Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 12

‫التعلق‪ ،‬مفهومه‪ ،‬أنماطه‪ ،‬وتأثيره على شخصية الفرد‪.

‬‬
‫*حورية مزيان‬
‫**أ‪.‬د‪.‬فتيحة كركوش‬
‫* جامعة البليدة ‪ 2‬لونيسي علي‬
‫** جامعة البليدة ‪ 2‬لونيسي علي‬

‫ملخص‪:‬‬
‫يمثل التعلق تلك الرابطة االنفعالية العاطفية التي تجمع بين الطفل ومن يقوم برعايته‬
‫منذ الشهور األولى للنمو وصوال إلى تكوين النماذج العاملة الداخلية وأنماط معينة للتعلق‬
‫تمثل مجموعة من االستراتيجيات التي يتبنّاها الفرد في تسيير عالقاته المستقبلية‪ ،‬وهي‬
‫تبنى انطالقا من عالقته اإلرتباطية األولية‪.‬‬
‫فإن الدراسة الحالية تهدف إلى التعريف بنظرية التعلق وأهم المفاهيم المرتبطة‬ ‫وعليه ّ‬
‫بها وكيف يمكن للعالقة األولية مع األم أن تؤثر في تكوين شخصية الفرد من الناحية‬
‫النفسية واإلجتماعية العالئقية‪ ،‬وذلك من خالل تبني آراء مجموعة من الباحثين الرائدين‬
‫في نظرية التعلق على غرار بولبي وأنسوورث‪.‬‬
‫كلمات مفتاحية‪ :‬التعلق‪ ،‬أنماط التعلق‪ ،‬النماذج العاملة الداخلية‪.‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يعتبر التعلق رابطة انفعالية عاطفية بين الطفل ومن يقوم برعايته‪ ،‬تُنسج هذه الرابطة‬
‫منذ األسابيع األولى لتتطور وتصبح أكثر تميّزا ووضوحا مع نمو الطفل‪ ،‬إلى أن يستدخل‬
‫هذا األخير صورة متميّزة للتعلق يُكوّن من خاللها ما يسمّى بالنماذج العاملة الداخلية التي‬
‫تعتبر كمخططات عقلية لها بالغ األثر في جميع مراحل حياة الفرد وفي مختلف عالقاته‬
‫مع اآلخرين‪.‬‬
‫فإن للتعلق مكانة مميزة في حياة الفرد‪ ،‬حيث كان هناك اهتمام كبير بدراسته ليس‬ ‫وعليه ّ‬
‫فقط في مرحلة الطفولة من خالل العالقة اإلزدواجية (أم‪ -‬طفل)‪ ،‬بل تع ّداه ليشمل مختلف‬
‫مراحل الحياة‪ ،‬حيث تؤثر النماذج العاملة الداخلية ونوعية التعلق الذي ينتمي إليه الفرد في‬
‫تطور شخصيته وفي نوعية استجابته لمختلف العالقات اإلجتماعية‪ ،‬إذ يعتبر نظام التعلق‬
‫عامل مقاومة أو خطر لمختلف االضطرابات النفسية‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫‪.1‬مفهوم التعلق‪:‬‬
‫يُع ّد التعلق شكال من أشكال العالقات الحميمة بين الطفل ومقدم الرعاية‪ ،‬حيث أشار‬
‫أن هذا المفهوم ُق ّدم ألوّل مرة من طرف جون بولبي‬
‫سيالمي (‪ )Sillamy. N, 2003‬إلى ّ‬
‫‪ Bowlby. J‬في سنة ‪ 1959‬على خلفية أعمال السلوكي هارالو(‪ )Harlow‬التي قام بها‬
‫على القردة‪ ،‬إذ هدفت أعمال هذا األخير إلى الكشف عن العالقة اإلرتباطية بين الرضيع‬
‫واألم من خالل تجربته على رُ ضع القردة‪ ،‬حيث تمثلت التجربة في تفرقة الرضع القردة‬
‫عن أمهاتهم البيولوجية عند الوالدة مباشرة ووضعهم وحيدين في األقفاص أين توجد أُمين‬
‫في شكل دمى‪ :‬األم األولى بخيط من حديد مزودة برضاعة‪ ،‬بينما األم الثانية مزودة بغطاء‬
‫أن الرُ ضع القردة هرعوا نحو هذه األخيرة حيث فضلوا االتصال‬ ‫مكسو بالفرو‪ ،‬والنتيجة ّ‬
‫وحرارة الغطاء المكسو بالفرو على الحاجة البيولوجية المتمثلة في الغذاء‪ .‬وبالتالي طوّر‬
‫بولبي (‪- )Bowlby. J, 1980‬اعتمادا على هذه األعمال‪ -‬مفهوم التعلق بصفة تتعارض‬
‫مع الطرح السيكولوجي القائل ّ‬
‫بأن اإلرتباط باألم هدفه إشباع الحاجات البيولوجية‪ ،‬مُعتبرا‬
‫أن التعلق يُشبع بُعدين لدى الرضيع‪ :‬البعد البيولوجي المتمثل في تلبية الحاجات والبعد‬‫ّ‬
‫أن التعلق هو سياق فطري مشترك بين جميع‬ ‫النفسي المتمثل في البحث عن األمان‪ ،‬ورأى ّ‬
‫البشر تكون فيه مجموع الميكانيزمات األولية كاالبتسامة والمص واالحتضان والبكاء التي‬
‫تظهر بصفة جد مبكرة عند الرضيع كأساس قاعدي لبناء التعلق‪.‬‬
‫على هذا األساس‪ ،‬عُ رّ ف التعلق عند بولبي‪ -‬نقال عن منار بني والشريفين (‪-)2012‬‬
‫على أنّه نزعة فردية داخلية لدى كل إنسان تجعله يميل إلى إقامة عالقة عاطفية حميمة‬
‫مع األشخاص األكثر أهمية في حياته‪ ،‬تبدأ أسسها األولى مع الوالدة وتستمر مدى الحياة‪،‬‬
‫حيث قال بولبي (‪ )Bowlby. J, 1984, p09‬أنّه‪« :‬من المهم للتوازن العقلي للرضيع‬
