفافيش‬
‫في هذه الحياة‪ ،‬وفي هذا الوطن‪ ،‬لم نعد نقدر على مواصلة املسير‪ ،‬ترمي‬
‫بنا أحداث الزمان من مكان إلى مكان‪ ،‬بحثا عن لقمة العيش‪ ،‬فقال‬
‫تلبست لباس التشاؤم أيها الصديق‪.‬‬‫ضاحكا‪ :‬أرى أنك ّ‬
‫قلت له‪ :‬دعك من هذا‪ ،‬كنت أمزح معك فقط‪ ،‬سأشرح لك‬
‫املسألة‪ ،‬كما قالت العرب‪ :‬فأكلوني البراغيث هذه‪ ،‬اجتمع فيها فاعالن‪،‬‬
‫فاعل أول في واو أكلوني‪ ،‬وفاعل ثان هو البراغيث‪ ،‬وهي لهجة عربية‬
‫قديمة‪ ،‬وهي إضافة واو الجماعة أو ألف االثنين أو نون النسوة إلى الفعل‬
‫املسند إلى فاعل ظاهر‪ .‬استحسن الشرح وشكرني‪ ،‬فعفوته وذهب يجلس‬
‫وحيدا‪ ،‬واجتزنا االمتحان‪ ،‬ونجحنا في االختبار الكتابي‪ ،‬وبعدها تفوقنا في‬
‫املباراة الشفوية‪ ،‬وقررنا البحث عن بيت للكراء‪ .‬اكترينا بيتا صغيرا يتسع‬
‫ألربعة أشخاص‪ ،‬ولكن بقينا فيه نحن معا‪ ،‬ال نريد أن نشق علينا بشخص‬
‫آخر ال نعرفه‪ ،‬يلقي بثقله بعدم القيام بواجب العشرة‪.‬‬
‫ملا اكترينا البيت قلت للصديق‪ ،‬يا للفظاظة متى سنستقر ونقف على‬
‫أرجلنا؟ ونستمتع بالحياة مع زوجاتنا وأبنائنا‪ ،‬عيينا من هذه التجوالت‪،‬‬
‫ومللنا من االتكال على األسرة‪ ،‬بانتظار مصروف يأتينا لنتحرك‪ ،‬ونتنفس‬

‫‪49‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫قليال بحرية‪ .‬أجاب‪ :‬آمالنا في هللا‪ ،‬سنصل إلى ما نريد بالصبر‪ ،‬ودعنا نكون‬
‫طالبين مجدين بهذا املاستر‪ ،‬نحصل النقط واملعرفة‪ ،‬ينبغي فقط أن‬
‫نتخذ القراءة شيئا مقدسا‪ ،‬ال نفارقها‪ ،‬وال تفارقنا‪ ،‬وسنكمل بعضنا‬
‫بعضا‪ ،‬أنا ذو تكوين تراثي‪ ،‬وأنت تجمع بين هذا وذاك‪ ،‬تأخذ من كل علم‬
‫بطرف‪.‬‬
‫صديقي مولع بالشعر‪ ،‬وقارئ عميق للروايات‪ ،‬ورأيه في الفلسفة‬
‫نابع من عدم حبه لقراءتها‪ ،‬ال يشبنهي في قراءاتي التي أقرأ‪ ،‬نتشارك حب‬
‫األدب‪ ،‬وننفصل في قراءة الفلسفة‪ ،‬التي قرأتها دفاعا عنها من أمثال أحمد‬
‫وأدهم‪ ،‬وأستيقن حتما أن سعيد إذا اطلع على شذرات فلسفية‪ ،‬سيتعلق‬
‫بها أشد تعلق‪ ،‬وسيسهر معها ليالي‪ ،‬متأمال كتبها‪ ،‬ومتفحصا أفكارها‪،‬‬
‫وسيبتعد عن اآلراء التي أقرها في ذهنه عن الفالسفة‪ ،‬وباألحرى من‬
‫الصورة التي ينقلها الطلبة الفالسخة املزيفون عن الفلسفة‪ ،‬فقط‬
‫تنقصه املبادرة إلى فعل ذلك‪ ،‬حدثته بأن يترك العربية قليال‪ ،‬وأن يدرس‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫وأسردت عليه هذا املوقف فخاطبني وقال‪ :‬اسمع يا نديم‪ ،‬كالمك‬
‫منطقي جدا‪ ،‬وذو اعتبار سليم‪ ،‬ولكن ماذا أفعل بالفلسفة ما دمت‬
‫متخصصا في العربية؟ أال تدري أن عيب طلبة الدراسات العربية‪ ،‬أنهم ال‬
‫يفقهون تخصصهم‪ ،‬ويذهبون إلى دراسة تخصصات أخرى؟ ال أريد أن‬
‫أكون من تلك الفئة‪ ،‬التي إذا الكت الكالم‪ ،‬مزقته وشوهته‪ ،‬ولحنت فيه‪،‬‬
‫هم غير ِمن ِط ِقين باللغة‪ ،‬إنهم ملوثون لغويا‪ ،‬عربيتهم العرباء خرباء‬
‫وفاسدة‪ ،‬يكفي أن أكون متمكنا في تخصص ي‪ ،‬أما الفلسفة فال عالقة لي‬

‫‪50‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫بها‪ ،‬وبأفكارها‪ ،‬أصال هي تقود إلى الكفر‪ ،‬وتتعارض مع الدين‪ ،‬ألست‬


‫مقتنعا بما حصل مع أدهم وطائفته؟‬
‫أجبت‪ ،‬بلى‪ ،‬وصدقت كالمه بتذكر ما كان عليه الفاسد أحمد‪،‬‬
‫وصاحب الذنب معي‪ ،‬وقلت همسا أهم متشابهون في سلوكاتهم وأخالقهم؟‬
‫ال أظن ذلك‪ ،‬أخبرت الصديق أن ما يقوله مجرد حكم قيمة‪ ،‬فستعرف‬
‫يق أن هناك فرقا‬‫حق الفلسفة املعرفي والفكري في تطعيم الحياة‪ ،‬فحق ٌ‬
‫ِ‬
‫بين املتعمق في الفلسفة‪ ،‬واملبتدئ فيها‪ ،‬األول يصل إلى حقيقة الكينونة‬
‫والوجود‪ ،‬والثاني يصل إلى حقيقة غبائه وضعفه وجهله‪ ،‬وأستاذ الفلسفة‬
‫وطالبها يا سعيد ليسا فيلسوفين‪.‬‬
‫وبعد مدة من املعاشرة واحكام النقد وإعمال البصيرة‪ ،‬تغيرت نظرة‬
‫سعيد‪ ،‬وبدأ يطلع على كتب الفلسفة‪ ،‬ويتعامل معها‪ ،‬ولكن بحذر تام‪،‬‬
‫تجاذب أطرافها‪ ،‬وبدأ يطلع على الفلسفة الوجودية‪ ،‬والعدمية‪ ،‬والنفعية‪،‬‬
‫والرواقية‪ ،‬انعطف انعطافة جديدة‪ ،‬بدد من خاللها رأيه السابق‪ ،‬وحكمه‬
‫القيمي‪ ،‬الذي بناه بناء على نقاشات مخربيها‪ ،‬وبناء على تجمعات طلبة‬
‫الفلسفة الفارغين‪ ،‬حقا ثمة أشياء يفسدها أهلها‪ ،‬فالدين فسد بأهله‪،‬‬
‫والتعليم خرب بأهله‪ ،‬والجامعة خربها أهلها‪ ،‬ونحن نخرب أنفسنا بأنفسنا‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪7‬‬
‫الصرخة‬
‫ُ‬
‫الناس يولدون ويأتون معهم بصرخة دائمة‪ ،‬وبعدها يخلقون‬
‫بأنفسهم صرخات تسمع صداها في جميع األرجاء‪ ،‬ويرحلون ويتركون‬
‫صرخات ال متناهية‪ ،‬فالصرخة تتولد فينا كل يوم‪ ،‬تخلق فينا الجفاء‪ ،‬هي‬
‫امللجأ الوحيد الذي نواجه به مأساتنا‪ ،‬وجنون ما أصاب العالم‪ ،‬أينما‬
‫أدرت وجهك تسمع صرخة‪ ،‬أي قلق أصبنا به وتناسل معنا؟ لقد بدا لي‬
‫أنني مشتاق لعزيزي القارئ‪ ،‬ألحدثه وأتحاور معه‪ ،‬فأظنه يضم في داخله‬
‫صرخات‪ ،‬وأحسبه يالمسه القلق والفزع والخوف‪ ،‬تشوقت لنتحاور قليال‪،‬‬
‫أرجو أن يكون اللقاء األول ذا فائدة عظيمة وسديدة‪ ،‬لعلك صرخت في‬
‫وجه العالم‪ ،‬وتغيرت تعامالتك معه‪ ،‬قد يتحقق هذا‪ ،‬أتدري أننا نكتب عن‬
‫الحزن ليس ألننا عشنا حياة ممقوتة‪ ،‬أو طفولة متزمتة؟ لقد كنا سعداء‬
‫بما فيه الكفاية‪ ،‬وعشنا أيام فرحة‪ ،‬رغم ما أسردته من كالم عن معاناة‬
‫أمي وشقاء أبي‪ ،‬فلما انفصلنا عشنا السعادة واألمان‪ ،‬ولكن ملا تصادف‬
‫نضجنا مع الواقع تغيرت الحال‪ ،‬وأصبحنا يائسين أكثر من الالزم‪ ،‬ظننا أن‬
‫السعادة شعور يشعر به الجميع‪ ،‬وإحساس تتشاركه اإلنسانية‪ ،‬وأنها‬
‫سمة تعم ظالل الكون وتغطي مالمح الوجود‪ ،‬لكن عزيزي القارئ‪ ،‬هذا‬
‫غير باد‪ ،‬وغير ظاهر‪ ،‬فالتعاسة أصل هذا الوجود‪ ،‬الصرخة ولدتنا‪،‬‬
‫بدايتنا صرخة ونهايتنا صرخة‪ ،‬تدللنا الصرخات كثيرا‪ ،‬تباغتنا الجروح‪،‬‬
‫نعيش باألحزان التي نكتب عنها ال ألننا عشنا أحزانا‪ ،‬بل لرفضنا حزن‬
‫اآلخرين‪ ،‬فهم مدفونون في األلم‪ ،‬محشورون في صدر الصراخ‪ ،‬إننا ننتظر‬

‫‪52‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫النجاة واملآل بكل شوق‪ ،‬أحالمنا بسيطة هو أن نعيش حياة هادئة‪ ،‬نريد‬
‫أن نغرق في السكينة‪ ،‬فصمتنا لم تعد له القدرة‪ ،‬إنه صمت مفجع‪.‬‬
‫يكفي أن نتجول في الشوارع لنرى مقدار الصرخات التي يولدها‬
‫الناس‪ ،‬ننتظر القرار اإللهي الحاسم‪ ،‬إلنهاء هذه املسرحية املأسوية‪،‬‬
‫لنذهب إلى مكان ال نهائي‪ ،‬ال فظاعة يمكن الحلم بها بعدها‪ ،‬إن العالم‬
‫موبوء باألشياء الرهيبة‪ ،‬أيها القارئ إننا نصرخ منتظرين سالما وحبا وأمال‬
‫وحياة نعيمة‪ ،‬لعلي سأحدثك عن قول لألديب اإليرلندي صمويل بيكيت‪،‬‬
‫رائد مسرح العبث‪ ،‬ملا سئل في حوار له مع توم درايفر‪ ،‬في حفل نظم‬
‫لتكريم مثقف إنجليزي‪ ،‬سأله األخير ملاذا يكتب دوما عن األحزان؟ أخبره‬
‫بأنه عاش طفولة سعيدة جدا‪ ،‬فتضاعف شعور السائل بالضاللة‪ ،‬فترك‬
‫صمويل الحفل وخرج وركب سيارة تاكس ي‪ ،‬فرأى ثالث الفتات‪ ،‬كتبت عليها‬
‫ثالث عبارات‪ ،‬واحدة تطلب املساعدة للعميان‪ ،‬وأخرى لأليتام‪ ،‬والثالثة‬
‫ملساعدة الجئي الحروب‪ ،‬فقال‪ :‬أنت لست بحاجة للبحث عن األحزان‪،‬‬
‫فهي تصرخ في وجهك حتى في تاكسيات لندن‪ ،‬فهمت القصد أيها القارئ‪،‬‬
‫فاألحزان تصرخ في وجوهنا في كل مكان‪ ،‬ال نكتب عنها فقط‪ ،‬بل هي تأكل‬
‫معنا وتعيش بجوارنا‪ ،‬نعيش عنفا عامليا‪ ،‬مولدا لهذه األحزان‪.‬‬
‫تخرج إلى الشارع فتجد املتسولين‪ ،‬وتفتح التلفاز فتشاهد مجازر‬
‫وحروب العالم‪ ،‬تذهب إلى املسجد فتجد أمرا بصالة الجنازة على إنسان‬
‫ُ‬
‫قتل ظلما‪ ،‬تتمرح ليال حتى تشاهد مطاردات بوليسية‪ ،‬تلج إلى املحكمة‬
‫فتجدها منفجرة بقضايا الخصومات‪ ،‬تزور املستشفيات فبئس مناظرها‬
‫ومشاهدها‪ ،‬كيف تريدون أن نبتسم‪ ،‬وأن نضحك للدنيا؟ لم يكن قصدي‬
‫أن أحزنك عزيزي القارئ بعد شوقي إليك‪ ،‬أردت فقط إخبارك‪ ،‬ألنك ربما‬

‫‪53‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫واس‬
‫سئمت من األحزان التي تبوح بها لغيرك ولم يراعيها أي اهتمام‪ِ ،‬‬
‫نفسك‪ ،‬وأحزانك‪ ،‬ودعها مكتنزة في داخلك‪ ،‬فالعالم مليء بها‪ ،‬واصرخ متى‬
‫شئت‪ ،‬وابك متى أردت‪ ،‬وال تؤاخذني بما أقول لك‪ ،‬ألنني متناقض‪ ،‬لعقدي‬
‫معك اللقاء ألبوح لك بما أحمله في صدري من صرخات‪.‬‬

‫صورت‬ ‫الصرخة املشهورة للفنان و ّ‬


‫الرسام النرويجي إدفارت‪ ،‬مونك ّ‬
‫شخصية معذبة أمام سماء حمراء دموية‪ ،‬فهي لوحة مجسدة للقلق الذي‬
‫يفزع اإلنسانية‪ ،‬ومبرزة لهروب مأسوي من الواقع‪ ،‬لم يعد الناس يتحلمون‬
‫كل هاته املعاناة‪ ،‬يريدون خالصا أبديا‪ ،‬ال أرض قادرة على احتضانهم‪ ،‬كلنا‬
‫ننتظر جودو‪ ،‬الذي تحدث عنه صمويل بيكيت في مسرحيته "في انتظار‬
‫جودو"‪ ،‬إننا نمثل الشخصين البائسين اليائسين الجالسين تحت شجرة‬
‫يابسة‪ ،‬ننتظر جودو الذي يستطيع أن يغير حياتنا‪ ،‬ويجعلنا نعيش في‬
‫النعيم‪ .‬أرى أن القارئ يريد فهم سر إيراد صمويل مرة أخرى‪ ،‬سأبين له‬
‫هذه املسألة‪ ،‬إن سر استحضاره مرتبط بأننا نبحث عن منقذ ينقدنا من‬
‫هذا الضالل‪ ،‬ويخلصنا من هذا املزلق‪ ،‬فاملسرحية فيها شخصيتان‪ ،‬األولى‬
‫ستراغبون الذي فقد حذاءه ويعاني من ألم مستمر في قدمه‪ ،‬والشخصية‬

‫‪54‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الثانية هي فالديمير‪ ،‬اإلنسان املثقف واملفكر‪ ،‬الذي يقدم أفكارا ذكية‬


‫دائما‪ ،‬ال حياة لهذين الرجلين سوى اليأس‪ ،‬يبحثان عن سبيل يخلصهما‬
‫من معاناتهما‪ ،‬فيأتيهما الخبر من وسيط ومرسل من جودو بأنه سيأتي‬
‫لينقذهم من معاناتهم‪ ،‬وبعد طول االنتظار‪ ،‬قررا شنق نفسيهما‪ ،‬وتحديد‬
‫مصيرهما باملوت‪ ،‬لكنهما فشال‪ ،‬ولم يفعال ذلك‪ ،‬إنهما عاجزان حتى عن‬
‫قتل نفسيهما‪ ،‬والخالص من يأسهما وصرخاتهما‪ ،‬وقد انتهت املسرحية‬
‫دون معرفة مصيرهما‪ ،‬ودون مجيء جودو‪ ،‬فنحن نقيس اإلنسان الصارخ‬
‫اليائس على أنه يمثل شخصية من هاتين الشخصيتين‪ ،‬كلنا ننتظر جودو‬
‫الذي سيأتي‪ ،‬ننتظر جودو الحرية إذا كنا سجناء‪ ،‬وجودو الحب إذا فقدنا‬
‫العناقات واألحضان‪ ،‬وجودو السالم إذا كنا نعيش حروبا‪ ،‬وجودو هللا‬
‫ليخصلنا من هذه املحن‪ ،‬وجودو الصحة؛ ألن أجسادنا تالشت ومرضت‬
‫ّ‬
‫وعلت وتماحت مع أحداث الزمان‪ .‬فلكل شخص منا جودو الخاص به‪،‬‬
‫فانظر وانتظر جودوك املفقود‪.‬‬
‫ربما فهمت عزيزي القارئ القصد من ذكر صمويل بيكيت‪،‬‬
‫واستحضار مسرحيته في انتظار جودو‪ ،‬الذي يخصنا وينقصنا‪ ،‬ونحتاج‬
‫إليه لينقذنا من هذا الضالل‪ .‬مع استمرار الصرخة وتخلقها واستمرارها‬
‫نحتاج خالصا أبديا إلى دار القرار‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪" :‬يا قو ِم ِإ َنما ه ِذ ِه‬
‫اع و ِإ َن اآل ِخرة ِهي د ُار القر ِار"‪ ،‬أودعك قارئي‪ ،‬وألتقي معك‬ ‫الحي ُاة ُّ‬
‫الدنيا مت ٌ‬
‫في حوار آخر‪ ،‬ال أعرف متى؟ وال أعرف املوضوع‪ ،‬ولكن أعدك أننا‬
‫سنتحاور مرة أخرى‪ .‬كل ضيق سيزول‪ ،‬وكل مضيقة إلى انتهاء‪ ،‬منحنا هللا‬
‫القدرة لنعيش السالم‪ ،‬والضحك هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا السالم‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪8‬‬
‫مأساة الجامعة‬
‫األخالق سمة الفاشلين والضعفاء‪ ،‬هذه هي خالصة الجامعة‪ ،‬ترى‬
‫فيها كل ش يء‪ ،‬لم تعد الحرم الجامعي الذي كنا نسمع عنه‪ ،‬بل أضحت‬
‫مقبرة إلقبار الجهل في عقول الطلبة‪ ،‬وترسيخ السلطوية فيهم‪ ،‬كنت‬
‫أتجول مع صديقي سعيد بالكلية بعد حصة مليئة بالذاتية مع أستاذ ال‬
‫أذكر اسمه‪ ،‬يلحن في كالمه حتى في الحديث عن نفسه‪ ،‬وما بالك في شرح‬
‫الدرس وبسطه‪ ،‬هناك أساتذة يجبرونك على الصمت والحوقلة‪ ،‬وأساتذة‬
‫تتمنى لو دامت حصصهم سنوات عدة‪ .‬أثناء تجولنا في الساحة‪ ،‬رأينا‬
‫تجمعات طالبية تغرق في الضحك والالمباالة‪ ،‬طالب بأشكال متنوعة ال‬
‫تكاد تحدد جنسهم‪ ،‬ما لم تبحث في بطاقتهم الوطنية‪ ،‬وطالبات كأنهن في‬
‫عرس ليلي‪ ،‬أو دار ماله‪ ،‬يصبغن وجوههن بألوان تزيدهن بخاسة ووقاحة‪،‬‬
‫ال ندري أحقا نحن في حرم جامعي‪ ،‬أم ملهى جامعي؟ منظر مرعب ومفزع‪،‬‬
‫أصبحت فيه الكلية ملجأ مريحا للمتعة‪ ،‬ومشربا ألحاديث فارغة‪،‬‬
‫وتجمعات تعرف ما تفعله بالوقت‪ ،‬وبينما كنا نظن أن الجامعة كانت‬
‫مفزعا نفزع إليه‪ ،‬ألخذ العلم وتعلم القيم‪ ،‬إال أنها في الحقيقة مزرعة‬
‫الحيوان‪ ،‬تنتج بقرا متشابها ألوانه‪ ،‬يأكل من أعشاب الجهل‪ُ ،‬ويسرح في‬
‫حظيرة الدولة كما تشاء‪ ،‬ويمس ي املركب الثقافي الذي يتحكم فينا ضائعا‪،‬‬
‫ومبنيا على الهزل والتفاهة‪.‬‬
‫الجامعة التي نبني فيها أحالمنا‪ ،‬أصبحت اآلن مدخال لقتلها ومخرجا‬
‫للفتك بها‪ ،‬ونحن نتمش ى قلت للصديق‪ :‬أترى يا سعيد ما نحن فيه؟ أجئنا‬

‫‪56‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫لطلب العلم أم ملدينة املالهي؟ هؤالء طلبة ما زالوا يعبثون بوقتهم‪،‬‬


‫ويظنون أن الحياة ستبتسم لهم بمجرد الحصول على اإلجازة‪ ،‬يعتبرون أن‬
‫االستمتاع ضرورة إنسانية‪ ،‬سيعلمون حين ترمي بهم األيام إلى العطالة‪،‬‬
‫أنهم سيكونون عاطلين عن كل ش يء‪ ،‬عبثا بما يفعلونه اآلن‪ ،‬يمرحون‬
‫ويلعبون وال يحملون مسؤولية‪ ،‬ويأتون أيام االمتحانات يشتكون‬
‫ويحملون اللومة لألساتذة‪ ،‬وللطلبة املتملقين‪ ،‬ولعارضات‬ ‫ّ‬ ‫ويتباكون‪،‬‬
‫األزياء‪ ،‬طلبتنا اليوم همهم الوحيد الشكاية والتباكي‪.‬‬
‫حدثني سعيد بنبرة فيها حسرة‪ ،‬فقال‪ :‬دعهم يلعبون ويتمتعون‪،‬‬
‫فنحن ال نملك سوى الحرث عن أنفسنا‪ ،‬لنخرج من هذه الضاللة‪،‬‬
‫ونبحث عن عمل يخول لنا االستمتاع بهذه الحياة اللعينة‪ ،‬فهؤالء الطلبة‬
‫يجعلون فخر أمهاتهم وأبائهم أمام الناس عبثا‪ ،‬ويقرون بأن مصروف اآلباء‬
‫عنهم دائم‪ ،‬والحياة امليسورة في هذه الفترة دائمة‪ ،‬الحياة الطالبية التي‬
‫كانت مجدا ويتباهى بها الناس‪ ،‬صارت اليوم حياة عبثية‪ ،‬للفاشلين‬
‫والضائعين والعاجزين‪ ،‬أما نحن الذين جئنا من أرض جرداء عفراء مقتاء‬
‫فاهلل لنا‪ ،‬والحزن لنا واليأس لنا‪ ،‬فنطلب هللا أن يفرغ علينا صبرا‪ ،‬فلم نعد‬
‫قادرين على مجابهة التفاهة التي نسبح فيها‪ ،‬قد استيقنا يا نديم منذ مدة‬
‫طويلة أن أخذ الحياة على محمل يجعل يخلق عنفا في الدماغ‪ ،‬وأنت تعلم‬
‫كيف تحدث أحمد املديني عن هذا العنف‪ ،‬وكيف صوره‪ ،‬ال أخاف عليك‬
‫فأنت قارئ جيد‪.‬‬
‫كان ردي عليه بنبرة ميؤوسة‪ ،‬فقلت‪ :‬لست قارئا مثلك يا سعيد‪ ،‬أنا‬
‫مجرد مبتدئ‪ ،‬واستدركت على قوله‪ ،‬بقولي‪ ،‬وأنت تعلم أيضا أيها‬
‫الصديق‪ ،‬أن الحياة مجرد حفلة تفاهة‪ ،‬ال يصلح معها سوى العبث كما‬

‫‪57‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫هم لهم سوى الضحك والدعابة‪ ،‬يذكرني هذا يا‬ ‫يفعل هؤالء الطلبة‪ ،‬ال ّ‬
‫صديقي بقول كونديرا‪"" :‬التفاهة‪ ،‬إنها تحت نور أسطع وأكثر كشفا‪،‬‬
‫التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود‪ ،‬إنها معنا على الدوام في كل مكان‪،‬‬
‫إنها حاضرة حتى في املكان الذي ال يرغب أحد برؤيتها فيه‪ ،‬في الفظائع‪ ،‬في‬
‫املعارك الدامية‪ ،‬في أسوأ املصائب"‪ .‬تذكر هذا يا سعيد جيدا‪ ،‬فالتفاهة‬
‫تسكننا وتعبث معنا‪ ،‬أيجدر بنا أن نغير نظرتنا نحو الحياة؟ ال نقدر على‬
‫ُ‬
‫فعل هذا‪ ،‬كتب علينا الحزن أياما معدودات‪ ،‬وأحل لنا كل ما في الحياة إلى‬
‫أن يأتي أمر ال ُيرد‪.‬‬
‫بعدها ذهبنا للمكتبة‪ ،‬لنقرأ شيئا من شعر أبي العالء املعري‪ ،‬الذي‬
‫الزمته منذ فترة اإلجازة‪ ،‬فشعره يؤكد لي عبثية الحياة‪ ،‬وضجرها‪،‬‬
‫ومأساتها‪ ،‬حينما أقرأ خطابه الشعري‪ ،‬أتذكر مباشرة ما يتحدث عنه‬
‫الروماني سيوران في "لو كان آدم سعيدا" و"مثالب الوالدة"‪ ،‬فهو يعتبر‬
‫الوجود جسرا نعبر منه كعبيد‪ ،‬ويذكر أننا أجبرنا على املجيء لهذه الحياة‪،‬‬
‫يعجبني يأسه كثيرا‪ ،‬كله متعلق بما يقوله رسول التشاؤم جياكوميو‬
‫ليوباردي‪ ،‬الذي عاش حياة منعزلة ورهيبة‪ ،‬وقد نعيش املصير نفسه‪،‬‬
‫العجب لهؤالء السعداء في العالم‪ ،‬طبعا ال يملكون قلبا ليصلوا لحد‬
‫اليأس‪ ،‬وعجبا للطالب املرجلين والطالبات امليؤوسات‪ ،‬سنسمع قدرهم‬
‫ومآلهم مستقبال‪ ،‬سيبحثون عن حل للخروج من املغرب الحبيب‪ ،‬الذي ال‬
‫يرحم الضعفاء مثلهم‪ ،‬سيظلون يغردون في مواقع التواصل االفتراض ي أن‬
‫الدولة لم توفر لهم مناصب الشغل‪ ،‬ولقد كانوا سلفا يتابهون ويتالسنون‬
‫مرحا وشبقا كأنهم في نعيم الجنة‪ .‬نحن اليائسون العابثون الضائعون‬
‫الشامتون النائمون‪ ،‬في مسرحية مأسوية على أنغام سمفونية لودفيج فان‬

‫‪58‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫بيتهوفن الخالد‪ ،‬الذي وجد في املوسيقى جودو الخاص به‪ ،‬لقد أنقذه من‬
‫مأساته‪.‬‬
‫سألت سعيد في تلك اللحظة عن صدفة عجيبة جاءت في سياق‬
‫الحديث عن بيتهوفن‪ ،‬وهي أن الذين يحملون عاهة مستديمة‪ ،‬في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬أصبحوا خالدين‪ ،‬بيتهوفن فقد سمعه في سن الشباب‪ ،‬وصار من‬
‫أشهر املؤلفين املوسيقيين‪ ،‬تجد سمفونياته واوكستراه في كل مكان‪ ،‬فقد‬
‫سمعه ويسمع صخب العالم‪ ،‬ترى املعري كيف صور الحياة وكان من‬
‫ّ‬
‫العميان‪ ،‬طه حسين الحبيب إلى قلبك يا سعيد‪ ،‬خلف آثارا أدبية ونقدية‬
‫تصنف ضمن اآلداب العاملية‪ ،‬ولن أحدثك عن لويس خورخي بورخيس‬
‫العجيب‪ ،‬الشهير بلقب األعمى‪ ،‬الذي يمارس السرد بألعاب قرائية تأويلية‪،‬‬
‫ّ‬
‫السرد عنده لعب تأويلي خالق‪.‬‬
‫وأنا أتحدث قال سعيد‪ :‬وهناك هوميروس صاحب األوديسة‪،‬‬
‫والشاعر اإلنجليزي جون ميلتون‪ ،‬هم كثيرون يا صديقي‪ ،‬أما نحن‬
‫املبصرون املقمعون فلم نصنع شيئا‪ ،‬تكفينا التعاسة التي تصرخ في‬
‫وجوهنا‪ ،‬واملسخ الجامعي الذي نطلب فيه العلم‪ ،‬دعنا من هذه التشاؤمية‬
‫نديم‪ ،‬ولنمرح قرائيا‪.‬‬
‫كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا‪ ،‬جلسنا في خزانة الكلية‪،‬‬
‫عفوا ملهى الكلية‪ ،‬وأردنا أن نستغل الوقت املتبقي للحصة املسائية مع‬
‫الساعة الثالثة مساء في القراءة‪ ،‬آخذت أقرأ في ديوان املعري‪ ،‬وأخذ سعيد‬
‫يقرأ رواية الحركة لعبد اإلله بلقزيز‪ ،‬وكنا سندرس مساء مادة تحليل‬
‫وجدت محاضراته لدى طالب من طلبة اإلجازة درس‬‫ُ‬ ‫الخطابات‪ ،‬مع أستاذ‬
‫عنده قديما‪ ،‬ويدرسها لنا اآلن‪ ،‬دون تغيير وتحيين‪ ،‬فاألتعس أن تحلل‬

‫‪59‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫خطابات دون تحلية محاضراتك وتجديدها‪ ،‬فقد مضت عليها السنون‪،‬‬


‫واألسف أن األجيال القادمة ستلتهم املحاضرات نفسها‪ ،‬وهذا مرض من‬
‫أمراض الجامعة‪ ،‬قطف األستاذ لجزء ناضج من أطروحته وتدريسها‬
‫للطلبة مدة عشر سنوات‪ ،‬مرض مؤلم حقا‪ ،‬ولن أتحدث عن مرض‬
‫الكسل والعجز الذي أصاب مثل هؤالء األساتيذ‪ ،‬الذين جعلتهم حرية‬
‫التعليم الخالي‪ ،‬عفوا العالي يسخرون من الطلبة‪ ،‬وجعلهم املال فيه راحة‬
‫ميسورة‪ ،‬فظنوا أنهم أبديون في الحياة‪ ،‬ال حياء حينما تراهم يتحدثون عن‬
‫وجدهم واجتهادهم‪ ،‬بأنهم كانوا يقرأون يوما كامال دون‬ ‫زمانهم وماضيهم‪ّ ،‬‬
‫كلل وملل‪ ،‬وال يفترقون مع الكتب‪ ،‬والعجيب أن بعضهم عندنا في‬
‫الدراسات العربية‪ ،‬يكذب بأنه كان يسهر مع سيبويه والكسائي واملكودي‬
‫وابن كيران‪ ،‬ويحفظ املعلقات وأشهر القصائد‪ ،‬ويقرأ املبرد والجاحظ‪،‬‬
‫وابن قتيبة‪ ،‬وهذا كله ال محل له من الوجود‪ ،‬فأحاديثه في الفصل تصيبك‬
‫بالقلق‪ ،‬والفزع‪ ،‬وال تحس بأنه قرأ شيئا مما ذكرت‪ ،‬نظل مندهشين مما‬
‫يقولون‪ ،‬وحينما نكتشف الحقيقة يكون ذلك ضحكا ودعابة ال متناهية‬
‫بيننا‪ ،‬اإلله الجديد أمطرهم باملال‪ ،‬وال غرض من الجد واالجتهاد وإيصال‬
‫ويدعون‪ ،‬أ ِنعم بهم‬ ‫املعرفة لطلبة ال يقرأون صفحة في اليوم كما يقولون ّ‬
‫من أساتذة يحفرون عقولهم بالقراءة الكاذبة‪ ،‬ويستفزوننا بكالم هاو‬
‫ممنوع من التسريط‪ ،‬وأقصد التصريف‪.‬‬
‫أثناء قراءة الديوان توقفت عند قول أبي العالء املعري‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫ََْ ْ‬
‫واب َها‬
‫الجسم ِمن أث ِ‬ ‫ل تلبس الدنيا فإن ِلباسها سقم وعر ِ‬
‫هذا شاعر أعمى فـأبصر أسرار الدنيا ومقاماتها‪ ،‬لباسها ضيم وألم‪،‬‬
‫ومقت‪ ،‬أصال يا معرة فالحياة يئست منا ورفضتنا‪ ،‬وال تريدنا‪ ،‬حتى نصل‬

‫‪60‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫بعد لكي نلبسها‪ ،‬وأنا أواصل قراءة الديوان فإنني أتأمل كل بيت أقرأه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وأنظر فيه وأتأوله‪ ،‬وأقرنه بفكرة قد يريدها سيوران‪ ،‬أجد أبياته خصبة‬
‫وخصيبة تحوي معاني ودالالت ال محدودة‪ ،‬تقودني إلى عالم آخر من‬
‫التأمالت‪ ،‬التي يتباهى بها طلبة الفلسفة أمامنا‪ ،‬ال يعرفون أننا نملك أدباء‬
‫فالسفة‪ ،‬يتأملون في الحياة والوجود ووحدة الوجود‪ ،‬واملطلق ومسائل‬
‫الطبيعة وغيرها‪ ،‬ال يعرفون ابن عربي والحالج‪ ،‬فهم يمتلكون سرا أدبيا‬
‫لفهم الوجود‪.‬‬
‫بينما سعيد غارق في الرواية‪ ،‬أخبرني بأنه قريب من انهائها‪ ،‬فأخبرته‬
‫مزاحا بأنني أنتظر خالصة موجزة عنها‪ ،‬فقال‪ :‬تريدون أن تكون جميع‬
‫األشياء محضرة لكم في طبق‪ِ ،‬انس الخالصة وما شابه ذلك يا نديم‪ ،‬اقرأ‬
‫الرواية بنفسك فستفيدك كثيرا‪ ،‬فالقراءة مرتعنا ومأونا الوحيد‪ ،‬ففهيا‬
‫جميع حاجاتنا‪ ،‬واآلن دعني أنهي الرواية‪ ،‬فحصة تحليل الخطابات لم‬
‫يتبق لها سوى ساعة‪ ،‬حركت رأس ي مبتسما‪ ،‬وقلت ال يمكنك إطالقا يا‬
‫سعيد إدراك كل أحداث الرواية‪ ،‬ولذلك لن أقبل خالصتك حتى لو أردت‬
‫تقديمها‪ ،‬فالرواية محصنة برداءة النسيان كما يقول كونديرا‪" ،‬الرواية‬
‫قصر محصن برداءة النسيان"‪ ،‬قصر تستطيع أن تتذكر فيه القليل من‬
‫األحداث‪ ،‬وأما الباقي فيضيع‪ ،‬بفعل النسيان‪ ،‬الحيلة التي يمكن أن تمتاز‬
‫بها الرواية لكي تجذب القارئ هي النسيان‪ ،‬أن تدخله إلى قصرها البهي‬
‫الغني املشوق‪ ،‬فتجعله ينس ى ما قرأ‪ ،‬فحينما أقرأ لألديب الروس ي‬
‫دوستويفسكي‪ ،‬ينبغي أن آخذ قلما وورقة‪ ،‬ألسجل شخصياتها التي تفوق‬
‫املئة‪ ،‬فحتما منذ الصفحات األولى ستنبهر بكم هائل من الشخصيات‪،‬‬
‫وسيكون النسيان هو حليفك‪ ،‬وال يهمنا هذا‪ ،‬بقدر ما نتمنى أن نكون ّ‬
‫قراء‬
‫جيدين‪ ،‬ألننا نقض ي وقتنا حبيسين مع الكتاب‪ ،‬بعدما رفض العالم‬

‫‪61‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫االهتمام بنا‪ ،‬هكذا يقول صاحب مقبرة الكتب‪ ،‬كارلوس زافون‪ ،‬طردتنا‬
‫بشاعة الحياة من عالم بئيس إلى عالم خصيب متناسل‪ ،‬عالم القراءة‬
‫األبدي‪.‬‬
‫كانت الساعة تشير إلى الثالثة‪ ،‬فذهبنا إلى حصة تحليل الخطابات‪،‬‬
‫فمرت متصدعة تشقق الرأس‪ ،‬يحدثنا عن دور الحجاج في فهم الخطاب‪،‬‬
‫ومسخه‪ ،‬إني ال أجد متعة في توظيف قوالب جاهزة على النصوص‬
‫والخطابات‪ ،‬فطبعا هي بمثابة قوالب جاهزة‪ ،‬تمسخ الخطابات‪ ،‬فنضيع‬
‫حياتنا في ال ش يء‪ ،‬واملؤسف هو الحماس الذي يشعر به الطلبة تجاه هذه‬
‫األشياء‪ ،‬وكأن فهم الخطاب الحجاجي وما تعالق معه‪ ،‬سيجعلني طالبا‬
‫بارعا‪ ،‬نكذب على أنفسنا‪ ،‬ونكذب على النصوص‪ ،‬كنت أمازح الصديق‪،‬‬
‫فأقول له ما الفائدة من فهم خطبة الحجاج بن يوسف؟ وما الفائدة من‬
‫فهم خطاب ترامب؟ وما الغاية من مضيعة الوقت في البحث عن األنساق‬
‫التي تضمرها رسائل ابن القرامني؟ مجرد هراء وثرثرة صاخبة‪ ،‬وسعيد‬
‫كعادته يرد‪ :‬دعنا نقرأ لنبحث عن مستقبلنا ونرسم طريقا ُم ّ‬
‫شرعا‬
‫ألحالمنا‪ ،‬أما هذه األشياء فال قيمة لها بتاتا‪ ،‬عبارات مضخمة‪ ،‬من قبيل‬
‫إن الحجاج ومعاوية وابن العميد وظفوا آليات حجاجية يبتغون من ورائها‬
‫دالالت ومقاصد ال يفهمها إال املحلل الحاذق‪ ،‬وال تنس أن تقلب الذال‬
‫زايا‪ ،‬وكأنهم عاشروهم وعاشوا معهم ليقولوا‪ :‬إنهم وظفوا واستعانوا بكذا‬
‫وكذا واستطاعوا أن يؤثروا ويستميلوا الناس‪ .‬املعتوهون من ينصبون‬
‫أنفسهم محللين لفهم خطابات أناس ماتوا‪ ،‬وهم لم يفهموا أنفسهم قط‪،‬‬
‫ولم يدركوا معنى حياتهم‪ ،‬نتباهى بأننا نجيد إجادة تامة فهم خطاب قاله‬
‫شخص توفي خالل القرن الثالث الهجري‪ ،‬ألناس ماتوا وأكل عليهم الدهر‬
‫وشرب‪ ،‬هذا هو العبث بروحه‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫التأنق بهذه األشياء من أجل التألق ال يؤدي إال إلى الالش يء‪ ،‬هذه‬
‫اآلليات التي نعتز بها نحن أهل الدراسات العربية‪ ،‬وضعها أصحابها لفهم‬
‫مستجدات حاضرهم‪ ،‬ال إلى العودة من أجل فهم القعقاع والتأكيد على‬
‫فصاحة الحجاج‪ ،‬ومدى استطاعة طارق بن زياد على إقناع جنوده‪ .‬في‬
‫أحايين كثيرة نتأكد أن املسائل التي نعتبرها جادة مسائل تغرق في التفاهة‪،‬‬
‫وتشرب من مشرب التفاهة‪ ،‬إن العالم أصال في حفلة تفاهة فظيعة‪.‬‬
‫مرت الحصة كما هو معهود‪ ،‬كالم محمول على كالم فقط‪ ،‬وثرثرة‬
‫فوق األرض‪ ،‬وضمير منهي متزمت‪ ،‬في دراسة محاضرات حفظتها جذران‬
‫الكلية‪ ،‬وأقرت بأنها بمثابة مخطوط أسطوري توجد فيه بركة األولياء‪ ،‬ال‬
‫تؤاخذني عزيزي القارئ هذا ما بدا لي حقيقة‪ ،‬بعد انتهاء الحصة خرجنا مع‬
‫الساعة السادسة مساء‪ ،‬وجلسنا في الساحة قليال تداولنا بعض‬
‫النقاشات مع الطلبة‪ ،‬وقمنا بضحكات استهزائية حيث أصبحنا قادرين‬
‫على فهم بواطن النصوص‪ ،‬وفي تلك اللحظة أحسست بأن بطوننا تصرخ‬
‫بالجوع‪ ،‬وسرعان ما أنهيت كالمي مع الطلبة وانعزلت أفتش في هاتفي‪،‬‬
‫أبحث لعلي أجد اتصاال ما‪ ،‬سعيد استمر في الحديث مع الطلبة‪ ،‬يسألونه‬
‫عن بعض الكتب التراثية‪ ،‬وأمهات املصادر‪ ،‬ويطلبون منه أن يراجع معهم‬
‫مضمون حصة تحليل الخطابات‪ ،‬كان طالبا مجدا ومنفتحا‪ ،‬عكس ي أنا‬
‫مجد ولكن صامت ال أفتح قلبي ألحد‪.‬‬
‫سئمت من االنتظار‪ ،‬والصديق يواصل أحاديثه مع الطلبة‪ ،‬وتركني‬
‫وحدي واقفا‪ ،‬وبينما أنا أنتظر نادتني ندى‪ ،‬أهال أخي نديم‪ ،‬وبعد ندائها‬
‫رأيتها قادمة نحوي‪ ،‬فاضطربت قليال‪ ،‬واعتدلت في الوقفة حينما اقتربت‬
‫أكثر‪ ،‬رحبت بها‪ ،‬وأنا أشعر بخجل‪ ،‬ألنني أجد الحرج في افتتاح موضوع مع‬

