Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 3

‫حـ ـ نحو مجاوزة لثنائية اللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني( ‪471‬ه) ‪.

‬‬

‫ليس عبد القاهر الجرجاني أول دارس عربي وظف مصطلح "النظم" في كتابته البالغية وتحليله‬
‫األدبي‪ ،‬بل هو مصطلح أثير عند الكثير البالغيين وعلماء الكالم‪ ،‬خاصة في طرحهم لقضية االعجاز في‬
‫القرآن الكريم ‪ .‬وبهذا الصدد‪ ،‬نذكر كتابا الفه الجاحظ بعنوان "نظم القرآن"‪ ،‬اال انه كتاب ضاع مثلما‬
‫ضاعت كتب كثيرة من التراث االدبي والنقدي العربي‪ ,‬لذلك ال نستطيع االعتماد عليه لمعرفة قصد‬
‫الجاحظ بمصطلح النظم‪ ،‬لتبقى بعض اشاراته المتفرقة في كتبه مرجعا أساسيا اللتقاط داللة النظم لديه‪،‬‬
‫خاصة وانه كان يعتبره وجها من وجوه اإلعجاز في القرآن الكريم‪ ،‬يقول ‪" :‬والن رجال من العرب لو‬
‫قرأ على رجل من خطبائهم ومن بلغائهم سورة واحدة‪ ،‬طويلة أو قصيرة‪ ،‬لتبين له في نظامها‬
‫ومخرجها‪ ،‬وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها‪ .‬ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزها عنها‪,‬‬
‫وليس ذلك في الحرف والحرفيين‪ ،‬والكلمة والكلمتين‪ ،‬أال ترى أن الناس قد يتهيأ في طباعهم ويجري‬
‫على ألسنتهم‪ ،‬أن يقول رجل "الحمد هلل" و"وعلى هللا توكلنا" وهذا كله في القرآن غير أنه متفرق‬
‫غير مجتمع‪ ،‬ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم‬
‫القرآن‪ ،‬وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر" رسائل الجاحظ‪ ،‬حجج النبوية‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد‬
‫هارون‪ ،‬ص ‪229 .‬‬

‫ويبرز هذا المقطع أن الجاحظ يرد االعجاز في القرآن الى نظام الكلمات في السلسلة اللغوية‪ ،‬مما‬
‫يعنى ان النظم عند يبقى مرادفا لطرق السبك والتأليف والصياغة اللغوية وهي تستعيد معنى من المعاني‪.‬‬

‫وعلى هذا المنوال نسج أيضا عبد القاضي عبد الجبار (‪415‬ه) في كتابه إعجاز القرأن معنى‬
‫النظم‪ ،‬لكنه كان اكثر دقة من الجاحظ ‪ ،‬حين ربط نظم الكالم بالمواقع اإلعرابية لأللفاظ‪ ،‬أي أن حسن‬
‫اختيار األلفاظ ووضعها داخل السلسلة الكالمية هو ما يمنحها فصاحة‪ ،‬ويجعلها تسهم في حسن الضم‬
‫والتأليف‪ ،‬والصياغة النحوية للكالم ‪ .‬ويقول ‪" :‬أ بد مع هذا الضم من أن يكون لكل كلمة صفة‪ ،‬وقد‬
‫يجوز في هذه الصفة أن تكون المواصفة التي تتناول الضم‪ ،‬وقد تكون باإلعراب الذي له مدخل فيه‪،‬‬
‫وقد تكون بالموقع وليس لهذه األقسام رابع"( راجع لبالغة تطور وتاريخ‪ ،‬شوقي ضيف ص ‪. )119 ،‬‬

‫والحال أن عبد القاهر الجرجاني سيستثمر هذه االجتهادات وأخرى وردت قبل اعماله عند بالغيين‬
‫وكالميين آخرين‪ ،‬لكي يضع تصوره للبالغة والفصاحة بما صار يعرف بنظرية النظم عند الجرجاني ‪.‬‬
‫ولما كان االرث الذي سيبني عليه الجرجاني تصوره هذا مرتبطا بدرسه البالغي حول علم المعاني ‪،‬‬
‫فكان لزاما ان يثير قضية اللفظ والمعنى اللذين تفاضل فيها الدارسون في حديثهم عن االعجاز القرآني‬
‫من جهة ‪ ،‬وعن معايير جودة الشعر من جهة اخرى ‪.‬‬

‫‪ ..‬هكذا سيرد على الذين يرون المزية للفظ على المعنى بقوله ‪" :‬االلفاظ خدم للمعاني‪ ،‬والمصرفة‬
‫في حكمها وكانت المعاني هي المالكة سياستها‪ ،‬المستحقة طاعتها‪ ،‬من نصر اللفظ على المعنى كان‬
‫كمن أزال الشيء عن جهته‪ ،‬واحاله عن طبيعته وذلك مظنة االستكراه وفيه فتح ابواب العيب‬
‫والتعرض للشين"‬