‫أن يكون قادرا على عيش عالقة حميمة بصفة مستمرة مع األم أو مع الشخص الذي يق ّدم‬
‫مكن كليهما من إيجاد السعادة والرضا»‪.‬‬‫له الرعاية‪ ،‬عالقة تُ ّ‬
‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد أشار بولبي (‪ )Bowlby. J, 1984‬إلى أهمية الروابط الوجدانية‬
‫أو التعلق في حياة الفرد‪ ،‬إذ تحمي هذه الروابط حياة الطفل من خالل حب أمّه ورعايتها‬
‫المستمرة له‪ ،‬فهي وظيفة بقائية أساسية في حياته‪ ،‬كما أنّها من أهم أسس الصحة النفسية‬
‫للطفل‪ ،‬ألنها تُعد المؤثر الرئيسي في اآلداء الوظيفي للشخصية باعتبارها تضع أسس‬
‫اإلتّجاهات نحو الحياة والناس والعالقات والمستقبل‪ ،‬وعليه ّ‬
‫فإن نوعية الرابط العالئقي‬
‫الذي يك ّونُه الطفل مع مق ّدم الرعاية يُعتبر أحد المحددات الرئيسية لشخصيته في المستقبل‪.‬‬
‫أن التعلق يُمثّل «مجموع‬
‫من جهته‪ ،‬أشار سيالمي (‪ )Sillamy. N, 2003, p 30‬إلى ّ‬
‫الروابط التي تنشأ بين الرضيع واألم بداية بإحساسات وإدراكات الرضيع اتّجاه أمّه وبصفة‬
‫متبادلة من األم التي تستجيب لمتطلبات رضيعها»‪ .‬وأوضح شيفر(‪ -)Shaver‬نقال عن‬

‫‪240‬‬
‫أن التعلق هو رابطة عاطفية قوية بين شخصين‬ ‫أيزنك (‪ّ -)Eysench. M, 2001‬‬
‫تتميّز بالتبادل العاطفي والرغبة في المحافظة على القرب بينهما‪ ،‬في حين أكد كل من‬
‫باباليا وفلدمان (‪ )Papalia,& Feldman, 1999‬في تعريفهما للتعلق على مساهمة‬
‫كل من الطفل ومقدم الرعاية في نوعية رابطة التعلق‪ ،‬حيث عرّ فاه بأنّه رابطة انفعالية‬
‫قوية ومتبادلة بين الرضيع ومقدم الرعاية‪ ،‬ألن كالهما يُساهم في تحديد نوعية هذا التعلق‪.‬‬
‫‪.2‬مفاهيم مرتبطة بالتعلق‪:‬‬
‫فيما يلي سنتطرق إلى أهم المفاهيم المرتبطة بنظرية التعلق التي تساعد على فهم أفضل‬
‫أن هذه المفاهيم قاعدية في نظرية التعلق‪.‬‬‫لهذه األخيرة‪ ،‬باعتبار ّ‬
‫‪ 1.2‬سلوك التعلق‪:‬‬
‫يُقصد بسلوك التعلق حسب قيدناي وقيدناي (‪Guedeney. N, Guedeney. A,‬‬
‫‪ )2005‬سلوكات الرضيع المُوجّ هة نحو تعزيز التقارب‪ ،‬والمتمثلة في سلوكات اإلبتسامة‪،‬‬
‫المالغاة‪...‬الخ‪ ،‬فهي سلوكات مؤشرة تُنذر األم برغبات الطفل وحاجاته للتفاعل معها‪.‬‬
‫فسلوك البكاء مثال يدفع األم للتقرب نحو الطفل والقيام بأفعال تؤدي إلى الحد من بكائه‪،‬‬
‫ومع النمو يُطور الطفل سلوكات أخرى كسلوك التعلق والمشي التي تعتبر سلوكات نشطة‬
‫للطفل تسمح له بالتقرب ومتابعة صور التعلق‪ ،‬هذه السلوكات ذات الطبيعة الفطرية تعتبر‬
‫كنوع من تعلق الطفل بأمّه وهي تُعزز التعلق المتبادل بين الطفل واألم‪.‬‬
‫كل السلوكات التي تسمح للشخص‬ ‫أن ّ‬‫كل من قيدناي وقيدناي (‪ )Ibid‬إلى ّ‬ ‫أشار ّ‬
‫ّ‬
‫المفضلة والمُميزة يمكن اعتبارها‬ ‫باإلرتباط أو الحفاظ على التقارب مع بعض صور التعلق‬
‫أن مفهوم سلوك‬ ‫كسلوك للتعلق‪ .‬و أوضح زياناح (‪ )Zeanah. C,1993‬من جهته ّ‬
‫التعلق أصبح أكثر تعقيدا باعتباره ال يقتصر على الوصف السلوكي للمخططات الخمس‬
‫لألفعال (وهي عبارة عن سلوكات تهدف إلى التعلق وصفها بولبي سنة ‪ 1969‬بأنّها تمثل‬
‫المهارات الفطرية الخمسة للتعلق‪ ،‬وتتمثل في سلوكات المص والتشبث والبكاء واإلبتسامة‬
‫ومتابعة النظر)‪ ،‬ولكنّه معرف كوحدة وظيفية‪ ،‬فليست خصوصية السلوك في ح ّد ذاته‬
‫هي ما يهم بقدر ما يهم كيف نتج هذا السلوك وكيف سينتهي‪ ،‬فإذا كان السلوك يهدف إلى‬
‫تعزيز التقارب فإنّه يعمل كسلوك للتعلق بغض النظر عن نوعية هذا السلوك‪ ،‬وبذلك نصل‬
‫إلى مصطلح آخر للتعلق يتمثل في «مفهوم التوازن الوظيفي للسلوكات» الذي يُشير إلى‬
‫مجموع السلوكات المختلفة في طبيعتها ولكنّها تتقاسم معنى مُوحد وتخدم وظائف متشابهة‪.‬‬
‫‪ 2.2‬صورة التعلق‪:‬‬
‫اعتبر بولبي (‪ )Bowlby. J, 1984‬صورة التعلق هي تلك الصورة التي يُوجّ ه إليها‬
‫الطفل سلوك التعلق‪ ،‬وبالتالي يمكن أن يُمثل صورة للتعلق كل شخص يدخل في تبادل‬
‫إجتماعي نشط ودائم مع الرضيع ويستجيب بسهولة إلشاراته ومتطلباته‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫وعليه يمكن القول بوجود ع ّدة صور للتعلق تكون مُتدرجة بناء على الرعاية المقدمة‬