‫‪63‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫البنات‪ ،‬وال أقود نفس ي نحو مسابقة الحديث معهن‪ ،‬ألنهن يحملن وعيا‬
‫جمعيا وفكرا مشتركا‪ ،‬بأننا نحن الطالب نلهث نحوهن‪ ،‬ونصدع بحرق‬
‫أنفسنا‪ ،‬للبحث عن طريقة للدخول معهن في صداقة دائمة وحديث ال‬
‫منقطع‪ ،‬وبأننا نشتاق للبحث عن أحاديث عاطفية‪ ،‬نمأل بها الفراغ الذي‬
‫يثقبنا وينخرنا‪ ،‬إنهن يضعن أنفسهن في صورة مثالية غير مستحقة‪،‬‬
‫يحسبن أن جميع الذكور عميان‪ ،‬الذين يحلمون في أوقات فراغهم‪ ،‬بفتاة‬
‫تمتلك قواما معتدلة‪ ،‬ولها حقها من الجمال والجالل‪ ،‬إنهن يفخرن‬
‫باألنوثة املزيفة‪ ،‬وبالفتحتين املشوهتين‪ ،‬التي ينساق نحوهن ذكر أعمى‬
‫وفحل جرته الفحولة نحو متعة زائلة‪ ،‬ال أشبه هؤالء‪ ،‬ولست متجذرا من‬
‫شجرة تبتغي العناق والوصل والشوق‪ ،‬إني أبحث عن مخلص يفهم عاملي‬
‫الداخلي‪ ،‬ويبعثني من جديد‪ ،‬أيها الرجال دعوهن يفخرن بما يملكن‪ ،‬فما‬
‫نريد جنسا أنثويا يفخر بمظهره الداخلي‪ ،‬وبفتحتين سببتا فيكم الهلع‬
‫والخوف والكبت‪ ،‬وابحثوا عن منقذ ينقذكم من الضاللة‪.‬‬
‫وحتى ال أسوق حديثا طويال متشائما‪ ،‬أمر إلى حديثي مع ندى‪ ،‬فقد‬
‫تناقشنا في بعض أمور الدراسة فقط‪ ،‬وأخبرتني بأن أنضم إلى الطلبة‪،‬‬
‫قلت لها‪ :‬سنذهب اآلن‪ ،‬أنتظر صديقي فقط‪ ،‬وتساءلت هل توجد مشكلة‬
‫ما لك معنا؟ قلت في خاطري‪ ،‬ماذا تريد هذه املعتوهة‪ ،‬لم ينقصني سواها‪،‬‬
‫استدركت مجيبا‪ ،‬ال مشكلة لي معكم أختي ندى‪ ،‬كل ما في األمر أنني لست‬
‫اجتماعيا‪.‬‬
‫واستوقفت نفس ي قليال‪ ،‬أقول‪ :‬لن أتكلف في وصفها كثيرا‪ ،‬فذلك‬
‫أمر ال يحرك في دواخلي شيئا‪ ،‬ولكن أقول أني أرى في عينيها نظرة براءة‪،‬‬
‫وثغرا باسما‪ ،‬ووجها مشرقا‪ ،‬يا للهول‪ ،‬أظن أنني متناقض أشد التناقض‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫فلست مستعدا لهذه العبارات‪ ،‬وال أجيد الحديث مع الفتيات أصال‪،‬‬


‫وحضرني ملا تأملتها وأمعنت فيها النظر‪ ،‬قول الشاعر العربي‪:‬‬
‫هي البدرإل أن فيها لحسنها‪ ...‬رقائق ليست في هالل ول بكر‬
‫وتنظر في وجه القبيح بحسنها‪ ...‬فتكسوه حسنا باقيا آخرالدهر‬
‫وعم صمت غريب أثناء حديثنا‪ ،‬وهوت نفس ي وشردت‪ ،‬فقالت ندى‪:‬‬
‫ما بك شردت‪ ،‬كنت أسألك عن عدم مجالستك لنا‪ ،‬ألديك مشكلة ما مع‬
‫أحدهم‪ ،‬أخبرتها ّ‬
‫بأن األمر بعيد عن ظنها‪ ،‬وقريب من عدم الرغبة فقط‪ ،‬ال‬
‫تعلم أنني راكمت خيبات وإخفاقات نجوت منها سليما‪ ،‬نجوت من أرض‬
‫زاكورة املهلوكة‪ .‬لقد حمدت ندى هللا بعدم وجود مشكلة مع الطلبة‪،‬‬
‫وبدأت تشكرني بعبارات استهوائية‪ ،‬تقول فيها‪ :‬طالب باحث وجاد‪ ،‬تمتلك‬
‫لغة فصيحة‪ ،‬ويظهر أنك إنسان خلوق‪ ،‬لكنك تبدي أن لك موقفا من‬
‫الطالبات‪ ،‬أو الجنس اللطيف عموما‪ .‬لحظة وقوفها أمامي لحظة تأملية‪،‬‬
‫كأن يداي تحولتا إلى جناحين‪ ،‬لقد سحرتني بألفاظها وجمالها‪ ،‬وأدهشتني‬
‫ظرافتها‪ ،‬وكأني مصاب بالهيام وتمكن في قلبي الغرام‪ ،‬وهبت جمال القمر‪،‬‬
‫سارق ضوء الشمس‪ ،‬وسارقة وحدتي‪.‬‬
‫مازجت الضحكة ببعض السخف‪ ،‬فشكرتها على لطافتها وكالمها‬
‫الجميل‪ ،‬وبعدها استغربت من مجاملتها‪ ،‬التي لم أجد مبررا قصديا لكي‬
‫أعتبرها مجاملة بريئة‪ ،‬أعدت عليها املجاملة نفسها‪ ،‬وفجأة ولحسن الحظ‬
‫جاء سعيد لينقذني منها‪ ،‬النتهاء كالمنا وانقضائه‪ ،‬وعدم احترافي لطرق‬
‫موضوعات جديدة معها‪ ،‬إذا تجاوزنا الدراسة‪ ،‬ودعتها‪ ،‬وخرجنا من‬
‫الكلية‪ ،‬وذهبنا إلى درب الرحاب لندلل املعدة قليال‪ ،‬ونحن نسير في‬
‫الطريق‪ ،‬استغللت الفرصة ملعرفة ما تدور حوله أحداث الحركة‪ ،‬سألت‬

‫‪65‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الصديق عن ذلك‪ ،‬فأجاب ضاحكا وهللا لم أتذكر شيئا سوى أنها رواية‬
‫تعود بنا إلى أحداث حركة عشرين فبراير‪ ،‬وأحداث الربيع العربي‪ ،‬وما‬
‫أتذكره جيدا هو قول بلقزيز‪" :‬إن السياسيين جميعا من نسل الشيطان‪،‬‬
‫يحتالون على الناس ويسرقون أصواتهم في االنتخابات‪ ،‬بعد أن يصدقهم‬
‫هؤالءـ لكي يغتنوا"‪.‬‬
‫وضعت يدي على كتفه فقلت‪ :‬حقا يا صديقي ال تذكرني بهم‪،‬‬
‫فالسياسيون وضعوا أنفسهم على عرش الشيطان‪ ،‬حثالة الضمير تنخر‬
‫في أجسادهم‪ ،‬وال يستحقون أن نطيل الحديث عنهم‪ ،‬فقط أخبرك أنني‬
‫قرأت الحركة لعبد اإلله بلقزيز سابقا‪ ،‬وقرأت سراديبه ولياليه‪ ،‬وأنصحك‬
‫بقراءتها‪ ،‬واحذر فإن الرواية قصر محصن برداءة النسيان‪.‬‬
‫أكلنا ما تيسر أكله بمنطقة الرحاب في مدينة النصر‪ ،‬وشبعنا‬
‫وحمدنا هللا‪ ،‬وأنا أكل تذكرت نظرات ندى‪ ،‬لم تكن بريئة حقا‪ ،‬هي تخفي‬
‫شيئا ما‪ ،‬وتضمر في قلبها سرا ما‪ ،‬أو ربما أنا مخطئ ألنني ال أفهم في خبايا‬
‫النساء وعالم الطالبات شيئا‪ ،‬قد أكون مخطئا لعدم ِإلفي التعامل مع‬
‫الفنون الجميلة بنوع من اللطافة‪ ،‬أنا قاس جدا‪ ،‬شردت قليال‪ ،‬فانتبه‬
‫سعيد لذلك‪ ،‬ووجدته قد أنهى طبق الفاصوليا الذي نأكله في أحسن‬
‫ظروفنا‪ ،‬وأنا لم أصل بعد إلى انهاء النصف من اللوبيا‪ ،‬استغرب سعيد‬
‫قائال‪ :‬أنت تأكل كالفريسة ما الذي أصابك؟ هل أنت مريض؟ هل عدت إلى‬
‫تشاؤمك مرة أخرى؟ ألديك مشكلة ما؟ أخبرني أرجوك‪ ،‬ال تجعل دماغي‬
‫مشوشا‪ ،‬أنا صديقك‪ ،‬حزن لحالي كثيرا‪ .‬ال يعلم سعيد أن تلك الشعلة‬
‫املضيئة داخل قلب اإلنسان‪ ،‬وجدت املكان الذي ستستضاء فيه‪،‬‬
‫وتفاجأت من شدة إحساس سعيد‪ ،‬بقوله‪ :‬أض ئ شمعتك املرحة‪ ،‬وأخرجها‬

‫‪66‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫إلى الوجود‪ ،‬لعلها تلتقي بمن يشبهك‪ ،‬وتتصادف بمن يحمل نفس‬
‫همومك‪ ،‬أض ئ شمعة قلبك ليستض يء بها العابرون‪ ،‬ال تجعل أحزانك‬
‫سلطان حياتك‪ .‬كم هو جميل أن تعاشر أمثال سعيد‪ ،‬رغم أنه غريب‬
‫عني‪ ،‬إال أنه يقف معك وقفة رجل‪ ،‬ليس مثل الذي يقطن معك في البلدة‬
‫نفسها‪ ،‬وينغص عليك أيامك‪ ،‬ويكدرها‪ ،‬فال مقدرة له على رؤيتك‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأعلم ما حدث لي مع أحمد في العهد‪ ،‬فما‬ ‫يحسدك على أبسط األشياء‪،‬‬
‫فعله معي لن يفعله أقس ى أعدائي وأشدهم‪ ،‬بئس الوجوه الضاحكة‬
‫نفاقا‪ ،‬صدق املعري قائال‪:‬‬
‫والناس خيرهم كشرهم وتساوت النعرات ّ‬
‫والدبر‬
‫إن أناس أهل البلدة يحقدون عليك‪ ،‬وعلى إنجازاتك‪ ،‬تحسبهم‬
‫لطفاء وظرفاء‪ ،‬فتجد عكس ذلك‪ ،‬وتظنهم يبغون لك الخير‪ ،‬ولكن‬
‫ودوا لو أعدموك‪ ،‬ولو سمح هللا بقتل‬ ‫يحملون عليك حقدا شديدا‪ّ ،‬‬
‫البشر‪ ،‬ألعدموك من أول نظرة‪ ،‬وخاصة بعض الطلبة‪ ،‬أمثال أحمد‪،‬‬
‫وتصلنا أخبارهم الخبيثة مع البنات‪ ،‬يقضون أياما في الخواء فيمصمصون‬
‫شفاههم فقط‪ ،‬ويعضونها‪ ،‬ويشدون رأسهم حسدا‪ ،‬ألنك كنت تسهر‬
‫الليالي لتحصل املعرفة‪ ،‬وأنك تنجح في اجتياز فصولك في الدورة العادية‪.‬‬
‫اطمأن سعيد بعد أن علم بأنني بخير‪ ،‬وأما أنا فنسيت أمر ندى‪.‬‬
‫عاطلون عن الحياة‪ ،‬ويائسون منها‪ ،‬لم ينقصنا سوى الحب‪ ،‬الحب لن‬
‫يبحث لنا عن الخبز‪ ،‬أتم سعيد طبقي‪ ،‬وعدنا إلى البيت‪ ،‬الذي ال يصلح إال‬
‫للنوم وإعداد العروض‪ ،‬دخلنا وصلينا العشاء‪ ،‬وتذكرنا عرض أستاذ مادة‬
‫األدب‪ ،‬الذي كلفنا بإنجاز دراسة عن كتابه‪ ،‬حيث أجبرنا بشرائه وألح على‬
‫فعل ذلك‪ ،‬ونحن ال نملك ما يكفينا للوجبات الثالث في اليوم‪ ،‬واملعضلة‬

‫‪67‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫أنه كتاب مشرد ال قيمة له‪ ،‬يحمل قوال على قول‪ ،‬ومليء باألخطاء‬
‫النحوية‪ ،‬وموضوعاته مقعرة الشكل وخاوية املضمون‪ ،‬عار عليهم أن‬
‫يأكلوا من أكتاف الطلبة‪ ،‬بإرغامهم على شراء كتبهم‪ ،‬لجمع مال يضيعونه‬
‫إما في الطالبات الليليات‪ ،‬أو لشراء سيارة يتباهون بها أمام املأل‪ ،‬واألجدر‬
‫أنهم إذا كانوا قديما يطلبون العلم بشروطه وأسسه‪ ،‬ومصاعبه ومتاعبه‬
‫ومهلكاته‪ ،‬فسيعرفون ظروفنا‪ ،‬ولن يلزمونا على فرض كتبهم البخيسة‬
‫علينا‪ ،‬لو كانوا يعرفون ما نحن فيه ما فرضوا علينا طبع ورقة‪ ،‬والتهديد‬
‫الضمني بأن ذلك سيقرر في االمتحان‪.‬‬
‫ونحن ننجز قراءة حول الكتاب‪ ،‬اشمأز سعيد من موضوعاته‪،‬‬
‫وأسلوبه الرديء‪ ،‬وأخطائه الفظيعة‪ ،‬حدثني قائال‪ :‬الحياة عالم بئيس‪،‬‬
‫ُ‬
‫كتاب‬
‫ِ‬ ‫نجد بأسها مغلفا في كل األمكنة‪ ،‬ماذا يعني أن تجبر على شراء‬
‫أستاذ‪ ،‬ال سبب يبرر شراءه سوى أنه أستاذك الذي كتبه وألفه‪ ،‬ويظن‬
‫نفسه شهما بيننا‪ ،‬إال أنه عكس ذلك‪ ،‬فإنه يحط من قيمته‪.‬‬
‫تأففت ورميت الكتاب جانبا‪ ،‬ألنه يستفزنا بما فيه من مباحث‬
‫مأخوذة من دكتوراه جافة‪ ،‬وملا رأيت الغضب يتالش ى في دواخلي‪ ،‬فقد‬
‫طبقت قول محمود شاكر‪" :‬لكل كتاب فهرسته‪ ،‬فأقرأ فهرست الكتاب"‪،‬‬
‫اطلعنا نحن االثنان على فهرس الكتاب‪ ،‬وبدأنا الكتابة عنه‪ ،‬ولم تمر‬
‫ساعة حتى أنهينا ذلك‪ ،‬فرقناه في الحاسوب‪ ،‬بعد تقسيم العمل بيننا‪،‬‬
‫أخذنا نتحدث عن طريقة اإللقاء غدا‪ ،‬ألننا بهذا التحضير نبهر الجميع‪،‬‬
‫طلبة وأساتذة‪ ،‬وكنا نقوم بهذا في مختلف املواد‪ ،‬ال مشكل يتعقبنا‪ ،‬فه ُّمنا‬
‫الوحيد هو التحصيل‪ ،‬لنضمن مستقبال نحصل به على طرف الخبز كما‬
‫يقول املثل املغربي‪ ،‬تعبنا كثيرا‪ ،‬والساعة متأخرة‪ ،‬وأردنا الخلود إلى النوم‪،‬‬

‫‪68‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ففاجأني سعيد بقول هزلي‪ ،‬أرى أن البنات بدأن يتطايرن عليك‪ ،‬إنهن‬
‫العاشقات يا نديم‪ ،‬جميلة الفصل ندى وقفت معك اليوم بعد حصة‬
‫تحليل الخطابات‪ ،‬لست أدري هل تريد أن تخفف عنك أتعابك‪ ،‬أم أن‬
‫االمتحانات على األبواب‪ ،‬وتريد منك أن تكون أستاذها أليام معدودات‪،‬‬
‫فينتهي ذلك ويتجدد في أوقات االمتحان مرة أخرى؟‬
‫ضحكت من قوله‪ ،‬مرددا عبثا عبثا تحاول يا سعيد‪ ،‬ال حب لبئيس‬ ‫ُ‬
‫مثلي‪ ،‬وال وله وال عشق‪ ،‬سألتني ندى فقط عن سر االبتعاد عن تجمعات‬
‫طلبة قسمنا‪ ،‬أعاد علي ما قلت هزال‪ ،‬فقال‪ :‬األيام بيننا كاشفة‪ ،‬أظن أن‬
‫ندى سترويك وستغير نظرتك التشاؤمية هذه‪ ،‬امنحها فرصة‪ ،‬وافتح لها‬
‫ّ‬
‫قلبك القاس ي‪ ،‬إن النساء يحتجن إلى االهتمام والدالل‪ ،‬فيولد فيهن كل‬
‫ش يء‪ ،‬قلت صه ومه يا سعيد‪ ،‬فال نية لي في إقامة عالقة مع ندى أو غيرها‪،‬‬
‫فسوق النساء مليء باألشواك‪ ،‬وال نشتري منه سوى الضجر والعجيج‪،‬‬
‫تبيع لهن سالمك وهدوءك فيقابل بكثرة الضجر‪ ،‬نم يا سعيد فسنستيقظ‬
‫باكرا‪ ،‬وسنصبح على مادة األدب‪ ،‬ودعك من ندى‪ ،‬فتلك ملحة أخرى‪،‬‬
‫وعالم آخر‪ ،‬ال نحبذ أن نعرض تفاصيله الشيطانية في سهراتنا الليلية‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪9‬‬
‫التسلط‬
‫استيقظنا باكرا كعادتنا‪ ،‬متجهين إلى املكان امللعون‪ ،‬الذي يتركب‬
‫فيه الجهل‪ ،‬وتتعالى فيه أصوات أشباه املثقفين واألساتذة‪ ،‬كانت حصة‬
‫األدب‪ ،‬ولدينا فيها عرض حول كتاب األستاذ‪" ،‬األدب العربي القديم‪:‬‬
‫وتنبؤات الحداثة"‪ ،‬مر العرض في نصف ساعة‪ ،‬وبقيت ساعتان ونصف‬
‫للملل واالستعالئية والذاتية‪ ،‬أطال األستاذ القول‪ ،‬بأننا كنا موفقين في‬
‫فهم الكتاب‪ ،‬وتحقيق مطالبه والوصول إلى أفكاره‪ ،‬وأريد من هذا العرض‬
‫أن يكون مقاال‪ ،‬بعد إدخال بعض التعديالت‪ ،‬وإن فكرتم في نشره‪،‬‬
‫فسأتكلف بذلك‪ ،‬وبابتسامة حارقة‪ ،‬وافقنا على أساس أن الكتاب سيتنبأ‬
‫بمستقبلنا الحداثي لألدب‪ ،‬كما تنبأ بمستقبل وحداثة طبقات فحول‬
‫الشعراء‪ ،‬وكما يقول طالب معنا كثير املزحة والطرفة والنكتة‪ ،‬طبقات‬
‫وحوش الشعراء‪ ،‬ما الغريب فقد يتنبؤون بكوارث العالم‪ ،‬ومأساته‪ ،‬هذه‬
‫هي التنبؤات الصادقة‪ ،‬وما سوى ذلك فمرج وعجيج وجعجعة ال طحين‬
‫فيها‪.‬‬
‫املستقبل الزاهر لإلنسانية يوجد في مخيلة املوتى‪ ،‬أما األحياء فال‬
‫حق لهم إال استطالع كارثة مستقبلية‪ ،‬حتى ال أخرج عن جو الفصل‪ ،‬فقد‬
‫شكرنا الطلبة بما قدمنا لهم‪ ،‬وما أثارني هو تدخل ندى‪ ،‬كانت مذهلة‪ ،‬لم‬
‫تكن تشارك وتتدخل في الفصل أبدا‪ ،‬تحدثت بلغة جيدة‪ ،‬أي صدفة‬
‫هذه؟ ملاذا تدخلت في عرضنا فقط دون عروض أخرى؟ ربما لتثير انتباهي‬
‫وتحظى بصداقتي‪ ،‬علي أي‪ ،‬هذا مجرد هذيان‪ ،‬ال شأن لي في تدخلها‪ ،‬ذلك‬

‫‪70‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫حقها‪ ،‬أنهينا التدخالت‪ ،‬وبدأ أستاذنا يسرد علينا إنجازاته األسطورية‪،‬‬


‫والتاريخية والفخرية‪ ،‬والخيالية‪ ،‬وملا أوشكت الحصة على االنتهاء‪ ،‬قدم‬
‫األستاذ عرضا آخر إلنجازه في كتاب ألستاذ له معه زمالة التسويق الكتابي‪،‬‬
‫فأوص ى الطلبة بأنه كتاب هام‪ ،‬ومطالبون به في االمتحان‪ ،‬وسيفيدهم في‬
‫آفاق املادة‪ ،‬إلنجاز بحث في مجال اآلدب‪ ،‬ال ندري أحشرنا في هذه الكلية‬
‫للبحث عن منافذ املعرفة‪ ،‬أو للمتاجرة في الكتب‪ ،‬حقا نحن معذبو األرض‪،‬‬
‫صرخت في وجهنا الدنيا‪ ،‬ورمتنا في أرض غير قادرة على حمل أحزاننا‪ ،‬أما‬
‫ّ‬
‫األفراح فقد وقعنا عليها شهادة الوفاة‪ ،‬ونسيناها‪ ،‬ونسينا اإلحساس بها‪،‬‬
‫أيعقل أن يتفق األساتذة فيما بينهم ليغتنوا من جيوبنا التي تحلف هللا على‬
‫وحدتها‪ ،‬وعلى الثقب الذي فيها‪ ،‬ال حقارة أشد من هاته؟ أيها اآلتون إلى‬
‫الكلية‪ ،‬اكسروا تلك املثالية‪ ،‬وال تتعلقوا بها ّ‬
‫أشد تعلق‪ ،‬واعلموا أنكم بعد‬
‫البكالوريا‪ ،‬ستحشرون في موكب من املآس ي‪ ،‬ولكن رغم ذلك ستتمسكون‬
‫بقدراتكم‪ ،‬وبأهدافكم‪ ،‬ال أقول هذا الكالم ألرفع من معنوياتكم‪ ،‬أو أنني‬
‫خبير في التنمية الذاتية‪ ،‬بل ألنني أحسبكم ستطلبون العلم لوحدكم‪ ،‬دون‬
‫أن تعولوا عليهم كثيرا‪ ،‬فما لهم معرفة وال هم يحزنون‪ ،‬القلة القليلة منهم‬
‫التي تخلصت من العدو الداخلي‪ ،‬وحافظت على نقاء ضميرها املنهي‪ ،‬فمنهم‬
‫املجتهدون واملنكمشون واملطففون واملقترون‪.‬‬
‫انتهت الحصة الصباحية‪ ،‬وتجمع الطلبة كعادتهم في الساحة‬
‫يثرثرون ويضحكون‪ ،‬وانزويت وحيدا‪ ،‬جالسا أتأمل صخب الكلية‬
‫وضجرها‪ ،‬وسعيد غارق في الضحك مع طلبة فصلنا‪ ،‬وفجأة رأيت ندى‬
‫قادمة نحوي‪ ،‬قلت‪ :‬أي مصيبة أن تأتيك فتاة جميلة وال تعرف مفاتيح‬
‫الحديث معها‪ ،‬وأنت أصال ال راحة لك للحديث مع شخص ما‪ ،‬غالبا‬
‫ستسألني عن مسائل الدراسة ومتعالقاتها‪ .‬سلمت ّ‬
‫علي‪ ،‬وجلست دون أخذ‬

‫‪71‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫إذن‪ ،‬بادرتني قائلة‪ :‬لقد أعجبت بعرضكما يا نديم‪ ،‬ليس من عادتي‬


‫املشاركة‪ ،‬ولكن عرضكما وإن كان عن كتاب ال قيمة له‪ ،‬فقد كنتما‬
‫متميزين‪ ،‬تمنيت لو كنت معكما‪ ،‬شكرتها‪ ،‬وقلت لها بأن انضمامها إلينا‬
‫شرف عظيم‪ ،‬ضحكت وبدا بياض أسنانها مشرقا‪ ،‬إال أنني لم أرع أي‬
‫إلي وأنا أبلع ريقي وال أعرف‬‫اهتمام ألبادلها الضحكات نفسها‪ ،‬ظلت تنظر ّ‬
‫عم الصمت قليال‪،‬‬ ‫ماذا سأقول‪ ،‬تمنيت لو يأتي سعيد‪ ،‬ويخلصني منها‪ّ ،‬‬
‫وعيناها ال تفارقان وجهي‪ ،‬أي خجل أصيبت به في تلك اللحظة‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫باملناسبة يا نديم فاسمك جميل جدا‪ ،‬كنت أجد حرجا في مخاطبة‬
‫العقلية الذكورية املتزمتة‪ ،‬التي ال تناقش إال في املتعة‪ ،‬وفي املفاضلة بين‬
‫األنثوية والذكورية‪ ،‬وجدتك مختلفا عنهم‪ ،‬استهوتني وحدتك يا نديم‪ ،‬وأريد‬
‫أن أكتشف عاملك الغريب‪ ،‬أراقبك فأجدك يائسا‪ ،‬وكأنك تنتظر قدوم‬
‫ش يء ما‪ ،‬لعلي أكون محظوظة ألناقش معك أفكار النسوية البعدية‪ ،‬ألنني‬
‫مهووسة باآلدب النسوي‪ .‬لم تكد تنهي إطراءها الالمتناهي حتى التحق بنا‬
‫سعيد‪ ،‬فالطفنا ومازحنا بقوله‪ :‬أركما معا هاته األيام‪ ،‬ربما عشيقان‬
‫جديدان في الفصل‪ ،‬أبلسته بسرعة‪ ،‬قلت‪ :‬ال تهذ يا صديقي كنا نتحدث في‬
‫بعض القضايا املرتبطة بالنسوية وما بعدها‪ ،‬فندى لم تأت إلى الحريم‬
‫الجامعي‪ ،‬حتى تنش ئ معي عالقة عشق‪ ،‬بل جاءت إلى الحرم الجامعي‪،‬‬
‫تبسمت ندى ونطقت بعبارة فيها حياء أترككما دون األخذ من وقتكما‪ ،‬ربما‬
‫تركتما كتابا لم تتماه بعد‪ ،‬مجدان في زمان الرخاء الطالبي‪ ،‬إلى اللقاء‪.‬‬
‫ذهبت عند صديقتها املحجبة آمنة‪ ،‬التي تنظر إلينا كلما جاءت ندى‬
‫لتحدثنا‪ ،‬وإن كنت سأظلمها بحكم قيمة‪ ،‬فإن لها رأسا فارغا مغطى يحوي‬
‫فراغا آخر‪ ،‬لعلها تفعل األفاعيل وتأتي باألعاجيب‪ ،‬ذهبت ندى وبدأت‬
‫أتأكد بعد نقاش ي معها أنها طالبة قارئة‪ ،‬تحب الصمت‪ ،‬الظاهر فيها أنها‬

‫‪72‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫صادقة وغير متلونة ويصعب التالعب بها‪ ،‬فكما قالت في اللقاء التعريفي‪،‬‬
‫فهي متأثرة بكتابات نوال السعداوي‪ ،‬وفاطمة املرنيس ي ورضوى عاشور‬
‫وأحالم مستغانمي‪ ،‬وأجاثا كريستي‪ ،‬وجاين أوستن‪ ،‬وتذكرني بشخصية‬
‫رواية أوليف كيتدريج إلليزابيث ستروت‪ ،‬املتقلبة إلى صرامة ويأس وصبر‬
‫وشدة‪ ،‬ال تدخل في تفاصيل الجميع‪ ،‬تسعى للبحث عن فهم أحق لحالتها‬
‫وذاتها‪ ،‬أشترك معها هم القراءة‪ ،‬وسمة التشاؤم‪.‬‬
‫ألقى سعيد لباس الهزل واملزاح‪ ،‬وتحول مباشرة إلى إنسان مجد‬
‫فجرني للذهاب إلى قضاء حاجته‪ ،‬كان يود قضاء‬ ‫وعميق وصاحب عقل‪ّ ،‬‬
‫مسألة إدارية بالكلية‪ ،‬عند السيدة املتسلطة آمال‪ ،‬وعباس الرجل‬
‫املعذب‪ ،‬إدارة تذهب إليها لطلب وثيقة أو إلنجاز ش يء ما‪ ،‬فتندم حياتك‬
‫كلها على الذهاب إليها‪ ،‬اإلدارة عندنا هي الوحيدة التي تعتبر أن الناس كلهم‬
‫في إجازة وال أشغال لديهم‪ ،‬لذلك تمنحهم بعض الراحة في االنتظار‪،‬‬
‫مهمتهم املبجلة تضييع الوقت‪ ،‬وتأخير إنجاز الطلبات‪ ،‬يود سعيد أن‬
‫يتقدم ملدرسة التعليم الخصوص ي وأراد سحب أوراقه‪ ،‬إلعادة نسخها‪،‬‬
‫وجعلها نسخا مطابقة لألصل‪ ،‬فذهبنا ونحن نلوك كالما عن مآسينا وفي‬
‫ضرورة حاجاتنا إلى عمل نساير به شدة املعيشة في هذه الحياة امللعونة‪.‬‬
‫ملا وصلنا إلى اإلدارة تحدثنا باحترام مع املتسلطة آمال‪ ،‬وأخبرناها‬
‫بطلبنا‪ ،‬فبدأت بعملها االحترافي‪ ،‬بتصدير الطلبة وتصنيمهم في مكان‬
‫يطول فيه االنتظار‪ ،‬بعد معرفتها الطلب‪ ،‬قالت لسعيد امأل هذه الورقة‬
‫ّ‬
‫وانتظر حتى يأتي النائب ليوقع عليها‪ ،‬انتظرنا وطال االنتظار كثيرا‪ ،‬فرجع‬
‫عندها سعيد ليخبرها بمرور نصف ساعة كاملة في ال ش يء‪ ،‬ولدينا عمل‬
‫آخر لقضائه‪ ،‬قال لها‪ :‬رجاء سيدة آمال‪ ،‬اتصلي به‪ ،‬أو ليكلفك أنت‬

‫‪73‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫بالتوقيع‪ ،‬ونظن أن ال مشكلة في ذلك‪ ،‬وكعادتها‪ ،‬أقنعت سعيد بأن املسألة‬


‫غير قانونية‪ ،‬واألمر غير مسموح به‪ ،‬قالت له‪ :‬أريد أن أساعدك‪ ،‬ولكن‬
‫أخش ى أن يصل هذا إليه‪ ،‬فيتم توبيخي‪ ،‬أعلم أنك مشغول‪ ،‬اصبر قليال‬
‫فسيأتي‪ ،‬نفد صبر سعيد‪ ،‬قائال أنا من نفد صبري يا آمال‪ ،‬اإلدارة سميت‬
‫إدارة ألنها تدير شؤون الناس وتيسرها‪ ،‬وتتعاون معهم على تلبية طلباتهم‬
‫وقضاء حاجاتهم‪ ،‬إال أننا نجد عكس هذا نجيء ألخذ وريقات فنسكن هنا‬
‫كاملشردين‪ ،‬نسعاكم في ال ش يء‪ ،‬بقي فقط أن نبني بيتا وننتظر السيد‬
‫النائب ليحرك يده ثم نذهب‪ ،‬ونشكره وندعو له بالهداية‪ ،‬واملزيد من‬
‫العطاء مع الطلبة‪.‬‬
‫املشتغلون في اإلدارة هم آالت معطلة تعطل معها اآلخرين‪ ،‬رمى‬
‫سعيد الورقة غاضبا‪ ،‬فتدخل السيد عباس الرجل الضخم‪ ،‬املتشدق في‬
‫كالمه‪ ،‬فتشندق فقال‪ :‬احترم نفسك يا بني‪ ،‬أنت لست في حظيرة بقر‪ ،‬أنت‬
‫في الكلية‪ ،‬أنتم جيل مالح‪ ،‬ال أخالق وال قيم‪ ،‬قلنا لك انتظر دقيقة‬
‫وسيأتي النائب‪ ،‬ال تحرجونا على رفض طلباتكم‪ ،‬ملا رأيت املنظر معكرا‬
‫ومشوشا جئت‪ ،‬فقلت ما الذي حصل؟ أجاب سعيد‪ ،‬قال السيد عباس‬
‫ننتظر دقيقة‪ ،‬فسيأتي النائب‪ ،‬ونحن انتظرنا حتى أهلكنا من الجلوس‪،‬‬
‫الدقيقة عندهم ساعة‪ ،‬ربما أمست اإلدارة تشتغل بتوقيت اإللهة ديمتير‪،‬‬
‫في عالم الرذيلة واألموات والجحيم‪ ،‬هدأت من روع سعيد قليال‪ ،‬فتحدثت‬
‫مع عباس بأن املسألة عبثية واألمر غير محمود‪ ،‬فأنتم قمتم بواجبكم‬
‫ولكن اللومة على النائب‪ ،‬الذي أخذ منصبين‪ ،‬ليترك الناس تتلوى وتنتظر‬
‫في العراء‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫خرجنا من اإلدارة دون قضاء الحاجة‪ ،‬تبا إلدارتهم التي تدير رأسها‬
‫عنا‪ ،‬سعيد غاضب وقلق‪ ،‬ربتت على كتفه‪ ،‬وهدأت من روعه‪ .‬في هذا البلد‬
‫الحبيب كتب علينا الشقاء‪ ،‬إننا سيزيفيون في أرض الخراب‪ ،‬املشتغلون في‬
‫الجامعة أشربوا في قلوبهم سوء التدبير وانعدام الضمير‪ ،‬هؤالء اإلداريون‬
‫همهم الوحيد أخذ املال فقط‪ ،‬فهو عقيدتهم وإيمانهم وشرفهم وكرامتهم‪،‬‬
‫صدق الفيلسوف الذي نسيت اسمه ملا قال بأن اإلدارة ملا دخلت إلى‬
‫الجامعة عطلت كل ش يء فيها‪ ،‬األساتذة يعتذرون عن عدم املجيء للحصة‬
‫بسبب اجتماع طارئ‪ ،‬سبحان هللا كأنهم يخططون للحد من املنظمات‬
‫اإلرهابية‪ ،‬كثرة االجتماعات فيما بينهم أكثر من الحصص التي ندرسها‬
‫نحن‪ ،‬اإلدارة عندنا شققت رؤوسنا بفعل االنتظار‪ ،‬صبرنا وما زلنا نصبر‬
‫على هذا العبث والشؤم‪ ،‬حتى حينما نطلب دعما إلنجاز نشاط طالبي‬
‫داخل الكلية‪ ،‬تأتي اإلدارة لتعرقلنا ولتعكر علينا املزاج‪ ،‬وتفتح لغة مكرها‬
‫بأن القانون ال يسمح بما أنتم فاعلون‪ ،‬أي قانون جعلهم يعترضون على‬
‫الحياة املعرفية في الكلية؟ آمال وعباس والنائب‪ ،‬نماذج ملا يحصل في‬
‫جامعات أخرى‪ ،‬اإلدارة وحدها كافية لتجعلك تسافر وترحل عن املغرب‪،‬‬
‫وتهجره لبلد يسرك أن تشتغل فيه عامل نظافة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ونحن نخرج من باب الكلية صادفنا آمنة املحجبة فجاءة‪ ،‬حركت‬
‫رأسها إشارة إلى السالم دون أن تتوقف لتحدثنا‪ ،‬فهمس سعيد بقوله‪ :‬يا‬
‫لها من معقدة‪ ،‬وكأنها اللؤلؤ واملرجان‪ ،‬تظن نفسها محصنة‪ ،‬وأمثالها‬
‫يصنعن العجائب والفظائع وراء شاشة الهاتف‪ ،‬بأجساد فيسبوكية‬
‫متعددة الحركات‪ ،‬لم تتكلم وكأن كالمها سيبعث فينا األمل من جديد‪،‬‬
‫ُ‬
‫ضحكت من‬ ‫وسيمحي معاناتنا في النصر‪ ،‬وينسينا ّ‬
‫هم ما نحن فيه اآلن‪،‬‬
‫قوله‪ ،‬قلت‪ :‬دعك منها فلها حرية الحديث مع من تشاء‪ ،‬لن نلزمها على‬

‫‪75‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ش يء‪ ،‬وأصال ال ينقصنا سوى كالمها‪ ،‬فقد ضيعنا وقتنا ههنا مع امللعونين‪،‬‬
‫ونريد فقط الذهاب إلى البيت‪ ،‬نصنع غذاء من البيض والطماطم‪،‬‬
‫ونذهب إلى خزانة الكلية لنقرأ شيئا ما‪ ،‬ونستدرك ما ضاع من الوقت في‬
‫هذه الحظيرة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪10‬‬
‫المنزع التقديسي‬
‫ذات يوم‪ ،‬مساء الجمعة‪ ،‬ذهبنا إلى املكتبة مع الساعة الثالثة بعد‬
‫الزوال‪ ،‬لنطلع على بعض األطاريح املنجزة حديثا في موضوع النقد القديم‪،‬‬
‫كلفنا بها األستاذ‪ ،‬لننظر في املوضوعات التي تم إنجازها‪ ،‬والطريقة التي‬
‫صدع رأسنا في الحصة‪ ،‬وشقه‪،‬‬ ‫أنجزت بها‪ ،‬باعتباره مشرفا عليها‪ ،‬فقد ّ‬
‫بقوله إن األطروحات التي أشرفت عليها متميزة‪ ،‬ونالت حق الطبع‪،‬‬
‫وأصحابها يدرسون في جامعات أخرى‪ ،‬وما أشاهده من البحوث اليوم غير‬
‫الئق بمستوى البحث العلمي‪ ،‬وأطال القول بأن األساتذة اآلخرين في النقد‬
‫الحديث والسرد واللسانيات‪ ،‬نجد أطروحاتهم التي أشرفوا عليها مسيئة‬
‫للبحث العلمي‪ ،‬هذا أمر يشق على النفس‪ ،‬هكذا في جميع الحصص‪،‬‬
‫األستاذ يعتبر نفسه العالم في كل ش يء‪ ،‬لم ندرس حصة إال وقال فيها إن‬
‫األستاذ والدكتور فالن قد ذكرني في كتابه‪ ،‬واعتبرني من املؤسسين األوائل‬
‫للنظريات الفكرية والنقدية التي تحدث عنها النقاد القدماء‪ ،‬أمثال ابن‬
‫سالم الجمحي وابن األثير والجرجاني‪ ،‬سمعنا أحاديثه وأقواله وصدقناها‪،‬‬
‫وبدأنا ننشر ذلك بين الطلبة‪ ،‬فأستاذنا متمكن وموسوعي وصاحب قدر‬
‫وشأن في الدراسات النقدية بالعالم العربي‪ ،‬األمر مؤسف طبعا‪ ،‬لم أثق‬
‫فيما يقول وفيما يدعيه‪ ،‬فما أعرفه أن املتمكنين تتحدث عنهم إنجازاتهم‪،‬‬
‫وال يتحدثون عن أنفسهم في الفراغ‪.‬‬
‫سبق وأن قرأت بأن نيتشه يخبر طلبته بعدم اتباعه وتقديس‬
‫أفكاره‪ ،‬وينصحهم بالتمرد عليه‪ ،‬فيقول لهم‪" :‬انفضوا عني وال تعودوا إال‬

‫‪77‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫إذا أنكرتموني"‪ ،‬ونحن اليوم نرى أن أستاذنا يشكر نفسه‪ ،‬كأنه يقول‬
‫ضمنيا اتبعوا مساري‪ ،‬وال تتبعوا مسار شخص آخر‪ ،‬أي اعتزاز هذا؟‬
‫نسأل هللا بهذا أن يجعل أستاذ النقد مذكورا في تاريخ هيرودوت‪ ،‬لم ال؟‬
‫فهو أستاذ يفهم كل ش يء‪ ،‬ويبحث في كل ش يء‪ ،‬ويكتب في كل ش يء‪.‬‬
‫جلسنا في املكتبة‪ ،‬وبدأنا نتصفح األطروحات التي أشرف عليها‬
‫األستاذ املبجل‪ ،‬فوجدنا الهراء والثرثرة في الكالم في الدكتوراه املبجلة‪،‬‬
‫وتأسف سعيد على تصفحها‪ ،‬وندم ندما شديدا‪ ،‬فما فيها من األخطاء‬
‫واألحكام القيمية والقداسة أمر ال يحص ى‪ ،‬وآثار انتباهي أنهم يستشهدون‬
‫باألستاذ كثيرا‪ ،‬لم ال يفخر وقد ذكر في أطروحات أخذت حق الطبع؟‬
‫قال سعيد‪ :‬سمعت أن هذا األستاذ متعصب كثيرا‪ ،‬وقد سجل‬
‫سجال من أسماء الطلبة الذين عارضوه في مواقفه وآرائه دون معرفتهم‪،‬‬
‫يرسبهم في املادة التي يدرسها‪ ،‬ويكون مانعا من إكمالهم السنة الجامعية في‬
‫سنواتها الثالثة‪ ،‬رغم أنهم يقدمون أجوبة مقنعة وفي املستوى‪ ،‬واإلشكال‬
‫أنه يتحدث مع أساتذة آخرين ليتخذوا املوقف نفسه من هؤالء الطلبة‪،‬‬
‫الذين يتركون عائالتهم ويشقون متاعب كثيرة‪ ،‬ليأتي أستاذ فيه ثرثرة‬
‫زائدة‪ ،‬فيقف في طريقهم‪ ،‬ويمنعهم من تحقيق أحالمهم‪ ،‬بسبب مخالفتهم‬
‫لرأيه‪ ،‬قال سعيد بعدما رفع رأسه بعد تصفح عميق لألطروحات‪ ،‬تعددت‬
‫األسباب والفساد واحد يا صديقي نديم‪ ،‬ستعصف تشاؤميتك من جديد‬
‫أعلم هذا‪.‬‬
‫استغربت حقا من هذه الفاجعة‪ ،‬األمور تسير من س يء إلى أسوأ في‬
‫هذه الدنيا‪ ،‬ال أمل للتمسك بها‪ ،‬ال أعرف مقدار الرحمة املوجودة في قلب‬
‫هذا األستاذ‪ ،‬والذين يشبهونه‪ ،‬يمارسون سلطة الجهل والقمع وفساد‬

