Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 293

‫امجلهورية اجلزائرية ادلميقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعلمي العايل و البحث العاملي‬


‫جامعة عبد امحليد ابن ابديس – مس تغامن‬
‫لكية العلوم الاجامتعية‬
‫شعبة الفلسفة‬

‫أطرحة لنيل شهادة ادلكتوراه ختصص فكر عريب معاص‬


‫حتت عنوان‬
‫العلمنة واحلداثة يف الفكر العريب املعاص‬
‫‪ -‬محمد أركون منوذجا‪-‬‬

‫حتت ارشاف ‪:‬‬ ‫من اعداد الطالب‪:‬‬

‫ادلكتور ‪ :‬العريب ميلود‬ ‫• عاليم خادل املسعود‬


‫الس نة اجلامعية‬
‫‪2020 / 2019‬‬

‫‪1‬‬
‫الهداء‬
‫أهدي هذا العمل اىل روح محمد أركون‪-‬‬

‫‪2‬‬
‫لكمة شكر‬

‫أتقدم بالشكر إلى كل من ساعدني في بلوغ هذه اللحظة‬


‫املميزة لي‪ .‬من بداية مشواري الجامعي إلى مرحلة إعداد‬
‫رسالة الدكتوراه‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة‬

‫‪4‬‬
‫مقدمة‬

‫يفسر محمد أركون عدم تفاعل العقل اإلسالمي والعربي مع ما نقلته األديان السماوية‬
‫ومع ما قدمته الحداثة إلى عدم انتباهه للمعارف التي وصل إليها‪ ،‬ألن التفكير الالهوتي في‬
‫مختلف المجتمعات لم يسمح بذلك وخاصة ما تعلق بدراسة التراث الديني وبالتحديد التراث‬
‫اإلسالمي والقرآني‪ ،‬إذ يؤكد محمد أركون أن الحرية الفكرية قد تجلت في القرون الهجرية‬
‫الثالث األولى حيث تكون الفكر اإلسالمي من خالل التعددية الفكرية التي تمثلت في ظهور‬
‫المذاهب والفرق واختالفها والصراع الذي ميزها‪ ،‬رغم أنها تمكنت من التعايش وااللتزام‬
‫باالحترام والمناقشة دون عنف إال أنها انطلقت كلها من مسلمات فكرية واحدة على الرغم من‬
‫تباينها‪.‬‬

‫لذا يعتقد محمد أركون أن العقل اإلسالمي عقل تاريخي له بداية تمثلت في رسالة‬
‫الشافعي التي وضعت األحكام الشرعية واألصول الدينية التي قام عليها الفقه فيما بعد‬
‫والزالت تلك األحكام واألصول لحد الساعة وحدها من تقدم التفاسير والتأويالت للنصوص‬
‫واألحداث‪ ،‬وعليه فقد اشتغل العقل اإلسالمي حسب أركون لغاية هذه اللحظة في إطار‬
‫المعرفة الجاهزة‪ .‬األمر الذي يدفعنا للتفكير في التاريخ اإلسالمي والعربي كما قام بذلك تماما‬
‫الفكر الغربي في أوربا بعد عصر األنوار في القرن‪ 18‬عقب تحرير العقل من قيود المدارس‬
‫السكوالئية التي فرضتها الكنيسة لتقف على جميع انتاجات العقل كما يفعل الفقهاء في الفكر‬
‫اإلسالمي حتى تضع حدودا ال يمكنه تجاوزها‪ ،‬وهذا حسب محمد أركون ينتمى للممارسة‬
‫السياسية من خالل استعمال هذا العقل الديني في التوجيه والتسيير ولكن بعد عصر األنوار‬
‫أصبح الفكر متحر ار تماما منها واستطاع قراءة التراث الديني والتفكير فيه‪.‬‬

‫يطرح ها هنا محمد أركون مفهوم جديد هو الظاهرة الدينية حيث يرى أن الدين‬
‫اإلسالمي حدث تاريخي ال يمكن للعقل اإلسالمي العربي دراسته أو تقديمه في المدارس‬
‫والمؤسسات األكاديمية التعليمية المختلفة بما فيها التعليم العالي من دون وصول هذا العقل‬
‫للعلمانية التي لها تاريخ بعيد كعامل مؤثر ومتفاعل معه في مختلف مراحله‪ ،‬لذا ال يمكن‬
‫االستغناء عنها واستبعادها دون معرفة ألصولها ومرجعياتها عبر العصور‪ ،‬وحسب أركون‬

‫‪5‬‬
‫فقد تجلت العلمانية بوضوح كبير من خالل الصراع القديم بين الفكر والدين‪ ،‬والمقصود بهذا‬
‫األخير عنده هو الفكر الدوغمائي الذي استمد قوته من الكتب وركبها تركيبا لتصبح بنية‬
‫مغلقة وواجه من خاللها العقل بالرفض واإلقصاء‪.‬‬

‫العلمانية حسب أركون غير غريبة على المجتمعات اإلسالمية والعربية خاصة‬
‫وليست أيضا غريبة على المجتمعات الغربية ألنها هي من مثلت الطرف الفكري في الصراع‬
‫مع الدين منذ القدم‪ ،‬وتجلت عند المسلمين والعرب في طرح المعتزلة من قبل كما ظهرت‬
‫أيضا في استخدام الدين لخدمة السلطة الحاكمة ما يفسر علمنة الدين في تلك المراحل‪ ،‬ولقد‬
‫غرقت الدولة األموية أيضا في األفكار التي سيطرت على الدين‪ .‬لذا نجد أركون يرفض‬
‫نهائيا فكرة اإلسالم دين ودولة أو دين ودنيا‪ ،‬فالدولة في اإلسالم كما في المسيحية ظاهرة‬
‫دنيوية قبل أن تكون ظاهرة دينية وفكرة الدين دولة مثلت لوقت طويل االكراهات التي‬
‫سيطرت على العقل وحكمته وأغلقت عليه نهائيا‪ ،‬فتاريخ العلمانية في كل المجتمعات عموما‬
‫وعند المسلمين والعرب بالخصوص مدرج بالدماء منذ القدم واستمر ينزف من مرحلة ألخرى‬
‫ليبين أن العقل واجهته آلة إيديولوجية عنيفة قمعت حركته وأسرته لوقت طويل حتى بلغ‬
‫مرحلة اليأس والتسليم وولد أزمة فكرية لحقت بها محاوالت مستميتة في الفكر اإلسالمي‬
‫والعربي لمالمسة العصر والتناغم معه ومسايرته إال أنها اكتفت باالعتماد على ذلك في‬
‫مشاكل التنمية والتحديث المادي‪ ،‬لتندمج هذه المجتمعات شيئا فشيئا في العلمانية ألنها واقع‬
‫فرض نفسه منذ البداية وهذا ما يتضح في ظهور الحركات الفكرية فيها وتعددها واختالفها‬
‫فحتى الحركة األصولية في نظر محمد أركون مثلت العلمانية بلغة دينية ألنها ال تجيد‬
‫غيرها‪ .‬األمر الذي حول الدين ألفكار سياسية تتبناها السلطة أحيانا والمعارضة أحيانا أخرى‬
‫أو كالهما معا وبذلك فقد الدين ذلك البعد المتعالي‪.‬‬

‫ال يقف هنا محمد أركون ضد الدين بل يقف ضد استعمال الدين ألهداف خاصة‪،‬‬
‫وعليه فالمسلمون عليهم أن يتخلصوا من قيود الدين القديمة ومن أجل ذلك يرى محمد أركون‬
‫أن العلمانية هي التي ستتحقق كمنهج ونظام بعد تحرير العقل وضمان الحقوق والقيم‬
‫اإلنسانية ‪ ،‬التي ستمكن فيما بعد من تحقيق الحداثة المنشودة التي ستستمر بدورها في زعزعة‬
‫الفكر بطريقة متواصلة ألنها مشروع ليس له نهاية بل يتوسع ويكبر كلما تطور ألن الحداثة‬
‫‪6‬‬
‫مفهوم يعني تحديث المعارف وتجديدها والتفاعل المستمر مع مختلف عناصرها في مختلف‬
‫المجاالت والميادين‪.‬‬

‫وقف محمد أركون مباشرة أمام الذات اإلسالمية والعربية وخاصة بالبحث في أسباب‬
‫التراجع واألزمة الفكرية‪ ،‬كما وقف على تردد العقل اإلسالمي والعربي أمام الحداثة بسبب‬
‫الموقف األصولي المتعلق باألفكار القومية ومسائل الهوية الذي همش وأقصى العمل‬
‫التاريخي واالجتماعي والنفسي والفنولوجي وحتى استطاع إبعاد التساؤل الفلسفي من‬
‫الدراسات اإلسالمية الذي يعتبره محمد أركون سببا مباش ار في توقف العقل اإلسالمي العربي‬
‫ودهشته‪ ،‬ليقدم لنا الحل الناجع حسب تصوره لتجاوز هذا الوضع‪ :‬وهو العلمانية التي‬
‫ستتمكن حسب رأيه من بلوغ الحداثة‪ ،‬ألجل هذا نجد أن مفهوم العلمانية احتل مكانة مركزية‬
‫في مشروع محمد أركون حين دراسة العقل اإلسالمي‪ ،‬ويتأتى ذلك من خالل النهج الذي‬
‫قدمه والمتمثل في اإلسالميات التطبيقية التي رأى أنها ستقف أوال عند لحظة التجلي أو‬
‫االكتشاف وستزيل الغموض على أسباب النزول والنصوص الدينية وتناول العقل اإلسالمي‬
‫انطالقا من بدايته‪ ،‬ثم تحديد الروابط التي تأسست بعد تلك اللحظة بين الدين والسياسة‬
‫والدنيا‪ ،‬لتليها دراسة كل العوائق والقيود التي تولدت عبر كل المراحل‪ .‬كما اجتهد محمد‬
‫أركون كثي ار ولمدة طويلة في وضع مشروعه على العقل اإلسالمي الذي يبين فيه ضرورة‬
‫تطبيقه لتحقيق ونشر الحداثة في المجتمعات اإلسالمية والعربية إال أن أعماله لم تلقى‬
‫االهتمام المناسب والكافي عند المثقفين المسلمين مثلما حضيت به في الفكر الغربي‬
‫األوربي بل وأكثر من ذلك فلقد لقت أفكاره استنكار وانتقادا الذعا وخاصة من األصوليين‬
‫اإلسالمي ين بسبب أفكاره الجريئة لتناول المسكوت عنه أو الال مفكر فيه في الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫وبسبب أيضا اعتماده على العلمانية التي وضعها كشرط أساسي للحداثة التي ترتسم مالمحها‬
‫في موقف أحرج الفكر األصولي واستفزه وهو فصل الدين عن الدولة‪.‬‬

‫لقد درس محمد أركون في مقابل الطرح العلماني الحداثي الغربي‪ ،‬الفكر اإلسالمي‬
‫العربي وخاصة بعد تلك المحاوالت المترددة بعد االستقالل فرأى أنها لم ترقى إلى مستوى‬
‫الحداثة الحقيقية التي تشمل كل المظاهر والمفاهيم التي سبق تقديمها بل اقتصرت على‬
‫تحديث الجانب المادي الذي ظهر في استيراد واستقدام المنتجات التقنية ولم تهتم فعليا‬
‫‪7‬‬
‫باالستفادة وباستثمار المعطيات الذهنية والفكرية التي قدمتها الحداثة في الغرب األوربي‪،‬‬
‫ليعود مرة أخرى أركون يلح ويصر على نقد العقل اإلسالمي العربي بكل ما يحمله من‬
‫نصوص مقدسة وتراث ديني مزدحم وتحريره من جميع االكراهات والقيود وإلغاء كل األحكام‬
‫المطلقة والمسلمات والقوالب الجاهزة المنتهية التشكيل وفي المقابل تقبل النقد والتفسير‪.‬‬

‫من أجل كل هذا يضع محمد أركون العلمانية كمطلب ضروري ليتمكن الفكر‬
‫اإلسالمي من تخليص نفسه من األسر بعد فرض احترام حقوق االنسان وإرساء الحريات‬
‫الفردية لتتمكن العلمانية من االنتشار في المجتمعات اإلسالمية وتأخذ زعامة الفكر كي تقوده‬
‫لمسايرة ركب الحداثة‪ .‬كما ال يقف مشروع محمد أركون عند العلمانية كأساس لتحقيق‬
‫الحداثة وضرورة توطينها في المجتمعات اإلسالمية والعربية بل يلح أيضا على احترام حقوق‬
‫االنسان كشرط لتحقيق العلمانية والتي تصبح هي األخرى فيما بعد شرط ضروري للحداثة ‪.‬‬

‫ألجل هذه المقاربات ارتأينا أن نسلط الضوء على أحد أهم المشاريع الفكرية العربية‬
‫المعاصرة‪ .‬أال وهو مشروع المفكر محمد أركون محاولين التركيز حول األرضية المفاهيمية‬
‫التي سيؤسس لها هذا المشروع‪ ،‬وحدود تطبيق مثل هذه التصورات في الواقع العملي‬
‫اإلجرائي للمجتمعات العربية اإلسالمية‪ .‬ولعل هذا هو الدافع الذاتي للبحث في موضوع‬
‫العلمنة والحداثة لدى محمد أركون‪.‬‬

‫أما الدافع الموضوعي فتمثل في انتمائنا لمشروع الفكر العربي المعاصر‪ .‬ولعل أبرز‬
‫منظري هذا الفكر هو محمد أركون الذي خلقت تصوراته سجاال فكريا وسوسيولوجيا ال زال‬
‫مطروحا ومثي ار للعديد من الرؤى المدافعة والمهاجمة لهذا المشروع‪ .‬لذا ارتأينا من خالل هذه‬
‫الرسالة أن نطرح الركائز والتصورات المفاهيمية لهذا المشروع بروح تحليلية نقدية بعيدا عن‬
‫الدوغمائية والتطرف الفكري‪.‬‬

‫تنطلق دراستنا من اإلشكال التالي‪:‬‬

‫‪ -‬ما هي اآللية التي يراها أركون ضرورية لتحديث الفكر والمجتمع اإلسالمي وتماشيه‬
‫مع روح العصر الجديد؟‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ينبثق عن هذا اإلشكال المركزي مجموعة من التساؤالت الفرعية يمكن أن تطرح كما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬كيف يزاوج محمد أركون بين العلمنة والحداثة كشرط لتعزيز قيم الحداثة السياسية‬
‫والفكرية واالجتماعية؟‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو السبيل الذي اعتمده محمد أركون في مشروعه الذي خاضه في دراسة نقد‬
‫التراث اإلسالمي؟‪.‬‬
‫‪ -‬هل تستطيع المناهج الغربية التي اعتمدها أركون أن تنسجم مع البيئة الفكرية‬
‫اإلسالمية وهل ستتمكن في التراث اإلسالمي من تحقيق نفس النتائج التي حققتها في‬
‫دراسة التاريخ الغربي؟‬
‫‪ -‬كيف ميز أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة اإلسالمية؟‬
‫‪ -‬كيف وظف اإلسالميات التطبيقية كمنهج بديل لالستشراق؟‬
‫ألجل الغوص في هذه اإلشكالية وتحليل هذه التساؤالت اخترنا المنهج التحليلي‪ ،‬الذي نراه‬
‫متوافقا مع المغزى العام من هذا البحث أال وهو تسليط الضوء على المفاهيم والتصورات‬
‫األركونية دون إلباسها أي طابع إيديولوجي معين‪.‬‬
‫أما منهجية العمل فقد قسمنا البحث إلى ثالث فصول رئيسة‪ ،‬تنقسم كل منها إلى مبحثين‬
‫اثنين رئيسين‪.‬‬
‫الفصل األول عنون بالعلمانية والحداثة‪ :‬مقاربات في المفهوم والداللة‪ ،‬اخترنا فيه عرض‬
‫السياق التاريخي واالجتماعي لمفهومي العلمانية والحداثة لدى الغرب األوروبي وكذا لدى‬
‫الشرق اإلسالمي ‪ .‬محاولين فهم أهم االختالفات التي صاحبت ظهور المفهومين بالضفتين‬
‫الغربية والشرقية‪.‬‬
‫أما الفصل الثاني فقد عرضنا فيه ألهم الركائز المفاهيمية والمنهجية للمشروع األركوني‪.‬‬
‫اخترنا أبرزها وهي‪ :‬العقل اإلسالمي‪ ،‬االستشراق‪ ،‬األنسنة‪ ،‬األلسنية والتاريخية‪.‬‬
‫آخر فصل للرسالة المعنون بتمفصالت مفهومي العلمانية والحداثة لدى محمد أركون فقد‬
‫حاولنا تفكيك وتشريح المفهومين بمقاربة فلسفية تاريخية اجتماعية ولسانية‪ .‬متسائلين في هذا‬
‫الفصل‪ :‬هل البديل العلماني الذي يطرحه أركون هو مالذنا لولوج الحداثة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الدراسات السابقة التي اعتمدتاها في هذا البحث كثيرة ومتعددة أغلبها مقاالت منشورة‬
‫حول الفكر األركوني‪ .‬لكن الدراسة األبرز المعتمدة هي رسالة دكتوراه للباحث الجزائري فارح‬
‫مسرحي حول فكر محمد أركون‪ .‬وهي رسالة مناقشة بجامعة باتنة الجزائر‪.‬‬
‫لكل بحث صعوبات‪ ،‬والصعوبة األبرز التي واجهتنا هي كثرة الدراسات والنقاشات‬
‫والسجاالت حول فكر محمد أركون‪ .‬مما دفعنا في كل مرة إلى محاولة تحاشي التوجهات‬
‫اإليديولوجية التي غلبت على المدافعين أو المناوئين لفكره‪ .‬وذلك بالعودة إلى النصوص‬
‫األصلية باحثين عن المعنى األصيل لألفكار المطروحة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‬

‫العلمانية والحداثة‪ :‬مقاربات‬


‫في المفهوم والداللة‬

‫‪11‬‬
‫مدخل‪:‬‬

‫قناعة منا باألهمية البالغة لمفهومي العلمانية والحداثة في تصور المنظرين للفكر‬
‫السياسي واالجتماعي والثقافي والفلسفي رأينا أنه من الضروري التناول بالدراسة والبحث‬
‫المستفيض في هذا الفصل من البحث هذين المفهومين‪ ،‬بداية بالسياق التاريخي للعلمانية في‬
‫الغرب انطالقا من موقف الكنيسة من الدولة في العهد القديم ومرو ار بأهم المحطات التي‬
‫تجل فيها هذا الفكر مع الوقوف على مختلف العوامل المباشرة والغير المباشرة التي ساهمت‬
‫في وضع العلمانية كمنهج بديل لهيمنة الكنيسة وثانيا من أجل إرساء الحريات ودعائم الفكر‬
‫المتحرر‪ ،‬وفي المقابل كخطوة ثانية قمنا بوضع د ارسة بشكل موازي لنفس المفهوم في الشرق‬
‫اإلسالمي والعالم العربي تناولنا فيها العوامل التي ساهمت في ظهور العلمانية بهذا العالم‬
‫العربي اإلسالمي بداية باالتصال بالغرب وبدايات التفكير في العلمانية ثم تحليل مواقف‬
‫المفكرين العرب والمسلمين من العلمانية ألن التاريخ اإلسالمي عرف محطات فكرية عديدة‬
‫ومهمة حملت تناقضات مختلفة مست جوهره الفكري والعقائدي واالجتماعي وعرف العلمانية‬
‫من خالل اجتماع عوامل داخلية وخارجية كثيرة سنفصل فيها بشكل عميق أثناء بحثنا هذا‪.‬‬

‫كما تناولنا في هذا الفصل مفهوم الحداثة بداية بوضع تعريف لغوي واصطالحي لها‬
‫حتى يتسنى للمتلقي تحديد شرح وافي لها وإدراك معالمها كي ال يتوه بين ما تسعى إليه‬
‫الحداثة وبين عوامل تحقيقها‪ ،‬وفي هذا الصدد تطرقنا ألهم المظاهر التي ميزت صورة‬
‫الحداثة في الغرب من خالل التحوالت الحضارية والدينية التي شهدها الغرب‪ ،‬والتي ولدتها‬
‫النزعة العلمية وأحداث عصر النهضة األوروبية‪ .‬ولإللمام بهذا الموضوع أكثر خاصة في‬
‫هذا الفصل تناولنا أهم المحطات التي ميزت الحداثة كعقالنية ديكارت في فرنسا وتجريبية‬
‫بيكون في انجلت ار وفي األخير سلطنا الضوء على الشكل النهائي الذي رسمته الحداثة في‬
‫أوربا إبان عصر التنوير وما حققته النزعة العلمية فيه‪.‬‬

‫كما تناولنا الحداثة في السياق العربي اإلسالمي وأهم أسباب ظهور الفكر النهضوي‬
‫بها كحملة نابليون الفرنسية في عهد الدولة العثمانية واصالحات محمد علي السياسية‬
‫والثقافية واالجتماعية واالقتصادية والبعثات العلمية التي حملت للبلدان العربية فكر جديد ترك‬

‫‪12‬‬
‫العالم العربي اإلسالمي مندهشا يتأمل الهوة التي تفصل بينه وبين العالم الغربي ومتألما على‬
‫ما يحيط به من تخلف وجهل ما جعله يستسيغ كل ما أتت به حقائب رواد النهضة أنذاك‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫المبحث األول‪:‬‬

‫دالالت مفهوم العلمانية بين‬


‫التصور الغربي والرؤية‬
‫العربية اإلسالمية‬

‫‪14‬‬
‫أوال ‪ :‬قراءة في تاريخ العلمانية لدى الغرب ‪.‬‬

‫‪ -1‬الكنيسة في العهد االمبراطوري‪:‬‬

‫يبدو أن المسيحية كانت منتبهة جدا منذ بدايتها من خالل مواقفها إزاء السلطة لتفادى‬
‫الصراع معها حين ترى أن الطاعة للدولة مقدسة وفي إطار الطاعة الدينية والخضوع للدين‬
‫والدولة واجب والخضوع للدولة فيما ال يخالف الطاعة هلل هو أصل الخضوع هلل ألن هللا هو‬
‫الذي سمح لقيصر أن يحكمهم فعليهم الخضوع لهذا القانون ومن هنا اعتبرت المسيحية دينا‬
‫فقط ال دخل لها بشؤون الفكر والسياسة فكانت ال تمثل مرجعية قانونية وال عالقة لها بحاكم‬
‫الدولة وقوانينه الوضعية وال عالقة لها بالعلم وشؤون المجتمع‪ .‬ولقد تأكد بعد عصور لرجال‬
‫الدين المسيحيين بأنفسهم أن الديانة التي يعتنقونها ويتحملون أوزارها ال تعكس نهائيا أي‬
‫عمل عقلي وأدركوا أيضا أن استمرارهم مرهون باستمرار سلطة الكنيسة وهذه األخيرة وجودها‬
‫مرهون بردع العقل وتثبيطه وتقييده بالتقاليد والقداسة وهذا ما يتضح من خالل مقولة القديس‬
‫"أوغسطين" الذي انتشرت أفكاره في القرون الوسطى األوربية‪" :‬لست أسعى للفهم لكي أعتقد‬
‫بل إنني أعتقد كي أفهم‪ ".‬ولقد رأى "مارت لوثر" أنه "ال تستطيع أن تقبل كال من اإلنجيل‬
‫والعقل فأحدهما ال يفسح الطريق لآلخر إن العقل هو أكبر عدو لإليمان‪" .‬ولقي هذا الموقف‬
‫لرجال الدين المسيحيين اتجاه العقل معارضة عنيفة وتمردا من المفكرين الداعين للحرية‬
‫وللفكر ومورست ضدهم أبشع طرق التعذيب من أجل ردعهم وإيقافهم وفي ظل هذا الوضع‬
‫الع َداء للدين بل‬
‫اتخذت الحركة العقلية في أوربا في عصر النهضة منعطفا متطرفا تمثل في َ‬
‫اإللحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة‪ ،‬وذلك االضطهاد المستمر لهؤالء وضع‬
‫التحرر الفكري عندهم مساوي لموقفهم الرافض للدين عموما وكان بديهي في الضمير الغربي‬
‫منذ ذلك الوقت تناقض ا لفكر والعلم مع األديان بوجه عام وبهذا جنت المسيحية الثالوثية‬
‫عداء العلماء والمفكرين لها وبهذا أيضا تمت استعادة الفكر اإلغريقي العلماني من جديد في‬
‫عصر النهضة للوقوف في وجه الكنيسة وبالخصوص الفكرة المادية اإللحادية عند‬
‫"ديمقريطس" و"أبيقور" الذي نجد لمساته في إنتاجات رواد االتجاه المادي االنجليزي عند‬
‫"هوبز" و"لوك" و"هيوم" في عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر وشاع‬

‫‪15‬‬
‫بواسطة المفكرين الفرنسيين أمثال "ديدرو" و"فولتير" و"دالمبير" ويبدو من ذلك انفصال‬
‫العلمانية عن األديان بوجه عام ثم تطور الفكر العلماني إلى العديد من المذاهب الشهيرة في‬
‫القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الماركسية والوضعية المنطقية والعلمانية التحليلية‬
‫والبرجماتية والوجودية اإللحادية‪.‬‬

‫لم يزعج اإل مبراطورية الرومانية في العهد القديم تواجد ديانات وثنية لم تهتم بالسياسة ولم‬
‫تكن في مجال أطماعها السلطة والحكم وتعايش بانسجام ‪ -‬في اإلمبراطورية الرومانية‪-‬‬
‫الوثني مع األباطرة الذين تألهوا دون أيضا أن يزعج هذا الوثنيين بل ساروا في هذا االتجاه‬
‫بالدعوة لطاعة اإلمبراطور وتبجيله "فاإلمبراطور الذي يجسد العظمة الرومانية كان معبودا‬
‫من قبل الشعب كإله ففي أصغر قرية من قرى اإلمبراطورية كانت له هياكل‪ 1.‬إال أن هذا‬
‫الوئام اختفى بعد ظهور المسيحية وانتشارها بين عامة الناس وإعجابهم بما جاءت به من‬
‫مساواة وبموقفها من عبادة األوثان والحجر وبرفضها لمفهوم العبادة لإلنسان آنذاك‪ ،‬وقامت‬
‫بتقديم البديل الغيبي األحق بالطاعة والوالء‪ .‬األمر الذي فجر احتدام طاحن بين الدين‬
‫والسياسة في اإلمبراطورية الرومانية الذي دام ثالثة قرون تلقى فيها المسيحيون األوائل أشد‬
‫أنواع التضييق واالضطهاد واإلقصاء "فقد ذكر المؤرخ "سويتونيوس "أن اإلمبراطور كالديوس‬
‫(‪54-41()Claudius‬م)أصدر مرسوم بطرد المسيحيين كافة من مدينة روما مدعيا أنهم قد‬
‫أثاروا القالقل واالضطرابات بوحي من تعاليم المسيح والمالحظ أن المرسوم وصفهم باليهود‬
‫ألن الذهنية الرومانية عدت المسيحيين األوائل طائفة من اليهود وبالمثل قام اإلمبراطور‬
‫"نيرون" بالبطش بالمسيحيين حيث قام بإلقاء مسيحي روما في النار التي أشعلها بالمدينة‬
‫أسر معتنقو المسيحية اعتقادهم ولم يبدوه حتى يجتنبوا الصراع مع‬
‫عام‪64‬م" وخوفا من هذا ّ‬
‫‪2‬‬

‫األباطرة وبطشهم ولكن دون جدوى فلقد عرف المسيحيون أشد أنواع االضطهاد والتعذيب‬
‫مرة أخرى بسبب رفضهم لعبادة اإلمبراطور وتقديسه وتقديم القرابين له ألن األباطرة اعتقدوا‬
‫أن الخروج عن اإلمبراطور تهديدا لمصالحهم وللنظام اإلمبراطوري الذي اعتبر المسيحيين‬
‫خونة فعاقبهم على هذا بعقوبة الخيانة العظمى وهي الصلب "أوربا قبل ظهور المسيح عليه‬

‫‪ -1‬عبد الرحيم العالم ‪ ،‬العلمانية و الدولة المدنية ‪ ،‬مؤمنون بال حدود للنشر والتوزيع ‪ ،‬المملكة المغربية ‪ ،‬الرباط ‪،‬‬
‫ط‪،1‬ص‪.87‬‬
‫‪ - 2‬نفس المرجع ‪،‬ص‪.89،90‬‬
‫‪16‬‬
‫السالم كانت تعيش عصر الوثنية أي تعدد اآللهة ألن المرجعية الدينية والثقافة والحضارة‬
‫ألوروبا هي بالد اإلغريق – اليونان – واإلغريق عرفوا عدد اآللهة فعندهم إله للحب وإله‬
‫للحرب وإله للجمال وإله للمطر ‪...‬وغيرها‪ .‬فلما ظهر المسيح ودعا الناس إلى توحيد هللا‬
‫تعالى ‪...‬وقفت اإلمبراطورية الرومانية موقفا صارما ضد هذا الدين ‪...‬وقد امتد أذى الدولة‬
‫ال رومانية إلى إتباع المسيحية في كل أرض كانت خاضعة لهم‪...‬وكانت الدولة الرومانية‬
‫تعتبر اعتناق المسيحية جرما في حقها فقاومته بكل قسوة وعنف "‪1‬رغم هذا توسعت المسيحية‬
‫لتشمل كافة الطبقات االجتماعية دون التعاطي مع السياسة في بادئ األمر ألن آباء الكنيسة‬
‫كانوا يعتقدون بأن طاعة الحاكم هي تنفيذ إلرادة هللا واستقر دور الكنيسة في المجتمع في‬
‫التوجيه الروحي والعبادة وانسجمت الكنيسة واإلمبراطورية وانتهى ذلك الصراع كليا في القرن‬
‫الرابع عشر بعدما انتهت فكرة تأليه اإلمبراطور ولقد جاء هذا مع "قسطنطين الكبير" الذي‬
‫حاول أن يوافق م ا بين الدين الوثني القديم والدين المسيحي الجديد حتى يحافظ على مكانته‬
‫السابقة في وجود المسيحية والحفاظ على لقبه الذي ورثه عن أجداده الرومان" الكاهن‬
‫األعظم" كما استقبل اإلمبراطورفي بالطه آنذاك العديد من رجال الدين المسيحيين وأسندت‬
‫الوظائف الكبرى في اإلمبراطورية لرجال الدين الوثنين والمسيحيين في مقابل أن يحتفظ‬
‫"قسطنطين " بصالحياته وبامتيازاته " مع القيصر قسطنطين األول أو قسطنطين الكبير الذي‬
‫قرر إثر انتحاره في إحدى حروبه سنة‪ 312‬للميالد االعتراف بالمسيحية كدين لإلمبراطورية‬
‫الرومانية مما فتح الباب للكنيسة الكاثوليكية لتصبح دولة داخل دولة بل لتتحول في فقرات‬
‫طويلة من تاريخ أوربا إلى مؤسسة تعلو على الدولة لها السيطرة على الحياة الروحية والنفوذ‬
‫والهيمنة على الحياة االجتماعية واالقتصادية والسياسية "‪ 2‬إ ْذ أن النصر األعظم الذي‬
‫حققته الكنيسة هو اعتراف قسطنطين بالمسيحية كديانة رسمية لإلمبراطورية الرومانية هذا‬
‫األمر الذي انعكس على المجتمع بانتقاله من الصبغة الوثنية إلى الصبغة المسيحية وهذا ما‬
‫انعكس أيضا في المجال القانوني الذي وجد نفسه أما معطيات جديدة لم يتمكن من تجاوزها‬
‫وإغفالها‪.‬‬

‫‪ - 1‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف ‪ ،‬العلمانية في الفكر اإلسالمي ‪ ،‬دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ ،‬ط‪،1،2006‬ص‪.14،15‬‬
‫‪ - 2‬د ‪ .‬محمد عابد الجابري ‪ ،‬الدين والدولة وتطبيق الشريعة ‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬ط‪، 1996 ، 1‬‬
‫ص‪.94‬‬
‫‪17‬‬
‫التوافق بين الكنيسة والدولة اإلمبراطورية‪:‬‬

‫لم تكن المسيحية مهتمة بشؤون السلطة وقضايا السياسة ولم تطمح ألكثر من دورها‬
‫الشكلي الذي كانت تؤديه بين عامة الناس وعلى بالط اإلمبراطور وتحت إشرافه مستغنية‬
‫عن ما يتجاوز حدود أبعادها" لكن هذه الحرية التي يبتغيها آباء الكنيسة ليس سوى حرية‬
‫جوانية تقتصر تجلياتها على الشؤون التعبدية تاركة الدنيا لإلمبراطور فالحرية بهذا المعنى‬
‫تعلو فوق مطالب الحياة ومقتضياتها على اعتبار أن تلك المطالب والمقتضيات إنما هي من‬
‫قبل األعراض الزائلة وأن المهم في مدينة الرب هو الخير الباقي بعد هذه الحياة‬
‫الدنيا‪1".‬خاصة بعد اعتراف "قسطنطين" لها دينا لإلمبراطورية الرومانية األمر الذي شجعها‬
‫على أن تسمح لالنسجام بتخلل عالقتها مع اإلمبراطور وترتاح لمصالحته في انتظار مجيء‬
‫مملكة هللا من أجل االحتكاك بالمجتمع والتواصل المباشر معه داخل اإلمبراطورية لتبليغ‬
‫الكتابات الالهوتية السياسية التي سعت من خاللها الكنيسة إلى نشر الفكر الالهوتي الذي‬
‫يحث على طاعة اإلمبراطور واعتبار ذلك لب الخضوع هلل باالستناد على الكتاب المقدس من‬
‫أجل تهيئة الفكر المسيحي الجديد للتناغم مع المقوالت الالهوتية ومن هنا ظهرت عبارة "أعط‬
‫ما لقيصر لقيصر وما هلل هلل" هذا ما فسر موقف الكنيسة من اإلمبراطور وصور إجاباتها‬
‫عن أسئلة المجتمع فيما يخص طاعة الحاكم وطاعة هللا والفرق بينهما ولم تجد حرجا في‬
‫تدارك مواقفها البدائية التي كانت تواجه بها األباطرة الذين دافعوا عن تأليه اإلمبراطور‬
‫ووجدت للتأليه معنى آخر بتمثيل الحاكم لإلله ووجوب الخضوع له ورفض مخالفته وتحريمها‬
‫فأعطت الكنيسة للسلطة تبري ار مقنعا لممارسة سطوتها وأقنعت المجتمع بالحدود التي رسمتها‬
‫السياسة للحرية وكأن الكنيسة عقدت صفقة مع اإلمبراطور تلزم فيها بالترويج المتيازات‬
‫الحاكم وصالحيات سلطته القانونية مقابل السماح لها بممارسة الشعائر الدينية والتبشير في‬
‫إطار محدود يقتصر على الشؤون التعبدية فقط" ولكن في القرن الثالث أصبحت المسيحية‬
‫قوة خطيرة الزدياد عدد أتباعها ازديادا مطردا ‪ ...‬ومهما يكن فإن المسيحية خرجت من‬
‫جميع هذه المعارك ظافرة مرفوعة الرأس ال سيما بعد أن أخذ اإلمبراطور قسطنطين‬

‫‪ -1‬عبد الرحيم العالم ‪ ،‬العلمانية و الدولة المدنية ‪ ،‬مؤمنون بال حدود للنشر والتوزيع ‪ ،‬المملكة المغربية ‪ ،‬الرباط ‪،‬‬
‫ط‪،1‬ص‪.96،97‬‬
‫‪18‬‬
‫‪337/307‬بسياسة األمر الواقع فأصدر مرسوم ميالن الشهير سنة ‪313‬م معترفا بوضع‬
‫الديانة المسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل اإلمبراطورية بمعنى أن يتمتع‬
‫المسيحيون في اإلمبراطورية بكافة الحقوق التي يتمتع بها غيرهم من أتباع الديانات‬
‫األخرى‪1.‬ولم يستمر الوضع على هذا إ ْذ وبعد ضعف اإلمبراطورية الذي قابله توسع‬
‫المسيحية الذي شمل كافة الفئات والطبقات االجتماعية وحتى السياسية تمكنت الكنيسة من‬
‫فرض سلطتها وإعالء كلمة رئيسهم الديني على سلطة الحاكم واستطاعت أن توفر للسلطات‬
‫الدينية سطوة ونفوذا استطاعوا من خالله ممارسة الترانيم في المدارس وإقصاء المفكرين‬
‫الذين ال يتفقون مع نزعة الكنيسة " وقد أوضح البابا "جويجوري" ‪...‬عندما قال عبارته‬
‫المشهورة إن قوى الملوك مستمدة من قوى البشر وقوة رجال الدين مستمدة من رحمة هللا إن‬
‫البابا شيد األباطرة ألنه يستمد قداسته من تراث سلفه القديس كما جاءت في األوامر البابوية‬
‫التي جمعت المواد التالية‪..‬البابا وحده هو الذي يتمتع بسلطة عالمية – البابا وحده يمتلك‬
‫تعيين األساقفة وعزلهم – جميع األمراء يجب أن يقبلوا قدم البابا وحده – للبابا حق في عزل‬
‫األباطرة – ال يجوز عقد أي مجمع ديني عام إال بأمر البابا – ليس ألي فرد أن يلغي ق ار ار‬
‫بابويا في حين من حق البابا أن يلغي ق اررات بقية الناس ال يسأل البابا عما يفعل وال يحاكم‬
‫على تصرفاته ‪...‬ومن حق الكنيسة أن تحارب باألسلحة الروحية والمادية كل حاكم يمتنع‬
‫عن تنفيذ تعاليمها‪- ...‬فالبابا‪ -‬هو صاحب السلطة العليا في حكم المجتمع المسيحي‪2".‬ومن‬
‫هنا عرف تاريخ الدين المسيحي منعطفا خطي ار ارتبط في الفكر الغربي بصورة بشعة عنه‬
‫رسمت كل أنواع االضطهاد والقتل والتنكيل واإلقصاء للمفكرين والعلماء وإبعاد العلم وعكس‬
‫استبداد الكنيسة الغربية واحتكارها للسياسة والفكر فمسحت إرث أوربا اليوناني وعزلتها‬
‫وثبطت كل المحاوالت العلمية فأصبح من البديهي في تصور الفكر الغربي ربط الدين‬
‫المسيحي بموقف الرافض للعقل‪ ،‬كما شهد تاريخ الكنيسة على تغير اهتمامات رجال الدين‬
‫المسيحيين فاتجهوا لتحصيل المناصب والمصالح وجمع األمالك ومنافسة السياسيين في‬
‫األعمال السياسية واالقتصادية والفكرية والثقافية‪ .‬ولم تكتف الكنيسة بهذا بل ذهبت ألبعد‬