‫للطفل وكذا خصائص مقدم الرعاية ومدى قدرته على اإلستجابة لحاجات الرضيع‪ ،‬فالطفل‬
‫لديه استعداد فطري لإلرتباط‪ ،‬والذي يتطور تدريجيا مع نمو الطفل إلى أن يُكوّن هذا‬
‫األخير صورة متميّزة للتعلق‪ ،‬تستمر معه في كل المراحل يلجأ إليها في أوقات الحاجة أو‬
‫المعاناة‪.‬‬
‫‪ 3.2‬العالقة اإلرتباطية‪:‬‬
‫يُقصد بها نقال عن قيدناي وقيدناي (‪)Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬‬
‫تلك العالقة التي تُبنى تدريجيا انطالقا من اإلستعدادات الفطرية التي يتم تعديلها بتفاعل‬
‫الطفل مع بيئته اإلجتماعية‪ ،‬حيث يقترب هذا األخير بصفة تفضيلية نحو صور مميّزة‬
‫للبحث عن الحنان والراحة والسند والحماية‪ ،‬ويُمثل القلق عند وجود الغريب وردود الفعل‬
‫ّ‬
‫المفضلة‪.‬‬ ‫ضد الفراق عالمات عن تكوين الطفل لتعلق نحو الصورة‬
‫في هذا السياق‪ ،‬قد وصفت أنسوورث (‪- )1989‬نقال عن قيدناي وقيدناي (‪-)Ibid‬‬
‫أربع سمات تُميّز عالقات اإلرتباط عن العالقات االجتماعية األخرى تتمثل في‪:‬‬
‫البحث عن التقارب‪،‬‬ ‫•‬
‫المفهوم القاعدي لألمن (بمعنى استكشاف أكثر حرية بوجود صورة التعلق)‪،‬‬ ‫•‬
‫مفهوم سلوك االلتجاء (بمعنى العودة نحو صورة التعلق عندما يعترض الفرد تهديد‬ ‫•‬
‫مُحتمل)‪،‬‬
‫ردود الفعل ضد االنفصال (الإرادية)‪.‬‬ ‫•‬
‫بالنسبة لبولبي(‪ّ )Bowlby. J, 1984‬‬
‫فإن الوظائف الثالثة لعالقة اإلرتباط تتمثل في‬
‫البحث عن التقارب والبحث عن قاعدة آمنة وكذا البحث عن ملجأ آمن‪.‬‬
‫‪ 4.2‬نظام التعلق‪:‬‬
‫يُمثّل مجموع سلوكات التعلق‪ ،‬فقد عرّ فه قيدناي وقيدناي (‪Guedeney. N,‬‬
‫‪« )Guedeney. A, 2005, p15‬كنوع من التقارب وما يُوفره من شعور بالحماية‬
‫واألمن‪ ،‬فكل ما يُشجع التقارب ويُعطي الشعور بالحماية يدخل في إطار نظام التعلق»‪.‬‬
‫المحفزة على التقارب؛ إذ يعتبر نظاما ذي هدف خارجي يتمثل‬ ‫ّ‬ ‫فهو بمثابة مجموع األنظمة‬
‫في تحقيق التقارب الجسدي مع صورة التعلق من خالل سياق اإلحتواء؛ فالطفل يتفاعل مع‬
‫محيطه ويُترجم دالالته‪ ،‬وفي حالة المعاناة والفجيعة يبحث عن التقارب مع صورة التعلق‪،‬‬
‫إذ يعتمد تنظيم مختلف سلوكات التعلق على جملة من المؤشرات الداخلية والخارجية التي‬
‫يُنشط من خاللها نظام التعلق أو العكس‪ ،‬وبناء على ذلك تتمثل العوامل المُنشطة للنظام في‬
‫كل العوامل المُنبئة بالخطر أو المُؤ ّدية للضغط‪ ،‬حيث تُقسّ م هذه العوامل إلى عوامل داخلية‬
‫مرتبطة بالطفل كالتعب واأللم‪ ،‬وعوامل خارجية مرتبطة بمحيطه وتضم كل المنبهات‬

‫‪242‬‬
‫بالخطر مثل وجود الغريب والوحدة وغياب صورة التعلق‪...‬وغيرها‪.‬‬
‫أمّا عامل اإلنطفاء لنشاط نظام التعلق فيتمثل في تحقيق التقارب مع صورة التعلق‪ ،‬وقد‬
‫أن نظام التعلق هو نظام نشط باستمرار‪ ،‬فالطفل‬ ‫اعتبر بولبي (‪ّ )Bowlby. J, 1984‬‬
‫عندما يُدرك العوامل المحيطة به كمؤشرات آمنة يتوجه نحو أهداف ونشاطات أخرى مع‬
‫استمرار النظام في مراقبة المحيط كمنبع محتمل للضغط‪ ،‬أمّا في حالة إدراك هذه العوامل‬
‫كمؤشرات على الخطر يتم تفعيل نظام التعلق من خالل البحث عن اإلتصال والتقارب مع‬
‫صورة التعلق وعدم الشعور بالرضا ّ‬
‫إال باإلرتباط معها‪.‬‬
‫يتميز نظام التعلق‪ ،‬إذن‪ ،‬بالديمومة واإلستقرار‪ ،‬ويستمر مع كل مراحل نمو الطفل‬
‫وتفاعله مع المحيط‪ ،‬حيث يمر تطوره حسب قيدناي وقيدناي (‪Guedeney. N,‬‬
‫‪ )Guedeney. A, 2005‬بثالثة مراحل تتمثل في‪:‬‬
‫من ‪ 0‬إلى ‪ 6‬أشهر‪ :‬تتمثل هذه المرحلة في تأسيس سياق التمييز‪،‬‬ ‫•‬
‫من ‪ 6‬أشهر إلى ‪ 3‬سنوات‪ :‬تمثل فترة تأسيس مخططات التعلق بناء على أنظمة التغذية‬ ‫•‬
‫الرجعية (بمعنى الطفل يختار صور التعلق بناء على ما يتلقاه من رعاية وشعور‬
‫باألمن) للوصول إلى الهدف األساسي وهو البقاء بالقرب من صورة التعلق‪.‬‬
‫بعد سن الثالثة‪ :‬نشهد في هذه المرحلة تكوين عالقة تبادلية‪ ،‬حيث يُطوّر الطفل إرادة‬ ‫•‬
‫خاصة وفهم نحو توجهات اآلخر ما يزيد من قدراته المعرفية وي ّ‬