‫‪78‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫صبرنا هللا على تحمل هذا‪ ،‬فلم نعد قادرين‬ ‫الضمير‪ ،‬وانعدام الشفقة‪ّ ،‬‬
‫على تصديق ما يحصل‪ ،‬الشهرة واالعتزاز والفخر كلها مسائل إغوائية‬
‫تفسد اإلنسان‪ ،‬وتحقره‪ ،‬وتنقله من اإلنسانية إلى الداروينية‪ ،‬سئمت مما‬
‫سمعته عن األستاذ‪ ،‬وتأكدت منه في الفصل‪ ،‬فاستأذنت سعيد بالخروج‬
‫إلى ساحة الكلية قليال‪ ،‬وأخذت معي كتاب "املصالح واملصائر" لعلي حرب‪،‬‬
‫فخرجت وجلست‪ ،‬وبدأت أتصفح الكتاب‪ ،‬فأثارني عنوان جميل‪" ،‬املنزع‬
‫التقديس ي"‪ ،‬فذهبت مباشرة أقرأ ما سطره الكاتب‪ ،‬لكوني معجب بكتاباته‬
‫ألنه يقربني من مشاكل العالم العربي ومأساته‪ ،‬وأزماته‪ ،‬ومطالبه‪ ،‬ملا قرأت‬
‫ما قاله عن القداسة‪ ،‬وجدته يضرب في أمثال هؤالء األساتذة‪ ،‬الذين‬
‫يبتغون قداسة من طالبهم‪ ،‬ويسيرون وراء منزع الشهرة الفارغة‪ ،‬وقفت‬
‫على قول علي حرب في املنزع التقديس ي‪":،‬هذا املنزع هو أصل العلة وجذر‬
‫املشكلة‪ ،‬كما يتجسد في تقديس األصول والنصوص أو في عبادة األشياء‬
‫واألشخاص‪ ،‬إنه مصدر العجز والفقر ومصنع القصور والتخلف‪ ،‬أوال‬
‫ألن القداسة هي أداة حجب ومحو‪ ،‬بقدر ما هي مصدر رهبة ورعب‪ ،‬وثانيا‪:‬‬
‫وتشل طاقته الحيوية على‬‫ّ‬ ‫ألن العبادة تدمر لدى الفرد منابع القوة‬
‫التفكير الخالق"‪.‬‬
‫مؤسف حقا‪ ،‬أن تجد مثقفا وأستاذا جامعيا يرسخ مبدأ القداسة في‬
‫طلبته‪ ،‬ويعمي بصيرتهم بالتقليد دون التجديد‪ ،‬وال يربي فيهم ملكة النقد‬
‫والشك‪ ،‬التعلق باألسماء وتبجيلها‪ ،‬آفة مضاعفة ومريضة‪ ،‬نعاني منها‬
‫بالكلية‪ ،‬األمر الذي ينتج كسال وتأخرا وهزاال وجوديا‪ ،‬كأننا في زمن األلوهة‬
‫والحضارات القديمة‪ ،‬التي تتعلق باألساطير واآللهة لتمارس حياتها‬
‫وتضمن عيشها‪ ،‬مصالحنا ومصائرنا محددة بتنقية الجامعة من فيروس‬
‫الجهل والقداسة‪ ،‬ننتقد كثيرا‪ ،‬ونقول‪ :‬إن املشكل في وزارة التعليم‪ ،‬بل‬

‫‪79‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ونرى أن العبء الكبير تتحمله الجامعة أيضا‪ ،‬الفظاظة تسكن أستاذا‬


‫تعارضت معه في فكرة فيرسبك ويضعك في الئحته السوداء‪ ،‬الظلم بعينه‪.‬‬
‫تصفحت مجمل موضوعات الكتاب‪ ،‬وخشيت أن أشكره وأبجله‬
‫حتى ال أسقط في القداسة‪ ،‬استحسنت الكتاب‪ ،‬وأسأل ربي يوفقني ألقرأ‬
‫في يوم ما باقي أعماله‪ ،‬وخاصة "حديث النهايات" و"تواطؤ األضداد‪ :‬اآللهة‬
‫الجدد وخراب العالم"‪ ،‬هذه هي حياتي أعيش بالقراءة وأتنفس بالكتب‪،‬‬
‫وأرتاح بالكتابة‪ ،‬هي املبرر الوحيد لتبرير سر عزلتنا‪ ،‬وهي التي رحبت بنا‬
‫حينما أحسسنا بالضيق من العالم وتعاسته‪ .‬نسيت نفس ي بعد الغرق في‬
‫كتاب علي حرب‪ ،‬حتى وقف أمامي سعيد‪ ،‬قائال الساعة تشير إلى‬
‫السادسة يا نديم‪ ،‬لنذهب اآلن‪ ،‬فقد اتصل بي مسعود أبو البنات زميلنا‬
‫في الفصل‪ ،‬فقد أخبرني بأنه وجد لنا غرفة بالحي الجامعي‪ ،‬وتحدث مع‬
‫شخص مكلف‪ ،‬يمكنه أن يتعاون معنا‪ ،‬ربما قد يكون الخالص للتخلص‬
‫من أعباء الكراء‪.‬‬
‫أنا لم أحمل أمال على إيجاد غرفة في ذلك الحي‪ ،‬املليء بالزبونية‬
‫واملحسوبية‪ ،‬ولم أحمل كالم سعيد على محمل الجد‪ ،‬حتى وإن كان قول‬
‫الصديق حقيقيا فال بد من مقابل‪ ،‬املال ثم املال‪ ،‬فهو الشرف والكرامة‬
‫واإلله الجديد لإلنسانية‪ ،‬قلت لسعيد‪ :‬وجدتني غارقا في قراءة كتاب علي‬
‫ُ‬
‫شككت أن مسألة‬ ‫حرب‪ ،‬انتظرني قليال‪ ،‬أجمع أغراض ي ونذهب‪ ،‬وإن‬
‫إيجاد الغرفة في الحي الجامعي وفي هذه الظروف مستحيلة‪ ،‬وأنت تعرف‬
‫أنهم يريدون أن يكون جيبك ممتلئا بالنقود‪ ،‬فهي اإلله والشرف والكرامة‬
‫والعقيدة واإليمان في عقول مسيري الحي‪ ،‬قال سعيد‪ :‬نرجو هللا خيرا‪،‬‬
‫حاسب هللا املسؤولين على أفعالهم وسوء سريرتهم‪ ،‬يقدمون غرفا للذين‬

‫‪80‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫يقطنون في النصر‪ ،‬أما نحن الذين جئنا من أقاص ي الجبال‪ ،‬فلسنا‬


‫منتمين إلى املغرب‪ ،‬ولكن إن يعلم هللا فينا خيرا يأتنا خيرا‪ ،‬أال تعلم يا نديم‬
‫ُ‬ ‫َُ ُُ ُ‬
‫ّللا ِفي قل ِوبكم خيرا ُيؤ ِتكم خيرا ِم َما‬ ‫قوله تعالى في سورة األنفال‪ِ " :‬إن يعل ِم‬
‫ُ‬
‫يم (‪ )70‬و ِإن ُي ِريدوا ِخيانتك فقد‬ ‫ور ر ِح ٌ‬ ‫ُأخذ من ُكم ويغفر ل ُكم و َ ُ‬
‫ّللا غ ُف ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم ح ِك ٌ‬
‫يم (‪.")71‬‬ ‫خ ُانوا ّللا ِمن قب ُل فأمكن ِمن ُهم وّللا ع ِل ٌ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫وصلنا إلى الحي الجامعي‪ ،‬الذي يجمع جماعة من الطلبة من مختلف‬


‫األصناف‪ ،‬ويختلط فيه املؤنث باملذكر‪ ،‬ولن أحدثكم عن املمارسات التي‬
‫تقع وتحدث فيه‪ ،‬والشنائع املضرة بالعقل‪ ،‬والقاتلة للقلب‪ ،‬اتصل سعيد‬
‫بمسعود‪ ،‬فخرج إلينا ومعه طالبة رشيقة وطائشة‪ ،‬نقول عنها بالدراجة‬
‫"قافزة"‪ ،‬تفارق معها مسعود ملا وصال إلينا‪ ،‬وضربته على كتفه‪ ،‬ومازحته‬
‫قائلة‪ :‬تجدني في مكاني املعهود‪ ،‬فلدي ما أحكيه لك‪ ،‬ولدي فنون جديدة‪،‬‬
‫تبحثن عن أمثالك يا مسعود‪ ،‬ولم يكذب طلبة الفصل‪ ،‬فال عمل ملسعود‬
‫سوى امتاع البنات‪ ،‬والبحث لهن عن متعة وسط الحي مقابل ثمن يعشن‬
‫به‪ ،‬ويتمتعن به‪ ،‬محترفات الشيطنة والغواية‪ ،‬تلك اللواتي يقدمن‬
‫الفتحتين من أجل املال‪ .‬أي حب يأتي بعده ندم وفساد فمهلكة للشخصين‬
‫معا‪ ،‬أال يعلمون حكمة ما قاله شاعرنا العربي‪:‬‬
‫ال ُم َحرما‬ ‫أن َت َن َ‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫املحاس ِن ُمقلتي‪...‬‬ ‫َُ ّ َْ‬
‫وأمنع نفس ي‬ ‫ِ‬ ‫ض‬‫أن ِزه في رو ِ‬
‫ّ ْ َ َ َ‬
‫ص ِ ّم ت َهدما‬ ‫صب على الصخر األ‬ ‫َوأ ْحم ُل م ْن ِث ْقل الهوى ما َل َو ان ُه‪ُ ...‬ي ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َو َينطق ط ْرفي ْ‬
‫مترجم خاطري‪ ...‬فلول اختالس ي َرد ُه لتكل َما‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ ْ ََ‬
‫رأيت الهوى دعوى من الناس ك ِل ِهم‪ ...‬فلست أرى حبا صحيحا مسلما‬
‫الحب الذي ينشأ بضغطة ينتهي بضغطة‪ ،‬والحب الذي تقوده‬
‫الشهوة حب مشدود أمره بالتالش ي بتحقيق رغبة الشهوة امللعونة‪ ،‬فكن‬

‫‪81‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫صالحا يأتيك الصلح من كل جانب‪ ،‬وكوني صالحة يأتيك الصالح من تحت‬


‫قدميك‪ ،‬وإن كنت فاسدة‪ ،‬فسيأتيك مسعود وأمثاله من كل جانب‪،‬‬
‫املحبون والعاشقون الصالحون يبحثون عن الصالح‪ ،‬إننا نرى الحب وال‬
‫نرى املحبين‪ ،‬إننا نعرف العشق ولكن ال نعرف العاشقين‪ ،‬تحدث الصديق‬
‫قائال‪ :‬ال دراية لي بالكم الهائل من أفواج البنات اللواتي يتعامل معهن‬
‫مسعود‪ ،‬تتكاثر عليه الطالبات من كل مكان‪ ،‬ال نعلم كيف يستلذ‬
‫شهوتهن؟ ويجعلهن مقبالت مدبرات إليه‪ ،‬فالذي أسماه بأبي البنات‬
‫شخص وجد له اسما أدل على املقصود‪ ،‬ويتطابق معه تمام التطابق‪،‬‬
‫أنجانا هللا نحن أبناء الجنوب يا نديم من هاته الدنائس الشيطانية‪ ،‬التي‬
‫تحفر حفرة العذاب الشديد‪.‬‬
‫رحب بنا مسعود أبو البنات‪ ،‬وسمي بهذا االسم ألنه يحترف التالعب‬
‫باإلناث‪ ،‬ومزاجه متماش مع املتعة والضحك والدعابة‪ ،‬إنه من الناس‬
‫الذين تركوا هموم الدنيا واتبعوا الفتن‪ ،‬ولم يأخذوها على محمل الجد‪،‬‬
‫ولكن تجدهم األوائل الذين تحتضنهم الحياة وتعطيهم كل ش يء‪ ،‬مثل‬
‫صديقي جمال الذي كان متهاونا في دراسته مستمتعا بحياته غير مكترث ملا‬
‫يحصل في الجامعة‪ ،‬وأتذكر أنني كنت أسأله عن سر لالمباالة التي تسكن‬
‫فيه‪ ،‬قال مازحا‪ :‬إن كتاب فن الالمباالة الذي ال تحبه‪ ،‬صححته وعدلته‬
‫وعلقت عليه‪ ،‬فال نستفيد من الجامعة شيئا عزيزي نديم‪ ،‬إننا نبحث عن‬
‫هم له‬‫ورقة للخروج من أرض الجحيم‪ ،‬فكذلك مسعود أبو البنات‪ ،‬فال ّ‬
‫بالبحث العلمي واألكاديمي‪ّ ،‬‬
‫همهم األول البحث االستمتاعي واإلمتاعي‪.‬‬
‫الحياة ليست عادلة أيها القارئ‪ ،‬تعطيها جهدك وزرعك‪ ،‬وتحصد‬
‫هواء وتطحن أسفا‪ ،‬تحدث معنا مسعود عن محاسن الحي الجامعي‪ ،‬بأنه‬

‫‪82‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫يقل فيه املصروف‪ ،‬وتأكل في املطعم وترتاح من البيض واألرز واملعجنات‪،‬‬


‫وتتخلص من ضياع الوقت في الطبخ‪ ،‬قال‪ :‬أريدكما أن تعيشا وتسكنا هنا‬
‫إلى أن تحصال على وظيفة‪ ،‬فأنتما املجدان في املاستر واملستحقان لوظيفة‬
‫تليق بكما‪ ،‬ولكما القرار‪ ،‬فأنا سأتحدث مع صديق له زعامته في هذا الحي‪،‬‬
‫حيث أخبرني بأن أقول لكما إن الغرفة جاهزة‪ ،‬وأرسلهما لي أتحدث معهما‪،‬‬
‫إلي سعيد نظرة حيرة حرك فيها رأسه‪ ،‬ربما يتذكر ما قلته عن‬ ‫نظر ّ‬
‫استحالة الحصول على غرفة في هذا الجحيم‪ ،‬وبأن األمر سيكون بمقابل‬
‫مادي‪ ،‬فاملال هو سيد املوقف اآلن‪ ،‬قد يكون مسعود بريئا ويريد أن يفعل‬
‫الخير‪ ،‬ولكنه ال يعلم بخفايا ما يقع في هذا املكان املشبوه‪ ،‬فهو شبيه‬
‫بمدينة سوداء جرداء قاتمة‪ ،‬جميع ما تتخيله يقع فيها‪ ،‬ليست باملدينة‬
‫الفاضلة‪ ،‬التي أراد أفالطون أن يؤسسها‪ ،‬لكنه لم يفلح؟‬
‫قدرتنا الوحيدة‪ ،‬هي نشر الفساد‪ ،‬وتمديد خطوطه‪ ،‬أما األخالق‬
‫والقيم فتلك في عالم يوتوبيا األفالطوني‪ ،‬وفي العالم السفلي الذي ال‬
‫يرغب في تحقيق محاسن الخلق‪ ،‬بعد نظرة سعيد اليائسة‪ ،‬قال مسعود‪:‬‬
‫فكرا جيدا‪ ،‬فمأواكما ههنا الراحة واليسر‪ ،‬ولن أحدثكما عن غيث‬
‫الطالبات‪ ،‬تجدهن كلما أدرت رأسك بلباس يثير فيك شهوة‪ ،‬حتى وإن‬
‫كنت جليدا‪ ،‬تمايالت عجيبة‪ ،‬يتجولن في حديقة الحي بلباس النوم‪،‬‬
‫والحقيقة أنه منبه يقدم إشارات بالنداء إلى املتعة‪ ،‬أنتما ال تعرفان هذه‬
‫املسائل‪ ،‬يكفي أن تظال حبيسين مع الكتاب في البيت‪ ،‬وتقرآن لزفزاف‬
‫ومحمد شكري‪ ،‬والكاتب أجاثا كريستي‪ ،‬وأطنوان تخيشوف وبويفسكي‬
‫وتولستويو ويقصد املسكين الكاتبة كريستي واألدباء أنطوان تشيخوف‬
‫وديوستويفسكي وتولستوي‪ ،‬ضحك سعيد ضحكة خفيفة‪ ،‬قائال‪ :‬هيا أرنا‬

‫‪83‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الشخص املكلف بالغرف‪ ،‬ودعك مع البنات واترك أسماء الكتاب فقد‬


‫مسختها‪.‬‬
‫ذهبنا عند صاحب الغرف‪ ،‬ووجدناه رجال ضخما‪ ،‬تظهر عليه‬
‫القباحة في وجهه‪ ،‬أنف ضخم‪ ،‬وأسنان مسوسة‪ ،‬ومكسورة ومليئة‬
‫بالفراغات‪ ،‬وحديثه شدقي فيه ضجيج ولقلقة‪ ،‬وإذا تحدث سالت من فمه‬
‫تفالت تتطاير في الهواء‪ ،‬نظراته ال تبشر بالخير‪ ،‬األساس أنه قبيح أشد‬
‫القبح‪ ،‬وبخيل يطمع في جيوب الطلبة ويستغل ضعفهم وحيرتهم في ضرورة‬
‫السكن‪ ،‬ليأخذ مالهم‪ ،‬ويعطيهم غرفة‪ ،‬هي في األول حقهم الذي ال رجعة‬
‫فيه‪ ،‬لكن خطوط الظلم والحقارة والفساد امتدت في كل مكان‪ ،‬تحدثنا‬
‫معه‪ ،‬شرحنا له وضعيتنا‪ ،‬وعلم ببعض أحزاننا في صعوبة الكراء في‬
‫النصر‪ ،‬وضرورة تلبية حاجات املاستر وسد حاجة املعدة‪ ،‬قال‪ :‬ماذا‬
‫سأقول لكما‪ :‬الغرفة موجودة‪ ،‬ولكن يلزمكما الدفع واملال‪.‬‬
‫تماما كل ما ظننته كان حقيقيا‪ ،‬املقابل املادي حاضر في كل ش يء‪،‬‬
‫كان ثمن الغرفة غاليا‪ ،‬مبلغه خمسون ألف ريال‪ ،‬ونحن ال نملك في تلك‬
‫اللحظة إال ثمن اللوبية التي سنأكلها مساء بالرحاب‪ ،‬كيف يعقل أن ندفع‬
‫مثل هذا؟ الحي حي الدولة‪ ،‬والسكن فيه حق من حقوقنا‪ ،‬نحن الذين‬
‫جئنا من مكان بعيد ال محل لنا إال الهامش‪ ،‬التعاسة مشربنا وسكرنا في‬
‫هذه الحياة‪ ،‬ال أدري ما شغل إدارة الحي‪ ،‬بعد أن سمحت لهؤالء الحقراء‬
‫بالسيطرة على الحي‪ ،‬وتسييره بالعنف‪ ،‬سئمنا من سلطتهم وشدتهم‪،‬‬
‫فأضافوا لنا سلطة جاهلة وحقيرة‪ ،‬أكيد ربما إنهم يستفيدون من األموال‬
‫التي يأخذها السلطوي الرجل الضخم مقدم الغرف‪ ،‬الذي يطلقون عليه‬
‫اسم الفرعون‪ ،‬اإلدارة تخش ى هؤالء‪ ،‬وكأنها سميت إدارة لتدير وجهها عنا‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ُ‬
‫وتتركنا في العراء‪ ،‬األمر واضح هي تس ّير أمور الجبناء للسطو علينا‪ ،‬ولو كنا‬
‫نملك ما يسطون عليه بنا‪ ،‬لجئناهم به‪ ،‬عطاء منا وجزاء شكورا‪ ،‬كنت‬
‫أستيقن أننا عديمو الحظ‪ ،‬ولكن سنرض ى بما كتبه هللا علينا‪ ،‬وسنصبر‬
‫حتى ندرك ما كتبه هللا لنا‪ ،‬برر الرجل الضخم ثمنه‪ ،‬بأنه أرخص مما‬
‫نصرفه في شهر كامل‪ ،‬وبأنكما ستأكالن أكال طيبا في الريسطو‪ ،‬فكرا جيدا‬
‫لدي شغل آخر‪ ،‬إذا وافقتما‬ ‫علي‪ ،‬فأنا اآلن سأترككما ّ‬ ‫فيما أقول وردا ّ‬
‫فقوال ذلك ملسعود‪ ،‬فهناك طالبات متعددات‪ ،‬يرغبن في الغرف‪ ،‬أمنحكما‬
‫يوما واحدا‪ ،‬فالطالبات يقدمن الثمن دون مناقشة وزيادة‪ .‬لم نرد على‬
‫كالمه‪ ،‬فأخبرناه بأننا سنفكر في األمر الليلة‪ ،‬ونشكرك على مساعدتك لنا‬
‫وللطلبة‪.‬‬
‫ذهب الضخم تاركا في الدماغ عنفا كبيرا‪ ،‬يخبرني سعيد ملاذا‬
‫تتشاءم؟ وملاذا يشدك اليأس؟ أطلق سراح الحياة واضحك يا نديم‪.‬‬
‫الصديق يعلم أن والدتي ندم وفاجعة‪ ،‬رغم السعادة التي أنعمت بها في‬
‫صغري‪ ،‬ال علم له بأن الندامة تشدني كلما رأيت مشاهد مسيئة‬
‫باإلنسانية‪ ،‬أشدها ما رأيناه قبل قليل‪ ،‬وحراه يبرر لي الرجل الضخم‬
‫قوله‪ ،‬باألكل في الريسطو‪ ،‬وحسرتاه على قوم يظنون أن الخبز واألكل هو‬
‫الحياة‪ ،‬أال يعلمون أن اإلنسان يأكل ويتآكل في دواخله بهذه املساوئ‬
‫املمقوتة‪.‬‬
‫تودد ّ‬
‫إلي سعيد بالتجول قليال في حديقة الحي‪ ،‬ملعانقة جوه ونسيمه‬
‫املكفهر قبل مغادرته‪ ،‬ربت على كتفي‪ ،‬وقد مصمصت شفتاي بسبب‬
‫الغضب‪ ،‬قال اهدأ يا نديم‪ ،‬انس ما حصل‪ ،‬وهيا نشاهد مناظر الحي‪.‬‬
‫ونحن نتمش ى في الحديقة‪ ،‬فنسمع القهقهات األنثوية‪ ،‬والهمسات‬

‫‪85‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الغراميةـ‪ ،‬أفواه تتالصق‪ ،‬وأحضان تتآزر‪ ،‬ومعانقات ممهدة ألكذوبة‬


‫الزواج‪ ،‬ومجموعات تساير ركب املراجعة واملدارسة‪ ،‬ومجموعات أخرى‬
‫تقشقش وترفرف بالضحكات‪ ،‬كأن الحياة تمطر سعادة‪ ،‬استغرب سعيد‬
‫مما رأى وشاهد‪ ،‬أه لبراءة صديقي‪ ،‬ما زال شخصا ضحوكا ومالطفا‬
‫ومثاليا‪ ،‬ضربته ضربة خفيفة‪ ،‬قلت له فيها‪ :‬ال مجال لالستغراب أيها‬
‫الصديق‪ ،‬هذا الحي صورة عاكسة للحياة وللعالم‪ ،‬أ ِزل االستغراب من‬
‫دماغك‪ ،‬وأحسب ما يقع عاديا‪ ،‬رد سعيد‪ :‬أه يا صديقي‪ ،‬بدأت تشاؤميتك‬
‫تتسرب إلى دماغي‪ ،‬ضحكت ضحكة خفيفة كما العادة‪ ،‬وأشرت إليه بأن‬
‫ينظر إلى املحجبات وأفعالهن‪ ،‬فتذكر صديقة ندى‪ ،‬وقال‪ :‬لعلها تفعل مثل‬
‫هاته األفاعيل‪ ،‬قلت له‪ :‬اترك الناس ألمرهم فلسنا مسؤولين عنهم لسوء‬
‫الظن بهم‪ ،‬سواء ظن سوء أو ظن خير‪.‬‬
‫الصدف واملواقف هي من تريك طبيعتهم‪ ،‬صمت سعيد لبرهة‪،‬‬
‫عمر ألف سنة‪ ،‬يعلم خبايا‬ ‫فقال‪ :‬تقتلني بكالمك هذا‪ ،‬تتحدث مثل رجل ّ‬
‫الوجود وأسراره‪ ،‬ففي كل عبارة تقولها تنطق بحكمة‪ ،‬محظوظ ألنني معك‬
‫يا نديم‪ ،‬وأكيد لن تندم على رفقتي‪ .‬قلت له‪ :‬هذا إرث شيخي في القبيلة‬
‫الذي أخبرتك عنه‪ ،‬وعن مجالسته أكثر من أسرتي‪ ،‬وقلت له‪ :‬ال تتعلق‬
‫بالناس يا صديقي‪ ،‬أترك مسافة األمان‪ ،‬لكي تنجو من خيبة أمل دائمة‪،‬‬
‫وإني أتحدث بكالم ال حكمة فيه‪ ،‬وأعلم أنك أسرفت كثيرا لتشبيهك لي‬
‫بالحكيم‪ ،‬لست كذلك‪ ،‬ولم أعمر طويال‪ ،‬فالوحدة هي من تعلمك كل ش يء‬
‫وتنقذك من الضاللة‪ ،‬أتعرف يا سعيد‪ ،‬إن الوحدة مبلغ يصعب إدراكه‬
‫وبلوغه‪ ،‬فهي تفتح عينيك على مآل وآفاق إنسانية‪ ،‬رد سعيد تماما يا نديم‬
‫فالعزلة تبعدك عن املآس ي واألحزان‪ ،‬وتقربك من نفسك ومن الوجود‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وألنني أعلم أن هناك فرقا بين الوحدة والعزلة في املنبع الوجودي‬


‫ملارتن هايذغر‪ ،‬فقد مازحته قائال‪ :‬أنت طالب الدراسات العربية‪ ،‬فقل‬
‫الوحدة وال تقل العزلة‪ ،‬فالفرق بينهما واضح وبين‪ ،‬فالعزلة يصل إليها‬
‫جميع الناس وال تقربهم من فهم ذاتهم وإدراك عاملهم‪ ،‬وال يصلون بها إلى‬
‫كشف سر الوجود‪ ،‬أما الوحدة فهي ما ذكرته أنت في تعريف العزلة‪،‬‬
‫ضحك قائال‪ :‬قتلتني بفلسفتك هاته‪ ،‬أرى فيك معرة العصر‪ ،‬قلت له‪:‬‬
‫بدأت اإلطراء مرة أخرى‪ ،‬ما الذي حصل لك اليوم‪ ،‬ال تهذ بإسرافك هذا‪،‬‬
‫لنذهب فقد طال علينا األمد ههنا‪ ،‬وقد تأخرنا كثيرا‪ ،‬والساعة تشير إلى‬
‫الثامنة والنصف ليال‪ .‬لو تركتني أنهي يا سعيد كتاب علي حرب لكان ذلك‬
‫أفضل‪ ،‬ولكن ال إشكال يا سعيد الباحث عن السعادة‪ ،‬فقد رأينا مأساة‬
‫أخرى من مآس ي النصر‪ ،‬أو باألحرى مآس ي العالم‪ ،‬ال ش يء يسعدنا يا‬
‫سعيد‪ ،‬نعيش وهما فقط‪ ،‬نتربع على عرش السفالة‪ ،‬لن نقدر على خياطة‬
‫جروحنا املمتدة من الشجرة العمالقة التي تحدث عنها ميالن كونديرا‪،‬‬
‫شجرة عمالقة كانت محط التقاء هذه البشرية‪ ،‬خرجنا من مخرج لو‬
‫تأملته لرأيت الحزن الذي يشتعل منه‪ ،‬نفترش الصرخة وننام على‬
‫الصرخة ونعيش مع الصرخة‪ ،‬ونولد الصرخة‪ ،‬صرخاتنا يا سعيد غير‬
‫محصورة‪.‬‬
‫عدنا بخفي حنين‪ ،‬عدنا وسعيد يحمل خيبة أمل‪ ،‬وعدت وأنا يائس‪،‬‬
‫تحطمنا بما شهدناه‪ ،‬ونحن في طريق العودة‪ ،‬قلت لسعيد‪ :‬أراك اآلن يأسا‬
‫بعد أن كنت ضاحكا‪ ،‬وذكرتني بما قاله أبو العالء املعري‪:‬‬
‫ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا‬
‫يحطمنا صرف الزمان كأننا زجاج ولكن ل يعاد له سبك‬

‫‪87‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ال أعلم هل سيعاد سبكك من جديد‪ ،‬أم سيتحطم كل ما فيك؟‬


‫وسيتسرب إليك التشاؤم‪ ،‬أم ستعقد آماال جديدة على العالم‪ ،‬كما فعل‬
‫برتراند راسل في كتابه‪" :‬آمال جديدة في عالم متغير"‪ ،‬قال سعيد‪ :‬كفاك يا‬
‫نديم ما يشدني ليس مرتبطا بعلة ما حصل معنا في الحي‪ ،‬بل بأمي التي ما‬
‫زالت أوتارها تتناغم في قلبي‪ ،‬دعاؤها ال ينقطع‪ ،‬أنت تعرف هذا يا نديم ال‬
‫نملك شيئا نعقد عليه بعض اآلمال سوى أسرتنا‪ ،‬األحضان التي فارقنها‬
‫لنبحث معهم عن الحياة‪ ،‬بتجاوز قساوتها‪ ،‬وألنني أحب املعري حبا‪ ،‬سقت‬
‫له بيتا يقول فيه عن األمومة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ألسيرفي درب الهداية حسبما رسمته أمي رغم كل غبار‬
‫فاألم في ليل املكاره شعلة واألم ينبوع لكل فخار‬
‫واألم في الليل البهيم منارة تحنو على الولد الغريب الساري‬
‫قال سعيد‪ :‬قلت لك إنك معرة العصر‪ ،‬لقد صدق املعري فيلسوف‬
‫األدباء‪ ،‬ومبصر العميان‪ ،‬فطريق الهداية املليء بالغبار رسمته أمي‪،‬‬
‫وعانت لتجد قبس الحياة وتمنحه لي وإلخوتي‪ ،‬إنها ال تفارق مخيلتي‪ ،‬أفكر‬
‫في الوضع الذي نحن فيه‪ ،‬والوضع الذي تعيش فيه أسرتي‪ ،‬أسعى ألكون‬
‫سندا ال عالة‪ ،‬ولن أحدثك عن ما عشناه في طفولتنا‪ ،‬وما عاينه أبي‪ ،‬وما‬
‫عاشته أمي‪ ،‬تلك مسائل يحسن السكوت عليها‪ ،‬ولذلك يا نديم فإن اسمي‬
‫سعيد ألرسم طريق السعادة ألسرتي‪ ،‬كما رسمت لي أمي طريق الهداية‪،‬‬
‫وأكون في مكر ِهنا قبسا منيرا‪ ،‬كما كانت شعلة مضيئة‪ ،‬هذا هو األمر الذي‬
‫يحزنني ويحز في نفس ي‪ ،‬أما الحياة فال قيمة لها‪ ،‬وال نبكي ألحزانها ُومصابها‪،‬‬
‫العالم الخارجي كئيب وفاسد‪ ،‬وعاملنا الداخلي أصابه الجفاء والجفاف‪،‬‬

‫‪88‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ونحن نتمش ى رأيت الدموع في عيون سعيد‪ ،‬ولم أسع ملنعه‪ ،‬وبينت كأنني لم‬
‫أر شيئا‪.‬‬
‫أردت أن أزيح عنه بعض الحزن‪ ،‬رغم أنني أشد حزنا منه‪ ،‬أبتغي أن‬
‫أفتح عليه باب االبتسامة‪ ،‬فذكرته بإلهام صديقته املقربة في الفصل‪،‬‬
‫فضحك ضحكة مليئة ببعض مالمح العشق‪ ،‬وقال‪ :‬اترك إلهام‪ ،‬وافرغ‬
‫رأسك من ش يء اسمه العشق أو الحب‪ ،‬أال ترى ما نحن فيه اآلن‪ ،‬لم نتغذ‬
‫والساعة اآلن التاسعة مساء‪ ،‬فقد حرم علينا الحب وما شابهه في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬لقد لقينا مرارة فظيعة‪ ،‬والحب لن يطعمك الخبز كما تقول‪،‬‬
‫فالعطالة عطالتنا عن كل ش يء‪ ،‬وال نظن أننا سنتفرغ للعشق يوما ما‪،‬‬
‫وأصال الصالحات الصادقات العابدات انقرضن‪ ،‬والصالحون‬
‫والصادقون العابدون انقرضوا‪ ،‬فذوي الفضائل الحميدة قليلون‪ ،‬قلت‬
‫له‪ :‬هيا نشتري شيئا بهذه الدراهم بدل أكل اللوبيا عند عمي إبراهيم‪ ،‬الذي‬
‫يعرفنا ويعرف حالتنا‪ ،‬وكم مرة رفض أخذ النقود منا‪ ،‬البسطاء يشفقون‬
‫علينا ويحنون على عبارة نرددها دائما‪ ،‬نحن مجرد طلبة‪ ،‬نطلب العلم‬
‫للوصول إلى الرزق‪ ،‬اشترينا قليال من لحم الدجاج وبعض الخضروات‪،‬‬
‫إلعداد طاجين يكفينا معا‪ ،‬ونغير به روتين املعجنات والبيض‪.‬‬
‫دخلنا إلى البيت وأعددنا الطاجين‪ ،‬فجمعنا الغداء مع العشاء‪ ،‬هذه‬
‫هي حالتنا أكلة أو أكلتين في اليوم‪ ،‬ألن همنا الوحيد هو التحصيل‪ ،‬وال‬
‫ش يء غير التحصيل املعرفي‪ ،‬غدا السبت ماذا سنفعل؟ والبيت ضيق‬
‫ومتزمت‪ ،‬ال مدخل للهواء فيه‪ ،‬وشبكة الهاتف تكون فيه معطلة‪ ،‬أي‬
‫مأساة هاته‪ ،‬واملشكل أن مكتبة الكلية ال تفتح يوم السبت‪ ،‬واملكتبة‬
‫الوطنية نكرهها ملا فيها من صخب وضجيج وعجيج‪ ،‬سنصبر وسنبقى في‬

‫‪89‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫علي سعيد الذهاب للتجول في معرض الكتاب‬ ‫البيت‪ ،‬وفجأة عرض ّ‬


‫املوجود في باب النصر‪ ،‬ومع العلم أننا ال نملك شيئا نشتري به كتبا‪ ،‬إال‬
‫أننا نمنح ما عندنا من مال لشرائها‪ ،‬ونحن نحس بسعادة تامة‪ ،‬ورؤية‬
‫ّ‬
‫الكتب تمتع دواخلنا‪ ،‬وتريحنا قليال‪ ،‬كما ذكرني الصديق بالندوة التي‬
‫ستنظمها الكلية يوم األربعاء‪ ،‬في موضوع "تحليل الخطاب السياس ي‪ :‬آفاق‬
‫ورؤى"‪ ،‬والحضور فيها إلزامي‪ ،‬وألنهم يعلمون أننا لن نحضر جميعا قيدونا‬
‫بضرورة إحضار تقرير للندوة‪ .‬تماما نسبح في التفاهة داخل هذه الكلية‬
‫البئيسة‪ ،‬أي جهل وأي تعنت؟ يقال‪ :‬إن العلم يؤخذ من أفواه العلماء‪،‬‬
‫فماذا سنأخذ من أستاذ يلحن في بداية كالمه‪ ،‬ومن أساتذة ال فقه لهم‬
‫بأمور ويزعمون الضبط فيها‪ ،‬ويشرفون على موضوعات ال يفقهون فيها‬
‫شيئا‪ ،‬وأساتذة يدسون الطلبة من أطروحاتهم‪.‬‬
‫وافقت على رأي سعيد بالذهاب إلى املعرض‪ ،‬لننظر إلى إصدارات‬
‫الكتب الجديدة‪ ،‬في مختلف املجاالت‪ ،‬لعلنا نجد كتابا معاصرين نشرب‬
‫من تفكيرهم‪ ،‬كما شربنا تفكير القدماء‪ ،‬نحو الجاحظ واملعري‪ ،‬وننظر‬
‫أيضا إلى أدب قد يفوق أدب طه حسين ونجيب محفوظ وزفزاف ويوسف‬
‫إدريس وأحمد املديني‪ ،‬في فترة ّ‬
‫قل فيها التأليف األدبي ولكن نجده تأليفا‬
‫بعقله‪ُ ،‬سبك سبكا عجيبا‪ ،‬يحاكي واقعنا ويالمس مشاعرنا‪ ،‬إن أدبهم‬
‫يحركنا ويتالش ى فينا‪ ،‬يجعلنا نعيد قراءته دون الخالص منه‪ ،‬أدب منح‬
‫لنفسه الخلود واملجد الكتابي‪ ،‬متخلصا من التسويق اإلعالمي‪.‬‬
‫وفي تلك الليلة الهادئة قرأت شيئا من كتاب‪" :‬الخوف من املوت‬
‫إلريكا يونغ"‪ ،‬ووقفت عند عبارة جميلة لها‪" :‬لقد خاب أمل هللا فينا‪،‬‬
‫وفشلنا في االختبارات كلها‪ ،‬إننا لسنا رحماء بالقدر الكافي لننال الخالص‪،‬‬

‫‪90‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫إن الرحمة هي أرقى حكمة‪ ،‬كما يقول التلمود"‪ ،‬فبدأت أتأمل كيف‬
‫يستطيع بعض الكتاب تنبأ ما يقع في الواقع‪ ،‬إن الرحمة في اإلنسان‬
‫منعدمة حقا‪ ،‬وإن فرعون الحي الجامعي أدل على ما قالته إريكا‪ ،‬كل يوم‬
‫نعيشه في هذه الحياة مليء بحكم نؤمن من خاللها بأن العالم مقبل على‬
‫كوارث مدمرة لإلنسانية‪ ،‬فشلنا في تبليغ رحمة هللا إلى اآلخرين‪ ،‬فشل‬
‫اإلنسان في إفشاء السالم‪ ،‬لقد أمرنا الحق سبحانه بهذا‪ ،‬وأمرنا به النبي‬
‫صلى هللا عليه وسالم‪ ،‬لقد قال‪" :‬انشروا السالم بينكم"‪ ،‬نجحنا فقط في‬
‫نشر الفساد والخبث والتضليل‪ ،‬نجحنا في تخريب العالم‪ ،‬وإفساده‪ ،‬لقد‬
‫خلق اإلنسان كل أنواع الدمار‪ ،‬وفشل في التحكم فيها‪ ،‬بعد تأمل العبارة‪،‬‬
‫قلت‪ :‬أظن أنني مقبل على صدمة داخلية بعد العنف الذي يخرب دماغي‬
‫كل يوم‪ ،‬ونادني النوم لبعض للراحة‪ ،‬فتركت الكتاب ونمت وتركت‬
‫الصديق يقرأ القرآن الكريم‪ ،‬ليحس بالطمأنينة‪ ،‬وينعم بالقبسات‬
‫القرآنية العظيمة‪ ،‬ويلج إلى أعماقها‪ ،‬لكن صديقي يمر على اآليات دون‬
‫تأمل‪ ،‬يقرأ قراءة عادية‪ ،‬دون الوقوف لتدبر اآليات وفهمها‪ ،‬وأنا كلما‬
‫حملت القرآن ألقرأه‪ ،‬أظل مع كل آية أكثر من عشر دقائق‪ ،‬أتأمل بطونها‬
‫وأسرارها وخباياها‪ ،‬مستحضرا فكرة الشيرازي في أن كل كلمة في القرآن‬
‫تحوي سبعة أبطن‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪11‬‬
‫األدب ينتحر بتكاثره المجنون‬
‫حل الصباح واستيقظنا على صرخة جديدة في وجهنا‪ ،‬والبيت معتم‬ ‫ّ‬
‫وال علم لنا بشروق الشمس أو إشراقها‪ ،‬ولكن يظهر أن هذا اليوم سيكون‬
‫يوما جميال‪ ،‬بزيارة معرض الكتاب‪ ،‬فالكتاب مسكننا الرحب‪ ،‬الذي‬
‫نخاطب فيه شخصيات حية بمكتوباتها‪ ،‬تناولنا فطورا سريعا‪ ،‬بالتلهف إلى‬
‫رؤية الكتب‪ ،‬خرجنا وذهبنا إلى املعرض مشيا‪ ،‬ألننا نتقشف لنكمل بمالنا‬
‫أشهرا عديدة‪ ،‬وصلنا إلى املعرض وبدأنا نتجول في أروقة الكتب‪ ،‬رواق‬
‫األدب والفلسفة والتاريخ‪ ،‬ساعة كاملة ونحن نتجول‪ ،‬األثمنة غالية‬
‫واملحتويات ال قيمة لها‪ ،‬وكأننا في معرض تجاري لجمع األموال‪ ،‬ال لنشر‬
‫ّ‬
‫املعرفة‪ ،‬اإلله الجديد بخس كل ش يء وأقرفه‪ ،‬حتى املأوى الذي نرتاح فيه‬
‫لم يسلم من هذه املتاجرات‪ ،‬ففي رواق األدب وجدنا الكتب كارثية في‬
‫مجال السرد والشعر‪ ،‬بدأ جو السأم يسود املعرض‪ ،‬كل ما بنينا عليه‬
‫آمالنا تحطم‪ ،‬ليتني لم أوافق على رأي سعيد‪ ،‬ورفضت طلبه دون املجيء‪،‬‬
‫خسرنا وقتا ثمينا‪ ،‬فلم تكن الكتب تثيرنا‪ ،‬ولم تستهوينا‪ ،‬طبعات رديئة‬
‫ومحتوى أدبي هزيل‪ ،‬ولغة ركيكة الحنة‪ ،‬تبتدئ بقراءة عمل ما وتتنفر منه‬
‫بسرعة‪ ،‬قال لي سعيد‪ :‬أفضل أن أظل معتكفا على قراءة الكتب القديمة‬
‫رقمية على عدم شراء ورقة واحدة من هذه الكتب الحديثة ولو كانت‬
‫مجانا‪ ،‬وقلت بنبرة يأس كتب علينا الكتاب الرقمي في عصر رقمي‪ ،‬في ظل‬
‫أننا ال نملك ماال لشراء أمات الكتب‪ ،‬وفي ظل بخاسة اإلصدارات الجديدة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫استمر تجولنا في األروقة‪ ،‬وفجأة وقفنا على رواق كتب قديمة‬


‫ومستعملة‪ ،‬والصدفة أننا وجدنا ندى هناك تتصفح كتبا‪ ،‬في تلك اللحظة‬
‫وقع ش يء في داخلي‪ ،‬أحسست بارتباك‪ ،‬أردت أن أعود‪ ،‬من حيث جئت‪،‬‬
‫ولكن ال أود أن يشك سعيد في اضطرابي‪ ،‬وال خوف أصال‪ ،‬فهو الذي‬
‫سيخلصني منها‪ ،‬أخش ى الحديث معها وحدي‪ ،‬وأحس بخجل أو ما شابه‪،‬‬
‫سأكون هادئا‪ ،‬وسأقبر مشاعري‪ ،‬ألنني لست مستعدا لعالقة ما‪ ،‬أو‬
‫إلحساس تجاه شخص معين‪ ،‬يكفي أن أتحمل أعباء نفس ي‪ ،‬ولكن ربما‬
‫هناك ش يء يجذبني نحوها‪ ،‬كلما تقابلت معها‪ ،‬أو القتني صدفة معها‪،‬‬
‫دخلنا الرواق دون إثارة وجودنا‪ ،‬وبعد مرور ربع ساعة رأتنا‪ ،‬وتفاجأت‬
‫قائلة‪ :‬الطالبان املجدان حاضران ههنا‪ ،‬صدفة عجيبة‪ ،‬استيقنت أنكما‬
‫ستحضران‪ ،‬وظني لم ُيخ ّيب‪ ،‬أهال بك نديم املتشائم‪ ،‬أهال سعيد صاحب‬
‫املزحة والدعابة‪.‬‬
‫ّ‬
‫سلمنا عليها بابتسامة مزيفة‪ ،‬تخفي سأما وقلقا وأملا كبيرا‪ ،‬ليس‬
‫بسببها‪ ،‬ولكن بسبب ما شاهدناه ورأيناه من كتب تجرأت على فعل الكتابة‬
‫وهي ال محل لها من إتقان فعل القراءة‪ ،‬كتابات مأسوف عليها‪ .‬انتبهت ندى‬
‫إلى ما فينا وعلينا من حزن‪ ،‬فسألت عن الخطب‪ ،‬وقالت‪ :‬ألفت تشاؤم‬
‫نديم‪ ،‬ولكن أنت يا سعيد‪ ،‬الحزن ال يليق بك وجديد عليك هذه األيام‪ ،‬ما‬
‫الذي حصل؟ ربما ضايقتكما‪ ،‬إذا كان األمر كذلك فال مشكلة عندي أن‬
‫نفترق‪ ،‬أصال كان اللقاء صدفة‪ ،‬والصدفة خير من ألف ميعاد‪.‬‬
‫وألنني ألجأ إلى الصمت بعد لقائها‪ ،‬وال أنطق وال أهمس بش يء‪ ،‬فقد‬
‫رد عليها سعيد‪ :‬فقال‪ :‬ال مشكلة يا ندى‪ ،‬اللقاء معك متعة‪ ،‬ومسألة حزننا‬
‫متعلقة بندمنا على املجيء للمعرض‪ ،‬كل ما فيه من الكتب الجديدة‪ ،‬أمر‬