‫‪-1‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف ‪ ،‬العلمانية في الفكر اإلسالمي ‪ ،‬دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة‪ ،‬القاهرة ‪،‬‬
‫ط‪.1،2006،21،22‬‬
‫‪ - 2‬عدنان محمد زرزور ‪ ،‬جذور الفكر القومي العلماني ‪ ،‬المكتب اإلسالمي بيروت‪،‬ط‪،3،1999‬ص‪.134،135‬‬
‫‪19‬‬
‫منه ببناء المدارس وإدارتها وتأطيرها وبهذا امتلكت وسائل الدولة لتعويض اإلمبراطورية‬
‫الرومانية التي أنهكتها الحروب واستمرت بكل ثقة في ممارسة سطوتها الدينية من خالل‬
‫إصدار صكوك الغفران اقتناعا من رجال الكنيسة أن أحكامهم إلهية ولهم كل التفويض فيها‬
‫من هللا فسيطروا على الدولة وأصبحت الكنيسة هي الدولة التي تعني الحكومة التيوقراطية‬
‫التي أعطت األحقية لرجال الدين بالسيادة وخالفة الرب في الدولة فتولت الكنيسة اختيار‬
‫الملوك وعزلهم "على الرغم من انحياز عامة الشعوب األوروبية للكنيسة ‪...‬والتي أصبحت‬
‫وريثة لإلمبراطورية الرومانية بعد انهيار النفوذ اإلمبراطوري في الغرب خالل القرن الخامس‬
‫وعلى الرغم من هذا االنجاز الذي كان ما يبرره لقرون عديدة‪ ...‬فإن األمر وصل في نهاية‬
‫العصر األوربي الوسيط إلى الحد الذي ال يمكن استم ارره أمام التسلط الكنيسي أو السلطان‬
‫الكنسي الذي يمكن تعرفه في هذه المرحلة الحاسمة بأنه سلطة رجال الدين التي تحالفت مع‬
‫الملوك والنبالء وأمراء اإلقطاع من جهة والتي قاومت اتجاه العلماء نحو تعليل ظواهر‬
‫الطبيعة واكتشاف سننها من جهة أخرى‪1".‬غير أن الذي لن يشفع أبدا للكنيسة أبدا في‬
‫تاريخها هو محاكم التفتيش التي أنشأتها والتي قتلت الماليين من العلماء والمفكرين وكل‬
‫المعارضين لها والسجون التي وضعت بها غرف للتعذيب والتنكيل وسادت الكنيسة بسلطة‬
‫السيف والقهر وزرعت الرعب والخوف في نفوس الجميع ولم تراودها كوابيس تؤنبها ألنها‬
‫تمتلك إرادة الرب التي استعملها أساقفتها حسب أهوائهم فكانوا يناقضون أنفسهم عندما‬
‫يطلبون من أتباعهم الزهد والصوم ويفرضون عليهم ُعشو اًر ويسعون هم لملذات الحياة وجمع‬
‫العطايا من اإلقطاعيين فتحالفت معهم ولم تخلف عنهم كثي ار ‪.‬‬

‫‪ -1‬عدنان محمد زرزور ‪ ،‬جذور الفكر القومي العلماني ‪ ،‬المكتب اإلسالمي بيروت‪،‬ط‪،3،1999‬ص‪.136‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ :2‬عوامل ميالد العلمانية الغربية في العصر الحديث‪.‬‬

‫أ‪-‬الصراع بين الكنيسة والعلم‬

‫لقد رمى التَ َزُم ُت بالكنيسة إلى عواقب لم يحمد عقباها وخصوصا ضد العلم والفكر‬
‫وبزعمها امتالك المعرفة وما كان وصمة في جبينها هو قمع المفكرين وقتل العلماء‬
‫واضطهادهم األمر الذي ترك أوربا تعيش في ظالم دامس وما زاد الطين بّلة سطوتها على‬
‫مختلف مجاالت العلم بهدف ردع العقل وإلزامه زاوية التقديس والمفاهيم المغلوطة كآرائها في‬
‫الكون والطبيعة التي تعود لنظريات فلسفية بائدة أو من مفاهيم خاطئة كنظرية "بطليموس"‬
‫حول ثبات األرض ودوران الكواكب حولها و "يقول مارتن لوثر عن كوبرنيكوس ‪...‬يريد ذلك‬
‫األحمق أن يقلب علوم الفلك كلها رأسا على عقب ولكن كما يقرر الكتاب المقدس أن‬
‫الشمس نفسها وليس األرض هي التي أمرها يوشع بأن تقف‪...‬وأكد جون كالفن من كبار‬
‫قادة اإلصالح الديني أن األرض ثابتة مستشهدا بالمزمور‪93‬وكذلك ثبتت للسكونة ال تتزعزع‬
‫وسأل الحتقار من ذلك الذي يجرؤ على وضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطان الروح‬
‫القدس"‪ .1‬ولكن في مطلع القرن السابع عشر بدأت بعض اإلطالالت من باحثين ومفكرين‬
‫أوربيين من خالل التصريح العلني ببعض األفكار المخالفة لوجود الكنيسة كنظرية‬
‫"كوبرنيكوس" الفلكية حول دوران األرض مثل الكواكب األخرى وكان رد فعل الكنيسة آنذاك‬
‫أن حرمت كتابه ومنعت صدوره وعقبه " برونو " الذي أكد أفكار" كوبرنيوس" فسجن وعوقب‬
‫حتى تاب عن أفكاره " قائال أمام المحكمة أنا جاليلوا وبلغت السبعين من عمري سجين راكع‬
‫أمام فخامتك أرفض وأعلن وأحتقر القول اإللحادي الخاطئ بدوران األرض‪ 2".‬وفي كل مرة‬
‫كانت الكنيسة تستجمع فيها قواها لترصد المخالفين لها وتالحقهم كانت تفقد الكثير من وزنها‬
‫في المجتمع بسبب سياستها التعسفية التي مارستها على العلماء وحتى العامة من الناس‬
‫فلطخت يديها بدماء العلماء واألبرياء وقمعت الشعوب الواقفة وراء جدرانها في بؤس لتجمع‬
‫عشور للكنيسة الحاقدة وصادرة المراجع والمصادر العلمية‪ ،‬نفس ما حصل في اإلسالم‬
‫وتحديدا مع ابن رشد حين نفي وأحرقت كتبه وابن خلدون الذي سجن العديد من المرات‬

‫‪ - 1‬محمد إبراهيم مبروك ‪ ،‬العلمانية العدو األكبر لإلسالم ‪ ،‬ص‪.127‬‬


‫‪ -2‬باجو مصطفى ‪ ،‬العلمانية المفهوم المظاهر واألسباب ‪ ،‬ص‪.67‬‬
‫‪21‬‬
‫والمعتزلة والعديد من الفقهاء الذين تم إقصاؤهم أو سجنهم أو قتلهم بسبب موقف أو رأي‬
‫يخالف السلطان‪ .‬ولقد" تعرض ديكارت لبعض المضايقات من البروتيستانت في هولندا‬
‫بدعوى أن آراءه تؤدي إلى اإللحاد وكاد يتعرض للمحاكمة لوال تدخل السفير الفرنسي‪...‬‬
‫ويبدو أن الكنيسة شعرت بهذا ولذلك وضعت مؤلفاته في قائمة الكتب الممنوعة سنة‪1633‬‬
‫في روما وحرمت تدريس فلسفته في الجامعات الفرنسية بمرسوم ملكي وأستبعد مذهبه في‬
‫هولندا والسبب في ذلك أن فلسفته تحب الوضوح وتميل إلى التدقيق والتمييز بين األفكار‬
‫والكنيسة ال ترغب بهذه الفلسفة ألن اإليمان الكنيسي قائم على األسرار‪1".‬ورغم هذا فإن العلم‬
‫استمر والعلماء لم يتوقفوا بسبب رغبتهم الجامحة للبحث التي أنتجت مناهج فلسفية تحن‬
‫للمنهج التجريبي والستعمال العقل بدل االعتماد على أساطير الكنيسة "وقد أنجز نيوتن‬
‫انجازات علمية هائلة وأعلن قانون الجاذبية وسيطر على العقول حتى كاد أن يصبح أرسطو‬
‫آخر‪2".‬ما أظهر دراسات مختلفة كأبحاث "ديكارت"و "سبينوزا" و"جون لوك" وانبثقت نظرية‬
‫"نيوتن" في الجاذبية التي فسرت عدة ظواهر طبيعية كانت تسند ألمور غيبية في الماضي‪.‬‬
‫واستنتج الجميع بما فيهم رجال الدين أنفسهم أن الكنيسة باتت تشكل عائقا أمام الفكر والعلم‬
‫وبالتالي أمام تحقيق االزدهار والتطور وهذا ما ولد اتفاقا عند الجميع بضرورة وضع حدود‬
‫لسلطة الكنيسة وفصلها نهائيا عن الحياة العامة وتصنيف بدعها داخل رفوفها الفخمة التي‬
‫سئمت من ما تحمله وفتح آفاق الفكر اإلنساني بعيدا وفي األعماق وبدون قيود وبدون أحكام‬
‫في شتى مجاالت الحياة‪" .‬من رحم هذه األوضاع جاءت فلسفة األنوار العلمانية وجاء‬
‫التنوير األوربي بفلسفة رافضة لتجاوز الكنيسة حدودها التي رسمها اإلنجيل خالص الروح‬
‫ومملكة السماء مدافعة عن النزعة الدنيوية العلمانية للفلسفة األوربية وداعية إلى العقل التي‬
‫استبعدته الكنيسة والرأي الذي قهره الالهوت منادية بالتحرر من سلطة تقاليد الكنيسة التي‬
‫راجت فيها مفاسد القساوسة والباباوات‪ 3".‬تلكمفاسد أضاعت الكثير من الوقت أمام العلم غير‬
‫أنه لم يفت الوقت أبدا لفعل األفضل فاتخذ العلم سبيله في الحياة يغوص في أعماقها‬
‫ويكتشف أسرارها بالعقل‪ ،‬مكس ار حواجز القداسة التي صنعتها الكنيسة وأسندت األمور من‬

‫‪ - 1‬أحمد ادريس الطعان ‪ ،‬العلمانيون والقرآن الكريم ‪ ،‬دار حزم للنشر والتوزيع الرياض‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.68‬‬
‫‪ - 2‬برتراند رسل ‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية ‪ ،‬الفلسفة الحديثة ‪ ،‬ج‪ ،3‬ت‪ :‬محمد فتحي الشنطي ‪،‬الدار المصرية العامة‬
‫للكتاب‪،‬دط ‪ ،1977،‬ص‪71‬‬
‫‪ - 3‬مصطفى باحر ‪ ،‬العلمانية المفهوم ‪ ،‬والمظاهر واألسباب‪ ،‬ص‪.68‬‬
‫‪22‬‬
‫جديد ألهلها فأبعدت آراء رجال الدين عن الحياة وخرجت أوربا من دغمائية الكنيسة وتشكلت‬
‫النخبة العلمية التي تتبنى العقل والفكر والمعلومة أصبحت في المتناول وأصبح الدين‬
‫وقداسته محل تفكيك ودراسة ودخل الشك لتعاليمه فتج أر الناس عليه فتعرى أمامهم وبدت‬
‫سوأته بكل عيوبها فرفض المجتمع كل ما جاء به الدين وصرفوا عنه األنظار لجانب مشرق‬
‫باألنوار انتشر في كل األرجاء لينعم الجميع به مقتنعين أن العيش في ظل العلم والمعرفة‬
‫أرحم بكثير من ترانيم الكنيسة التي أزعجت مسامعهم وقضت مضاجعهم "إن واقع الكنيسة‬
‫كان يفرض على المجتمع واألمة أن تتكاتف وتتخلص من منابع االستبداد والقهر‬
‫واالضطهاد الذي تعتمده الكنيسة ولم يكن ذلك إال في الدين وهو ما بدأ الغرب يسعى إليه‬
‫للتخلص منه إال أن القتل كان بأعداد هائلة فقد قدر "لورنتي" سكرتير التفتيش في إسبانيا‬
‫عدد الضحايا فيها الذين تم إحراقهم من سنة ‪1790‬م إلى سنة ‪ 1792‬م بنحو ثالثين ألف‬
‫شخص هذه الوحشية الكنيسية خلقت لدى الناس نوعا من التشاؤم والكراهية للكنيسة بل‬
‫لألديان جميعا كما أثار تعاطف الناس مع هؤالء الذين يعدمون في سبيل أفكارهم ‪...‬وهذا‬
‫كان عامال آخر من عوامل انتشار الفكر العلماني وترسيخه‪1".‬ليتمتع الجميع بتحصيل‬
‫ال معرفة التي كانت حك ار على النبالء واإلقطاعيين وأصحاب النفوذ الذين تأسسوا برعاية‬
‫الكنيسة ليحملوا آراءها مستقبال وأثناء تخبطها في آخر أنفاسها استدركت الكنيسة مواقفها من‬
‫بعض كتابات " أرسطو " عّلها تصلح ما أفسده تاريخها بأن جعلتها ضمن البرنامج الدراسي‬
‫بعد أن حرمتها وتم ذلك بتأثير من " توما األكويني" والمساهمات الفلسفية لكل من"دانتي"‬
‫قدموا للكنيسة رؤية إصالحية جديدة مع الماضي بداية ثم مع‬
‫و"أوكام" و"ألبرت الكبير" الذين ّ‬
‫الحاضر فجعلت الكتابات األرسطية جزء من اإليمان الديني الذي رفض الفكر والعقل ورفض‬
‫أي رؤية خارجة ع ن معتقداته ومزاعمه " ولكن في ظل استمرار اضطهاد الكنيسة للعلماء‬
‫والمفكرين في عصر النهضة فإن الحركة العقلية في أوربا اتخذت منحى متطرفا اتجه بها‬
‫إلى العداء للدين بل اإللحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة واضطهادها وذلك ألن‬
‫االضطهاد المستمر لهؤالء قرن التحرر العقلي عندهم باتخاذ الجانب المناوئ للدين عموما‬
‫وبات مستق ار في الضمير الغربي منذ ذلك الحين تناقض للفكر والعلم مع األديان بوجه‬

‫‪ -1‬أحمد إدريس الطعان ‪ ،‬العلمانيون والقرآن الكريم ‪ ،‬دار ابن حزم للنشر والتوزيع الرياض ‪،‬ط‪،1،2007‬ص‪.52‬‬
‫‪23‬‬
‫عام‪ 1".‬وتستمر في كل مرة تلك المحاوالت الفكرية في رسم حدود جديدة أوسع وأبعد بينها‬
‫وبين الكنيسة وبهذا الواقع أيضا فرضت السياسة شروطا وقيودا لتنظيم دور الكنيسة في‬
‫المجتمع وتقنينه بما يسمح إلقامة عالقة وفق التصورات الراهنة‪ .‬فالتجليات التي أبرق بها‬
‫العلماء وعلى رأسهم "إسحاق نيوتن" في الجاذبية وأينشتاين" في النسبية وعدة من العلماء‬
‫الذين اكتشفوا أسرار الطبيعة وفسروها وفق اتجاههم العقلي فتجلت أمامهم الحقائق التي ظلت‬
‫حبيسة الخرافات والقداسة وأصبح الشك في كل يقين ديني وعلمي وفكري مباح بنسبية‬
‫أينشتاين حتى الشروحات والمعاني الدينية التي قدمتها الكنيسة على أنها حقائق مطلقة‬
‫فالعقل نسبي إذا كل ما جاء منه نسبي ‪ ،‬ولقد أثر هذا كثي ار على تطور العلم عموما‪ ،‬هذا وال‬
‫يستهان بما قدمته من نقد لالهوت باألدلة المنطقية التي تبطل كذب التأويالت السابقة من‬
‫خالل ما أسهم به "ديكارت" في التوظيف الحسن للعقل الذي يفسر الوجود بربطه بالتفكير‬
‫واإلبداع وتجاوز النقل والتقليد واإليمان أن الشك هو اليقين بعينه وعلى غرار المفكرين الذين‬
‫ُووجهوا بالرفض هو أيضا تعرض للنقد من طرف رجال الكنيسة ومنعت كتبه بسبب إيمانه‬
‫بحرية التفكير حين صرح ب"الكوجيتو"‪ :‬أنا أفكر إذن أنا موجود‪ ،‬على الرغم من أنه لم‬
‫يتطرق للكنيسة إطالقا ونعود مرة أخرى لما جاء به "إسحاق نيوتن" كونه أسهم بشكل مباشر‬
‫في تأسيس قوانين الطبيعة الميكانيكية مبر از إمكانية تطبيق نفس القوانين على األحداث‬
‫السياسية واالقتصادية ورأى أن اإلنسان يمكنه أن يعتمد على قدراته الفكرية في فهم كل‬
‫الظواهر وحل كل المشكالت ودون ذلك من شأنه أن يؤدي للتيه والجهل‪ ،‬يتضح مما قدم‬
‫دور العلم في انبثاق العلم انية وارتباط هذه األخير به وهذا ما لمحناه أيضا في الفكر القديم‬
‫حيث عرفت البشرية في المرحلة األولى قبل المسيحية تفسير الظواهر والمشكالت بالعقل‬
‫دون الرجوع للدين‪.‬‬

‫ب‪ -‬العامل االقتصادي‪:‬‬

‫لقد اجتمعت عدة عوامل أخرى ساهمت في تأسيس العلمانية وفي ظهورها في الغرب‬
‫ا لمسيحي كالعامل االقتصادي حيث لعب دور بارز في تحديد مفهوم العلمانية وإعطاء دوافع‬

‫‪ -1‬محمد إبراهيم مبروك ‪،‬العلمانية العدو األكبر لإلسالم من البداية إلى النهاية ‪ ،‬مركز الحضارة العربي‪ ،‬القاهرة‬
‫‪،‬ط‪،1،2007‬ص‪.23‬‬
‫‪24‬‬
‫لالنتقال من التصورات الدينية إلى التصورات الدنيوية وكل ما يتعلق بالظروف االقتصادية‬
‫وانعكاساتها على الواقع الغربي وتبني التحضيرات الضرورية الستقبال الفكر العلماني‬
‫المتحرر من ب ارثيم الكنيسة خاصة ومن الدين عموما وهذا من خالل تغيير الظروف‬
‫االقتصادية التي فرضها اإلقطاعيون من قبل من جهة وتصحيح تعاليم الكنيسة التي تمليها‬
‫على البؤساء ليزدادوا بؤسا بدعوتها التقشف واالبتعاد عن الملذات التي تعكر صفو الروح‬
‫من جهة أخرى‪" ،‬الطغيان الكنيسي كما هو معروف أن الكنيسة مارست الطغيان على شتى‬
‫المجاالت الدينية منها والسياسية وحتى االقتصادية من قبل رجالها الذين كانوا يمثلون القدوة‬
‫عند عامة الناس والشعب ألنهم قدسيين ورسل سالم وآخرة"‪ 1‬هكذا كان وعظ الكهان للعامة‬
‫في الكنائس من أجل تنظيم شؤون حياتهم االقتصادية لكن لم ينطبق هذا عليهم فلقد تمتعوا‬
‫بكل ما ل ّذ وطاب بعد أداء الصالة وانصرفوا في جمع العقارات واألمالك والعشور حتى‬
‫أصبحوا أعلم بشؤون التجارة والفالحة والمال من غيرهم وزادت سطوتهم بزيادة ثروتهم فأصبح‬
‫لهم نفوذ في السياسة واتجهوا إليها باسم اإلرادة اإللهية وباسم تعاليم النص المقدس وليس هذا‬
‫فقط فلم يسلم التعليم منها من خالل إقامتها للمدارس السكوالئية التي فرضوا فيها مناهجهم‬
‫األفقية التي كانت تغرس القهر واالستبداد على الطبقة االجتماعية‪ .‬ولقد أثرت الظروف‬
‫االقتصادية وتغيراتها في تحديد األفكار التي بلورت النظرية المادية التي كان ماركس‬
‫يطرحها في تصوره االقتصادي الذي لعب دو ار كبي ار في تشكيل الوعي االقتصادي لضرورة‬
‫االنفصال عن الدين ليس من أجل الدين ولكن من أجل سلطته التي فرضها على الجميع‬
‫بالقهر والقصر كما أدى االقتصاد دو ار مهما أيضا في تشكيل مفهوم جديد للحياة والمعتقد‬
‫في نفس الوقت وهذا فعال ما قدمته األبحاث التي تناولت تفسير العلمانية وعواملها‬
‫االقتصادية ‪.‬‬

‫ج‪ -‬الثورات و إعادة تأسيس العالقة بين الديني والسياسي ‪:‬‬

‫لم ينعم الحكم المطلق كثي ار على رأس الدولة خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر‬
‫والذي ظهر في سيطرة الملكيات على جميع الميادين السياسية واالقتصادية والدينية إ ْذ‬

‫‪ - 1‬سفر عبد الرحمن الحوالي ‪ ،‬العلمانية نشأتها وتطورها في الحياة اإلسالمية المعاصرة ‪ ،‬دط‪،‬د م ن‪،‬دار‬
‫الهجرة‪،1992،‬ص‪.21‬‬
‫‪25‬‬
‫سرعان ما اندلعت الثورات في بريطانيا وهو ما مهد الندالع ثورات عنيفة الحقة في دول‬
‫أوربية وشمال القارة األمريكية باألخص في فرنسا سنة‪1789‬م" فكانت هذه مرحلة الثورة‬
‫الفرنسية والدستور المدني اإلكليروسي فليس يخاف أن الثورة الفرنسية كانت تتسم بعدائية‬
‫جلية للدين بصورة عامة وللكنيسة الكاثوليكية وطبقة اإلكليروس بصفة خاصة وذلك في‬
‫إطار سعي رجاالت الثورة إلى اإلطاحة بالنظام القديم ودك بناءه اإليديولوجي والمؤسسي‬
‫وخصوصا فكرة الحق اإللهي على نحو ما أساغها متكلمو الكنيسة‪ 1".‬لقد شملت هذه الثورات‬
‫كافة المجاالت الدينية واالقتصادية والثقافية والسياسية التي ظفر فيها الفكر العلماني بعدة‬
‫مكتسبات على حساب الفكر الديني أهمها علمنة التحوالت السياسية واالجتماعية الكبرى‬
‫إضافة إلى انشغال " لوثر" و" كالفن " باإلصالح الديني خالل عصر النهضة والثورة العلمية‬
‫الفيزيائية برئاسة " قاليلي " التي مثلت الثورة السياسية لظهور الدولة بعد مصادرة الثوار‬
‫لممتلكات الكنيسة وإقصائها من الميدان السياسي والمدني لصالح السلطة السياسية كما تم‬
‫سحب كل امتيازات وصالحيات الكنيسة التي تمتعت بها سابقا " وذلك ما حدث في ‪1789‬م‬
‫ففي تلك الليلة صوت المجلس الوطني باإلجماع على إلغاء جميع االمتيازات اإلقطاعية‬
‫وأعلن المساواة التامة بين جميع المواطنين الفرنسيين وبذلك أرغم األكليروس على التنازل‬
‫على ضريبة العشر التي كان يفرضها قبل الثورة ‪ ،‬هذا فضال عن علمنة األحوال المدنية‬
‫‪2‬‬
‫التي أقرها دستور ‪1791‬م الذي أقر بصحية الزواج إال بعقد مدني‪".‬‬

‫‪ -‬الثورة الفرنسية‪:‬‬

‫واجه المحافظون رواد الثورة بشعاراتهم التي كانوا يتغنون بها المتمثلة في المثل العليا‬
‫واعتبروا أن الحق اإللهي وجميع الحقوق المكتسبة سابقا والموروثة حق مشروع يكفله الحق‬
‫الطبيعي والعقد االجتماعي و أروا بأن الفكر الديمقراطي هو سبب الفرقة والصراع المستمر‬
‫كما لم يستوعبوا القاعدة الصريحة الجديدة التي تنادي بالحرية الفردية المطلقة واعتبروها علة‬
‫الفوضى واألنانية وعدم االحترام" إن الموضوع الذي سارت في نهجه الثورة الفرنسية هو نهج‬
‫تحرري فكري في جانب منه وثوري وقائعي في جانبه اآلخر فالتحرري كان من كل القيود‬

‫‪ -1‬براق زكريا ‪ ،‬الدولة والشريعة في الفكر العربي اإلسالمي ‪،‬ص‪.87‬‬


‫‪ -2‬نفس المرجع‪،‬ص‪.109،110‬‬
‫‪26‬‬
‫الدينية الكنيسية إبان العصور الوسطى والتي فرضت سيطرتها الكلية على الفكر والمفكرين‬
‫من العلماء وغيرهم‪...‬أما الجانب الثوري فارتبط بذلك الواقع المأسوي المعاش في أوربا‬
‫عموما وفرنسا خصوصا ألنها كانت المنطق األولي للفكر التحرري اصطنعت لرؤية جديدة‬
‫في التفكير من شأنها زعزعة الكيان المسيحي الديني‪ ...‬وهي نقطة االلتقاء بين مفاهيم الثورة‬
‫الفرنسية والفكر العلماني ألنها تعبير صريح عن التحرر من قيود الدين‪ 1".‬وفي مقابل ذلك‬
‫وجدت محاوالت عديدة من األنظمة التي ضغطت عليها الثورة لعقد تحالف مع الكنيسة‬
‫لوضع حد لتمادي الفكر الثوري من خالل حث الكتاب على التأليف لصالح الكنيسة بما‬
‫يخدمها للتأثير في العامة من الشعب ومن أجل التصدي للفكر اإللحادي الثوري غير أن‬
‫الجرح كان عميق ولم يندمل فاستمرت الحركات في توحيد صفوفها ضد العدو القديم المتمثل‬
‫في أشكال مختلفة كالملكية المطلقة واألرستقراطية والكنيسة ولم تزدهم ردود الكنيسة التي‬
‫سمعوها عن الحق اإللهي المقدس إال إص ار ار على تبني التغير الجذري ورفعوا شعار‬
‫الحاكمية العلمانية في صورة إله أرادته قانونا وهنا بهت رجال الكنيسة وأتباعها ولم تعد‬
‫الكنيسة تنعم بأي تقديس وخاصة بعد قطع رأس "لويس السادس عشر"‪.‬‬

‫د‪-‬العلمانية والنضال ضد الطغيان الكنيسي‪:‬‬

‫لقد عرف تاريخ الكنيسة مظاهر مختلفة ومنعرجات خطيرة بتفاعلها مع مختلف‬
‫المجاالت االجتماعية والسياسية والعلمية وما ميزها أثناء ظهورها هو اقتصار أدائها في‬
‫حدود الدين ترعى مملكة السماء على األرض ملتزمة بالخالص‪ ،‬الروح زاهدة في شؤون‬
‫الدنيا تنادي بالتوافق من خالل شعارها "مالقيصر لقيصر وما هلل هلل" فلم تسع للدولة ولم‬
‫تساهم في بلورة القوانين أو النظم الوضعية ال السياسية وال االجتماعية وال االقتصادية وال‬
‫الفكرية واكتفت في عالقاتها بمبدأ الدين للكنيسة والمجتمع للدولة ‪.‬غير أنها لم تبق تتفرج في‬
‫الواقع مكتوفة األيدي بل وبعد توسعها وانتشارها تغير وزنها وزاد في ظل رضا نسبي عنها‬
‫من طرف اإلمبراطور وانعكس ذلك على مواقفها الغريبة التي طبعتها "فالكنيسة وقفت موقفا‬
‫معاديا وغريبا من العلم والعلماء ولم تسمح ألحد أن يحاول حتى فهم اإلنجيل إال من خاللها‬
‫ومن خالل رجالها ‪...‬وكانت تفزع أشد الفزع إذا سمعت أن أحدا بحث أو تكلم في أي من‬

‫‪ -1‬برنار غروتويزن ‪ ،‬فلسفة الثورة الفرنسية ‪،‬ت ‪:‬عيسى عصفور‪،‬دار منشورات عويدات‪،‬بيروت‪،‬ط‪،1،1982‬ص‪5،6‬‬
‫‪27‬‬
‫تلك العلوم فضال عن احتكارها لتفسير اإلنجيل ‪...‬وإن النظرة التي هزت الكنيسة ألول مرة‬
‫هي نظرية "كوبرنيق" الفلكية فقبل هذه كانت الكنيسة هي المصدر الوحيد للمعرفة وكانت‬
‫فلسفتها تعتنق نظرية "بطليموس" التي تجعل األرض مركز الكون ‪...‬فكان جدير أن يقع في‬
‫قبضة محاكم التفتيش ولم ينج من ذلك ‪...‬وحرمت الكنيسة كتابه وحرمت تداوله‪1".‬إ ْذ لم‬
‫يستقر للكنيسة وضع بعد ذلك‪ ،‬فتاريخها منذ ذلك الحين حافل بالتجليات والتطورات التي‬
‫أسست لتصور فكري تناوله العديد من المفكرين من مختلف الزوايا عبر عصور وغالبهم‬
‫يؤكد أن الكنيسة بعد إقصائها للدولة أو اإلمبراطورية الرومانية في التاريخ الذي تال ظهورها‬
‫قامت بوضع أسسها المتينة في الحكم وفي المجتمع وفي السياسة والفكر واالقتصاد‬
‫وأخضعت الكل لسلطتها بالسطوة والبطش والقوة فكانت هذه المرحلة من تاريخ الكنيسة نقطة‬
‫سوداء حسبت عليها بعد أن وضعت كل المجاالت التي تشمل الحياة داخل اإلمبراطورية في‬
‫سجن مظلم وأغلقت الباب عليها بمفتاح القداسة ووضعه في جيبها " ولكن رجال هو "جردانوا‬
‫جام غضبها وزجت به‬ ‫برونو" بعث النظرية بعد وفاة صاحبها فصبت عليه محكمة التفتيش ّ‬
‫في السجن ست سنوات فلما أصر على رأيه أحرقته(‪1600‬م) وذرت رماده في الهواء وجعلته‬
‫عبرة لمن اعتبر وبعد موته ببضع سنوات توصل "جاليليو" إلى صنع المراقب‬
‫(التيليسكوب)فأيد تجريبيا ما نادى به أسالفه نظريا فكان ذلك مبر ار للقبض عليه ومحاكمته‬
‫وقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان ‪...‬إلى أن أعلن ارتداده عن رأيه وهو‬
‫راكع أمام رئيس المحكمة قائال أنا جاليليو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام‬
‫فخامتك والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي أرفض وأحتقر القول اإللحادي الخاطئ بدوران‬
‫األرض‪ 2".‬فعاشت أوروبا أسوأ أيامها وساد الرعب والخوف بسبب طغيان الكنيسة وعم الجهل‬
‫واالنحطاط الذي فرض عليها عصور مظلمة وامتد طموحها في الدولة فجمعت الديني‬
‫والمدني بنظرية السلطة الجامعة التي حكمها الباباوات أو من يوالون الكنيسة ويباركهم‬
‫الباباوات ولقد ظهر هذا النظام في تاريخ أوربا وعرف بنظرية الحق اإللهي للملوك غير أن‬
‫واقع أوربا في هذه المرحلة هو الذي فجر التمرد على الدين وأقنع الفكر والمجتمع األوروبي‬
‫بأن عدو العقل فيه هو الدين فـ ـ "كانت الثورة العلمانية التي فجرتها فلسفة التنوير األوروبي‬

‫‪ -1‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف ‪،‬لم أجد المرجع‪،‬ص‪.45،46‬‬


‫‪ -2‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف ‪ ،‬لم اجد المرجع ‪،‬ص‪.47‬‬
‫‪28‬‬
‫والتي أقامت قطيعة معرفية مع فلسفة الحكم الكهنوتي وأسست النزعة العلمانية الحديثة على‬
‫التراث األوربي القديم وعلى عقالنية األوروبي الحديث التي أحلت العقل والتجربة محل الدين‬
‫والالهوت لقد أعادت الثورة العلمانية الكنيسة إلى حدودها األولى خالص الروح ومملكة‬
‫السماء وجعل العقل والتجربة دون الدين والالهوت المرجع في تدبير شؤون العمران‬
‫اإلنساني‪ 1".‬من أجل إقصاء الكنيسة واالستغناء عنها وعن خدماتها التي أرهقت النفوس‬
‫واسترجاع سيادة العقل والفكر والعيش في الحياة بفلسفة العلم مكتف بذاته تنشئه األسباب‬
‫المتأصلة في خلقه بدون حاجة لتدبر إلهي غيبي‪ ،‬هذا الموقف من الكنيسة لم يشملها وحدها‬
‫بل شمل كل الدين فما فعلته الكنيسة بنفسها وباألديان األخرى لم يفعله ألد أعداء الدين فلم‬
‫يرى اإلنسان بعد تاريخ الكنيسة هذا أي حرج في اإللحاد والكفر وبررت لهم الكنيسة ما‬
‫تحمله خطابا تهم وتصوراتهم عن الدين ولعل هذا هو الذي ولد المذاهب العلمانية التي خلعت‬
‫أبواب القداسة تلك وأخرجت من تلك الغرف المظلمة المجتمع األوروبي إلى نور العقل وتبنت‬
‫العلم في نواديها ولم تلتفت إطالقا ألحكام الكنيسة "ولقد عرفت العلمانية األوروبية تيار‬
‫التنوير من أمثال هوبز ولوك وروسو التوفيق بين اإليمان بوجود هللا خالق للعالم وبين‬
‫العلمانية التي ترى العالم مكتفيا بذاته وكان هذا الوفاق مؤسسا على التصور األرسطي‬
‫لنطاق عامل الذات اإللهية فاهلل في التصور األرسطي واحد مفارق للعالم وخالق له لكنه قد‬
‫أودع في العالم والطبيعة األسباب التي تدبرها تدبي ار ذاتيا دونما حاجة إلى تدخل إلهي أو‬
‫ِ‬
‫مرحلة الخلق‪ 2".‬لقد أراد العلمانيون األوائل أن يرجعوا الكنيسة لحدودها‬ ‫بعد‬
‫رعاية إلهية فيما َ‬
‫األولى بمواجهتها بتصوراتها االبتدائية حول االكتفاء بالخالص الروحي وانتظار مملكة‬
‫السماء وتجنب المشاركة في بناء النظام السياسي أو االجتماعي‪ ،‬بعد تورطها في متاهات‬
‫من نسج الخيال البابوي المتأّله بالنيابة‪ ،‬الذي ابتاع صكوك الغفران لمن يشاء واخضع الفكر‬
‫والسياسة والمجتمع كله لسلطته وإلى غاية القرن الخامس عشر واصل البابا وكنيسته في هذا‬
‫حتى قيام الحروب الصليبية وعزم مارتن لوثر على التخلص من إمالءات البابا والكنيسة‬
‫الكاثوليكية فألغى صكوك الغفران واتهم الكنيسة باستعباد المجتمع وألغى سلطة البابا وأرجع‬
‫للكتاب المقدس وحدة السلطة الدينية ونادى بالبحث النسبي في الكتاب المقدس دون أن‬

‫‪ -1‬محمد عمارة ‪ ،‬الشريعة اإلسالمية والعلمانية ‪ ،‬ص‪.19‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪29‬‬
‫يمس من مرجعيته اإليمانية متقدما به على العقل أو الطبيعة وبهذا التصور اإلصالحي‬
‫لــ"مارتن لوثر" و"كالفن"وضعت المسيحية تحت طائلة النقاش الفكري‪ ".‬ومع هذا كله – كان‬
‫للكتاب المقدس الكلمة األخيرة فيما يرى العقل ويحكم وبقى اعتبار النص أو الدين مصد ار‬
‫أخي ار عند الكاثوليك والبروتستانت حتى نهاية النصف األول من القرن الثامن عشر وهو‬
‫عصر التنوير في التاريخ األوربي والطابع الفكري للقرن الثامن عشر إجماال هو اشتراك‬
‫فالسفته في تحليل المعرفة ونقد العقل والدين والنظم االجتماعية والسياسية‪ 1.‬ومن أبرز الذين‬
‫تبنوا العقل بدال من الدين "فولتير" الذي هاجم الكنيسة بقوة ولم يؤمن بالميتافيزيقا والبعث‬
‫والجزاء بعد الحياة ورأى أن النفس تحي بحياة الجسم وتفنى بفنائه والقداسة كلها للطبيعة‬
‫َ‬
‫وحدها‪ .‬وكأن الكنيسة لم تكتفي بعد من صراعاتها المستمرة مع الجميع وباألخص بين‬
‫البروتستانت والكاثوليك فكانت "النتيجة أن حدثت مجزرة كبرى عدها المؤرخون أدهى وأمر‬
‫ما حدث في الحروب الدينية تمثلت فيما شهدته فرنسا في الرابع وعشرون من شهر أغسطس‬
‫‪1572‬م وعرف بمذبحة سان بارتميلي‪Sant Bartemilie‬ضد البروتستانت إذ جر‬
‫البروتستانت إلى الشوارع وُذبحوا ذبحة األنعام وانتُزعت األجنة من بطون أمهاتهم القتيالت‬
‫ومثل بهم شر تمثيل وكان أن حذت مدن فرنسية أخرى حذو باريس‪...‬قدرت أعداد الضحايا‬
‫فيها بثالثين ألف‪ 2".‬ولقد دفع هذا بالكثير من البروتستانت إلى ترك عقيدتهم واعتناق‬
‫الكاثوليكية خوفا من أن يلحق بهم األذى وكان هذا مؤقتا حيث سرعان ما " دشن الهيجونوت‬
‫البروتستانت الحرب الدينية الرابعة والتي ما وضعت أوزارها إال في السادس من يوليو‬
‫‪1573‬م تاريخ توقيعالروشيل"الذي منح" "الهيجونوت" البروتستان الحرية الدينية‪ 3".‬وبعد بلوغ‬
‫الكنيسة مرحلة اإلجهاد النفسي والفكري في صراعها وحروبها أنهت رغبتها في المواجهة‬
‫بظفر البروتيستانت باعتراف كاثوليكي بشرعيتها وقامت راية دين جديد رسمي بروتيستانتي‬
‫في وجه الكاثوليكية‪ ،‬الوضع الذي فرض ظروفا جديدة في التفاوض إلى غاية القرن السابع‬
‫عشر حيث ظهرت فكرت تسوية الخالفات الدينية بعيدا عن السياسة وتدخلت السلطة‬
‫العلمانية في فك النزاع بفرض التسامح والتعايش بعد الحروب الدينية المنهكة وبهذا يمكننا‬

‫‪-1‬أحمد محمد الفاضل ‪ ،‬نشأة العلمانية في الغرب وتاريخها ‪ ،‬ص‪.24‬‬


‫‪2‬براق زكرياء ‪ ،‬الدولة والشريعة في الفكر العربي اإلسالمي ‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫‪ -3‬نفس المرجع ونفس الصفحة‬
‫‪30‬‬
‫القول أن البروتستانية ساهمت بطريقة غير مباشرة في نشأة فكر علمي إنساني يؤمن‬
‫بالسلطة الزمنية على حساب السلطة الدينية بل كان اليد التي استأصلت الدين من المجال‬
‫العام ووضعته في مكانه الصحيح وبررت مواقف الفكر والدين والالهوت من السلطة الزمنية‬
‫التي استرجعت وجودها بعد ما حل بها من الكنيسة‪ ".‬وفي هذا يرى "ماركس فيبر "أن أهمية‬
‫البروتستانتية تأتي من كونها قد مثلت حضنا لحركة العلمنة ومرد ذلك إلى ما يطبع‬
‫البروتستانتية من ملمح باطني يجعل من الحقيقة الدينية نوع من التأمل الداخلي وشعو ار ذوقيا‬
‫قلبيا من دون ال تشديد على الجانب التشريعي الصارم للدين وال على مكانة الدين السياسية‬
‫‪1‬‬
‫واالجتماعية‪".‬‬

