Professional Documents
Culture Documents
النظم
النظم
ليس عبد القاهر الجرجاني أول دارس عربي وظف مصطلح "النظم" في كتابته البالغية وتحليله
األدبي ،بل هو مصطلح أثير عند الكثير البالغيين وعلماء الكالم ،خاصة في طرحهم لقضية االعجاز في
القرآن الكريم .وبهذا الصدد ،نذكر كتابا الفه الجاحظ بعنوان "نظم القرآن" ،اال انه كتاب ضاع مثلما
ضاعت كتب كثيرة من التراث االدبي والنقدي العربي ,لذلك ال نستطيع االعتماد عليه لمعرفة قصد
الجاحظ بمصطلح النظم ،لتبقى بعض اشاراته المتفرقة في كتبه مرجعا أساسيا اللتقاط داللة النظم لديه،
خاصة وانه كان يعتبره وجها من وجوه اإلعجاز في القرآن الكريم ،يقول " :والن رجال من العرب لو
قرأ على رجل من خطبائهم ومن بلغائهم سورة واحدة ،طويلة أو قصيرة ،لتبين له في نظامها
ومخرجها ،وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها .ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزها عنها,
وليس ذلك في الحرف والحرفيين ،والكلمة والكلمتين ،أال ترى أن الناس قد يتهيأ في طباعهم ويجري
على ألسنتهم ،أن يقول رجل "الحمد هلل" و"وعلى هللا توكلنا" وهذا كله في القرآن غير أنه متفرق
غير مجتمع ،ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم
القرآن ،وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر" رسائل الجاحظ ،حجج النبوية ،تحقيق عبد السالم محمد
هارون ،ص 229 .
ويبرز هذا المقطع أن الجاحظ يرد االعجاز في القرآن الى نظام الكلمات في السلسلة اللغوية ،مما
يعنى ان النظم عند يبقى مرادفا لطرق السبك والتأليف والصياغة اللغوية وهي تستعيد معنى من المعاني.
وعلى هذا المنوال نسج أيضا عبد القاضي عبد الجبار (415ه) في كتابه إعجاز القرأن معنى
النظم ،لكنه كان اكثر دقة من الجاحظ ،حين ربط نظم الكالم بالمواقع اإلعرابية لأللفاظ ،أي أن حسن
اختيار األلفاظ ووضعها داخل السلسلة الكالمية هو ما يمنحها فصاحة ،ويجعلها تسهم في حسن الضم
والتأليف ،والصياغة النحوية للكالم .ويقول " :أ بد مع هذا الضم من أن يكون لكل كلمة صفة ،وقد
يجوز في هذه الصفة أن تكون المواصفة التي تتناول الضم ،وقد تكون باإلعراب الذي له مدخل فيه،
وقد تكون بالموقع وليس لهذه األقسام رابع"( راجع لبالغة تطور وتاريخ ،شوقي ضيف ص . )119 ،
والحال أن عبد القاهر الجرجاني سيستثمر هذه االجتهادات وأخرى وردت قبل اعماله عند بالغيين
وكالميين آخرين ،لكي يضع تصوره للبالغة والفصاحة بما صار يعرف بنظرية النظم عند الجرجاني .
ولما كان االرث الذي سيبني عليه الجرجاني تصوره هذا مرتبطا بدرسه البالغي حول علم المعاني ،
فكان لزاما ان يثير قضية اللفظ والمعنى اللذين تفاضل فيها الدارسون في حديثهم عن االعجاز القرآني
من جهة ،وعن معايير جودة الشعر من جهة اخرى .
..هكذا سيرد على الذين يرون المزية للفظ على المعنى بقوله " :االلفاظ خدم للمعاني ،والمصرفة
في حكمها وكانت المعاني هي المالكة سياستها ،المستحقة طاعتها ،من نصر اللفظ على المعنى كان
كمن أزال الشيء عن جهته ،واحاله عن طبيعته وذلك مظنة االستكراه وفيه فتح ابواب العيب
والتعرض للشين"
" واعلم ان الداء الدوي والذي اعي أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه واقل االحتفال
باللفظ وجعل ال يعطيه من المزية ان هو أعطى ،اال فضل عن المعنى يقول :ما اللفظ لوال المعنى ،وهل
الكالم إال بمعناه؟ فانت تراه ال يقدم شعرا حتى يكون قد أودعه حكمة وادبا ،واشتمل على تشبيه
غريب ومعنى نادر .فان مال الى اللفظ شيئا ،ورأى أن ي نحله بعض الفضيلة .لم يعرف غير االستعارة
،ثم ال ينظر في حال تلك االستعارة ،أحسنت بمجرد كونها استعارة ،أم من أجل فرق ووجه ،ام
لألمرين ؟ ...