‫‪93‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ال يليق بحمل صفة كتاب‪ ،‬طالسيم ال نفهم فيها شيئا‪ ،‬وال ندري بأي لغة‬
‫كتبت‪ ،‬وخصوصا شق األدب يا ندى‪ ،‬وتعلمين أننا ملهمون بكتب األدب‬
‫كثيرا‪ ،‬فجئنا لنطلع على جديد السرد والشعر‪ ،‬فلم نجد سوى الهزل‪،‬‬
‫والكالم في هذا طويل ويطول‪ .‬فهمت ندى خطب سعيد‪ ،‬وركزت عينيها‬
‫نحوي‪ ،‬فقالت‪ :‬طبعا يا سعيد فلم يعد لألدب طعم في املؤلفات التي تظهر‬
‫اآلن‪ ،‬فقد يئست منها أنا أيضا‪ ،‬وعشت الشعور نفسه السنة املاضية ملا‬
‫جئت إليه‪ ،‬فصديقتكم عاشقة للكتب‪ ،‬وتلتهم كثيرا‪ ،‬ولم أصادق طالبا‬
‫غيركما‪ ،‬طمعا في معرفة الكتب التي تقرأونها‪.‬‬
‫قلت إطراء لها‪ :‬الظاهر أنك ستكونين مثل شهرزاد املغرب‪ ،‬فاطمة‬
‫املرنيس ي‪ ،‬ردت بضحكة لطيفة‪ ،‬أكيد تسخر مني يا نديم‪ ،‬ال أعرف إذا‬
‫كنت مثلها‪ ،‬هل ستفتح عقدة لسانك معي‪ ،‬تتكلم كلمة أو كلمتين ثم تلجأ‬
‫إلى صمتك‪ ،‬قد تكون جاحظيا بهذا األساس‪ ،‬وصمتك يا عزيزي يجذبني‬
‫نحوك‪ ،‬ألكتشف عاملك املخبوء‪ ،‬ألرى السر الذي يجعلني أقول عنك‪ ،‬إنك‬
‫شخص ال تشبه اآلخرين ومختلف عنهم‪ ،‬تنفست بشدة غير دار ما أقوله‪،‬‬
‫غيرت املوضوع‪ ،‬سائال ندى سؤاال في سياق طبيعة كتب األدب‪ ،‬هل بدا لك‬
‫أن الكتاب اليوم‪ ،‬خليق بأن يسمى كتابا؟ فقد رأيت أن أمر التأليف‬
‫والكتابة قد هزل هزال شديدا‪ ،‬ويوحي بالرداءة املنتشرة في جميع األمكنة‪،‬‬
‫رد سعيد قبل ندى‪ ،‬فاستحضر مواقف طه حسين‪ ،‬التي ّ‬
‫يحمل فيها‬
‫املسؤولية لدور النشر‪ ،‬التي تبتغي ربحا ماديا بدل الربح املعرفي‪ ،‬ومن ثمة‬
‫ُ‬
‫فتسهم في نشر التفاهة‪ ،‬وذكر موقفا آخر‪ ،‬راجع باألساس إلى الكتاب‬
‫الذين يكتبون وكأنهم نيام‪ ،‬بحكم أنهم ال يقرأون كثيرا‪ ،‬والذي ال يقرأ فال‬
‫مقدرة له على الكتابة‪ ،‬واستمر سعيد في شرح موقف طه حسين‪ ،‬ونحن‬
‫نستمع بدقة وننظر في املوقفين بتأمل‪ ،‬وختم قوله بقول طه عن نفسه في‬

‫‪94‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫رواية القصر املسحور‪ :،‬أقرأ كثيرا وأكتب قليال‪ ،‬استحسنت ندى طريقة‬
‫نقاش سعيد‪ ،‬في عرضه لألفكار‪ ،‬وهذا ليس بغريب عن الصديق‪ ،‬فلي معه‬
‫عشرة‪ ،‬يقلد فيها أبلغ الفصحاء في العربية‪.‬‬
‫وبعدها أجابت ندى عن سؤالي بإيراد موقف ميالن كونديرا‪ ،‬مبينة‬
‫بأن األدب ينتحر بتكاثره املجنون‪ ،‬وههنا تضاعفت الصدمة بعد صدمة‬
‫مجاملة اللقاء األول‪ ،‬كيف يعقل أن تالقيك الصدفة لتدرس مع فتاة تقرأ‬
‫لكاتب تعشقه عشقا عظيما‪ ،‬وتضعه في قائمة مقرواءتك اليومية‪ ،‬لم‬
‫يكذبوا حينما قالوا‪ ،‬إن بعض الحب قد يأتي ويتولد بسبب تشاركك عشق‬
‫كاتب مع فتاة معينة‪ ،‬أي هذيان هذا؟ لن ينفع معي حب وما شابهه‪،‬‬
‫استغربت ألن ندى كانت تحدثني بأنها تقرأ األدب النسوي فحسب‪ ،‬ولم‬
‫أظن يوما أنها قد تقرأ مليالن كونديرا‪ ،‬املسألة عجيبة حقا‪ ،‬تقتض ي وقفة‬
‫تأملية‪.‬‬
‫تصاعدت األنفاس‪ ،‬وبدأت التأويالت‪ ،‬وكأن القلب بدأ يستجيب‬
‫لهذه الصدمة‪ ،‬ما سر التالقي بيننا‪ ،‬معنى هذا أنها ذهبت لتبحث عن‬
‫ُ‬
‫الكتاب الذين أقرأ لهم‪ ،‬وأداوم على قراءتهم‪ ،‬أنام معهم وأستيقظ معهم‪.‬‬
‫أكيد عرفت أنني أقرأ لكونديرا‪ ،‬أخبرتها بذلك أثناء حديثنا بساحة الكلية‪،‬‬
‫وفي نقاشاتنا للعروض داخل القسم‪ ،‬لم أظهر أي استغراب في قولها‪،‬‬
‫تناقشت معها‪ ،‬بأن هذا االنتحار األدبي الذي أسفر عنه كونديرا‪ ،‬قول‬
‫أصدره بناء على مصاحبة متأنية لألعمال الخالدة‪ ،‬ألدباء يصعب تقليدهم‬
‫كتابيا‪ ،‬أدباء عرفوا كيف يستميلون القراء‪ ،‬بالسيطرة عليهم‪ ،‬واالنتصار‬
‫والظفر عليهم‪ ،‬إنه كان قارئا لروايات دوستويفسكي‪ ،‬وغابرييل غارسيا‬
‫ماركيز‪ ،‬وهرمان بروخ‪ ،‬وسرفانتس وغيرهم‪ ،‬فلما اطلع على ما كتب في‬

‫‪95‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫عصره‪ ،‬وجده أدبا رديئا ال قيمة له‪ ،‬كلما قرأته أحسست بملل وبأنك تأكل‬
‫أكلة سريعة لن تشبعك‪.‬‬
‫فظلت ندى تراقب كالمي بتأمل صادق‪ ،‬وبعد انتهائي من كالمي‪،‬‬
‫عبرت عن عشقها الولهان مليالن كونديرا‪ ،‬وأدبه الهزلي والتأملي والتأويلي‬
‫السردي‪ ،‬وطال كالمها حول ميالن‪ ،‬وباألعمال التي قرأت له‪ ،‬وباملواضيع‬
‫ّ‬
‫أي‬
‫التي يناقشها‪ ،‬قالت‪ :‬أتعرف يا نديم لوالك ملا عرفته؟ ونطق سعيد‪ِ :‬‬
‫عليكما‪ ،‬هذا إقصاء فظيع‪ ،‬سامحكما هللا‪ ،‬أنا سأذهب لالستمتاع ببعض‬
‫الكتب‪ ،‬وأنتما ناقشا الغراميات بالكتب‪ ،‬فهو أصدق حب يمكن أن‬
‫يعيشه اإلنسان‪ ،‬وفي مكان صادق‪ ،‬شعرت ببعض الخجل‪ ،‬وابتسمت ندى‬
‫ابتسامة خفيفة‪ ،‬وسارعت إلى الرد‪ :‬ال تهذ يا صديقي‪ ،‬ال تنس أنني ال‬
‫محمل يحملني ألركب أمواج الحب‪ ،‬وال تدعني أسرد عليك غراميات إلهام‬
‫تجاهك‪ ،‬وما سالت من دموع عنك‪ ،‬وما تكتبه عنك في مذكراتها النصرية‪،‬‬
‫وألخصه لك في قول شاعرنا العربي‪:‬‬
‫وأحسن أيام الهوى يومك الذي‪ ...‬تروع بالهجران فيه وبالعتب‬
‫إذا لم يكن في الحب سخط ول رضا‪ ...‬فإين حالوة الرسائل والكتب‬
‫ضحك سعيد بهزل‪ ،‬فقال ساخرا إلهام الخبيرة في علم البنات‪ ،‬هي‬
‫إلي كلما ّ‬
‫شق عليها ش يء في الدراسة‪ ،‬وبحكم أنها‬ ‫مجرد صديقة عادية‪ ،‬تلجأ ّ‬
‫تريد معرفة األدب العربي القديم‪ ،‬فال أفتح معها بابا آخر‪ ،‬وسكتت ندى‪،‬‬
‫تنظر إلينا‪ ،‬فأبهرت "سعيد" بقولها‪ :‬إننا نحن البنات يا سعيد نبحث عن‬
‫ملجأ نلج فيه إلى شخص نجد فيه العالم الذي ينقصنا في دواخلنا‪ ،‬وعاملنا‬
‫املفقود‪ ،‬وإن الطالبة النفعية تسأل مرة واحدة ثم تذهب وتأتي لقضاء‬
‫غرض نفعي آخر‪ ،‬وأما الطالبة البريئة‪ ،‬مثل إلهام‪ ،‬فهي ال تتردد إليك ثم‬

‫‪96‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تنقطع‪ ،‬إنها تسعى إليك كل يوم‪ ،‬لتعانق روحك النقية‪ ،‬وألن الصديق‬
‫هزلي‪ ،‬فقد قال‪ :‬هللا هللا على ندى القمرية املحللة االجتماعية‪ ،‬والخبيرة في‬
‫شؤون العشاق وأخبارهم‪ ،‬دعينا من هذه األقاويل‪ ،‬فهي أباطيل ال حقيقة‬
‫تحكمها‪ ،‬أعتبرها سروجية فقط‪.‬‬
‫فتركنا وذهب ضاحكا‪ ،‬وانقطع الكالم بيني وبين ندى مدة قليلة‪،‬‬
‫كنت أراقب مشية الصديق إلى أن اختفى بين أناس معرض الكتاب‪ ،‬وبعد‬
‫اختفائه شعرت بش يء ساخن يصعد في داخلي‪ ،‬فينتج عرقا واضطرابا‪ ،‬ثم‬
‫بأبأة في الكالم‪ ،‬ملا رأيت الصمت يعلو بيننا‪ ،‬تذكرت موضوع حديثنا عن‬
‫رداءة األدب‪ ،‬واستحضار قولة ميالن‪ ،‬فسألتها عن الكتب التي قرأتها له‪،‬‬
‫وملا رأت بأن نقاش الكتب ماتع‪ ،‬أمرتني بأن نجلس في مكان ما‪ ،‬لقد تعبنا‬
‫ُ‬
‫واعتذرت منها‪ ،‬بضرورة ترك رسالة هاتفية لسعيد إلخباره‬ ‫من الوقوف‪،‬‬
‫بمكان جلوسنا حتى يلتحق بنا حينما ينتهي‪ .‬جلسنا في الحديقة املجاورة‬
‫ُ‬
‫للمعرض‪ ،‬التي يعمها جو ثقافي يتناسب مع مناسبة املعرض‪ ،‬ق ّراء يقرأون‬
‫كتبهم‪ ،‬وتجمعات مصغرة مع أدباء جاءوا إلى املعرض‪ ،‬وترى بعض الناس‬
‫وجوههم مبتسمة بحمل الكتب‪ ،‬لعدم درايتهم بجودة الكتابات ورداءتها‪،‬‬
‫والبعض اآلخر كأنه ألقي في نار حميئة‪ ،‬بسبب الخطر الذي ألحق الكتابة‪،‬‬
‫ُ‬
‫إن الكتاب أيها القارئ‪ ،‬يكتبون وكأنهم نيام‪ ،‬وهم ال يعلمون أن سكرات‬
‫املوت الكتابي أشد قسوة وأملا من سكرات موتهم البيولوجي‪ ،‬إنهم كتاب‬
‫يعلنون استسالمهم أمام القارئ منذ بداية الصفحة األولى‪ ،‬وهناك أدباء‬
‫مشهورون ملا تعرضوا إلى املوت الكتابي‪ ،‬لجأوا إلى التسويق اإلعالمي‪،‬‬
‫للعودة إلى الواجهة‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫كنا نقرأ كتبا عديدة دون أن نعي مسكوتاتها‪ ،‬ودون أن ندرك معانيها‬
‫كليا‪ ،‬لم نستطع أن نحدد معنى واحدا لها‪ ،‬دائما ما تبقى مفتوحة على‬
‫أبواب من التآويل الالنهائية‪ ،‬ونحن اآلن محرومون من نعمة الفهم‪ ،‬لرداءة‬
‫أدبنا املعاصر‪ ،‬ومقيدون بقداسة ما يصنعه اإلعالم عن كاتب ما‪ ،‬جاهلون‬
‫ملعنى القراءة‪ ،‬فأن نقرأ معناه أن نحيا وأن نعيش‪ ،‬وأننا نمارس مهنة أو‬
‫حرفة‪ ،‬ويقتض ي تعلم الحرفة وجود أدب حقيق بها‪ ،‬وخليق بالتعايش معه‬
‫ومالزمته‪ ،‬القراءة فعل وجودي يمنحنا حرية االقتراب أكثر من املقروء‪،‬‬
‫يفكك خيوط العجز‪ ،‬ويرفعنا لنتعالى عن الكاتب ونسلب منه نصه‪،‬‬
‫وإعادة تأويله‪ ،‬إن القبسة القرائية تالزم األعمال الخالدة‪ ،‬وتظل معها‬
‫لتض يء للقارئ جوانبها املعتمة‪.‬‬
‫جلست مع ندى تحدثني عن ما قرأته مليالن‪ ،‬وكأن ميالن كونديرا‬
‫وجد ليكون سببا في لقائنا‪ ،‬وليجمع بيننا‪ ،‬لنلج مقبرة الكتب‪ ،‬ونغوص في‬
‫عواملها‪ ،‬أحقا قد تكون ندى هي الروح التي ستنقلني من تشاؤمية العالم‪،‬‬
‫إلى الزاوية الضيقة املضيئة في هذه الحياة؟ كان لقائي معها عاديا‪ ،‬ثم كتب‬
‫القدر أن تتكاثر اللقاءات بعد كل حصة‪ ،‬وأن تجذبني بقبسة فكرها‪ ،‬ونور‬
‫تجليها القرائي‪ ،‬سيكون خلودها في قلبي‪ ،‬بفعل مالمستنا قبسا قرائيا‬
‫مشتركا‪ ،‬وألن اليوم يوم عطلة‪ ،‬وال شغل لدينا‪ ،‬وال عرض كلفنا به‪ ،‬فقد‬
‫طال نقاشنا‪ ،‬وبدأت تعرض ّ‬
‫علي ما استفدته مما قرأته‪.‬‬
‫بدأت برواية "الجهل"‪ :‬قالت‪ :‬الجهل في رواية الجهل ليس املقصود‬
‫به املعنى املناقض للعلم‪ ،‬بل هو درجة مرتبطة بالحنين‪ ،‬وبينت أن الجهل‬
‫عمل تأملي فلسفي‪ ،‬يتأمل فيه ميالن موضوعات متعددة‪ ،‬أولها أن الحنين‬
‫ألم مرتبط بالجهل أو الش يء املجهول‪ ،‬ألن البعد عن الش يء واشتياقنا له‬

‫‪98‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫يكون لجهلنا إياه‪ ،‬وبنوع من الطرافة‪ ،‬قالت‪ :‬سأعيش جهال حنينيا حينما‬
‫تفرقنا األقدار بعد نهاية املاستر ومناقشة البحوث‪ ،‬لم أعرف كيف أرد‪،‬‬
‫كم أنا جبان؟ أقرأ الجاحظ‪ ،‬ولم أستفد منه طرقا للفهم واإلفهام‬
‫واالستمالة‪ ،‬كان ردي باردا ومطعما بابتسامة هادئة‪ ،‬بأننا سنجتمع في‬
‫لقاءات أخرى‪ ،‬أو قد أصادفها يوما ما في محاضرة عن األدب النسوي‪،‬‬
‫وأخبرتها بمواصلة الحديث عن رواية الجهل‪ ،‬وبنظرة ساحرة‪ ،‬قالت‪ :‬أما‬
‫املوضوع الثاني‪ ،‬فمتعلق بالذاكرة التي تختفي بفعل الغياب والفراغ‪،‬‬
‫فكلما اشتد الحنين يا نديم‪ ،‬تفرغ ذكرياتنا‪ ،‬فالحنين ال يبعث الذكريات وال‬
‫يحرك الذاكرة‪ ،‬إنما يمتص عاطفتنا ليشعرنا باأللم‪ ،‬ويغرقنا في النسيان‪،‬‬
‫ويجعلنا الغياب أيضا نتذكر أحداثا قليلة‪ ،‬وننس ى جزءا آخر دون معرفة‬
‫السبب‪ ،‬والشق الثالث الذي تناولته الرواية متعلق باملرأة‪ ،‬وألني قرأت‬
‫الرواية‪ ،‬وأشعر بنوع من الحرج في إيرادها للمضمون الثالث‪ ،‬فقد تمنعت‬
‫عن ذلك‪ ،‬الرتباط املوضوع‪ ،‬بتأمالت في جسد املرأة اإليقاعي واملوسيقي‬
‫املتناسق‪ ،‬وعالقتها الحميمة مع الرجل‪ ،‬واستدركت ندى القول‪ ،‬وأظهرت‬
‫أنه تحدث أيضا عن الهجرة واللغة واملنفى والحب واملوسيقى‪،‬‬
‫واستحضاره أيضا لوقائع تاريخية زمان الشيوعية‪ ،‬وذكره ألسطورة‬
‫عوليس‪ ،‬عموما فالرواية ماتعة ممزوجة بسحر األدب وتأمالت الفلسفة‪.‬‬
‫وأخبرتني أنها قرأت رواية البطء‪ ،‬التي يعقد فيها كونديرا مقارنة بين‬
‫عصرين‪ ،‬واحد متسم بالبطء‪ ،‬املترابط مع الذاكرة والتذكر‪ ،‬وآخر متسم‬
‫بالسرعة والوشيج مع النسيان‪ ،‬وقالت ندى‪ ،‬بأن رواية البطء تقربنا من‬
‫طبيعة العالقات الحميمة في عصرنا الحاضر‪ ،‬التي أصبحت بمثابة فيلم‬
‫مستعرض‪ ،‬ال لذة فيه وال متعة‪ ،‬ويسعى ميالن إلعادة النبض لهذه‬
‫العالقات الجافة واملتسارعة‪ ،‬ويقربنا أيضا من اإلعالم الخبيث‪ ،‬والشهرة‬

‫‪99‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫التي أمست تشبه مكاتب التأمين االجتماعي‪ ،‬أليس كذلك يا نديم؟ حدثتها‪،‬‬
‫بلى أختي ندى‪ :‬فرواية البطء‪ ،‬عمل يسعى إلعادة تبديد الحاضر وتخليصه‬
‫من السرعة والعجلة‪ ،‬وجعله يسير على سكة البطء لالقتراب من املتعة في‬
‫الحياة‪.‬‬
‫قالت أيضا‪ :‬قرأت رواية الستارة‪ ،‬التي يكشف فيها حقيقة العالم‬
‫والوجود واألدب‪ ،‬بطريقة سردية شبيهة بطريقة لويس خورخي بورخيس‬
‫وعبد الفتاح كيليطو‪ ،‬ولم يترك الستارة ممزقة‪ ،‬بل أعاد خياطتها من‬
‫جديد‪ ،‬متجوال بنا في أعمال روائية خالدة‪ ،‬بتأويالته العجيبة‪ ،‬كاشفا‬
‫حقيقة فن الرواية‪ ،‬ودورها في إدراك الوجود‪ ،‬وفهم الحياة‪ ،‬التي اعتبرها‬
‫هزيمة محتومة يعيشها اإلنسان‪ ،‬وهذه الرواية تتناسب مع موضوع‬
‫الرداءة املنتشرة في األدب اليوم‪ ،‬الذي وقف على عتبة املوت‪ .‬عطفت‬
‫كالمها‪ ،‬بالتساؤل حول إجادتها‪ ،‬في تبليغ مضمون الستارة‪ ،‬وهي ال تعلم‬
‫أنها مزقت ستارة قلبي‪ ،‬وأعادت خياطتها من جديد‪ ،‬سكتت مصدوما‪،‬‬
‫وتساءلت مرة أخرى ألم يعجبك املضمون؟ قلت‪ :‬بلى فقد كنت جيدة في‬
‫تبليغ مضامين هذه األعمال‪ ،‬التي يظهر أنك تأثرت بها تأثرا شديدا‪.‬‬
‫لقد أحسست بالريبة والشك‪ ،‬لقد تمازجت ندى مع أفكاري‪ ،‬تعرف‬
‫أنني أعشق الكاتبين‪ ،‬تساءلت حول سر معرفتها لهما؟ وأجابت بأن جميع‬
‫الكتاب الذين سقتهم في أحاديثي معها‪ ،‬اطلعت على بعض أعمالهم‪،‬‬
‫وخبرتها‪ ،‬أن الطالبات اللواتي جمعتني معهن اللقاءات‪ ،‬كان همهن النقاش‬‫ّ‬
‫في أنا أريد أن أعمل وأن أحصل على وظيفة قارة‪ ،‬وأن أبحث عن محصد‬
‫مالي‪ ،‬بعدها أفكر في الزواج‪ ،‬عقلهن مليء باملال والزواج والحب اآللي‪،‬‬
‫الذي يتالش ى سريعا‪ ،‬إنهن طالبات ال صلة لهن بالكتب‪ ،‬يعقدن لقاءات‬

‫‪100‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫غرامية للبحث عن املال‪ ،‬ويبحثن عن أصدقاء كثر‪ ،‬تختار بينهما الذي‬


‫يفرغها ماال‪ ،‬ويتلون معها‪ ،‬ويبادلها بعبارات شبقية‪ .‬قلت لها‪ :‬أنت مختلفة‬
‫عنهن‪ ،‬مذ عرفتك لم نتناقش في هذه األمور‪ ،‬ولكن مع الطالبات الفارغات‬
‫اللواتي يمتلكن عقوال صغيرة‪ ،‬فهن من يغردن بحقوق النساء وكرامتهن‪،‬‬
‫ويسوقن أحاديث طويلة على مواقع التواصل االجتماعي مليئة باألخطاء‪،‬‬
‫يطلبن فيها بأننا نريد سفرا‪ ،‬ونبتغي معيشة هانئة‪ ،‬وال نريد القرار في‬
‫البيوت‪ ،‬أصبح كل ش يء رديئا يا ندى‪ ،‬نساؤنا يتبعن تبشرة اإلله الجديد‪،‬‬
‫بجعل املال األساس األول‪ ،‬يأخذنه بطرق شتى‪ ،‬وفي األخير يرفعن‬
‫الشكاوى‪ ،‬بعدم وجود الرجال ليتزوجن‪.‬‬
‫واستدركت كالمي بأن الكثير من أدبنا اليوم مليء بنصوص رديئة‪،‬‬
‫يشدك الدوار والشعور بالخيبة بعد قراءتها‪ ،‬إننا نفتقد كتبا ال متناهية‪،‬‬
‫تقودنا إلى عالم ال متناه‪ ،‬نحتاج إلى إصالح كل ش يء‪ ،‬وحق كونديرا القول‬
‫بأن الحياة هزيمة حتم علينا العيش فيها‪.‬‬
‫أبدت ندى استحسانا على ما قلته‪ ،‬وقالت‪ :‬يبدو أنك خبير في خبايا‬
‫النساء‪ ،‬فدعنا من هذه تفاهة النساء والطالبات‪ ،‬ودعني أخبرك عن‬
‫الكتاب اآلخر الذي قرأته مليالن كونديرا‪ ،‬فقد قرأت رواية "حفلة‬
‫التفاهة"‪ ،‬وهي عمل روائي يرسم صورة التفاهة التي تسود حياتنا‬
‫وتسودها‪ ،‬التفاهة التي نستنشقها في كل مكان‪ ،‬ومن جميع األشياء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫موجودة معنا حتى في أسوأ مصائبنا ومعاركنا الدامية واملميتة‪ ،‬وحدثتني‬
‫بحسرة أن الحياة ال تحتاج أن نتبعها بمأساتها وتفاهاتها‪ ،‬وأتمت قولها عن‬
‫الرواية‪ ،‬بأنها مزجت بالفلسفة والتاريخ والهزل‪ ،‬التاريخ باستحضار‬
‫ستالين‪ ،‬والفلسفة تتكشف في تعارضه مع فكرة كانط في مفهوم العالم‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وذكره أيضا لروح الدعابة الهيغلية الالمتناهية‪ .‬والهزل تمثل في ذكره‬


‫لقصة خرتشوف الهزلية‪ ،‬مع تأمالت في قيم اإلنسان البئيسة‪ ،‬والشجرة‬
‫العمالقة املتجذرة من حواء‪.‬‬
‫استوقفتها عند فكرة الشجرة العمالقة للبشرية‪ ،‬املتجذرة من فرج‬
‫حواء‪ ،‬الذي أصبح نقطة والدة الكثير من األشقياء والتعساء‪ ،‬فسقت لها‬
‫قوال لينتشه‪ ،‬قرأته في كتابه‪" :‬هكذا تكلم زرادشت"‪ ،‬يتماش ى مع هذه‬
‫الفكرة‪ ،‬بقوله‪" :‬فعالم تلد النساء وهن ال يقذفن إلى الوجود إال‬
‫باألشقياء"‪ ،‬قالت‪ :‬أرى أنك نتشوي أيضا‪ ،‬ونسيت إخبارك يا نديم‪،‬‬
‫فبفضلك عرفت أدباء تعرفهم القلة القليلة‪ ،‬كنت فقط أقرأ ألجاثا وغيرها‬
‫معك عرفت بعض األمل وفسحه يا ندى‪،‬‬ ‫من الكاتبات‪ ،‬وقلت في خاطري‪ِ ،‬‬
‫إنك الفتاة التي ال أعرف أين رأيتها‪ ،‬وأين التقيت بها؟ تشبيهن شخصا‬
‫يوجد في داخلي‪ ،‬أو صادفته في مخيلتي‪ ،‬لم أشعر بإحساس شبيه بهذا من‬
‫قبل‪ ،‬أبعثك هللا ممزوجة بكل ما يدور في مخيلتي‪ ،‬وتؤمن به أفكاري‪.‬‬
‫مضت ساعة ونصف من املحادثة واملناقشة‪ ،‬كانت ندى مجيدة‪ ،‬لو‬
‫علي أحاديث في موضوع أنا أحب‬‫جلست مع طالبة أخرى‪ ،‬لظلت تسرد ّ‬
‫أكل الكسكس‪ ،‬وإن لباس ي املفضل يميل إلى العصرية والقدامة‪ ،‬وإني‬
‫أتمنى والدة ثالثة أبناء‪ ،‬وسأعيش الرومانسية مع زوجي‪ ،‬وتعكس ّ‬
‫علي‬
‫أسئلتها‪ ،‬ألحدثها عن مأكلي ومشربي وملبس ي‪ ،‬وندى خرقت هذه السنة‪،‬‬
‫وتعدتها وتجاوزتها‪ .‬استمر النقاش‪ ،‬إلى أن التحق بنا سعيد‪ ،‬ومعه كتابا‬
‫البخالء والرسائل األدبية للجاحظ‪ ،‬فبدأ قوله بهزله وسخريته املعهودة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أرى أن الصبابة تمأل عينيكما‪ ،‬وتليقان ببعضكما البعض‪ ،‬كالكما‬
‫محبان للفلسفة‪ ،‬وملهمان باألدب‪ ،‬وتحبان الصمت‪ ،‬وتجدان في العزلة‬

‫‪102‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مرتعكما‪ ،‬ربما ستكونان أنيسين مؤنسين‪ ،‬أما أنا فقد تركني وسيتركني‬
‫نديم وحيدا‪ ،‬وتكلمت ندى‪ ،‬قائلة‪ ،‬يكفيك يا سعيد هزال‪ ،‬فنديم ال يفهم‬
‫في الحب وما شابه‪ ،‬وال يريد طرق هذا الباب أصال‪ ،‬أما أنت‪ ،‬فقد شغفت‬
‫بك إلهام كثيرا‪ ،‬وأظن أنها تعلمت منك الكثير‪ ،‬وابتليت بالنفحات التراثية‬
‫التي تعلمها لها‪ ،‬فقد وجدتها مرة في خزانة الحي مع طوق الحمامة البن‬
‫حزم‪ ،‬أرى أنها تحضر طبقا شعريا تمهد فيه لالعتراف بحبها لك‪ ،‬وإن‬
‫عينيها ال تفارقان النظر إليك داخل الفصل‪.‬‬
‫فضحك سعيد مقهقها‪ ،‬وربت على كتفي‪ ،‬متسائال‪ :‬ماذا تقول ندى يا‬
‫نديم؟ قل لها‪ :‬إننا لسنا نليق بالحب‪ ،‬فالحب ال يوفر الخبز في هذا الجيل‪،‬‬
‫أخبرها يا نديم عن الذي تقول له‪ :‬اإلله الجديد‪ ،‬إنه املال‪ ،‬يوفر لك كل‬
‫ش يء‪ ،‬نريد مالنا فالحياة معطلة إذا استمرت عطالتنا‪.‬‬
‫كنت كاملستمع بين ردود ندى وسعيد‪ ،‬استمرا في الحديث عن‬
‫السعادة والشقاء‪ ،‬وملا رأيت نقاشهما قد يطول تركتهما ألنظر في بعض‬
‫الكتب املستعملة‪ ،‬فقد أجد غنيمة رخيصة الثمن‪ ،‬أفضل من كتاب‬
‫جديد باهض الثمن‪ ،‬ولو كان مالنا قليل‪ ،‬فحينما يتعلق األمر بالكتب‪،‬‬
‫فنصرفه كامال دون ندم وحسرة‪ ،‬فاشتريت ثالثة كتب ألجاثا‪ ،‬بعشرة‬
‫دراهم لكتاب واحد‪ ،‬وبعدها عدت إلى مكان ندى وسعيد‪ ،‬ظال في مكانهما‪،‬‬
‫يتناقشان في موضوع ندوة األربعاء‪ ،‬وملا جئت‪ ،‬رأتني ندى أتأبط كتبا‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬وسعداه بزوجتك‪ ،‬ستنال حظا وفيرا من كتبك‪ ،‬ستكون بطلة‬
‫رواياتك وبطلة حياتك‪ ،‬فلتفخر التي ستكون من نصيبها‪ ،‬دعني أرى ما‬
‫اشتريت‪ ،‬وبنوع من الذهول واالستغراب‪ ،‬قالت‪ :‬أشتريت مؤنستي أجاثا؟‬
‫لغز الصورة‪ ،‬والتضحية الكبرى‪ ،‬وذكريات‪ ،‬فقد قرأت هذه الروايات يا‬

‫‪103‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫نديم‪ ،‬لن أخبرك بمضامينها‪ ،‬دعك تشعر بنوع من التشويق‪ ،‬ومازحتها‬


‫بلطافة‪ ،‬أكيد لن ترقى إلى أدب ميالن‪ ،‬ابتسمت‪ ،‬ورفضت الدخول معي في‬
‫نقاش املفاضلة بين كاتبين عظيمين‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬هيا نذهب لنأكل شيئا‪،‬‬
‫أال تشبعان من الكتب‪ ،‬فالساعة اآلن الرابعة مساء‪ ،‬لقد أخذ منا التعب‬
‫الطاقة التي نملكها‪.‬‬
‫تفهمت صديقتنا الوضع‪ ،‬فو ّدعناها‪ ،‬وتركناها في املعرض‪ ،‬ذاهبة‬
‫لتشتري بعض الكتب‪ ،‬وأنا وسعيد كالعادة‪ ،‬ذهبنا مشيا على أرجلنا إلى‬
‫درب الرحاب‪ ،‬صرنا مشائين‪ ،‬نشبه أصحاب الفلسفة املشائية‪ ،‬وصلنا إلى‬
‫البيت واسترحنا وصلينا‪ ،‬وبعدها خرجنا لنشتري القليل من الخضرة‬
‫وبعض لحم الدجاج‪ ،‬لنعد طاجينا آخر يكفينا إلى صباح يوم غد األحد‪،‬‬
‫رغم أننا صرفنا دريهمات قليلة في املعرض‪ ،‬ولحسن الحظ سمعنا أن‬
‫املنحة واملحنة في ذلك املساء قد خرجت‪ ،‬قرصنا حائط املصرف وأخرجنا‬
‫النقود‪ ،‬وذهبت في دين الكراء كأنها لم تكن‪.‬‬
‫تم كل ش يء‪ ،‬وأكلنا الطاجين الذي أعده سعيد‪ ،‬ووصل الليل‬
‫والهدوء والسكون يعمان البيت‪ ،‬أخذت أنا أقرأ شيئا من شعر املعري‪،‬‬
‫الذي سأتركه قريبا بعد مالزمة شيقة‪ ،‬ألقرأ صنيع الحالج‪ ،‬وأما سعيد‬
‫فقد خرج ليتحدث مع إلهام‪ ،‬النعدام الشبكة في البيت‪ ،‬ليتداول معها‬
‫أطراف الحديث‪ ،‬ويفتيان بعضهما البعض في مسائل الغراميات املرحة‪،‬‬
‫أظن أن الفتاة أغرمت به‪ ،‬ويشدها الشوق كل يوم لتسمع صوته‪ ،‬هو يظن‬
‫أن ما تفعله ش يء عاد وبريء‪ ،‬ويصعب أن يحب في هذه الظرفية‪ ،‬ولكن قد‬
‫يتولد فيه في لحظة ما‪ ،‬وال يعلم املسكين أن االهتمام يولد حبا‪ ،‬ألم يقل‬
‫شوقي‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫نظرة فابتسامة فسالم فكالم فموعد ولقاء‬


‫سعيد إنسان عاهدت فيه وعليه البراءة في كل ش يء‪ ،‬يساعد‬
‫الطالبات كثيرا‪ ،‬ال ينظر إلى نياتهن‪ ،‬وقصدهن‪ ،‬سواء أردن االستغالل أو‬
‫االستفادة‪ ،‬فهو يعرف شيئا واحدا‪ ،‬التعاون مع الطلبة بمختلف‬
‫أصنافهم‪ ،‬ومن ابتغى شيئا فمرده إلى هللا تعالى‪ ،‬وأرى فيه صورة صديقي‬
‫جمال‪ ،‬عشيري سنوات اإلجازة‪ ،‬بالعهد‪ ،‬شخصان صادقان مختلفان‪،‬‬
‫صادقان في مشاعرهما‪ ،‬مختلفان في سلوكاتهما وأفعالهما‪ ،‬سعيد امللتزم‬
‫املجتهد‪ ،‬وجمال الزهواني الكسول‪ ،‬وألن الحياة ليست عادلة‪ ،‬فجمال‬
‫هاجر إلى أمريكا‪ ،‬وسعيد متسكع هنا باملغرب‪ ،‬في جامعة ال تؤمن بش يء‬
‫اسمه االجتهاد‪ ،‬واألساتذة الذين يدرسون فيها ال أعرف كيف صاروا‬
‫أساتذة جامعيين‪ ،‬وال ننكر بأننا نعرفه أساتذة أجالء فضالء‪ .‬إن الحرية‬
‫التي منحت لهم هي السبب في كل ما يحصل‪ ،‬طلبة ال حول لهم والقوة‪،‬‬
‫يشتكون من الغيابات‪ ،‬ومن طبيعة املحاضرات الباردة‪.‬‬
‫على مقربة من النوم دخل سعيد‪ ،‬وفي وجهه بعض القلق‪ ،‬أخبرته‬
‫عن سبب حزنه‪ ،‬فقال‪ :‬إن إلهام ترغب في اللقاء معي غدا‪ ،‬تريد مراجعة‬
‫مادة النقد القديم وأهم قضاياه‪ ،‬سأضطر غدا لتركك وحيدا في البيت يا‬
‫نديم‪ ،‬وإذا كانت لك الرغبة في الذهاب معنا‪ ،‬فذلك أفضل‪ .‬لم أرد على‬
‫كالمه بجواب يؤكد رفض أو موافقتي على املجيء‪ ،‬ثم استدرك فقال‪ :‬بدأت‬
‫أشك في كثرة إلحاحها على الحديث معي واللقاء معها‪ ،‬ظننت أن املسألة‬
‫نفعية بعد اقتراب االمتحانات‪ ،‬ولكن أرى أنها حقا تحس بش يء تجاهي‪،‬‬
‫فاالمتحانات مرت وانقضت وهي ما زالت تصر على البقاء معي‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫نام مباشرة‪ ،‬ترامى على فراشه‪ ،‬ولم يمض إال وقت يسير حتى غرق‬
‫في النوم‪ ،‬وأطفأت املصباح‪ ،‬ولجأت إلى النوم‪ ،‬وأنا بدأت أفكر في ندى‪،‬‬
‫وبعض مالمحها‪ ،‬ونبراتها الصوتية أثناء نقاشنا‪ ،‬وتخيلت صورة وجهها‬
‫أمامي‪ ،‬ما زال وجها طفوليا مشرقا‪ ،‬أتخيل نظراتها‪ ،‬سهوت ألجعلها على‬
‫مقربة مني‪ ،‬أيصح أن تكون ندى مغرمة بي؟ رميت نفس ي أتأمل الغرفة‪،‬‬
‫وألقي الجسد عن يمنيني وعن شمالي‪ ،‬مبتسمة مرة‪ ،‬ومتجهمة مرة أخرى‪،‬‬
‫متأففا أبحث عن سبيل أسوق فيه نفس ي إلى النوم‪ ،‬نمت قليال فحسب ثم‬
‫استيقظت‪ ،‬بقيت على تلك الحال‪ ،‬متذبذبا ومنهمكا‪ ،‬بين حالة سعيد‬
‫القلقة‪ ،‬وإحساس ي تجاه ندى الغريب والجديد‪ ،‬سهوت راحال إلى عالم‬
‫ُ‬
‫وتوقفت عن‬ ‫أتأمل فيه ما أنا عليه‪ ،‬سهرت السمر كله إلى أن ّ‬
‫حل الصباح‪،‬‬
‫التفكير املباح‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪12‬‬
‫شوق ولوعة‬
‫كان اليوم يوم األحد‪ ،‬يوم عطلة‪ ،‬سأمضيه في القراءة وحدي‪،‬‬
‫سأحاول تتمة الصفحات املتبقية من ديوان املعري‪ ،‬ألفتح ديوان الحالج‪،‬‬
‫بعد مداومة متأنية للمعري تحققت لي فيها أسرار الحياة وعجائبها‪ ،‬سعيد‬
‫لن يكون معي اليوم‪ ،‬سيلتقي بإلهام‪ ،‬ليراجع معها بعض الدروس‪،‬‬
‫سيلتقيان باملقهى مع الساعة العاشرة صباحا‪ ،‬والساعة اآلن التاسعة‪،‬‬
‫وسعيد غارق في نومه‪ ،‬ترامى ونس ي اللقاء املعرفي أو باألحرى الحميمي‪ ،‬مع‬
‫طالبة تمتلك حقها من الجمال والجالل‪ّ ،‬نزاعة إلى الصمت داخل الفصل‪،‬‬
‫تكون مع آمنة املحجبة في أوقات االستراحة‪ ،‬مزاحة ولطيفة‪ ،‬وعلى ما قال‬
‫لي سعيد‪ ،‬إنها طالبة مجدة‪ ،‬تبهره كل يوم بملخصات عن كتب تراثية‬
‫يعشقها‪ ،‬وهي من نواحي مدينة فرح‪ ،‬حصلت على اإلجازة في جامعة ابن‬
‫اللبانة‪ ،‬جاءت للنصر لتكمل مسارها العلمي‪ ،‬وتبحث عن إنسان ينسيها‬
‫صخب النصر وضجره‪ ،‬ربما وجدت في سعيد ذلك الشخص الذي يحدثها‬
‫في عاملها الداخلي‪ ،‬ويمأل فراغ شوقها‪ ،‬ويسد بعض حنين أهلها‪ ،‬وقبل‬
‫استيقاظ الصديق من أجل الفطور‪ ،‬أخذت القرآن الكريم‪ ،‬ألقرأ فيه‬
‫قليال‪ ،‬وأتأمل فيه بعض اآليات التي جاءت في سياق حديث الحق سبحانه‬
‫عن اإلنسان‪ ،‬قبل أخذ الديوان‪ ،‬وقفت عند قوله تعالى في سورة إبراهيم‪:‬‬
‫﴿إ َن اإلنسان لظ ُل ٌ‬
‫وم ك َف ٌار ﴾‪ ،‬بدا أمر اآلية متناسبا مع مقترحات اإلله‬ ‫ِ ِ‬
‫الجديد وتراتيله التي زرعها اإلنسان في عقله‪ ،‬اإلنسان ظلوم أشد الظلم‪،‬‬
‫ولم يترك شيئا إال وظلمه‪ ،‬يحبب إلى اآلخر الحياة‪ .‬اإلنسان َ‬
‫كفار أزهد في‬