‫‪ -1‬براق زكريا ‪ ،‬الدولة والشريعة في الفكر العربي اإلسالمي ‪ ،‬ص‪.90‬‬


‫‪31‬‬
‫ثانيا ‪:‬العلمانية في الفضاء العربي اإلسالمي‪.‬‬

‫‪-1‬االتصال بالغرب و بدايات التفكير في العلمانية‬

‫لقد فهمت الدول االستعمارية األوروبية الدرس واستوعبته جيدا بعد خروجها من بالد‬
‫المسلمين وهي تجر أذناب الهزيمة والخيبة متأكدة بشكل لم يترك للريبة مجال من استحالة‬
‫طمس هوية شعوب البالد اإلسالمية واستحالة إرساء التبعية الفكرية بها بواسطة حروبها‬
‫الصليبية التي شنتها بكل حقد على بالد المسلمين والتي لم ِ‬
‫تجن منها سوى رصيد نتن من‬
‫اإلجرام وسفك الدماء ورسمت لها صورة بشعة استبقتها إلى كافة المحافل وفي كامل‬
‫التصورات عبر التاريخ وعكس ما كانت تتوقعه الدول االستعمارية األوروبية فعند التفاتها‬
‫للمجتمعات المسلمة بعد خروجها منها لم تر سوى تمسك المسلمين بدينهم وأرضهم ولغتهم‬
‫ولم يفارق المسلمون أبدا االلتباس في مواقف هذه القوى ولم يتحمسوا أبدا لصداقتها‪ .‬ما‬
‫صور فشل القوى االستعمارية بكل تفاصيله في مشهد لعب فيه المسلمون أصحاب األرض‬
‫دور البطولة في مواجهة ٍ‬
‫معتد آثم بصدور عارية لينتصروا بكل مقوماتهم عليه وبقي هذا‬
‫التاريخ راسخا في أذهان العالم كله ولم تستطع القوى االستعمارية تجرعه فعمدت لتغير‬
‫طريقتها التقليدية واعتمدت الغزو الفكري كنوع جديد من االستعمار علها تستطيع الوصول‬
‫به ألهدافها الدنيئة‪ .‬ومثل ذلك "غزوة وحملة نابليون تعبي ار عن روح الثورة الفرنسية وإنها‬
‫اتخذت طابعا رافضا لكل ما هو ديني فاألفكار التي كان يحملها الفرنسيون إلى‬
‫مصر(والبلدان اإلسالمية) كانت تتسم بالعلمانية ولكن لم تصطبغ الحملة الفرنسية بصبغة‬
‫دينية فكانوا ال يتفقون على دين فكل واحد منهم ينحوا دينا يخترعه بتحسين عقله ‪...‬وأسماهم‬
‫جمال الدين األفغاني بالدهرية أو الطبيعيين ‪...‬وذكرهم بمصطلحهم الغربي )‪(Naturalism‬‬
‫وهم الذين يقصرون الوجود على الطبيعة المنظورة وأن ال شيء خارج الطبيعة فالطبيعة‬
‫مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها‪ 1".‬وأول مظهر من مظاهر هذا الغزو الفكري‬
‫تمثل في حملة نابليون بونابارت على مصر عام ‪1789‬م التي لم تكتف بأسلحتها الحتالل‬
‫ا لبالد بل حملت إليها فك ار غربيا غريبا رفقة أدوات ثقافية انتشرت بأشكال مختلفة في بالد‬
‫المسلمين كالصحيفة والمطبعة ما أعطى إشارة انطالق للتغريب في العصر الحديث والذي‬

‫‪ -1‬أحمد فروج‪ ،‬جذور العالمية‪ ،‬ص‪11‬‬


‫‪32‬‬
‫ولد صراعا خطي ار مع الفكر العربي اإلسالمي تباينت فيه موازين القوى بين مستبد ظالم يملك‬
‫كل أنواع األسلحة ووسائل االتصال المغرية ومجتمع مسالم أنهكته الحروب ومزقته الثورات‬
‫وأسره الجهل‪ .‬وامتد هذا الغزو في كل بالد اإلسالم وأينما حل استنبت فكره الحاقد على‬
‫أرضهم وعلى حساب دينهم وقيمهم برعاية العمالء أوال ورجال الفكر الغربي "المستشرقين"‬
‫ثانيا طامحا لجني ثماره الخبيثة باستئصال عمق وكيان الفكر العربي اإلسالمي من وجوده‪.‬‬
‫ولقد ظهر ُب ْع ُد هذا التخطيط العلماني من خالل مظاهر عديدة قبل هذه الحملة بكثير عندما‬
‫دأب األوروبيون أثناء رحالتهم إلى األوطان اإلسالمية لتزويق صورتهم الحضارية وإبراز‬
‫فتوحاتهم المعرفية والثقافية والسياسية واالقتصادية للتعبير عن رقيهم وفي المقابل عملوا على‬
‫استصغار واحتقار كل المشاريع الفكرية اإلسالمية التي وقفت في وجه هذا التيار الجارف‬
‫وصرفوا عنهم األنظار وتركوهم بين فشل فكري ودهشة حضارية وقلق أخالقي يواجهون‬
‫مصيرهم المحتوم بانهيار شامل لحضارة المسلمين التي صمدت لعصور طويلة أمام مختلف‬
‫المحاوالت‪ " .‬وزحفت العلمانية بقوة تنتشر بين المسلمين من جيوش الغزاة الغربيين ومدارسهم‬
‫العلمانية ومن معهم من مستشرقين وقد ظهرت العلمانية (في العصر العثماني)ومدارسهم‬
‫العلمانية في ظل أتاتورك في تركيا بشكل صارم وعنيف وكشفت عن عدائها الشديد لإلسالم‬
‫ثم ظهرت في الكثير من بلدان العالم اإلسالمي باسم فصل الدين عن الدولة أو السياسة وأنه‬
‫ال دين في السياسة وال سياسة في الدين‪ 1".‬ولم يكن العالم العربي اإلسالمي محظوظا جدا‬
‫في بداية القرن السادس عشر إذ ظهر أثناء هذا االنهيار الحضاري اإلسالمي مظه ار مغاي ار‬
‫تماما في الحضارة الغربية التي عرفت تقدما علميا باه ار تمثل في بروز العبقريات العلمية‬
‫وإنشاء األكاديميات العلمية الراعية للعلم والعلماء وساير هذا تقدم صناعي واقتصادي ومن‬
‫جهة أخرى شهدت أوروبا ثورة ضد الكنيسة أطاحت بها وأقامت بدلها سلطة العقل والعلم‪.‬‬
‫في وسط هذه المعطيات كلها أصاب الفكر اإلسالمي صدمة زعزعت ثقته في مقوماته‬
‫وحضارته وولدت في داخله عقدا لم تساعده في اللحاق بالمثل الجديد الغريب‪ ،‬ولقد لعب‬
‫هذا دو ار كبي ار في تجلي تيار العلمانية في المجتمع اإلسالمي وظهور طفرة فكرية مندهشة‬
‫في التقدم الغربي االقتصادي والعلمي والصناعي تطالب بتحرير العقل من الدين هي أيضا‪.‬‬

‫‪ - 1‬أحمد محمد الفاضل ‪ ،‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ‪ ،‬ص‪.40‬‬


‫‪33‬‬
‫"فالمفكرون المعاصرون حاولوا إدماج األفكار الليبرالية والعلمانية الغربية في البناء الفلسفي‬
‫لإلسالم ومن ثم خلق توليفة جديدة من بين هؤالء المعاصرين رفاعة الطهطاوي ‪...‬وآخرين‬
‫فقد تمثلوا الحضارة الغربية أثناء االحتالل الفرنسي لمصر وحاولوا التقريب بين العلم والدين‬
‫وتأويل علم الكالم‪ ،‬بحيث يحرر المجتمع اإلسالمي من قيود التراث وحذا حذوه محمد عبده‬
‫وأتباعه التقدميين ومع ذلك نشأ تيار ليبرالي متعارض مع تعاليم محمد عبده وأكثر راديكالية‬
‫في تأويل القيم اإلسالمية ويتزعم هذا التيار على عبد الرزاق – خالد محمد خالد ‪ -‬وطه‬
‫كتاباتهم حفيظة األزهر فاتهمهم بالزيغ واإللحاد‪ 1".‬ألن جوهر تصورهم‬ ‫حسين وأثارت‬
‫الراديكالي هو الفصل بين الروحي والزمني أو بمعنى آخر بين العبادات والمعامالت كبداية‬
‫لتأسيس الفكر العلماني في اإلسالم من أجل توسيع المشاكل الزمنية فيه وإخضاعها للفكر‬
‫اإلنساني بواسطة إعمال العقل واالجتهاد في حلها غير أن الراديكالية لم تنجح في ترسيم‬
‫عالقة بين الليبرالية اإلسالمية والحرية السياسية ولقيت مقاومة من التيار المحافظ الذي‬
‫توافقت أفكاره في العصر الوسيط مع مفاهيم األصوليين الذي استسلم له التيار التنويري‬
‫وتشكلت منه الحمية الدينية كحركة اإلخوان التي انشق منها بعض روادها واتبعوا الحركة‬
‫الوهابية السلفية التي حملت لواء "ال سلطان إال سلطان القرآن والسنة"‪.‬‬

‫‪-2‬العلمانية في الفكر العربي اإلسالمي‪:‬‬

‫لقد ظهرت العلمانية في الغرب بشكل طبيعي نتيجة لظروف ومعطيات دينية واجتماعية‬
‫وسياسية وعلمية واقتصادية فبعد عصور من التدرج والتطور والتفكير وصلت إلى صورتها‬
‫التي هي عليها اليوم أي أن التطور الكبير الذي حققه الغرب عبر التاريخ في مختلف‬
‫المجاالت الفكرية واالقتصادية والسياسية هو الذي وّلد العلمانية ولقد امتدت للبلدان العربية‬

‫اإلسالمية عبر عمليات الغزو الفكري المنظمة‪ ،‬والتي صادفت في الوقت نفسه ً‬
‫قلوبا فارغة‬
‫نفوسا متخلفة هائمة في الحضارة ووجدت‬
‫من اإليمان‪ ،‬وعقوالً عاطلة عن التفكير الصحيح‪ ،‬و ً‬
‫بعد غياب المفاهيم‬ ‫مهيأ للحشو واالستعباد والتبعية الفكرية‬ ‫الواقع العربي اإلسالمي‬
‫اإلسالمية الصحيحة عن واقعه وبعد انحراف التصورات التي تناولت عمق التراث الفكري‬
‫اإلسالمي عن اإلسالم الصحيح‪ .‬ففرضت العلمانية واقعها عليه وأصابته الصدمة من تناوله‬

‫‪ - 1‬مراد وهبة‪ ،‬األصوليات والعلمانية ‪،‬ص‪.69‬‬


‫‪34‬‬
‫لقضايا ظاهرها ألوانه جميلة براقة وجذابة وباطنها سموم قاتلة فتاكة نخرت عمقه وثوابته التي‬
‫لم يستطع الفكر اإلسالمي أن يعادل بينها وبين ما تضمنته العلمانية‪ ،‬وبكل تردد حاول‬
‫الفكر اإلسالمي الوقوف في وجه هذا القادم من الغرب بوضع لمساته عليه كمحاولة منه‬
‫لخلق توافق ممكن الستساغة أفكاره ومسايرة توجهاته وقبول آرائه وتقبل أحكامه ولقد شكل‬
‫هذا السعي المضني للفكر اإلسالمي صورة معقدة وحساسة كجدال محمد عبده مع فرح‬
‫أنطوان على فكرة الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية‪ .‬و"يبدأ الباحثان من انتقاد كال‬
‫الفرقتين القائلتين بفتح العين في "العلمانية" غريب عن اللغة العربية والقائلين بكسرها على‬
‫حد سواء حال محمد عابد الجابري الذي يؤكد أن لفظ العلمانية غريب عن اللغة العربية إال‬
‫من حيث صياغته‪...‬وإننا برأيه إزاء تحايل لتحميل هذا اللفظ معنى ال مرجعية له في المجال‬
‫التداولي العربي ‪...‬يفضل الجابري الحديث عن الالئكية التي هي معناها المعجمي "ذلك‬
‫النظام الذي يبعد الكنيسة من ممارسة السلطة السياسية أو اإلدارية وبالخصوص من تنظيم‬
‫التعليم‪ 1".‬أي أن أول ما يمكن مالحظته هو أن المعاجم العربية وضعت مفهوم مصطلح‬
‫العلمانية بأنه يعني االلتباس الداللي الظاهر ليس ألنه مصطلح مستحدث غريب عن الفكر‬
‫العربي فقط بل وأيضا لمعناه في مجال تداوله األصلي الذي يعني فصل الدنيوي عن‬
‫األخروي والسياسي الزمني عن الديني الكنيسي ومواجهة تسلط الكنيسة وتقديم العقل في كل‬
‫شيء إ ْذ بعد كل ما حققته العلوم والمعرفة في مختلف مجاالت حياة اإلنسان جعل الثقة في‬
‫الدين (الكنيسة) تكاد تكون منعدمة ورجح كفة العقل على الدين ووضع الفريقين من مؤيد‬
‫ومعارض عرضة لمطارحات عديدة‪.‬‬

‫‪-3‬دالالت المفهوم في السياق العربي اإلسالمي‪:‬‬

‫رغم استحالة تحديد تاريخ معين لظهور كلمة العلمانية في اللغة العربية فإنه يمكن‬
‫اعتبارها مصطلح جديد مستحدث ووافد واألكيد أيضا أن الذي ميز ظهور هذا المصطلح‬
‫هو االلتباس الذي اعتراه أثناء ترجمته من اللغات األجنبية حيث احتمل اللفظ أكثر من معنى‬
‫العلمانية بفتح العين إشارة‬ ‫ِ‬
‫لذا تعددت التعريفات فنجد العلمانية بكسر العين لإلشارة للعلم و َ‬

‫‪ - 1‬براق زكريا ‪ ،‬الدولة والشريعة في الفكر العربي اإلسالمي ‪ ،‬مركز الحضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ‪ ،‬بيروت ‪،‬ط‪1‬‬
‫‪ ،2013،‬ص‪.120‬‬
‫‪35‬‬
‫للعالم وحده الموجود بوجود الحياة فيه وال عالقة له بالغيبيات ‪ ،‬واإلنسان يتطور بالعقل وحده‬
‫وال يتوقف ذلك على الدين‪" .‬ويرى عادل ظاهر أنه قد شاع لفترة طويلة ومازال شائعا بين‬
‫عدد كبير من مثقفينا أن االسم الذي اشتهرت به العلمانية ينبغي أن يلفظ بكسر حرف العين‬
‫مما أوحى نسبتها إلى العلم إن هذا خطأ ينبغي تصحيحه إذ أن لفظة "علمانية " مشتقة من‬
‫"عالم " وليس من "علم" والطريقة الصحيحة للنطق بها هي بفتح حرفي العين والالم معا‬
‫فالعلماني "بكسر حرف العين" هو ما يشار إليه عادة في كتاباتنا المعاصرة بالعلموي غير أن‬
‫لفظه "علموي" ال يمكن لغويا اشتقاقها من " علم " واألصح لغويا أن تقول علماني (بكسر‬
‫حرف العين )بدل ( علموي )‪،‬والعلمانية (بكسر العين)هو ما يتخذ من المعرفة العلمية كما‬
‫هي ممثلة في العلوم الطبيعية‪1".‬ومن هذا التصور الخطير لمصطلح العلمانية يقدم المفسرون‬
‫مفهوما شامال يتعارض كليا مع الدين ويحمل في ثناياه دسائس خبيثة للفكر اإلسالمي من‬
‫أجل استئصال جذور الدين من عمق المجتمع العربي اإلسالمي فالمفهوم استثنى عموما‬
‫الدين والماورائيات والميتافيزيقا من دائرة التناول أصال كونها على ‪-‬حسب زعم رواد‬
‫العلمانية‪ -‬ال تخضع لمعايير العلم وجعل من العقل أساسا لمختلف النتائج الفكرية‬
‫واالقتصادية والسياسية‪" .‬ويرى فؤاد زكريا أن الربط بين العلمانية وبين معنى (العالم) أدق من‬
‫الربط بينهما وبين العلم ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا‪ :‬إن الترجمة الصحيحة للكلمة هي‬
‫الزمانية ألن اللفظ الذي يدل عليها في اللغات األجنبية أي (‪)Seculor‬في االنجليزية مثال‬
‫مشتقة من كلمة تعني القرن(‪...(speculum‬فالعلمنة ترتبط في اللغات األجنبية باألمور‬
‫الزمنية أي ما يحدث في العالم وعلى هذه األرض في مقابل األمور الروحانية التي تتعلق‬
‫أساسا بالعلم اآلخر‪2".‬كما يقدم فؤاد زكريا تفسيره للعلمانية الذي أكد من خالله أن الطبيعة‬
‫العالمية هي التي تصب كل طاقتها في دراسة قوانين الطبيعة والحياة بالعقل وحده بعيدا عن‬
‫المفاهيم األخرى ونفي كل توافق بين مجال العقل ومجال الدين‪ ،‬وبما أن العلمانية طرح‬
‫يهتم بالكون فقط فالمعارف فيها في تطور زماني متغير ليست أزلية وحقيقتها من اختصاص‬
‫ِ‬
‫العقل وحده الذي يستطيع اكتشافها وتفسيرها وال فرق بين ما تحمله العلمانية و َ‬
‫العلمانية للفكر‬

‫‪ - 1‬عادل طاهر ‪ ،‬األسس الفلسفية للعلمانية ‪ ،‬دار الساقي ‪ ،‬بيروت لبنان ‪ ،‬ط‪ ، 2015، 3‬ص‪.37‬‬
‫‪ - 2‬عبد الرحمن العالم ‪ ،‬العلمانية والدولة المدنية ‪ ،‬تواريخ الفكرة وسياقاتها وتطبيقاتها ‪ ،‬مؤسسة مؤمنون بال حدود‬
‫للدراسات واألبحاث ‪،‬ط‪ ، 2016، 1‬المملكة المغربية الرباط ‪،‬ص‪. 69، 68‬‬
‫‪36‬‬
‫الغربي تحديدا وللفكر العربي أيضا ِإذ األكيد أنها وليدة التغيرات والصيرورات والتناقضات‬
‫التي حملتها تصورات الفكر الغربي واإلسالمي على حد سواء ووليدة بقايا تراثية لمحت‬
‫بشكل أو بآخر لهذا المفهوم في التاريخ الغربي أو العربي كفرقة المعتزلة التي حاك اتجاهها‬
‫مفهوم العلمانية واقترب منه كثي ار عندما أسس للعقل في تصوراته وفي بلورة مفاهيم ظلت‬
‫لوقت طويل غير متاحة للدراسة بسبب مرجعيتها الدينية المقدسة‪ .‬واألجدر اليوم تناول‬
‫العلمانية كونها أمر واقع فعلي واتجاه له إطالالت في عمق التاريخ وال يمكن أبدا دراسة‬
‫العلمانية انطالقا من تجليها الحالي في الفكر عموما ولكن يتطلب ذلك العودة للعمق أكثر‬
‫ألنها بالفعل اتجاه بدا بشكل أو بآخر منذ بوادر التفكير األول الذي تبنى المعرفة المجردة‬
‫عن االعتقاد الغيبي وبحث بكل جرأة آنذاك عن أسباب وقوانين الطبيعة فاستنتجها وفسرها‬
‫وراح في هذا االتجاه يبني مفاهيمه في االقتصاد والسياسة والعلم‪.‬‬

‫‪-4‬موقف المفكرين العرب من العلمانية‪:‬‬

‫لقد اختلفت تعريفات العلمانية عند العرب باختالف تصورات المفكرين العرب عنها‬
‫فمنهم من رأى أنها إجراء جزئي أي أداء خاص في النظام ال عالقة له بالشؤون النهائية‪،‬‬
‫ومنهم من عرفها على أنها قاعدة شاملة تتأسس عليها األنظمة العالمية الحديثة‪ " .‬فيعرفها‬
‫محمد أحمد خلف هللا " بأنها حركة فصل السلطة السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية‬
‫وليست فصل الدين عن الدولة " وال تصح حركة الفصل هذه في تصوره من أن تعمل‬
‫السلطتان جنبا إلى جنب في الحياة لكن تعمل كل واحدة حرة مستقلة دون أن تتأثر باألخرى‬
‫أو تؤثر فيها‪ 1".‬وهذا هو التعريف الذي جاء بالعلمانية الجزئية التي تقول بضرورة فصل‬
‫السياسة أو االقتصاد عن الدين دون إهمال الدين في الحياة وهذا ما ظهر في فرنسا بتبنيها‬
‫الكاث وليكية رغم علمانيتها ‪.‬خالفا تماما للعلمانية الشاملة التي فسرت عالقة الدين والغيبيات‬
‫بكل مجاالت الحياة " وهي رؤية عقالنية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية‬
‫التي ترى أم مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له وأن العالم كله مكون أساسا‬
‫من مادة واحدة وال تحتوي على أي أسرار وهي في حالة حركة دائمة ال غاية لها وال هدف‬

‫‪ -1‬أحمد محمد الفاضل ‪ ،‬االتجاه العلماني المعاصر في القرآن الكريم ‪،‬ص‪.23‬‬


‫‪37‬‬
‫وال تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات‪ 1".‬بهذا المفهوم تنسف العلمانية بكل القيم‬
‫واألخالق والدين والمعتقدات الغيبية عن العالم وليس فقط فصل الدين عن الدولة ليتضح بعد‬
‫هذا تكوين العالم الحسي التجريبي الخاضع لإلنسان‪.‬‬

‫‪-5‬العوامل المساهمة في انتقال العلمانية إلى العالم اإلسالمي‬

‫لقد شهد التاريخ اإلسالمي تجليات وتناقضات عديدة ومحطات متباينة مست جوهره‬
‫العقائدي واالجتماعي والفكري فشعبت مآخذه ومطامحه ولونت مظاهره بألوان مختلفة فاختلف‬
‫داخله وانق سم لنعرات وطوائف وأجناس عديدة متباينة الطرح ومتصارعة باستمرار ولوقت‬
‫طويل إلى مجيء العلمانية التي وجدت في هذا مرتعا لها لتمرير سمومها الحاقدة غير أن‬
‫هذا لم يفرض العلمانية ولم يكن لها سببا إنما األسباب الموضوعية التاريخية لها بدأت مع‬
‫الحروب الصليبية وتحديدا مع نابوليون بونابارت "إن بزوغ العلمانية كتيار في المجتمع‬
‫العربي اإلسالمي مرده إلى هزيمة العرب عسكريا في عام ‪1967‬م فقد ذاع الشعار التالي"‬
‫إن علمانية اإلنسان بتحرره من العصابة الدينية ‪...‬وقد انبهر بعض المثقفين بحضارة الغرب‬
‫فارتأوا في أسلوبها أفضل وسيلة لمعالجة مشكالت مجتمعنا العربي"‪ 2‬كما كان للجهود الفكرية‬
‫لـ "فرح أنطوان" و"سالمة موسى" و"شبيل شميل" و"رفاعة الطهطاوي" و"محمد علي" و"على‬
‫عبد الرزاق" دور والتي ظهرت كبدايات هيأت األرضية الفكرية للمجتمع اإلسالمي قبل‬
‫الحملة االستعمارية في القرن التاسع عشر‪ ،‬جدير بالذكر أن المسيحيين العرب كانوا ثغور‬
‫حساسة تخللت المجتمع اإلسالمي وهللوا للعلمانية فيه بل تبنوها أيضا فـ"قد بلور المصلحون‬
‫المصريون والشوام في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اختيارات فكرية تدعوا‬
‫إلى قيم التنوير ‪...‬في تطوير الفكر العربي وذلك انطالقا من دورها العام في تطوير الفكر‬
‫اإلنساني ومن أبرز هؤالء المثقفين المتحمسين لفكر األنوار يمكن أن نذكر على سيبل المثال‬
‫ال الحصر فرح أنطوان‪ ،‬وشبلى شميل وأديب إسحاق وسالمة موسى ولطفي السيد وعلي عبد‬
‫الرزاق وطه حسين وقد ساهم كل هؤالء بدرجات متفاوتة في إنجاز تأويل إيجابي لفكر‬

‫‪ - 1‬أحمد محمد الفاضل ‪ ،‬االتجاه العلماني المعاصر في القرآن الكريم ‪،‬ص‪.26‬‬


‫‪ - 2‬مراد وهبة ‪ ،‬األصولية والعلمانية ‪ ،‬دار الثقافة ‪ ،‬ط‪ ، 1‬القاهرة ‪ ،‬د س ‪،‬ص‪.65‬‬
‫‪38‬‬
‫األنوار داخل الفضاء العربي المعاصر‪ 1".‬إ ْذ يبدوا هذا من خالل المطارحات الفكرية بين‬
‫المسيحي فرح أنطوان ومحمد عبده المسلم حول العلمانية والدولة اإلسالمية‪ ،‬كما يمكن‬
‫تحديد أسباب أخرى سهلت انتقال العلمانية لبالد المسلمين كــاالستشراق واإلعالم والحركات‬
‫الليبرالية والصهيونية والماسونية والشيوعية‪.‬‬

‫أ‪ -‬االستعمار الغربي‪ :‬بعد أن استقرت العلمانية في الغرب وتأصلت في جميع اتجاهاته وبعد‬
‫أن تأكد الغرب أنه حقق انتصا ار مدهشا امتد طموحه ألبعد من ذلك فسعى لطمس هوية‬
‫الشعوب المستعمرة ومحو مقوماتهم "وكان االستعمار يرمي من وراء هذه القوانين إلى هدم‬
‫شخصية هذه األمة وإخراجها عن أطرها وقيمتها واستغالل البالد لفائدة األغيار وإسباغ‬
‫الحماية القانونية إلى الحانات وبيوت الدعارة ‪...‬وهذه القوانين هي إحدى المعطيات التي يمن‬
‫بها على المسلمين والعرب دعاة العلمانية ويرونها مقدمة لخطوة تالية‪ :‬هي تغيير جلد هذه‬
‫األمة واإللقاء بها في أتون األممية وتحطيم ذاتها ومعنوياتها‪ 2".‬ولقد عرف المستعمر مكمن‬
‫هذه األمة فصب انشغاله على إرساء مناهج تعليمية مختلفة وغريبة عن ثقافة وقيم المجتمع‬
‫اإلسالمي وشيد لها مؤسساتها تتعهد عقول المسلمين وتغير آراءهم من أجل إعدادها‬
‫الستقبال الطرح العالمي الجديد والتناغم معه "ولقد اعترف المبشرون أنفسهم بأهمية تأثير‬
‫هذه المدارس على األجيال وأهميتها في تربيتهم على تقبل األفكار العلمانية والعمل على‬
‫نشرها فيما بعد في البالد اإلسالمية اعترفوا بذلك في مؤتمرهم الذي عقد في عاصمة الدولة‬
‫العثمانية التي كانت ال تزال جامعة للدول اإلسالمية في العقد الثاني من القرن العشرين‪ .‬وقد‬
‫نشر هذا االعتراف في مجلة العالم اإلسالمي التي يحررها هؤالء المبشرون باللغة االنجليزية‬
‫واللغة الفرنسية‪ 3".‬من جهة أخرى سعى لوضع العراقيل أمام التعليم اإلسالمي والتقليل من‬
‫شأن طلبته إذ لم يتمكنوا من شغل أدنى المناصب وفي المقابل فتح أبواب المستقبل الزاهر‬
‫لطالب المدارس الحديثة وعينهم في أعلى مناصب الدولة سعيا من المستعمر لطمس هوية‬
‫المسلم وقطع أوصاله بتراثه وحضارته في كل البلدان اإلسالمية كسوريا ومصر والجزائر‬

‫‪ - 1‬كمال عبد اللطيف ‪ ،‬التفكير في العلمانية إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي ‪ ،‬رضا عوض رؤية للنشر‬
‫والتوزيع القاهرة ‪،‬ط‪، 2007، 1‬ص‪.26‬‬
‫‪ - 2‬أنور الجندي ‪ ،‬سقوط العلمانية ‪ ،‬دار الكتاب اللبناني ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ح ‪.1980،‬ص‪.30‬‬
‫‪ - 3‬السيد أحمد فروج ‪ ،‬جذور العلمانية ‪ ،‬دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬ط‪ ،1978، 3‬ص‪.31‬‬
‫‪39‬‬
‫ولبنان وليبيا وتونس والمغرب "إن العلمانية نشأت في ظروف تاريخية في أوروبا كرد فعل‬
‫لسطوة الكنيسة الكاثوليكية في روما وطغيانها السياسي والديني ‪...‬ومنذ وفدت إلى العالم‬
‫اإلسالمي وهي تلقى معارضة شديدة من المفكرين المسلمين ألنها تنكرت للدين من ناحية‬
‫ومن ناحية ثانية أنها جاءت في أعقاب موجة االستعمار األوربي الحديث الذي بدأ يجتاح‬
‫العالم اإلسالمي منذ القرن السابع عشر حتى أكمل سيطرته على ذلك العالم بعد انتهاء‬
‫الحرب العالمية األولى سنة‪1981‬م حين انهارت الدولة العثمانية وأعقب ذلك زوال الخالفة‬
‫سنة‪1924‬م"‪ 1‬ولم يتركها حتى أينع ما استنبته فيها بجيل من العلمانيين العرب منهم أدباء‬
‫ومفكرين في مختلف المجاالت الذين استساغوا األكل من موائد الفكر االستعماري‬
‫"فبونابارت" حمل معه إلى مصر فكر أوربا كله الذي قام على نبذ الدين وعلى الحرية الفردية‬
‫واحترام إرادة اإلنسان‪ .‬هذاما حملته األفكار الغربية في أوطانها أما حقيقة الحمالت‬
‫االستعمارية هي أطماع ونهب واستغالل بطريقة جديدة بدأت بالمشروع الصليبي الحاقد‬
‫وامتدت لحملة بونابارت والحمالت التي تلتها والتي كانت تزعم نقل الحضارة للمجتمعات‬
‫المسلمة وتحريرها من العادات والقوانين التي لم تسمح لها بتحقيق النهضة كذلك األمر‬
‫كان في احتالل الجزائر والمغرب وتونس بوضع العقل المسلم تحت السيطرة والتبعية لطمس‬
‫هويته باستبدال لغته وفكره مع احتالل األرض ونهب الثروات طبعا واستغالل اإلنسان بهذا‬
‫يتضح الهدف الحقيقي للعلمانية في بالد المسلمين ولم يكن أبدا كما زعم روادها الهدف‬
‫الذي طبعته السياسة االمبريالية االستعمارية التوسعية والسيطرة على الشعوب العربية‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬ويبدو جليا اآلن هذا الهدف من خالل واقع البالد العربية اإلسالمية الذي يسوده‬
‫حكام تورطوا في التبعية الفكرية والسياسية واالقتصادية مقابل نيل السكوت على ما يقع في‬
‫أوطانهم من استبداد وتقييد للحريات الفردية والجماعية‪.‬‬
‫ب‪ -‬العلمانية في مصر (حملة نايليون)‪:‬‬
‫مثلت حملة "نابليون بونابارت" بداية الغزو الفكري الجديد ومنعطفا كبي ار في تصور‬
‫الحروب واالستعمار إذ اختلفت جهود وأدوات الدول االستعمارية في تحقيق أهدافها والتمكن‬
‫من نهب ثروات الدول العربية اإلسالمية فلقد عمدت إلى نقل صورة الحضارة الزاخرة للبلدان‬

‫‪ - 1‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف ‪ ،‬العلمانية في الفكر اإلسالمي ‪ ،‬دار السلم للطباعة والنشر والترجمة ‪ ،‬ط‪، 2006، 1‬‬
‫ص‪.173‬‬
‫‪40‬‬
‫اإلسالمي ة القابعة تحت براثيم الجهل بفعل الحروب واجتهدت في تأليف الخطابات الرنانة‬
‫التي تلقيها في المحافل األوربية من أجل المغالطة ومن أجل تلطيف صورتها أمام فكر‬
‫مندهش مصدوم سحرته أفكار الغزاة عن الديمقراطية والحرية الفردية والتطور العلمي‬
‫والحضاري ومهيأ تماما الستقبالها فلم ينتظر طويال ليرى حجم الفارق وانقلب يفتش بين ثناياه‬
‫عن معالمه فلم يستوعب كثي ار ما يصنعه فبقي الفكر العربي اإلسالمي تائها في وسط‬
‫الطريق بين ذاته وبين ركب الحضارة الجديد كان هذا كصفعة تلقاها أيقظته من سباته‬
‫ليكتشف واقعه المرير‪ .‬ولم يحسن الفكر العربي اإلسالمي انتقاء األفكار الغربية وتصفية ما‬
‫حملته من دسائس خبيثة‪ ".‬إن أول ظهور للعلمانية بمصر كان مع حملة نابليون تعبي ار عن‬
‫روح الثورة الفرنسية وأنها اتخذت طابعا رافضا لكل ماهو ديني ‪...‬فعلى حد قول الدكتور‬
‫صالح العقاد أن األفكار التي يحملها الفرنسيون إلى مصر كانت تتسم بالعلمانية ألن أثر‬
‫الفكر العلماني الذي خلفته الثورة الفرنسية كان اليزال قويا ولذلك لم تصطبغ الحملة الفرنسية‬
‫بصبغة دينية ومن هنا قال فيهم الجبرتي إنهم ال يتفقون على الدين فكل واحد منهم ينحو دينا‬
‫يخترعه بتحسين عقله‪ 1".‬فتشبع من تلك األفكار المجتمع المصري خصوصا بأيادي‬
‫المسيحيين العرب الذين كانوا أدباء ومفكرين وتبنوا الفكر العلماني بكل صراحة وكانوا أول‬
‫المرحبين به ورافقوا الفرنسيين في كل المجاالت وزوقوه للعرب المسلمين في مصر خاصة‬
‫واستمر هذا الوضع بعمالء العلمانية في مصر بعد خروج نابليون منها حيث واصلوا أداء‬
‫مهمتهم التي أسندت لهم بل واستطاعوا تحقيق أكثر مما عجز عليه نابليون نفسه في حملته‬
‫على مصر "لم يخرج االستعمار من البالد اإلسالمية حتى خلف وراءه جيشا من العلمانيين‬
‫الذين دربهم وصنعهم على عينه تحولوا إلى صنابير يسيل منها كل ما هو غربي في مصر‬
‫مثال خلف االستعمار محمد علي وابنه إبراهيم ليقوموا بالدور الذي عجز عنه نابليون في‬
‫حملته على مصر حتى سنة ‪1863‬م لما جاء إسماعيل باشا فألغى المحاكم الشرعية وترجم‬
‫القانون الفرنسي المدني الجنائي إلى العربية‪2".‬إ ْذ وبعد تولي "محمد علي" الحكم بدأت بوادر‬
‫القبول والرضا عن العلمانية تلوح فوق سماء مصر باتجاه فرنسا بإرسال بعثات إليها ضمت‬
‫"رفاعة الطهطاوي" الذي اعتبر رائداً من رواد العلمانية المستوردة ويظهر هذا من خالل‬

‫‪ - 1‬السيد أحمد فروج ‪ ،‬جذور العلمانية ‪ ،‬دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬ط‪ ،1978، 3‬ص‪.11‬‬
‫‪ - 2‬باحو مصطفى ‪ ،‬العلمانية المفهوم والمظاهر واألسباب ‪ ،‬جريدة السبيل سال المغرب ‪،‬ط‪ ، 2011 ، 1‬ص‪.80‬‬
‫‪41‬‬
‫مؤلفاته وآرائه التي كانت األساس األول لدخول العلمانية للدول العربية واإلسالمية‪ ،‬حيث‬
‫يصرح أنه ال يعارض العلمانية مالم تخالف الشريعة ويرى أنه ال عبرة للعقل إال إذا انظم له‬
‫الشرع لكونه هو المرجع الرئيسي والمال والمنافع والمقاصد ثم لحق به علي إسماعيل باشا‬
‫الذي ألغى المحاكم الشرعية وترجم القانون الفرنسي المدني للغة العربية الذي ال يقيد المنفعة‬
‫بالشرع وال يقيد حقوق اإلنسان بحدود هللا وهذا ما كان يطمح له المستعمر برفع األحكام‬
‫الشرعية عن الفكر اإلسالمي ووضع العقل محله لتمرير المبادئ الغربية عبره ‪.‬وبنيران‬
‫صديقة استطاع الغرب بدون خسائر من أن يحقق أهدافه بعد كل ما قام به إسماعيل باشا‬
‫في مصر من استبدال للقوانين اإلسالمية بالقوانين الغربية حيث قدم خدماته بالمجان ألعداء‬
‫الفكر اإلسالمي واختصر الغرب بواسطته عناء ثالثة قرون من الترقب والمحاوالت الفاشلة‬
‫وما شق عليهم لعصور طويلة قدمه لهم إسماعيل باشا على طبق جاهز واستمر الفكر‬
‫الغربي في مصر بسياسته الخبيثة بإنشاء المدارس في كل أنحاء البالد ولقد أثرت هذه‬
‫المدارس كثي ار في مصر بعدما انتهل منها المسلمون في مراحل تعليمهم وتشبعوا بمبادئ‬
‫الفكر العلماني فيها فاجتمع في فكرهم التناقض بين تراثهم وتصوراتهم وبرر لهم الواقع ج أز‬
‫منه فأصبحوا يعتقدون أنه جزء من قيمهم ومن تراثهم فلم يجدوا حرجا في العيش تحت ظل‬
‫نظام مستورد يقصي الدين كليا من سلطته ويجعل للمجتمع قوانين وضعية تحت سلطة‬
‫التيار العلماني ظاهره إنساني وباطنه ليبرالي توسعي يخضع الفرد المسلم له ويستغله وينهب‬
‫خيراته ويف رغه من روحه وقيمه تحت شعارات أخالقية إنسانية شاملة كالحرية والمساواة‬
‫والتسامح والتعايش ولو على حساب الهوية والدين واللغة ليتمكن في األخير الصليبيين من‬
‫تحقيق أهدافهم بدون جهد وبدون خسائر ونفس ما جرى في مصر لحق ببلدان شمال إفريقيا‬
‫الجزائر وتونس وليبيا وحدث أيضا نفسه في سوريا ولبنان‪ ،‬فالبعثات اإلسالمية كلها كانت‬
‫ترمي لتكوين نخبة برعاية غربية الستعمالهم في أوطانهم كنقاط لترويج الفكر العلماني‬
‫وإرسائه بأيادي قادة وزعماء تدللوا في كنفه وشحنهم بمعطيات وأفكار لتمريرها لبلدانهم فكان‬
‫التغريب بعينه وبكل ما حمل معه لألمة اإلسالمية من قطيعة مع التراث اإلسالمي والحضارة‬
‫اإلسالمية وهذا ما ظهر في تركيا بعد القضاء على الخالفة اإلسالمية بها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ج‪-‬عوامل أخرى‪:‬‬

‫وصول العلمانية للعالم اإلسالمي العربي لم يقتصر على تلك األسباب فقط بل كانت‬
‫هناك عوامل أخرى سهلت لنجاح الغزو الفكري للشرق اإلسالمي تمثل في اإلعالم والصحافة‬
‫والحركات الصهيونية والماسونية التي اجتهدت في زرع الخوف والقلق وزعز ِ‬
‫عت اعتقاد‬
‫المتدينين‪.‬‬

‫‪-‬الصحافة واالعالم‪ :‬حاول الغرب بشتى الطرق أن يقنع الشعوب المسلمة بصدق نواياه‬
‫في تواجده بينهم وعلى رأسهم وسعى لرفع كل التباس عن آرائه ومواقفه وجمع كل وسائله‬
‫الحديثة من أجل إرساء عالقة مظهرها حسن داخل وطن واحد يسوده التسامح والتعايش‬
‫واالحترام المتبادل كل هذا أراد الغرب أن يختزله ويقدمه للشعوب المسلمة بواسطة وسيلة‬
‫خطيرة من وسائل الفكر الغربي التي لعبت دو ار رئيسيا في توطين العلمانية في بالد‬
‫المسلمين ‪،‬وهي اإلعالم والصحافة " ولما للصحافة من أثر فعال في تغيير مفاهيم المجتمع‬
‫وتوجيه ثقافته الوجهة التي يريدها لما كان للصحافة ذلك األثر فقد ركز عليها أعداء اإلسالم‬
‫تركي از كبي ار وراحوا يصنفون الصحافة في العالم اإلسالمي ويدرسون سيرها الفكري الذي مشى‬
‫عليه ‪ 1".‬وتمثل دورها في تحسين صورة االستعمار وتبرير تواجده بالبلدان المسلمة التي‬
‫عانت كثي ار ‪ -‬حسب رأيه ‪ -‬من قيود األعراف والقوانين الظالمة‪ ،‬وقدوم األوربيين لها كان‬
‫من أجل تخليصهم منها وإرشادهم لقطار الحضارة العالمية حتى تواكب الدول المسلمة الركب‬
‫ولقد كلفت الدول االستعمارية لذلك صحافة موالية له وناطقة بلسانه قادمة من المدارس‬
‫التبشيرية التي تأسست في الشرق اإلسالمي وفي المعاهد الفرنسية والبريطانية واألمريكية‬
‫لتخاطب فكر منغمس في تيه ودهشة إما بسبب الجهل أو بسبب المواالة واالنسجام الذي‬
‫تحقق عن طريق المدارس الحديثة والمناهج التعليمية‪" .‬وأهمية هذه الصحف ال ترجع إلى ما‬
‫كانت تذيعه فقط ولكن أهميتها الكبرى كانت ترجح إلى أنها كانت رم از لتنشئة الجيل التالي‬
‫من الصحفيين على هذه المبادئ ذات اللون الالديني ‪...‬وأن مديرو الصحف اليومية ينتمون‬
‫في معظمهم إلى من يسميهم بالتقدميين ولذلك كان معظم الصحف واقعا تحت تأثير اآلراء‬
‫واألساليب الغربية‪ ...‬ما جعلها تسير في نفس االتجاه الذي رسمه لها وتتبع نفس المنهج‬