‫ُمكنه من تحمّل اإلبتعاد‬
‫عن صورة التعلق‪.‬‬
‫ويندرج تحت نظام التعلق جملة من األنظمة (بما فيها نظام التعلق في حد ذاته) تسمى‬
‫باألنظمة التحفيزية الكبرى تتمثل في‪:‬‬
‫‪ 1.4.2‬نظام اإلستكشاف‪ :‬يرتبط بسلوك الفضول وحب اإلستكشاف‪ ،‬يتم تنشيطه بفعل‬
‫مؤشرات المحيط الخارجي‪ ،‬ويعتمد على مدى إدراك الطفل لوجود الخطر ووجود‬
‫قاعدة آمنة للتعلق‪ .‬فحسب بولبي (‪ّ )Bowlby. J, 1984‬‬
‫فإن التعلق يوفر التوازن بين‬
‫سلوكات اإلستكشاف وسلوكات البحث عن التقارب مع األخذ باإلعتبار وجود صورة‬
‫للتعلق والخطر الموجود في المحيط المادي واإلجتماعي‪ ،‬حيث توفر صورة التعلق‬
‫«قاعدة آمنة» تُق ّدم للطفل الشعور باألمن المادي والنفسي مما يسمح له باإلستكشاف‬
‫ومحاولة التحكم في محيطه؛ فالتعلق وسلوك اإلستكشاف يتأثران بكيفية إدراك الطفل‬
‫لمدى وجود وحساسية صورة التعلق‪.‬‬
‫‪ 2.4.2‬نظام االنتماء‪ :‬ويسمى أيضا بنظام االجتماعية (‪،)système de sociabilité‬‬
‫يُعرّ فه قيدناي وقيدناي (‪ )Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬بوصفه نظام‬
‫تابع لنظام التعلق‪ ،‬ويعتبره بولبي (‪ )Bowlby. J, 1984‬مرتبطا باستعداد بيولوجي‬
‫يساهم في بقاء الفرد‪ ،‬حيث تبدأ الدافعية اإلجتماعية مع الوالدة وتتطور بشكل أكبر بداية‬

‫‪243‬‬
‫من الشهر الثاني‪.‬‬
‫تختلف عوامل تنشيط هذا النظام عن عوامل تنشيط نظام التعلق‪ ،‬حيث يُفترض ّ‬
‫أن هذا‬
‫وصف موراي (‪)Murray‬‬ ‫النظام يتم تفعيله عندما ال يكون نظام التعلق كذلك‪ .‬من جهته‪ّ ،‬‬
‫‪-‬نقال عن قيدناي وقيدناي (‪ -)Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬هذا النظام‬
‫كممثل لجميع مظاهر الصداقة وحسن النية (‪ )friendliness and goodwill‬المنبثقة‬
‫من الرغبة في القيام باألشياء بمرافقة اآلخر‪ ،‬حيث عبّر ايمد ‪- Emde‬نقال عن قيدناي‬
‫وقيدناي (‪ -)Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬عن هذا المفهوم بمصطلح‬
‫«القيام به معا ‪ « we-go‬مشيرا إلى ّ‬
‫أن هذا النظام يرتبط بتكوين األخالق واإلجتماعية‪،‬‬
‫ويصف دافعية الفرد لإلنخراط إجتماعيا مع اآلخرين‪.‬‬
‫‪ 3.4.2‬النظام خوف‪-‬قلق‪ :‬يُمثّل القدرة على المراقبة والتحكم في تعديل المؤشرات المنبهة‬
‫بوجود الخطر والرد عليها سواء كانت هذه المؤشرات إجتماعية أو غير ذلك‪.‬‬
‫وعليه يتعلق األمر في هذا النظام ‪-‬حسب بولبي (‪ -)Bowlby. J, 1984‬بتسجيل‬
‫واستجابة الطفل لوضعية خطر مُدرك‪ ،‬يتقاسم هذا النظام نفس العوامل المنشطة له مع نظام‬
‫التعلق‪ ،‬ويظهر مع نهاية السنة األولى‪.‬‬
‫‪ 5.2‬قاعدة األمن‪:‬‬
‫اعتبر قيدناي وقيدناي (‪ )Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬قاعدة األمن‬
‫بمثابة الثقة مع مُقدم الرعاية الذي يُع ّد مرجعا ي ّ‬
‫ُوفر السند والحماية‪ ،‬وهذا مهما كان سن‬
‫الفرد‪ ،‬حيث يُمثّل التقارب الجسدي عامال مُهما في المراحل األولى من الحياة ليصبح‬
‫تدريجيا مفهوم األمن مفهوم عقالني وانفعالي (‪.)mentalisé et émotionnel‬‬
‫فإذا استطاع الطفل تكوين قاعدة أمن يُمكنه ‪-‬انطالقا من الثقة بوجود صورة التعلق‬
‫واستمراريتها‪ -‬اكتشاف العالم من حوله‪ ،‬حيث تُمثّل العوامل المحيطة بالطفل أبعادا تُوجّ ه‬
‫حركاته باإلبتعاد أو اإلقتراب من صورة التعلق حسب تقديراته لمصادر الخطر‪ ،‬وعليه‬
‫كلّما كانت قاعدة األمن سليمة ومُوفرة للحماية كلما زادت قدرة الفرد على اإلكتشاف‬
‫ومواجهة الخطر والعكس (حيث نشير هنا إلى ّ‬
‫أن الفرد يرتبط بمقدم الرعاية سواء أ ّدى ما‬
‫عليه من توفير للحماية واألمن بصفة صحيحة وسليمة أو ال‪ ،‬وهذا ما يميّز نظرية التعلق‬
‫عن نظرية السند)‪.‬‬
‫‪.3‬بناء عالقة التعلق وأنماطه‪:‬‬
‫فإن التعلق يمتد من الطفولة األولى إلى سن الرشد‪ ،‬حيث تعتبر‬ ‫كما سبق وأن ذكرنا ّ‬
‫ّ‬
‫العالقة األولية مع مقدم الرعاية اللبنة األولى التي تتشكل على أساسها عالقة التعلق‪ ،‬هذه‬
‫العالقة هي ما يسمح للطفل ببناء انفعاالته‪ ،‬أفكاره‪ ،‬استراتيجياته وتصوراته عن العالم‬