واعلم أنا وان كنا اذا اتبعنا العرف والعادة ،وما يهجس في الضمير وما عليه العامة ارانا ذلك
الصواب معهم والتعويل ينبغي ان يكون على المعنى وانه الذي ال يصوغ القول بخالفه فان االمر بالضد
اذا جئنا الى الحقائق وإلى ما عليه المحصلون ،النا ال نرى متقدما في علم البالغة مبرزا في شأوها اال
وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويغض منه" دالئل اإلعجاز ،تحقيق الشيخ محمد عبده ،ص 194 .ـ . 195
ي تجلى من هذا المقطع ان الجرجاني ال يدعو من يريد أن يعرف "مكان الفضل والمزية في الكالم
أن ينظر في مجرد معناه" ،ذلك أنه ال يولى أهمية الى نوعية المعنى ،سواء كان حكمة او معنى نادرا،
بقدر ما يتوجب النظر أيضا بطرق الصياغة اللفظية .ومن ثم سيتجه الجرجاني ،للخروج من هذا
التعارض ،الى التوفيق بين الرأيين ،وتغدو مزية الكالم لديه مزية مشتركة بين نوعية المعنى والصياغة
اللفظية التي وضعت لها ،وهو ما نفهم من حديثه عن نظم الكالم ،وجعله معيار جودة ومزيته :
"معلوم أ َ ْن ليس ال َّن ْظ ُم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض ،و َج ْع ِل بعضها بسبب من بعض .وال َك ِل ُم
ق اسم ثالث :اسم ،وفعل ،وحرف .وللتعلق فيما بينها طرق معلومة ،وهو ال يعدو ثالثة أقسام -تعلُّ ُ
اسم بفعل ،وتعلق حرف بهما" دالئل االعجاز ص 2 .باسم ،وتعلق ٍ ٍ
" واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقنضيه علم النحو ،وتعمل على قوانينه
وأصوله ،وتعرف مناهجه التي نهجت ،فال تزيغ عنها ()...
هذا هو السبيل .فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ،وخطؤه إن كان خطأ الى
النظم ،ويدخل تحت هذا االسم ـ غال وهو معنى من معاني النحو ،قد أصيب به موضع ووضع في حقه،
أو عومل بخالف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه ،واستعمل في غير ما ينبغي له ،فال ترى كالما قد
وصف بصحة نظم أو فساده ،او وصف بمزية وفضل فيه ،اال وان تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد
وتلك المزية .وذلك الفضل الى معاني النحو واحكامه ،ووجدته يدخل في أصل من أصوله ،ويتصل
بباب من ابوابه" الدالئل ،ص 64ـ. 65
يجمل هذا المقطع اذن ،تصور الجرجاني لعلة جودة الكالم او فساده .فلم يعد االمر متعلقا
بطبيعة اللفظ والصياغة فقط ،أو بنوعية المعنى ،بل إن المزية تعود إلى طرق انتظام الكلمات في
السلسلة الكالمية وهي تتقصد تثبيت معنى من المعاني ،وبتعبير اخر ان قيمة الكالم ترتبط بالمعاني
المنبثقة من االحكام االعرابية التي تفرزها عالقة الكلمة بالكلمة التي تجاورها ،حيث يكون المعنى الذي
تقصده ما يجعلك تعمد إلى التأخير والتقديم أو القصر أو التمييز أو الحالية أو المفعولية .وبذلك
فالجرجاني يطور ما ا ورده القاضي عبد الجبار الذي ارجع مزية الكالم الى االحكام االعرابية ،اال انه،
الكلم
ِ اضافة الى ذلك ،يربط ترتيب الكلمات نحويا بالمعاني المرتبة في النفس ،فيقول ":وأما نظ ُم
ب المعاني في ب ترتي ِ آثار المعاني وتُرتَّبُها على حس ِ نظمها َ ِ مر فيه كذَلك ألنك ت َ ْقتضي فيفليس األ َ ُ
َ
َيء وليس هو النَّظم الذي معنا ُه َ
ض ُّم الش ِ َ بعض
ٍ يعتبر فيه حا ُل المنظوم بعضهُ َ
مع ُ النَّفس .فهو إذا ً نظم
والوشْي ِ
َ والبناء
ِ ّيء كيف جا َء واتَّفق .وكذلك كانَ عن َدهُم نظيرا ً للنَّسجِ والت ّ ِ
أليف والصياغ ِة إلى الش ِ
حيث َوض ُع ُ لوضع ك ٍ ّل
ِ حتى يكونَ
ّ بعضٍ بعضها م َع األجزاء ِ
ِ اعتبار
َ يوجب
ُ والتّحبير وما أشبه ذلك مما
غيره لم َيص َّح( )...ليس الغرض من النظم ان توالت مكان ِ
ٍ علّ ٍة ت َ ْقتضي كونَه هناك وحتى لو ُوض َع في
الفاظها في النطق ،بل ان تنساقت داللتها وتالقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل "
ومعنى ذلك عند عبد القاهر الجرجاني ان الترتيب النحوي للكالم ،ليس امرا عفويا او تلقائيا أو
اختيارا بالغيا محضا ،إنما هو ترجمة لطريقة وجود المعنى في النفس ،حيث مثال اذا كان يهتم في
دواخله بمعنى من المعاني ،كان لزاما عليه أن يظهر ذلك في ترتيب الكلمات في خطابه .ثم إن هذا
المعنى ال يكون مرتبا في النفس بطريقة جيدة وسليمة إال إذا خضع لنواميس العقل السليم ،مما يجعل من
المعنى الذي يترتب من نظم الكالم نتيجة لسلسلة من العمليات الذهنية ،تبدا أوال بانتاج المعني في النفس
وتمحيصه ثانيا على ضوء العقل بصف ته قوة نفسية تتيح التمييز بين الحسن والقبيح من االمور ،ثم تأتي
مرحلة إعداد األلفاظ ووضعها وفق منطق النحو ،بشرط أن يراعي هذا الوضع مقصدية المتكلم ،ويترجم
المعنى الذي يريد تثبيته في ذهن المستمع او المتلقي .