‫‪ - 1‬د ‪ .‬محمد زين الهادي ‪ ،‬العلمانية وأثرها في المجتمع اإلسالمي ‪ ،‬دار العاصمة الرياض ‪ ،‬ط‪1409، 1‬هـ ‪ ،‬ص‪.98‬‬
‫‪43‬‬
‫الغربي العلماني‪1.‬وتعددت تلك الوسائل فمنها المسموعة ومنها المرئية ومنها المقروءة التي‬
‫حملت معها مهمة واضحة بأمر من رواد العلمانية وبأيدي النصارى والمسحيين "كفرح‬
‫أنطوان "و "مشال عفلق" وغيرهم من كان لهم دور كبير في التواصل بالشعوب المسلمة‬
‫والوصول لمختلف طبقاته لزرع األفكار العلمانية الغربية والتعريف بها ‪.‬ولم يكن هؤالء‬
‫وحدهم من حققوا هذا التواصل بالعلمانية فكان للمفكرين واألدباء أيضا دور في ذلك أمثال‬
‫"طه حسين" من خالل التأليف والدراسة الفكرية في مختلف العلوم وخاصة األدب الذي قدم‬
‫صورة حضارية عن العلمانية ليخدعوا بها عقول الشعوب المسلمة‪.‬‬

‫‪-‬محاربة اللغة العربية‪ :‬لم يستغرق المستعمر وقتا طويال لكي يعرف أن الشعوب المسلمة‬
‫تصوغ أفكارها القوية والعنيدة من عالقتها بكتابها المقدس ومن تمسكها بعقيدتها وأدرك أيضا‬
‫أن النسق الذي يجمع الشعوب المسلمة بمقوماتها هي اللغة العربية فعمد لقطع صلتها‬
‫بالقرآن وغيب الشريعة اإلسالمية من واقعها بقوة القانون الذي ساد على حساب الشريعة من‬
‫أجل فرنسة الشعوب المسلمة وخاصة شعوب المغرب العربي "يرى سالمة موسى "أنه ليس‬
‫علينا للعرب أي والء وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم فيجب أن نعودهم‬
‫الكتابة باألسلوب المصري الحديث ال باألسلوب العربي القديم ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من‬
‫العرب وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم فإن العرب أمة قديمة يجب أن‬
‫يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشول وبابل ‪...‬إننا نحتاج اآلن ما يهيج قلوبنا‬
‫ويملؤها تفاؤال بالحياة ولن نجد ذلك إال بارتباطنا بالغرب ‪...‬وأما الشعر العربي فقد سئمنا‬
‫قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين‪2".‬فبعد هذا تم عزل اإلسالم واللغة العربية‬
‫وعلمنة القانون واستبدلت لغة الشعب بلغة االستعمار وخير دليل على ذلك الجزائر التي‬
‫طبعتها الفرنسية بشكل كامل في تعليم اللغة الفرنسية والتدريس بها وأصبحت اإلدارات‬
‫تتحدثها وعمل بها وبقيت اللغة العربية معزولة في دور العبادات والكتاتيب والزوايا ولقد انتبه‬
‫لذلك عبد الحميد ابن باديس زعيم حركة اإلصالح والبشير اإلبراهيمي الذين تصدوا لهذه‬
‫المحاوالت بنشر اللغة العربية تحت شعار "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" ردا‬

‫‪ - 1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.94‬‬


‫‪ - 2‬إدريس أحمد الطعان ‪ ،‬العلمانيون والقرآن الكريم ‪ ،‬دار ابن حزم للنشر والتوزيع ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬ط‪ ، 2007، 1‬ص‪.143‬‬
‫‪44‬‬
‫على سياسة المستعمر التي حاربت الفكر اإلسالمي بضربه في مقوماته ولغته وهذا أيضا ما‬
‫حدث في تركيا بعد اإلطاحة بالخالفة اإلسالمية من طرف مصطفى كمال الذي لم يكتف‬
‫بذلك بل " التصدي لجميع أشكال التفكير القدسي والسيميائي لجميع المسلمين فالحروف‬
‫الالتينية بدل الحروف العربية والقبعة محل العمامة والطربوش والبزة األوربية محل البزة‬
‫التقليدية والقانون األوربي السويسري بدل الشريعة وغيرها من التغييرات الجذرية في الواقع‬
‫التركي والذي أتاح الطريق لزعزعة الوعي اإلسالمي هذا كله يعكس صورة مباشرة التناقض‬
‫بينه وبين أساسيات اإلسالم والمسلمين وتعاليمهم وهذا عبر نفس الطابع الفكري في الجزائر‬
‫فلقد لجأت سلطات االحتالل الفرنسي سنة ‪1830‬م على إلغاء دور الدين في السياسة‬
‫واستبدال نظامها بنظام شمولي بحتا‪1".‬فاستبدل اللغة العربية باألحرف الالتينية وقضى على‬
‫جميع رموز الدين واللغة بعدما اتخذت تركيا العلمانية نظاما لها قبل منتصف القرن التاسع‬
‫عشر وهي تمني النفس باإلصالح والحضارة دون المساس بمكانة الدين في الدولة وركزت‬
‫أهدافها على تغيير الوضع المزري القائم والنهوض باالقتصاد والثقافة وتقوية جيشها لرد‬
‫األطماع الحاقدة ومن هذا قامت تركيا باستبدال القوانين اإلسالمية بالقوانين الوضعية‬
‫عام‪1926‬م وألغيت المدارس الدينية وحجز ممتلكاتها واالستغناء عن اللغة العربية وتعويضها‬
‫باللغة الالتينية وإلغاء اعتماد الدين اإلسالمي كدين رسمي للدولة سنة‪1928‬م ‪.‬وبصفة عامة‬
‫التزم الغرب بشكل قوي بالسعي إلقصاء اإلسالم من حياة الشعوب المسلمة والتقليل من شأنه‬
‫والتضييق لمساحته‪.‬‬

‫ج‪-‬الماسونية‪ :‬ظهرت الماسونية في المجتمعات األوربية برعاية يهودية ونادت بها الثورة‬
‫الفرنسية فلم تكن أبدا على هامش األحداث السياسية في أوربا وإنما لعبت دو ار أساسيا في‬
‫ذلك ولقد قامت الماسونية بضم أعضاء من كل األديان ولم تبد أي رفض لمعتقد معين بل‬
‫تبنت التعايش والتسامح من خالل خطاباتها التي لم تعكس نهائيا أغراضها الخبيثة التي‬
‫سعت من أجل تحقيقها وخاصة رغبتها في تمييع الدين في الفكر "الثورة الفرنسية المعروف‬
‫أنها من عمل الماسونية التلمودية ووضع إعالن حقوق اإلنسان أعلنت الماسونية المساواة‬
‫والحرية بين كل الناس بصرف النظر عن أديانهم وتقرر مصادرة األمالك األكليروس وإغالق‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬نافذة على اإلسالم ‪ ،‬ت ‪ :‬صياح الجهيم ‪ ،‬دار الطليعة للنشر ‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1992، 1‬ص‪.44‬‬
‫‪45‬‬
‫المعاهد والجامعات الدينية وإنشاء مدارس وكليات وجامعات علمانية أي ال دينية وفي عام‬
‫‪1905‬م أقرت فرنسا قانونا حاسما في هذا المجال بفصل عالقات الدين بالدولة ويقوم على‬
‫أساس التفريق بينهما‪ 1.‬وهذا ما مهد وساعد العلمانية في انتشارها والتعريف بها وبمبادئها‬
‫خاصة في البلدان اإلسالمية فبعد سقوط الخالفة اإلسالمية في تركيا سارعت الماسونية إليها‬
‫وجمعت أتباعها وعمالءها فيها حتى تمكنت منها ورسخت لمبادئها بها وأقامت بها دولة‬
‫تهتدي بهديها وتسير بإيعازها من خالل تقليد من يولونها مقاليد الحكم الذين تعهدوا في‬
‫مدارس أوربية بالدراسة ورجعوا ألوطانهم مشبعين بفكرها ومقتنعين بها تماما وفي بالدهم‬
‫أنشأت المدارس والمعاهد والجامعات تلقن مناهج الفكر العلماني‪ ،‬وتخرجوا منها أدباء‬
‫ومفكرين وعلماء قادوا مجتمعاتهم بما اكتسبوه منها فدعوا للتغريب واالنحالل والتحرر‬
‫وانتشر هذا في كل المؤسسات والجامعات العربية من خالل الحركات والجمعيات والمنظمات‬
‫التي كانت تتلقى إيعا از بالتحرك يمينا أو شماال من الماسونية التي انتشرت في كل البالد‬
‫العربية اإلسالمية فالنخبة المثقفة فيها إما من طالب الجامعات الغربية أو من طالب‬
‫الجامعات العربية المنضوية تحت النهج الغربي ‪.‬‬

‫د‪-‬االستشراق‪:‬‬

‫لقد التف الغرب في مرحلة معينة لدراسة الحضارة اإلسالمية الشرقية في إطار‬
‫االستشراق وتناولها بكل موضوعية وجرأة وهي حركة كما رأى "محمد أركون" أنها أثارت‬
‫مواضيع حساسة لم يتطرق إليها المسلمون ببحثها في المسكوت عنه غير أنها دراسة‬
‫فيلولوجية واكتفت بالدراسات التقليدية دون استعمال الوسائل الحديثة وهي دراسة غلب عليها‬
‫التشكيك في التراث اإلسالمي والطعن في ثوابته كالنبوة والقرآن‪ ".‬المستشرق " جب " في‬
‫تحليله للمجتمع اإلسالمي – يرى – كيف أن األفكار الغربية جعلته يبدوا علمانيا في كل‬
‫شؤون حياته وهو يزعم أن هذه المرحلة التي وصل إليها المسلمون ال يمكن الرجوع عنها‬
‫بسهولة ويسر نسبة لتمكن وتغلغل الفكر الغربي فيهم هذا الفكر الذي يزعم أنه شمل كل‬
‫نواحي الحياة االجتماعية واالقتصادية والسياسية وفي أجهزة اإلعالم وفي التعليم والقوانين‬
‫التي يتحاكم إليها المسلم وحتى في الشؤون األسرية والمنزلية الخاصة أصبحت الحياة في كل‬

‫‪ -1‬أنور الجندي ‪ ،‬سقوط العلمانية ‪ ،‬دار الكتاب اللبناني ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ح ‪.1980،‬ص‪.23‬‬
‫‪46‬‬
‫ذلك تبدوا غريبة بل ويحبذ المسلم وال سيما الشباب أن يبدوا بالمظهر الغربي وأن يظهر نفسه‬
‫أنه مثقف ثقافة غربية‪ 1".‬فأسسوا مراكز من أجل التشكيك في العقيدة وأحيوا الفرق المغمورة‬
‫وبهذا مهدوا الستقبال العلمانية ولقد اعتمد المستشرقون على أتباع لهم في بالد المسلمين‬
‫لترويج تلك الثقافة وجسدوا العلمانية في واقع الفكر العربي اإلسالمي التي أنشأت المحاكم‬
‫المدنية التي تفصل بين الناس بالقوانين الوضعية بدل الشريعة اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪ - 1‬محمد زين الهادي ‪ ،‬العلمانية وأثرها في المجتمع اإلسالمي ‪ ،‬دار العاصمة الرياض ‪ ،‬ط‪1409، 1‬هـ ‪ ،‬ص‪.101‬‬
‫‪47‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫سؤال الحداثة‪ :‬المنطلقات‬


‫واإلرهاصات‬

‫‪48‬‬
‫جراء التحوالت الحضارية‪ :‬الفكرية‬
‫ارتبط مصطلح الحداثة بالغرب األوروبي تحديدا ّ‬
‫وتصدر العقل‬
‫ّ‬ ‫والسياسية والفلسفية والعلمية‪ ...‬التي رافقتها األصوات الداعية للتحرر الفكري‬
‫في معرفة قوانين الطبيعة والتجديد ونبذ التقاليد‪ ،‬وبعد الثورة األوروبية التي قامت ضد‬
‫الكنيسة في العصر الوسيط من أجل الخروج من دغمائيتها إلى نور العلم قد تحقق ألوروبا‬
‫ما كانت تسعى إليه بعد جهد كبير ومثمر بحضارة زاخرة مزدهرة شهدتها في مختلف‬
‫المجاالت التي فرضت على الواقع األوروبي والعالم كله التكيف معها ومسايرتها رغم‬
‫معارضة تيارات ما بعد الحداثة وأزمات الفكر الحداثي‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬في مفهوم الحداثة ‪:‬‬

‫‪ -1‬الحداثة لغة‪:‬‬

‫الحداثة كما جاء في لسان العرب كلمة ‪":‬مشتقة من الجذر حدث وحدث الشيء يحدث‬
‫حدوثا وحداثة فهو محدث وحديث األمر أي وقع وحصل وأحدث الشيء أوجده والمحدث هو‬
‫كما يقصد بالحداثة بالشيء أو الحدث الجديد أي" لفظ الحدوث في‬ ‫‪1‬‬
‫الجديد من األشياء"‬
‫الوجود‪ ،‬فالحدوث من حدث يحدث حدوثا أي وجد أصبح حدثا بعد أن لم تكن الحداثة هنا‬
‫تصبح مساوية للواقعة فحدث الشيء حدوثا أي وقع وقوعا أي وقع في إطار زمني معين‬
‫سواء بصورة متوقعة أو بصورة مفاجئة‪ ، 2".‬ونجد لها معنى آخر في القاموس اللغوي العربي‬
‫عندابن منظور فهي" نقيض القديم والحدوث نقيض القدمة حدث الشيء يحدث حدوثا وحداثة‬
‫وأحدوثة فهو محدث وحديث وكذلك استحدثه الحدوث كون الشيء لم يكن وأحدثه هللا على‬
‫غير ها واستحدثت خب ار أي وجدت خب ار جديدا وأخذ األمر بحدثانه أي بأوله وابتدائه"‪ ، 3‬كما‬
‫جاء أيضا في القاموس المحيط للغة معنى للحداثة فهي تعني "حدث حدوثا وحداثه نقيض‬
‫‪4‬‬
‫"قدم" – في معجم مقاييس اللغة الحاء والدال والثاء أصل واحد وهو كون الشيء لم يكن"‬

‫‪ -1‬ابن منظور لسان العرب‪،‬ج‪،2‬بيروت‪،‬ط‪،1،1995‬ص‪.907‬‬


‫‪ - 2‬المصدر نفسه‪،‬ص‪.908‬‬
‫‪ -3‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.52،53‬‬
‫‪-4‬محمد محمود سيد أحمد ‪ ،‬أعداء الحداثة مراجعات العقل الغربي في تأزيم فكر الحداثة ‪ ،‬دار الوعي للنشر والتوزيع ‪،‬‬
‫الرياض ‪،‬ط‪ 1434 ،1‬هـ ‪،‬ص‪.13‬‬
‫‪49‬‬
‫أما معنى الحداثة في اللغة الفرنسية " ‪"Moderne‬مشتقة من لفظة"‪"Modernus‬والتي‬
‫ظهرت في القرن السادس عشر الميالدي وهذا اللفظ استعمل بكثرة من القرن العاشر في‬
‫المسجالت الفلسفية والدينية ويكاد يستعمل بمعنى انفتاح وحرية فكرية ومعرفة أحداث الوقائع‬
‫‪1‬‬
‫أو أحداث األفكار وغياب الكسل‪".‬‬

‫‪-2‬إصطالحا‪:‬‬

‫تعددت تعاريف مصطلح الحداثة وتباينت بسبب ارتباطها بالواقع الخاص وكل ما يحمله‬
‫من اتجاهات‪ ،‬لذا فإنه من الصعب تحديد مفهوم ثابت متفق عليه لهذا المصطلح فهي تعرف‬
‫"(‪) Modernism‬بأنها حركة الفكر الكاثوليكي لتأويل تعاليم الكنيسة على ضوء المفاهيم‬
‫العلمية والفلسفية السائدة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكذلك بأنها نزعة‬
‫الهوتية تحررية (البروتيستانتية)وأيضا بأنها نزعة في فن الحديث تهدف إلى قطع الصلة‬
‫بالماضي‪ 2".‬إ ْذ أن مصطلح الحداثة أو الحديث لها عمق تاريخي بعيد حيث يعرفه "هانز‬
‫روبرت ياوس مصطلح ‪Modern‬بصورته الالتينية ‪Modernus‬قد استخدم ألول مرة في‬
‫أواخر القرن الخامس لتمييز الحاضر الذي أصبح مسيحيا على المستوى الرسمي عن‬
‫الماضي الروماني الوثني ويعبر مصطلح ‪Modern‬عن الوعي بحقبة تتصل بالماضي ويعد‬
‫نتيجة لالنتقال من القديم إلى الجديد‪ ،‬كما يقصر بعض الكتاب مفهوم الحداثة‪Modernity‬‬
‫على عصر النهضة إال أن ذلك يعد تحديدا ضيقا من الناحية التاريخية‪3".‬ألن هناك من يرى‬
‫أن الحداثة " كلفظ‪...‬فلم يأخذ معناه وداللته إال في القرن التاسع عشر حيث ارتبط بأعمال‬
‫الشاعر بودلير‪...)1867-1821(Charle Boudelaire‬وتعود كلمة حدبث الفرنسية في‬
‫أصولها الالتينية إلى كلمة "‪"Modernus‬التي ظهرت في القرن الخامس الميالدي وهي‬
‫مرحلة االنتقال من التاريخ الروماني القديم إلى التاريخ المسيحي‪ ،‬وتفيد كلمة حديث الالتينية‪:‬‬
‫الحاضر واآلني والحالي وجذورها الهندوأروبي يفيد‪ :‬القياس أو المعيار الذي يقاس به الشيء‬

‫‪ -1‬جميل صليبا ‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬ج‪،1‬دار الكتاب اللبناني بيروت ‪ ،‬دط‪،1982،‬ص‪.454،455‬‬


‫‪ -2‬عدنان علي رضا النحوي‪ ،‬تقويم نظرية الحداثة وموقف األدب االسالمي منها ‪،‬دار النحوي للنشر‬
‫والتوزيع‪،‬الرياض‪،‬ط‪،2،1994‬ص‪27‬‬
‫‪ -3‬آسيا واعر‪ ،‬في الفكر الحداثي لمحمد أركون ‪،‬كلية األداب والعلوم االنسانية والعلوم االجتماعية‪ ،‬قسم الفلسفة ‪ ،‬جامعة‬
‫باجي مختار عنابة‪،‬العدد‪.43‬‬
‫‪50‬‬
‫من األشياء‪ 1".‬فهي هنا تعني الحاضر وتجاوز الماضي "وقد أصبح للكلمة في عصر‬
‫النهضة معنى معياري وتقييمي يفيد تجاوز الماضي وفي القرن التاسع عشر ارتبطت‬
‫بالرومانسية والتصنيع واكتسبت معناها الحديث والمعاصر ‪...‬إال أنه من الضروري اإلشارة‬
‫إلى أول من استعملها كان الكاتب البريطاني هوراس البول في القرن الثامن عشر كما‬
‫ظهرت عند الكاتب الفرنسي بلزاك سنة(‪)1823‬ثم استخدمها بودلير‪...‬عام(‪)1859‬ونشرت‬
‫عام(‪ 2)1823‬ما يربط ظهور كلمة الحداثة مع الثورة الصناعية والنزعة الرومانسية‪ .‬ويؤكد‬
‫جون بوديار ان الحداثة " ليست مفهوما سيسيولوجيا أو سياسيا أو تاريخيا يحصر المعنى‬
‫وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صبغة التقليد‪ ،‬أي إنها تعارض جميع الثقافات‬
‫السابقة فأمام التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات تفرض الحداثة نفسها كأنها واحدة‬
‫متجانسة مشعة عالمية انطالقا من الغرب ويتضمن هذا المفهوم إجماال اإلشارة إلى تطور‬
‫تاريخي بأكمله وإلى تبدل في الذهنية‪.3‬أي أن الحداثة هي المفهوم الذي عبر عن التمرد على‬
‫التقاليد والتحرر منها ورفض األحكام والتأويالت المطلقة والمقدسة واالتجاه في المقابل لبناء‬
‫فكر جديد يتفاعل مع معطيات الواقع واالنفتاح على الذات واآلخر بكل حرية والسعي بالعقل‬
‫لإلنتاج واإلبداع في كافة المجاالت‪ .‬كما يرى جياني فاتيمو الحداثة هي‪" :‬حالة توجه فكري‬
‫تسيطر عليها فكرة رئيسية فحواها أن تاريخ تطور الفكر اإلنساني يمثل عملية استشارة مطردة‬
‫تتخلص وتسعى قدما نحو االمتالك الكامل والمتجدد ألسس الفكر وقواعده والحداثة بهذا‬
‫المعنى تتميز بخاصية الوعي بضرورة تجاوز تفاسير الماضي ومفاهيمه والسعي الدائب نحو‬
‫استمرار هذا التجاوز في المستقبل وذلك لتحقيق اإلدراك المطلق عمقا باألسس الحقيقية‬
‫والمتجددة التي تبطن الممارسات اإلنسانية وتضفي الشرعية عليها سواء في مجاالت العلوم‬
‫أما المفكر األلماني هيغل فيرى‬ ‫‪4‬‬
‫والفنون واألخالق وغيرها من المجاالت الفكرية العلمية‪".‬‬
‫أن الحداثة "تجد معيارها في ذاتها إنها وعي لذاتها وإنه من غير المجدي مقارنتها بغيرها أو‬
‫بأي شيء آخر فلم تعد الحداثة تتعلم أي شيء من الماضي أصبحت تولد من الحاضر كما‬

‫‪-1‬الزواوي بغورة ‪ ،‬مابعد الحداثة والتنوير ‪،‬موقف األنطولوجية التاريخية ‪ ،‬دراسات نقدية دار الطليعة للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬بيروت‪،‬لبنان‪،‬ط‪،1،2009‬ص‪.41،42‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.42‬‬
‫‪ -3‬جون بوديار ‪ ،‬نقال عن فارس المسرحي‪ ،‬الحداثة في فكر محمد أركون ‪ ،‬منشورات االختالف ‪،‬‬
‫الجزائر‪،‬ط‪،1،2006‬ص‪.22‬‬
‫‪ -4‬محمد محمود يسيين ‪،‬أحمد طه نور‪،‬أعداء الحداثة ‪،‬دار الوعي ‪ ،‬السعودية‪،‬ط‪،1،1434‬ص‪.26‬‬
‫‪51‬‬
‫يولد الحاضر منها إنها ما يعطي الحاضر طابعه كحاضر ويجعله يحقق األبدية والخلود في‬
‫إطار التاريخ‪ 1".‬وهذا بالضبط ما يجعل مفهوم الحداثة يتحدد ويتغير فال يمكن استق ارره في‬
‫معنى محدد "فالمفهوم يعبر دائما ومن خالل مضامين مختلفة عن وعي عصر ما يحدد‬
‫‪2‬‬
‫نفسه بعالقاته بماضي العصور القديمة ويفهم ذاته كنتيجة انتقال من القديم إلى الحديث‪".‬‬
‫أي أن الحداثة ال تلتزم بالزمان الخاص والمكان وال تخضع لتفسير ثابت‪ ،‬وهذا ما يقره‬
‫الجابري حين يقول " ليست هناك حداثة مطلقة كلية وعالمية وإنما هناك حداثات تختلف من‬
‫وقت آلخر ومن مكان آلخر ومن تجربة ألخرى الحداثة في أوربا غيرها في الصين غيرها‬
‫في اليابان‪.. .‬فالحداثة ليست من أجل ذاتها بل هي دوما من أجل غيرها من أجل عموم‬
‫الثقافات التي تنبثق منها الحداثة‪ 3".‬ومن هذا يتبين أن مفهوم الحداثة يتميز بتميز المراحل‬
‫التاريخية ويختلف من فترة ألخرى ما يصعب من محاولة إعطائه معنى ثابت ومحدد ألنه‬
‫معنى متغير بتغير األحداث‪ ،‬فهو كما يرى "هبرماس قطيعة زمنية متكررة إلنتاج نسق جديد‬
‫بمعرفته ووجوده وقيمته وبشرطيه اإلنساني والعقلي‪4".‬وبتفاعل الحداثة مع الفترة الزمنية‬
‫المختلفة يتحدد مفهومها في كل مرة عندما تتكرر وتختلف الظروف واألحداث‪ ،‬فهي ال تملك‬
‫داللة ثابتة تحددها‪ ،‬بل هي نتاج يعبر عن مفهوم فكري خاص ويمثل صيرورة المجتمع‬
‫وتطوره وانتقاله من حالة إلى أخرى وفق تفاعل الظروف كلها وتالحمها في ظل هذه الحركة‬
‫التي شكلت القطيعة والتقدم بين التاريخ والمستقبل‪.‬‬

‫‪ -1‬زواوي بغوة ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.43‬‬


‫‪ -2‬محمود محمد سيد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -3‬علي رحمونة سحبون ‪،‬اشكالية التراث والحداثة في الفكر العربي المعاصر ين بين محمد عابد الجابري وحسن‬
‫حنفي‪،‬منشأ المعارف‪،‬مصر‪،‬دط‪،2007،‬ص‪.32‬‬
‫‪-4‬علي عبود المحداوي‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.87،88‬‬
‫‪52‬‬
‫ثانيا ‪:‬التحوالت الحضارية ‪ :‬الفكرية‪ ،‬السياسية‪ ،‬الفلسفية والعلمية‪.‬‬

‫‪-1‬اإلصالح الديني‪:‬‬

‫لقد عرفت أوروبا تحوال تاريخيا واسعا خاصة أثناء القرون الوسطى وما ولده المخاض‬
‫الذي شكلته األحداث آنذاك‪ ،‬حيث عاشت أوربا ولعصور عديدة تحت سلطة الكنيسة التي‬
‫سيطرت تماما على المجتمع وجعلته خاضعا لها وقيدت الفكر وضربت عليه الذلة والهوان‬
‫واستبعدت العقل عن الواقع واستبدلت االجتهاد في البحث واالكتشاف باالجتهاد في اليقين‬
‫بالخرافات التي نسجتها وباركتها وجعلت منها إجابات قطعية لمختلف األسئلة الفكرية‬
‫والسياسية والعلمية ونبهت من مخالفتها‪ .‬واستمر هذا الوضع إلى غاية نهاية القرن الخامس‬
‫عشر وبداية القرن السادس عشر مع اإلرهاصات األولى التي تمثلت في عصر النهضة‬
‫كإعالن لنهاية الميتافيزيقا وبداية إرادة اإلنسان ال تحكمه أساطير الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬وهو‬
‫ما عرف باإلصالح الديني إذ هذا االتجاه قد زعزع المجتمع المسيحي في أوربا وهز كيانه‬

‫كله اتجاه موقفه من سلطة الكنيسة‪ ،‬وما ميزها لقرون غابرة أغلقت األفق عن العقل ّ‬
‫وغيبته‬
‫ونصبت رجاالتها في مقاليد الحكم لردع الفكر ووضع حدود لحرية المعرفة وإخضاع كل‬
‫المجاالت في المجتمع ألفكار الكنيسة وتعاليمها الخرافية وكان كل من مارتن لوثر وكالفن‬
‫من أبرز زعماء هذا االتجاه‪ ،‬ثم سرعان ما امتد إلى األطر المعرفية كالثقافية والسياسية‬
‫والفكرية واالجتماعية واالقتصادية والفنية واألدبية‬

‫"وفي داخل هذه الفلسفة الدينية تم إغالق أبواب العلم والعقل والبحث والمعرفة أمام‬
‫الباحثين والمفكرين فال يجوز البحث إال في المجال الذي يحظى برضا اآلباء ويتماشى مع‬
‫تحركها‬
‫ميز سلطة الكنيسة لعقود زمنية طويلة وما جعل منها أداة ّ‬ ‫تقاليد الكنيسة" ‪ .‬هذا ما ّ‬
‫‪1‬‬

‫أن هذا‬
‫بكل تناقضها من أجل بقاء اإلمبراطور والبابا واستمرارهما‪ ،‬والمؤسف ّ‬
‫أيادي اجتمعت ّ‬
‫الر ّب في‬
‫تبنته بزعمها ّأنها تمتلك إرادة ّ‬
‫ّبرر للكنيسة الكاثوليكية القمع والقتل واإلقصاء الذي ّ‬
‫األرض وأحكامها اإللهية ال مفر منها‪ ،‬ومقابل هذا ظهرت من داخل الكنيسة "البروتيستانتية"‬
‫تمردها على الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬فكما سبق ذكره كان‬
‫حركة مناهضة لهذه التصرفات أعلنت ّ‬
‫‪ -1‬محمد محمود سيد أحمد ‪ ،‬أعداء الحداثة مراجعات العقل الغربي في تأزيم فكر الحداثة ‪ ،‬دار الوعي للنشر والتوزيع ‪،‬‬
‫الرياض ‪،‬ط‪1434 ،1‬هـ ‪،‬ص‪.38‬‬
‫‪53‬‬
‫للديانة راجعا بها إلى بولس‬
‫مجددا ّ‬
‫أحد زعماء هذه الحركة " مارتن لوثر الذي اعتبر نفسه ّ‬
‫الرسول اّلذي أعلن عن التّبرير من خالل النعمة واإليمان‪...‬وبالتالي فإن الوظيفة األولى‬‫ّ‬
‫(الوساطة بين اإلله وعباده)اّلتي أخذتها الكنيسة الكاثوليكية على عاتقها تصبح منعدمة‪ ،‬ومن‬
‫هنا تحقق عدالة هللا بتضحية المسيح وهذا التفسير يشكل أساس مارتن لوثر‪ 1".‬ويعتبر هذا‬
‫مباشر لسلطة الكنيسة‪ ،‬وبذلك استطاعت البروتستانتية من وضع حد لغرور‬
‫ا‬ ‫وقوفا وتصديا‬
‫الرب والعباد‪ .‬وبهذا نستطيع القول‬
‫الكاثوليكية ونزعت عنها رداء التأليه والوساطة الزائفة بين ّ‬
‫أن كل من مارتن لوثر وتوماس دكان كانا من رواد هذا االتجاه اللذين تمكنا من طرح " بذور‬
‫النزعة الفردانية التي ستكون واحدة من خاصيات الثقافة الحداثية فقد ّ‬
‫توهم الفرد نتيجة لذلك‬
‫المقدس وبدا العلم أداة قوية التي يستخدمها‬
‫أنه قادر على تغيير كل شيء وليس فقط الكتاب ّ‬
‫الفرد في تفسيره للنصوص وفهمه لألشياء وهو ما قاد في النهاية إلى نشوء حركة علموية‬
‫تحاول أن تأخذ مكان الدين والميتافيزيقا في تفسير الوجود والكينونة‪ 2".‬لقد تبلور اتجاه كل‬
‫من مارتن لوثر وتوماس دكان في الحركة البروتستانتية داخل الكنيسة الكاثوليكية بالتمرد‬
‫المقدس‬
‫ّ‬ ‫على سلطتها وعلى ما جاءت به بإلغاء الوساطة وتجاوزها‪ ،‬واستلم الجميع الكتاب‬
‫كل‬
‫الرب مباشرة ‪،‬واسترجعت سلطة المسيح بالرجوع لألصول األولى للمسيحية ونبذ ّ‬‫لمعرفة ّ‬
‫الرب والعباد‪ ،‬وبعدما‬
‫توسطوا بين ّ‬
‫األفكار التي لحقت بالكنيسة الكاثوليكية من رجالها الذين ّ‬
‫تحقق هذا أدرك الجميع ّأنهم أمام نوعين مختلفين من التعاليم الدينية‪ :‬تعاليم احتواها الكتاب‬
‫الدين‪ ،‬وتجلى للعامة الفرق بينهما‪ ،‬فتشكلت رؤية‬ ‫الكهان ورجال ّ‬
‫المقدس‪ ،‬وتعاليم طرحها ّ‬‫ّ‬
‫جديدة لإلنجيل وتمكن المجتمع من نزع تلك القيود‪ ،‬وكانت بداية ظهور الحرّية الفردية‬
‫وظهور النزعة اإلنسانية التي جعلت اإلنسان محور العملية تدور حوله مختلف المعارف‪،‬‬
‫ورفض فكرة إقصائه التي أفرزتها الدغمائية‪ .‬فأصبح "اإلنسان هو محور هذه الحركة ومن‬
‫كل سلطة مرجعية حتّى مسألة اإليمان اعتبرت مسألة‬‫خاللها زاد الوعي باستقاللية العقل إزاء ّ‬
‫لكل ضمير فرد ولقد رفعت هذه الحركة من قدر التراث الوثني القديم واعتبرت‬ ‫فردية تعود ّ‬
‫تم استعادة الفكر اإلغريقي‬
‫ّ‬ ‫وبهذا‬ ‫‪3‬‬
‫العصر القديم هو العصر ال ّذهبي ولألبد من العودة إليه‪".‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق ص‪.44‬‬


‫‪ -2‬قاسم شعيب ‪ ،‬فتنة الحداثة صورة اإلسالم لدى الوضعيين العرب ‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪،‬دار البيضاء‬
‫المغرب‪،‬ط‪،1،2013‬ص‪.11‬‬
‫‪-3‬محمد محمود سيد أحمد‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.40‬‬
‫‪54‬‬
‫الوثني من جديد من طرف مفكري عصر النهضة للوقوف في وجه الكنيسة‪ ،‬فنجد لمساته‬
‫حرر الفكري والحرّيات الفردية وتبني اإلنسان لمختلف‬
‫الداعية للتّ ّ‬
‫في ارتفاع األصوات ّ‬
‫طبيعة بعيدا عن الحقائق الغيبية التي سوقت لها الكنيسة وأصلت‬‫تفسر ال ّ‬
‫اإلجابات التي ّ‬
‫لالستسالم والخضوع في المجتمع‪.‬‬

‫مما أوقد الرفض للفريق النهضوي فقام باسترجاع دور اإلنسان وقيمته حسب ما أقرته‬
‫أن‬
‫كتب السفسطائيين األولى والتي أوضحها بروتاجوراس في شعارهم "من كتابه عن الحقيقة ّ‬
‫اإلنسان مقياس األشياء جميعها فهو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس ال وجود ما ال يوجد‬
‫الدينية في‬
‫منها‪ ".‬هذا فعال ما دعا إليه لوثر في الكنيسة بطرحه لمبدأ الحرّية الفردية و ّ‬
‫‪1‬‬

‫االعتقاد واإليمان وفي قراءة الكتاب المقدس وفهمه وتفسيره دون حرج أو خوف‪ ،‬وهذا ما‬
‫سينعكس على مختلف المجاالت االجتماعية األخرى برؤية جديدة وفكر جديد ّ‬
‫فضل اإلنسان‬
‫عم سواه وأخضع إلرادته كل ما حوله‪ ،‬وتجاوز التقليدي الذي حكم عليه وأسره وقيده‪ ،‬وأسس‬
‫بكل حرّية وبهذا‬
‫لبداية جديدة مختلفة تماما عن الماضي تسّلم فيها زمام األمور لإلنسان ّ‬
‫حوالت االجتماعية الجديدة واتّحدت مع أهداف البرجوازية فقد‬
‫"توافقت حركة اإلصالح مع التّ ّ‬
‫وجدت هذه الطبقة في اإلصالح ما يدفعها للتّرحيب به ولكن كان هذا الداّفع في الحقيقة عن‬
‫السلطة البابوية‬
‫تمردوا على ّ‬‫غير قصد من زعماء حركة اإلصالح فقد أقاموا لهم بعد أن ّ‬
‫القديمة سلطة جديدة عارضوا بها النظرة الكونية الجديدة وسائر العلوم التي تتّبع من الكتب‬
‫النهضة غير مرغوب فيها وتعاليمها منبوذة ملقاة‪،‬‬ ‫المقدسة‪ ".‬فأصبحت الكنيسة في عصر ّ‬
‫‪2‬‬

‫مر‬
‫التمرد عليها جس ار ثقافيا ليتجاوز الفكر األوروبي كل ما جاءت به الكنيسة على ّ‬
‫وشيد ّ‬‫ّ‬
‫العصور وينتقل فوقه إلى عمق التاريخ باالهتمام بالرصيد اإلغريقي الوثني القديم وخاصة في‬
‫مجال اللغة واألدب والفن كونه فك ار له نزعة إنسانية يتوج اإلنسان ويتيح له الحرية المطلقة‬
‫على غرار ما جاءت به الكنيسة‪ ،‬وهذا التّيار الفكري الجديد الذي ّ‬
‫تبنته البروتستانتية بزعامة‬
‫لوثر ودكان هو من عزز هذه الثقة لإلنسان في إمكانية تحقيق التطور واالزدهار وإمكانية‬

‫‪ - 1‬مصطفى النشار ‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ‪ ،‬دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2007‬ص‪.325‬‬
‫‪ -2‬محمد محمود سيد أحمد‪،‬مرجع سابق ذكره‪،‬ص‪.45‬‬
‫‪55‬‬
‫بناء حضارة راقية‪ ،‬وبالتالي كان هذا التيار البروتستانتي الجديد بداية انتقال من التفكير‬
‫الديني إلى التفكير العلمي الذي أسس للفردانية واإلنسانية وأعطى الحرية المطلقة لإلنسان‪.‬‬

‫‪-2‬النزعة العلمية‪:‬‬

‫إذا أردنا أن نحدد بداية انطالق العلوم الحديثة فيمكننا القول أنها تجلت في عصر‬
‫فجر فيه العلماء والمفكرون ثورة عالمية واسعة مست تدريجيا معظم المجاالت‬
‫النهضة الذي ّ‬
‫كالفيزياء والفلك رفقة غاليليو وكوبرنيكوس ‪..‬إلخ الذين مهدوا لنظريات تفسير الطبيعة‬
‫واكتشاف أسرار الكون ومن أهمها" نظرية مركزية الشمس التي ّ‬
‫قدمها كوبرنيكوس فيما بعد‬

‫تحوالت أساسية في التّصور األوروبي للكون‪ ،‬ذلك ّ‬


‫مما يؤّكده أحد‬ ‫ألنها أحدثت ّ‬
‫الثورة الفلكية ّ‬
‫تقدم به فقد‬
‫الدارسين في قوله"‪...‬فالتّجديد الذي جاء به كوبرنيكوس كان جذريا حقا عندما ّ‬
‫ّ‬
‫كان الوصف الفيزيائي للكون الذي جاء به كوبرنيكوس أقرب إلى الحقيقة من النظام البطلمي‬
‫القائم على مركزية األرض ثم إن العلماء الذين أتوا بعد كوبرنيكوس من أمثال كيبلر وغاليليو‬
‫التحول من مركزية األرض إلى مركزية‬
‫ّ‬ ‫ثم نيوتن بعد ذلك كان بوسعهم أن يحّققوه لوال‬
‫الشمس‪ 1".‬لقد دحض كوبرنيكوس مزاعم الكنيسة القديمة حول ثبات األرض وسكونها وحركة‬
‫الكواكب األخرى حولها وأثبت حركتها وسكون الشمس‪،‬بعد هذا اقتنع الجميع بزيف تلك‬
‫وتجرؤ على مناهضتها وردعها‪ ،‬فكان عمل كوبرنيكوس المالمح األولى‬ ‫ّ‬ ‫األفكار القديمة‬
‫المرافقة ل حركة علمية جديدة في مواجهة التعاليم السكوالئية التي قدمها رجاالت الالهوت في‬
‫مما قّلص سلطتها في مجال المعرفة خاصة بعد ظهور‬ ‫المدارس المشيدة من قبل الكنيسة" ّ‬
‫طباعة وتيسيرها النتشار األفكار‪...‬وهذا ما أسهم في تقويض سلطة الكنيسة ورجالها بشكل‬
‫ال ّ‬
‫كبير‪ 2".‬ولم تكن أفكار كوبرنيكوس وحدها ضد الكنيسة آنذاك‪ ،‬فكما رأينا سابقا دور حركة‬
‫اإلصالح الديني بزعامة لوثر في مسايرة أحداث تلك الفترة ومرافقة هذه الحركة العلمية " ما‬
‫أسهم في تقويض سلطة الكنيسة ورجالها بشكل كبير‪...‬وهي الحركة التي بدأت في ألمانيا ثم‬
‫شملت عدد البلدان األوربية "فقد كانت حركة مناهضة للكاثوليك وعملت على الحط من قيمة‬