‫الخارجي ضمن نمط معيّن للتعلق‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫‪.1.3‬بناء عالقة التعلق‪:‬‬
‫اعتبر كوبا (‪ّ )Cupa. D, 2000‬‬
‫أن التعلق يُمثل أوّل نسق عالئقي بين الرضيع‬
‫ومقدم الرعاية‪ ،‬هذا النسق يتم بناؤه تدريجيا بداية من المراحل األولى للنمو‪ ،‬حيث وصفت‬
‫أنسوورث (‪- )Ainsworth. M‬نقال عن كوبا (‪ - )Ibid‬سياق التعلق من خالل أربع‬
‫مراحل‪ ،‬هي كما يلي‪:‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬تُمثل األشهر األولى لنمو الطفل‪ ،‬إذ ال يكون هناك تعلق على الرغم‬ ‫•‬
‫من قدرة الطفل على التعرف على بعض المؤشرات الحسية المرتبطة باألم كرائحتها‬
‫أو صوتها‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬يكون فيها التعلق غير متميّز (أو في طور التكوين)‪ ،‬إذ ينجذب‬ ‫•‬
‫الرضيع في هذه المرحلة نحو صورة الشخص ويتفاعل معه من خالل مظاهر اللّذة‬
‫أن الطفل في هذه‬ ‫كاالبتسامة‪ ،‬ولكن شخص آخر بإمكانه بسهولة استخالف األم؛ بمعنى ّ‬
‫المرحلة يستجيب للعديد من المثيرات بغض النظر عمّن يُقدمها‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة‪ :‬هنا يصبح التعلق محددا (مع نهاية السنة األولى تقريبا)‪ ،‬حيث يبحث‬ ‫•‬
‫الطفل بصفة خاصة عن الشخص مُقدم الرعاية الذي يتمثل غالبا في شخص األم‬
‫ويضطرب عند غيابها‪ ،‬فهي تُمثّل مصدر أمن وحماية بالنسبة له‪.‬‬
‫المرحلة الرابعة‪ :‬في هذه المرحلة تُستدخل صورة األم (تقريبا مع السنة الثانية والثالثة)‬ ‫•‬
‫وتُصبح نموذجا داخليا عامال‪ ،‬حيث يصبح الطفل قادرا على تحمّل غياب األم وبالتالي‬
‫يسير نحو درجة أكبر من اإلستقاللية‪.‬‬
‫أن التعلق يُمثل ذلك اإلرتباط المتبادل بين الطفل ومن يقوم‬ ‫وعليه نستخلص ممّا سبق ّ‬
‫س مبكرا في حياة الطفل ويكون له أثر عميق على شخصيته المستقبلية‪ ،‬حيث‬ ‫برعايته‪ ،‬يتأسّ ُ‬
‫ّ‬
‫يتجاوز مفهوم التعلق االزدواجية «أم‪ -‬طفل» ليشمل كل العالقات التي يُشكلها الفرد مع‬
‫اآلخرين في محيطه سواء كانت عالقات صداقة وحب‪ ،‬أو تقارب‪ ،‬وتكون استجابة الفرد‬
‫وردود فعله نحو العالقات المستقبلية مبنية على ما تلقاه من مشاعر الحماية واألمن في‬
‫مرحلة الطفولة‪.‬‬
‫‪ .2.3‬أنماط التعلق‪:‬‬
‫عرّ ف قيدناي وقيدناي (‪ )Guedeney. N, Guedeney. A, 2006‬نمط التعلق‬
‫كمجموعة من االستراتيجيات والتصورات المرتبطة بأهداف محورية للذات‪ ،‬حيث‬
‫تعتبر أساليب التعلق كأنماط تنظيمية للتوقعات والحاجات العاطفية والستراتيجيات تنظيم‬
‫االنفعاالت والسلوكات االجتماعية‪ ،‬فهي تشمل التصورات واالستراتيجيات اإلنفعالية‬
‫والسلوكية لتنظيم العواطف التي يختبرها الفرد في عالقاته القريبة‪ ،‬هذه التصورات‬
‫واالستراتيجيات التي يستجيب الفرد في عالقاته وفقا لها تستمد مصدرها من التفاعالت‬
‫المبكرة بين الطفل ومقدمي الرعاية‪ .‬وضمن هذه التصورات‪ ،‬يظهر «نموذج الذات»‬
‫‪245‬‬
‫وفيه يدرك الفرد نفسه إمّا كشخص جدير بالحب‪ ،‬ناجح اجتماعيا وكفء‪ ،‬أو على العكس‬
‫من ذلك يدرك نفسه كشخص غير جدير بالحب‪ ،‬غير ناجح اجتماعيا وغير كفء؛ وهو‬
‫األمر الذي أوضحه كونواي (‪ ،)Conway. MA, 2005‬مضيفا أنّه يظهر نموذج آخر‬
‫للتصورات يتمثل في «نموذج اآلخرين» وتعتمد التصورات فيه على كيفية إدراك الفرد‬
‫لآلخرين كأفراد حساسين أو غير حساسين اتّجاه حاجاته وكمدعمين له أو ال‪ ،‬وعليه ّ‬
‫فإن‬
‫استراتيجيات التعلق تخص حاجات الثقة وأهمية الدور الذي يوليه الفرد لتقبل أو رفض‬
‫اآلخرين في سعيه لتحقيق أهدافه‪.‬‬
‫بالنظر إلى أهمية أنماط التعلق باعتبارها األساس الذي تتحدد وفقه عالقات الفرد‬
‫واستجاباته في مختلف تفاعالته االجتماعية‪ ،‬انصب االهتمام أيضا على دراسة أنماط‬
‫التعلق واستمراريتها من الطفولة إلى سن الرشد‪ ،‬حيث أقيمت العديد من الدراسات حول هذا‬
‫الموضوع من بينها الدراسة التجريبية التي أنجزتها ماري أنسوورث وآخرون (‪)1978‬‬
‫نظموا المالحظات المرتبطة باالزدواجية‬ ‫‪-‬نقال عن كوبا (‪ ،-)Cupa, D, 2000‬حيث ّ‬