‫اسرار البالغة‪ ،‬تحقيق ه ‪ .‬ريتر ‪ ،‬ص ‪8 .‬‬


‫ويتضح أن الجرجاني فصل بين اللفظ والمعنى‪ ،‬كما يظهر عنايته بالمعاني حتى ان االلفاظ ال‬
‫تعدو كونها خادمة لها‪ ،‬تؤدي ما يرغب المتكلم في اصابته من معان‪ ،‬وكل ما قال عكس ذلك لحق العيب‬
‫كالمه‪ ،‬وفسدت معانيه ‪ .‬غير اننا نجد في مواقع اخرى في اسرار البالغة ودالئل االعجاز ما يبعد‬
‫الجرجاني عن اعطاء االفضلية للمعنى على حساب اللفظ‪ ،‬وذلك في رده على البلغاء الذين يروون المزية‬
‫للمعاني على حساب الصياغة اللفظية ‪..‬ويقول ‪:‬‬

‫" واعلم ان الداء الدوي والذي اعي أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه واقل االحتفال‬
‫باللفظ وجعل ال يعطيه من المزية ان هو أعطى‪ ،‬اال فضل عن المعنى يقول ‪ :‬ما اللفظ لوال المعنى‪ ،‬وهل‬
‫الكالم إال بمعناه؟ فانت تراه ال يقدم شعرا حتى يكون قد أودعه حكمة وادبا ‪ ،‬واشتمل على تشبيه‬
‫غريب ومعنى نادر ‪ .‬فان مال الى اللفظ شيئا‪ ،‬ورأى أن ي نحله بعض الفضيلة‪ .‬لم يعرف غير االستعارة‬
‫‪ ،‬ثم ال ينظر في حال تلك االستعارة‪ ،‬أحسنت بمجرد كونها استعارة‪ ،‬أم من أجل فرق ووجه‪ ،‬ام‬
‫لألمرين ؟ ‪...‬‬

‫واعلم أنا وان كنا اذا اتبعنا العرف والعادة ‪ ،‬وما يهجس في الضمير وما عليه العامة ارانا ذلك‬
‫الصواب معهم والتعويل ينبغي ان يكون على المعنى وانه الذي ال يصوغ القول بخالفه فان االمر بالضد‬
‫اذا جئنا الى الحقائق وإلى ما عليه المحصلون‪ ،‬النا ال نرى متقدما في علم البالغة مبرزا في شأوها اال‬
‫وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويغض منه" دالئل اإلعجاز‪ ،‬تحقيق الشيخ محمد عبده‪ ،‬ص ‪194 .‬ـ ‪. 195‬‬

‫ي تجلى من هذا المقطع ان الجرجاني ال يدعو من يريد أن يعرف "مكان الفضل والمزية في الكالم‬
‫أن ينظر في مجرد معناه"‪ ،‬ذلك أنه ال يولى أهمية الى نوعية المعنى‪ ،‬سواء كان حكمة او معنى نادرا‪،‬‬
‫بقدر ما يتوجب النظر أيضا بطرق الصياغة اللفظية ‪ .‬ومن ثم سيتجه الجرجاني‪ ،‬للخروج من هذا‬
‫التعارض‪ ،‬الى التوفيق بين الرأيين‪ ،‬وتغدو مزية الكالم لديه مزية مشتركة بين نوعية المعنى والصياغة‬
‫اللفظية التي وضعت لها‪ ،‬وهو ما نفهم من حديثه عن نظم الكالم‪ ،‬وجعله معيار جودة ومزيته ‪:‬‬

‫"معلوم أ َ ْن ليس ال َّن ْظ ُم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض‪ ،‬و َج ْع ِل بعضها بسبب من بعض ‪.‬وال َك ِل ُم‬
‫ق اسم‬ ‫ثالث ‪ :‬اسم‪ ،‬وفعل‪ ،‬وحرف‪ .‬وللتعلق فيما بينها طرق معلومة‪ ،‬وهو ال يعدو ثالثة أقسام ‪ -‬تعلُّ ُ‬
‫اسم بفعل‪ ،‬وتعلق حرف بهما" دالئل االعجاز ص ‪2 .‬‬‫باسم‪ ،‬وتعلق ٍ‬ ‫ٍ‬

‫" واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقنضيه علم النحو‪ ،‬وتعمل على قوانينه‬
‫وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه التي نهجت‪ ،‬فال تزيغ عنها (‪)...‬‬

‫هذا هو السبيل ‪ .‬فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ‪ ،‬وخطؤه إن كان خطأ الى‬
‫النظم‪ ،‬ويدخل تحت هذا االسم ـ غال وهو معنى من معاني النحو‪ ،‬قد أصيب به موضع ووضع في حقه‪،‬‬
‫أو عومل بخالف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه‪ ،‬واستعمل في غير ما ينبغي له‪ ،‬فال ترى كالما قد‬
‫وصف بصحة نظم أو فساده‪ ،‬او وصف بمزية وفضل فيه ‪ ،‬اال وان تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد‬
‫وتلك المزية ‪ .‬وذلك الفضل الى معاني النحو واحكامه ‪ ،‬ووجدته يدخل في أصل من أصوله‪ ،‬ويتصل‬
‫بباب من ابوابه" الدالئل ‪ ،‬ص ‪64‬ـ‪. 65‬‬