‫‪- 1‬فارح مسرحي ‪ ،‬الحداثة في فكر محمد أركون ‪ ،‬رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الفلسفة ‪ ،‬تحت إشراف األستاذ‬
‫غيوه‪ ،‬السنة الجامعية ‪،2003-2002‬جامعة الجزائر‪،‬ص‪.08،09‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.09‬‬
‫‪56‬‬
‫المهم موازين الفكر األوربي وغير موقف اإلنسان من الكنيسة‬
‫ّ‬ ‫العامل‬ ‫هذا‬ ‫قلب‬ ‫‪1‬‬
‫الكنيسة‪".‬‬
‫خاصة ومن الدين عامة‪ ،‬وفي المقابل أيضا استطاع أن يغير رؤية اإلنسان للعالم والطبيعة‬
‫ّ‬
‫وأقنعه باإليمان بذاته والوثوق في قدراته وإمكاناته العقلية في معرفة الحقائق واكتشافها ووضع‬
‫تفسر الغموض واألسرار بعيدا عن التفسيرات الالهوتية التي راحت‬
‫قوانين الطبيعة التي ّ‬
‫الصحة‪ ،‬وطبعا هذا لم يرق‬
‫الكنيسة منذ القدم تنسبها لغيبيات خرافية ال أساس لها من ّ‬
‫للكنيسة وخاصة بعد تشويه صورتها في المجتمع األوربي بسبب القمع والقتل والتنكيل‬
‫واإلقصاء ومحاكم التفتيش التي أنشأتها ضد العلماء والمفكرين الذين واجهوا الكنيسة بحقائق‬
‫عقلية حظيت قبوال واسعا‪ ،‬وفي صراعها األخير تداركت الكنيسة موقفها من نظريات أرسطو‬
‫تقد مها في مدارسها السكوالئية الالهوتية ومارست من جديد ما‬
‫التي رفضتها قديما وأصبحت ّ‬
‫ضد العلماء والمفكرين‪ ،‬فأعادت تنظيم محاكم التفتيش للوقوف في وجه الثورة عليها‬
‫تجيده ّ‬
‫وردع الحركات الفكرية التي نادت بالحريات الفردية وتحريم االنتاجات الفكرية وقتل العلماء‬
‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫وسجنهم‪ ،‬وكان العالم كله يعلم أن هذا لن يجدي نفعا أمام رغبة الفكر الجامحة في‬
‫وتوسعت رقعة المطالب في‬
‫والبحث‪ ،‬فانتشرت تلك االنتاجات الفكرية انتشار النار في الهشيم ّ‬
‫العالم المنددة بالحرّيات واستعمال العقل ورضخ العالم بالنظريات الجديدة التي أرست أسس‬
‫السياسة واألدب واستبعدت الدين من دائرة النقاش‬
‫حضارة متعددة المجاالت‪ :‬كالفن والفلسفة و ّ‬
‫الفكري والسياسي واالجتماعي‪ ،‬ونتيجة لذلك ظهر في ّ‬
‫الساحة الفكرية األوربية اتجاهان مثّال‬
‫عاملين أساسيين لبداية عصر األنوار في القرن السابع عشر وهما‪ :‬االتجاه العقالني في‬
‫فرنسا بريادة روني ديكارت واالتجاه التجريبي في انجلت ار بزعامة فرنسيس بيكون‪.‬‬

‫‪-3‬القطيعة الفلسفية مع فلسفة أرسطو‬

‫أ‪-‬تجربية فرنسيس بيكون‪:‬‬

‫تميز القرن السابع‬


‫تعتبر أحداث عصر النهضة األوربية إرهاصات لعصر األنوار فقد ّ‬
‫عشر ميالدي من وجهة النظر الفلسفية بميزتين أساسيتين مهدتا لعصر األنوار في القرن‬
‫التالي إلى حد بعيد‪ 2".‬وهما‪ :‬التيار التجريبي والتيار العقلي‪ ،‬إذ اعتبر فرانسيس بيكون‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.09‬‬
‫‪ 2‬د ‪ .‬الزواوي بغورة‪ ،‬الحاضر بديل عن الحداثة وبعد الحداثة وما بعد الحداثة ‪،‬ص‪.237‬‬
‫‪57‬‬
‫مؤسس المنهج التجريبي في انجلت ار وهو منهج علمي يعتمد على الشرح المادي للطبيعة‬
‫ّ‬
‫بهدف الوصول إلى اليقين العلمي الذي استعمل فيه األروجانون‪ ،‬كان يهدف من خالله إلى‬
‫السيطرة عليها من خالل االستقراء والتجربة العلمية‬
‫إيضاح عالقة اإلنسان بالطبيعة وكيفية ّ‬
‫وإخضاعها للمالحظة الدقيقة‪ ،‬ولفظ األرجانون يعني األداة أو اآللة نفسها بوصفها منطقا‬
‫للتفكير العلمي وقد استخدم بيكون هذا اللفظ ليعارض منهج أرسطو الذي كان يعرف باالسم‬
‫نفسه األروجانون‪ ،‬إال ّأنه كان يعتمد على األشياء القبلية واالستنباط‪ " .‬فالحكم على قضية‬
‫ما‪...‬بالصدق ّإنما يكون عن طريق تطابق هذه القضية مع العيان أي ّ‬
‫أن معيار الحقيقة عند‬
‫(االختباريين)يكون عن طريق المطابقة مع الواقع ويبدو هذا المعيار واضحا في قضايا العلوم‬
‫الطبيعية وكذلك في حياتنا اليومية‪ 1".‬والطبيعة في نظر بيكون هي مصدر المعرفة األصلية‬
‫تغير‬
‫على غرار المعرفة الترندستالية الميتافيزيقية المتعالية عن الطبيعة‪ ،‬وبالتالي نستنتج ّ‬
‫وتحولها إلى دراسة واقعية عند‬
‫ّ‬ ‫النظرة التي تناولت المعرفة ومصادرها من قبل عند أرسطو‬
‫بيكون ولهذا " لقد سعى فرنسيس بيكون إلى تخليص الفكر البشري من التقاليد األفالطونية‬
‫أن المنطق األرسطي عقيم وغير مفيد‬ ‫واألرسطية بالتنظير للمنهج التجريبي‪ ،‬حيث رأى ّ‬
‫للكشف عن الحقيقة ألنه يجبرنا على التسليم بنتيجته وال يكشف شيئا جديدا‪ 2".‬وبهذا النوع‬
‫قدم بيكون حاف از قويا للفكر‬
‫عوض األروجانون األرسطي القديم ّ‬
‫الجديد من األروجانون الذي ّ‬
‫اإلنساني بالوثوق في قدراته العقلية وإمكانياته الفكرية في إخضاع الطبيعة و ّ‬
‫التحرر منها‬
‫تتأسس على المالحظة‬
‫بمنهج استقرائي يجعل اإلنسان قوة عقلية فعالة بالدراسة العلمية التي ّ‬
‫والتجريب وليس فقط التجريد لعناصر الطبيعة بهدف إحداث قطيعة نهائية مع النظام‬
‫المعرفي الالهوتي القديم والنهوض من جديد بفكر يستمد أدواته من العلم الستنتاج المعارف‬
‫بالتحرر من براثيم الكنيسة وفتح أفق واسع أمام العقل‬
‫ّ‬ ‫يتم هذا إال‬
‫طبيعة‪ ،‬وال ّ‬
‫وتفسير ال ّ‬
‫المتكرر حين يقول‪ ":‬المعرفة قوة" وبالتالي‬
‫ّ‬ ‫اإلنساني‪ ،‬ويظهر هذا جليا في تعبير بيكون‬
‫أن"بيكون أول من حاول وضع صورة كاملة للمنهج االستقرائي القائم على‬
‫نتبين ّ‬
‫نستطيع أن ّ‬
‫امتد إلى "هيوم " (‪)1776-1711‬وجون لوك( ‪-1732‬‬ ‫ّ‬ ‫المالحظة والتجريب والذي‬
‫‪)1804‬وجون ستيوارت(‪)1873-1803‬وغيرهم‪ .‬كما بين بيكون أخطاء الفكر في العصرين‬

‫‪ -1‬عيسى عبد هللا‪ ،‬في نظرية المعرفة ‪،‬أكاديمية الفكر الجماهيري ‪ ،‬بنغازي‪،‬ليبيا‪،‬دط‪،2011،‬ص‪.118‬‬
‫‪ -2‬المسرحي‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.11‬‬
‫‪58‬‬
‫وبين أسبابها داعيا إلى ضرورة االحتراس من الوقوع فيها وهو ما أسماه‬
‫القديم والوسيط ّ‬
‫باألوهام واألصنام‪ 1".‬ولقد أجمع الكل أن بيكون أول من مهد لالجتهاد الفكري في البحث‬
‫باستعمال التّجربة والمالحظة بدال من األحكام الالهوتية‪ ،‬و دعا إلى تحرير العقل في هذا‬
‫االجتهاد ليعرض بداية جديدة تمنح لإلنسان دو ار أساسيا في حياته عامة ويستعيد بها مكانته‬
‫المهمة في التحديد والتقرير بكل حرية ‪.‬‬

‫ب‪-‬عقالنية ديكارت‪:‬‬

‫أما في فرنسا فقد تمثل التيار اآلخر في عقالنية الفيلسوف الفرنسي روني‬
‫ديكارت(‪ )1650-1596‬الذي لم يبتعد عن بيكون وعن سابقيه من فالسفة عصر النهضة‬
‫‪،‬فكان هدفهم واحدا‪:‬استرجاع مكانة اإلنسان الحاكم المسيطر على الطبيعة وتحرير العقل من‬
‫أن‬
‫التعاليم الكهنوتية السكوالئية التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية في مدارسها‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫ديكارت هو اآلخر أعلن القطيعة مع الكنيسة واالنفتاح على المعارف واألفكار الجديدة التي‬
‫وقدم إجابته في‬
‫لحقت بالفلسفة والعلوم" إذ جعل السؤال المعرفي كيف أعرف؟ محو ار للفلسفة ّ‬
‫مقال "الطريقة"بوضعه لقواعد المنهج العقالني الذي سار عليه العديد من الفالسفة فيما بعد‬
‫أمثال "مالبرانش"(‪1715-1638‬م)ليبتنز(‪1716-1646‬م)سبينوزا(‪1777-1732‬م)وغيرهم‬
‫ميزت تلك المرحلة التي‬
‫ممن اعتنق الديكارتية وعمل على نشرها‪ ".‬فظهرت نخبة فكرية ّ‬
‫‪2‬‬

‫الدين واسترجع العقل مرجعيته في الحكم والتفسير من‬


‫انتزعت الواقع والمجتمع من رجال ّ‬
‫الحرة وإحداث القطيعة مع‬
‫الكنيسة وأصبح متمكنا من تنظيم الحياة وإخضاعها لألنا المفكرة ّ‬
‫ما سبق‪ ،‬لهذا " يقال أن ديكارت يمثل مرحلة فاصلة في تاريخ الفلسفة فلذلك أنه جعل من‬
‫كل األشياء بعدما كان الفكر هو الذي يدور حول‬‫فكر اإلنسان المركز الذي تدور حوله ّ‬
‫الوجود فالحقيقة نفسها لم تعد مفارقة لإلنسان بل أصبحت كامنة فيه‪ 3".‬كون التيار العقالني‬
‫الذي أوجده ديكارت في القرن السابع عشر أسس بداية لوضع الفرد المستقل الحر الذي‬
‫يمتلك إرادته في االختيار بما يوافقه وهذا بناء على القواعد التي أسسها لبناء المعرفة العلمية‬

‫‪ -1‬المسرحي‪،‬مرجع نفسه‪،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -2‬المسرحي‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.71‬‬
‫‪ -3‬د‪.‬قاسم شعيب ‪،‬فتنة الحداثة ‪،‬صورة اإلسالم لدى الوضعيين العرب‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪،‬دار البيضاء ‪ ،‬المغرب‬
‫‪،‬ط‪،1،2013‬ص‪.11‬‬
‫‪59‬‬
‫المتمثلة في البداهة والتجزئة والتركيب واإلحصاء وهي نفسها الطريقة التي وضعها بيكون‪،‬‬
‫وإن اختلفت في المصدر والمنهج لكن اتّفقت في توفير الحرّية ومرجعية العقل في تحديد‬
‫مصيره بنفسه ومشاركته في البناء الحضاري‪ ،‬هذا التيار الفكري العقالني تتجلى لمساته في‬
‫العديد من األعمال التي لحقت به عند مفكري عصر التنوير في القرن التاسع عشر لبناء‬
‫آخر يتجاوز هذا الطرح‪.‬‬

‫ج‪ -‬عصر التنوير‪:‬‬

‫فإن عصر النهضة‬‫كما اعتبرت كل المحاوالت السابقة تمهيدا لمراحل الحقة جديدة ّ‬
‫كان مقدمة لعصر األنوار في القرن الثامن عشر بعد االكتشافات التي ّ‬
‫تمت فيه وبعد ظهور‬
‫االتجاهين الفكريين‪:‬العقلي في فرنسا والتجريبي في انجلت ار‪" ،‬لقد أصبح المناخ الفكري الغربي‬
‫بعد التغيرات التي حدثت في عصر النهضة في حالة من القبلية للتحوالت المعرفية التي‬
‫الصلة واضحة بين عصر‬ ‫جرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ومن هنا تبدو ّ‬
‫تحول على إثر االنقالبات العلمية عن علم الالهوت الذي‬
‫النهضة وعصر التنوير فلقد حدث ّ‬
‫أصبح في دائرة شك بعد أن كان موطن اليقين تاركا المكانة لسلطة العقل من أجل ذلك‬
‫ار العتماد العقل‬
‫أطلق على هذه الفترة مسمى عصر العقل‪1".‬فاعتُبرت فلسفة التنوير استمر ا‬
‫وسيلة في الدراسة العلمية واعتماده أيضا حاكما مطلقا على جميع الظواهر الكونية واستمرت‬
‫القطيعة مع الفكر الديني الالهوتي والفكر األرسطي ليضع في المقابل البديل العقلي الحر‬
‫وحث العقل‬ ‫في البناء الحضاري برفع التقديس األعمى لتعاليم الكنيسة وأراء الكتاب ّ‬
‫المقدس ّ‬
‫على البحث في قوانين الطبيعة ولقد وضع ايمانويل كانط تعريفا لمفهوم التنوير من خالل‬
‫قوله " التنوير هو خروج اإلنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه وهذا القصور هو‬
‫عجزه على استخدام عقله إال بتوجيهه من إنسان ألخر ويجلب اإلنسان على نفسه ذنب هذا‬
‫القصور عندما ال يكون السبب فيه هو االفتقار إلى العقل بل إلى العزم والشجاعة اللذين‬
‫يحفزانه على استخدام بغير توجيهه من إنسان أخر لتكن لديك الشجاعة الستخدام عقلك ذلك‬
‫هو شعار التنوير‪ 2".‬ومعنى هذا أن اإلنسان ينبغي عليه أن يتحّلى بالشجاعة في اتخاذ‬

‫‪ -1‬محمد محمود السيد أحمد‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.52‬‬


‫‪ -2‬قاسم شعيب ‪،‬فتنة الحداثة ‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.17‬‬
‫‪60‬‬
‫تحدد طموحاته وأهدافه‪ ،‬وبذلك‬
‫ق ارراته ويجب عليه تحكيم العقل ورفض إمالءات الغير التي ّ‬
‫يتّضح هذا الحدث التاريخي التنويري في الغرب المتمثل في مظهر الحداثة القائمة على‬
‫أساس نقدي وعلى الحرية الفكرية من األوهام والخرافات المرتبطة بالدين وتحطيم كل مرجعية‬
‫عقائدية أو تقليدية‪.‬فمشروع التنوير مّثل استمرار الثورة الفكرية التي انطلقت في عصر‬
‫إن هذه الدعوة إلى استخدام العقل بدل‬
‫النهضة "ودعوة لكل الناس ألن يستخدموا عقولهم‪ّ ،‬‬
‫الطاعة العمياء للكنيسة ورجاالتها قد أثارت غضب رجال الدين لكون مقوالت الفالسفة‬
‫والمفكرين أمثال ديكارت وبيكون وديدرو وغيرهم كانت تدعو إلى تحرير العقل والقطيعة مع‬
‫كبلت الفكر‪ ،‬حيث أصبحت قضية اإليمان قضية شخصية تتعّلق‬
‫الماضي ومع الكنيسة التي ّ‬
‫‪1‬‬
‫تصورها‪".‬‬
‫بالشخص ذاته وال دخل ألحد في ذلك وال وساطة تريد فرض ّ‬
‫قدمه عصر النهضة بل استمر في ثورته بتحرير اإلنسان‬ ‫لم يكتف عصر األنوار بما ّ‬
‫من كافة أشكال التسلط والظلم‪ ،‬فكانت الثورة الحقيقية التي عرفتها أوربا في القرن الثامن‬
‫عشر ميالدي ثورة وضعت اإلنسان في مواجهة رصيده الفكري الخاطئ ليستطيع بوسائل‬
‫العلم الحديثة ومناهجه تغيير واقعه وتجاوز آرائه القديمة في سعيه لتحقيق السعادة‪ .‬فالتيار‬
‫التنويري كان "عنوانا للفكر الحر بإف ارزاته التي جسدت جملة مظاهر مشتركة دعت إليها‬
‫مجموعة غير منتظمة وغير رسمية من المثقفين ال يجمعها نسق موحد‪ ،‬ضمت في صفوفها‬
‫نقاد سياسيين ومصلحين وشكاك دنيين ذوي نزعات عالمية مدافعين عن اإلنسان وحريته في‬
‫االختيار‪2".‬وبهذا تتشكل رؤية واضحة شاملة ألسس النزعة العقالنية التي تبناها فالسفة‬
‫أسس للحضارة‬‫عصر األنوار‪ ،‬ويتبين في مقابل ذلك ّأنها هي األخرى ش ّكلت مقدمة وتمهيدا ّ‬
‫الغربية بوضع اإلنسان محو ار لها ووضعية انطالقها بتصور جديد ال يرتبط نهائيا بما دعت‬
‫اليه الكنيسة وما أملته التقاليد‪،‬تصور مختلف تماما يرتكز على المعرفة العلمية الكتشاف‬
‫الحقائق وكشف الغموض واألسرار في مختلف المجاالت الدينية أو األخالقية أو االقتصادية‬
‫أو العلمية أو السياسية‪ .‬التي أسست هي األخرى للعقل الحداثي الجديد‪.‬‬

‫‪1‬المسرحي‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.13‬‬
‫‪ -2‬محمد محمود سيد أحمد ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.54‬‬
‫‪61‬‬
‫ثالثا‪ -‬الحداثة في السياق العربي اإلسالمي‬

‫أوال ‪:‬أسباب وعوامل ظهور الفكر النهضوي‪:‬‬

‫خضعت البلدان اإلسالمية العربية للحكم العثماني الذي دامت سيطرته ثالث قرون منذ‬
‫مطلع القرن السادس عشر حيث " كان الوضع العربي إبان تلك الحقبة الطويلة نسبيا في‬
‫مستوى متدن من الحركة الثقافية والنهوض الفكري وذلك لسيادة النزعة التتريكية ولفقدان‬
‫الدور القيادي العربي لقيادة الدولة والمجتمع مما أثر في البناء العقلي العربي حيث كثرة‬
‫الخرافات واألساطير وغاب المنهج العقلي وساهم هذا الوضع في تسطيح العقل العربي على‬
‫مستوى التفكير والتعامل مع الظواهر الطبيعية نتيجة االنغالق على الذات والوقوف سلبيا‬
‫تجاه األخذ في التطور الفكري والثقافي خاصة أثناء التطور العلمي والفكري في أوربا في‬
‫القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ 1".‬الذي عرف تطورها وازدهارها منحى تصاعديا في شتى‬
‫المجاالت‪،‬فبلغ ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬م ّكنها من تحقيق حركة علمية‬
‫وفكرية وأدبية وثقافية وسياسية وعسكرية واقتصادية باهرة‪ ،‬تمثل هذا التطور جليا في الثورة‬
‫سهل على أوربا‬
‫الصناعية في انجلت ار والثورة السياسية واالجتماعية في فرنسا‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫السيطرة على العالم وامتالك النفوذ والقيادة التي سمحت لها بتصدر العالم والريادة وفرض‬
‫توسعها االستعماري على دول العالم العربي اإلسالمي التي كانت تحت وطأة الجهل والتأخر‬
‫ّ‬
‫بسبب" الحكم العثماني واالستعمار الخارجي شمل الجوانب الدينية أيضا بل إن إضعاف‬
‫الوازع الديني هو هدف تلك الهجمات التي ترغب من خالله إبقاء جو الجهل والتخلف سائد‬
‫في العالم العربي لكي تتحقق السيطرة عليه‪ 2".‬ونطام الحكم العثماني لم يختلف عن‬
‫االستعمار الخارجي‪ ،‬حيث سعى آنذاك للسيطرة على الدول الخاضعة له وإبقاء الوضع فيها‬
‫على ما هو عليه‪ ،‬وفي ذلك انتهج الحكم العثماني سياسة االستعمار تماما كمنع التفتح على‬
‫الذات وعلى اآلخر وبالتالي فرض االنغالق على الذات والجهل الذي ينتج االغتراب الفكري‬
‫وتعمدت اإلمبراطورية اإلبقاء على هذا الوضع بطرق شتى‬
‫ّ‬ ‫والركود والرضوخ لألمر الواقع‪.‬‬

‫‪ -1‬عزمي زكريا أبو العز ‪،‬الفكر العربي الحديث والمعاصر ‪،‬دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة‬
‫‪،‬عمان‪،‬األردن‪،‬ط‪،1،2012‬ص‪25‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.26‬‬
‫‪62‬‬
‫كمنع دخول المطبعة للبلدان العربية اإلسالمية التابعة لسلطته بحجة المحافظة على الهوية‬
‫الدينية اإلسالمية والمحافظة على القرآن خوفا حسب زعمهم من تحريفه‪.‬أما هدفهم كان‬
‫واضحا تجلى في الحفاظ على مصالح اإلمبراطورية العثمانية في تلك البلدان وضمان‬
‫أي تأثير يمكنه إيقاظ‬
‫وتجنب ّ‬
‫استمرار حكمها ونفوذها وال يتأتى ذلك إال بإبقاء الجهل والركود ّ‬
‫المجتمعات العربية اإلسالمية من سباتها كوصول انتاجات الفكر الغربي عبر وسائل اإلعالم‬
‫سيهدد الوجود التركي ومصالحه في‬
‫ّ‬ ‫آنذاك كالجريدة والمؤلفات األدبية والفكرية األمر الذي‬
‫تقبل‬
‫البلدان العربية اإلسالمية فالمجتمع الذي يق أر ال يمكن إخضاعه ألي سلطة وال يمكنه ّ‬
‫قوته لبلوغ حريته وتحقيق طموحه المعرفي والفكري‪ ،‬وقد اثر‬
‫الظلم والخضوع‪ ،‬وسيسعى بكل ّ‬
‫هذا الوضع على سياسة اإلمبراطورية وظهرت بوادر المرض عليها‪ ،‬وهذا ما يراه ابن خلدون‬
‫عندما قال "الظلم سبب خراب العمران" وهذا تماما ما حدث‪ ،‬فلقد عرفت هذه اإلمبراطورية‬
‫تقهق ار وتدهو ار خطي ار بسبب سلطة حكامها المستبدين الذين أكثروا في البالد الفساد" فضعفت‬
‫أهمها‬
‫قوتها وتزعزعت مكانتها في األقطار المفتوحة وتقلص نفوذها وذلك ألسباب كثيرة ّ‬
‫ضعف شخصية السالطين الذين انهمكوا في متع الدنيا الشخصية وتركوا أمور الدولة‬
‫وقضاياها بأيدي حكام ضعاف همهم األساسي األعمال االنتقامية وفقدان األمن –ثالثا‬
‫المنافسة الحادة بين األسر الحاكمة على المناصب العليا في اإلمبراطورية والصراع العدائي‬
‫والدموي بين أبناء العائلة المالكة نفسها حيث أقدم الكثير منهم على اعتقال إخوتهم‬
‫واضطهادهم وقتلهم‪ 1".‬ونتيجة لذلك حاولت السلطة المركزية العثمانية تدارك هذا التدهور‬
‫الذي أصابها وخاصة بعد التراجع الكبير الذي شهده الجيش العثماني وبعد تأثر الدولة‬
‫العثمانية بتسيير قادة الجيش االنكشاري الذي فككوا صفوفه فسعت هذه السلطة المركزية‬
‫إلعادة ترتيب اإلدارة العسكرية وهذا بتأسيس جيش نظامي جديد وفق معايير الجيوش‬
‫األوربية‪ ".‬أي تبعا لنزعاتهم السياسية وأغراضهم الشخصية جرائم االغتياالت التعسفية‬
‫واالغتياالت السياسية حيث بلغ عدد السالطين العثمانيين الذين قتلوا بأيدي الجيوش‬
‫االنكشارية تسعة باإلضافة إلى عشرات الوزراء ورجاالت الدولة الذين القوا المصير‬
‫نفسه‪2".‬ولم تكتف اإلمبراطورية باإلصالحات العسكرية وإنما اإلصالحات مست الجهاز‬

‫‪ -1‬منذر معاليقي ‪ ،‬معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية ‪،‬دار اقرأ‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬دس‪،‬دط‪،‬ص‪.32‬‬
‫‪ - 2‬منذر المعاليقي‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.32‬‬
‫‪63‬‬
‫الديني الذي تواطأ سابقا مع أفعال الجيش االنكشاري بمباركتها وتبريرها بالغطاء الديني‬
‫وتوظيف النصوص القرآنية في ذلك‪ ،‬ويبدو أن هذا الوضع كان شائعا في كل العالم أين‬
‫يلجآ السالطين واألمراء والحكام لرجال الدين من أجل مباركة أفعالهم كمحاولة إليجاد سالم‬
‫نفسي أمام بشاعة أفعالهم‪ ،‬وهذا بالضبط ما دفع إلصالح هذا الجهاز الديني داخل‬
‫اإلمبراطورية العثمانية‪ .‬كما شمل اإلصالح ميادين أخرى عديدة كالسياسة واالقتصاد واإلدارة‬
‫أن كل هذا لم يكن كافيا للحفاظ على قوة وهيبة اإلمبراطورية نظ ار لظهور حركة‬
‫والعدالة إال ّ‬
‫إصالحية تنويرية تحمل سمات الثقافة الغربية‪ ،‬ونظ ار لتوسع الطبع والنشر في بالد الشام‬
‫كان له األثر في إنتاج يقظة فكرية ووعيا ثقافيا لدى الشعوب العربية اإلسالمية‪ ،‬ما دفعهم‬
‫للتفكير في التحرر من سلطة اإلمبراطورية‪ ،‬ولكن ما كان ينتظر الشعوب العربية ليس‬
‫باألمر الهين فقد خرجت من حكم اإلمبراطورية العثمانية لتواجه استعما ار اخرا‪،‬فمعظم الدول‬
‫العربية اإلسالمية لم تسلم من سيطرة االستعمار الغربي بعد سقوط الخالفة العثمانية نتجة‬
‫ضعف جيشها وقلة إمكاناتها العسكرية‪.‬‬

‫‪-1‬حملة نابوليون‪:‬‬

‫لم تكن حملة نابوليون الفرنسية (‪)1801-1789‬على الواليات العثمانية للقتال وحمل‬
‫السالح فحسب بل كانت ترمي ألبعد من ذلك إذ أنها جندت إرادة قوية لمحو مقاومات‬
‫الشعوب العربية اإلسالمية وطمسها ونسخ صورة الغرب الزاخرة في تصور هذه الشعوب‪ ،‬لذا‬
‫يمكننا أن نميز مظهرين؟؟ لهذه الحملة إذ " اختلفت طبيعتها عن باقي الحمالت العسكرية‬
‫األخرى التي حصلت في الشرق ‪،‬فقد اختلط في هذه الحملة وامتزج الطابع العسكري مع‬
‫الطابع العلمي‪ 1".‬لذا تعتبر الحملة الفرنسية في اتصالها األول بالعالم العربي اإلسالمي لحظة‬
‫اكتشاف متبادل رسمت تناقضا كبي ار بين عالمين مختلفين‪ :‬عالم غربي يحمل حضارة متطورة‬
‫تعج باأللوان الرفاهية وأذواقها‪ ،‬وعالم عربي إسالمي يقبع في غياهب الجهل مستسلم لنوم‬
‫عميق يرى مرور األيام باللونين األبيض واألسود‪،‬فهي حملة 'فتحت أبواب العالم العربي‬
‫على الحضارة الغربية الحديثة بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم‬
‫وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها ورافق نابوليون بونابارت في حملته هذه فريق من‬

‫‪ -1‬زكي ميالد ‪،‬عصر النهضة كيف انبثق؟ولماذا أخفق؟المركز الثقافي العربي ‪،‬ط‪،1،2016‬ص‪.18‬‬
‫‪64‬‬
‫العلماء الفرنسيين في الرياضيات والهندسة والجغرافيا وجلب معه مطبعتين إحداهما فرنسية‬
‫واألخرى عربية‪ 1".‬وفي لحظة التماس هذه أطبقت الدهشة على العقول المتحجرة في تلك‬
‫البالد التي أضناها االستعمار وأدركت شعوبها عمق االختالف وارتسم واقعها في خيالها بكل‬
‫تفاصيله من بأس وجهل وتخلف‪ ،‬وفي المقابل أسر هذه الشعوب طموح جامح نحو الحضارة‬
‫الغربية المنجذبة اليهافي مختلف المجاالت الفكرية واألدبية والثقافية‪ ،‬ولقد كانت الصدمة‬
‫قوية على الشعوب العربية بعد اتصالها بالغرب "فاإلنسان العربي وجد نفسه وسط عالم يتقدم‬
‫بخطى سريعة وكانت الصدمة الحضارية التي أفقدته الوعي لبعض الوقت نتيجة اللقاء‬
‫المباشر بينه وبين هذا التقدم الغربي في خضم الغزو االستعماري الغربي لبعض البلدان‬
‫العربية اإلسالمية في القرن الماضي كانت الصدمة هي دافعه المباشر إلعادة التفكير في‬
‫حاضره ومستقبله من منظورين‪ :‬منظور هذه الحضارة الغازية بكل ما كشفت عنه من تقدم‬
‫علمي وتكنولوجي وسياسي يعتمد على التخطيط والتنفيذ المتقن ومنظور الحفاظ على الهوية‬
‫العربية اإلسالمية"‪ 2‬فلم يكن على حملة نابوليون األمر عسي ار واألكيد أن مهمته كانت ناجحة‬
‫إلى حد بعيد‪ ،‬فاستسالم الشعوب العربية المسلمة لم يكن بوضع السالح وتسليم مفاتيح البالد‬
‫فحسب‪ ،‬بل باستالم مظاهر الحضارة الغربية بكل حماس ودون تردد لتنهض من سباتها‬
‫العميق بفعل تلك األحداث‪ ،‬وتجد نفسها أمام ألوان من الفنون واألفكار والعلوم التي لم‬
‫تستطع اإلقالع عنها"فالصدمة بطبيعتها تتسبب في انعدام التوازن واختالط األمور واختالل‬
‫الموازين وكثي ار ما تكون المنعطفات التاريخية نتيجة لها حيث توقظ األمم من طول السبات‬
‫وتزيل األوهام العالقة في األذهان ولها تبعاتها المحمودة والمذمومة"‪ . 3‬وهذا فعال ما حدث‬
‫للمجتمعات العربية اإلسالمية آنذاك إذ أنها تفطنت لواقعها المزري وحاولت استدراك ما فاتها‬
‫عّلها تحظى بنصيب مما توصل إليه غيرها‪ ،‬متيقنة أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا هي ببناء‬
‫عالقة وطيدة بالغرب المتطور واستثمارها في االستفادة من االنتاجات األوربية التي شملت‬
‫مختلف الميادين "وبتأثير الطابع العلمي لهذه الحملة كان لها وقع الصدمة والصدمة ليس‬
‫على مصر فحسب وإنما على المنطقة العربية برمتها‪ ،‬الصدمة التي وصفت تارة بصدمة‬

‫‪ 1‬المرجع السايق‪،‬ص‪.20‬‬
‫‪ - 2‬محمد الفقيه‪،‬قراءات في خطاب النهضة واشكاالت وتساؤالت ‪،‬مركز التأصيل للدراسات والبحوث ‪،‬ص‪.09،10‬‬
‫‪ -3‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.09‬‬
‫‪65‬‬
‫الحضارة وتارة بصدمة النهضة ‪...‬ومن هذا االنطباع تبلورت األطروحة التي ترى أن عصر‬
‫النهضة في المجال العربي الحديث انبثق بتأثير هذه الحملة التي جعلت العالم العربي ينتبه‬
‫إلى عالقاته بالعالم الحديث ويدرك حاجاته إلى العلوم والمعارف والمكتشفات الحديثة ويبدل‬
‫من نظرته إلى ذاته ومن رؤيته إلى العالم‪ 1".‬وهنا اعترت الشعوب العربية اإلسالمية رغبة‬
‫ملحة دفعتها للتفكير في تغيير وضعها ومسايرة قطار الحضارة الغربية‪ ،‬وعلم رواد النهضة‬
‫العربية اإلسالمية آنذاك أن هذا لن يتحقق إال باالحتكاك المباشر بها والتواصل المستمر‬
‫معها واألخذ منها وبناء جسور الصداقة معها‪ ،‬وبهذا يمكن تحقيق ما حققته الحضارة الغربية‬
‫من رقي شمل مختلف الميادين العلمية واألدبية والفكرية والسياسية والفنية‪ ،‬ولقد لقيت هذه‬
‫كبير من الحملة الفرنسية" بقيادة نابوليون بونابارت التي فتحت الباب على‬
‫ا‬ ‫الرغبة ترحابا‬
‫مصراعيه أمام بروز تحوالت بنيوية وجوهرية في الفكر والثقافة العربية ‪...‬فضال عن‬
‫االتجاهات الفكرية الحديثة التي نشأت في أوساط المفكرين العرب‪ 2".‬ألن هذا الغزو الفكري‬
‫نقل للعالم العربي صورة الحضارة الغربية وأتاح كل الفرص التي حملت آمال الشعوب‬
‫وطموحاتهم المتأثرة بها وبرر وجوده في مصر بتخليصها من المماليك وبطشهم إ ْذ "ادعت‬
‫هذه الحملة أنها أتت إلى مصر من أجل انقاد مصر من مظالم المماليك وخالصها من‬
‫سياساتهم المتخلفة لكن الواقع المادي والحقائق التاريخية أثبتت خطر هذه المزاعم ‪...‬إنها‬
‫حملة استعمارية كسائر الحمالت والغزوات العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية في القرون‬
‫الوسطى‪ 3".‬فكانت حقيقة الحملة التي قادها نابوليون استعمارية تبحث عن النفوذ والتوسع‬
‫والوقوف في طريق انجلت ار في وجودها بالمنطقة الشرقية وإزاحتها من المنطقة لتتربع هي‬
‫الوحيدة على العرش وتفرض سطوتها على العالم كله هذا ما يفسر تسرع نابوليون الحتالل‬
‫مصر وخالله "رافق بونابارت في حملته هذه فريق من العلماء الفرنسيين في الرياضيات‬
‫والهندسة والطب والجغرافيا وجلب معه مطبعتين ‪...‬وأنشأ الدواوين وغرضه تعويد أعيان‬
‫مصر على نظم المجالس الشورية وأساليب الحكم كما أسس مجمعا علميا على غرار المجمع‬
‫الفرنسي للدراسة والبحث في موضوعات الطبيعة والصناعة والتاريخ ‪...‬وأنشأ مرصدا ومتحفا‬

‫‪ -1‬زكي ميالد‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.19‬‬


‫‪ -2‬حبيب هللا بابائي ‪ ،‬رضا خرساي‪ ،‬الحضارة والحداثة في الفكر العربي المعاصر ‪:‬ت‪:‬حسين الصافي‪ ،‬مركز الحضارة‬
‫لتنمية الفكر االسالمي‪،‬بيروت ‪،‬ط‪.1،2014‬‬
‫‪ - 3‬منذر معاليقي ‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.51‬‬
‫‪66‬‬
‫ومختب ار وأقام مسرحا للتمثيل وأصدر جريدتين باللغة الفرنسية ()‪Le Decade Egyptien‬‬
‫وهي جريدة اقتصادية خصصت لنشر أبحاث المجلس العلمي المصري‪...‬و( ‪Courier‬‬
‫‪)d’Egypte‬والناطقة بلسان السلطان"‪ ،1‬وجدير بالذكر أن للغزو االستعماري محاسن تمثلت‬
‫في استنبات بذور التطور والرقي في مصر ودول العالم العربي اإلسالمي ونقل صورة‬
‫الحضارة التي رسمت للعالم اإلسالمي العربي تفاصيلها فستوقته صدمتها؟؟ ثم راح يكتشف‬
‫واقعه من جديد ويتأسف عليه‪ ،‬وعندما استفاق منها سارع بكل جهد لفك قيوده وتحرير فكره‬
‫من أسره الطويل‪ ،‬ووقف بعد ذلك يحاول النهوض ليق أر من جديد عله يحل شفرات الحضارة‬
‫الغربية فيسكن فيها وينعم بما تقدمه لس ّد حاجته على اختالفها وتعددها‪ ،‬فقد اكتفى منذ عهود‬
‫من االستسالم للجهل والفاقة واإلقصاء واألحكام‪ ،‬وآن له أن يسترجع الفكر العربي ذاته من‬
‫جديد‪ ،‬فال شيء مستحيل وأدوات الحضارة بين يديه من حرية في التأليف والتفكير والقراءة‪،‬‬
‫وتنوعت اإلبداعات أمامه انطالقا من العلوم إلى األدب إلى الفن والثقافة والسياسية‬
‫واالقتصاد اذ تعرف على الطباعة والجرائد وأصبح يق أر بعدما ظل لعصور مغيبا فكريا علميا‬
‫وسياسيا واكتشف مرة أخرى زيف واقعه الخرافي الذي كبله هو أيضا‪،‬فتحرر من التقاليد‬
‫القديمة والجمود الفكري وتمت القطيعة في العلم والمعرفة مع كل الطرق التقليدية القديمة‬
‫وعوضها بأخرى من المناهج الغربية التي رأى أنها هي السبيل الفعلي لتحقيق الحضارة‪ ،‬ومن‬
‫هنا نستطيع القول أن الغزو العسكري والفكري الذي قاده نابوليون حتى وإن كان في حقيقته‬
‫استعمار غاشما غير مرغوب فيه إال أنه ال يمكننا أن نتجاهل دوره المهم في استفاقة الفكر‬
‫ا‬
‫ونهوضه ليس لدى المصريين فحسب بل العالم العربي اإلسالمي عامة‪ ،‬وال يمكننا تجاهل‬
‫أيضا مرافقته لهذه النهضة الفكرية بشتى الوسائل المتاحة آنذاك ‪.‬‬