‫والتبادل بين سلوك التعلق واالستكشاف عند الرضيع من خالل «وضعية الغريب»‪،‬‬
‫هذه الوضعية المخبرية المتمثلة في اإلنفصال واإللتقاء مع أحد الوالدين (األب أو األم)‬
‫فتحت المجال لمالحظات سلوكية‪ ،‬حيث توصلت أنسوورث إلى وجود ثالثة أصناف من‬
‫اإلستجابات عند اإللتقاء مع الوالدين ح ّددت من خاللها أنماطا للتعلق‪ ،‬هذه األنماط العالئقية‬
‫قائمة على نوعية التعبيرات العالئقية للطفل اتّجاه والديه‪ ،‬إذ تتمثل هذه األنماط في‪:‬‬
‫نمط التعلق اآلمن‪ :‬يصف طفل يميل إلى اإلحتجاج عند اإلنفصال (الفراق) عن الوالد‪،‬‬ ‫•‬
‫لكنّه يستقبل الوالد عند عودته بتعبير اإلرتياح مرفوقا بالبحث عن التقارب واإلتّصال‪،‬‬
‫ما يسمح له فيما بعد بالعودة لالستكشاف‪.‬‬
‫النمط غير اآلمن‪ -‬التجنبي‪ :‬يصف طفال تبدو عليه عدم الحاجة إلى المواساة أو الراحة‬ ‫•‬
‫وعدم التأثر برحيل الوالد ويتجاهله أو يتجنبه عند عودته‪ ،‬كما يظهر غير قادر على‬
‫استخدام الوالد كمنبع للراحة‪ ،‬فسلوكه يُشير إلى اإلستقاللية القهرية (‪autonomie‬‬
‫‪ )compulsive‬التي وصفها بولبي في ‪- 1969‬نقال عن كوبا (‪،-)Cupa, D, 2000‬‬
‫حيث يُعطي الطفل شعورا باستقاللية كبيرة وال يستعمل الوالد كقاعدة أمن‪.‬‬
‫النمط غير اآلمن‪ -‬المتناقض‪ :‬وهو يخص طفال منزعجا من وضعية الفراق‪ ،‬هذا الطفل‬ ‫•‬
‫يبحث عن الراحة عند اللّقاء ولكن فور ما يحدث اإلتّصال يتجاهله ويكون ذلك غالبا‬
‫ضمن نوبة غضب أو استسالم لمعاناة سلبية‪.‬‬
‫إلى جانب هذه األنماط التي ح ّددتها أنسوورث‪ ،‬أضافت مان وآخرون (‪Main. M, et‬‬
‫‪ )coll, 1985‬تصنيفا آخر للتعلق‪ ،‬يصف أطفاال يظهر لديهم التعلق غير آمن مصحوب‬
‫بسلوكات ال تُعبّر بشكل واضح عن توجهات الطفل ونواياه‪ ،‬كما أنّها تظهر غير منظمة‬
‫(مشوشة) في تسلسلها‪ ،‬متقطعة وغريبة مصحوبة بنمطيات وخالية من استراتيجية متناسقة‬
‫‪246‬‬
‫للتعلق عند اإللتقاء مع الوالد‪ ،‬حيث تختلف استجاباتهم هنا عن أحد استراتيجيات التعلق‬
‫اآلمن وغير اآلمن‪ ،‬إذ يُظهر الطفل في هذا النمط سلوكات غريبة‪ ،‬خائفة وغير مُوجهة‪،‬‬
‫لذلك سُ مّي هذا النمط من التعلق «بالنمط غير اآلمن‪ ،‬غير المنظم و‪/‬أو غير الموجه»‪.‬‬
‫‪ . 4‬النماذج العاملة الداخلية‪:‬‬
‫بيّنت العديد من الدراسات حول السلوكات االجتماعية لألفراد ‪-‬على غرار دراسات‬
‫بولبي(‪ -)Bowlby. J, 1984‬أنّه يوجد نظام للتعلق يحكم السلوكات المُوجهة نحو البحث‬
‫عن لفت انتباه‪ ،‬سند وحماية أشخاص آخرين أو تجنب الرفض منهم‪ ،‬فنظرية التعلق تترجم‬
‫الحاجة المشتركة لألفراد لتكوين روابط عاطفية؛ فهي تُسلّم ّ‬
‫بأن األفراد مدفوعين بيولوجيا‬
‫����������������������������������������������������������((�‪Griffin. D, Bar‬‬
‫إلى تطوير مثل هذه الروابط‪ ،‬حيث تقترح حسب قريفن وبارثولوماو‬
‫‪ )tholomew. K, 1994‬نظرية تصف عمل نظام التعلق عند الشخص واإلختالف بين‬
‫استراتيجيات التعلق عند األفراد استنادا على تجاربهم في الحياة‪ ،‬تُ ّ‬
‫نظم هذه اإلستراتيجيات‬
‫من طرف ما يُسّ مى بالنماذج العاملة الداخلية التي تتشكل بدءا من التجارب التي يتلقاها‬
‫الفرد من محيطه‪ ،‬فالطفل يُطور ‪-‬انطالقا من التبادالت األولى مع مقدم الرعاية‪ -‬نماذج‬
‫عالئقية تساعده على فهم وتفسير سلوك المقربين‪ ،‬كما تسمح له بتوقع ردود فعل اآلخرين‪،‬‬
‫وبذلك فهي تؤثر على سلوكه في عالقاته المختلفة‪.‬‬
‫بالرجوع إلى ما جاء عن باولبي (‪ ،)Bowlby. J, 1980‬نجده قد استمد هذا‬
‫المفهوم من عالم النفس البريطاني كريك (‪ )Craik‬سنة ‪ 1943‬لإلشارة إلى هذه النماذج‬
‫العقلية التي ي ّ‬
‫ُشكلها الفرد‪ ،‬مبرزا طبيعتها الدينامية من حيث دورها العملي في حياة الطفل‬
‫باعتبارها الحلقة النمائية التاريخية التي تُفسّ ر كيفية تأثير ظروف الماضي بظروف الحاضر‬
‫والمستقبل‪ ،‬إذ أنّها تُسيّر طريقة الفرد في اإلدراك والتّصرف في عالقاته البين‪ -‬شخصية‪.‬‬
‫ُشكل الطفل نموذج الذات ونموذج اآلخرين من خالل هذه النماذج الداخلية‪،‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ي ّ‬