‫‪107‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫كفره‪ ،‬فكفر باإلنسانية وبالضمير‪ ،‬ولم يعد قادرا على الوقوف أمام هللا‪،‬‬
‫وقد أدركنا يقينا أن الدنيا مزحة سيئة‪ ،‬ال تبعث على ش يء من املرح‬
‫والفرح‪ ،‬مجرد دار خربة‪ ،‬أجسادنا مليئة بالجروح والقروح خوفا من كارثة‬
‫يواجهها العالم‪ ،‬الذي ينكر القدرة اإللهية ويبددها‪ ،‬وال يعلن على حقيقة‬
‫هذه القدرة إال حينما يتعرض إلى األنقاض‪ ،‬أو حينما يكون مقبال على‬
‫فاجعة إنسانية دامية‪ ،‬وهذا منزع أشار إليه دانتي في الكوميديا اإللهية‪،‬‬
‫بأن اإلنسان ال يعلن القدرة اإللهية إال حينما يقف على أعتاب كارثة‬
‫أليمة‪.‬‬
‫ور" ‪٦٦‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ووقفت عند قوله تعالى في اآليات اآلتية‪"﴿ :‬إن اإلنسان لكف ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫ان أكثر ش يء جدال ‪ ٥٤‬الكهف﴾ و﴿"ك َال إنَ‬ ‫الحج﴾ و﴿"وكان اإلنس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ود" ‪ 6‬العاديات﴾ و﴿إنَ‬‫اإلنسان ليطغى"‪ 6‬العلق﴾ و﴿إ َن اإلنسان لرّبه لك ُن ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان ل ِفي خسر ‪ 2‬العصر﴾‪ ،‬فاإلنسان تبعا لهذه اآليات املختارة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وغيرها من اآليات‪ ،‬جعل الحياة مزحة سيئة يهلع بها كل من جاء إليها‪ ،‬إن‬
‫الكفر والطغيان والجدل والكنود‪ ،‬مواصفات ستلقي بنا في الضاللة‪ ،‬وفي‬
‫العقاب وفي املأساة وفي الخراب والفساد‪ ،‬ولم يكن سؤال املالئكة هللا‬
‫سبحانه سؤاال بريئا‪ ،‬بعد ابتغائه جعل اإلنسان خليفة في األرض‪ ،‬وعلم‬
‫املالئكة بفساد هذا اإلنسان الخليفة وطغيانه وسفكه للدماء‪ ،‬وما حدث‬
‫ويحدث وسيحدث أمر يبين أن تاريخ اإلنسانية تاريخ دموي‪.‬‬
‫الكثير من الناس لم تعد لهم القدرة على الصبر‪ .‬املشردون‬
‫والعابثون واملقمعون واليائسون والعابثون واملجهولون يطلبون مفرا‬
‫للخالص من مآسيهم وآالمهم‪ ،‬قد يرضون بجهنم على عدم العيش في هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬يريدون مفرا ومخلصا هانئا‪ ،‬ومطلبا من رحمة والهناءة والسالم‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تجاوزا للمرارة التي تتكرر كل يوم‪ ،‬مشربنا في الحياة كان مرا وعسيرا‪ ،‬فقط‬
‫ننتظر جودو الذي سيأتي‪ ،‬ليخصلنا وينجينا‪ ،‬وفي الحقيقة يبدو أن جودو‬
‫الخاص بي‪ ،‬موجود في ندى‪ ،‬ش يء ما مخبوء في داخلي تجاهها‪ ،‬بالغت‬
‫إنكارا لحياتي السيئة‪ ،‬أتجرع كل يوم صدمة‪ ،‬وأالقي كل يوم أسفا‪ ،‬فجاءت‬
‫ندى لتكون املنقذة من وحدتي الطائلة واملمتدة‪ ،‬ستقودني إلى األعالي‪،‬‬
‫قل معها حديثي‪ ،‬أما‬‫كنت صرفت عنها النظر داخل الفصل وفي الساحة‪ ،‬و ّ‬
‫اآلن‪ ،‬فقد تغير كل ش يء تماما‪ .‬لم أكن أنتبه حقا لنظراتها‪ ،‬لكن بعد لقائنا‬
‫في املعرض‪ ،‬بدت لي أن صورتها ليست غريبة عني‪ ،‬ربما هي الفتاة التي أحلم‬
‫بها‪ ،‬أو رأيتها في حلمي‪ ،‬أو صادفتها في رواية ما‪ ،‬ليست غريبة عني‪ ،‬ال أتذكر‬
‫بالضبط أين رأيتها‪ ،‬وأين التقيت بها؟‪ ،‬حاولت أن أتذكر‪ ،‬لكن التذكر‬
‫مصاحب للنسيان‪ ،‬إنها الفتاة التي راودتني في أحالمي‪ ،‬وما زالت تراودني‪،‬‬
‫سحرها سيطر على العين فأعماها عن كل ش يء‪ ،‬إال هي‪ ،‬مخيلتي مشغولة‬
‫للبحث عن مكان لقائي معها في ذاكرة املاض ي امليت‪.‬‬
‫إنها قبسة أضاءت عتمة قلب ظل طول سنواته فارغا من مشقة‬
‫الهوى‪ ،‬ولم يتجرأ على خوض تجربة عشق مع شخص ما‪ ،‬كأنني أحلم‪،‬‬
‫ولكن طبعا وجدت لوعة أشواقي‪ ،‬النور الساري في ضلوعي‪ ،‬وجمال‬
‫يستوطن في جنباتها‪ ،‬ليقيدني لكي ال أبتعد عنها‪ ،‬ألقتني صريعا ملقيا على‬
‫وجهي‪ ،‬هل سأكون واحدا من العاشقين الذين ذكرهم صاحب مصارع‬
‫العشاق؟ التي لم أكن أعلم بأن أسواقهم مليئة بالنور‪ ،‬إال أنه نور يشق‬
‫على العاشقين‪ ،‬ويذهب عقلهم‪ ،‬ويستهويهم ويرخيهم‪.‬‬
‫يلقي هللا العشق في القلب دون استئذان‪ ،‬يالقي األرواح رغم بعد‬
‫املسافات‪ ،‬هو القادر على صنعنا وتصويرنا وخلقنا‪ ،‬يخلقنا في الدنيا‬

‫‪109‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مرتين‪ ،‬حينما نخرج من بطن أمهاتنا‪ ،‬وحينما يالقينا بروح أخرى نتالش ى‬
‫فيها وتتالش ى فينا‪ ،‬لنصبح ذاتا واحدة‪ ،‬مزجت فيها ذاتان‪ ،‬في الحب ُتخترق‬
‫كل سنن الكون‪ ،‬ال أدري حقا هل ما أنا فيه حقيقة أم مجرد حلم؟ فندى‬
‫ذات قامة مالئكية صافية الوجه‪ ،‬نقية السريرة‪ ،‬زاهية النظرات‪ ،‬سامراء‬
‫الوجه‪ ،‬تخطفك من أول نظرة إليها‪ ،‬أنا لم تخطفني من أولها‪ ،‬ولكن اآلن‬
‫خطفتني بكلي‪ ،‬معذبتي األنيسة‪ ،‬مؤنستي الجميلة‪ ،‬متى سيجمعنا اللقاء؟‬
‫متى نلتقي معا؟‬
‫اللقاء وحده يحمل أفقا ربانيا‪ ،‬فيه تالمسك نعائم الرب‪ ،‬وتداعبك‬
‫نسمات سمائه‪ .‬بشائر اللقاء يقودها ش يء واحد‪ ،‬هو الشوق‪ ،‬شوقي‬
‫بمثابة أمواج تناجي هللا لترسوا في سالم‪ ،‬لتهدأ ولتجعل البحر هادئا‪ ،‬لم‬
‫نكن ندري أن موج البحر يناشد العشاق ويالطفهم‪ ،‬وينشدهم أغاني‬
‫ملحونة بقطراته األخيرة‪ ،‬أيها البحر دلني على طريقك املجهول‪ ،‬ألبوح لك‬
‫بمالمحها‪ ،‬لعل صداي ينتقل إليها‪ ،‬ويهمسها كل ليلة بأني أرغب في وصلها‪،‬‬
‫وربما نتجول في الشاطئ الذي يجتمع فيه العاشقون‪ ،‬الذين يحاكون فيما‬
‫بينهم أسرارهم‪ ،‬ويتبادلون عناقتهم‪ ،‬ويمازجونها بالقبالت‪ ،‬هل يا ترى تحس‬
‫بما أحس؟ هل حقا قد القى هللا بين روحينا؟ قلوب العشاق ال تعرف معنى‬
‫للحقد والكراهية‪ ،‬إن قلوبنا تعيش باإلحساس‪ ،‬ووحدها تملك موجات‬
‫خفية‪ ،‬ال كاشف لها إال هللا‪.‬‬
‫ندى هي الفتاة التي حلمت بها‪ ،‬أو التي التقيت بها في املستقبل‪ ،‬نعم‪،‬‬
‫تفكيري حول هذا العالم التعيس أن أعيش وحيدا‪ ،‬كنت أدافع عن هذا‬
‫أمام زمالئي‪ ،‬وأشتد فيه مع سعيد‪ ،‬إني خلقت أللج إلى عاملي فقط‪ ،‬ولكن‬
‫أحاسيس القلب ال تؤمن بالقناعات واملبادئ‪ ،‬وأوجاع الصبابة تغير كل‬

‫‪110‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫املواقف‪ ،‬القلب وحده يجعلك ترغب في أشياء ال تريدها‪ ،‬والحب وحده‬


‫يرغم عليك فعل أي ش يء‪ ،‬لقد أراد هللا أن يبعث لي مؤنسة تالطفني‪ ،‬تفهم‬
‫وحدتي‪ ،‬وتستميلني بفكرها ووعيها وشغفها القرائي‪ ،‬وكونها حشرت في‬
‫املقبرة التي أقبرت فيها ذاتي‪ ،‬سنوات اإلجازة‪ ،‬والسنة األولى من املاستر‪،‬‬
‫ندى هي جودو األمل املنتظر‪ ،‬وجودو الحب الغائب‪ ،‬جودو سيبعد عني‬
‫قسوة املشهد املأسوي للعالم‪ ،‬كنت دائما أقول إنني ال أستطيع تحمل‬
‫تكسرت كل قناعاتي‬‫أعباء نفس ي‪ ،‬فكيف لي أن أتحمل شخصا آخر؟ لقد ّ‬
‫وكل تأمالتي‪ ،‬الحياة تالقيك بمن يهتم بك ويصاحبك‪ ،‬رغم الحقد والكره‬
‫فال بد أن تجد شخصا يشفق عليك‪ ،‬ويواسيك‪ ،‬ويكون معك في هزائم‬
‫الحياة املحتومة‪ ،‬وينير لك الطريق املعتم أمامك‪ ،‬إنني أنتظر بشوق ولوعة‬
‫اللحظة التي سيكون فيها اللقاء‪.‬‬
‫همست إلى نفس ي أخاطبها‪ ،‬فأقول‪ :‬زهدك في نفسك يا نديم لن‬
‫ُ‬
‫ينفعك لحظة الحب‪ ،‬إنك تلقى مصروعا في أحضان ندى‪ ،‬وهنا تذكرت‬
‫الكتب التي قرأتها عن العشق والحب‪ ،‬لم تكن عناوينها توحي بأمل للعيش‪،‬‬
‫لعلي سأعود ألقرأها من جديد‪ ،‬حتى أتبين مصيري في حب نزل ّ‬
‫علي‬
‫كالصاعقة‪ ،‬هل مجرد وهم بأنه حب؟ لم يمنحن الحب ولو ثانية ألفكر‬
‫وأراجع أوراقي‪ ،‬وأتأمل لحظة بعدها أقرر قراري األخير فيه‪ ،‬البغتة كانت‬
‫شديدة‪ ،‬حقا فالحب ال ميعاد له‪ ،‬الحب موت يأتيك من حيث ال تحتسب‪،‬‬
‫شد اإلنساني للعالم‪ ،‬إنه مسعى‬ ‫الحب هو املصير املنتظر‪ ،‬هو ال ــمن ُ‬
‫فالسفة السعادة والعيش‪ ،‬أمثال ميشال أونفري‪ ،‬الذي يبحث بفلسفته‬
‫عن نمط للعيش‪ ،‬ومطمحه األخذ بمطمح شامفورت في قوله‪" :‬تمتع وأمتع‪،‬‬
‫دون أن تؤذي نفسك أو تؤدي اآلخرين"‪ ،‬وقرأت مقاال عنه األسبوع‬
‫املاض ي‪ ،‬قراءة متأنية‪ ،‬على اعتباره مقاال مترجما من يوسف أسحيردة‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وظني في محله‪ ،‬إذ يرى أن العالم يحتاج إلى الحب‪ ،‬وأعلم عزيزي القارئ أن‬
‫روسو وضعه من حاجات اإلنسان الضرورية‪ ،‬الحب رغبتنا األولى لنحقق‬
‫السالم‪ ،‬لنواجه عبثية اإلله الجديد‪ ،‬فقد أفسد تاريخ البشرية وأعماها‪،‬‬
‫وبدا أمر حاجتنا إلى الحب‪ ،‬كون أن هللا أحب أن يعرف نفسه‪ ،‬فخلق‬
‫اإلنسان ُليعرف‪ ،‬واملبدأ الحاكم لخلق اإلنسان هو الحب‪ ،‬ومطالبنا‬
‫السامية تتحقق بالحصول على الحب وتحققه‪.‬‬
‫بينما أنا مستمر في القراءة التأملية لآليات التي استعرضها‪ ،‬وربطها‬
‫بواقعنا اليائس‪ ،‬رن هاتف سعيد‪ ،‬ربما إنها إلهام‪ ،‬وهو غارق في النوم‪،‬‬
‫والساعة تشير إلى العاشرة‪ ،‬ونس ي موعده مع إلهام‪ ،‬أظن أن شيئا آخر غير‬
‫مراجعة الدروس جعل سعيد ينام كل هذه املدة‪ ،‬املعهود عليه االستيقاظ‬
‫سر أو مكيدة‪ ،‬لم يستطع أن يخبرني بها‪ ،‬حاولت إيقاظه‪،‬‬ ‫باكرا‪ ،‬في املسألة ّ‬
‫إلخباره برنين هاتفه‪ ،‬استفاق متثاقال‪ ،‬ونظر إلى هاتفه‪ ،‬وقال لي‪ :‬صباح‬
‫الخير نديم‪ ،‬لقد تأخرت‪ ،‬تركت إلهام تنتظر في املقهى‪ ،‬سألته عن سبب‬
‫شروده؟ أجاب بأنه تعب آخر األسبوع فقط‪ ،‬وال ش يء يجعلك لتقلق يا‬
‫علي شيئا ما‪ ،‬وسأدعه يذهب‬‫نديم‪ ،‬لم أصدقه في قوله‪ ،‬وقلـت‪ :‬إنه يكتم ّ‬
‫فالعشيقة تنتظره‪ ،‬وسأتأكد من عدم وجود خطب يزعجه ويقلقه بعد‬
‫عودته‪ ،‬قام وصلى وأكل بعض التمر الذي أحضرته من زاكورة‪ ،‬فخرج‪ ،‬وال‬
‫علم لي بالساعة التي سيعود فيها‪.‬‬
‫ُ‬
‫عدت إلى نفس ي أتحاور معها‪ ،‬أ ِع ُّد عدد املأساة التي تحوم حولي‪،‬‬
‫طبعا‪ ،‬إن املصائب ال تأتي فرادى‪ ،‬سعيد لديه خطب ما‪ ،‬هذيان حب ال‬
‫أعرف حقيقة شعوره‪ ،‬أسرتي التي تنتظرني ألشتغل‪ ،‬لنحسن ظروفنا‬
‫قليال‪ ،‬بعد حدث تفرقتنا مع العائلة‪ ،‬التي كنا نعيش فيها حياة شبه‬

‫‪112‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫سعيدة‪ ،‬وسعينا للقتال في النصر املشؤوم‪ ،‬وفي سجن بلدنا الذي لم ّ‬


‫يؤمن‬
‫أبسط حاجاتنا‪ ،‬وما يؤملني هو جامعة تقبر أساتذة يتشكون من ضعف‬
‫الطلبة ويتناسون ضعفهم وسوء سريرتهم‪ ،‬تجد القلة فيهم من تبعث فيك‬
‫األمل‪ ،‬وتحيي فيك حب العلم واملعرفة‪ ،‬وتوصيك على الصبر في طلبه‪،‬‬
‫أساتذة تجدهم في صفك‪ ،‬يؤمنون بقدراتك‪ ،‬يتواضعون ويحسبونك ابنا‬
‫لهم‪ ،‬ال يحدثونك عن أنفسهم‪ ،‬وعن مسار حياتهم‪ ،‬ال يظهرون لك‬
‫إنجازاتهم‪ ،‬يمتعونك في املحاضرات وكفى‪ ،‬ولن أنس ى مستشفيات مشيدة‬
‫ليموت فيها املرض ى‪ ،‬طبعا تأتينا لحظات نقرر فيها أننا مجبرون على تقبل‬
‫الحياة كما هي‪ ،‬والبحث عن نمط جذري للعيش‪ .‬أخذت ألنهي ما تبقى من‬
‫ديوان املعرة‪ ،‬وعلى مقربة ختمه للمرة الثالثة‪ ،‬استوقفني قوله‪:‬‬
‫ُ‬
‫والعالم ابن والدهروالده نجل غوى ووالد غدر‬
‫العالم مخبأ الغواية ومسكنه الغدر‪ ،‬ومثوى للضاللة ومرتعها‪،‬‬
‫وملجأ لألشقياء والبؤساء‪ .‬املحظوظون من لم يولدوا‪ ،‬ومن ولدوا وقادهم‬
‫املوت لعبور صراط غواية الحياة املنتهية‪ ،‬نحو حياة أبدية ينعمون فيها إلى‬
‫األبد‪ .‬لقد اكتشفت معك أيها الشاعر املعري‪ ،‬أن الحياة مجرد انتكاسة‬
‫رضينا بها‪ ،‬لقد أبصرت بشعرك ما لم يبصره املبصرون‪ ،‬وتعلمت من‬
‫شعرك أن الناس متساوون في النعرات‪ ،‬وال تأتي منهم سوى املرعدات‬
‫واملوبقات‪ ،‬وإن شرهم كخيرهم‪ ،‬وأبانت أن الدهر أساس الغدر وال نرى‬
‫منه إال أكافس األشياء وأقابحها‪ ،‬وإن الزمان يأتينا بمشارب الفظاعة‬
‫والبشاعة‪ .‬ويحق أيها القارئ أن يكون املعرة شاعرا يسكن معنا في‬
‫حاضرنا‪ ،‬رغم قدامته‪ ،‬إنه شاعر أتى من املستقبل ليخبرنا بخبايا الحياة‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫اعتكفت على الصفحات حتى أنهيتها‪ ،‬وبعدها فتحت ديوان الحالج‬


‫املقتول واملحروق‪ ،‬قرأت سيرته أوال‪ ،‬واكتشفت سر قتله‪ ،‬إنه قتل بسبب‬
‫سوء فهم شعره‪ .‬لم يكن اإلنسان وحده الذي تعرض للقتل والسفك‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ص ِلب أصحابها وأبيدوا‪ ،‬وملا تأملت‬ ‫فحتى الكتب تعرضت ألبشع املجازر‪،‬‬
‫قصة الحالج‪ ،‬بدأت أستحضر تاريخ الكتب املحروقة واملمنوعة‪ ،‬وأسباب‬
‫حرقها ومنعها‪ ،‬واألسباب في الغالب مرتبطة أساسا بحديثها عن جوانب‬
‫مقدسة في الدين‪ ،‬إما مرتبطة باهلل‪ ،‬أو النص املقدس‪ ،‬أو أنها اعترضت‬
‫على ش يء يتعلق بالخالفة والنظام السياس ي العام‪ ،‬وخصوصا في الثقافة‬
‫العربية‪ ،‬وما زال األمر مستمرا إلى اآلن‪ ،‬ثقافة حرق الكتب ومنعها دائمة‪،‬‬
‫فقد تم منع كتب ناصر حامد أبو زيد‪ ،‬والغزالي‪ ،‬ونجيب محفوظ وطه‬
‫حسين‪ ،‬وتم منعها بسبب رقابة السلطة الدينية أو السياسية التي تتغيا‬
‫الجمود‪ ،‬وتبتغي جعل الناس تعيش على أوهام منتهية‪ ،‬وأنقاض تالشت‬
‫وإثم فظيع صنعته الرقابة‬ ‫وانقضت‪ .‬محرق ُة الكتب فاجعة ثقيلة ٌ‬
‫ُ‬
‫املتحكمة في قلم الكتاب‪ ،‬بتشاركها مع منظمات ال صلة لها بالحرية وما‬
‫شابه‪ ،‬فال غرابة فيما يقع‪ ،‬ألن السيف والقلم أمران متالزمان منذ أمد‬
‫بعيد‪ ،‬ولم تسلم الحضارة األوربية أيضا من هذا املفزع اإلنساني‪ ،‬وأتذكر‬
‫باألساس كتابا‪ ،‬قد يعود إليه القارئ‪ ،‬كتاب‪" :‬الكتب املمنوعة" ملاريو‬
‫إنفليزي‪ ،‬قرأت فيه أن القوائم الباريسية الست‪ ،‬كما أعدتها كلية علوم‬
‫الالهوت في السوربون من عام ‪1544‬م إلى ‪1556‬م‪ ،‬منع على إثرها ثمانية‬
‫وعشرون وخمس مئة كتابا‪ ،‬واإلحصاءات في هذه املسألة كثيرة‪ ،‬للقارئ أن‬
‫يتعرف على قائمة بولس والبندقية‪ ،‬والقائمة الرومانية‪.‬‬
‫أي مطمح نطلبه ونحن ننتج رقابة ضد الرأي اآلخر‪ ،‬ضد العلم‬
‫وضد الكتاب‪ ،‬ادعاء منا بأنه يمس املقدس‪ ،‬يريدون فرض السيطرة حتى‬

‫‪114‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫على عقول الناس‪ ،‬التي منحها هللا الحرية للتفكر والتأمل والتدبر‪ ،‬إن‬
‫املقتولين بسبب كتبهم شكلوا عائقا أمام عجز الرقابة املسؤولة للرد عليهم‬
‫باألدلة املنطقية‪ ،‬وإن الكتب املحروقة واملمنوعة ما زالت تنير عقولنا‪،‬‬
‫وتخنقنا بدخانها الالمتناهي‪ ،‬ألننا نظل مشمرين للتفكر فيها‪ ،‬والبحث عن‬
‫أسباب منعها‪ ،‬دون النظر إلى األسباب التي توردها الرقابة‪.‬‬
‫يسمحون للرداءة أن تنتقل إلى عقولنا بكتب تتناول موضوعات‬
‫اجتماعية‪ ،‬يمكن مشاهدتها في فيلم سينمائي‪ ،‬بدت املسائل واضحة‬
‫عندنا اآلن‪ ،‬وأدركنا أن ما يمنع وما يحرق‪ ،‬يكون في نظر السلطة قد ارتكب‬
‫خطيئة عظيمة‪ ،‬ويحسب أهل الرقابة أن املحروقين واملعذبين ارتكبوا‬
‫خطيئة تنويرية يخشون منها منح الشرعية العقلية إلى عامة الناس‪،‬‬
‫ويظلون مراقبين لهم‪ ،‬لكي ال يقوموا بمحاولة استهدافية أخرى‪.‬‬
‫هكذا كانت نظرتي‪ ،‬ملا قرأت سيرة الحالج‪ ،‬قبل الدخول إلى متاهات‬
‫شعره املفتوح على آفاق تأويلية متعددة‪ ،‬فجأة نظرت إلى الساعة‪،‬‬
‫فوجدتها الثالثة زواال‪ ،‬وسعيد لم يعد بعد‪ ،‬والجوع بدأ ينخر بطني قليال‪،‬‬
‫وفكرت في أن أخرج ملطعم شعبي آكل فيه عدسا‪ ،‬وال بديل من غير مطعم‬
‫عمي إبراهيم‪ ،‬خرجت وأكلت وأحسست براحة وسكينة‪ ،‬وعدت إلى البيت‪،‬‬
‫واسترخيت بعض الش يء‪ ،‬ألخذ طاقة أكمل بها الليل قراءة‪ ،‬ولم تمض إال‬
‫ربع ساعة على االسترخاء‪ ،‬حتى سمعت رنين هاتفي‪ ،‬لم أعرف صاحب‬
‫الرقم‪ ،‬وترددت في اإلجابة‪ ،‬وتفاجأت ألنني ألفت فقط اتصال أبي أو أمي‪،‬‬
‫هذان هما الرقمان األكثر سجال عندي‪.‬‬
‫تركت الهاتف يرن إلى أن انقطع االتصال‪ ،‬ولم أجب‪ ،‬وسمعت الرنة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وأجبت‪ ،‬ووجدت أن إلهام هي املتصلة‪ ،‬وشعرت ببعض الذعر‬

‫‪115‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫والخوف‪ ،‬ربما حصل مكروه أو ما شابه لسعيد‪ ،‬كانت الصديقة سريعة في‬
‫كالمها‪ ،‬لدرجة أنني لم أسمع منها شيئا‪ ،‬هدأتها وطلبت منها إعادة ما قالته‪،‬‬
‫فأخبرتني أن الصديق سعيد كان جالسا معها باملقهى‪ ،‬يراجع معها‪ ،‬وفجأة‬
‫صرخ وتعالى صوته بالبكاء‪ ،‬وغادر دون أن يقول شيئا‪ ،‬واتصلت بك‬
‫ألخبرك هل هو في البيت؟ أم أنه لم يصل بعد‪ ،‬لقد قلقت عليه كثيرا‪،‬‬
‫أتصل به وال يجيب‪ .‬بعد سماع ما قالته إلهام‪ ،‬شعرت بصاعقة في داخلي‪،‬‬
‫وكأن شيئا حارقا يصعد ثم ينزل‪ ،‬أخبرتها أنه لم يتصل‪ ،‬ولم يأت إلى البيت‪،‬‬
‫وطلبت منها االنتظار في مكانها‪ ،‬لنبحث عنه‪ ،‬وأنا خارج فعقلي كله مع‬
‫سعيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أه فقد يفعل شيئا خطيرا بحاله‪ ،‬ترامت ّ‬
‫علي أفكار سيئة‪،‬‬
‫أرجو أن يكون بخير‪ ،‬وربطت االتصال به ملا وصلت إلى مكان إلهام‪ ،‬وال‬
‫يجيب‪ ،‬كانت الصديقة مصدومة ومبهوتة‪ ،‬ترتجف خوفا من أن تكون‬
‫سببا في حصول مكروه ما‪ ،‬حالتها يائسة‪ ،‬تبكي من شدة الحسرة‪ ،‬حاولت‬
‫تهدئتها ولم أفلح‪ ،‬أي إنسان أنا‪ ،‬ال يقدر حتى على تبريد مشاعر الخوف‬
‫والحزن‪ ،‬تشجعت شيئا ما وأغلقت عيني‪ ،‬وضممتها إلى صدري‪ ،‬ربتت على‬
‫صدرها‪ ،‬وهدأتها‪ ،‬وأخبرتها بأننا سنجده وسيكون بخير‪.‬‬
‫استمرت في البكاء‪ ،‬وقالت‪ :‬أرجوك يا نديم افعل شيئا‪ ،‬إنني أحبه‬
‫أكثر من نفس ي‪ ،‬إني مليئة به ولن أستطيع الصبر إذا حصل له مكروه ما‪،‬‬
‫إني متيمة به وأعشقه عشقا جنونيا‪ ،‬هللا أعلم بحالي‪ ،‬وبعشقي له‪ ،‬أريده‬
‫كما هو‪ ،‬قلت‪ :‬سنجده صديقتي‪ ،‬امسحي دموعك‪ ،‬فالناس ينظرون إلينا‪،‬‬
‫فقد يظنون أنني السبب في بكائك‪ ،‬توقفت عن البكاء‪ ،‬وذهبنا لنبحث عن‬
‫الصديق في األماكن العامة بدروب الرحاب‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ونحن نسير صامتين‪ ،‬أتأمل حالة إلهام‪ ،‬تساءلت أيعقل أن حبها‬


‫لسعيد صنع بها كل هذا؟ جريحة تحتاج ضمة أشبه بعناق األم البنها‪ ،‬وجد‬
‫الحب لنخمد به جراحنا‪ ،‬وما أحس به تجاه ندى ليس عشقا‪ ،‬فلم أحس‬
‫بما أحست به إلهام‪ ،‬ربما هناك اختالف بين العاطفتين‪ ،‬النساء أغلب‬
‫عاطفة وحنانا ولطافة من الرجال‪ ،‬نحن قساة ولكن ُم ِحنون‪ ،‬سألت‬
‫إلهام‪ ،‬هل أخبرت سعيد بش يء ما؟ قالت في لكنة منحنحة‪ ،‬لم أقل له‬
‫شيئا‪ ،‬فقط حينما جاء صباحا‪ ،‬رأيت في وجهه بعض القلق واليأس‪ ،‬ولم‬
‫ّ‬
‫سلم ّ‬
‫علي ببرودة‪ ،‬صدرت منه ضحكة‬ ‫أتجرأ على معرفة سبب قلقه‪،‬‬
‫خفيفة‪ ،‬شبيهة بضحكة سيوران القاتمة‪ ،‬والدموع نزلت على خديها‪ ،‬وال‬
‫تكاد تفارقها طيلة بحثنا عن سعيد‪ ،‬وتهمهم بدعاء خفي‪ ،‬يا رب ساعدنا‪،‬‬
‫وتردد سأموت إذا لم أجده‪ ،‬الحياة من دونه ال ش يء‪ ،‬يا رب لقد وجدت‬
‫فيه اإلنسان الذي سيزهر به عاملي الداخلي‪ .‬املسكينة كأنها على جمر‪ ،‬نرى‬
‫بهذا أننا في حياتنا نحتاج إلى شخص نزرعه في قلبنا لكي تنبت معه كل‬
‫أمانينا وتزهر معه جميع مطامحنا‪ ،‬ومن دونه سنحصد اليأس وسنتجرع‬
‫مأساة حياتنا املعيشة‪.‬‬
‫بحثنا عن سعيد وال أثر له‪ ،‬ساعتان ونحن نتجول‪ ،‬وكل مرة نربط‬
‫ّ‬
‫االتصال به والهاتف مغلق‪ ،‬أي فاجعة حلت علينا؟ وأي أمر نحن فيه؟‬
‫أين سأجدك صديقي؟ تعبنا من البحث‪ ،‬جميع األماكن العامة في الرحاب‬
‫بحثنا فيها‪ ،‬إلهام أظهر عليها التعب كثيرا‪ ،‬غير قادرة على االستمرار‪،‬‬
‫وعاجزة عن قولها إنها متعبة‪ ،‬شعرت بالسأم وفقدت األمل‪ ،‬ونظرت ّ‬
‫إلي‬
‫قائلة‪ :‬ماذا إذا وقع له ش يء يا نديم؟ صرخت بشدة والناس ينظرون‪،‬‬
‫وجثت على ركبتيها‪ ،‬وساء املنظر املارين والعابرين‪ ،‬فبدأوا يحوقلون‬
‫ويشتمون ويسبون‪ ،‬وقال بعضهم‪ ،‬إن جيل شبابنا أفسدت أخالقهم‪ ،‬وال‬

‫‪117‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مسكن أقدر على حصر فساد أخالقهم من غير القبر‪ ،‬وقال آخر في‬
‫سخرية هزلة‪ :‬يتالعبان فيما بينهما ويضحكان ويمرحان وحينما يقعان في‬
‫مصيبة يظالن متحسرين‪ ،‬إنه جيل حيونة اإلنسان‪ ،‬جيل من الضباع‪،‬‬
‫هذه ظنون الناس‪ ،‬وإن بعض الظن إثم‪ ،‬لم يأت أحد ليعرف سبب بكائها‬
‫وصراخها‪ ،‬يعرفون الحكم من بعيد‪ ،‬الثرثرة هي رأس مال هؤالء البشر‪ ،‬لم‬
‫أكترث ملا يقولون‪ ،‬وساعدت إلهام على الوقوف‪ ،‬ذهبنا إلى الحديقة‬
‫لالستراحة‪ ،‬ولتأخذ نفسا جديدا‪ ،‬تعود به إلى مقر سكنها بالحي‪ ،‬تساءلت‬
‫إلهام ما إذا كنا نملك مكان معهودا نذهب إليه معا؟ أخبرتها بأننا عهدنا‬
‫الذهاب إلى املكتبة فقط‪ ،‬وأما يوم السبت واألحد فنقضيه في البيت‬
‫فحسب‪ ،‬لم تكن قادرة على تمالك نفسها‪ ،‬فعانقتني قائلة لقد ذهب‬
‫سعيد يا نديم‪.‬‬
‫بادلتها العناق ونفس ي ترتجف من شدة الخوف‪ ،‬لربما إني لم أذق‬
‫طعم العناق مرة‪ ،‬وخاصة حينما يكون من فتاة‪ ،‬وتكون اللحظة مليئة‬
‫بمشاعر الحزن‪ ،‬إننا حقا محتاجون لعناقات تتالمس فيها قلوبنا وتتحاور‬
‫مع بعضها البعض‪ ،‬إن العناق هو البديل األسمى لبعث األمل في النفوس‪،‬‬
‫واألمل هو آخر ما يموت في اإلنسان‪ ،‬آمالنا محفوظة مع كل عناق نبادله‬
‫بيننا وبين اآلخرين‪.‬‬
‫تأخر الوقت ولم نعرف ولو معلومة عن الصديق‪ ،‬وإلهام تموت أملا‪،‬‬
‫طلبت منها أن تعود إلى الحي‪ ،‬أنا سأكمل البحث عن صديقي‪ ،‬أخذت‬
‫سيارة أجرة وذهبت‪ ،‬استلقت على كرس ي السيارة متثاقلة ومهمومة‪،‬‬
‫حمرته شمس الزوال في زاكورة‪ ،‬ظاهرها فيه‬ ‫مالمح وجهها شبيهة بمن َ‬
‫العذاب وباطنها هللا أعلم به‪ ،‬أكيد أنه يشتد تأملا‪ ،‬وأما أنا فظاهري فيه‬

‫‪118‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫البشاشة وباطني فيه العذاب‪ ،‬تساءلت قائال أين سيكون سعيد؟ ذهبت‬
‫إلى البيت ربما أجده مستلقيا وفرحا ونشيطا‪ ،‬وهناك أتحدث معه‪،‬‬
‫ونتحاور معا عن مشاكله‪ ،‬وسبب حرقته‪ ،‬كنت أصال أعلم منذ ليلة‬
‫البارحة أن لديه خطبا معينا‪ ،‬وال يريد أن يخبرني به‪ ،‬أو ال يريد أن يزيد من‬
‫تعاستي‪ ،‬فهو يحاول دائما أن يمنحني أمال في هذه الحياة التعيسة‪ ،‬وأن‬
‫ينقذني من تشاؤميتي‪ ،‬وأملي عاد من جديد‪ ،‬ملا أحسست ببعض خيوط‬
‫التجاذب مع عاشقة أجاثا كريستي‪ ،‬حتى لقاؤها معي شبيه باملطاردات‬
‫البوليسية الشبيهة بما يدور في رواياتها‪ ،‬أجلس وحيدا‪ ،‬وأجدها واقفة‬
‫أمامي كاملعتوهة‪.‬‬
‫عدت محطما إلى البيت‪ ،‬أحمل معي الخيبة املؤملة‪ ،‬وأجر معي بعض‬
‫خيوط األمل والتفاؤل‪ .‬ما بال الطيبين وذوي الفضيلة يتذوقون مرارة‬
‫العيش‪ ،‬ويساقون إلى مهالك األمور في هذه الحياة‪ ،‬ويشربون من كأس‬
‫الضياع‪ ،‬نحن مرغمون للبحث عن مصيرنا املأسوي‪ ،‬ولسنا مرغمين‬
‫للبحث عن أنفسنا واكتشاف عاملنا املفقود‪ ،‬حتى الحب بالنسبة إلينا‬
‫مصير مأسوي‪ ،‬ال ضمانة لنا فيه ملعانقة حياة سعيدة‪ ،‬وما بدا لي في إلهام‬
‫من أحاسيس مظهر لهذا‪ ،‬التي أجرمت على قتل نفسها بهذا التعلق‬
‫الشديد‪ ،‬والذي قد يكون حيلة من حيل كيد الطالبات‪ ،‬أو عالم الطالبات‬
‫املغبون‪ ،‬فإنهن يظهرن كل ش يء حقيقيا‪ ،‬يهتمن بك ويبادلنك أطراف‬
‫الحديث حتى فيما يشبع غريزتك‪ ،‬وهذا له مقابل‪ ،‬فإلهام استفادت من‬
‫سعيد ما لم تستفده من دراستها في املاستر‪ ،‬وبه فرغم إظهارها الصدق في‬
‫مشاعرها‪ ،‬إال أنني أدركت أن عالم الطالبات مغبون لن تفهم فيه شيئا‪،‬‬
‫ومتلون مليء باألكاذيب واألساطير‪ ،‬وقد يظهر صدق إلهام بعد نهاية سنتي‬
‫املاستر‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫دخلت إلى البيت وال خبر يطمئنني عن الصديق‪ ،‬حاولت أن أتصل‬


‫وال مجيب‪ ،‬وفجأة تذكرت عمي الشيخ با علي‪ ،‬إمام مسجد الرحاب‬
‫الصغير‪ ،‬شخص زاهد ومتعبد‪ ،‬ذو صدر رحب‪ ،‬وصاحب شأن عظيم عند‬
‫الناس‪ُ ،‬عرف بأنه يزرع في قلب اإلنسان اإليمان والطمأنينة واملحبة‪،‬‬
‫لطيبة كالمه وبداعته‪ ،‬يعدونه من أهل الكرامات‪ ،‬ألفضاله الكثيرة على‬
‫إعادة البؤساء إلى طريق السعادة‪ ،‬وكان سعيد يجلس معه بعد نهاية صالة‬
‫العشاء أو املغرب‪ ،‬كما كنت أفعل مع الشيخ صالح رحمه هللا‪ ،‬يتحدثان‬
‫دائما في موضوعات مثيرة عن الفقه والفقهاء ومآثر العصر ومفاسده‬
‫ومحاسنه‪ ،‬ومسائل الخالف بين املذاهب‪ ،‬وال مخافة لسعيد في حديثه عن‬
‫هذه األمور رغم تخصصه األدبي‪ ،‬إال أنه يعلم هذه القضايا التي قرأ عنها‬
‫سنوات اإلجازة‪ ،‬أثناء تردده إلى دروس بعض الشيوخ في املجال‪.‬‬
‫قد أعجبت "ببا علي"‪ ،‬نظرا البتعاده عن التزمت والتشدد‪ ،‬ال يوبخ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وال يحرقهم‪ ،‬وال يستفزهم‪ ،‬ويضمهم إلى صدره‪ ،‬وال يلوم فساد‬
‫أخالق شخص ما‪ ،‬وإنما يطلب له الهداية والثبات من عند هللا‪ ،‬وينصحه‬
‫ويرشده بكالم يكاد يكون مهموسا في قلبه‪ ،‬ما أحوجنا إلى شيخ مثل عمي‬
‫علي‪ ،‬يخاطب قلوب الناس ويستميل عقولهم وال ينفرهم ويبغضهم‪ ،‬كان‬
‫الشيخ مالذا روحيا للناس‪ ،‬ال يكل وال يمل من كثرة توارد الناس عليه‪ ،‬وإن‬
‫كنت عبوسا قمطريرا فلم أعتب بابه يوما‪ ،‬ولم أسع للذهاب عنده‪،‬‬
‫فسعيد أقرب منه؛ ألنه يتحاور معه في تخصصه وأعجب بشخصيته‬
‫كثيرا‪ ،‬وبسمته الحسن‪ ،‬وأخالقه العالية‪ ،‬وضحكاته الدائمة‪ ،‬وابتسامته‬
‫املشرقة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫فكرت في الذهاب عند الشيخ لعلي أجد الصديق هناك‪ ،‬خرجت‬


‫بنفس اليأس الذي شدني بعد هروبه‪ ،‬واليأس نبتة منغرسة الجذور في‬
‫جسدي‪ ،‬منذ تعقلي هذا الوجود املضل‪ ،‬بينما أنا ذاهب إلى الشيخ‪ ،‬رن‬
‫هاتفي‪ ،‬كانت إلهام هي املتصلة‪ ،‬تسأل عن جديد سعيد‪ ،‬أخبرتها بأنني لم‬
‫أجد له أثرا‪ ،‬تعالى بكاؤها فتركت خط االتصال وهي تردد‪ ،‬ما أشد رحيلك‬
‫قطعت االتصال‪ ،‬فلم أستطع أن أهدئها‪،‬‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫علي‪ ،‬أرجوك ال تتركني يا سعيد‪.‬‬
‫عدت إلى نفس ي أخاطبها‪ ،‬وأعرض في داخلي صورة صديقي‪ ،‬الذي يمتلك‬
‫ضميرا إنسانيا‪ ،‬شبيها بأسطورة نيمسيس صاحبة الضمير اإلنساني‬
‫والعدلي‪ ،‬التي تريد زرع روح الضمير في اإلنسان‪ ،‬وبهذا ندرك سبب لجوء‬
‫اإلنسان إلى اآللهة‪ ،‬إنما غرضه جعل العالم إنسانيا‪.‬‬
‫وصلت إلى بيت الشيخ وطرقت بابه‪ ،‬وكانت الساعة وقتئذ الثامنة‬
‫والنصف مساء‪ ،‬وهي آخر آمالي إليجاد الصديق‪ ،‬فتح الشيخ الباب‪،‬‬
‫والبسمة تعلو محياه‪ ،‬ومجارف الشيخوخة تزين وجهه‪ ،‬فكأنها أرض مليئة‬
‫بشقوق‪ ،‬تنبت أي حبة تسقط فيها‪ ،‬وتحيي قلوب الناس الجارفة‪ ،‬املصابة‬
‫بالجفاء‪ ،‬وتكلم قائال‪ :‬ما خطبك يا بني؟ ال بد أنك تسأل عن صديقك‬
‫سعيد؟ عادت الدماء وتحسن نبض قلبي في تلك اللحظة‪ ،‬تطايرت فرحا‪،‬‬
‫بعد سماع قول الشيخ‪ .‬أخبرته أنني كنت أبحث عنه منذ مدة‪ ،‬ولم أجده‪،‬‬
‫وعدت إلى البيت‪ ،‬وتذكرت أنه قد يكون هنا معك يا عمي الشيخ‪ ،‬ضحك‬
‫ضحكة صاحبتها وعكة خفيفة‪ ،‬وقال‪ :‬لست شيخا يا بني‪ ،‬ال تسرف في‬
‫كالمك‪ ،‬تفضل واجلس‪ ،‬فسعيد نائم اآلن‪ ،‬قال عمي علي‪ :‬لقد جاء َ‬
‫إلي وفي‬
‫قلبه مشاعر شتى‪ ،‬وتحدثنا طويال‪ ،‬لقد تعب من البكاء‪ ،‬بسبب صدمة‬
‫الخبر الذي جاءه من أمه ليلة البارحة‪ ،‬ولم يخبرك بذلك‪ .‬جلست ورأيت‬
‫سعيد مستلقيا‪ ،‬تظهر عليه عالمات األلم في وجهه‪ ،‬قال الشيخ‪ :‬لقد أكل‬