‫‪-2‬إصالحات محمد علي‬

‫لم تدم الحملة التي شنها نابوليون على مصر طويال بل انسحبت تجر أذناب الهزيمة‬
‫لتعلن مصر تحقيق استقاللها من االستعمار الفرنسي‪ ،‬وتولى محمد علي قيادتها حيث‬
‫استطاع "بذكائه وشجاعته أن يدخل قلوب المصريين ويستحوذ على علمائها وأعيانها الذين‬
‫نادوا به في االجتماع الكبير المنعقد في القاهرة في أيار (‪)1805‬واليا زعيما على مصر‬

‫‪ -1‬دكتور ‪:‬عزمي زكريا أبو العز ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.30،31‬‬


‫‪67‬‬
‫وذلك بغية وضع حد لحال الفوضى واالضطراب‪...‬وبالفعل وبفضل إيثاره للمعرفة والتقدم‬
‫وتمتعه بشخصية فذة قادرة فقد جند نفسه للعمل ووضع البالد في " ورشة عمل " وأخذ في‬
‫بناء وتنمية البالد وبذل جهودا ضخمة ورائعة في ميدان التعليم والثقافة واإلصالحات‬
‫االقتصادية واالجتماعية والصحية والزراعية والعسكرية‪ 1".‬فلقد اهتم محمد علي اهتماما بليغا‬
‫بفكرة استعادة مكانة مصر العظيمة واستعادة ريادتها وتصدرها الحضاري مقابل الشعوب‬
‫العربية اإلسالمية األخرى فقام بجملة من اإلصالحات مست كل الميادين العسكرية‪ ،‬الثقافية‪،‬‬
‫التعليم واالقتصادية من أجل التأسيس لمشروع حضاري وبناء دولة قوية ‪.‬‬

‫اإلدارة وجهاز المؤسسة العسكرية‪:‬‬

‫لقد أبدى محمد علي انشغاله باإلصالح اإلداري والعسكري وعلم " أنه ال يمكن للعالم‬
‫اإلسالمي أن يمتلك القوة الالزمة ألي وجود تاريخي فاعل دون التسلح بأسلحة العصر وأول‬
‫هذه األسلحة هو بناء الدولة العصرية القادرة على تحقيق النهضة المنشودة فال تقد دون‬
‫تنظيمات‪ . 2".‬وبداية قام محمد علي بإصالح اإلدارة من خالل تقسيم مصر لدوائر عديدة‬
‫تحت رئاسته وإدارته هو فبذلك كانت إدارته مركزية لشؤون البالد بسيطرته على جميع‬
‫الدوائر فجميع الق اررات التي يشرعها هو ق اررات فردية ينفذها رؤساء الدوار دون الرجوع إليهم‬
‫أو األخذ برأيهم بهدف إخضاع كل الدوائر والرؤساء له ليفرض محمد علي سلطته على‬
‫الجميع ويتضح جليا من هذا صورة الحكم االستبدادي الذي وضعه محمد علي بإخضاع‬
‫الجميع لسلطته والسيطرة على مقاليد الحكم ‪ .‬أما بخصوص المؤسسة العسكرية فلقد أبدى‬
‫اهتماما بالغا بتحسين وضع الجيش وبناء مؤسسة عسكرية حديثة "فشيد أول مدرسة إعدادية‬
‫في "أسوان" عام (‪)1815‬إلعداد وتجهيز جيش مصري متدرب على أحدث األنظمة واآلالت‬
‫العسكرية‪ 3".‬وظهر هذا االهتمام لمحمد علي بالمؤسسة العسكرية حين قام ببناء مدرسة‬
‫مهمتها إعداد الجند وفق المعايير األوربية الغربية الحديثة وإنشاء مدرسة للمدفعية تعلم فيها‬
‫الهندسة‪ ،‬كما قام محمد علي ببناء أسطول حربي يتمكن من خالله بناء حصن منيع يرد به‬

‫‪ -1‬منذر المعاليقي ‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.114‬‬


‫‪ -2‬صالح شقير ‪ ،‬الحضور الفلسفي في الفكر العربي الحديث‪ ،‬مجلة جامعة ديمشق ‪ ،‬المجلد ‪،26‬العدد األول والثاني‬
‫‪.2010،‬‬
‫‪ -3‬منذر معاليقي ‪ ،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.115‬‬
‫‪68‬‬
‫أطماع الغزاة ويدافع به عن مصر ضد أي عدوان‪ .‬ولم يغفل محمد على عن الجانب‬
‫االقتصادي حيث شرع في "إقامة المؤسسة العلمية والزراعية التي تعمل على زيادة إنتاج البلد‬
‫ومواردها بهدف تحقيق االستقالل االقتصادي كمدخل تام لالستقالل السياسي والثقافي‬
‫ولهذا‪...‬بدأ بتشكيل فرسان الجيش المصري في المدرسة العربية فأنشأ في ‪-1817-‬مدرسة‬
‫الهندسة وهي األول من نوعها في مصر ومدرسة الزراعة عام ‪ -1832-‬وأسس مدرسة‬
‫المعادن القاهرية عام ‪-1834-‬ومدرسة الفنون والصنائع عام‪ 1".-1839 -‬باإلضافة‪ ،‬قام‬
‫محمد علي ببناء مصانع عظيمة وكثيرة كمصنع الحديد ومصنع األسلحة ومصنع الزجاج‪،‬‬
‫وعرفت صناعة القطن آنذاك في مصر رواجا كبي ار ‪ ،‬األمر الذي جعلها تتبوأ مكانة تجارية‬
‫هامة‪ .‬كما اهتم بالفالحة ووضع أسس مهمة إلصالحها فاتجه لتأميم األراضي الفالحية من‬
‫سلطة االقطاعيين والمماليك توزيعها على سكان األرياف الستثمارها وإخضاعها لسلطة إدارة‬
‫الدولة وفرض الجباية على المزارعين يدفعونها سنويا‪ ،‬ووضع مصالح الدولة بين المنتوج‬
‫وتسويقه‪،‬فتولت هي هذه العملية بدل الفالح ‪ .‬كما قام بتأسيس"عدة مشروعات لبناء سد‬
‫على نهر النيل وشق قناة السويس وأنشأ خطا حديديا يربط القاهرة واالسكندرية وشيد الكثير‬
‫من المدارس والمعاهد والمصانع"‪ ، 2‬وقام بسن قانون يرفض فيه "قبول القروض األجنبية‬
‫مهما كان وضعه االقتصادي حفاظا على حرية عمله وحرصا على سيادة بالده‪3".‬وبهذه‬
‫االجراءات أراد محمد علي أن يتحرر من أي تبعية اقتصادية للخارج بتحقيق االكتفاء الذاتي‬
‫لتجنب التبعية ألعدائه والضغط عليه‪ ،‬وعلم أن هذا الحرية الحقيقية لن تتم إال باالستقالل‬
‫االقتصادي‪ ،‬وحذا حذوه الرئيس الراحل هواري بومدين بعد االستقالل في الحفاظ على سيادة‬
‫البالد حيث سارع هو اآلخر إلى تأميم المحروقات على خطى محمد علي‪.‬‬

‫أما في الميدان التعليمي والثقافي فلم يدخر محمد علي جهدا من خالل "سن قانون نشر العلم‬
‫بين المصريين كافة وجعله مجانيا في المدارس والمؤسسات التعليمية سواء في االبتدائية أو‬
‫الثانوية أو العليا من دون تمييز بين فقير وغني أو كادح وإقطاعي وإضافة إلى ما كانت‬
‫تنفقه حكومته على طالبها من أموال وما قدمته لهم من عناية في شؤونهم الخاصة‬

‫‪ -1‬منذر المعاليقي‪ ،‬مرجع نفسه‪،‬ص‪.120‬‬


‫‪ -2‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.15‬‬
‫‪- 3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.120‬‬
‫‪69‬‬
‫واهتمامهم بأوضاعهم الحياتية من مسكن ومأكل وملبس‪1".‬سعيا منه إلرساء نظام تعليمي‬
‫جديد ب مقاييس أوربية حديثة باالستفادة من تجربتها الرائدة في التعليم التي حققت أهدافا‬
‫متقدمة في هذا المجال بإنتاج علماء ومفكرين وأدباء وسياسيين فتبنى بناء" الكثير من‬
‫المعاهد والمدارس وأرسل عددا من شباب مصر إلى أوربا ليتعلموا فيعلموا في مدارس مصر‬
‫ومعاهدها ومرافقها ودخلت مصر في عهد طو ار حضاريا حديثا سبقت الدولة العثمانية وكان‬
‫له أثر غير يسير في نمو الوعي في مصر وبالد العرب األخرى‪ 2".‬واستمر إصالح محمد‬
‫علي في هذا المجال التعليمي بتوفير وسائل اإلنتاج األدبي والفكري بتأسيس مطبعة تمكنه‬
‫من ترجمة المؤلفات العلمية واألدبية والفكرية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية فقام" في‬
‫البعثة العلمية األولى لعام‪1815‬الطالب ناقوالمسابكي السوري الجنسية للتخصص في سبك‬
‫الحروف ودرس في المطابع والذي أصبح مدي ار في مطبعة بوالق‪...‬واختصر نتاج المطبعة‬
‫في عهد محمد علي باشا على طبع الكتابات والمؤلفات العلمية من طب ورياضيات وغيرها‬
‫من دون االهتمام بالنواحي األدبية حيث طبعت بوالق أثناء حكمه العديد من الكتب المفيدة‬
‫وأدرك محمد علي أن نهضة البالد المصرية تتطلب أكثر من مطبعة وذلك عمد‪...‬إلى‬
‫إدخال هذه اآللة إلى مختلف مؤسسات الدولة ومعاهدها الحديثة‪3".‬ألنه علم أن هذا االتجاه‬
‫يعتبر أحد أهم األسس التي تبنى عليها النهضة وبالفعل تمكن محمد علي من نشر الكتب‬
‫التي أصبحت في متناول كل الطبقات االجتماعية من مثقفين وعلماء ودارسين وليصل في‬
‫األخير الى نشر العلم والمعرفة والوعي بعد نقل العديد من األعمال الغربية وترجمتها إلى‬
‫اللغة العربية " أكثر من ألف كتاب ورسالة في مختلف الفنون والعلوم وذلك بفضل مراقبة‬
‫محمد علي الصارمة وتشجيعه للطالب بالمكافآت السخية والهدايا المتنوعة ‪...‬هذه المدرسة‬
‫‪...‬تمكنت من بسط جناحها على األرض المصرية ومدت بقيت المدارس التربوية‬
‫والمؤسسات االدارية والثقافية بإعالن النهضة من كتاب ومفكرين سطعت أسماؤهم في دنيا‬
‫العالم بأسره‪ 4".‬وفي األخير يبدو أن محمد علي قام بعمل جبار في مصر حقق به نتائج‬
‫عظيمة ّتوجت مصر على خط النهضة ودفع بها إلى ألمام ليواصل من يلحق به البناء‬

‫‪ -1‬منذر المعاليقي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.119‬‬


‫‪ -2‬د‪ .‬عزمي زكريا أبو العز ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31،32‬‬
‫‪ -3‬منذر معاليقي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.39‬‬
‫‪ - 4‬منذر معاليقي ‪ ،‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.119‬‬
‫‪70‬‬
‫والتطور والتقدم‪ ،‬حتى يستطيع تحصيل ما كان محمد علي يحلم به كالنهوض بحال هذه‬
‫األمة العربية اإلسالمية ومسايرة ركب الحضارة الغربية بمشروع حضاري إسالمي ‪.‬‬

‫البعثات العلمية ‪ :‬رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ‪:‬‬

‫لقد أثمرت سياسة محمد علي في النهوض بالثقافة والفكر في مصر والتي تبنى فيها‬
‫االتصال بالغرب مباشرة عن طريق إرسال البعثات إلى أوربا لكي تحتك بالجامعات والمعاهد‬
‫هناك‪ ،‬وتعود لمصر مرة أخرى من أجل التعليم والتكوين فيها ونقل صورة أوضح عن‬
‫الحضارة األوربية‪ ،‬ولقد وصلت تلك البعثات إلى أوربا عبر دفعات تضم عددا من الطالب‬
‫والدارسين الذين أصابهم عند نزولهم في موانئ أوربا ما أصاب المجتمعات العربية لحظة‬
‫التقائها بالحضارة الغربية أثناء الحملة الفرنسية‪ ،‬وكان من بين هؤالء الذين فتنوا بالواقع‬
‫الغربي مجموعة من رواد النهضة مثلوا الفكر العربي اإلسالمي لوقت طويل بداية برفاعة‬
‫الطهطاوي وخير الدين التونسي كرواد للمذهب الليبيرالي في مصر ثم جمال الدين األفغاني‬
‫ومحمد عبده كرواد لالتجاه اإلصالحي الديني‪ ،‬وبمجرد ذكر التيارين السابقين يتبادر للمتلقي‬

‫تناقضهما في الرؤى واستحالة التقائهما غير أن ّ‬


‫هم كل اتجاه كان غير ذلك فقد اتفق كليهما‬
‫في المنطلق أي في البحث في أسباب تردي الواقع العربي وتخلفه في مقابل التطور الغربي‪،‬‬
‫وتساءل كل منهما عن األدوات التي يجب على العالم العربي اإلسالمي اعتمادها في تحقيق‬
‫النهضة واالختالف كان هنا‪ ،‬فاالتجاه الليبيرالي دعا إلى العلمنة االجتماعية والسياسية‪ ،‬وأما‬
‫االتجاه اإلصالحي الديني رأى ضرورة الرجوع إلى األصول اإلسالمية وأسلمة المجتمع‬
‫والسياسة‪ ،‬ولتفصيل أعمق ينبغي وضع الموضوع في سياقه الصحيح بالبحث في األسس‬
‫التي ارتكز كل تيار عليها للوصول إلى نهضة حقيقية لألمة العربية اإلسالمية واالتقصي‬
‫كذلك عن األدوات والمناهج التي سلكها كل اتجاه في ذلك والعودة أيضا للمرجعيات‬
‫اإليديولوجية التي أسس عليها كل اتجاه رؤيته‪.‬‬

‫كانت في طليعة البعثات تلك التي وجهها محمد علي إليطاليا بهدف دراسة فنون العلوم‬
‫العسكرية والهندسة وبعثات أخرى قصدت فرنسا من أجل دراسة مختلف العلوم هناك‪ .‬ولقد‬
‫كانت هذه البعثات أحد أهم العوامل التي ساهمت في التعرف على الحضارة الغربية من‬

‫‪71‬‬
‫خالل مالمستها والتردد على مقاعد الجامعات والمعاهد هناك ومن خالل معايشة التفاعل‬
‫الحاصل فيها والوقوف على مختلف الحيثيات التي دفعت بوتيرة التقدم الحضاري هناك وكان‬
‫من بين هؤالء النخبة التي اتصلت بهذا الواقع مباشرة رفاعة الطهطاوي والذي أصبح فيما‬
‫بعد أحد أهم رواد النهضة العربية اإلسالمية في مصر (‪ )1873-1801‬فهو" أول شخصية‬
‫معروفة دافعت عن التيار العلماني في العالم العربي وقد سافر مع أول بعثة دراسية أرسلها‬
‫محمد علي باشا إلى فرنسا كإمام جماعة لكنه واصل بجد واجتهاد دراسته هناك واستطاع أن‬
‫يتقن اللغة الفرنسية‪ ،‬تأثر الطهطاوي كثي ار بعصر التنوير في فرنسا وبدأ يدرس بعض‬
‫المفاهيم من قبيل ضرورة مشاركة الشعب في الحكم‪...‬وتغيير القوانين في ضوء تغيير‬
‫الظروف الزمانية والمكانية والتربية على أن حب الوطن أساس الفضائل السياسية‪ 1".‬إذ أن‬
‫اجتهد الطهطاوي كثي ار في طريقه الذي اختاره من أجل النهوض بالواقع العربي اإلسالمي‬
‫من ‪2‬خالل مالزمة المعاهد األوربية والنهل من مشاربها الفكرية والعلمية المختلفة التي استفاد‬
‫منها كثي ار وفتحت له أفقا واسعا يشبع فيه كل شغفه العلمي فأصبحت لديه " نظرة واعية‬
‫مدركة لمعايير األخذ والرفض دفعته إلى محاولة فهمها فهما معرفيا أمكنه من تقديم صياغة‬
‫حضارية ألسلوب التعامل يتفق مع إسالمه الذي يعتز به والذي آل على نفسه أال يستحسن‬
‫إال ما لم يخالفه»ومن المعلوم أني ال أستحسن إال من يخالف نص الشريعة اإلسالمية على‬
‫صاحبها أفضل الصالة وأشرف التحية‪ "".‬فلقد ظهرت على الطهطاوي أثناء تواجده بفرنسا‬
‫واتصاله بالحضارة الغربية أنه قد تأثر كثي ار بأدوات الحضارة الغربية هناك ومظاهرها رغم‬
‫انتمائه اإلسالمي محاوال خلق توافق بين عقيدته وتراثه اإلسالمي العربي والرصيد الغربي‬
‫األوربي ولقد اكتسب كفاءات مهمة أثناء رحلته إلى فرنسا مكنته من نقلها وإسقاطها على‬
‫الواقع اإلسالمي العربي فدعا إلى " االنفتاح على أوربا في علوم التمدن المدني فكتب يقول‬
‫"إن مخالطة األعراب السيما إن كانوا من أولي األلباب تجلب لألوطان المنافع العمومية‬
‫والبالد االفرنجية مشحونة بأنواع المعارف واآلداب التي ال ينكر إنسان أنها تجلب األنس‬
‫وتزين العمران فهم يعرفون التوفير وتدبير المصاريف حتى أنهم دونوه وجعلوه علما‪ 3".‬وهذا‬

‫‪ -1‬حبيب هللا بابائي ‪ ،‬رضا خراساني ‪ ،‬الحضارة والحداثة في الفكر العربي المعاصر ‪ ،‬ص‪.165‬‬
‫‪ -2‬عصام السيد محمود ‪ ،‬منهج رفاعة الطهطاوي ومدرسته في االصالح بين األصول االسالمية و األفكار العلمانية ‪ ،‬مكتبة‬
‫دار الحكمة مصر ‪ ،‬دط‪-‬دس‪،‬ص‪.1،2‬‬
‫‪ -3‬محمد ‪ ،‬عمارة ‪،‬شخصيات لها تاريخ ‪ ،‬دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة‪ ،‬ط‪،1،2008‬ص‪.154‬‬
‫‪72‬‬
‫فعال ما يدل على تأثر الطهطاوي بالحضارة الغربية ومظاهرها فلقد اهتم بمالحظة كل ما‬
‫تقدمه التصورات الفرنسية في مختلف المجاالت وظهر أيضا تأثره بنظرية فصل السلطات‬
‫لمونتسكيو وبنظرية روسو في العقد االجتماعي‪ ،‬كما ال يخفي إعجابه بكل االنجازات‬
‫والفتوحات التي حققها المفكرون واألدباء والفالسفة األوربيين‪ ،‬غير أن الطهطاوي كان‬
‫حريصا على أن "ال تتعارض أفكاره الجديدة مع مبادئ الدين‪ ،‬من هنا فإن ما يميز نهجه‬
‫الفكري هو سعيه للتوفيق بين حب وإيمان المسلم وكنتيجة لما شاهده في حياة األوربيين كان‬
‫يرى أن الحل الوحيد لمصر للخروج من جميع مشكالتها الداخلية والخارجية هو االقتباس من‬
‫الحضارة الغربية"‪ 1‬باالغتراف من أفكارها ومما وصلت إليه الثورة الفرنسية التي نادت‬
‫بالمبادئ الثالثة الحرية والمساواة واإلخاء للتأسيس للديمقراطية استطاعت تحقيق التطور‬
‫والرقي‪ ،‬غير أن الطهطاوي يؤكد على أن هذا ال يتم إال بوضع إطار دستوري مثلما فعل‬
‫األوربيون إ ْذ به يمكن تحقيق دولة مدنية جديدة يسودها األمن المدني واالستقرار السياسي‬
‫واالجتماعي والتقدم االقتصادي‪ .‬وهنا تظهر لمسات نظرية جون جاك روسو في العقد‬
‫االجتماعي التي اعجب بها وتبناها رفاعة الطهطاوي في التأسيس لمشروعه النهضوي في‬
‫مصر منطلقا في ذلك من وضع أربع عوامل مهمة هي بمثابة دعائم أساسية لبناء النهضة‬
‫العربية اإلسالمية وهي ‪:‬العدالة والحرية والتربية والمواطنة‪.‬‬

‫‪ -3‬الحرية السياسية والعدالة االجتماعية‪:‬‬

‫لقد أعطى الطهطاوي أهمية بالغة لهذا العامل حيث جعله نقطة االنطالق رئيسية لقيام‬
‫النهضة إ ْذ" نبه أمته إلى مكانة الحرية في التمدن والعمران وإلى مميزات النظم الدستورية‬
‫المقيدة سلطات حكومتها بالقانون ‪...‬ألن الحرية[كما قال ] هي الوسيلة العظمى في اسعاد‬
‫أهالي المماليك‪...‬فإذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كان واسطة عظمى في‬
‫راحة األهالي وإسعادهم في بالدهم وكانت سببا في حثهم ألوطانهم‪2".‬ومن خالل اعتماد‬
‫الطهطاوي لمبدأ الحرية ودراسته لها ولطبيعتها قام بتقسيمها لخمسة أقسام هي‪" :‬الحرية‬
‫الطبيعية وهي التي خلقت مع االنسان‪[...‬ومنها]الحرية السلوكية التي هي حسن السلوك‬

‫‪ -1‬حبيب هللا بابائي ‪ ،‬رضا خواساني ‪ ،‬الحضارة والحداثة في الفكر العربي المعاصر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.166‬‬
‫‪ -2‬محمد عمارة ‪ ،‬شخصيات لها تاريخ ‪ ،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.154‬‬
‫‪73‬‬
‫ومكارم األخالق‪[...‬ومنها]الحرية الدينية وهي حرية العقيدة والرأي والمذهب [ومنها]الحرية‬
‫السياسية أي الدولية وهي تأمين الدولة لكل أحد أهاليها على أمالكه الشرعية المرعية واحراء‬
‫حريته الطبيعية‪ 1".‬والمالحظ أن رفاعة الطهطاوي ركز كثي ار على مبدأ الحرية وخصها‬
‫باهتمام كبير في إطار حدود الشرع طبعا وخاصة الحرية السياسية التي أكد عليها كونها‬
‫العامل الحساس الذي تبنى عليه النهضة وهي الكافل األمثل لحقوق الجماعات واألفراد على‬
‫حد السواء من خالل تفعيل مبدأ المساواة بين الرئيس والمرؤوس وبين كافة الشعب األمر‬
‫الذي سيرسي العدالة االجتماعية في الدولة وسيحقق الديمقراطية التي حققتها الثورة الفرنسية‬
‫بالتركيز على الحرية والسلم والتعايش‪ ،‬وهذا المناخ العام هو الذي يهيئ األجواء للعقل والفكر‬
‫لكي ينتج ويبدع في مختلف المجاالت االقتصادية والسياسية واالجتماعية والثقافية واألدبية‬
‫ويؤكد الطهطاوي أن هذه األدوات ال تتعارض مع الدين بل أصر وألح على "االستفادة من‬
‫ثورة أوربا في التشريع والتقنين وأن ال يصدنا عن هذه االستفادة وهو الذين يتوهمون تعارض‬
‫هذه الثورة التشريعية مع أصول شريعتنا اإلسالمية فعند الطهطاوي أن أوربا أخذت الكثير من‬
‫الشرق اإلسالمي ‪...‬ذلك» أن الذي جاء به اإلسالم من األصول واألحكام هو الذي مدن‬
‫بالد الدنيا على اإلطالق « ومن ثم فإن العالقة وثيقة بين ثورة أوربا التشريعية وبين األصول‬
‫واألحكام التي استقرت في شريعتنا اإلسالمية ‪...‬لكنه في الوقت ذاته يدعو أن نكون نحن‬
‫من نستفيد من هذه الثورة التشريعية حتى نميز ما هو مفيد وضروري ومناسب لنهجنا‬
‫الحضاري‪2".‬وأكد الطهطاوي أن الكثير من التصورات الغربية ال تتعارض مع الدين‬
‫اإلسالمي‪ ،‬رأى أن الكثير منها نجد أصوله في تراثنا اإلسالمي‪ ،‬فإنه قام بوضع مقاربة بين‬
‫التراث الغربي األوربي والتراث العربي اإلسالمي‪ ،‬ولم يتردد في إسقاط النماذج الغربية على‬
‫المجتمع العربي فما نادت به الثورة الفرنسية من عدالة وحرية واخاء ومساواة ال يتعارض‬
‫نهائيا مع الدين بل وموجودة وحث عليها النص القرآني والسنة النبوية كقوله تعالى في األمر‬
‫اع ِدُلوا ُه َو أ ْق َر ُب للت َقوى‪ ﴿3 ﴾.‬يَا َد ُ‬
‫او ُد إ ِ َّنا‬ ‫ِ‬
‫بالعدل﴿ ال َي ْج ِرَمّن ُك ْم َش ُ‬
‫نآن َق ْو ٍم أَ ْن ال تَ ْعدُلوا ْ‬

‫‪ -1‬عمارة محمد ‪ ،‬رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث‪ ،‬دار الشروق القاهرة مصر‪،‬ط‪،3،2007‬ص‪.265‬‬
‫‪ - 2‬د‪ .‬عمارة محمد ‪ ،‬رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث‪ ،‬دار الشروق القاهرة‬
‫مصر‪،‬ط‪،3،2007‬ص‪.250،251‬‬
‫‪3‬ـ سورة المائدة‪ ،‬آية ‪.8‬‬
‫‪74‬‬
‫ق َو ََل تَتَّ ِب ِع ْال َه َوى﴾‪1‬وفي الحرية قوله تعالى‬
‫اس ِب ْال َح ِّ ِ‬
‫ض َفا ْح ُك ْم َبيْنَ ال َّن ِ‬ ‫َجع َ ْلنَاكَ َخ ِلي َفة فِي ْ َ‬
‫اْل ْر ِ‬
‫هم ِب ُم َس ْي ِطر ﴾‪ 3‬وما جاء أيضا في‬ ‫‪َ ﴿ :‬من شَاءَ َفليُؤْ ِمن َو َمن شَاءَ َفليَكف ْر﴾ ﴿ َل ْس َت َع ْلي ْ‬
‫‪2‬‬ ‫ْ ُْ‬ ‫ْ‬
‫حديث الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪َ »:‬ل َف ْرقَ بَ ْينَ عَ َربي َوَل َأ ْعجمي َوَل أ ْب َ‬
‫يض وَل أ ْس َود‬
‫الم ْش ِط‪« 5‬ومن خالل الجملة الشهيرة للخليفة عمر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫نان‬ ‫أس‬
‫ْ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ية‬ ‫اس‬‫َل ب ِالتقوى‪ »4« .‬الناس سو ِ‬
‫َ ُ َ‬
‫إ ِّ‬
‫ابن الخطاب رضي هللا عنه ‪ »:‬متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح اررا‪ « .‬وغيرها‬
‫من النصوص القرآنية والنبوية وحتى من الصحابة التي دعت وأمرت بهذه المبادئ وسعت‬
‫لترسينها في المجتمع العربي اإلسالمي األول‪ ،‬ولقد سار على نهجهم التابعين إال أنها‬
‫ُه ِمشت وأ ُِولت ألغراض إيديولوجية في مراحل تاريخية معينة بهدف رعاية المصالح‬
‫وروجت لنصوص لم تنقل أبدا عن الرسول صلى هللا عليه وسلم ولم ترد عنه‪،‬‬‫والمناصب ّ‬
‫وبمثل تلك األساليب تأصل القمع والظلم واالستبداد في المجتمعات العربية اإلسالمية وغيبت‬
‫الحرية والعدالة والمساواة وسيج العقل العربي اإلسالمي ‪ -‬كما يرى محمد أركون ‪-‬‬
‫بالدغمائية وجعلته منحصر على ذاته وعطل أداؤه وبهذا تم تغييبه وصرفه عن التطور‬
‫والرقي واإلبداع وهذا ما انتبه له الطهطاوي حين نادى للوقوف في وجه االستبداد الذي شوه‬
‫التاريخ العربي اإلسالمي لقرون وحث على ترسيخ "نمط الديمقراطية الليبيرالية سبيال لتنظيم‬
‫المجتمع المصري خاصة والشرقي بوجه عام‪...‬ويهاجم الطهطاوي مذهب الذين يريدون أن‬
‫يكون الفكر السياسي وممارسته حك ار لطبقة أو فئة من الناس دون أبناء الشعب ‪...‬ويدعوا‬
‫إلى تعليم مبادئ السياسة لكل أبناء الشعب في المدن والقرى‪6".‬ومنه نستنتج أن الطهطاوي‬
‫تصور جديدا للحكم ودعا لترك التصورات القديمة له التي جسدت الطبقية والنظرة‬
‫ا‬ ‫قدم‬
‫األحادية وأكد على ضرورة اجتثاث جذور هذه األنظمة من المجتمعات العربية اإلسالمية‬
‫واستبدالها بأنظمة حديثة تعطي الحق للمواطن في ممارسة السلطة أو اعتالء مناصب‬
‫سامية‪ ،‬كما يسمح للشعوب باختيار رؤسائها وعزلهم بكل حرية حين يستبدون عليهم "فإن‬

‫‪-1‬سورة ص‪ ،‬آية ‪.26‬‬


‫‪2‬ـ سورة الكهف ‪ ،‬اآلية‪.29‬‬
‫‪3‬ـ سورة الغاشية‪،‬اآلية‪.22‬‬
‫‪4‬ـ التخريج ‪ :‬أخرجه أبو نعيم في ((حلية األولياء)) (‪ ،)100/3‬والبيهقي في ((شعب اإليمان)) (‪.)513‬‬
‫‪5‬ـ األلباني‪ ،‬سلسلة األحاديث الضعيفة‪ ،‬رقم‪.)596 ( :‬‬
‫‪ -6‬د‪ .‬عمارة محمد ‪ ،‬رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث‪ ،‬دار الشروق القاهرة مصر‪،‬ط‪،3،2007‬ص‪243‬‬
‫‪.244.‬‬
‫‪75‬‬
‫ضياع الحرية واستبداد الفرد هما مهلكة األمم والقيم وذهاب اليوم والغد والرجال الذين ال‬
‫‪1‬‬
‫يكسبون نص ار للدين في مجال الحرية ليسوا أهال لقيادة وال أحقاء بالبقاء في أي ميدان‪".‬‬
‫يرى الطهطاوي أنه ينبغي لتحقيق هذا وضع إطار دستوري ا‬
‫يرعي هذه المبادئ (المساواة‬
‫والحرية والعدالة) ويؤسس للدولة الحديثة‪ ،‬وهذه المبادئ أيضا هي التي تعمل على إنتاج‬
‫المواطنة وتتحقق بها "فالطهطاوي كان الرجل في طليعة الدعاة إلى إحياء الروح الوطنية‬
‫وتوظيف عاطفت ها الفطرية في التقدم والتمدن للوطن وأهله‪...‬فصفة الوطنية ال تستدعي فقط‬
‫أن يطلب االنسان حقوقه الواجبة له على الوطن بل يجب عليه أيضا أن يؤدي الحقوق التي‬
‫للوطن عليه ‪...‬فإذا لم يوفق أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي‬
‫يستحقها على وطنه !‪...‬والتقدم ال يتم بدون انجذاب قلوب األهالي ألى الوفاء بحقوق هذا‬
‫‪2‬‬
‫الوطن العظيم‪".‬‬

‫لقد تبنى الطهطاوي شعار المواطنة ودعا لحب األوطان وجعله من صميم اإليمان حتى‬
‫يتمكن العالم العربي اإلسالمي من تجسيد األخوة والثقافة والتعايش والتسامح وتقبل اآلخر‬
‫على اختالف عقيدته الدينية ليكون الوالء للوطن وحده ‪.‬‬

‫فيم يخص أعمال الطهطاوي في الميدان التربوي والتعليمي فقد اعتبر أن التربية واألخالق‬
‫هي أساس النهضة والتقدم الحضاري وهي التي تساهم في غرس روح المواطنة في األجيال‬
‫الصاعدة وتنمي عاطفة الفرد اتجاه وطنه واتجاه غيره " فالطهطاوي كان داعية إلى تعميم‬
‫التعليم باعتباره ضرورة إنسانية كالخبز والماء !وإلى تأسيس التمدن والتقدم على التربية التي‬
‫تنمي الجسد والروح واألخالق على السواء "فاألمة التي تتقدم فيها التربية بحسب مقتضيات‬
‫أحوالها يتقدم فيها أيضا التقدم والتمدن ‪...‬بخالف األمة القاصرة التربية فإن تمدنها يتأخر‬
‫بقدر تأخر تربيتها‪...‬فالتربية هي أساس االنتفاع بأبناء الوطن‪...‬والتعليم األولي ضروري‬
‫لسائر الناس‪...‬والتعليم العالي في تمدين جمهور األمة وترقيتها في الحضارة والعمران‪3".‬فكل‬
‫المعطيات العلمية والمعرفية والتربوية واالنفتاح على اآلخر والبحث في مختلف المجاالت‬

‫‪ -1‬حمد الغزالي ‪ ،‬أزمة الشورى في المجتمعات العربية اإلسالمية ‪ ،‬مؤسسة عالم األفكار ‪ ،‬المحمدية‪،‬ط‪،1،2006‬ص‪.71‬‬
‫‪ -2‬محمد عمارة ‪ ،‬شخصيات لها تاريخ ‪ ،‬المرجع سابق‪،‬ص‪.157‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.160‬‬
‫‪76‬‬
‫الفكرية والفلسفية على اختالف مناهجها وطبيعتها ومصادرها هي التي ستقود األمة العربية‬
‫اإلسالمية لنهضة قوية‪ ،‬ورؤية الطهطاوي لم تكن من فراغ أومن طرح مجرد بل كانت‬
‫وتردد كثير على مختلف ميادين‬
‫جسدها المفكر من خالل رحلة طويلة ّ‬
‫خالصة تجربة عميقة ّ‬
‫الحضارة ا لغربية بها ومن خالل اجتهاد كبير في مالحظة وتحليل الواقع الغربي ليتمكن في‬
‫األخير من بلورة طرح يتوافق وما يتميز به المجتمع العربي اإلسالمي وليس هذا فقط بل‬
‫وأيضا تمكن الطهطاوي من اكتشاف اللمسة اإلسالمية في الحضارة الغربية ونقلها لبالده‬
‫لمواجهة واقعه بها حتى يرفع الحرج عنه ويزيل التردد في اإلقدام على الفكر الغربي األوربي‪.‬‬

‫أما خير الدين التونسي فقد شخص المستوى الحضاري الراقي والتطور المرموق الذين كان‬
‫العالم اإلسالمي العربي عليه يوم كانت أوربا غارقة في ظلمات القرون الوسطى ولقد حز في‬
‫نفسه التدهور الذي آلت إليه الحضارة اإلسالمية خاصة في المجال السياسي وهذا ما أرقه‬
‫كثي ار وجعله يصب اهتمامه على " كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث‬
‫دون أن يتخلوا عن دينهم‪ 1".‬منهمكا في عمله كان جل اهتمامه يتمحور في كيفية النهوض‬
‫باألمة اإلسالمية العربية واألخذ بيدها نحو التطور متأث ار بتواجده في فرنسا ومعايشته‬
‫للحضارة بها ووقوفه على مختلف المظاهر الحضارية التي ميزت الواقع األوربي وفي المقابل‬
‫عندما كان يلتفت للواقع العربي اإلسالمي يرى االختالف العميق الذي يستوقفه في كل حين‬
‫ليتأسف عليه جراء التخلف والتراجع الذي ارتسم به الواقع العربي اإلسالمي" وهنا استطاع‬
‫التونسي أن يقارن أوضاع بالده وما كانت عليه فرنسا من تقدم لذلك عقد العزم على تحديث‬
‫بالده والنهوض بها على غرار النموذج الفرنسي داعيا إلى االستفادة من ثقافة الغرب‬
‫ونهضته كما فعل(الطهطاوي)في مصر وقد دون (خير الدين التونسي)أفكاره اإلصالحية في‬
‫كتابه الشهير(أقوم المسالك في معرفة أقوال الممالك)الذي جمع مادته أثناء إقامته في‬
‫أوربا‪2".‬بداية خير الدين لم تختلف عمن سبقوه في هذا الصدد‪،‬اذ انطلق ببحثه عن الطريقة‬
‫المثلى والمخرج األنسب الذي يتبناه المجتمع العربي اإلسالمي للخروج من وضعه المزري‬

‫‪ -1‬ألبرت حوراني ‪ ،‬الفكر العربي في عصر النهضة ‪ ،‬نوفل دمغة الناشر هاشيت أنطوان ‪ ،‬بيروت لبنان ط‪،1‬‬
‫‪،1997‬ص‪.104‬‬
‫‪ -2‬عزمي زكريا أبو العز ‪ ،‬الفكر العربي الحديث والمعاصر ‪ ،‬دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة‪ ،‬عمان‪،‬ط‪،1،2012‬‬
‫ص‪.34‬‬
‫‪77‬‬
‫وواقعه المتردي إلى التقدم واالزدهار ومن ظالم الجهل إلى نور العلم والفكر‪ ،‬فاإلشكال الذي‬
‫تردد في ذهن خير الدين هو نفسه الذي راود الطهطاوي لفترة كبيرة من الزمن عن طبيعة‬
‫التقدم واالزدهار األوربي وطبيعة التخلف والركود اإلسالمي العربي‪ .‬هذا االستفسار الذي بنى‬
‫عليه خير الدين إصالحاته الالحقة كلها تماما مثل الطهطاوي الذي كانت إجاباته عن هذا‬
‫اإلشكال هي جوهر الفكر اإلصالحي الذي أسس للنهضة العربية اإلسالمية حيث رأى خير‬
‫الدين"أن السبيل الوحيد في عصر الحاضر لتقوية الدولة اإلسالمية إنما هو في اقتباس‬
‫األفكار والمؤسسات عن أوربا وإقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفا للشريعة بل‬
‫منسجما مع روحها‪1".‬وغير متباين معها بل يتفق مع ما تدعو إليه من عدالة ومساواة وإخاء‬
‫وطلب للعلم‪ ،‬فالعلم ال ينحصر في انتماء عرقي أوديني أو جنسي وهو شامل لكل البشرية‪،‬‬
‫وما دام ال يخالف الشرع فيمكن للمسلمين االنفتاح على غيرهم واألخذ منهم ومما وصلوا إليه‬
‫في مختلف المجاالت لالستفادة منهم ومن انتاجاتهم الفكرية وهذا ما دعت إليه اآلية الكريمة‬
‫حث على‬‫في قوله تعالى ﴿ ِا ْق َ ْأر ِبا ْس ِم َرّب َك﴾ ويدخل أيضا في مجال الدين اإلسالمي الذي ّ‬
‫‪2‬‬

‫طلب العلم أينما وجد‪ .‬ولقد عكس موقف خير الدين هذا إعجابه الكبير بما توصل إليه‬
‫الغرب ‪ ،‬وما تبلورت فيهمن فتوحات علمية واقتصادية وسياسية وفكرية وتربوية‪ ،‬األمر الذي‬
‫توج أوربا في صدارة األمم ولقد استلهم منها خير الدين شغف أهلها للحرية والتغيير والتقدم‬
‫وأراد أن يجسد رؤيته على الواقع العربي اإلسالمي من خالل عدة إصالحات أهمها‪:‬‬