‫فبناء على تفسيره الستجابات اآلخر يُدرك الفرد نفسه كشخص جدير بمحبة اآلخرين‪،‬‬
‫ناجح اجتماعيا وكفء‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون نموذج الذات إيجابيا‪ .‬أمّا إذا كان العكس‪،‬‬
‫أن الفرد يُدرك نفسه كشخص غير جدير بمحبة اآلخرين‪ ،‬غير ناجح وغير كفء فهنا‬ ‫أي ّ‬
‫يكون نموذج الذات سلبيا أمّا نموذج اآلخرين‪ ،‬فيعتمد على كيفية إدراك الفرد لآلخرين‬
‫كأفراد حساسين أو ال نحو حاجاته‪ ،‬وبالتالي إذا استنتج الطفل أنّه يُمكنه اإلعتماد على‬
‫وجود واستمرارية صور التعلق يُطور نموذج للتعلق ايجابي نحو اآلخرين‪ ،‬لكن إذا أدرك‬
‫اآلخرين كأفراد غير حساسين أو غير مهتمين بحاجاته‪ ،‬فان نموذج اآلخرين يكون لديه‬
‫سلبيا‪.‬‬
‫أن هذه النماذج العاملة الداخلية والعواطف المرتبطة بها مدى الحياة بصفة‬ ‫يتبيّن ّ‬
‫الواعية تُسيّر الطريقة التي يُدرك بها الفرد اآلخرين وتُح ّدد كيفية استجابته في مختلف‬

‫‪247‬‬
‫عالقاته البين‪ -‬شخصية‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬أشار كل من قيدناي وقيدناي (‪)Guedeney. N, Guedeney. A, 2005‬‬
‫إلى أنّه لتحديد السن الذي ّ‬
‫تتشكل فيه هذه النماذج العاملة الداخلية استند بولبي إلى أعمال‬
‫بياجيه ‪ )1947( Piaget‬حول استمرارية الموضوع‪ ،‬حيث أشار إلى أنّه قبل سن الخمسة‬
‫أشهر الطفل ال يدرك التواجد المستمر للموضوع عندما يكون هذا األخير مخفيا عن مجال‬
‫أن الموضوع الذي ال يُرى يعني أنّه مفقود‪ ،‬فال يحاول البحث عنه‬ ‫نظره‪ ،‬إذ يعتقد الرضيع ّ‬
‫وإذا أعيد تقديم هذا الموضوع له فإنّه ال يدركه على أنّه نفس الموضوع األوّل‪ .‬لكن عندما‬
‫أن الطفل يصبح قادرا على التّعرف عن الموضوع المفقود والبحث عنه‬ ‫يحدث العكس؛ أي ّ‬
‫عند اختفائه فذلك يدل على بداية اكتسابه لما يسمى «باستمرارية الموضوع»‪ ،‬ويحدث ذلك‬
‫حسب بولبي (‪ )Bowlby. J, 1988‬في منتصف السنة األولى من العمر عندما يصبح‬
‫الطفل قادرا على بناء تصورات عن أمّه‪ ،‬ممّا يعني استدخال صورتها لتصبح فيما بعد‬
‫فإن القدرة على التعرف وتذكر األم تظهر قبل‬‫نموذج داخلي عامل‪ .‬فحسب بولبي (‪ّ )Ibid‬‬
‫أن األم من وجهة النظر العاطفية هي‬ ‫القدرة على التعرف أو تذكر شخص آخر باعتبار ّ‬
‫أكثر داللة (‪ )plus significative‬من اآلخرين‪ّ ،‬‬
‫ألن الطفل تربطه معها تبادالت أكبر‬
‫وأكثر تنوعا‪.‬‬
‫ّ‬
‫تتشكل النماذج العاملة الداخلية انطالقا من الوسط الذي يعيش فيه الفرد بداية‬ ‫وبالتالي‬
‫من المراحل األولى للحياة‪ ،‬حين يصبح الطفل قادرا على التّعرف والبحث عن الموضوع‬
‫المفقود؛ وبمعنى أدق عندما يصبح الطفل قادرا على تصور الموضوع‪ ،‬فتوقعاته حول‬
‫مدى وجود وحساسية صور التعلق تُدرج في إطار نموذج داخلي عامل للتعلق يتحكم الحقا‬
‫في طريقة إدراكه لألحداث والعالقات الجديدة بناء على ما تلقاه من قبل‪ ،‬فمثال الطفل‬
‫الذي عانى من حرمان عاطفي في مراحل الطفولة األولى‪ ،‬لكن فيما بعد تلقى رعاية من‬
‫عائلة مستقبلة متفهمة ومحبة يميل إلى الحفاظ على نماذجه العاملة الداخلية القاعدية‪ ،‬حيث‬
‫وبأن اآلخرين غير قادرين على‬‫ّ‬ ‫يستمر في أغلب الحاالت باإلعتقاد بأنّه غير جدير بالحب‬
‫اإلستجابة لتوقعاته‪ ،‬وبذلك فكلّما كانت صور التعلق األولى توفر قاعدة أمن وحماية كلما‬
‫كانت استجابات الفرد في عالقاته سليمة؛ ممّا يعني أن النموذج الداخلي العامل للفرد قادر‬
‫على تكييف األحداث الجديدة وتسيير سلوكات التعلق بصفة سليمة تسمح بالوصول إلى‬
‫الهدف المحدد المتمثل في العودة إلى قاعدة آمنة تسمح بتخفيض مشاعر الحصر والتجنب‬
‫في العالقات البين‪ -‬شخصية‪ ،‬فالسلوكات والعواطف اإليجابية التي تظهر عند األفراد الذين‬
‫تلقوا الرعاية من والدين متفهمين وحساسين لحاجاتهم ترجع إلى نموذج داخلي عامل يُوفر‬
‫نمط آمن للتعلق‪ .‬أمّا السلوكات الحصرية والعواطف السلبية المالحظة عند األفراد من‬
‫والدين غير متفهمين وغير ملبين لحاجاتهم فيرجع إلى نموذج داخلي عامل يُوفر نمط غير‬