‫‪121‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫قليال ونام ساعة من الوقت حتى اآلن‪ ،‬وال تقلق ستتحسن حالته حينما‬
‫يستيقظ‪.‬‬
‫قادتني جلسة انتظار استيقاظ سعيد إلى إطالة الحديث مع عمي‬
‫الشيخ‪ ،‬والتقرب منه أكثر‪ ،‬والتحاور معه في مساوئ الدنيا‪ ،‬وكيف قادها‬
‫املال إلى فسادها‪ ،‬وعرفت معه ما لم أعرفه من مشاهير الفقهاء الذين تم‬
‫تغطيتهم وتسويقهم إعالميا‪ ،‬يبدون كلمة واحدة على الشاشة فتلقى‬
‫اهتمام الناس واستأثرهم‪ ،‬وهي في جوهرها ال قيمة لها‪ ،‬شيخنا إذا نطق‬
‫بكلمة حركت فيك مشاعر ماضيك وأنبهتك عن مطالب مستقبلك‪،‬‬
‫وأخرجتك من أسجانك وأشجانك‪ .‬كان منزل عمي الشيخ هادئا‪ ،‬تملؤه‬
‫السكينة‪ ،‬وتسكنه الطمأنينة‪ ،‬شعرت بسكينة شبيهة بإحساس املتصوفة‬
‫في وحدتهم اإليمانية‪ ،‬هم في عزلتهم أقرب إلى أنفسهم‪ ،‬وبهذا يفهمون‬
‫الناس‪ ،‬ويلبون مطالبهم‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬تذكرت إلهام‪ ،‬لم أخبرها أنني وجدت سعيد‪ ،‬استأذنت شيخي‬
‫بالخروج لالتصال بها‪ ،‬وقبل ذلك وجدت أنها اتصلت مرات عديدة‪ ،‬ولم‬
‫ُ‬
‫اتصلت بها وأجابت‬ ‫أجب‪ ،‬كنت قد وضعت الهاتف في وضع صامت‪،‬‬
‫بسرعة‪ ،‬و أول ما قالته‪ :‬قل لي إنك وجدت صديقك‪ ،‬أرجوك أخبرني‪ ،‬لم أر‬
‫طعما اليوم‪ ،‬ولم أذق نوما‪ ،‬أخبرتها أنني وجدته في منزل عمي الشيخ‪ ،‬جاء‬
‫عنده ليشتكي إليه أمرا َ‬
‫حل به ليلة البارحة‪ ،‬وهو نائم اآلن ولم يستيقظ‬
‫بعد‪ ،‬وأرادت االستفسار حول وضعه‪ ،‬وأجلت ذلك إلى الغد‪ ،‬فقطعت‬
‫االتصال‪.‬‬
‫دخلت ووجدت الصديق مستيقظا‪ ،‬أحسست برعشة االطمئنان‪،‬‬
‫لم أتمالك نفس ي حينما رأيته‪ ،‬سارعت إلى معانقته‪ ،‬ضممته إلى صدري‪،‬‬

‫‪122‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ولم ينبس ببنت شفة‪ ،‬حركته ليتكلم‪ ،‬وأخبرته بالقلق الذي عشته ملا‬
‫أخبرتني إلهام بهروبك من املقهى‪ ،‬قلت له‪ :‬بحثنا عنك في أماكن متعددة‪،‬‬
‫وال أثر لك‪ ،‬كأن دروب الرحاب بلعتك‪ ،‬وبعدها عدت إلى البيت غضبان‬
‫آسفا حينما لم أجدك‪ ،‬ولكن ملا تذكرت عالقتك الطيبة مع عمي الشيخ‪،‬‬
‫جئت عنده‪ ،‬فأخبرني بأنك نائم‪ ،‬وجلست معه‪ ،‬نتحدث ونتناقش‪،‬‬
‫والصديق ال يقدر على رفع صوته‪ ،‬إنما هو كمن يتكلم في بئر‪ .‬قال الشيخ‬
‫لسعيد‪ :‬إن صديقك يحبك كثيرا‪ ،‬ال تفرط فيه‪ ،‬لقد قلق عليك‪ ،‬لدرجة‬
‫أنه تتعتع في كالمه ملا فتحت له الباب‪ ،‬ومالمح محياه مسودة‪ ،‬من فرط ما‬
‫لقيه بسبب البحث عنك‪.‬‬
‫وضع شيخي يده على رأس ي‪ ،‬قائال ال ّ‬
‫فرق هللا بينكما‪ ،‬وأسأله أن يديم‬
‫محبتكما‪ ،‬قلت للشيخ‪ :‬لقد اتفقنا يا عم أن يكون البيت الذي يجمعنا بيتا‬
‫يضمنا في كل ش يء‪ ،‬في أحزاننا وأفراحنا‪ ،‬ولكن سعيد لم يفعل ذلك‪ ،‬جاء‬
‫عندك دون أن يخبرني بش يء ما‪ .‬طلب الصديق السماحة وأعتذر‪ ،‬وكانت‬
‫نيته أنه ال يريد أن يشوش عقلي‪ ،‬وأن يزيدني تشاؤما‪ ،‬فربتت على كتفه‪،‬‬
‫وقلت له‪ :‬أي تشاؤم وأي تشويش؟ لقد بتنا مستيقنين أن االحزان تسكننا‬
‫وال تسقطنا‪ ،‬بل هي تزيدنا قوة لنتجاوزها إلى أحزان أخرى تليق بنا‪ .‬قلت‬
‫لسعيد‪ :‬لوال عمي الشيخ لقدر هللا كيف ستكون حالتك اآلن؟ ضحك‬
‫سعيد‪ ،‬ونظر إلى الشيخ فشكره على جميله‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬ال تقل هذا يا‬
‫بني‪ ،‬لم أقم بش يء‪ ،‬قم اآلن ورافق صديقك‪ ،‬وال تتركه مرة أخرى‪ ،‬شارك‬
‫معه ما يضرك‪ ،‬وال تخف عنه شيئا‪ .‬شكرت الشيخ على أفضاله الكثيرة مع‬
‫صديقي‪ ،‬وردد قائال‪ :‬البيت بيتكما واللحاف لحافكما‪ ،‬اذهبا بطريقتكما‬
‫الفضلى‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫عدنا إلى البيت‪ ،‬وسعيد ال تظهر عليه مالمح الراحة‪ ،‬وآالمه لم تخمد‬
‫بعد‪ ،‬كنت أستفسره عن سبب ما أصابه‪ ،‬لكنه رفض الحديث عن‬
‫موضوع ما أصابه‪ ،‬كانت حالته ال تبشر بالخير‪ ،‬جسمه متعب‪ُّ ،‬‬
‫أي مصاب‬
‫أصابه حتى يكون هكذا؟ تغيرت صورته جذريا‪ ،‬لقد كان كثير الضحك‬
‫واملزح‪ ،‬لم يعد كما كان‪ ،‬لبس لباسا آخر‪ ،‬ال أعرف هل يعود إلى صورته‬
‫املعهودة أم ال؟‬
‫استيقظت صباحا وسعيد لم يستفق بعد‪ ،‬ولدينا حصة األدب‬
‫العاملي‪ ،‬مع أستاذ يستلهمنا بكالمه‪ ،‬ويستهوينا بأسلوبه الفريد‪ ،‬وبمعارفه‬
‫الغزيرة‪ ،‬وبطرق تعامله مع الطلبة‪ ،‬والصديق النائم يتشوق إلى حصصه‬
‫دائما‪ ،‬وما عساه في ذلك اليوم لم يحرك ساكنا‪ ،‬قلت‪ :‬ال أعرف ما به‪ ،‬ال‬
‫يريد أن يتحدث‪ ،‬حاولت إيقاظه‪ ،‬استفاق متثاقال‪ ،‬ورفض الذهاب إلى‬
‫الكلية‪ ،‬لشعوره بالقلق وحالته سيئة جدا‪ ،‬وصوته يتقطع بسبب شهقات‬
‫البكاء التي ما زال أثرها منذ ليلة البارحة‪ ،‬ألححت عليه أن يقوم‪ ،‬لكن‬
‫أصر على عدم الذهاب‪ ،‬تركته في راحة ووداعة‪ ،‬وذهبت وحيدا للكلية‪ ،‬وملا‬
‫علي إلهام بشغف تسأل عن حال سعيد‪ ،‬وملاذا‬ ‫دخلت إلى الفصل‪ ،‬أقبلت َ‬
‫لم يأت معي؟ كذبت عليها بأن لديه شيئا مهما‪ ،‬لذلك لم يحضر‪ ،‬وكان‬
‫يظهر عليها أنها لم تصدق كالمي‪ .‬دخلنا الفصل وهي غير مطمئنة‪ ،‬ساكنة‬
‫ال تتحرك‪ ،‬واضعة وجهها على يديها‪ ،‬بقيت أنظر إليها دون فعل ش يء‪،‬‬
‫وبعدها تفاجأت مباشرة بنظرات ندى‪ ،‬بدأت تتأمل مالمحي وتتصفحها‪،‬‬
‫وتتبين حالي‪ ،‬لعلها تصل إلى تشاؤم أشد من التشاؤم املألوف في الفصل‪.‬‬
‫نطقت قائلة‪ :‬اليأس كعادتك يا نديم‪ ،‬هيا اجلس بجانبي فحصة‬
‫اليوم ستكون ماتعة‪ ،‬همست قائال‪ُّ ،‬‬
‫أي متعة وصديقي سعيد ال أقدر على‬

‫‪124‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مساعدته ومعرفة مشكله؟‪ ،‬جلست بجانبها وبدأنا نتبادل الكالم فيما بيننا‬
‫عن محاسن أستاذنا‪ ،‬الذي يعلمنا التفكير والنقد ويقول لنا دائما‪ :‬اعلموا‬
‫أن الجامعة ال دور لها في جعلكم أدباء ومفكرين‪ ،‬بل اجعلوا من أنفسكم‬
‫ذلك بممارسة القراءة والكتابة يوميا‪ ،‬يقول‪ :‬إن أفضل سالح يمكن أن‬
‫تواجهوا به واقعكم املأسوي هو التسلح بالكتابة‪ .‬تماما جميع الطلبة في‬
‫وإن سعيدا من الولهين به‪ ،‬يظل يقلده في لغته‬ ‫الفصل يشيدون باألستاذ‪ّ ،‬‬
‫وأسلوبه‪ ،‬ويتتبع نصائحه وإرشاداته‪ ،‬قالت ندى‪ :‬إن موضوع اليوم هو فن‬
‫الرواية‪ ،‬وقد قرأت عنه كتابا جميال لصديقك ميالن كونديرا‪ ،‬ابتسمت‬
‫ابتسامة خفيفة؛ نوهت فيها بجودة الكتاب الذي قرأته‪.‬‬
‫إن كنت أتحدث معها في تلك اللحظات‪ ،‬فعقلي كله مع الصديق‪،‬‬
‫انتهت الحصة في جو ظريف لطيف‪ ،‬عمه نقاش ماتع‪ ،‬أبرز فيه األستاذ‬
‫أهم املدافعين عن فن الرواية‪ ،‬ومهد بالبدايات األولى لها‪ ،‬وختم املحاضرة‬
‫بآراء كونديرا حولها‪ ،‬بالتركيز أساسا على الكتاب الذي قرأته " ندى"‪ ،‬التي‬
‫أصبحت خلوتها مع الكتب فقط‪ ،‬تخلو مع الكتب حتى يناديها النوم‬
‫بالراحة‪ ،‬وإذا رأيتها في ظاهرها تظن أنها مثل الطالبات املسامرات والليليات‬
‫في الحي‪ ،‬فهي ذات لباس عصري‪ ،‬وتظهر شعرها الطويل للعيان‪ ،‬دون أن‬
‫تكترث آلراء الناس ومقاالتهم‪ .‬بخالف صديقتها آمنة املحجبة املدعية لش يء‬
‫ظاهر ال يوجد في باطنها‪ ،‬وإن كنت أس يء الظن فتصلني عنها أخبار كثيرة‬
‫يتم الهمس بها داخل الفصل‪ ،‬من قبيل ما يسمى بالنكاح الفيسبوكي مع‬
‫أبي البنات‪ ،‬مسعود املشهور‪ ،‬ولكن سمعي ال يصغي ألحاديثهم‪ ،‬فما لم تر‬
‫عيني لن أصدقه أبدا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وملا أردنا الخروج سألنا األستاذ‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬قائال‪ :‬أين زميلكم‬
‫التراثي الفصيح‪ ،‬تغيب عن حصة اليوم‪ ،‬لم أجد له همسا اليوم وال أثرا‪،‬‬
‫يغني به نقاش اليوم‪ ،‬أرجو أن يكون بخير‪ ،‬أخبرته بأنه في موعد حاجة‬
‫ذهب ليقضيها‪.‬‬
‫ضحك األستاذ ضحكة أمل‪ ،‬فقال‪ :‬ال تفرط في ذلك الصديق‪ ،‬إنه‬
‫باحث رصين ومجد‪ ،‬ونطقت إلهام قائلة‪ :‬إنه لطيف أيضا أستاذي‪ ،‬ال يرد‬
‫لنا طلبا‪ ،‬وال تشق عليه املساعدة‪ ،‬ويظل دائما بوجه بشوش‪ ،‬وبدأ الطلبة‬
‫ينظرون إليها وينصتون إلى كالمها‪ ،‬وبعدها قال األستاذ مازحا‪ :‬أرى مصارع‬
‫العشاق ههنا‪ ،‬ارتفعت قهقهات الطلبة‪ ،‬وأحست إلهام ببعض الخجل‪،‬‬
‫ولم تنبس ببنت شفة‪ ،‬وجدت الصمت أنسب لها‪ .‬حرك األستاذ رأسه‪،‬‬
‫فأشار إلينا بالخروج‪ ،‬خرج البعض‪ ،‬والبعض اآلخر اجتمع عليه‪ ،‬ليسألوه‬
‫أسئلة ما‪ ،‬أو يستشيروا معه في أمر معين‪ ،‬أو ليظهروا له أنهم طلبة‬
‫ّ‬
‫مجدون ومهتمون باملادة‪ ،‬وأنهم تخلقت لديهم إشكاالت متعددة‪ ،‬يريدون‬
‫البحث فيها مستقبال‪ ،‬أو أنهم يسعون لتنظيم ندوة علمية‪ ،‬يتم من خاللها‬
‫اإلجابة عن تساؤالت الطلبة املعرفية‪ ،‬هذا هو عالم الطلبة‪ ،‬مليء بالحركة‬
‫والضجيج‪.‬‬
‫خرجت من القسم مهروال‪ ،‬والساعة تشير إلى الواحدة إال الربع‪ ،‬وأنا‬
‫حل به‪،‬‬‫أنوي الذهاب إلى البيت‪ ،‬ألدرك سعيد‪ ،‬وأعلم منه الخطب الذي ّ‬
‫سئمت نفس ي هذا الصباح‪ ،‬حتى الدرس مر عابرا‪ ،‬لم يكن عقلي معه‪ ،‬ولم‬‫ُ‬
‫أنتبه حتى ألحاديث ندى‪ ،‬لم أرع أي اهتمام ملا قالته‪ ،‬عقلت منها رأيها في‬
‫كتاب فن الرواية فحسب‪ .‬وأنا أخرج من باب الكلية‪ ،‬سمعت صوتا أنثويا‬
‫رقيقا ينادي باسم نديم‪ ،‬صوت يشبه رنين ندى‪ ،‬أدرت رأس ي إلى الوراء‪ ،‬إنها‬

‫‪126‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ندى‪ ،‬رأيتها تهرول نحوي‪ ،‬ال أعلم خطبها‪ ،‬كل ما لدي من كالم قد نفد في‬
‫القسم‪ ،‬بم سأحدثها وتحدثني‪ ،‬لتكن شهرزاد‪ ،‬وألكون شهريار‪ ،‬أبقى‬
‫صامتا‪ ،‬وتمأل هي جو املحادثة بالكالم املباح‪ ،‬توقفت أنتظرها‪ ،‬وصلت‬
‫وخاطبتني قائلة‪ :‬أدركتك أخيرا‪ ،‬خرجت كالبرق من القسم‪ ،‬ما خطبك؟ ما‬
‫بك اليوم لم تطل الكالم معي؟ هذا غير معهود فيك معي‪.‬‬
‫علمت مني أن صديقي سعيد ليس بخير‪ ،‬وأنني أسرعت للحاق به‪،‬‬
‫وإدراكه ألطمئن عليه‪ ،‬تحسرت بعدما سمعت ما أصابه‪ ،‬ودخلت في‬
‫املوضوع مباشرة‪ ،‬بأنها كانت تريد أن تعرض َ‬
‫علي أن نراجع مساء في‬
‫املكتبة؛ ألن مساء االثنين فارغ‪ ،‬وال شغل لدينا غير القراءة‪ ،‬تعذر حصول‬
‫ما ترغب فيه ندى‪ ،‬تفهمت املسألة ولم تصر على الدعوة‪ ،‬إن حالة سعيد‬
‫أنقذتني هذه املرة من لقاء في مساء كامل مع ندى‪ ،‬أجزم فيه أنه لن يكون‬
‫في املراجعة كلية‪ ،‬الصديق ينقذني حتى في غيابه من االصطدام بندى‬
‫ومالزمتها وقتا دائما ال منقطعا في الكلية‪.‬‬
‫أطلقت سراحي‪ ،‬ولم أكد أودعها حتى وقفت إلهام تخاطبني‪ ،‬أريد‬
‫الذهاب معك إلى الرحاب‪ ،‬ألطمئن على حالة سعيد‪ ،‬فلم أنم ليلة البارحة‪،‬‬
‫لقد رأيت في مالمحك صباحا‪ ،‬أنه لم يذهب لقضاء حاجة ما‪ ،‬وأصال لم‬
‫تحدثني عن ما حصل له‪ ،‬حينما اتصلت بي وأخبرتني أنك وجدته‪ ،‬ولم‬
‫همست في خاطري‪ ،‬أي مصيبة‬ ‫ُ‬ ‫أعرف منك تفاصيل ما نزل عليه من ثقل‪،‬‬
‫تحل على الواحد إذا تعلقت الفتاة بش يء ما؟ إنها تقدم كل ش يء لتظهر له‪،‬‬
‫أنه الشخص الوحيد الذي تبصره من بين رجاالت العالم‪ ،‬تقوم بأشياء‬
‫جنونية دون وعي‪ ،‬توظف جميع مقوماتها‪ ،‬حتى املحظورة منها‪ ،‬التي تعد‬

‫‪127‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫السالح األخير الذي تمتلكه‪ ،‬وتستغله لتكتسب ثقة عشيقها‪ ،‬لكن إلهام‬
‫لم تصل إلى هذا بعد‪.‬‬
‫أحاول البحث عن مبرر ما‪ ،‬أتخلص به من إلهام‪ ،‬ولكن لن ينفع‬
‫معها ش يء‪ ،‬ستصر كثيرا‪ ،‬وال قدرة لي على إقناعها لكي ال تذهب معي‪ ،‬ال‬
‫علة أقدمها ملنعها‪ ،‬فقررت أن تذهب معي‪ ،‬أما ندى فقد ذهبت إلى املكتبة‪،‬‬
‫مسكنها ومرتعها‪ ،‬لم تنتبه ملا أقوله مع إلهام‪ ،‬وفي وقت مفاجئ جاءت‬
‫صديقتها آمنة‪ ،‬سلمت شيئا لندى‪ ،‬ثم مرت أمامنا ملقية السالم‪ ،‬دون أن‬
‫تقف معنا‪ ،‬مرت بسرعة البرق‪ ،‬بقينا ننظر فيها وهي تهرول‪ ،‬وكأنها في موعد‬
‫مع شخص مهم‪ .‬مازحت الصديقتين‪ ،‬فقلت‪ :‬إنها ذهبت لتصلي وتعبد هللا‪،‬‬
‫أال ترون أنها شبيهة بجلسة املتصوفة في القسم‪ ،‬ال نسمع حسيسها‪ ،‬هي‬
‫مجرد أمانة جامدة‪ ،‬إنها في الحقيقة ال تعرف معنى للكالم‪ ،‬والغريب حينما‬
‫تكون في الساحة مع الطلبة‪ ،‬أراها مرات ومرات مداومة الوقوف والحديث‬
‫مع مسعود أبي البنات‪ ،‬وأما نحن فال مقدرة لها على الحديث معنا‪.‬‬
‫فضحكتا بهمس‪ ،‬وقالتا‪ :‬دعك منها‪ ،‬فهي فتاة متدينة‪ ،‬وال تحب‬
‫حديث الطلبة‪ .‬لم أزد على ضحكتي الخفيفة‪ ،‬سوى توديع ندى‪ ،‬ومصاحبة‬
‫إلهام معي في الطريق إلى رؤية سعيد‪ ،‬وصلنا البيت‪ ،‬وأمرتها باالنتظار في‬
‫الخارج‪ ،‬دخلت وبدا لي أن الصديق استيقظ؛ ألن ضوء البيت املعتم‬
‫مشتعل‪ ،‬لقد كان الصديق غارقا مع كتبه‪ ،‬مستأنسا بها‪ ،‬ومتعالجا‬
‫بمنافعها‪ ،‬يداوي جرحه بالكتب‪ ،‬وظهرت على وجهه بعض التباشير‬
‫املوحية بأنه بخير‪ ،‬وبعد دخولي املباشر‪ ،‬سلمت عليه‪ ،‬فأخبرته أن إلهام‬
‫تنتظره في الخارج‪ ،‬وتريد أن تراه‪ ،‬بقي ساكتا مدة حتى تكلم بكالم خافت‪،‬‬
‫سمعت منه وشوشة فقط‪ ،‬لم يفصح بش يء يبلغني معنى مفيدا‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫جلست‪ ،‬وأنتظر أن يقوم إلى إلهام‪ ،‬ولم يقم‪ ،‬وأخبرته مرة أخرى‪،‬‬
‫ولكن رفض لقاءها‪ ،‬وأصررت على أن يذهب‪ ،‬فالفتاة أتت من أجله‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ال ينقصني سوى صداعها يا نديم‪ ،‬لم تعد الحياة حلوة‪ ،‬طعمها مرير‪،‬‬
‫تكدرت حياتي منذ ليلة أمس األحد‪ ،‬وددت لو شققت األرض حتى أدخلها‪،‬‬
‫أضحى اإلنسان متبعا ملا تقول عنه اإلله الجديد‪ ،‬فظيع حقا‪ ،‬وستكتشف‬
‫فظاعة مؤملة‪ ،‬حينما أخبرك بخبر نزل علي كالصاعقة‪ ،‬دعني اآلن أرى ماذا‬
‫تريد تلك املعتوهة واملجنونة‪ ،‬خرج سعيد‪ ،‬وتفاجأ بعناق مصحوب بدموع‬
‫الشوق من قبل إلهام‪ ،‬بقي الصديق مصدوما‪ ،‬أحس باضطراب‪ ،‬لم تكن‬
‫له ردة فعل سوى االرتخاء‪ ،‬إلى أن بادلها العناق نفسه‪ ،‬اكتشف أن في‬
‫العناقات تضمد الجروح‪ ،‬وتختفي بعض املعاناة‪ ،‬ويحس املتعانقان ببعض‬
‫الطمأنينة‪ ،‬وأصدق عناق هو الذي يأتيك وأنت ال تملك شيئا‪ ،‬ويعرف‬
‫اآلخر أنك ال تملك شيئا‪ ،‬استمر عناقهما مدة طويلة‪ ،‬حتى أخبرت إلهام‬
‫سعيد‪ :‬أنها قلقت عليه كثيرا‪ ،‬وكانت تود أن تعرف منه ما حصل له‪ ،‬حينما‬
‫هرب أثناء مراجعته معها في املقهى‪ ،‬لم يقل شيئا سوى أنه اعتذر منها‪،‬‬
‫فخبرها بأنه سمع شيئا مؤملا من أمه‪ ،‬فشده ذلك ّ‬
‫وأزمه‬ ‫وألحت عليه‪ّ ،‬‬
‫كثيرا‪ ،‬فذهب عند الشيخ ليحكي له أمره‪.‬‬
‫وألن تفاصيل الحادث ستطول‪ ،‬فقد جاء عندي الصديق‪ ،‬فقرر أن‬
‫حل به‪ ،‬وافقت‬‫نذهب إلى الحديقة ومعنا إلهام‪ ،‬ليحدثنا عن األمر الذي َ‬
‫على ذلك‪ ،‬رغم أنني شعرت بالجوع في تلك اللحظة‪ ،‬وطلبت منهما أن يذهبا‬
‫إلى أن آكل شيئا‪ ،‬وألتحق بهما‪ ،‬تم األمر‪ ،‬وألحقت بهما‪ ،‬ووجدتهما سارحين‬
‫في الكالم‪ ،‬تائهين‪ ،‬وبدا على حديثهما الحزن واأللم‪ ،‬ورأيت عينيهما محمرتين‬
‫من كثرة البكاء‪ ،‬اقتربت منهما‪ ،‬وجلست بجانب الصديق‪ ،‬وجدتهما قد‬
‫تحدثا في كل ش يء‪ ،‬وسردا معا حكاياتهما‪ ،‬رغم ذلك أعاد ّ‬
‫علي سعيد ما‬

‫‪129‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫حكاه إللهام‪ ،‬سمعت منه أن أباه الذي يحدثني عنه بسمت أخالقه‬
‫طلق أمه بسبب ُّ‬ ‫ّ‬
‫تمنعها عن أخذ‬ ‫الحسنة والطيبة‪ ،‬ومحاسن القيم‪ ،‬بأنه‬
‫ارثها من أسرتها بعد وفاة أبيهم‪ ،‬لم ترغب أمه في أخذه‪ ،‬لحاجتهم إليه‬
‫كثيرا‪ ،‬تركته ولم تأخذه‪ ،‬ليكون مصرفا لجنازة أبيها‪ ،‬وتزامن ذلك مع عرس‬
‫أختها نهاد‪ ،‬فقررت تركه‪ ،‬فأثار ذلك حفيظة أبيه‪ ،‬فهددها بالطالق‪ ،‬وأمه‬
‫ال تملك سوى أختين‪ ،‬نهاد وجميلة‪ ،‬وال تملكان دخال بعد وفاة أبيهما‪ .‬إال‬
‫ّ‬
‫أن أب سعيد‪ ،‬شعر بالطمع‪ ،‬وتعامت بصيرته‪ ،‬وعاد إلى أرذل العمر‪ ،‬ملا‬
‫رأى في زوجته كنزا ثمينا‪ ،‬يحقق به مطالبه وآمانيه ومساعيه‪.‬‬
‫ّأم سعيد رفضت‪ ،‬واألب أصر على أخذها لإلرث‪ ،‬وملا استحيت من‬
‫مخاطبة أمها في ذلك‪ ،‬وترك أختيها بال مأوى‪ ،‬قرر أن يطلقها‪ ،‬وهذا أمر‬
‫أفجع الصديق وأيأسه وأتعسه‪ .‬حقا مقبلون على كارثة فظيعة وال‬
‫إنسانية‪ ،‬إال أننا مجبرون على تقبل ما نسبح فيه‪ .‬لقد غرقنا في الفظاظة‬
‫اململة‪.‬‬
‫خاطبنا سعيد فقال‪ :‬كنت أرى في أبي رجال تقيا مؤمنا صالحا‪ ،‬كثير‬
‫النصح واإلرشاد‪ ،‬وملا سمعت صنيعه‪ ،‬أحسست بالصدمة‪ ،‬فآخر ما يمكن‬
‫أن أتوقع منه أن يرتكب فعال كهذا هو أبي‪ ،‬فعله لم أتقبله‪ ،‬ترك أمي‬
‫بسبب املال‪ ،‬تركنا بسبب املال‪ ،‬واستدرك قوله متسائال‪ :‬أي ش يء فعلنا‬
‫لنولد؟ ونصادف مثل هذه املآس ي‪ ،‬حياتي اآلن أصبحت بال طعم‪ ،‬البطالة‬
‫والدراسة في الجامعة‪ ،‬وطالق أمي‪ ،‬وحال إخوتي‪ ،‬آيمن وخالد‪ ،‬وأروى‬
‫وسعاد‪ ،‬ما زالوا بريئين‪ ،‬ال يعلمون أنهم مقبلون على مرارة فظيعة‪ ،‬وأنهم‬
‫ولدوا ليزيدوا في نسبة املعاناة‪ ،‬اشتدت حالتي‪ ،‬واختنقت كثيرا‪ ،‬تظلمت‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تحسرنا لحاله‪ ،‬ضممته أنا إلى صدري‪ ،‬وإلهام غارقة في البكاء‪،‬‬


‫فاضت أحاسيسها بشدة‪ ،‬ونحن الفقراء ال نملك شيئا نقدمه سوى‬
‫األحاسيس‪ ،‬تغيرت أحوال سعيد‪ ،‬مالمحه ال تعرف إال الحزن‪ ،‬وكأن حزنه‬
‫هو مطمحه الوحيد ليستمر على قيد الحياة‪ ،‬أصبحت إلهام بجانبه‬
‫تواسيه وتؤنسه‪ ،‬تقدم له كل ما ينقصه‪ ،‬تالشت فيه إلهام‪ ،‬وأصبحا ذاتين‬
‫في ذات واحدة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪13‬‬
‫ندوة المجامالت‬
‫بعد أسبوعين من حادثة سعيد‪ ،‬استعاد حاله‪ ،‬وتداوى وتعافى‬
‫باللقاءات املستمرة مع إلهام‪ ،‬وفور انتهاء الفصل الثالث‪ ،‬عقد منسق‬
‫الشعبة لقاء مع الطلبة‪ ،‬وتم اإلقرار فيه على تنظيم ندوة حول الخطاب‬
‫السياس ي‪ :‬آفاق ورؤى‪ ،‬من قبل بعض أساتذة املاستر‪ ،‬وأساتذة خارج‬
‫الكلية‪ ،‬فسهرنا نحن الطلبة على اللجنة التنظيمية‪ ،‬بإعداد املدرج وتهيئه‬
‫يوم الثالثاء‪ ،‬قبل بدء الندوة بيوم‪ ،‬وكالعادة فأشباه الطلبة يتحمسون‬
‫ملثل هذه املناسبات‪ ،‬ويخططون ويقررون‪ ،‬تراهم في الكالم واالقتراحات‬
‫هم األوائل‪ ،‬يعجبك قولهم وتنفرك أفعالهم‪ ،‬وأثناء العمل يصطفون جنبا‬
‫ويتحدثون في ال ش يء‪ ،‬يمثلون مسرح الالمعقول‪ ،‬اجتمعنا على كيفية‬
‫توزيع األدوار أثناء الندوة‪ ،‬ثم الحضور لتهيئة املدرج يوم الثالثاء‪ ،‬على‬
‫الساعة التاسعة والنصف مساء‪ ،‬حينما حضرت أنا وسعيد إلى الكلية‪ ،‬لم‬
‫نجد أحدا سوى اإلداري املكلف بمدرجات الكلية‪ ،‬وصلنا في الوقت‬
‫املحدد‪ ،‬وبعد مض ي ربع ساعة من مجيئنا‪ ،‬أقبلت بعض الطالبات‪ ،‬جئن‬
‫يتحدثن ويقهقهن فيما بينهن‪ ،‬وكانت ندى وآمنة وإلهام بينهن‪ ،‬أقبلن علينا‪،‬‬
‫قائالت‪ :‬املجدان املتميزان‪ ،‬التراثي والحداثي سبقونا‪ ،‬وظال ينتظران في‬
‫الفراغ‪ ،‬وتسألن عن اآلخرين؟‬
‫أجبتهن بأننا جئنا ولم نجد أحدا‪ ،‬ضحكن وقلن ننتظر نحن أيضا‬
‫قليال‪ ،‬إلى أن يأتي اآلخرون‪ ،‬وبالنظر إلى األصدقاء‪ ،‬فقد رأيت إلهام توزع‬
‫نظراتها على سعيد فقط‪ ،‬الذي انزوى وحيدا لم يتحدث‪ ،‬وقد ألف‬

‫‪132‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الحديث والضحك والدعابة مع الطالبات‪ ،‬أما اآلن فقد تاب عن ذلك‬


‫بسبب أحزانه‪ .‬مشغول بما نزل عليه من األحزان‪ ،‬لم يعد يهتم بأحد‪ ،‬ال‬
‫رغبة له في إطالة الحديث مع أحد‪ ،‬ال يكاد يصدق أنه سقط في خدعة‬
‫الحياة‪ ،‬التي قابلها بوجه البشاشة واللطافة‪.‬‬
‫كنا ننتظر ملدة نصف ساعة‪ ،‬والبقية لم تحضر بعد‪ ،‬بقيت أنا‬
‫أتحدث مع ندى في اإلشكاالت املطروحة في موضوع الخطاب السياس ي‪،‬‬
‫وآفاقه ورؤاه‪ ،‬فال موضوع غير موضوعات الدراسة أرتاح فيها‪ ،‬رغم أنني‬
‫أحمل في قلبي مشاعر فياضة‪ ،‬وبدأنا نناقش أيضا في طبيعة األساتذة‬
‫الذين سيلقون ورقات علمية في هذه املسائل‪ ،‬كنا متحمسين بشدة‪،‬‬
‫للندوة وآفاقها‪.‬‬
‫حديثي مع ندى له طعم خاص‪ ،‬ال يشبه األحاديث العابرة مع‬
‫األصدقاء العاديين‪ ،‬ال أعلم طبيعة اإلحساس الذي أحس به‪ ،‬لم أعد‬
‫أحس بالسأم‪ ،‬أمسيت أبادر إلى الحديث معها‪ ،‬ومناقشتها‪ ،‬هي الطالبة‬
‫الوحيدة التي قدمت معرفتها وثقافتها على اإلثارة واملثيرات الخارجية‪ ،‬لم‬
‫أتناقش معها فيما تحبه في لباسها ومأكلها‪ ،‬وما تكرهه في حياتها‪ ،‬لم نخض‬
‫في التفاصيل التي يسكن فيها الشيطان‪ ،‬حوارنا يشق مفترقا قرائيا‪ ،‬يغوص‬
‫في منابع الكتب ومقبرتها‪ ،‬رابطنا هو عالم الكتب‪ ،‬وال ش يء آخر غير الكتب‪.‬‬
‫أستحضر قول الصديق حينما تنبه إلى لقائنا األول‪ ،‬ملا قال‪ :‬إن ندى‬
‫سترويك‪ ،‬هذه العبارة لم تفارقني‪ ،‬وال تفارقني‪ ،‬ففي كل لقاء يتم بيننا‪،‬‬
‫أتحسس أن قبسا يشتعل في داخلي‪ ،‬لربما مواصفتها‪ ،‬سقطت في صندوق‬
‫أحالمي‪ ،‬هي التي كنت أحلم بها قديما‪ ،‬إال أن قبسها وقع بين شيئين‪ ،‬بين‬
‫حلم انبنى قديما‪ ،‬أبحث فيه عن مؤنسة وبين فكر جديد‪ ،‬أعتبر فيه‬

‫‪133‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الزواج منعرجا خطيرا‪ ،‬نقف فيه على شفا حفرة أخرى‪ ،‬ال نجاة لنا منها‪،‬‬
‫أيكون الحب مغيرا لجميع هذه املعتقدات‪ ،‬وهذه األفكار‪ ،‬إن الحب يقودنا‬
‫نحو تغيير مفهوم الحياة الواقعي إلى مفهوم آخر‪ ،‬من حياة الشقاء إلى‬
‫النعيم‪ ،‬ومن الضاللة إلى الهناء‪ ،‬من الهزيمة إلى االنتصار‪.‬‬
‫بقينا نتناقش‪ ،‬فجأة الحظت حدثا مؤملا‪ ،‬عناق آخر من قبل إلهام‬
‫للصديق‪ ،‬كانا يتحدثان في أمر ما‪ ،‬يفكان عن نفسيهما ثقل هموم النصر‪،‬‬
‫ويخففان عنهما أعباء الدنيا‪ ،‬بما تجود به علينا من مصائب‪ ،‬قالت ندى‪:‬‬
‫إنه موقف رائع يا نديم‪ ،‬ليتنا نجد من يعانقنا ليضمد آالمنا التي لم نبح بها‬
‫لشخص ما‪ ،‬ووقعت أنا في حيص بيص‪ ،‬ال أعرف الطريقة التي أتناول بها‬
‫مثل هذا الكالم‪ ،‬وأفكر في رد سريع‪ ،‬يخفي عني خجلي واضطرابي‪ ،‬قلت في‬
‫خاطري‪ :‬أيعقل أن يجمع هللا شتاتين كتما أمر معاناتهما وأحزانهما عن‬
‫اآلخرين؟ لم أتشارك أحزاني مع فتاة ما‪ ،‬ولربما إن ندى أيضا‪ ،‬لم تبح‬
‫بآالمها ألحد‪ ،‬يعني هذا‪ ،‬أن لنا نظرتين متشابهتين‪ ،‬وإحساسين يالمسان‬
‫بعضهما بعضا في اللقاء‪ ،‬فينبض القلبان معا‪.‬‬
‫جعلت من نفس ي أنني لم أفهم شيئا‪ ،‬فقلت‪ :‬إن العناق جناح من‬
‫أجنحة جبريل‪ ،‬يحمل قلوب العاشقين ليتعانقا في عالم نوراني رباني‪،‬‬
‫وضحكت قائلة‪ :‬الحب ال يريد كل هذا التعقيد يا نديم‪ ،‬تلك العبارات‬
‫املسبوكة واملصفوفة التي يسبكها املتصوفة معقدة‪ ،‬وال نقدر عليها‪ ،‬الحب‬
‫ش يء بسيط‪ ،‬به تحيا قلوب الناس امليتة‪ ،‬فأجسام البشر اليوم بال قلب‬
‫وال إنسانية‪ .‬لم أكد أنطق بكالم‪ ،‬حتى نادت الطالبات‪ ،‬لقد التحق أربعة‬
‫طلبة فقط‪ ،‬ومن بين الطلبة مسعود أبو البنات‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫اجتمعنا في املدرج‪ ،‬لنجهزه ونهيئه‪ ،‬تحمس الطلبة في األول‪ ،‬وبدأنا‬


‫نزين قاعة املدرج‪ ،‬ونجرب مكبر الصوت‪ ،‬ولم تمض إال نصف ساعة حتى‬
‫تراجع بعض الطلبة‪ ،‬مجتمعين في زاوية يتحدثون ويضحكون‪ ،‬أما أنا‬
‫والصديق سعيد‪ ،‬وندى وإلهام‪ ،‬وخديجة امللقبة بالضاحكة‪ ،‬فبقينا نجهز‬
‫ما تبقى‪ ،‬وقمنا بمسح الكراس ي‪ ،‬وإلصاق ملصقات خاصة بالندوة‪،‬‬
‫وإحضار كل ما يخص قاعة املدرج‪ ،‬ومن بينها صورة امللك‪ ،‬التي قالت عنها‬
‫إلهام‪ ،‬وكنت بجانبها‪ :‬عياشيون في كل مكان‪ ،‬يعلقون الصورة كأنهم‬
‫سيتبركون من بركته‪ ،‬فشدتني ضحكة فيها بعض اليأس‪ ،‬فقلت لها‪ :‬لربما‬
‫لم يخبرك سعيدك عن إمارة املؤمنين في املعتقد الجاحظي‪ ،‬فهي ضرورية‬
‫لحفظ اآلمن والسالم‪ ،‬وإن لم يكن هذا متحققا‪ ،‬ابتسمت‪ ،‬وأدارت رأسها‬
‫نحوه‪ ،‬ونظرت ّ‬
‫إلي قائلة‪ :‬ال علم لي بهذه القضايا االعتزالية‪ ،‬فلست في‬
‫مستواكما‪.‬‬
‫كان سعيد ييهئ أسماء األساتذة املشاركين بعد طبعها من اإلدارة‪،‬‬
‫ولم ينتبه إلى حديثنا‪ ،‬وندى التي تعمل بجد‪ ،‬فقد بقيت مع خديجة‬
‫تنظفان الكراس ي‪ ،‬وتهيئان الورود‪ ،‬وأما بقية البنات فقد اجتمعن مع‬
‫مسعود‪ ،‬وبعض الطالب الذين حضروا‪ ،‬فقد كانوا يجلسون على كراس ي‬
‫املشاركين‪ ،‬ويلتقطون الصور‪ ،‬دون أن يحسوا بامللل من ذلك‪ ،‬أمثال‬
‫هؤالء الطلبة يجسدون عاملا من الرذيلة واملذلة‪ ،‬تتعجب من حماسة‬
‫أقوالهم في االجتماع وتجمعات‪ ،‬حتى تكاد تظن بقولهم أنهم سيصنعون‬
‫معجزة ما‪ ،‬ويفتحونك على تخطيطات ال متناهية‪ ،‬العمل الجماعي فيه‬
‫تتعرف على القلوب الطيبة وتلتقي بالرجال الذين يقفون معك إلى آخر‬
‫رمق‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ملا انتهينا من تجهيز القاعة‪ ،‬استرحنا قليال‪ ،‬وجاء الطلبة القابعون في‬
‫أمكنة النزهة ملا كنا نعمل يقولون‪ :‬ما شاء هللا عليكم‪ ،‬وينادون لنلتقط‬
‫صورة جماعية‪ ،‬نغري بها الغائبين‪ ،‬وهم ال يعلمون أن حضورهم أفظع‬
‫بكثير من غيابهم‪ ،‬ونطق طالب‪ :‬ماذا سنفعل مع الذين لم يأتوا؟ سنعاقبهم‬
‫جميعا‪ ،‬تحدثت خديجة بنبرة حادة‪ ،‬فقالت‪ :‬دعونا من هذا الكالم الفارغ‪،‬‬
‫ماذا فعل الحاضرون حتى يفعله الغائبون‪ ،‬اعتذرت وانصرفت‪ ،‬لم يعتد‬
‫على خديجة هذا الغضب‪ ،‬أكيد أنها غير قادرة على تحمل مقدار كبير من‬
‫النفاق‪ ،‬والسخرية واالستهزاء‪ ،‬وبعد انصراف خديجة‪ ،‬انصرفنا معها‪،‬‬
‫دون إطالة الثرثرة مع املتحدثين من املستهزئين‪.‬‬
‫في مساء يوم األربعاء‪ ،‬مع الساعة الرابعة‪ ،‬بدأت الندوة‪ ،‬وبدأ‬
‫الحضور يحضر بكثرة‪ ،‬تسابق الغائبون عن تحضيرات الندوة إلى املبادرة‬
‫للقيام بأعمال خيالية تصويرا وتوجيها‪ ،‬وأما الحاضرون الذين اعتبرونا‬
‫جدتهم‪ ،‬تسابقوا إلى الظهور‬‫مهرجين أثناء التحضيرات‪ ،‬فقد أظهروا أيضا ّ‬
‫في الصفوف األمامية‪ ،‬ليظهروا أنهم العاملون على أشغال الندوة‪ ،‬وأنهم‬
‫الذين وقفوا وما قعدوا‪ ،‬إن تلك املناظر تقترب من أفعال الشياطين‪،‬‬
‫وأظن أنه لن يكيد بنا الشيطان هذا الكيد‪ ،‬ظننا أن الطيبة التي تظهر‬
‫عليهم غير محفورة عليهم‪ ،‬وملا رأيناهم على تلك الحال‪ ،‬وبذلك الحماس‬
‫الزائد‪ ،‬تنحينا جانبا‪ ،‬وتركناهم ليفعلوا كل ش يء‪ ،‬هم شبيهون بتلك‬
‫الفتيات اليائسات‪ ،‬الراغبات في الزواج‪ ،‬واللواتي يحتجن إلى سد حاجتهن‪،‬‬
‫فيذهبن إلى العرس بزينة وجمال بهي‪ ،‬فيقمن إلى الوسط لخدمة جموع‬
‫من النساء‪ ،‬حتى تنتبه إليهن امرأة تبحث البنها عن عروس جميلة بهية‪،‬‬
‫وقادرة على تحمل أعباء البيت‪ ،‬همهن اصطياد زوج‪ ،‬ولو لم يكن يعرفنهن‪،‬‬
‫فكذلك هؤالء الطلبة الذين لم يحضروا أثناء التجهيزات األولية‪ ،‬فحضروا‬