‫‪ -4‬اإلصالح السياسي ‪:‬‬

‫لقد اعتبر خير الدين أن أحسن انطالقة لإلصالح تكون بإصالح الوضع السياسي‬
‫إلعجابه البالغ بالتنظيمات السياسية التي عايشها أثناء تواجده بفرنسا والتي رأى أنها الحل‬
‫األمثل للخروج بالواقع العربي اإلسالمي من التخلف والركود‪،‬كما اعتبر السياسة هي اإلطار‬
‫الصحيح الذي يضمن انسجام جميع العوامل المساهمة في النهضة ألن التنظيمات السياسية‬
‫هي " السبب في تقدم األوربيين في المعارف ‪...‬وهذه التنظيمات البد أن تكون مؤسسة على‬

‫د‪ .‬ألبرت حوراني ‪ ،‬الفكر العربي في عصر النهضة ‪ ،‬نوفل دمغة الناشر هاشيت أنطوان ‪ ،‬بيروت لبنان ط‪،1‬‬
‫‪،1997‬ص‪-1.98‬‬
‫‪ -2‬سورة العلق‪،‬االية(‪)1‬‬
‫‪78‬‬
‫العدل والحرية ‪...‬ولذلك أدان التونسي االستبداد بالسلطة وحكم الفرد ودعا إلى إحياء‬
‫هيئة» أهل الحل والعقد « اإلسالمية‪]9[...‬تكون المجالس النيابية باالنتخاب العام‪...‬وألح‬
‫على ضرورة تقييد جهاز الدولة بالقوانين سواء منها تلك التي تنظم عالقة الرعية بالدولة أو‬
‫العالقة بين المواطنين‪1".‬فقد أثرت مخالطته للفكر األوربي الميال للحرية السياسية التي‬
‫تكتنف فضاءه العام فلم يرد أن يترك تلك األجواء الدافئة دون أن ينقل صورتها إلى تونس‬
‫وإلى كل البالد العربية اإلسالمية حتى تتمكن من إرساء نظام سياسي مبني على الحريات‬
‫وقمع االستبداد وإزاحة العقلية التي راجت في تاريخ العالم اإلسالمي العربي التي تسند فيها‬
‫السلطة لحاكم وال تنتزع منه مهما فعل ولهذا " طالب بأن تكون مباشرة الحكم التنفيذي من‬
‫اختصاص الوزراء ال الحاكم األعلى‪ 2".‬ليضع حدودا لسلطة الحاكم ويطرح رؤية جديدة‬
‫للدولة الحديثة دولة مؤسسات وليس دولة أفراد وهذا ال يتحقق إال بإرساء تنظيمات سياسية‬
‫ت رنو إلى "تحقيق العمران للبالد وأساس هذا العمران هو العدل أي الحرية السياسية للمواطنين‬
‫‪...‬كما أن اتساع نطاق المعارف في المجتمع إنما يرجع كذلك إلى اتساع نطاق الحرية‬
‫‪...‬وإذا كانت الحرية الشخصية ضرورية ليتصرف االنسان في ذاته وكسبه وهو آمن على‬
‫نفسه وعرضه وماله مطمئن إلى تساوي الرعية في توجيه سياسة الدولة كي تأتي على وفق‬
‫المصلحة العامة للمجموع‪ 3".‬هنا تتجلى بوضوح مبادئ الثورة الفرنسية التي قامت عليها‬
‫والمبادئ الليبيرالية التي تهدف لتحقيق المصالح العامة والتي تأثر بها خير الدين وبتنظيماتها‬
‫وبدستورها‪ ،‬ولقد دعا إليها خير الدين وأكد على أن يتم ذلك بأيدي النخبة التي تضعها‬
‫الشعوب وهي نفسها ذلك التصور الذي نجده عند أفالطون في تأسيس الجمهورية التي‬
‫تحكمها النخبة أي الفالسفة‪ ،‬ويذهب التونسي في إصالحه السياسي إلى أبعد من ذلك عندما‬
‫طالب بتأسيس المجلس الشوري المنتخب الذي يرأسه الكفاءات العلمية وذوي الخبرة الكبيرة‬
‫وطالب أيضا بفصل السلطات الثالث التشريعية والتنفيذية والقضائية ونبه إلى فتح الباب أمام‬
‫المشاركين في العملية السياسية ودعا إليها علماء الدين لتوضيح الحدود الدينية أمام الدستور‬
‫الجديد لتكيفها وفق العقيدة إضافة للفصل في قضايا لم ترد في النصوص القرآنية صراحة‬

‫‪ - 1‬محمد عمارة ‪ ،‬شخصيات لها تاريخ ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.166‬‬


‫‪ -2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.166،‬‬
‫‪ -3‬محمد عمارة‪،‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.167‬‬
‫‪79‬‬
‫فيمكن إ سنادها لرجال السياسة للفصل فيها والمصلحة التي تقرها الشريعة بناء على القاعدة‬
‫األصولية التي تقول "أينما كانت المصلحة فثم شرع هللا" فيوجد" ظروف تتغير فيتغير معها‬
‫ما هو مفيد وضروري للمجتمع لذلك يرى خير الدين أنه من الواجب أن تتغير أيضا الشرائع‬
‫والسياسات وأن يتفق عليها العلماء ورجال األعمال ما هو ضروري لصالح الجماعة‪...‬لذلك‬
‫كان أول شرط لإلصالح السليم اتفاق العلماء ورجال الدولة لكن هذا يقتضي أن يكون‬
‫العلماء على اتصال بروح العصر كي يكون لمشورتهم وزن‪...‬لذلك فإن من أهم واجبات‬
‫العلماء أن يطلعوا باتصالهم برجال السياسة على وقائع األمور إذ على اطالعهم هذا يتوقف‬
‫تطبيقهم للشريعة فتطبيق الشريعة ال يقتضي معرفة النصوص فحسب بل معرفة الظروف‬
‫التي على ضوئها يجب تطبيق النصوص‪ 1".‬ويتوافق هذا مع العقيدة تماما ألن الدستور‬
‫والتنظيمات وضعت من أجل رعاية مصالح وشؤون الشعوب تلك هي السياسة التي نادي‬
‫إليها التونسي من خالل إصالحاته التي تتفق مع العقيدة وال تتعارض معها آخذة بعين‬
‫االعتبار الظروف والمتغيرات في التشريع والتنفيذ ألنها ستعمل على دراسة األحكام من‬
‫خالل إطار زمني ومكاني معين ليتأسس الحكم الليبرالي العلماني بمنظور إسالمي‪.‬‬

‫‪-5‬اإلصالحات االقتصادية‪:‬‬

‫الزال خير الدين يؤكد أن الحضارة الغربية وما حققته من تطور وازدهار اقتصادي ما هو‬
‫في الحقيقة سوى نتيجة للنظام السياسي فلقد وحد خير الدين "الحرية السياسية بالحرية‬
‫االقتصادية ‪...‬كما ارتبط نمو المعارف بنمو الصنائع األمر الذي يثمره زيادة األنشطة الحرة‬
‫في الميادين االقتصادية‪ ،‬فالرخاء ال يتحقق بالخصوبة وتوافر اإلمكانات المادية وحدها وإنما‬
‫الحرية االقتصادية التي تجعل أرباب النشاط االقتصادي واالستثمار المالي آمنين على‬
‫ثرواتهم وأموالهم‪ 2".‬ألن األنظمة السياسية التي تبنى على إرساء العدالة االجتماعية تنشأ من‬
‫خالل المساواة والحرية ‪ ،‬فهذه األنظمة هي التي ترعى هذا الفضاء اآلمن المستقر وتحميه‪،‬‬
‫ومنه ينبثق اإلنتاج االقتصادي ويزدهر ويعم على غرار كل المجاالت األخرى الفكرية‬
‫والتربوية والثقافية ‪.‬‬

‫‪ -1‬د ‪ :‬ألبرت حوراني‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.101،102‬‬


‫‪ -2‬محمد عمارة ‪ ،‬شخصيات لها تاريخ‪، ،‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.167‬‬
‫‪80‬‬
‫‪ -6‬اإلصالح الثقافي والتعليمي‪:‬‬
‫بكل ثقة من جديد يدعو خير الدين إلى اعتماد المناهج الغربية في المعاهد والمدارس‬
‫التونسية والحث على االهتمام بالتعليم فاهتم بتنظيم التعليم في جامعة الزيتونة وحاول‬
‫تطويرها وتحديثها لتكون إلى جانب المدرسة (الصادقية)التي أنشأها على نظام حديث واهتم‬
‫بالمكتبات فأسس مك تبة عامة إلى جانب عنايته بالصحافة والكتابة عموما وغير ذلك كثير‬
‫مما جعل الكثيرين يصطكون على تسميته بأبي النهضة التونسية‪ 1".‬فلقد اهتم خير الدين‬
‫كثي ار بالثقافة والعلم وبالنظام التعليمي والتربوي وأعجب به في فرنسا تحديدا فأراد تجسيده في‬
‫تونس باعتماد وتطبيق تلك المناهج في المدارس والمعاهد والجامعة التونسية ودعا لدراسة‬
‫الفلسفة واللغة العربية واللغة األجنبية واألدب والتاريخ والهندسة واهتم ببناء المكتبات التي‬
‫تحمل التصورات الغربية لنشر الوعي والثقافة وجعلها في المتناول للجميع‪ ،‬ألنه كان يؤمن‬
‫وفكر راقيا تستطيع تغيير تاريخها وتحقيق التطور‬
‫ا‬ ‫بأن الشعوب المتعلمة التي تمتلك ثقافة‬
‫والنهضة ولقد استطاع خير الدين إلى حد بعيد أن يترك بصمة في تطور الفكر في تونس‬
‫والعالم العربي اإلسالمي بوضع األسس األولى للوعي العربي اإلسالمي ونشر الثقافة‬
‫والمعرفة في مختلف الميادين ‪.‬‬
‫أ‪ -‬جمال الدين األفغاني‬

‫فيه‬ ‫لقد ظهر دعاة اإلصالح في الوطن العربي اإلسالمي نتيجة لتردي األوضاع‬
‫مقابل التحضر الغربي من أجل النهوض باألمة وتغيير أحوالها وكان أحد أعالم هذا‬
‫اإلصالح زعيم الفكر اإلسالمي جمال الدين األفغاني (‪)1879-1839‬الذي ذكره مالك بن‬
‫نبي في مقولته الشهيرة" ولكن شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها وسرعان ما انبلج الفجر‬
‫في األفق الذي يدعوا فيه المؤذن إلى الفالح كل صباح ففي هدأة الليل وفي سبات األمة‬
‫اإلسالمية العميق انبعث من بالد األفغان صوت ينادي بفجر جديد صوت ينادي حيا على‬
‫الفالح فكان رجعه في كل مكان إنه صوت (جمال الدين األفغاني) موقظ هذه األمة إلى‬

‫‪ -1‬عزمي زكريا أبو العز‪،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.34،35‬‬


‫‪81‬‬
‫نهضة جديدة ويوم جديد‪1".‬فلقد قام مشروعه اإلصالحي على العودة إلى الدين اإلسالمي‬
‫والشريعة برؤية خاصة تحمل حدود الشرع في عين االعتبار والدعوة إلي نبذ االستعمار‬
‫الغربي الذي هدد األمة العربية اإلسالمية وسعى جاهدا في إبعادها عن عقيدتها "فقد كان‬
‫جمال الدين األفغاني من ألد األعداء لالستعمار الغربي وقد بذل جهودا كبيرة للنهوض باألمم‬
‫اإلسالمية وإيقاظها من الركود فقد جاب البالد وشاهد العباد بل واألمم والشعوب وتحمل‬
‫الجفاء والطرد ومع هذا أخذ على عاتقه تنبيه األذهان إلى أخطار االستعمار الغربي خطب‬
‫وتحدث بجرأة مدهشة ليبصر المسلمين بحقائق األمور‪ 2".‬فلقد كانت خطبه لألمة العربية‬
‫اإلسالمية مفعمة بالفكر النهضوي والثوري والتحرري من أجل تحفيز النفوس واستفزازها‬
‫للسعي للتحرر من االستعمار ورفض الهيمنة الغربية األوربية على الدول اإلسالمية وال يتأتى‬
‫هذا إال بالرجوع للشريعة اإلسالمية والتمسك بالعقيدة ورأى أنه ال يمكننا أن نجتث جذور‬
‫االستعمار من بالد المسلمين ونواجه " االنحطاط والتأخر السائدين في المجتمعات اإلسالمية‬
‫إال بالعودة إلى أصول اإلسالم ومحاولة التعلم من التجربة األولى تجربة الخلفاء الراشدين‬
‫وهي التجربة التي تحدد في قراءتها لتاريخ اإلسالم بوصفها تجربة سابقة على ظهور الخالف‬
‫والفرقة داخل الجماعة اإلسالمية"‪ 3‬يحاول هنا جمال الدين األفغاني أن يعطي صورة الدولة‬
‫المدنية المثلى التي ينبغي أن نسعى إليها وهي تلك التي تأسست للوهلة األولى في أوج قوة‬
‫اإلسال م والخالفة الراشدة التي لم يعتريها الصراع االيديولوجي وال التنافس على السلطة خالية‬
‫من الخرفات وهي التجربة الناجحة التي علينا العودة اليها والتركيز على إحيائها‪ ،‬أي أن فكرة‬
‫جمال الدين األفغاني " قد مثلت إحياء وتجديدا للفكر اإلسالمي بالعودة إلى منابعه الجوهرية‬
‫– القرآن الكريم والسنة الصحيحة – واستلهام مناهج السلف – وخاصة في عصور االزدهار‬
‫واإلبداع الحضاري – فجددت هذه الحركة في مناهج التعامل مع القرآن والسنة ‪...‬وعالقة‬
‫العقل بالنقل‪...‬والدين بالدولة‪...‬والحكام بالمحكومين‪...‬واإلنسان باألموات والثروات‪...‬وحضارة‬

‫‪ -1‬ملك بن نبي ‪ ،‬شروط النهضة ‪ ،‬دار الوعي للنشر والتوزيع ‪ ،‬الجزائر ‪،‬ط‪،11،2012‬ص‪.23‬‬
‫‪ -2‬محمد أمان الصافي ‪ ،‬تأثير فكر األفغاني في فلسفة إقبال ‪،‬الفاروق الحديث للطباعة والنشر ‪ ،‬القاهرة‬
‫‪،‬ط‪،1،1995‬ص‪.26‬‬
‫‪ -3‬صالح الشقير ‪ ،‬الحضور الفلسفي في الفكر العربي الحديث‪ ،‬ملخص ‪،‬ص‪ ،12‬مجلة جامعة دمشق‪،‬ج‪،26‬العدد‬
‫األول‪+‬الثاني‪2010،‬‬
‫‪82‬‬
‫اإلسالم بالحضارة األخرى‪ 1.‬كما حث على التخلص من األفكار الزائفة التي غيرت المفهوم‬
‫الحضاري لإلسالم إلى مجرد طقوس وشعائر تقام‪ ،‬ودعا إلى نبذ التقليد األعمى وفتح باب‬
‫االجتهاد من أجل االنفتاح على الحضارات األخرى الجتناب االنغالق على الذات الذي أدى‬
‫باألمة اإلسالمية إلى الركود والتخلف والتقليد األعمى" كان األفغاني يكره التقليد وينفر منه‬
‫إتباعهم لنظريات غيرهم دون تمحيص أو تدقيق فكان ‪...‬يأخذ‬ ‫وينعي على المقلدين‬
‫باألحسن من األقوال قول بعض العلماء من المتأخرين من أن باب االجتهاد من عند أهل‬
‫السنة مسدود لتعذر الوفاء بشروطه الصعبة التي وضعوها وقيدوه بها بحيث يكاد يستحيل‬
‫توافرها في فرد واحد من أفراد األمة عند سماعه لمثل هذه األقوال يشتد غضبه ويقول» ما‬
‫معنى باب االجتهاد مسدود وبأي نص سد؟« األمر الذي دفع باألفغاني لمناشدة المسلمين‬
‫وخصوصا الفقهاء والعلماء بإعادة النظر في االجتهاد الذي أعاق العقل اإلسالمي وأسره‬
‫وجعله منغلقا على ذاته مصابا بالجمود الفكري والتعصب واالستبداد والتفرقة‪ ،‬وطالب جمال‬
‫الدين بتجديد المناهج التربوية في المدارس والمعاهد وفي المقدمة جامعة األزهر وبهذا يقوم‬
‫األفغاني بوضع العقل كأساس لفهم النصوص وتفسيرها وفق الظروف والمعطيات‬
‫الراهنة‪".‬وهذا الموقف لجمال الدين األفغاني نابع من إيمانه القوي بالعقل الذي وضع هللا‬
‫وأبدعه في االنسان وسخر له تلك القدرات الفكرية والعقلية واإلمكانات الهائلة التي ال توجد‬
‫في غيره من الكائنات وهذا هو المعنى الحقيقي لثورة جمال الدين األفغاني العقلية والعلمية‬
‫األصلية التي ثارها على الجمود والخمول والتقليد وعلى الذبول والفتور‪ 2".‬والدين اإلسالمي‬
‫ال يعارض العقل بل يدعو الستعماله في كشف قوانين الطبيعة ومعرفة الغموض الذي يعتري‬
‫الكون كما يدعو الستعمال العقل أيضا في تفسير الدين والنصوص القرآنية التي تقدم‬
‫مصالح العباد‪ ،‬ويمكن فهمه حسب السياق التاريخي واالجتماعي بفضل االجتهاد لذلك‬
‫نستطيع الجزم أن جمال الدين األفغاني أراد بتصوره أن " يدعو إلى التجديد في الدين‬
‫وتطهيره من البدع وفهمه فهما صحيحا يتالءم مع روح العصر وذلك ألهمية تأثيره العميق‬
‫في الفرد والمجتمع وكانت دعوته اإلصالحية تقوم على الدين والعقل معا ومن هنا كانت‬

‫‪-1‬محمد عمارة ‪ ،‬الوسيط في المذاهب والمصطلحات االسالمية ‪ ،‬نهضة مصر للنشر والطباعة والتوزيع‪،‬القاهرة‬
‫‪،‬دط‪،2000،‬ص‪.186‬‬
‫‪ -2‬د ‪ :‬محمد أمان الصافي ‪،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.65‬‬
‫‪83‬‬
‫لدعوته أبلغ األثر وأكبره في نهضة الشعوب اإلسالمية‪1".‬فالرؤية التي تبناها األفغاني تمثلت‬
‫في إعادة فهم الدين فهما صحيحا بإقناع الشعوب اإلسالمية باإليمان الصحيح وتطبيق‬
‫التعاليم الشرعية باالهتمام ومالزمة القرآن والسنة لتحقيق التقدم والحضارة واالزدهار وتقوية‬
‫األمة اإلسالمية "فاألفغاني يعتقد أن الدولة األوربية لم تكن بالفطرة أقوى من الدولة‬
‫اإلسالمية وأن الفكرة السائدة عن تفوق انجلت ار على غيرها لم تكن سوى وهم ووهم خطير من‬
‫شأنه ككل وهم أن يجعل الناس جبناء فيجر عليهم ما يخشون وقوعه‪ 2".‬فهو يؤكد أن أوربا‬
‫حققت الحضارة والتقدم بواسطة العلم والمعرفة وفي المقابل الشعوب اإلسالمية لم تستطع‬
‫تحقيق ذلك بسبب السياج المغلق الذي فرضته الشعوب اإلسالمية على نفسها وعدم‬
‫االحتكاك باآلخر خوفا من التحريم الناتج عن قصور في فهم الدين وعدم المحاولة في ذلك‬
‫وفي هذا الشأن يقول أن " الذين يحرمون العلم والمعرفة معتقدين بذلك أنهم يصونون الدين‬
‫اإلسالمي هم في الواقع أعداء ذلك الدين‪ ،‬إن الدين اإلسالمي هو أقرب األديان إلى العلم‬
‫‪3‬‬
‫والمعرفة وليس هناك أي تعارض بين الدين والعلم والمعرفة وبين أسس العقيدة اإلسالمية‪".‬‬
‫يدعوا إليه وإلى طلب العلم ومعرفة خبايا الكون ﴿ُق ْل‬ ‫أي أن القرآن ال يعارض البحث بل‬
‫ف َب َدأَ‬
‫اْل َخْل َق‪4 "﴾.‬كما يحث جمال الدين األفغاني من جهة‬ ‫ظروا َك ْي َ‬ ‫سيروا في األَْر ِ‬
‫ض َف ْان ُ‬ ‫ُ‬
‫أخرى على الحرية الفردية والحرية الجماعية من خالل تحرير األمة من التصورات التقليدية‬
‫التي أسرت وأعاقت الحضارة اإلسالمية بواسطة فكرة القضاء والقدر التي لم يحسن فهمها‪،‬‬
‫فأخضعت العقل العربي لسياسة األمر الواقع وتركته منزوع اإلرادة أعزل يحيا االغتراب عن‬
‫ذاته وعن اآلخر وغيبته تماما عن واقعه وعن وجوده وماضيه‪ ،‬وإيمانا منه بفكرة القضاء‬
‫والقدر استسلم بمحض إرادته لالستعمار واالستبداد الذي خرب العمران وأعاق التطور‪ ،‬ومن‬
‫أجل هذا أكد األفغاني على تحرير إرادة األمة اإلسالمية وتأصيلها على رفض العبودية بكل‬
‫أشكالها والسعي إلى الوقوف في وجهها ألنها هي العامل الرئيسي لتأخر النهضة اإلسالمية‬
‫وهي سبب ابتعاد األمة عن دينها وعقيدتها اإلسالمية وجعلها حبيسة التقليد األعمى والجهل‬
‫تحن ألي ابتكار أو بحث بسبب الحكم القائم على التصور‬
‫والركود ال تقدم أي إبداع وال ّ‬

‫‪ -1‬محمد أمان الصافي ‪ ،‬المرجع سابق ‪ ،‬ص‪.33‬‬


‫‪ -2‬ألبرت حوراني ‪ ،‬المرجع سابق‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫‪ -3‬محمد أمان الصافي ‪ ،‬المرجع سابق ‪،‬ص‪.49‬‬
‫‪ -4‬سورة العنكبوت‪،‬االية‪.20‬‬
‫‪84‬‬
‫األحادي ولهذا حث جمال الدين على إصالح السياسة اإلسالمية واعتماد نظام مبني على‬
‫انتخاب الحاكم ومبايعته فلقد كان األفغاني " مؤكدا لمناهج الشورى والحرية في إرادة شؤون‬
‫األمة وتدبير سياسات حكومات وموقدا للثورة في وجه االستبداد الداخلي‪ 1".‬والشورى تتم‬
‫بالمبايعة على مراعات الحريات الفردية والجماعية ويحاكي هذا التصور لجمال الدين‬
‫األفغاني مبدأ العقد االجتماعي في الفكر الغربي الذي يعين صالحيات الحاكم ويحدد‬
‫عالقاته بالشعوب التي يمكنها الثورة عليه وعزله في حال ما استبد أو انقض ببنود االتفاق‬
‫المبرم سابقا‪ .‬هذا وقد نهى جمال الدين عن التفرقة وحث على الوحدة في الدين اإلسالمي‬
‫تحت سقف الدولة المدنية وفي اطار ديني " كان يؤمن األفغاني إيمانا ال يتزعزع بأن فالح‬
‫المسلمين في العودة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من جديد حتى يتمكن العالم‬
‫‪2‬‬
‫اإلسالمي من استعادة ما كان له من مجد تليد وقوة رهيبة وما كان له من الوحدة والوقار‪".‬‬
‫فكان هذا الشأن المهم في تصور جمال الدين من خالل إلحاحه وإص ارره على الرجوع‬
‫والعودة إلى المشارب األصلية واالرتباط بها مجددا فاالنفصال عن األصول األولى من قرآن‬
‫وسنة نبوية هو الذي سبب كل ما شهده الواقع والعقل اإلسالمي من تخلف وركود وتشتت‬
‫وتفرقة ‪ ،‬والحل األمثل الستعادة أمجاد الماضي يتم بالعودة إلى كتاب هللا وسنة رسوله صلى‬
‫هللا عليه وسلم من أجل تحقيق الوحدة وفي هذا يبادر جمال الدين للدعوة لتأسيس جامعة‬
‫إسالمية تلم وتجمع المسلمين على اختالف اتجاهاتهم الفكرية وكان يهدف إلى "تحقيق‬
‫الوحدة بين الشعوب اإلسالمية ألن األفغاني رأى أن ال منفذ للعالم اإلسالمي إال باتحاده في‬
‫جامعة إسالمية داخل إطار خالفة تجعل الدين والدولة شيء واحد وتسير على نهج الخلفاء‬
‫واألمر الذي تأكد منه‬ ‫‪3‬‬
‫الراشدين ‪[...‬و]لدفع الهجوم عليه وطرد االستعمار الغربي منها‪".‬‬
‫جمال الدين هو أن ضعف العالم اإلسالمي أمام االستعمار الغربي كان سببه التفرقة‬
‫واالختالف السلبي‪ .‬لقد كان لجمال الدين األفغاني أفضال كبيرة على األمة اإلسالمية إذ أنه‬
‫كان " رائدا حين حمل ما حمل من قلق ونقله معه أينما حل وهو القلق الذي ندين له تلك‬
‫الجهود المتواضعة في سبيل النهضة الراهنة وكان رائدها أيضا حين جهد في سبيل إعادة‬

‫‪ -1‬محمد عمارة ‪ ،‬جمال الدين األفغاني موقظ الشرق وفيلسوف االسالم ‪،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.173،174‬‬
‫‪ -2‬محمد ‪ ،‬أمان الصافي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.42‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.41‬‬
‫‪85‬‬
‫التنظيم السياسي للعالم اإلسالمي لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته ما أصاب مجتمعه‬
‫من عفونة وفساد‪ 1".‬ناهيك عم تركه لألمة اإلسالمية من " انجازاته الفكرية والسياسية‬
‫‪...‬ففيها ربى نخبة من العقول التي جددت فكر اإلسالم وحياة المسلمين وفي مقدمتهم‬
‫األستاذ اإلمام الشيخ محمد عبده‪...‬وشرح من كتب الفلسفة والكالم والمنطق وأعاد للحياة‬
‫الفكرية قسمة العقائدية اإلسالمية التي غابت منذ عصر التراجع الحضاري للمسلمين ونشأت‬
‫على يديه مدرسة في الصحافة األهلية الحرة غير حكومية‪...‬وتيار شعبي لمعارضة االستبداد‬
‫الداخلي وللثورة على النفوذ األجنبي االقتصادي والسياسي والعسكري كما عرفت البالد على‬
‫‪2‬‬
‫يديه طالئع التنظيمات السياسية واإلصالحية‪".‬‬

‫كنتيجة لما سبق نستطيع أن نلتمس صورة وملمحا عن الرؤية اإلصالحية للمفكر الكبير‬
‫جمال الدين األفغاني التي تعددت جوانبها في المجتمع اإلسالمي‪ ،‬إال أن اللب الذي أسس‬
‫النهضة واطلع إليها مفكرنا وأقرها في الرجوع إلى الكتاب القرآني والسنة النبوية الشريفة‬
‫واستعمال العقل في تفسير تعاليم الشرع وإبعاد التصورات الخاطئة التي علقت بالمجتمع‬
‫اإلسالمي كما وضح أيضا عنصر الحرية التي نادى بها واعتبرها عامال مهما لتحقيق‬
‫النهضة ‪.‬‬

‫ب‪-‬محمد عبده‬

‫لقد شهدت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بروز أحد أعالم اإلصالح‬
‫اإلسالمي الحديث وأحد أهم دعاة التجديد والتنوير وهو الشيخ محمد عبده(‪1849‬م‪1266-‬م)‬
‫إ ْذ يعتبر من أكبر رواد الحركة الفكرية اإلسالمية التي سعت إلى التحرر من جميع أنواع‬
‫االستعمار‪،‬ففي أعماله إيقاظ العقل العربي اإلسالمي وتحريره حتى يقوده للعلم والمعرفة‬
‫ونفض غبار الجهل والتخلف من أجل النهوض والتقدم واسترجاع أنفاس األمة العربية‬
‫اإلسالمية لبعثها من جديد ‪ ،‬منطلقا من فكرة أساسية تتبلور فيها مختلف الرؤى والتصورات‬
‫والتي علل من خاللها الشيخ محمد عبده مظاهر الواقع اإلسالمي العربي من جهل وتخلف‬

‫‪ -1‬ملك بن نبي ‪ ،‬وجهة العالم االسالمي ‪ ،‬ج‪،1‬ت ‪:‬عبد الصبور شهين ‪ ،‬دار الوعي للنشر والتوزيع ‪ ،‬الجزائر‬
‫‪،‬ط‪،1،2013‬ص‪.51،52‬‬
‫‪ -2‬محمد عمارة ‪ ،‬جمال الدين األفغاني موقظ الشرق وفيلسوف االسالم ‪ ،‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.174،175‬‬
‫‪86‬‬
‫واستعمار وردها إلى ابتعاد المسلمين عن اإلسالم الحقيقي األمر الذي جعل محمد عبده "‬
‫شديد الحسم والوضوح أن اإلسالم هو "السبيل لإلصالح" وهو الحل لمشكالت كل العصور‬
‫في كل المجتمعات وفي مواجهة التيارات الفكرية الغربية والمتغربة التي بشرت بالنموذج‬
‫الغربي العلماني سبيال للنهضة وقف اإلمام محمد عبده مدافعا عن" الحل اإلسالمي" الذي‬
‫هو الطريق الطبيعي لتقدم المجتمعات اإلسالمية‪ 1".‬فال يمكن تحقيق النهضة إال بالعودة إلى‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإزالة الشوائب التي علقت بالعقيدة من خرافات عكست‬
‫وجها غير صحيح عن اإلسالم‪ ،‬وبما أن اإلمام محمد عبده كان طالبا في األزهر متمي از‬
‫بمعرفة كبيرة لتعاليم العقيدة اإلسالمية ومطلعا على ثقافة الغرب األوربي وملما بجوانبها‬
‫الفكرية وانتاجاتها المختلفة‪ ،‬فقد بدأ الشيخ محمد عبده في إصالحاته بجامعة األزهر كونها‬
‫كانت تشكل قبلة المسلمين ومرجعهم العلمي فطالب جامعة األزهر بإعادة النظر في المناهج‬
‫التربوية والعلمية وضرورة إدخال مواد أخرى كالفلسفة واللغات األجنبية والتاريخ في التعليم‬
‫في األزهر ألنه كان يقتصر على العلوم الدينية القديمة والتفسيرات التقليدية الجافة الجامدة‬
‫فدعا لتغيير أسلوب الشرح باعتماد العقل ومسايرة العصر والواقع "فعلى المسلمين اليوم في‬
‫نظر محمد عبده أن يقوموا بما كان عليهم القيام به دوما‪ :‬إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقا‬
‫لمتطلبات الحياة الحديثة ولبلوغ هذه الغاية البد من االهتداء ‪ ...‬مبدأ المصلحة ‪...‬ومبدأ‬
‫التلفيق‪ 2".‬ألن محمد عبده كان يقيم وزنا للمصلحة في تأويل وتوظيف النص القرآني كما‬
‫كان دوما وقفا بالمرصاد للتقليد األعمى الذي كان يمقته ويرفضه عندما يجده في فكر أو‬
‫تصور‪ .‬وبهذا نجد أن اإلمام محمد عبده تعددت جبهاته التي كان يواجهها واختلفت‪ ،‬فمن‬
‫مطالبة األزهر بتغيير المناهج العلمية والتربوية والدعوة للمصالحة بين العقيدة والعلم إلى‬
‫التحرر من الدغمائية واستثمار التطور الحضاري األوربي في بناء وعي األمة وتحريرها من‬
‫االستعمار وتخليص العقل من أسره في التقليد واألساطير‪" .‬وفهم الدين على طريقة سلف‬
‫األمة قبل ظهور الخالفة والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها األولى واعتبار الدين من‬
‫ضمن موازين العقل البشري‪ 3".‬باإلضافة البعث االجتهاد الفقهي الذي صد بابه منذ زمن‬

‫‪ -1‬محمد عمارة ‪،‬المنهج االصالحي لإلمام محمد عبده ‪،‬مكتبة االسكندرية‪،2005،‬دط‪-‬ص‪.117‬‬


‫‪ -2‬ألبرت حوراني ‪ ،‬الفكر العربي في عصر النهضة ‪ ،‬ت‪ :‬كريم عزقول ‪ ،‬نوفل دمغة الناشر هاشيت أنطوان لبنان‬
‫بيروت‪،‬ط‪،1،1997‬ص‪159‬ظن‪.160‬‬
‫‪ -3‬محمد عمارة ‪ ،‬المنهج االصالحي لالمام محمد عبده ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.67،68‬‬
‫‪87‬‬
‫طويل من أجل مسايرة التقدم السريع بالعالم في جميع المجاالت مؤكدا على فكرة األخذ عن‬
‫اآلخر‪ ،‬أي من الحضارة األوربية ألن هذا االقتباس مباح وال ضرر فيه باإلسالم ‪،‬فهو دين‬
‫يدعو للعلم ويحث على السعي فيه‪ ،‬كما حث على العمل وربطه بالعلم في بناء الحضارة‬
‫وبالتالي الرجوع لإلسالم الحقيقي سيساهم كثي ار في العودة للمراحل الذهبية للحضارة‬
‫اإلسالمية ويساهم في نفس الوقت من مواكبة قطار الحضارة "أن يظهر إمكانية التوفيق بين‬
‫اإلسالم وبين الفكر الحديث وأن يبين كيفية تحقيق ذلك‪...‬كان مفتاح دفاعه عن اإلسالم‬
‫مفهومه الخاص للدين الحقيقي القائم على التمييز بين ما هو جوهري وغير متغير فيه وبين‬
‫ما هو جوهري ويمكن تغييره بال حرج فاإلسالم في نظره جهاز عقائدي بسيط‪ 1".‬فاإلسالم‬
‫دافع قوي للنهضة وال يعيقها والعلة الوحيدة للتخلف والجهل هي ركود العقل وجموده‬
‫والتفسيرات التي تلحق باإلسالم ما هي إال سوء تصور وأفكار خاطئة نتجت عن عدم إدراك‬
‫صحيح للمفاهيم الدينية‪ ،‬فمفهوم الشيخ محمد عبه يقترب من الوسطية والعقالنية‪ ".‬هي‬
‫الموازنة بين العقل والنقل وجمع عناصر الحق والعدل منهما معا وذلك بالتأليف بين النقل‬
‫الصحيح والعقل الصريح على النحو الذي يكون منهاج النظر»بالعقالنية المؤمنة « التي تق أر‬
‫النقل بالعقل وتحكم العقل بالنقل نافية تناقض النقل والعقل ألن نقيض العقل ليس النقل وإنما‬
‫هو الجنون‪ 2".‬فالمبدأ األساسي الذي يقوم عليه اإلسالم هو الرؤية العقلية كوسيلة وأداة‬
‫يستدل بها على اإليمان واإلسالم الصحيح وهنا يتبين لنا تصور الشيخ محمد عبده في‬
‫الجمع بين النقل والعقل والتوفيق بين التصورات الحديثة واإلسالم وبهذا توسط الشيخ محمد‬
‫عبده في الرؤية فرفض الغلو في العقل والدين "غلو السلفية "السلفية الحرفية" التي تنكرت‬
‫لهداية العقل عندما اكتفت بالوقوف عند حرفية النصوص وغلو "المادية الغربية" التي ألهت‬
‫العقل وتجاوزت بإدراكاته حدود" النسبية" ككل ملكات االنسان – إلى حيث ادعت "اإلطالق"‬
‫لمدركاته رافعة شعار التنوير الوضعي الغربي القائل "ال سلطان على العقل إال العقل وحده"‬
‫وهو شعار الذي يعني الرفض ألن يكون الوحي والنقل‪...‬من مصادر الهداية المعرفة النسبية‬
‫لإلنسان أي الرفض للوسطية اإلسالمية"‪ 3‬معنى هذا أن محمد عبده نادى بالوسطية‬

‫‪ -1‬ألبرت حوراني ‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.152،153‬‬


‫‪ -2‬محمد عمارة ‪ ،‬مقاالت الغلو الديني والالديني ‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية ‪ ،‬القاهرة ‪،‬ط‪،1،2004‬ص‪.07‬‬
‫‪ - 3‬محمد عمارة ‪ ،‬المنهج االصالحي لالمام محمد عبده ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.65‬‬
‫‪88‬‬
‫اإلسالمية في مشروعه اإلصالحي من أجل تجسيدها في المجتمع ليصبح مجتمعا مسلما‬
‫ملتزما بدينه وقيمه وتراثه ومنشغال بعقله في تفسير وتأويل النصوص الدينية بما يتماشى‬
‫والمستجدات والظروف ومتطلبات األمة اإلسالمية‪.‬‬

‫لقد أكد اإلمام محمد عبده أن اإلصالح السياسي البد أن يستمد من الواقع اإلسالمي لكي‬
‫يتوافق القانون الوضعي مع مبادئ الدين والعادات والثقافة ولقد دعا محمد عبده لتغيير‬
‫األوضاع السياسية واالجتماعية السائدة في األوطان اإلسالمية العربية والثورة عليها ألن‬
‫"القوانين المزروعة في غير أرضها ال تؤدي الثمرة نفسه ال بل تفسده‪...‬فالقوانين المستوردة‬
‫من أوربا ليست على اإلطالق قوانين حقيقية إذ ال أحد يفهمها وإذا ال يمكنه أن يحترمها أو‬
‫يخضع لها"‪ 1‬وفي هذا المفهوم يستمر اإلمام محمد عبده قائال ‪ ":‬المجتمع الذي يتجاوز‬
‫الحدود التي تعينها له شرائعه ينهار غير أن» الشرائع تتغير بتغير األحوال « وهي لكي‬
‫تكون فعالة يجب أن تتصل على نحو ما بمقاييس البلد المطبقة فيه وظروفه وإال عجزت عن‬
‫القيام بمهمتها الجوهرية وهي توجيه أعمال االنسان وتكوين عاداته‪ ،‬على أن تكون شرائع‬
‫أصال‪ 2".‬فلقد بين الشيخ محمد عبده أن القوانين والنظم المستوردة من الخارج ال يمكن أن‬
‫تنجح ومصيرها الفشل فالمجتمع له خصائصه التي تميزه عن غيره ومفاهيم تتوافق مع فكره‬
‫وعاداته وثقافته‪ ،‬وفي المقابل يضع الشيخ عبده المقابل الذي يمكنه أن يصلح كنظام‬
‫للمجتمع واألمة اإلسالمية وهو النظام الشرعي اإلسالمي المستمد من القرآن العظيم والسنة‬
‫النبوية الشريفة غير أن هذه النظم اإلسالمية ينبغي أن تكون قابلة للتغير والتطور وفق ما‬
‫يناسب المصالح االجتماعية ووفق متطلبات العصر حيث أنه يرى الشريعة حتى ولو كانت‬
‫إالهية فإنها من اختصاص الفقهاء أي تفسر وتأول حسب رؤية الفقهاء وتصورهم وبالتالي‬
‫سوى الدليل‬ ‫يبقى النص خاضعا لالجتهاد العقلي "فاإلسالم ال يعتمد على شيء‬
‫العقلي‪...‬والمرء ال يكون مؤمنا إال إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به فمن ربي على‬
‫التسليم بغير عقل والعمل – ولو صالحا – بغير فقه فهو غير مؤمن ألنه ليس القصد من‬
‫اإليمان أن يدل اإلنسان للخير كما يدل الحيوان‪ ،‬بل القصد أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه‬