‫آمن للتعلق‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫أن التعلق يظهر من خالل ميل الفرد للبحث عن التقارب واإلتصال‬ ‫من ثمة‪ ،‬يمكن القول ّ‬
‫مع شخص محدد أو عدة أشخاص ممّن يُوفرون له الشعور بالحماية واألمن‪ ،‬حيث يتحدد هذا‬
‫الميل وفقا للنماذج العاملة الداخلية للتعلق التي تتبلور انطالقا من التجارب السابقة مع صور‬
‫التعلق األولى لتُؤثر‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬في كل التبادالت اإلجتماعية الحالية للفرد‪ ،‬وتُسيّر مواقفه‬
‫أن أي اضطراب على‬ ‫في مختلف عالقاته البين‪ -‬شخصية‪ ،‬ومن هنا تظهر أهمية التعلق إذ ّ‬
‫مستوى التبادالت العاطفية األولى مع صور التعلق التي تتشكل على أساسها النماذج العاملة‬
‫الداخلية سيؤدي إلى إضطراب سيكوباتولوجي على مستوى العالقات المستقبلية للراشد‬
‫ومنه يظهر دور التعلق في البناء السليم لشخصية الراشد وأهميته في مرحلة الطفولة‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫يعتبر التعلق سياقا داخليا يتميّز بالديمومة واإلستمرارية من الطفولة إلى سن الرشد‪،‬‬
‫يتدخل في تشكيل شخصية الفرد وتوافقه النفسي‪ ،‬إذ ّ‬
‫أن أي خلل في نظام التعلق يزيد‬
‫من احتمال اضطراب عالقات الفرد المستقبلية‪ ،‬فهو يُمثل عامل خطر في ظهور العديد‬
‫من اإلضطرابات النفسية كاإلكتئاب واالضطرابات الحصرية وكذا اضطرابات الشخصية‬
‫الحدية بما فيها اضطرابات المرور إلى الفعل‪.‬‬
‫فالتعلق‪ ،‬إذن‪ ،‬الذي ينطلق تشكيله من العالقة األولى «أم‪ -‬طفل» له تأثير كبير على‬
‫النمو النفسي العاطفي للفرد من جميع النواحي؛ فالعالقات المبكرة األولى مع صور التعلق‬
‫هي المحدد األساسي لنوعية العالقات المستقبلية للفرد باعتبار ّ‬
‫أن هذه العالقات قائمة‬
‫على أساس النماذج العاملة الداخلية التي تتميز سيرورتها بالديمومة من الطفولة إلى‬
‫فإن أي حرمان على مستوى العالقات المبكرة مع مقدم الرعاية يؤدي إلى‬‫الرشد‪ ،‬وبالتالي ّ‬
‫اضطراب في هذه النماذج العاملة الداخلية‪ ،‬ما يعني اضطراب العالقات البين شخصية‬
‫للفرد‪.‬‬

‫‪249‬‬
:‫المراجع باللغة العربية‬
‫ قلق اإلنفصال وأنماط التعلق باألمهات البديالت‬:)2012( ‫ أ‬.‫ الشريفين‬،‫ م‬.‫ منار بني‬-1.
‫ مجلة‬،‫لدى عيّنة خاصة من األطفال األيتام والمحرومين في ضوء بعض المتغيرات‬
.126 -85 ‫ ص‬،22 ‫ عدد‬،‫ مصر‬،‫كلية التربية باإلسماعيلية‬

:‫المراجع باللغة األجنبية‬


2. Bowlby. J (1988) : A secure-base : parent-child attachment and healty
human devlopment, new york, asic books publishers.
3. Bowlby. J (1984) : Attachement et perte : la perte tristesse et
dépression, traduction : Didier. E, paris, PUF.
4. Conway. M A (2005) : Memory and the self, Journal of memory and
language, N°53, p594- 628.
5. Cupa. D (2000), L’attachement : perspectives actuelles, paris, E.D.K.
6. Eysench. M (2001), Psychology a student handbook, new york,
psychology press.
7. Griffin. D, Bartholomew. K (1994) : Models of self and other :
fundamental dimensions underlying models of adult attachment,
Journal of personality and social psychology, N°67, p430445-.
8. Guedeney. N, Guedeney. A (2006) : L’attachement concepts et
explications, paris, masson.
9. Guedeney. N, Guedeney. A (2005) : L’attachement concepts et
application, paris, masson.
10. Main. M, et coll (1985) : security in infancy, childhood and adulthood :
a move to the level of representation, Monographs of the society for
research in child development, N°209, p 66- 104.
11. Papalia. D, Feldman. R (1999) : Achild’s world : infancy through
adolescence, new york, the McGraw- hill company i.n.c.
12. Sillamy. N (2003) : Dictionnaire de psychologie, paris, larousse.
13. Zeanah. C (1993) : Attachment. In : handbook of infant mental health.
C.H.Zeanah, new york, guilford press.

250

You might also like