‫‪136‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫أثناء بداية الندوة‪ ،‬لتتعين لألساتذة رؤية جدتهم وحسن عملهم‪ ،‬ورغبتهم في‬
‫نجاح املخفل العلمي‪ ،‬عفوا املحفل‪ ،‬طمعا في مكانة‪ ،‬أو رغبة في تحصيل‬
‫نقطة جيدة‪ .‬األمران متشابهان‪ ،‬ال فاصل بينهما‪ ،‬كالهما يتعالقان مع‬
‫املنفعة والطمع في الظهور‪ ،‬أما نحن البسطاء فال نملك إال وجها واحدا‬
‫اعتداه الجميع في الكلية‪.‬‬
‫كانت ندى تقف أمامي؛ والندوة لم تفتح بعد‪ ،‬وقالت لي‪ :‬اآلن بدأت‬
‫أعرف سر مفارقتك لهؤالء الجماعة املزيفة‪ ،‬بدأت أعي أسرار ولوجك إلى‬
‫ذاتك فحسب‪ ،‬مواقفك تتضح مع األيام وحوادث الزمان‪ ،‬أنظر ماذا‬
‫يفعلون‪ ،‬يظهرون أنهم الذين قاموا بكل ش يء‪ ،‬حتى مسعود رمى بنفسه‬
‫بينهم‪ ،‬أنظر إلى صديقتي التي تبتعد عن التجمعات الذكورية‪ ،‬ألقت‬
‫ُ‬
‫بنفسها تستقبل الحضور‪ ،‬فاتحة شدقيها‪ ،‬ال نعرف املستمد األخالقي الذي‬
‫يغتنون منه‪ ،‬ال نعلم هل يملكون ضميرا يجعلهم يحسون بحقيقة ذاتهم‬
‫قليال‪ ،‬وفي حسرة صاحبتها ضحكة سخرية‪ ،‬قائال‪ :‬أتعرفين سر تفوقنا‬
‫عنهم؟ يا عاشقة أجاثا‪ ،‬ويا شهرزاد املستقبلية‪ ،‬لم أتمم اطرائي حتى‬
‫قاطعت كالمي‪ ،‬فقالت‪ :‬أنتم الناس أيها األدباء اتقوا هللا في قلوب الطالبات‬
‫البريئات‪ ،‬وصاحبت الضحكة تحوريها لبيت أحمد شوقي‪ ،‬فرددت قائلة‬
‫أصبحت شوقية‪ ،‬رددتها وهي ال تدري أن أشواقها حقا بدأت تستوطن‬
‫قلبي‪ ،‬وبلغة حربية تستعمر قلبي‪ ،‬وبلغة رافعية ملا دخلت أشواقها قلبي‬
‫ّ‬
‫غلقت األبواب‪ ،‬فأبت الخروج‪ ،‬لقد كانت مسامرتي الليلية تبدأ بالقراءة‬
‫وتنتهي بالقراءة‪ ،‬وأما اآلن فأنا في الليل يوسفها‪ ،‬فليلي يبدأ بالقراءة وينتهي‬
‫بأشواقها‪ ،‬ندى قمرية سرقت قلبي‪ ،‬يقولون‪ :‬إن القمر سرق ضوء‬
‫الشمس‪ ،‬وهي سرقت قبس ي‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫انطلقت أشغال الندوة‪ ،‬وبدأ املشاركون يلقون ورقاتهم التي يقال‬


‫عنها علمية‪ ،‬أما ما يزكي حقيقتها‪ ،‬فهي مجرد ثرثرة ال محل لها من‬
‫املوضوع‪ ،‬استمعت إلى جميع الورقات بتأن تام‪ ،‬وبعقل حاضر‪ ،‬وآسفت‬
‫كثيرا على الصورة املضخمة التي أعطيت للندوة‪ ،‬تضخيم يناسب التقعير‪،‬‬
‫تضخيم الندوة شبيه بمقابلتها مع املرايا املقعرة فتظهر صغيرة ومشوهة‪،‬‬
‫إننا عالقون في عالم أمست فيه الشهرة املحدد الرئيس لسمة املثقف‬
‫واألساتذة الجيدين‪ ،‬األمر معكوس في الواقع بخالف ما يتم تصويره‬
‫تشهيرا‪ ،‬أساتذة معرفون في حقل تحليل الخطاب السياس ي‪ ،‬ومشهورون‬
‫كثيرا‪ ،‬كنا نسمع عنهم فقط‪ ،‬ولكن تلك الصورة املعلقة في أذهان الناس‬
‫وفي أحاديثهم عنهم‪ ،‬بدت مجرد زيف في الندوة‪.‬‬
‫كلمة واحدة ألقاها أستاذ جاء من كلية الجاحظ‪ ،‬حقيق بها أن‬
‫تسمى كلمة وورقة علمية‪ ،‬أما البقية فاللغط هو سيد الكلمات‪ ،‬تنظيرات‬
‫عبثية‪ ،‬ال أساس لها وال راس‪ ،‬ومفاهيم مضخمة ال مدخل لها يجعلها‬
‫منتمية إلى الخطاب السياس ي‪ ،‬وهذه الندوة صورة عن الندوات التي تقام‬
‫رغبة في ملء امللف العلمي‪ ،‬زيادة في الترقية‪ ،‬ومن ثمة زيادة في األجر‪.‬‬
‫اإلشكال أن هذه الكلمات سيتم طبعها‪ ،‬وجمعها في كتاب جماعي‪،‬‬
‫سامحني هللا‪ ،‬فقد جاء في حديث نبوي‪ ،‬قوله‪ :‬ال تجتمع أمتي على ضاللة‪،‬‬
‫فنعدل عن هذا القول‪ ،‬إلى قول آخر‪ ،‬إن الضاللة بريئة في األساس من‬
‫مثل هذه الندوات‪ ،‬التي تشق طريق البحث العلمي نحو الخسران املبين‪،‬‬
‫يكذبون علينا‪ ،‬ثم يقولون‪ :‬إن طلبة اليوم ليسوا طلبة‪ ،‬اتبعوا أهواء‬
‫الحضارة وأهوالها‪ ،‬فصاروا بعيدين عن القراءة‪ ،‬وال أحكم على الكل‪،‬‬
‫فالشؤم واللوم على من يضع نفسه في مرقاة أستاذية كاذبة‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ّ‬
‫مر سعيد بجانبي‪ ،‬وكنت جالسا‪ ،‬فانحذر عندي‪ ،‬وهمس في أذني‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أي عبث نحن فيه يا نديم؟ فضحونا وشققوا لنا رؤوسنا بأن الندوة‬
‫وطنية‪ ،‬وسيحضرها أساتذة أجالء‪ ،‬وما رأيناه أمر جلل‪ ،‬فذهب وهو‬
‫يحرك رأسه‪ ،‬قلت في خاطري‪ :‬لم تر شيئا يا سعيد‪ :‬فالجامعة مطبخ‬
‫ألكالت غريبة‪ ،‬يتم تزيينها واعتبارها مصنوعة صنعة خارجية‪ ،‬والندوات ال‬
‫تهدف إلى إغناء البحث العلمي‪ ،‬بل يتغيا فيها أصحابها في غالب األحايين‪،‬‬
‫ملء امللف العلمي‪ ،‬من أجل الترقية ال غير‪ ،‬حتى لو كانت ورقته بعيدة كل‬
‫البعد عن موضوع الندوة‪ ،‬ثم يفخر األستاذ بأن مقالي سيخرج في كتاب‬
‫جماعي‪ ،‬عن ندوة ألقينا فيها كلمتنا‪ ،‬والشاهد أنهم حينما يحصلون على‬
‫مبتغاهم‪ ،‬لن تجدهم يعتكفون ولو دقيقة على كتابة ورقة علمية أو ما‬
‫شابه‪ ،‬نحن الطلبة ال ندرك هذا‪ ،‬يصلنا فقط صدى ما يقال‪ ،‬ونرى صورة‬
‫مزيفة يتم تحضريها بعناية في مطبخ ما يسمونه باملختبرات الجامعية‪.‬‬
‫اقتربت الندوة من االنتهاء‪ ،‬حتى يتم فتح باب التساؤالت‪ ،‬تتبعت‬
‫الندوة بدقة‪ ،‬ولم أسجل ملحوظات من شدة السأم‪ ،‬وسئمت من كثرة‬
‫الثرثرة التي سمعتها عن تساؤالت املتدخلين في موضوع اآلفاق والرؤى‪ ،‬وفي‬
‫اإلجابة بدأ املحاضرون يستعرضون عضالتهم اللغوية‪ ،‬ومهاراتهم في‬
‫التواصل‪ ،‬فنسوا املوضوع نسيا منسيا‪ ،‬وما أنساهم الشيطان ذلك‪ ،‬بل في‬
‫مل الحاضرون وبدأوا‬ ‫تركيزهم بسعي كل واحد إلى التفوق والتعالي‪َ ،‬‬
‫ينصرفون‪ ،‬لم تفدهم الورقات بش يء‪ ،‬وإن كنت أصوليا فال أقصد‬
‫بالورقات الكتاب املشهور في أصول الفقه‪ ،‬إنما أقصد الورقات التي‬
‫ّيدعون أنها علمية‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تركت املذكرة خاوية‪ ،‬والقلم بين أسناني‪ ،‬ويدي تنتف شعري‪ ،‬دون‬
‫تسجيل ملحوظات‪ ،‬اليأس ثم اليأس وال ش يء غير اليأس‪ ،‬هذا ليس دليال‬
‫على العمق‪ ،‬بل دليال على طبيعة جو الندوة‪ ،‬الذي يملؤه امللل ويعلوه‬
‫الكلل‪ ،‬وأما طلبة املاستر فيضحكون كأن شيئا لم يقع‪ ،‬يستمتعون‬
‫بالتقاط الصور‪ ،‬واملحادثة فيما بينهم‪ ،‬والبعض اآلخر من الطلبة جلس‬
‫من أجل احصاء الجمال الذي يمأل القاعة‪ ،‬ومبادلة اإلطراءات فيما بينهم‪.‬‬
‫الطعم العلمي الذي كنا نرجوه في الجامعة‪ ،‬أصبح مرا ومرذوال‪ ،‬فيه أشباه‬
‫األساتذة املشهورين عند العامة‪ ،‬بأنهم يجيدون الحديث ويتقنون فن‬
‫الكالم‪ ،‬ويضبطون تخصصهم‪ ،‬وما رأيته يعكس هذا الشأن‪ ،،‬ال نحمل‬
‫عنهم كالما مسبقا‪ ،‬بل إن في جباههم عبارات تبدي لهم حقيقتهم املقعرة‪.‬‬
‫األغبياء من ظنوا أنفسهم عظماء بمحض صدفة الشهرة التي‬
‫يمتازون بها‪ ،‬حتى ولو قالوا كالما عاديا‪ ،‬تتطاير حوله العامة‪ ،‬وتجده‬
‫منتشرا مذاعا بين الناس‪ ،‬فأن تظن بمحض الشهرة أنك السيد في مكانك‪،‬‬
‫تقول كالما فيهتز له خاطر الناس‪ ،‬فهو أمر ّ‬
‫يحق عليه البكاء‪ ،‬ألنه يسهم في‬
‫ترسيخ الغباء ورسم طريق القداسة العمياء‪ ،‬ورحم هللا القدماء‪ ،‬ملا قالوا‪:‬‬
‫لو أخذنا بفكرة ما ترك األولون لألخيرين شيئا ملا وصلنا إلى هذا التقدم‪،‬‬
‫وال دراية لألساتذة الذين ألقوا كلماتهم‪ ،‬أن الحاضرين سئموا منهم‪،‬‬
‫وذهبوا وتركوهم‪ ،‬بقي القليل فقط‪ ،‬انطلقت األسئلة والتدخالت‪ ،‬والش يء‬
‫نفسه بعضها في املوضوع‪ ،‬والبعض اآلخر كأن صاحبها في عالم آخر غير‬
‫املدرج‪ ،‬وطبعا انتهت املداخالت‪ ،‬واإلجابات عنها نحت منحى آخر‪ ،‬لم تعر‬
‫االهتمام أبدا للمتدخلين‪ ،‬انقضت الندوة مع الساعة السادسة‪ ،‬وذهب‬
‫كل إلى مرتعه ومسكنه‪ ،‬وأغلبية طلبتنا باملاستر ذهبوا ليأخذوا صور ذكرى‬
‫مع األساتذة‪ ،‬ليشاركوها مع زمالئهم على مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬انتهت‬

‫‪140‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مهمة إظهارهم في بيع صورتهم املزيفة‪ ،‬وتسويق أنفسهم ليقال عنهم أنعم‬
‫بطلبتنا وحضورهم الوازن‪ ،‬وأقول أنا‪ :‬أبئس بها من ندوة مليئة بالنفاق‬
‫والتزوير ولغط الكالم‪ ،‬وفساد املعارف وتقديس األشخاص‪ ،‬انتهت مهمة‬
‫التصوير‪ ،‬ففر الجميع‪ ،‬كأن الكلية بلعتهم‪ ،‬لم نجد لهم حسيسا وال أثرا‪،‬‬
‫بقينا نحن جنود الخفاء لنقتطع وقتا آخر‪ ،‬نجمع فيه املدرج ونعيد‬
‫املستلزمات التي أحضرناها إلى اإلدارة‪.‬‬
‫جلست على الكرس ي مرتخيا‪ ،‬شعرت ببعض العياء‪ ،‬أحسست‬
‫بالحسرة إثر ما رأيته في الندوة‪ ،‬بقيت أنظر وأتأمل غرق مسعود وعشيرته‬
‫في التقاط السلفيات‪ ،‬كل صورة بتغيير مالمح الوجه‪ ،‬الطالبات ووجوههن‬
‫مملوءة بمساحيق التجميل‪ ،‬يلتقطن صورا دون حد‪ ،‬لدرجة أن العاكسة‬
‫تحس بالدوار‪ ،‬والطلبة يتبجحون فيما بينهم‪.‬‬
‫حملت ندى مذكرتها منزوية في ركنة مع أستاذ أجاد في إلقاء كلمته‬
‫إجادة‪ ،‬ليس أستاذا في الكلية‪ ،‬لقد جاء من كلية الجاحظ لآلداب بمدينة‬
‫السناء‪ ،‬واستحسنت كالمه أنا أيضا‪ ،‬فندى غارقة تتحدث معه‪ ،‬وتتناقش‬
‫معه في مسائل مرتبطة بآفاق تحليل الخطاب السياس ي‪ ،‬لم تغريها متعة‬
‫التصوير‪ ،‬بل أغرتها متعة أخذ العلم من أفواه العلماء‪ ،‬وأما إلهام فما‬
‫زالت تقدم شهادات الحضور للذين حضروا للندوة من أجلها فقط‪ ،‬ال‬
‫رغبة في االستفادة‪ ،‬يريدون شهادات الحضور ليزيدوا بها عدد الساعات‬
‫املطلوبة ملناقشة أطروحة الدكتوراه‪ ،‬وقد يسرنا مهمة أخذها؛ ألننا قد‬
‫أعددناها وبتوقيع من منسق الشعبة‪ ،‬فتكلفت إلهام منذ بداية دخول‬
‫الحاضرين بتسجيل أسمائهم ثم تقديمها‪ .‬من كانوا يرغبون في أخذها فقد‬
‫صبروا حتى انتهت الندوة‪ ،‬وأما املساكين الذين أتوا حبا في االستفادة‬

‫‪141‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫فسرعان ما انصرفوا بسبب أعمال الندوة الرديئة‪ ،‬والرداءة سكنت في كل‬


‫ش يء‪ ،‬أصبحنا نستنشقها في كل مكان‪ ،‬الرداءة صنيع إنساني يشق طريق‬
‫الذيوع واالنتشار‪ ،‬وانتشارها في الجامعة يوقفنا على معلم من معالم‬
‫التفاهة التي ستكون منبع الطلبة ومطلبهم ورواءهم‪ ،‬وإننا سنعلن صالة ال‬
‫ركوع لها عن البحث العلمي‪ ،‬وعن ش يء يسمى الجودة في الجامعة‪.‬‬
‫بينما أنا مستمر في الجلوس وقف سعيد أمامي‪ ،‬قائال‪ :‬إن ما تلفظ‬
‫به بعض األساتذة ههنا‪ ،‬أشد فظاظة مما فعله أبي‪ ،‬فالبحث العلمي دخل‬
‫محكا من املتاجرة والربح‪ ،‬لحن في الكالم‪ ،‬ومغالطات معرفية‪ ،‬وادعاء في‬
‫فعل فعل من هاته‬ ‫املعارف‪ ،‬ولو تجرأ طالب منا على قول ذلك‪ ،‬أو على ِ‬
‫األفاعيل ألعدوه طالبا يعد عالة على املعرفة وما شابه هذا‪ ،‬والعتبروا قوله‬
‫قوال فاسدا ال معضد له وأساس له‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬أكيد تنادم معك الحال‪ ،‬وخسرت ساعات كثيرة‪ ،‬تحمسا‬
‫منك لهذا اليوم‪ ،‬وفي األخير تبخر حلم حماسك‪ ،‬اعلم أيها الصديق أن ال‬
‫ش يء قابل لنتحسر عليه في هذا املسكن الوجودي‪ ،‬يبقى كل ما يحدث أمرا‬
‫عاديا‪ ،‬ال مجال للندم عليه‪ ،‬وال مدخل لليأس عليه‪ ،‬الجامعة ومطبخها‬
‫أمر معلوم لديك اآلن‪ ،‬وما إن عاينت مشكلة غير محمودة أو غير منطقية‬
‫فال تحمل نفسك على التكلف لرفضها ومعارضتها‪ ،‬فالداء فيها قديم‪،‬‬
‫ويصعب إزالته‪ ،‬فقد تالشت جذوره في مختلف أسوار الجامعات‪.‬‬
‫قال سعيد‪ :‬تعبنا يا نديم‪ ،‬ليذهب هؤالء‪ ،‬لنجمع املدرج‪ ،‬ونذهب إلى‬
‫سجننا الذي يحمل عنا كل أثقالنا‪ ،‬أال ترى يا نديم‪ :‬هؤالء الطلبة ال‬
‫يساعدون أحدا‪ ،‬وال يتركون من يفعل شيئا‪ ،‬على األقل ليخرجوا لننه ما‬
‫تبقى‪ ،‬فقد تعبنا كثيرا‪ ،‬لقد سمحنا لهم‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫خرج جميع الطلبة الذكور‪ ،‬بعد إنهاء الجلسة االستعراضية‬


‫والتصويرية‪ ،‬وبقيت الطالبات معنا‪ ،‬ومن بينهن خديجة التي غضبت ملا‬
‫ُ‬
‫كنا نجهز املدرج‪ ،‬غضبت على نفاق الطلبة وسخريتهم‪ ،‬ووجوههم مليئة‬
‫باملقت والصداع‪ ،‬وهي طالبة شديدة ولينة‪ ،‬وتمزح وتضحك‪ ،‬وقيل عنها‬
‫أمازيغية‪ ،‬موطنها من جبال ريف الحسيمة‪ ،‬هناك البساطة في العيش‪،‬‬
‫واللطافة في األخالق‪ ،‬والظرافة في الكالم‪ ،‬والبراءة في الوجوه‪ ،‬جاءت من‬
‫أعالي الجبال‪ ،‬إلى عالم مدينة النصر‪ ،‬أمال في استكمال مسارها الدراس ي‬
‫والعلمي‪ ،‬وخديجة أقرب إلى التدين بشدة‪ ،‬وصلني أنها حافظة لكتاب هللا‪،‬‬
‫وفيها كل هذه الخصال وال تظهرها‪ ،‬إذا رأيتها حسبتها طالبة عادية‪ ،‬عكس‬
‫آمنة التي تظهر لآلخر أنها على ملة اإلسالم‪ ،‬ومتدينة‪ ،‬وكأنها ترى فينا نحن‬
‫الطلبة أننا من آل قريش املشركين‪ ،‬تتهرب منا وال تضحك وال تمرح‪،‬‬
‫عابسة‪ ،‬ومقيدة‪ ،‬تمرح مع الطالبات فقط‪ ،‬والطالبات يمرحن معنا‬
‫ويضحكن إال هي‪ ،‬آمنة ال أقول عنها إال الخير‪ ،‬وأحسب أنها حرة في حياتها‪،‬‬
‫ولكن الطلبة ال أحد يسلم من ألسنتهم‪ .‬ومع اقتراب الساعة السابعة‪،‬‬
‫انهينا شغلنا في املدرج‪ ،‬وانتهينا من كل ش يء‪ ،‬ولكن بعد خروجنا تفاجأنا‬
‫بصدمة كادت ال تكون مصدقة‪ ،‬فحراس الكلية وجدوا مسعود أبو البنات‬
‫وآمنة في وضع ال يوصف‪ ،‬الصدمة لم تكن عادية‪ ،‬إنها مفجعة حقا‪ ،‬تلك‬
‫املثالية التي كنا نحسبها لصيقة بآمنة زالت وفرت‪ ،‬الطالبات وضعن‬
‫أيديهن على فمهن مستغربات حائرات‪ ،‬أنا وسعيد بقينا مدهوشين مما‬
‫حصل‪ ،‬أخبرنا الحارس أن ما حصل لم يحصل مع األفواج السابقة‪ ،‬ولكنه‬
‫أمر عاد أن يقع في ابن الياسمين‪ ،‬فكثير من طلبة اإلجازة وجدوا في وضع‬
‫متلبس‪ ،‬شبيه بوضع آمنة ومسعود‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ال غرابة أن يفعل مسعود ما فعل‪ ،‬والعجاب أن تفعل آمنة ما‬


‫فعلت‪ ،‬التي ظلت تبكي دون أن تنبس بكلمة‪ ،‬استفسرنا حول ما وقع‪،‬‬
‫فصرخت آمنة‪ ،‬ودون خجل وحشمة‪ ،‬قالت‪ :‬لقد شاهدني ملا خرجت من‬
‫املدرج ذاهبة إلى املرحاض‪ ،‬فتفاجأت بدخوله َ‬
‫علي‪ ،‬ولم أقدر على الصراخ‬
‫ُ‬
‫واملقاومة فحدث ما حدث‪ ،‬تتحدث ومسعود ينظر إليها نظرة احتقار‪ ،‬ال‬
‫قدرة له على الكالم‪ ،‬ونظرته توحي بأن في حديث آمنة ش يء من حتى‪ ،‬أو‬
‫إن‪ ،‬أخبرنا الحارس بكتم ما حصل‪ ،‬فقال‪ :‬كنت أبتغي االتصال‬ ‫فيه َ‬
‫بالشرطة‪ ،‬ولكن سينتشر الخبر بالكلية‪ ،‬وستعتبر فضيحة تنضاف إلى‬
‫فضائح هذه الجامعة ومأساتها‪ ،‬شربنا الصدمة وكتمنا الخبر‪ ،‬تخلخلت‬
‫صورتا مسعود وآمنة‪.‬‬
‫لم تتقبل ندى ما صدر من صديقتها‪ ،‬التي رأت فيها اإلنسانة املؤمنة‬
‫الظريفة‪ ،‬البعيدة عن ارتكاب أي مكروه يس يء بشخصيتها‪ ،‬وسعيد همس‬
‫في أذني بكالم يوحي باالحتقار‪ ،‬ولو كنا نرغب في فعل ش يء كهذا‪ ،‬فلنبتعد‬
‫عن الحرم الجامعي‪ ،‬أي مصاب أصاب الجامعة‪ ،‬لتحدث فيها هذه‬
‫الوقائع؟ نتحمل كل ش يء إال هذا الشلل البئيس‪ ،‬الناس يمتلكون مشاعر‬
‫الجنس ويفرغونها في أماكن خصصت لها‪ ،‬ولكن أن تقودك نفسك إلى‬
‫جعل الكلية مخدعا لهذه األفاعيل‪ ،‬فاألمر حقيق بقدوم فاجعة من‬
‫الغباء‪ ،‬آمالنا يا نديم التي كنا نعلي فيها من شأن الكلية بدأت تخفت‬
‫وتتالش ى‪ ،‬لقد يئست مما أراه اآلن‪ ،‬حقيقة الوجود أنه مأساة فرضت‬
‫علينا‪ ،‬وليتنا نمتلك حظ عدم املجيء إلى هذا الخراب‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪14‬‬
‫المتعة المزيفة‬
‫تخربت صورة آمنة‪ ،‬وازدادت رفعة مسعود‪ ،‬الذي كان يأتي إلى‬
‫الفصل وكأن شيئا لم يقع‪ ،‬ال إحساس له بما وقع من ذنب‪ .‬العدو الداخلي‬
‫قد نخره‪ ،‬وحط من قيمته‪ ،‬العدو املصاحب لنا حتى في أسوأ حالتنا‪ ،‬هو‬
‫الضمير‪ ،‬انعدام ضمير مسعود‪ ،‬جعله يعيش حياة هاوية‪ ،‬حياة ال قيمة‬
‫لها‪ ،‬وأما آمنة فقد غابت عن املشهد‪ ،‬ولم تعد تظهر‪ ،‬الخبر املشكوك الذي‬
‫نعرفه أنها مريضة‪ ،‬وال قدرة لها على املجيء‪ ،‬ولكنه مجرد كذبة‪ ،‬فآمنة كما‬
‫حكى مسعود لسعيد‪ ،‬أنهما كانا في عالقة افتراضية على مواقع التواصل‬
‫االجتماعي‪ ،‬وظال يتحدثان بكالم ال بأس به‪ ،‬في بداية تعارفهما‪ ،‬وبعدها‬
‫تطورت العالقة‪ ،‬وأصبحا مهووسين منفتحين على موضوعات ما بعد‬
‫الثانية عشرة ليال‪ ،‬وهي الساعة التي تصبح فيها جميع اإلناث على نسخة‬
‫واحدة‪ ،‬كانت آمنة تبعث صورها مخلة‪ ،‬كمن ولدتها أمها‪ ،‬بعد أن ألقى بها‬
‫مسعود في مصيدة الحب الكاذب‪ ،‬والكالم الحلو‪ ،‬واألحالم العاهرة‪،‬‬
‫فتالشا بعضهما في بعض فصارا في تواصلهما ليليين‪ ،‬ومسعود ابتغى‬
‫فضيلة االستمتاع بجسدها االيروتيكي‪ ،‬ويريد أن يهمس لها بكالم يسعى‬
‫فيه إلى املتعة الحقيقية بدل االفتراضية‪ ،‬فاملتعة في االفتراض كالقبلة من‬
‫وراء زجاج‪ ،‬لقد أراد كسر الزجاج واستغل فرصة الندوة‪ ،‬فوقع ما وقع‪.‬‬
‫مسعود استغل كبتها‪ ،‬وجهلها‪ ،‬واشتياقها للمتعة‪ ،‬فأسقطها في فخ‬
‫الزواج‪ ،‬الكثيرات اللواتي يبحثن عن فارس أحالمهن في االفتراض‪ ،‬وهن ال‬
‫يعلمن أن ما يبنى في االفتراض سرعان ما يزول‪ ،‬ألن العالقة تكتس ي‬

‫‪145‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫طبيعتها وخصائصها من عالم بارد مليء بالجفاء‪ ،‬والغبيات هن اللواتي‬


‫يحاولن إظهار لطافتهن وحنانهن واهتمامهن لشخص غبي‪ ،‬داخل عالم‬
‫ّ‬
‫افتراض ي مبني على الهشاشة‪ ،‬ومغلف بالخرس‪ ،‬ومليء بالضاللة والفساد‪،‬‬
‫غاية في كسب حب‪ ،‬هو في األساس هدية غير مستحقة‪ ،‬إنهن يعشن في‬
‫أوهام افتراضية داخل عالم افتراض ي‪ ،‬تمس ي فيه العالقة متالشية‬
‫ومتناهية وزائلة وهشة‪ ،‬مشحونة بخصامات هزلة توحي بالغباء العاطفي‪،‬‬
‫وتالسنات بليدة تظهر العمى الذي أصاب العالقات اإلنسانية‪ ،‬هذا‬
‫الجماع البائس‪ ،‬رغبة في متعة مزيفة‪ ،‬كلفنا وجود شجرة عمالقة من‬
‫البائسين واملجانين والحقراء األغبياء‪ ،‬الذين كلفونا بحقارتهم ارتكاب هذه‬
‫الشنائع الفظيظة‪.‬‬
‫وحدثني الصديق أنه ملا ظهرت على آمنة عالمات الهرم‪ ،‬ورأت نفسها‬
‫تطل على عتبة اليأس‪ ،‬حاولت البحث عن شخص يمتعها متاعا‪ ،‬ويسرحها‬
‫سراحا‪ ،‬وترغب في اإلحساس بالحياة‪ ،‬فرأت في مسعود اإلنسان األليق‬
‫واألنسب‪ ،‬فعقدت معه وثاق الصداقة سرا بالحي الجامعي‪ ،‬وهلل العلم بما‬
‫يفعالن في ذلك املكان‪ ،‬واألمر املفاجئ أن آمنة كما حكت لي ندى مخطوبة‪،‬‬
‫وستتزوج قريبا‪ ،‬ولربما هذا ما جعلها تحس براحة تامة فيما صنعت‪،‬‬
‫استغلت خطبتها الستغالل ما تبقى لعقد الزواج في املتعة والحياة‪،‬‬
‫حكايات كثيرة تقال وال ندري ماذا سنصدق؟‬

‫‪146‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪15‬‬
‫مسار‬
‫اقتربت االمتحانات الجامعية النهائية‪ ،‬وبدأ الطلبة يجتمعون‬
‫للمراجعة‪ ،‬يمألون املكتبات والحدائق‪ ،‬لالستعداد الجيد‪ ،‬تبدأ الطالبات‬
‫بالهجوم على الطلبة املتميزين واملتمكنين‪ ،‬طلبة ألفوا الجد واالجتهاد ال‬
‫ينتظرون الدقائق األخيرة للمراجعة‪ ،‬وهؤالء الطالبات الالئي يعتبرن‬
‫ّ‬
‫أنفسهن جميالت وأنيقات‪ ،‬ال يجئن إلى املحاضرات‪ ،‬ولكن يسخرن ما‬
‫يمتلكن من مقومات في استدراج املتمكنين‪ ،‬بتوظيف جميع السبل التي‬
‫تؤدي إلى استيفاء املجزوءات‪ ،‬وحينما تنتهي االمتحانات فسالم عليهن‬
‫وعلى ما يملكن‪ ،‬واملعضلة أنهن يستدرجن الطلبة واألساتذة‪ ،‬ومن ثمة‬
‫فينجحن في إدخال املواد‪ ،‬أما الذين يكافحون ويقاتلون فال حديث عن‬
‫مشاكلهم ومصاعبهم‪.‬‬
‫وال تظهر طالبات املصلحة فقط‪ ،‬بل يظهر املستغلون لحاجة‬
‫الطالبات املعرفية أيضا‪ ،‬هم أولئك املدعون للمعرفة‪ ،‬وهم في الحقيقة‬
‫تحصل في عقلك من املطالب‪،‬‬ ‫فارغو العقول واألدمغة‪ ،‬وإنما مبتغاهم ما ّ‬
‫أولئك الذين يوظفون مواهبهم في استغالل الناس هم في حقيقة األمر‬
‫خبثاء وحقراء‪ ،‬سيأخذون الجزاء األحق بهم‪ ،‬ونسأل هللا الهداية‪ ،‬وممن‬
‫عرفت في الجامعة يفعل هذا‪ ،‬مدعي الفلسفة أدهم شبيه ابن بلدتنا‬
‫أحمد‪ ،‬فهو أصال كما قلت‪ ،‬أدهم ال يعرف معنى هللا‪ ،‬وال يعبده‪ ،‬يرى أن‬
‫الحياة ميسرة غير مخيرة‪ ،‬ولكن هذا ال يمنعني من الحديث معه‪ ،‬فهو‬
‫إنسان وال مشكلة لي معه‪ ،‬وقد كان يخبرني بمعاناته مع صاحب البيت بعد‬

‫‪147‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫التأخير في أداء واجب الكراء‪ ،‬ال يرحمه‪ ،‬ويظل يشاغبه بالكالم‪ ،‬هؤالء‬
‫الناس سيئون غير رحمين‪ ،‬همهم الوحيد هو جمع املال‪ ،‬يسبحون في‬
‫الظلمات من أجل الحصول عليه‪ ،‬يقتلون عليه النفس لتحصيله‪ ،‬النصر‬
‫بجميع الضمائر بلد ال يصلح ألي ش يء‪ ،‬مدينة تحتاج ملرقاة أخالقية‬
‫صاعدة‪ ،‬خباثة األخالق في أهل املدينة تفيض بال حدود‪.‬‬
‫كانت ليالينا متشابهة‪ ،‬طوال سنوات املاستر‪ ،‬تمر من نفس‬
‫األحداث‪ ،‬والكلية تبشر بمآل إنساني كئيب‪ ،‬الحياة في الكلية لم تعد‬
‫تطاق‪ ،‬املشاهد مؤملة جدا‪ ،‬همنا األساس‪ ،‬أنا وسعيد‪ ،‬هو االعتكاف من‬
‫أجل الدراسة‪ ،‬وإنجاز العروض‪ ،‬ال نكل وال نمل‪ ،‬نأخذ بقول العرب‪ :‬اثنان‬
‫ال يشبعان‪ ،‬طالب علم وطالب مال‪ ،‬اآلن ال نطلب شيئا إال العلم‪ ،‬أما املال‬
‫فهو الذي يطلبنا‪ ،‬وقتنا ليله كنهاره‪ ،‬ال جديد سوى القراءة‪ ،‬في الكلية‬
‫صباحا وفي البيت القذر ليال‪ ،‬كنت ألتقي بندى كثيرا‪ ،‬في ساحة الكلية‪،‬‬
‫مهموما وكئيبا‪ ،‬أقرأ في مالمحها كل يوم مشهدا من مشاهد الحياة‬
‫املنتظرة‪ ،‬عشنا أصدقاء طوال الفترة الدراسية دون أن نحب بعضنا‬
‫بعضا‪ ،‬ال أحد يتجرأ على الحديث بش يء يتعلق باملشاعر املتبادلة‪ ،‬كنت‬
‫أقول إنها جاءت لتنقذني من الضاللة‪ ،‬وجئت إليها لتعانق أمال‪ ،‬وننشد‬
‫معا أغنية الخالص‪ ،‬كانت تقول لي عيونها‪ :‬لقد وجدت فيك الحلم الذي‬
‫يراودني في كتبي‪ ،‬وفي أحالمي‪ ،‬وكانت صورتي تنطق بأنني ال أحب الوداع‪ ،‬ال‬
‫أحب الفراق‪ ،‬أحتاج إلى سند يعينني ويؤنسني‪ ،‬ويخفف عني محنة أعباء‬
‫الحياة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪16‬‬
‫ال أحب الوداع‬
‫الصديق سعيد‪ ،‬بعد حادثة أبيه لم يعد يثق في أحد‪ ،‬الحياة عنده‬
‫موبوءة‪ ،‬اصطدم بواقع مؤلم جدا‪ ،‬ونحن على عتبة ختام املاستر‪ ،‬أحس‬
‫بأن إلهام بدأ يخفت اهتمامها به قليال‪ ،‬وخاصة بعد انتهاء الفصل الثالث‪،‬‬
‫كان يحس بهذا األمر ويخبرني به‪ ،‬وكنت أرى ذلك بعيني‪ ،‬قضت مصالحها‪،‬‬
‫وانتهت أشغالها في سعيد‪ ،‬واإلشكال أن الصديق‪ ،‬ذهب معها بعدا من‬
‫أبعاد الصداقة اآلهلة ملبادلة مشاعر الحب‪ ،‬إال أنه وجد في ذلك تمثيال‪،‬‬
‫يحق لنا أن نقول وبصدق تام‪ ،‬إن جميع اإلناث يراودنك إذا وجدن فيك‬
‫ملذة ومبتغى‪ ،‬إنهن يستطعن االستمرار معك في التمثيل الكاذب‪ ،‬ولو‬
‫اقتض ى ذلك أن تكن معهن في خلوة‪ ،‬ال يهمها أي ش يء‪ ،‬تلك املشاعر التي‬
‫كانت تظهر على إلهام‪ ،‬بدأت تذبل‪ ،‬وبالكاد ذبلت‪ ،‬ألن مقصدها انتهى‪،‬‬
‫وغايتها ذهبت‪ ،‬أخذت من سعيد كل ما تريد‪ ،‬وما بدا منها من اهتمام‬
‫يجعل مشاعرها صادقة‪ ،‬ولكن في الحياة الدنيا ال ش يء تعول عليه‪،‬‬
‫فجميع األشياء قابلة لتتغير عنك‪ ،‬الحياة ال تستحق منا إال التظاهر‬
‫بالغباء في النظر إلى األشياء‪ ،‬من كان يتوقع من إلهام هذا الفعل‪ ،‬فقد كفر‬
‫باهلل‪ ،‬وساءت سريرته‪ ،‬وفي الحقيقة فقد اقتنعنا أن عالم اإلناث عالم‬
‫مغبون ال ُمستحق للخوض فيه‪ ،‬والتعلق به لفهم خباياه‪ ،‬فهو عالم‬
‫سروجي متلون‪ ،‬ترى في كل تلون حقيقة مثالية‪ ،‬قابلة للتصديق‪ ،‬عاملهن‬
‫مليء بالحيل من أجل الوصول إلى مصالحهن‪ ،‬وأظن أن مقامات الحريري‬
‫التي يجسد بطلها أبو زيد السروجي‪ ،‬تصف شيئا من كينونة األنثى‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫حدثني الصديق‪ ،‬بأن إلهام‪ ،‬لم تعد تهتم‪ ،‬ودائما ما تضجره‬


‫بنقاشات فارغة ال قيمة لها‪ ،‬تضطر لخلق وشوشة في العالقة‪ ،‬من أجل‬
‫إنهائها‪ ،‬ونعلم أن الضجر بين األصدقاء يؤدي إلى االنفصال‪ ،‬وأعلم أن‬
‫الصديق ال يحب الضجر‪ ،‬وسيضطر إلى إبدالها بصديقة أخرى‪ ،‬إال أنه‬
‫صادق النية ونقي السريرة‪ ،‬يسعى كل مرة إلى الصلح‪ ،‬واألجدر أن يفعل ما‬
‫قاله ميالن كونديرا‪":،‬ال يوجد ما هو أسوأ من الضجر‪ ،‬لذلك أبدل‬
‫الصديقات"‪ ،‬والقولة من رواية حفلة التفاهة‪ ،‬واألصل أن جميع العالقات‬
‫تافهة‪ ،‬وممسرحة ميثاقها وعقدها الزوال‪ ،‬إننا تافهون حينما نسعى‬
‫للبحث عن ش يء يسكن في دواخلنا‪ ،‬ولكن دائما ما يكون هناك عائق يحول‬
‫دون ترك هذه التفاهة‪ ،‬هي وجود أشياء متجاذبة بين شخصين‪ ،‬يكون‬
‫خيطها الناظم هو الحب‪ ،‬إنه السبيل الوحيد‪ ،‬القادر على منحنا قوة‬
‫لتجاوز مكاره حفلة التفاهة التي نسبح فيها‪ ،‬حفلة أكلنا فيها املساوئ‬
‫ونشرب منها املساوئ‪ ،‬وننطق بها باملساوئ‪ .‬وقف سعيد على عتبة االفتراق‬
‫معها بكثرة العتابات‪ ،‬وما صدق شاعرنا العربي في قوله‪:‬‬
‫تصالح عاشقان على عتاب‪ ...‬فما افترقا إلى يوم الحساب‬
‫فال عيش كوصل بعد هجر‪ ...‬ول ش يء ألذ من العتاب‬
‫فال هذا يمل حديث هذا‪ ...‬ول هذا يمل من الجواب‬
‫ملا اقترب موعد إنجاز بحوث املاستر‪ ،‬كانت إلهام ال تفارق الصديق‪،‬‬
‫كانا معا ال يفارقان بعضهما البعض‪ ،‬أنسته ما عاشه في فترة طالق أمه‪،‬‬
‫التي استطاعت أن تتجاوز مرحلة طالقها العصيبة‪ ،‬وكافحت لتقف بجنب‬
‫أبنائها‪ ،‬وتمنحهم بعضا من حاجات الحياة الضرورية‪ ،‬الصديق ّ‬
‫أعد العدة‬
‫على تحقيق أمانيه ومطالبه‪ ،‬رغم ما لقيه وما يراه من بؤس في هذه الحياة‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫كان يقول لي‪ :‬إنني يا نديم على مقربة من اسعاد أسرتي‪ ،‬رغم ما يصيبنا من‬
‫مفاسد في مغربنا الحبيب‪ ،‬ولي طموح كبير بأن أوقد في الناس شعلة‬
‫الضمير امليت واإلنسانية امليتة‪ ،‬وأن أحرك قلب العالم املتوقف عن‬
‫النبض‪.‬‬
‫تلك هي أماني سعيد‪ ،‬وأحالمه‪ ،‬ال يدري أنه ما دمنا مركونين في‬
‫الحياة‪ ،‬ونحن بجانب كومة من املجانين والحمقى واألغبياء‪ ،‬وعبدة اإلله‬
‫الجديد‪ ،‬ومنعدمي الضمير‪ ،‬فال سبيل إلى طلب تغيير العالم وقلبه‪ ،‬ما‬
‫علينا إال السكوت‪ ،‬واالبتعاد عن ضجيج البشرية‪ ،‬واتخاذ الوحدة املهد‬
‫األساس البتغاء االستمرارية دون ألم‪ ،‬وبهذا القول ّ‬
‫أقرت ندى‪ :‬التي غيرت‬
‫نظرة تعاملها مع جميع الناس‪ ،‬بعدما شهدت حدث آمنة التي وصلني أنها‬
‫في بيتي زوجها‪ ،‬وهو ال علم له بما حدث‪.‬‬
‫إلهام فمرة تقف معنا‪ ،‬ومرة تظل لوحدها‪ ،‬ألن غرضها محقق وال‬
‫غاية لها بعد اقتراب انتهاء األسدس الثالث‪ ،‬أما ندى فتتوضأ بالنقاش معي‬
‫كما تقول‪ :‬وهي اآلن في وحدتها مع بحث تنجزه عن ميالن كونديرا‪ ،‬تبتغي‬
‫فيه دراسة فعل القراءة والتأويل في األعمال الروائية للكاتب‪ ،‬وال تظهر في‬
‫الكلية‪ ،‬إال إذا أرادت أن تحدثني في أمر ما يخص بحثها‪ ،‬وفي يوم شتائي‬
‫مسائي‪ ،‬نسمع فيه قطرات املطر في خزانة الكلية‪ ،‬وسعيد جالس يطلع‬
‫علي ندى كالما‪ ،‬شبيه بمن خدش قلبي‪ ،‬وألقى‬ ‫على بعض الكتب‪ ،‬ألقت َ‬
‫فيه شعلة من نار‪ ،‬أخبرتني أنها ال تحب الوداع‪ ،‬وأنها وقعت في حبي‪،‬‬
‫وقالت‪ :‬تقبل قولي يا نديم أحبك ولكن ال أقدر على الزواج بك‪ ،‬ال أتحملك‬
‫زوجا‪ ،‬بل أريدك بطال أحلم به وأكتب عنه‪ ،‬أحبك بألف كلمة‪ ،‬وأتمنع عن‬
‫الزواج بك بكل لغات العالم‪ ،‬ال أريدك وال أتحمل ظلك زوجا‪ ،‬دعني أحبك‬