‫يجمل هذا المقطع اذن ‪ ،‬تصور الجرجاني لعلة جودة الكالم او فساده ‪ .‬فلم يعد االمر متعلقا‬
‫بطبيعة اللفظ والصياغة فقط‪ ،‬أو بنوعية المعنى ‪ ،‬بل إن المزية تعود إلى طرق انتظام الكلمات في‬
‫السلسلة الكالمية وهي تتقصد تثبيت معنى من المعاني‪ ،‬وبتعبير اخر ان قيمة الكالم ترتبط بالمعاني‬
‫المنبثقة من االحكام االعرابية التي تفرزها عالقة الكلمة بالكلمة التي تجاورها‪ ،‬حيث يكون المعنى الذي‬
‫تقصده ما يجعلك تعمد إلى التأخير والتقديم أو القصر أو التمييز أو الحالية أو المفعولية ‪ .‬وبذلك‬
‫فالجرجاني يطور ما ا ورده القاضي عبد الجبار الذي ارجع مزية الكالم الى االحكام االعرابية ‪ ،‬اال انه‪،‬‬
‫الكلم‬
‫ِ‬ ‫اضافة الى ذلك‪ ،‬يربط ترتيب الكلمات نحويا بالمعاني المرتبة في النفس ‪ ،‬فيقول ‪ ":‬وأما نظ ُم‬
‫ب المعاني في‬ ‫ب ترتي ِ‬ ‫آثار المعاني وتُرتَّبُها على حس ِ‬ ‫نظمها َ‬ ‫ِ‬ ‫مر فيه كذَلك ألنك ت َ ْقتضي في‬‫فليس األ َ ُ‬
‫َ‬
‫َيء‬ ‫وليس هو النَّظم الذي معنا ُه َ‬
‫ض ُّم الش ِ‬ ‫َ‬ ‫بعض‬
‫ٍ‬ ‫يعتبر فيه حا ُل المنظوم بعضهُ َ‬
‫مع‬ ‫ُ‬ ‫النَّفس ‪ .‬فهو إذا ً نظم‬
‫والوشْي ِ‬
‫َ‬ ‫والبناء‬
‫ِ‬ ‫ّيء كيف جا َء واتَّفق ‪ .‬وكذلك كانَ عن َدهُم نظيرا ً للنَّسجِ والت ّ ِ‬
‫أليف والصياغ ِة‬ ‫إلى الش ِ‬
‫حيث َوض ُع‬ ‫ُ‬ ‫لوضع ك ٍ ّل‬
‫ِ‬ ‫حتى يكونَ‬
‫ّ‬ ‫بعض‬‫ٍ‬ ‫بعضها م َع‬ ‫األجزاء ِ‬
‫ِ‬ ‫اعتبار‬
‫َ‬ ‫يوجب‬
‫ُ‬ ‫والتّحبير وما أشبه ذلك مما‬
‫غيره لم َيص َّح(‪ )...‬ليس الغرض من النظم ان توالت‬ ‫مكان ِ‬
‫ٍ‬ ‫علّ ٍة ت َ ْقتضي كونَه هناك وحتى لو ُوض َع في‬
‫الفاظها في النطق‪ ،‬بل ان تنساقت داللتها وتالقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل "‬

‫الدالئل ‪ .‬ص ‪40 .‬‬

‫ومعنى ذلك عند عبد القاهر الجرجاني ان الترتيب النحوي للكالم ‪ ،‬ليس امرا عفويا او تلقائيا أو‬
‫اختيارا بالغيا محضا‪ ،‬إنما هو ترجمة لطريقة وجود المعنى في النفس‪ ،‬حيث مثال اذا كان يهتم في‬
‫دواخله بمعنى من المعاني ‪ ،‬كان لزاما عليه أن يظهر ذلك في ترتيب الكلمات في خطابه ‪ .‬ثم إن هذا‬
‫المعنى ال يكون مرتبا في النفس بطريقة جيدة وسليمة إال إذا خضع لنواميس العقل السليم‪ ،‬مما يجعل من‬
‫المعنى الذي يترتب من نظم الكالم نتيجة لسلسلة من العمليات الذهنية ‪ ،‬تبدا أوال بانتاج المعني في النفس‬
‫وتمحيصه ثانيا على ضوء العقل بصف ته قوة نفسية تتيح التمييز بين الحسن والقبيح من االمور‪ ،‬ثم تأتي‬
‫مرحلة إعداد األلفاظ ووضعها وفق منطق النحو‪ ،‬بشرط أن يراعي هذا الوضع مقصدية المتكلم‪ ،‬ويترجم‬
‫المعنى الذي يريد تثبيته في ذهن المستمع او المتلقي ‪.‬‬

You might also like