‫‪151‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫علي الغيث من حزنك‪ ،‬ما يشفي أحزاني‪ ،‬إني أتوضأ‬ ‫كما أريد‪ ،‬وامطر ّ‬
‫بحزننا ألصلي صالة الوداع الذي ال أحبه‪ ،‬وألضع صورتك أمام كل رواية‬
‫سأكتبها‪ ،‬وأمام كل حزن سأعيشه‪ ،‬أعلم أنني تأخرت إلخبارك بهذا‪،‬‬
‫وأستيقن أنك صادقتني في صداقتنا‪ ،‬ونحن على أبواب مناقشة البحوث يا‬
‫غل الحب‪ ،‬وشدة أمله‪ ،‬فنحن املهووسين‬ ‫نديم‪ ،‬أخبرتك بما في صدري من ّ‬
‫بالقراءة‪ ،‬مشاعرنا معطلة‪ ،‬ال تشتغل إال عند الوداع‪ ،‬ونحن القراء‪،‬‬
‫يصعب أن نجد شخصا يستحق الحب‪ ،‬إن الصديق بمثابة كتاب يستحق‬
‫القراءة بعد االنتهاء من قراءته واالستمتاع به‪ ،‬ومن ثمة فأنت صديق‬
‫تستحق الحب‪ ،‬بعد سنتين من األحداث الشيقة املاتعة‪.‬‬
‫تأملت كالمها جيدا‪ ،‬واألمر الحقيق بالقول‪ ،‬أنني لم أقل شيئا‪ ،‬فقد‬
‫أبلستني بكالمها‪ ،‬ولم تترك لي فسحة للحديث‪ ،‬قلت لها‪ :‬إن هللا هو من‬
‫يلقي بالحب في قلوبنا‪ ،‬وال مدعاة إلنكاره‪ ،‬أقول هذا الكالم‪ ،‬وفي قلبي‬
‫ضرب من معاني "إنما" كما يقول الجرجاني‪ ،‬كتمت كل ما في قلبي‪ ،‬وهدأت‬
‫خاطرها بأن إحساسها تجاهي‪ ،‬شرف ال متناه‪ ،‬نخاف أن نحرقه‪ ،‬حتى ال‬
‫ّ‬
‫يخلف في قلبنا نارا ال متناهية‪ ،‬اعتبرتها جودو املنتظر‪ ،‬ولكن والحق يقال‪،‬‬
‫فال نستحق نحن أبناء الجنوب الشرقي حبا‪ ،‬وما شابه‪ ،‬نحن في قرى‬
‫منسية وفي مكان منس ي معتوه‪ ،‬يملؤه الحقد والبغض‪ ،‬عاطلون عن‬
‫العمل‪ ،‬قريبون من التشرد‪ ،‬بعيدون من السعادة‪ ،‬ومتشبثون بالتشاؤم‪،‬‬
‫يائسون من الحياة‪ ،‬بعيدون عن الحياة والحب‪ .‬ولكن متشبثون بالحياة‪،‬‬
‫مرافقون لألمل‪ ،‬وصادقون في كل ش يء‪ ،‬صادقون في الحب‪ ،‬ولكن لن‬
‫نفعل به شيئا حتى وإن اعترفنا به‪ .‬إنها تحبني حقا‪ ،‬وأحبها‪ ،‬لم أخاصمها‬
‫يوما‪ ،‬ولم تخاصمني‪ ،‬رغم اعترافها بحبي فقد بقينا أصدقاء دون أن نعاتب‬
‫بعضنا‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ومنذ شتاءة ذلك اليوم‪ ،‬في الخزانة‪ ،‬لم نر بعضنا‪ ،‬كنت أقول‪ :‬كيف‬
‫يحدث ذلك وقد ألقت بما في قلبها لشخص تافه؟ ال يعرف في الحب سوى‬
‫الصمت‪ ،‬فلتكن في أمان‪ ،‬إنني أحبها‪ ،‬بكل أحاسيس ي‪ ،‬لكن الحب وحده في‬
‫هذا الزمان ال يكفي‪ ،‬حتى لو كانت التي تحبك حبا ال مقاس له‪ ،‬فأحيانا‬
‫يكون الواقع املحدد الرئيس لطبيعة استمرار األشياء من عدمها‪ ،‬ويكون‬
‫أيضا أساسا محددا لتحقق أحالمنا وخياالتنا‪ ،‬الحلم بالحياة السعيدة في‬
‫واقع ال يعرف إال تباشير اإلله الجديد فهو أمر مستحيل‪ ،‬فإلهام كانت‬
‫مثالية‪ ،‬تظاهرت بأخالق محمودة طيلة املوسمين‪ ،‬غاية تحقيق مسعاها‪،‬‬
‫حتى األخالق التي نتلبس بها‪ ،‬أمست أداة سحرية اغوائية عند الحقراء‪،‬‬
‫جميع الناس يجرون أذيالهم ويرفعون رؤوسهم‪ ،‬للوصول إلى مبتغاياتهم‬
‫املنشودة‪ .‬إنني تعبت من فقدان الناس الذين أحبهم‪ ،‬وال قدرة لي على‬
‫فقدان ندى‪ ،‬إنني ال أحب الوداع‪ ،‬ولكن للواقع كلمة الحسم في هذا‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪17‬‬
‫حيوان أنفوميديا‪" :‬إعالمي سياسي"‬
‫وصلت معك عزيزي القارئ محطة اللقاء األخير‪ ،‬فقد اشتقت‬
‫ملحاورتك والحديث معك‪ ،‬ومبادلتك بعض األحاديث‪ ،‬سأحدثك في هذا‬
‫اللقاء عن حيوان أنفوميديا‪ ،‬أو ما يسمى اإلعالمي السياس ي‪ ،‬وقرأته في‬
‫كتاب ال أتذكر اسمه واسم كاتبه‪ ،‬إال أنني أتذكر باألساس مضمونات‬
‫الكتاب وموضوعاته‪ ،‬وإن كنت قارئا عميقا فستؤوب إليه لترى ذلك‪ ،‬املهم‬
‫أننا في لقاء أخير‪ ،‬وفي موضوع آخر وأخير‪ ،‬دعنا نتحدث عن طبيعة اإلعالم‬
‫في مغربنا الحبيب‪ ،‬مغرب املأساة والضاللة‪ ،‬فحيوانات أنفوميديا كثيرون‬
‫عندنا‪ ،‬إعالميون ضالون فاشلون‪ ،‬ال انتماء لهم سوى الدفاع عن‬
‫السياسية الفاسدة‪ ،‬ونشر التفاهة والغباء في الناس‪ ،‬ما تكرسه الجامعة‬
‫من جهل‪ ،‬يتمه اإلعالم بجهل آخر‪ ،‬الصحفيون النزهاء في وطننا سرعان ما‬
‫تبتلعهم اإلغراءات املادية‪ ،‬واألموال الطائلة التي تعرض عليهم‪ ،‬لتغيير‬
‫بدلتهم ومواقفهم تجاه سياسة البالد‪ ،‬وانتقالهم من معارضين إلى مؤيدين‪.‬‬
‫بدا لك أن معتقدات اإلله الجديد ترسخت في جميع األمكنة‪ ،‬حتى‬
‫في السياسة امللعونة‪ ،‬السياسيون اإلعالميون ملعونون‪ ،‬املدافعون عن‬
‫تظلمات الدولة ومفاسدها‪ ،‬ويجعلون ما تفعله األحزاب شيئا محببا لدى‬
‫الشعب‪ ،‬الصورة اإلعالمية صورة توحي بحيونة اإلنسان‪ ،‬وتكريس سياسة‬
‫الجهل والعبودية والجمود والكسل‪ ،‬وما شابه هذه املسائل‪.‬‬
‫إن أشد معضلة يمكن أن تحل باإلنسان‪ ،‬هو حينما ال يجد من يبلغ‬
‫صوته ورسالته‪ ،‬ومن يدافع عن مطالبه‪ ،‬حينما يجد إعالمه إعالما‬

‫‪154‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫سياسيا ومن ثمة حيوانيا‪ ،‬ال ينقل إال الفضائح واملطبات‪ ،‬قد تعرف‬
‫عزيزي القارئ‪ ،‬شخصيات إعالمية لم تتضامن ولم تترابط مع السياسة‬
‫فكان مصيرها الخفوت والفشل‪ ،‬والسجون‪ ،‬وتعرف شخصيات عارضت‬
‫النظام السياس ي‪ ،‬ونقلت الفضائح البرملانية فكان مآلها العقاب في سجن‬
‫يتجرعون فيه مآس ي كثيرة‪ ،‬ويتذوقون فيه أشد العقابات‪ ،‬ويجلسون على‬
‫قرعة نكحت املاليين من األبرياء الذين دافعوا عن مطالب الناس‪ ،‬فولدوا‬
‫األلم والبكاء‪ ،‬أي حسرة عزيزي القارئ تشدنا وتشدك إذا رأيت اإلعالم‬
‫املشهور عندنا‪ ،‬ينقل فضائح الكبت والجنس والقتل واالنتحار والخبث‪،‬‬
‫هم أسرع من سرعة الضوء في نقل جميع الفضائح‪ ،‬وهم أثقل من‬
‫السلحفاة في نقل مطالب الشعب ومعاناتهم‪ ،‬نأسف األسف الشديد‬
‫عزيزي القارئ‪ ،‬الصمت ألذ ش يء لنتقبل ما نسبح فيه‪ ،‬ولنكن مع هللا وإلى‬
‫هللا مصيرنا‪ ،‬هللا الذي رتب هذا العالم ترتيبا مثيرا‪ ،‬وهذه عبارة من الرمل‬
‫للويس خورخي بورخيس‪ ،‬فاهلل قادر على أن يزرع في قلوبنا ما نستطيع به‬
‫العيش مع متبعي اإلله الجديد‪ ،‬والقادر على منحنا قوة غير محصورة من‬
‫الصبر‪ ،‬لنتأمل نوافذ هللا‪ ،‬ولنتدبر خلقه‪ ،‬ولنترك اإلنسان فهو فاجعة‬
‫صغرى‪ ،‬نتذوق مفاجعها كل يوم‪ ،‬حتى في الحريم الجامعي‪ ،‬وقصدي الحرم‬
‫الجامعي‪ ،‬وأذكرك بقول يعجب ندى أن تردده دائما‪ ،‬وأحسبك تعرفها‬
‫جيدا‪ ،‬وأكثر مني‪ ،‬إنها تردد عبارة مليالن كونديرا من رواية البطء‪ ،‬وهو‬
‫قوله‪" :‬من يتأمل نوافذ اإلله ال يسأم‪ ،‬بل يكون دوما سعيدا"‪.‬‬
‫تأمل نوافذ هللا يبقينا على استمرارية لتقبل هزيمة الحياة عزيزي‬ ‫ُ‬
‫القارئ‪ ،‬وتقبل حيوانية أنفوميديا‪ ،‬وتجرع جميع مآسينا‪ ،‬ومن لطيف ما‬
‫قرأت البن عربي في رسائله‪ ،‬وأحب أن أشاركه معك في وصله بفكرة تأمل‬
‫نوافذ اإلله‪ ،‬قوله‪" :‬ما خلقت لك اإلدراكات إال لتدركني"‪ ،‬معنى هذا أن هللا‬

‫‪155‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تعالى منح اإلنسان حواسه إلدراكه والتأمل في بدائعه دون مجاوزتها إلى‬
‫ُ‬
‫ش يء آخر‪ ،‬ويتطابق هذا القول مع نص لإلمام السهيلي وجدت ُه في صنيع‬
‫البغدادي "خزانة األدب"؛ إذ يقول‪ :‬إن الصيغة الصرفية والتركيبية‬
‫للحواس اإلدراكية لدى اإلنسان تتعدى إلى مفعول واحد فقط"‪ ،‬وفس ُر‬
‫هذا أن حواسنا منحت لنا لعلة غائية واحدة‪ ،‬هي إدراك عظمة هللا‬
‫عزوجل ال غير‪ ،‬ويتطابق هذا املعنى مع صيغة املدركات والحواس‬
‫الصرفية‪ ،‬لكونها تتعدى إلى مفعول واحد فحسب‪ ،‬ومن ثمة فتتناسب مع‬
‫فكرة أن هللا منحنا إياها لندركه وحده ونتأمله‪ ،‬دون تأمل ش يء آخر‪ ،‬ونحو‬
‫هذا قولنا‪" :‬سمعت الخبر‪ ،‬وأبصرت األثر‪ ،‬ومسست الحجر‪ ،‬وشممت‬
‫الطيب‪ ،‬فهي أفعال ذات خصيصة ربانية نورانية‪ ،‬أساسها إضاءة طريق‬
‫االستقامة وازاحة ظلمة الحياة‪ ،‬فلنزح ظلمة الحياة وعبثها وفسادها‪،‬‬
‫بعدم حمل الحياة على محمل الجد‪ ،‬وعدم التفكير في تغييرها إلى األحسن‪،‬‬
‫وبتأمل عالم الالهوت‪ ،‬وإن كنت ال أحب الوداع أيها القارئ‪ ،‬فالوداع سنة‬
‫الحياة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫‪18‬‬
‫فاجعة الوالدة‬
‫اإللقاء باألطفال في هذا العالم اليائس واملرعب‪ ،‬عمل فظيع ومؤلم‪،‬‬
‫بسبب أنانية تواقة‪ ،‬غايتها تحقيق السعادة‪ ،‬وإن إنجاب األطفال أفظع‬
‫جريمة يقترفها اإلنسان‪ ،‬وصدق سوفوكليس ملا قال‪" :‬الحظ األعظم يعود‬
‫ملن لم يولد بعد"‪ .‬الحياة غبية ومرعبة‪ ،‬ال ينبغي حملها على محمل الجد‪،‬‬
‫ال تعلمك شيئا‪ ،‬وال تفيدك بش يء‪ ،‬وأكذب ما يكتب قولهم‪ :‬علمتني الحياة‪،‬‬
‫وأبخس ما يكتب قولهم‪ ،‬كن سعيدا‪ ،‬وكيف تحقق السعادة؟ صورة‬
‫الحياة بخيسة وزائفة‪ ،‬تلميعها للناس ش يء نأسف عليه كثيرا‪ ،‬وتحبيبها‬
‫إلينا أمر مجحف حقا‪ ،‬هذه هي العبارات التي يرددها سعيد‪ ،‬ويعيدها كلما‬
‫جلست معه في البيت‪ ،‬تلك الضحكة والبسمة التي ينعم بها وتمأل محياه‪،‬‬
‫تالشت وإن وما زاده بؤسا‪ ،‬أنه صار يمقت شيئا اسمه الفنون الجميلة‪،‬‬
‫إنه أصبح متشبثا بفكرة شوبنهاور‪ ،‬إن املرأة تسهم في امتداد الشر‬
‫وتوالده‪ ،‬لم تعد له الرغبة في الخروج‪ ،‬يكرس اهتمامه على دراسته فقط‪،‬‬
‫دائما يسألني إنني أود الثأر على الوضع‪ ،‬أريد البحث عن حقوقي‪ ،‬أصبحنا‬
‫نتشارك في التشاؤم واملأساة‪ ،‬صرنا الوحيدين البائسين‪ ،‬نتألم وال أحد‬
‫يسأل عنا‪ ،‬أما نحن فما إن رأينا أبسط حالة سنتضامن معها‪ ،‬ونكون‬
‫إنسانيين مفرطين في إنسانيتا‪.‬‬
‫ّ‬
‫آخر عقدة أملت بالصديق‪ ،‬أنه علم بإقبال أمه على االنتحار ملا جاء‬
‫أبوه إلى بيت أمها‪ ،‬فهددها بالقتل‪ ،‬ما لم تأخذ إرثها‪ ،‬شده الطمع إلى مالها‪،‬‬
‫ولم يشده الحنين إليها‪ .‬يظنون أن األبوة هي جماع بائس وبشارة بمولود‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫أيها الناس فما لم يكن اإلنسان قادرا على تحمل ثقل األبوة وشدتها‪ ،‬فال‬
‫ينجب أبناء‪ ،‬يلقي بهم في عالم املأساة‪ ،‬ويلقي بنفسه في عالم الندم‬
‫والصرخات والضجر واملحاكم‪ .‬األبوة ليس مسعاها اإلنجاب‪ ،‬واملتعة‬
‫واللذة‪ ،‬بل املسعى املنشود منها‪ ،‬هو قدرتك على تحمل عبء ما ستنجبه‪،‬‬
‫إنك أمام فاجعة خرجت منك وتكبر أمامك وأنت ال تعرف كيف تحدد‬
‫مصيرها‪ ،‬واستيقنت أن مصيرها موكول إلى هللا‪.‬‬
‫بعد حادث االنتحار ذهب سعيد لزيارة أمه رغم ثقل البحث الذي‬
‫ألم به‪ ،‬ولكن ال مانع يقف أمامه إلكمال مساره الدراس ي‪ ،‬وجد أمه في حال‬ ‫ّ‬
‫بئيسة مؤملة‪ ،‬كأنها مقبلة على الوداع‪ ،‬لم تتقبل صدمة زوجها‪ ،‬كل هذا‬
‫رغبة في اإلرث‪ ،‬رغبة في اتباع تباشير اإلله الجديد‪ ،‬املال أفسد علينا‬
‫الحياة وقزمها‪ ،‬لم يكد سعيد يتقبل حال أمه ووضعها‪ ،‬واملشكل أنه عاجز‬
‫عن فعل أي ش يء‪ ،‬تألم سعيد قائال ملا عاد من الزيارة‪ :‬ينبغي باألساس يا‬
‫نديم قلب سنة الحياة‪ ،‬فالوالدة مناسبة تقتض ي تعزية وعزاء‪ ،‬مصحوبة‬
‫بأنشودة الصراخ ملدة يوم كامل‪ ،‬واملوت بمثابة فرح لالنتقال من حياة‬
‫الفاجعة إلى حياة املجد والخلود‪ ،‬مناسبتها الفرح والسعادة‪ ،‬نظرا لتخلص‬
‫صاحبها من أعباء الحياة ومفاجعها‪.‬‬
‫أراد سعيد أن يحرك قلب العالم الجامد‪ ،‬وقلوب الناس األصمة‬
‫والباردة‪ ،‬وابتغى أن يوقظ مشاعرهم امليتة‪ ،‬كان يحمل عن العالم صورة‬
‫األمن والسالم واملحبة والعدالة‪ ،‬وبعدها اشتدت املعاناة عليه‪ ،‬ولم يعد‬
‫قادرا على مواجهة مزق الحياة‪ ،‬كان إنسانا فضيال‪ ،‬ومفرطا في إنسانيته‪،‬‬
‫يقابل وجوه الناس املليئة بالحقد والبغض والنفاق‪ ،‬ومفظعات مساوئ‬
‫األخالق‪ ،‬بوجه بشوش وضاحك‪ ،‬ال يتردد في مساعداتهم‪ ،‬سعيد اسم على‬

‫‪158‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مسمى‪ ،‬يبحث عن سعادته وسط جحيم اإلنسان‪ ،‬لعله أفرط في إيمانه‬


‫كثيرا‪ ،‬وتعلق بتعامالت دينه الحنيف‪ ،‬ولم يكن يعلم أن العالم اآلن ال‬
‫يؤمن بذوي الفضائل النبيلة وأخالقهم‪ ،‬واإلنسان اليوم ال تهمه إال‬
‫مصالحه الخاصة‪ ،‬لقد أنشد العالم أغنية الوداع بلحن شيطاني على‬
‫إنسانيته‪.‬‬
‫غابت اإلنسانية وتبدد املشترك اإلنساني حينما حضرت املصالح‪.‬‬
‫اإلنسان يا سعيد لم يعد ُيق ّدر ِنعم ّ‬
‫الرب‪ ،‬لقد ماتت فيه نسائم الحياة‪،‬‬
‫ومات في قلبه اإلله الواحد‪ ،‬صار يعبد آلهة أخرى‪ ،‬يمجدها ويبجلها‬
‫ويقبلها حتى في فترة ضعفه‪ ،‬إله النفس‪ ،‬وإله املال والجحيم‪ ،‬الخبث هو‬
‫سمة هؤالء الحقراء صديقي‪ ،‬فكر في نفسك‪ ،‬وناشد ربك أن تغير طريقة‬
‫تعاملك‪ ،‬إن الشجرة العمالقة للعالم متجذرة من فرج امرأة أخرج أهواال‬
‫من البشرية البائسة‪ ،‬لست مع فكرة خلقها من الضلع األعوج‪ ،‬ولكن‬
‫صرت أؤمن بفكرة أن والدة اإلنسان تعد فاجعة شديدة‪ ،‬كل ما في الحياة‬
‫مرعب وهائل خرج من بطن صغير‪ ،‬بؤساء في أرضنا وغرباء عن‬ ‫ٌ‬ ‫أعوج‪ ،‬كم‬
‫ّ‬
‫أنفسنا‪ .‬قد تعلم سعيد من دينه أن املسلمين إخوة وأن هللا يأمرهم‬
‫بالرحمة والشفقة‪ ،‬لكن ما بال اإلنسان أعرض عن هذه القيم‪ ،‬ساء حالنا‬
‫وحالهم يوم نالقيه ويالقونه‪.‬‬
‫أقبل سعيد على االنتحار مرات ومرات‪ ،‬بعد ما تظلمت عليه الحياة‪،‬‬
‫وضاقت عليه كل الفسح‪ ،‬كنت أساعده دائما‪ ،‬أقف أمامه‪ ،‬أسانده‪ ،‬لم‬
‫نفترق يوما‪ ،‬بعدما رأيت فيه كل ذلك البؤس‪ ،‬يحس بالراحة معي ومع‬
‫الكتب فحسب‪ ،‬أما إلهام فال علم لها بحاله‪ ،‬بعدما كانت تعلم عنه‬
‫الصغيرة والكبيرة‪ ،‬لقد تركته‪ ،‬حتى في تواصلهم على مواقع التواصل‬

‫‪159‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫االجتماعي توحي باضطراب عالقتهم‪ ،‬جميع محاوالته االنتحارية فاشلة‪،‬‬


‫دائما ما يضع صورة أمه أمامه‪ ،‬ليعزم على إعادة نبض قلبه الصارخ‪،‬‬
‫تذكرت قول نيتشه في وصله بمحاولة انتحار الصديق حينما قال‪:‬‬
‫"تستطيع أن تمنع اإلنسان من الحياة ولكن لن تستطيع منعه من املوت"‪،‬‬
‫ُ‬
‫للخالص من هذا‬
‫ِ‬ ‫قلت‪ :‬لربما كان نيتشه مخطئا‪ ،‬دائما ما نبحث عن سبيل‬
‫العالم الحقير‪ ،‬املليء بالحقراء واملستغلين‪ ،‬واملضللين واملصابين بالتفاهة‪،‬‬
‫فشل دون معرفة السبب‪ ،‬وهذه هي حالة الصديق‬ ‫واملنافقين‪ ،‬ولكن ن ُ‬
‫الذي لم يجد من يخاطب فيه إنسانه املفقود‪ ،‬الذي قبضت عليه إلهام‬
‫فرمته في نصف الطريق‪ .‬إن تعامالته الحسنة ال مكان لها في أرض الخراب‪،‬‬
‫يتساءل كيف هوت مبادئ الناس نحو دركات السافلين؟ ال يدري أن‬
‫الناس يتسابقون نحو صناعة أمجادهم مع الشيطان‪ ،‬وأظن أنه بريء‬
‫منهم‪ ،‬فكما قرأنا في الكتب املقدسة إن الشيطان يخاف من هللا وعقابه‪،‬‬
‫لكن اإلنسان خالف ذلك‪ ،‬تزلزلت فيه كل القيم السمحة‪ ،‬وال يخاف هللا‬
‫وخرب‪ ،‬ال يستحق أن‬‫ٌ‬ ‫وال يهابه‪ ،‬عالم الناسوت بتفاصيله اململة مز ٌق‬
‫تتعامل معه بكل جد‪ ،‬ال أمل في إيقاف مأساة العالم‪ ،‬والحد من نسل‬
‫أناسه البؤساء‪ ،‬وجميع محامل الحياة يا صديقي سعيد تافهة‪.‬‬
‫قال سعيد‪ :‬كنت أرى الطيبة في جميع وجوه الناس‪ ،‬أراهم لطفاء‬
‫ظرفاء‪ ،‬وهذا ما جعلني أتجرع كل هذه اآلالم‪ ،‬قلت له‪ :‬ال تتسرع في الحكم‬
‫ّ‬
‫على طيبتهم‪ ،‬تذكر التلون الذي أخبرك به دائما‪ ،‬فتعاليم اإلله الجديد‬
‫تنافي سلوكك تماما‪ ،‬أهاه‪ ،‬كما سمعت‪ ،‬إنه ال يعترف بالطيبين‪ ،‬وال يؤمن‬
‫بالعدالة‪ ،‬واألمر حقيق بالتأمل‪ ،‬لم نعد نحتاج لهذه األشياء‪ ،‬يكفي أن‬
‫تكون هادئا‪ ،‬وأن تنسحب من فضاء الحقارة والسفاهة التي نستنشق‬
‫هواءها كل يوم‪ ،‬الحياة تافهة‪ ،‬ستكتشف العبثية والتفاهة التي تمأل‬

‫‪160‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫العالم‪ ،‬هكذا تكلم اإلله الجديد‪ ،‬تمعن فكرة الشجرة العمالقة التي كانت‬
‫سببا في هذه املأساة‪ ،‬الش يء الذي يعنف الدماغ أيها الصديق‪ ،‬هل‬
‫نستطيع أن نعتنق دين اإلله الجديد؟ لن تجيب طبعا‪ ،‬أعرف أنك لن‬
‫تصدق هذا‪ ،‬ولن أحملك على تصديقه‪ ،‬ولكن ال تأخذ الحياة على محمل‬
‫الجد‪.‬‬
‫مصمص صديقي شفتيه من شدة الحيرة والحسرة‪ ،‬أصر على‬
‫اإليمان باإلنسانية واملحبة والسالم‪ ،‬ولكنه أيقن تماما أن رئيس العالم‬
‫ينكر ذلك في تعاليمه‪ ،‬هو اإلله الجديد أو إله هذا الدهر‪ ،‬فقد أحكم‬
‫سلطته على الناس‪ ،‬وأصبحت مساعيه في عقولهم املعنفة مشروعة‬
‫ّ‬
‫وتخبرني دائما يا صديقي‪ ،‬أن اإلله الجديد‬ ‫ومحمودة‪ّ .‬‬
‫خبرتني نفس ي‬
‫ّ‬
‫لإلنسانية قد علمهم االستمالة واالستدراج والتلبس والتالعب‪ ،‬وأشياء‬
‫كثيرة‪ ،‬يتقنونها بدقة‪ ،‬لدرجة أنه قد ألبسهم قناع الخبث في صدورهم‪،‬‬
‫يتجرعون الحقد والكراهية كل يوم‪ ،‬هم ال يعلمون ما بك‪ ،‬ولن يحاولوا‬
‫ولو مرة‪ ،‬تستكن إلى نفسك‪ ،‬وتبادر إلى تحقيق رغباتهم‪ ،‬يصرون على أن‬
‫تشتري لهم السعادة‪ ،‬وأنت مت فإنك البئيس الذي ال إحساس له‪ ،‬إنهم‬
‫يردون منك أن تكون عبدا‪ ،‬تحقق جميع طلباتهم‪ ،‬يعرضون عليك‬
‫ينومونك بمشاعرهم الكاذبة‪ ،‬لتفتح لهم‬‫مشاكلهم بالجملة لتستجيب‪ّ ،‬‬
‫قلبك‪ ،‬وتطلب أن تساعدهم‪.‬‬
‫لقي من إلهام ما لقي‪ ،‬التي رأته أثناء مناقشة البحوث‪ ،‬وأدارت وجهها‬
‫عنه‪ ،‬قلت له‪ :‬هذا هو اإلله الجديد صديقي‪ ،‬ال يطلب منك أن تمتلك‬
‫الفضيلة‪ ،‬يكفي أن تتلون وأن تلبس ستارة الشيطان املمزقة بالنفاق‪.‬‬
‫فكن لك يا صديقي‪ ،‬وال تكن لغيرك‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫وفي اليوم الذي اجتمعنا فيه ملناقشة بحوث املاستر‪ ،‬أو شبه‬
‫املناقشة أو صورتها فقط‪ ،‬فقد بدت املناقشة مملة‪ ،‬نعلم أن املناقشة في‬
‫الجامعة قائمة على املجاملة‪ ،‬مناقشة األكلة السريعة‪ ،‬دون حضور ودون‬
‫فخر‪ ،‬ودون تقدير ملجهود طالب سهر الليالي‪ ،‬ولم ينم قط‪ ،‬مروا على‬
‫البحوث مرور الكرام‪ ،‬حتى قراءة ما أنجزناه تمت قراءته قراءة باهتة‪ ،‬وفي‬
‫ذلك اليوم جاءت ندى تحدثني بقولها‪ ،‬أرى أن حالة سعيد ليست على ما‬
‫يرام‪ ،‬وهو ينتظر دوره في املناقشة‪ ،‬حالته أشد سوءا من حالتك؟‬
‫تقول ذلك وأنا أنظر فيها وفي مالمحها‪ ،‬وفي لحظة قولها أحبك وال‬
‫أحب الوداع‪ ،‬غرقت ساهيا فيها‪ ،‬وأعدت عقلي إلى رأس ي فقلت لها‪ :‬إن قلب‬
‫صديقي ملتهب بأحالم الحرية والعدالة‪ ،‬وتعلمينه صديقا ال يفارق روايات‬
‫أدب السجون‪ ،‬حديثي معه مطعم دائما بأقوال الثوريين واملناضلين‪ ،‬نظل‬
‫نتناقش في الثقوب السوداء املرتسمة في عقول الناس‪ ،‬يجد نفسه غريبا‬
‫وسط شعب تالشت فيه اإلنسانية وكل مبادئ الحياة‪ ،‬شهد أحداثا ال‬
‫تليق بالجامعة‪ ،‬تلقى صدمات من أبيه‪ ،‬تنغصت معيشته بسبب مرض‬
‫أمه‪ ،‬بهت بمسرحية إلهام الغرامية املتقنة‪ ،‬تشده الغصة في قلبه البئيس‬
‫حول ما يقع‪ ،‬أصبح حاقدا وساخطا! يرى أن ال أمل ملستقبل زاهر‪ ،‬في هذه‬
‫ُ‬
‫البالد السعيدة‪ ،‬اتخذ قرار الثورة على الوضع‪ ،‬أخبره دائما أن يشد زاوية‬
‫راكنا فيها دون الخوض في هذه املتاهات‪ ،‬فالدولة التسلطية عندنا‬
‫ملعونة‪ ،‬كما قال العم إدريس‪ ،‬لن يقدر على مواجهة فسادهم‪ ،‬ال يعلم أنه‬
‫وسط شعب مليء بالثقوب؟ وتعلمين يقينا ماذا أقصد بالثقوب‪ ،‬إنك‬
‫قارئة عميقة كما عرفتك‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫تأسفت ندى على سعيد الدعابة والضحك والسخرية والسعادة‪ ،‬إلى‬


‫سعيد املعاناة واأللم والتشاؤم والبؤس‪ ،‬قالت‪ :‬من يتوقع يا نديم أن‬
‫صديقك سعيد سيصير على هاته الحال‪ ،‬أنظر إليه كيف ينكمش مع‬
‫نفسه وذاته‪ ،‬ال يرغب في الحديث مع أحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن الصديق مثقف يا ندى‪ ،‬تجرع البؤس من األقارب‪ ،‬وأسفاه‬
‫من حال واقعه‪ ،‬ونحن املثقفون ال نتقبل الواقع وال نستسيغه‪ ،‬إال أننا‬
‫حينما نكون أمام مركب ثقافي جاهل‪ ،‬وأمام إعالم فاسد‪ ،‬فلن يصل‬
‫صوتنا‪ ،‬ولن نطيل البقاء بين الناس‪ ،‬حتم علينا الصمت في بلدنا‪ ،‬فتوعية‬
‫الشعب يحسب عليك جريمة‪ ،‬وستكون في عقولهم املتحجرة اإلنسان‬
‫اإلرهابي الفاسد الخبيث في وجه الدولة‪ ،‬ستكون صاحب فتنة‪ ،‬لن يقف‬
‫معك أحد‪ ،‬ستظل تحارب وحدك كاملجنون‪ ،‬نحن الذين قال عنهم مكسيم‬
‫غوركي‪" :‬نحن الذين نبني الكنائس واملعامل‪ ،‬نحن الذين نصهر القيود‪،‬‬
‫ّ‬
‫ونصوغ النقود‪ ،‬نحن تلك القوة الحية التي يطعم منها الجميع ويتسلون بها‬
‫منذ املهد حتى اللحد‪ ،‬نحن األولون في العمل‪ ،‬واآلخرون في اكتساب‬
‫االعتبار‪ ،‬من يهتم بنا؟ من فعل يوما أبسط األشياء من أجل منفعتا‬
‫وخيرنا؟ ال بل هل نظر إلينا أحد في يوم من األيام على أننا كائنات بشرية؟‬
‫أبدا!!!‪ ،‬ال أحد يعتبرنا كائنات بشرية‪ ،‬ينظرون إلينا نظرة ناقصة‪ ،‬يكرسون‬
‫فينا قيمهم وجهلهم حتى في مقاعد الجامعة‪ ،‬هذا هو سعيد يا ندى‪،‬‬
‫انقلبت عقليته ونظرته‪.‬‬
‫أنهينا املناقشة السريعة‪ ،‬مع الساعة الخامسة مساء‪ ،‬وذهبنا إلى‬
‫بيتنا املعهود‪ ،‬وجلسنا نستريح وبدأ سعيد يصرخ بقوة‪ ،‬ويبكي من شدة‬
‫الحسرة‪ ،‬اشتد غضبه فأصبح يضرب رأسه مع الحائط‪ ،‬أسرعت‬

‫‪163‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫فضممته إلى صدري‪ ،‬تأملت كثيرا ملا يقع له‪ ،‬لم يتمالك نفسه فاستمر في‬
‫البكاء‪ ،‬لقد ذاب جسده في جسدي لشدة التهابه‪ ،‬حزنت لصديقي ويئست‬
‫لحاله‪ ،‬إعصار متوهج في داخله‪ ،‬ملا سألته عن حاله‪ ،‬أخبرني بأنه تلقى خبر‬
‫وفاة أمه‪ ،‬التي مرضت منذ تهديد زوجها لها‪ ،‬نحن املتأملون الصامتون‪،‬‬
‫البائسون املقمعون‪ ،‬املتحسرون املتأملون‪ ،‬نعيش وسط مستنقع أكلتنا‬
‫فيه البراغيث‪.‬‬
‫ملا كان هادئا بعض الش يء‪ ،‬أخذ شربة ماء‪ ،‬وأيقظت فيه أمل العيش‬
‫لنفسه وإلخوته‪ ،‬القدر أراد أن يخطف منه عزيزة على قلبه‪ ،‬التي يظل‬
‫يذكر أقوالها‪ ،‬وأحالمها‪ ،‬أفحمته أن ال أحد يستحق كل حزنك وغيرتك‬
‫وحقدك‪ ،‬دعك لنفسك اآلن ودافع عن أحالمك الذاتية‪ ،‬وكن عونا‬
‫ألسرتك‪ ،‬واسيته ذلك اليوم‪ ،‬وكنت بجانبه‪ ،‬فقرر بعد غد السفر لحضور‬
‫جنازتها‪.‬‬
‫وملا علم سبب وفاتها‪ ،‬أخبرني‪ ،‬أنهم نقلوها إلى املستشفى وتركوها‬
‫تنتظر في العراء‪ ،‬وبعد أن رأوا فيها امرأة ال تملك ماال‪ ،‬وال قيمة لها‪ ،‬وبقيت‬
‫تنتظر إلى أن وافتها املنية‪ ،‬إننا نعلم يقينا أننا محاطون بخطر يهددنا كل‬
‫لحظة‪ ،‬نعلم أننا مقادون نحو الهالك‪ ،‬نحس بأن العالم على وشك‬
‫الخالص‪ ،‬نتألم كثيرا لحالنا البائس العابس‪ ،‬نحن في وطن ال يملك أبسط‬
‫الضروريات وال يوفر لشعبه أبسط املطالب‪ ،‬وفي األخير ينبغي أن نقر بهذه‬
‫األمور‪ ،‬وأن نقتنع أن ال مجال لألفضل‪ ،‬أو لإلصالح‪ ،‬ولكن هذا لن يمنعنا‬
‫من استصحاب األمل‪ ،‬واإلحساس بالهدوء‪ ،‬والتحرر من الفزع‪ ،‬وترك‬
‫فسحة للنجاة‪ ،‬سنكون مجبورين على التعاون والتالحم مع أبعاضنا‬
‫لنتجاوز هاته املحنة‪ ،‬محنة الحياة وعلتها‪ ،‬ولنتفق فالبلد غير مؤهل‬

‫‪164‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫ملواجهة حرب مثل حرب مرضية قد تلم به‪ ،‬أو فاجعة قد تصيبه‪ ،‬كلنا‬
‫نعلم السبب في ذلك‪ ،‬وبها تمنى كل واحد منا الهجرة إلى الخارج‪ ،‬لعدم‬
‫ارتضائه وضع الدولة البئيس‪ ،‬نرى أنفسنا مسوقين نحو أمور ال محمدة‬
‫فيها‪ ،‬فالبلية حتما ستزول وستنتهي‪ ،‬ونهايتها الذهاب إلى عالم ال حقد فيه‬
‫وال حسد‪ ،‬لن تكون املصائب واملعاناة حاجزا مانعا لخلق حياة سعيدة‪،‬‬
‫لنعش حياتنا املعهودة‪ ،‬لنتعاطف ونتسامح‪ ،‬لنجعل العالم عائلة واحدة‪،‬‬
‫سننتصر على مطباتنا بتربية جيل حقيق بالوالدة على أخالق إنسانية‪،‬‬
‫لنشعر بالهدوء والسكينة‪ ،‬ولنتحرر من الخوف‪ ،‬وإذا أصبنا بالوباء في‬
‫بلدنا أو مرضنا في بلدنا‪ ،‬وقادنا األمر بالذهاب إلى مستشفى نعلم حاله‬
‫ومصيبته‪ ،‬فسنحمد هللا على مرضنا دون البقاء في مرتع حشرات عفوا في‬
‫مستشفى بلدنا الحبيب‪.‬‬
‫إن أوفى املنازل إلى أولئك الناس الذين لم يأخذوا بالفضائل والقيم‪،‬‬
‫القبر‪ ،‬هو القادر على الحد من حقارتهم‪ ،‬ومن نشر مفاسدهم التي يدعو‬
‫إليها اإلله الجديد‪ ،‬وأدل ما أستحضره قول أبي العالء املعري‪:‬‬
‫ونعوذ باألخالق من أمم أوفى املنازل منهم القبر‬
‫انتهت محطة النصر‪ ،‬تحصيلها حصولنا على شهادة املاستر‪،‬‬
‫واالقتراب أكثر من الحزن‪ ،‬واالبتئاس من الواقع‪ .‬في النصر سأتذكر ندى‪،‬‬
‫وسأحبها بشغف‪ ،‬سأشتاق لسعيد‪ ،‬وسيظل في ذاكراتي وسأحافظ على‬
‫حزني‪ ،‬سأنقذ أسرتي‪ ،‬سأعيش بدعاء أمي وسند أبي‪ ،‬سأصير يوما ما أريد‪،‬‬
‫وسأعشق األحزان؛ ألنها السند في وحدتي‪ ،‬ال تلموني على كثرة التشاؤم؛‬
‫ألنني صارحتكم بما يفتيه عليكم خاطركم من مزق الواقع وشؤمه‪...‬‬
‫رواية اإلله الجديد‪ ،‬زاوية سيد الناس‪ ،‬السبت ‪ 28‬يوليوز‪2021‬م‬

‫‪165‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫الفهرس‬

‫إهداء ‪3 ..........................................................................................‬‬

‫تقديم‪5 ........................................................................................ :‬‬

‫موت اإلنسانية‪9..............................................................................‬‬

‫ما بعد اإلجازة ‪23 ............................................................................‬‬

‫أيام ‪27 ...........................................................................................‬‬

‫الجفاء اإلنسان ‪31 ..........................................................................‬‬

‫العدو الداخل ‪42 ............................................................................‬‬

‫انعطافة جديدة ومسار جديد ‪47 .......................................................‬‬

‫الصرخة ‪52 .....................................................................................‬‬

‫مأساة الجامعة‪56 ...........................................................................‬‬

‫التسلط ‪70 .....................................................................................‬‬

‫املنزع التقديس‪77 ...........................................................................‬‬

‫األدب ينتحر بتكاثره املجنون ‪92 ..........................................................‬‬

‫شوق ولوعة ‪107 .............................................................................‬‬

‫ندوة املجامالت ‪132 .........................................................................‬‬

‫املتعة املزيفة ‪145 .............................................................................‬‬

‫‪167‬‬
‫جعفر لعزيز‬ ‫اإلله الجديد‬

‫مسار ‪147 ......................................................................................‬‬

‫ال أحب الوداع ‪149 ..........................................................................‬‬

‫حيوان أنفوميديا‪" :‬إعالمي سيايس" ‪154 .............................................‬‬

‫فاجعة الوالدة ‪157...........................................................................‬‬

‫‪168‬‬

You might also like