‫‪ -1‬د ‪ :‬الحوراني ألبرت ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪146‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬نفس الصفحة ‪.146،‬‬
‫‪89‬‬
‫بالعلم باهلل والعرفان في دينه‪ 1".‬فالدين اإلسالمي يدعو ويحث على استعمال العقل في الحياة‬
‫والدين ولم يقف أبدا في وجه العقل أو ينفي أعماله بل أوصى بالبحث العقلي والتدبر وطلب‬
‫العلم والمعرفة والسعي لها وخير دليل على ذلك ما أنزل في سورة العلق إذ يقول تعالى ‪﴿:‬‬
‫اق أر باسم ربك ﴾‪ 2‬كما قال هللا تعالى في منزلة أهل العلم ﴿ يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين‬
‫أتوا العلم درجات﴾‪ 3‬ويؤكد الشيخ محمد عبده أن الشريعة اإلسالمية تضبط سلوك الفرد داخل‬
‫المجتمع وتؤطر األخالق وتبني مجتمع الفضائل وترسي العدالة االجتماعية والمساواة بين‬
‫المواطنين في الحقوق و الواجبات‪ .‬وهذا ال يتأتي إال بوضع دستور ودولة كون "وضع‬
‫"دستور " أو "قانون " بدون دولة و"سلطة " تطبيقه هو عبث ال يليق بالعقالء ‪ ،‬فإن عاقال‬
‫من العقالء ال يمكن أن يجيز على اإلسالم وجود "شريعة" دون "دولة" تضعها في الممارسة‬
‫والتطبيق لذلك كانت " الدولة اإلسالمية " ضرورة الزمة لتطبيق الحل اإلسالمي في‬
‫اإلصالح‪ 4".‬والدولة التي يضعها الشيخ محمد عبده ليست دولة دينية وإنما دولة مدنية‬
‫مصادرها الشريعة اإلسالمية "فليس في اإلسالم ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من‬
‫الوجوه على ترك الشريعة اإلسالمية تفاصيل النظم والمؤسسات والقوانين في الدولة للشورى‬
‫واالجتهاد‪ 5".‬وهي ليست الدولة التي تخضع الناس وتضطرهم لنوع معين من العيش وتفرض‬
‫عليهم اعتناق عقيدة معينة وإنما الدولة التي يراها الشيخ محمد عبده تجمع وتستوعب وتحتوي‬
‫كل الديانات وكل األعراق وكل التصورات الفكرية واإليديولوجية تماما مثلما جاءت به الدولة‬
‫المدنية من ديمقراطية وحرية فردية وجماعية واجتهاد لخدمة الصالح العام‪ ،‬وبالتالي يكون‬
‫حب الوطن والوالء له من حب العقيدة والوالء لها األمر الذي يجعلنا نتبين فكرة المواطنة في‬
‫تصور الشيخ عبده وفي نفسها التي نادى بها من سبقوه أمثال الطهطاوي وخير الدين‬
‫التونسي وجمال الدين األفغاني الشيخ عبده كما يمكننا تبين األهداف التي وضعها والتي‬
‫لخصها في ثالثة أهداف هي "تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف‬
‫األمة قبل ظهور الخالف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابعها األولى واعتباره من ضمن‬

‫‪1‬محمد عمارة ‪،‬المنهج االصالحي لالمام عبده ‪ ،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.75،76‬‬


‫‪ -2‬سورة العلق‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬
‫‪ -3‬سورة الحديد ‪ ،‬اآلية‪.16‬‬
‫‪ -4‬محمد عمارة ‪ ،‬المنهج االصالحي لالمام عبده‪ ،‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.119‬‬
‫‪ -5‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.113‬‬
‫‪90‬‬
‫موازين العقل البشري التي وضعها هللا ‪...‬لتتم حكمة هللا في حفظ نظام العالم اإلنساني‪...‬فهو‬
‫صديق للعالم باعث على البحث في أسرار الكون داع إلى احترام الحقائق الثابتة مطالبة‬
‫بالتعويل عليها في أدب النفس وإصالح العمل – والثاني‪ :‬هو إصالح أساليب اللغة العربية‬
‫في ا لتحرير ‪...‬والثالث‪ :‬هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما‬
‫للشعب من حق العدالة على الحكومة‪ ،1".‬فمنهج الشيخ محمد عبده منهج وسطي يتموقع بين‬
‫التصور الذي يقف على النصوص في شكلها أي التقليديين وبين التصور الذي يدعو للتقليد‬
‫واقتباس النموذج الغربي الحديث وما نستخلصه أن ما قدمه الشيخ اإلمام محمد عبده‬
‫للنهوض باألمة اإلسالمية كان له أثر كبير في الساحة الفكرية والثقافية للمجتمع اإلسالمي‬
‫فلقد تمكن بما لديه من فراسة ودهاء وخبرة وعلم من إيقاظ األمة اإلسالمية وفك أسرها من‬
‫الجهل والتخلف كما زرع فيها فكرة حب الوطن وقام بتفسير التصور الديني بما يساير ويوافق‬
‫مصالح األمة ومتطلبات العصر بفتح باب االجتهاد واستعمال العقل في ذلك من أجل رفع‬
‫السياج الفكري عليه واآلخذ من حضارة الغرب لمواكبتها واللحاق بها‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد عمارة ‪ ،‬الوسيط في المصطلحات ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.187‬‬


‫‪91‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫الركائز المنهجية والمفاهيمية‬


‫للمشروع األركوني‬

‫‪92‬‬
‫مدخل‪:‬‬

‫اقترحنا في هذا الفصل دراسة مفصلة لتفكيك أهم الركائز المنهجية التي انتهجها‬
‫المفكر محمد أركون في مشروعه من أجل قراءة جديدة للتراث اإلسالمي العربي‪ ،‬تقدمنا بداية‬
‫بطرح دوافع المفكرين العرب المسلمين على غرار محمد أركون من وضع دراسة نقدية عميقة‬
‫على الواقع العربي اإلسالمي كرد على ما تم تقديمه من طرف المستشرقين‪ ،‬وانطلقنا في هذا‬
‫الصدد من تحديد كل من مفهومي العقل اإلسالمي واالستشراق وأسباب ظهوره وأهدافه‬
‫السياسية واالقتصادية واالستعمارية والدينية والعلمية‪ ،‬كما تطرقنا للقراءة النقدية لالستشراق‬
‫لمحمد أركون‪ ،‬ومن أجل الوصول لعمق المشروع األركوني تناولنا معالم منهجية محمد‬
‫أركون التي اعتمدها في مشروعه على التراث العربي اإلسالمي بداية باأللسنة التي اعتبرها‬
‫محمد أركون عنص ار مهما يوفر دراسة منهجية وصحيحة للنصوص التاريخية والدينية كما‬
‫رأينا أنه من الضروري مواصلة العمل بكل ثبات من أجل تقديم اهم أسس المنهج العلمي في‬
‫البحث بتبيان أهمية النزعة االنسية والدور الذي لعبته في الغرب من أجل تحقيق الحداثة‬
‫والتطور واالزدهار‪ ،‬لذا وقف مفكرنا طويال عندها حتى يبين أهميتها البالغة لتحقيق الحداثة‪.‬‬

‫وفي األخير تطرقت لعنصر مهم في مشروع محمد أركون وهو التاريخانية التي يرى‬
‫أنها عمل دقيق على التراث العربي اإلسالمي يتمكن به الباحث من الوصول إلى نتائج‬
‫صحيحة وحقائق منطقية من خالل التأويل األنتروبولوجي ‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫المبحث األول‪:‬‬

‫قراءة في مفهومي العقل‬


‫اإلسالمي واالستشراق لدى‬
‫أركون‬
‫‪94‬‬
‫أوال ‪ :‬مفهوم العقل اإلسالمي لدى محمد أركون‪:‬‬
‫لقد فكر اإلنسان منذ وجوده في عالقته بالوجود نفسه وبالطبيعة والمجتمع والعالم‬
‫الماورائي‪ ،‬فانتقل من مرحلة األسطورة والسحر إلى مرحلة النظر العقلي‪ ،‬لذا فالتفكير‬
‫العقالني ومنذ اللحظة اليونانية أخذ أشكال ومدلوالت عدة على مر العصور ضمن مذاهب‬
‫وأنساق فلسفية متعددة ومختلفة‪ ،‬وصوال إلى الحداثة والفلسفة المعاصرة حيث تشظي مفهوم‬
‫المفكر زكي نجيب‬ ‫العقل والعقالنية وسيادة التقنية والتواصل والمصلحة وهو كما يرى‬
‫محمود الحركة التي انتقل بها من الشاهد إلى مشهود عليه ومن دليل إلى مدلول عليه ومن‬
‫مقدمة إلى نتيجة تترتب عليه ومن وسيلة إلى غاية تؤدي إليه تلك الوسيلة‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫نشأ في الفكر اإلسالمي التفكير العقالني مع الفرق اإلسالمية وكان رائد الفكر العقالني‬
‫شيوخ فرقة المعتزلة‪ ،‬الذين فكروا في‬ ‫على حسب ما يرى مؤرخو الفكر اإلسالمي‬
‫اإلشكاليات التي واجهت األمة اإلسالمية في الفترة المتقدمة من صدر اإلسالم كاإلمامة و‬
‫اآليات المتشابهات ومرتكب الكبيرة تفكي ار عقالنيا الفتا على خالف الفرق األخرى‪ ،‬وجعلوا‬
‫العقل سبيال لمعرفة هللا ومصد ار من مصادر التشريع اإلسالمي‪" ،‬وهذه األنماط والتقاليد التي‬
‫تنشأ في سياق الممارسة االجتماعية التي تصبح بعد ترسيخها القواعد الموجهة للعقل وإن‬
‫‪ ،‬حيث تواصل األمر‬ ‫يكن بصورة مضمرة وهي التي يعمل عالم المنطق على تقنيتها"‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬

‫كذلك مع االشاعرة وحتى الفقهاء المسلمين الذين استندوا على االستدالل العقلي والتوفيق بين‬
‫العقل والنقل (القياس‪ ،‬االستحسان‪ ،‬المصالح المرسلة ) وذلك في الفترة الالحقة خاصة مع‬
‫حركة الترجمة وتطور علم الكالم اإلسالمي حجاجه وردوده على علم الكالم المسيحي‬

‫‪ –-1‬زكي نجيب محمود ‪ :‬تجديد الفكر العربي ‪،‬دار الشروق القاهرة ط ‪ ، 9‬ص ‪. 310‬‬
‫‪ -2‬النجار عبد المجيد – خالفة االنسان بين الوحي والعقل – دار العرب االسالمي بيروت – ط ‪ – 3‬ص‪.37‬‬
‫‪95‬‬
‫ودخول المنطق األرسطي إلى ساحة الثقافة العربية ونشوء الفلسفة مع الكندي و الفارابي وابن‬
‫سينا ‪.‬‬
‫‪ -1‬دالالت المفهوم لدى أركون‪:‬‬
‫يقصد محمد أركون بالعقل اإلسالمي ليس فقط العقل العربي بل كذلك العقل األعجمي‪،‬‬
‫أي كل عقل اشتغل على الظاهرة اإلسالمية باللغة العربية أو غيرها‪ ،‬أي أنه ال يحصر‬
‫العقل اإلسالمي بقومية محددة‪ ،‬حيث أن الكثير من رواد الفكر والفقه اإلسالمي كانوا من‬
‫العجم حيث يقول "فضلت استعمال مفهوم العقل اإلسالمي على العقل العربي ويصعب عليه‬
‫قبول ما أورده عابد الحابري لتبرير اختياره لمفهوم العقل العربي (‪ ،)1‬وهذا ما يجعل مشروع‬
‫محمد أركون في نقد العقل اإلسالمي والحفر في آليات اشتغاله يتسم بالشمولية والعمق في‬
‫التحليل بما يتجاوز كل قومية وانغالق عقدي أو إثني أو لغوي‪ ،‬أي وفق منظور جامع لكل‬
‫انتاجات الحضارة اإلسالمية على مختلف مشاربها و اتجاهاتها‪.‬‬
‫يبرر محمد أركون اختياره لمفهوم العقل اإلسالمي عوضا عن مفهوم العقل العربي في‬
‫"أن العقل اإلسالمي يتقيد بالوحي أو المعطى المنزل ‪(....‬أي) أن دور العقل ينحصر في‬
‫خ دمة الوحي أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد ثم االستنتاج واالستنباط‬
‫منه فالعقل تابع ليس متبوع اللهم إال بالقدر الذي يسمح به اجتهاده المصيب لفهم وتفهيم‬
‫الوحي"(‪. )2‬‬
‫العقل يشتغل في إطار النص الديني المقدس دون الخروج عنه بغية الوصول إلفهام‬
‫عامة الناس بكافة مستويات الفهم لديهم ألن الدين مدار حياتهم وهو مصدر اإلرشادات‬
‫الدنيوية واألخروية وهذا ينطبق كذلك على الديانات التوحيدية األخرى كاليهودية والمسيحية‬
‫التي تشتغل داخل النص المقدس وال تحيد عنه‪ ،‬وبالتالي جعل العقل رهينة هذا النص‬
‫المقدس وتكبيل قدراته في النظر والتأويل والحرية‪ ،‬حيث ال يتعدى دوره الشرح والتفسير "هذا‬
‫المعطى وهذا الوحي النهائي واألخير يقول كل شيء عن العالم واإلنسان والتاريخ والعالم‬
‫اآلخر والمعنى الكلي والنهائي لألشياء وكل ما سيكتشفه العقل الحقا لن صحيحا أو صالحا‬

‫‪ -1‬محمد أركون – أي ن هو الفكر اإلسالمي المعاصر؟ ‪ :‬من فيصل التفرقة إلى فصل المقال ت ‪ :‬هاشم صالح – دار الساقي‬
‫بيروتلبنان – ط ‪ – 1996 – 2‬ص ‪.XIV‬‬

‫‪-2‬المرجع السابق – ص ص‪XIIII-VIV:‬‬


‫‪96‬‬
‫مؤكدا إذا لم يكن مستندا بشكل دقيق وصحيح إلى أحد تعاليم هللا أو إلى إمتداداته لدى النبي‬
‫(من تعاليم النبي) والمعرفة بهذا المعنى هي مجرد استنباط لغوي من النصوص أو عمل‬
‫معنوي وليس عبارة عن إستكشاف حر للواقع يؤدي إلى التجديد المعنوي والمفهومي في كل‬
‫(‪)1‬‬
‫المجاالت‪".‬‬
‫أما العقل العربي فهو كل إنتاج فكري كان بهذه اللغة أيا كان ديانة صاحب هذا الفكر أو‬
‫عرقه‪ ،‬ألن هذا العقل هو حمولة اللغة العربية التي تعبر عن هذا الفكر وتحدد رؤية ما للفكر‬
‫والحياة " إنها تتأثر بتاريخ القوم أو الجماعة أو األمة الناطقين بها ولكن التعامل بين العقل‬
‫واللغة أوسع وأعمق وأكثر مرونة وتعداد وإنتاجا من العالقات بين قوم محدود ولغة "(‪.)2‬‬
‫من هنا يفضل محمد أركون مفهوم للعقل اإلسالمي‪ -‬والذي تدخل فيه إثنيات‬
‫كثيرة‪ -‬في تحليالته ومشروعه النقدي ألن يريد "اإلمساك بالظاهرة الدينية في عمومياتها‬
‫الشاملة التي تتجاوز من حيث اإلتساع الدائرة اللغوية والقومية الواحدة سواء كانت عربية أم‬
‫تركية أم إيرانية أم غير ذلك"(‪ ،)3‬ومع ذلك فإن أركون ال يرفض مفهوم العقل العربي وال ينفي‬
‫إمكانية دراسة نقدية لمجمل انتاجات العقل العربي‪ ،‬يرى أن ذلك ممكنا بشرط أن "نقد العقل‬
‫العربي يمكن أن يمثل مرحلة أولى من نقد العقل اإلسالمي يشرط أن نتحاشى كل األحكام‬
‫اإلديولوجية المسبقة وبينها تلك التي تقول بأن اللغة العربية متفوقة على جميع اللغات‬
‫البشرية ألنها لغة الوحي القرآني ‪ ....‬فهذا مزعم تيولوجي ال يثبت أمام اإلمتحان والتفحص‬
‫األلسني والعلمي الحديث "(‪. )4‬‬
‫نستنتج مما سبق أن أركون ال يولي أهمية للمحددات االثنية وحتى الدينية ألن ذلك مهم‬
‫لكل دراسة نقدية موضوعية للعقل‪ ،‬إنتاجات العقل العربي الفكرية مستغرقة في العقل‬
‫اإلسالمي ‪ ،‬ألن مقوالت العقل العربي‪ ،‬مفاهيمه وكلياته هي إسالمية باألساس‪ ،‬حيث ينحصر‬
‫دور اللغة العربية في التعبير وصقل المفاهيم‪ ،‬أي كوعاء حامل للفكر اإلسالمي دون‬
‫توجيهه‪ ،‬وهذا ينطبق على جميع اللغات‪ ،‬فأي لغة ما كانت ستقوم بالدور الذي لعبته اللغة‬

‫‪ -1‬محمد أركون – الفكر االسالمي نقد واجتهاد – ت ‪ :‬هاشم صالح – دار الساقي بيرت لبنان – ط ‪ 2012 – 6‬ص ‪.13‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون – أين هو الفكر اإلسالمي المعاصر؟ ‪ :‬من فيصل التفرقة إلى فيصل المقال – مصدر سابق – ص‪XIV‬‬
‫‪ -3‬المصدر نفسه – ص‪XIV‬‬
‫‪-4‬اركون محمد ‪ :‬االسالم والحداثة ‪ ،‬كيف نتحدث عن االسالم اليوم ‪ ،‬ضمن كتاب ‪:‬الحداثة في المجتمع العربي القيم ‪،‬الفكر‬
‫‪ ،‬الفن ‪ ،‬بدايات ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬سوريا ‪ ،‬ب ط ‪ ،2008 ،‬ص‪40‬‬
‫‪97‬‬
‫العربية‪ ،‬وهو هنا يخالف محمد عابد الجابري في دور اللغة العربية في البناء النسقي للعقل‪.‬‬
‫فالعمل الذي يريد القيام به أركون في نقده للعقل اإلسالمي هو الكشف عن المعوقات التي‬
‫تعطل جهوده في البحث والنظر واالجتهاد‪ ،‬حيث يقوم هنا بــ" إعادة تقييم نقدي شامل لكل‬
‫الموروث اإلسالمي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم ولكن لكي ال يخيفك المشروع سوف أقول‬
‫بأني أميز بين ثالثة أو أربع مراحل أساسية ‪:‬مرحلة القرآن والتشكيل األولي للفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫مرحلة العصر الكالسيكي أي عصر العقالنية واالزدهار العلمي والحضاري‪ ،‬مرحلة العصر‬
‫‪ ،‬وهذا ال يتم إال من خالل ممارسة الحفر والتفكيك‬ ‫السكوالستيكي التكراري واالجتراري‬
‫( ‪)1‬‬

‫والتأويل في طبقات العقل اإلسالمي وإعادة النظر في البداهات والمسلمات التي بني عليها‬
‫هذا العقل ‪ ،‬وهو هنا يقر بصعوبة المهمة في ظل الجو السائد حاليا في المجتمعات العربية‬
‫المحافظة والمكبلة لكل جهد إبداعي‪.‬‬
‫هنا يعمد إلى مقارنة ما حدث في تاريخ األوربي الغربي خالل القرون الوسطى من‬
‫سيطرة للكنيسة على الفكر والحياة وانتشار الفكر الدوغمائي المدرسي‪ ،‬وبروز تيار اإلصالح‬
‫الديني مع البروتستنانية التي حررت العقل وساهمت في جهود النهضة الفكرية وتيار التنوير‬
‫والحداثة الحقا‪ ،‬مقارنة ذلك مع المرحلة المنيرة في الفكر اإلسالمي والتي بدأت مع المعتزلة‬
‫مرو ار بابن رشد وأبو حيان التوحيدي وابن مسكويه وابن خلدون‪ ،‬حيث يقول‪" :‬رحت أفكر‬
‫بمشروع أكثر طموحا واتساعا مشروع يهدف إلى نقد العقل اإلسالمي كله‪ ،‬من المعلوم أن‬
‫علم أصول الدين وعلم أصول الفقه في التراث العربي اإلسالمي مرتبطان ببعضهما البعض‬
‫بشكل ال ينفصم ومعلوم أيضا أن الثاني يعتمد على صالحيات مبادئ األول ومسلماته‬
‫تركيباته العقائدية‪ ،‬والواقع أن في هذين العلمين اإلسالميين المحصنين ينحصر الحقل‬
‫المعرفي ومجريات التقنية الخاصة بالعقل الخاضع لما يدعوه المسلمون وجميع أهل الكتاب‬
‫بالتنزيل أو الوحي ونقصد هنا بالعقل العقل الديني بالطبع وبالتالي العقل اإلسالمي كما‬
‫العقل اليهودي أو العقل المسيحي‪ .)2(.‬وهو يشير إلى العقل المسيحي أو اليهودي في‬
‫كتاباته ليبين أن مشروعه النقدي يعمل على تحرير العقل من كل المحددات الدينية أو‬

‫‪ -1‬محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم االسالم اليوم؟ هاشم صالح – دار الطليعة للنشر والتوزيع‬
‫بيروت – د ط – ص ‪283‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون – نحو نقد العقل االسالمي – ت هاشم صالح – دار الطليعة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت ط‪– 1‬‬
‫‪ – 2009‬ص ‪.74‬‬
‫‪98‬‬
‫االثنية‪ ،‬أي القبض على العقل وهو يشتغل تاريخيا وبكل حرية وهو ملكة تخص جميع الناس‬
‫باختالف أعراقهم ولغاتهم‪ ،‬ألن يشتغل داخل ثقافة معينة‪ ،‬وإن ما كان يهدف إليه أركون هو‬
‫"تحرير العقل اإلسالمي والرجوع به عن طريق التحليل العلمي إلى أحواله األولى أي النص‬
‫القرآني حيث استطاع أن يطبق عليه أحدث المناهج الفكرية فأضاءه بشكل غير مسبوق‬
‫وانكشفت عندئذ عظمة القرآن وعبقريته وتاريخيته الجزئية في آن واحد"(‪ ،)1‬خاصة وأن القرآن‬
‫لم يحرم اإلنسان من تفعيل قدراته العقلية في النظر والتحليل والتدبر واالستنتاج‪ ،‬فهو حافل‬
‫ب اآليات التي تدعو إلى ذلك ("أفال يتدبرون" "أفال يعقلون "أفال يبصرون " " إن في ذلك‬
‫آليات لقوم يتفكرون")‪ .2‬من هذا المنطلق نجد أركون يؤكد على "الجدلية القائمة بين دراسة‬
‫موضوع اإلسالم ومشروع نقد العقل اإلسالمي‪...‬دراسة نقدية تفكيكية تروم أوال تحليل أنظمة‬
‫المعرفة ونقد أسس التفكير وآلياته وكشف عن أدوات إنتاج الداللة وقواعد تشكيل الخطاب‪".‬‬
‫(‪)3‬‬

‫‪-2‬مبادئ العقل اإلسالمي‬


‫يرى محمد أركون أن العقل اإلسالمي بدأت عملية تأسيسه من خالل رسالة‬
‫الشافعي باعتباره عقال تأصيليا‪ ،‬فالشافعي في وضعه ألصول الفقه اإلسالمي التي تعتمد‬
‫على القرآن والسنة النبوية وإجماع األئمة (هذه األخيرة لم تكن محل إجماع األئمة مثل ابن‬
‫حزم) قد وضع أسس عمل العقل اإلسالمي وبشكل نهائي ال يمكن لمن بعده أن يخرج عن‬
‫إطارها أسس تعتمد القياس واالستقراء واالستنباط المقيد‪ ،‬أنها "عملية التأصيل ونقصد به‬
‫البحث عن أقوم الطرق االستداللية وأصح العوامل التحليلية واإلستنباطية للربط بين األحكام‬
‫الشرعية واألصول التي تتفرع عنها أو لتبرير ما يجب اإليمان به ويستقيم استنادا إلى فهم‬
‫صحيح للنصوص األولى المؤسسة لألصول التي ال أصل قبلها وال بعدها "(‪ ،)4‬وهذا ما‬
‫يجعل العقل اإلسالمي عاطال عن االجتهاد‪ ،‬بل عقل يجتر المعارف السابقة ويعيد إنتاج‬

‫‪ )-1‬محمد أركون – تحريم الوعي االسالمي نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة – ت‪ :‬هاشم صالح – دار‬
‫الطليعة للطباعة والنشر – بيروت لبنان – ط‪ – 2011 – 1‬ص ‪15‬‬
‫‪-2‬قوله تعالى‪( :‬أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)‪ .‬محمد‪ ،24:‬وقوله تعالى (إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون )‬
‫(الرعد‪ )3:‬وقوله كذلك (أفال يبصرون( ))السجدة‪.)27:‬‬
‫‪ -3‬على حرب – نقد النص والحقيقة – المركز الثقافي العربي – د ط – ‪ – 1993‬ص ‪.61‬‬
‫‪ -4‬محمد أركون – الفكر األصولي وإستحالة التأصيل – ت‪ :‬هاشم صالح – دار الساقي بيروت لبنان – ط ‪ 2002 – 2‬ص‬
‫‪.7‬‬
‫‪99‬‬
‫نفسه حيث ال يخرج عن السياقات الدوغمائية التي حددت مجال اشتغاله مسبقا‪ ،‬أي "عقل‬
‫خادم للوحي وال يجرؤا أبدا على مبادرة السؤال أو تأويل ال يسمح به الوحي المحيط بكل‬
‫شيء"(‪.)1‬‬
‫يعمد أركون إلى دراسة رسالة الشافعي دراسة معمقة لموضوعاتها وآليات اشتغالها وتشمل‬
‫كذلك الظروف التاريخية التي كتبت فيها ‪،‬حيث " يكفي أن نلقي نظرة على عناوين الفصول‬
‫المتضمنة في الفهرس لكي نكتشف أنها تعالج جميعها موضوعا أساسيا ومركزيا واحدا هو‬
‫أسس السيادة العليا أو المشروعية العليا في اإلسالم ‪(.......‬حيث) تصبح بواسطتها حقيقة‬
‫ما أو حكم قانوني ما ليس فقط ملزما أو إجباريا للبشر وإنما ال غنى عنه من أجل السير‬
‫على طريق الهدى والنجاة (الشريعة)"(‪.)2‬‬
‫الشريعة وفق هذا التحليل األركوني وإن كانت تعود في أحكامها إلى النص القرآني أو‬
‫الحديث النبوي‪ ،‬أحكام مستنبطة في األخير من طرف عقل بشري يخضع في ذلك إلى‬
‫الظروف التاريخية والسياسية والبيئية والثقافية المحيطة به‪ ،‬وهذه الشريعة هي ما يؤسس‬
‫للهوية التي يظل العقل اإلسالمي محصو ار في إطارها ال يستطيع الفكاك منها وبالتالي ال‬
‫يستطيع االشتغال على مساحات ظلت داخل ما يسميه الالمفكر فيه أو الممنوع التفكير فيه‪،‬‬
‫ألنه عقل يخشى النقد والتمحيص ألنه قد تم توجيهه مسبقا وتم وسمه بالمطلقية‪ ،‬وقد تم‬
‫تجاهل نسبيته وتاريخيته‪.‬بالتالي حريته في االشتغال والبحث واقتصاره على النصوص‬
‫الجاهزة ‪ ،‬لقد بات "ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية (‪ )Corps pus‬ناجزة ومغلقة‬
‫على ذاتها نقصد بذلك القرآن والحديث وهو موجه نحو القبض على المشروعية العليا‬
‫المطلقة "(‪ ،)3‬أي عقل يشتغل داخل ما يسميه أركون السياجات الدوغمائية التي تكبل العقل‬
‫وتمنعه من االجتهاد‪ ،‬التأويل‪ ،‬النقد واإلبداع‪ ،‬وتجعله بالتالي منغلقا على نفسه ال يخرج عن‬
‫إطار ما يسميه الهوية أو المقدس‪ ،‬هذه السياجات تشجع العقل على االجترار والمعرفة‬
‫الجاهزة التي يسمج بها النص الديني‪ ،‬وهو بالتالي ما يؤسس من جهة أخرى لمناطق‬

‫‪-1‬محمد أركون – أين هو الفكر االسالمي المعاصر؟ ‪ -‬ت‪ :‬هاشم صالح – دار الساقي بيروت لبنان – ط ‪ 1955 – 1‬ص‬
‫‪.2‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون – تاريخية الفكر العربي االسالمي – مرجع سابق ذكره – ص ‪68‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون –المصدر نفسه – ص‪69‬‬
‫‪100‬‬
‫ومساحات الممنوع التفكير فيها وآلية الالمفكر فيه في العقل اإلسالمي ولفترة زمنية طويلة‪.‬‬
‫أي منذ المرحلة التنوير التي شهدها العقل اإلسالمي في القرون األولى‪.‬‬
‫يدعو أركون إلى اعتماد المناهج العلمية المعاصرة في نقد العقل اإلسالمي وهذه‬
‫المناهج قائمة على مقاربات متعددة تراعي الجوانب التاريخية والنفسية واالجتماعية‬
‫واألنثروبولوجيا واللغوية للوعي اإلنساني "إن اإلنسان ال تحركه فقط الحوافز المادية‬
‫واالقتصادية وإنما تسيره أيضا الصور الخيالية واألفالم الوردية فكثي ار ما يتهيج الناس وتخرج‬
‫الجم اهير إلى الشارع لمجرد أن شخصا قد ضرب على وتر المخيال الجماعي‪....‬والمخيال‬
‫اإلسالمي الذي حركه الخميني بشكل هائل هو من هذا النوع ولهذا فللمخيال تاريخ يضرب‬
‫بجذوره في أعماق التاريخ اإلسالمي"(‪.)1‬‬
‫يؤكد أركون هنا يلتقي في تأكيده على أهمية المخيال مع رواد أهم النظريات‬
‫المعاصرة في علم االجتماع واالنتروبولوجيا "أمثال "بورديو" وجورج باالندي وكاستر ياديس‬
‫وجورج دوبي اهتموا كثي ار بالعالم الرمزي ودوره في بلورة الوعي الجماعي وتحريك المسار‬
‫التاريخي "فالبنية الفوقية" لم تعد نتيجة ميكانيكية "للبنية التحتية" بل أصبحت تمتلك استقاللية‬
‫نسبية بل وأصبحت أحيانا تشكل قوة مادية ودافعة لمختلف األحداث التاريخية وفي هذا‬
‫السياق – والقول ألركون – أن " العقل هو ملكة من جملة ملكات أخرى يستخدمها الفكر"‬
‫(‪)2‬‬

‫يرى محمد أركون أن مفهوم العقل يشمل كذلك وآليات اشتغاله تشمل كذلك ملكات الذاكرة‬
‫والخيال وفي هذا الصدد يقول أركون "فالعقل بحاجة إلى الذاكرة كما أنه بحاجة إلى المخيال‬
‫وال يستطيع االنفصال عنه أو عن التصورات التي يمكن للخيال أن يقدمها للعقل من أجل‬
‫تقوية عمله وترطيب أجوائه إذن يوجد أمامنا في الوقت ذاته مجال مفتوح لدراسته بنية الروح‬
‫البشرية وبطريقة نفسانية أي دراسة اشتغال الروح البشرية وآلياتها في اللحظة التي ينتج فيها‬
‫المبدع أعماله سواء أكان هذا المبدع فيلسوفا أم أدبيا أم فنانا (‪ ،)3‬هنا يجب أن نفرق بين‬
‫مفهوم المخيال والخيال "وإن كانتا تنتميان إلى نفس الجذر اللغوي فالمخيال‪Imaginaire‬‬

‫‪ -1‬محمد الشبة ‪:‬مفهومالمخيال عند محمد أركون ‪،‬منشورات اإلختالف‪ ،‬الجزائر ‪،‬ط ‪ ،2014، 1‬ص ‪.30‬‬
‫‪ -2‬محمد الشبة ‪:‬مرجع سابق ذكره – ص ‪.33 – 32‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪:‬الفكر االسالمي نقد واجتهاد – ت‪ :‬هاشم صالح – دار الساقي – ط ‪ – 2012 – 6‬ص ‪232‬‬
‫‪101‬‬
‫يتشكل تاريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن ويمكن استغالله سياسيا وإيديولوجيا في‬
‫اللحظات التاريخية العصيبة فهو يضرب بجذوره في أعماق الالوعي عبر تشكله خالل‬
‫مختلف المراحل التاريخية‪ ،‬هكذا نتحدث مثال عن مخيال إسالمي ضد الغرب أو مخيال‬
‫غربي ضد اإلسالم (‪. )1‬‬
‫يستند مجمد أركون ف ي تحديده لمفهوم المخيال لدى فرويد رائد مدرسة التحليل من خالل‬
‫مفهوم الالوعي لديه الذي يؤطر الكثير من أشكال الوعي الجمعي والسلوكات البشرية‪،‬‬
‫ويشير هنا إلى استغالل الحركات اإلسالمية السياسية لهذا المعطى في السيطرة على‬
‫السلوك الجمعي للجماهير‪" ،‬ومن ثم نرى أركون يؤكد على ضرورة طرح اإلشكالية النفسية‬
‫واللغوية واألنثرويولوجية الخاصة بالمخيال اإلسالمي كما تبلوره الحركات األصولية التي‬
‫شكلت خطاباتها المتراكمة طبقات هائلة وجد متماسكة ال سبيل إلى تفكيكها والحفر في‬
‫أعماقها إال بالتسلح باألدوات المعرفية والمنهجية التي تمدنا بها العلوم اإلنسانية المعاصرة"‬
‫(‪)2‬‬

‫‪.‬فتاريخية التاريخ اإلسالمي لدى أركون هي التي دفعته إلى االهتمام بدور المخيال في‬
‫اآلليات اشتغال العقل اإلسالمي وفي دائرة الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وفصله عن الجانب األسطوري‬
‫في هذه الثقافة الذي يقدس النص ويجعل من العقل تابعا له متعاليا عن التاريخ وعن‬
‫السياقات االنتروبولوجية والنفسية واأليديولوجية التي تنتجه ‪.‬‬
‫‪-3‬نقد العقل الكالسيكي‪:‬‬
‫يعتبر محمد أركون العقل الكالسيكي هو ذلك العقل الفقهي الذي أسس له الشافعي ‪،‬من‬
‫خالل رسالته التي وضعت أركان أصول الفقه‪ ،‬لذلك يعمد إلى تفكيك هذا العقل من خالل‬
‫نقد آليات اشتغاله‪ ،‬اشتغال هذا العقل السكوالئي الذي عمل على ترسيخ فكرة "السيادة العليا‬
‫"ووضع سياجات دوغمائية تمنع من التفكير والمحرم التفكير فيه‪ ،‬وتبرير الوضع القائم‪ ،‬مما‬
‫ساهم في االستالب الفردي والجماعي‪ ،‬لقد شهد العصر اإلسالمي ومنذ القرن الخامس‬
‫هجري تضييقا على العقل في ممارسة النقد واالجتهاد والتفكير‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد الشبه ‪:‬مرجع سابق ذكره ‪،‬ص ‪.29‬‬

‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪31.‬‬


‫‪102‬‬
‫بدأ ذلك عندما أصبح هذا العقل الهوتيا ال يضع الحدود بين ما هو ديني وما هو قانوني‬
‫أي تشريعي وسياسي‪ ،‬وعوضا أن يكون االختالف بين المذاهب الفقهية مصدر إغناء وإثراء‬
‫للعقلية اإلسالمية‪ ،‬كان مصدر خالف وصراع‪ ،‬بل وصل األمر إلى تكفير الطرف اآلخر‪،‬‬
‫وفي األخير يدعى كل طرف أحقيته بامتالك الحقيقة‪ ،‬وطريق هو فقط سبيل النجاة والفوز‬
‫في اآلخرة‪ ،‬ذلك أن "المطالبة بعقل أبدي خالد منسجم تماما بشكل مسبق من تعاليم الوحي‬
‫كانت دائما موجودة ليس فقط في مختلف المدارس الفكرية في اإلسالم وإنما أيضا في‬
‫اليهودية والمسيحية كانت هذه المطالبة تنص على أن اإليمان بالوحي يقوي العقل البشري‬
‫ويهديه ويضيء له الطريق هذا العقل إذا ما ترك لوحده فإنه سوف يضل(‪. )3‬‬
‫النتيجة عقل تكراري اجتراري تؤطره خلفيات سياسية وأيديولوجية ال يستطيع سوى إعادة‬
‫إنتاج نفسه‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي في هذه الفترة حافل باألحداث التي تؤكد ذلك كما حدث‬
‫للمعتزلة مع الخليفة العباسي المتوكل‪ ،‬أي تلك المواجهة التي كانت بين ما يراه محمد أركون‬
‫العقل التنويري والعقل األرثوذكسي‪ ،‬وانتصار األخير في النهاية‪ ،‬ومنذ تلك اللحظة غدا العقل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬عقال مقدسا يستند إلى النص والوحي كمرجعية وحيدة تضمن للعقل سداده وقوته‪،‬‬
‫وبذلك يخرج هذا العقل عن التاريخ واشتراطاته‪ ،‬وتنسحب عليه بالتالي قداسة النص الديني‪،‬‬
‫أي يصبح هو نفسه مقدسا ويتعالى عن النقد والتفكيك‪ ،‬وهذا ما جعل هذا العقل اإلسالمي‬
‫يتحول من عقل متنور ومبدع ومنفتح على كل االختالفات واالجتهادات إلى عقل منكفئ‬
‫على نفسه منغلق ضمن مبادئ ومرجعيات اتجاه مذهبي فقهي معين‪ ،‬ويقصي في الوقت‬
‫ذاته أي اتجاه آخر كان علميا أو فلسفيا ‪ ،‬بل وحتى من المذاهب الفقهية األخرى‪.‬‬
‫من هنا يذهب محمد أركون إلى تبني أحدث المناهج العلمية في العلوم اإلنسانية‬
‫واالجتماعية في ممارسة الحفر والتفكيك والنقد على هذا العقل "نطبق على دراسة اإلسالم‬
‫المنهجيات واإلشكاليات الجديدة نقصد بذلك تطبيق المنهجيات واألفاق الواسعة للبحث في‬
‫تاريخية وألسنية وسميائية داللية وأنثرويولوجية فلسفية ثم ينبغي عن الشروط االجتماعية التي‬
‫تتحكم بإنتاج العقول وإعادة إنتاجها كل ذلك بغية معالجة نواقض تاريخ األفكار الخطي‬
‫المجرد ومخاطره(‪ ،)1‬ويعود هنا محمد أركون إلى تلك المرحلة التاريخية من الحضارة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪66‬‬
‫‪103‬‬
‫اإلسالمية حيث شهدت ذلك اللقاء الفكري بين الفكر اإلسالمي والفكر اليوناني من خالل‬
‫حركة الترجمة والتي ازدهرت خاصة في عهد الخليفة المأمون‪ ،‬والتي وضعت في يدي‬
‫المفكرين المسلمين النصوص الكبرى المؤسسة للفكر اليوناني العقالني‪ ،‬ترافق ذلك خاصة‬
‫مع نهضة فكرية واقتصادية في عاصمتي الحاضرة اإلسالمية بغداد في الشرق وقرطبة في‬
‫الغرب‪ ،‬برز من خاللها مفكرين عقالنيين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والتوحيدي‬
‫وابن مسكويه‪ ،‬وقد واجهوا تنافسا بل صراع ومن الكندي مع االتجاه الفقهي الديني‪ ،‬أو ما‬
‫يسميه أركون العقل التكراري الذي يكتفي بكتب الحديث واألصول وكتب التفسير‪ .‬ولعل نكبة‬
‫ابن رشد وصراعه المرير مع الفقهاء لخير دليل على ذلك‪ ،‬لقد كان ذلك بمثابة النكسة التي‬
‫أصابت العقل اإلسالمي العقالني‪ ،‬بعد مرحلة تميزت باإلبداع والنقاشات والمناظرات العلمية‬
‫واالنفتاح على الثقافات األخرى‪ ،‬لقد سيطر العقل الفقهي التكراري في النهاية على الحياة‬
‫الفكرية في الحضارة اإلسالمية ومنذ القرن الخامس عشر عقل يحارب كل حرية وإبداع عقلي‬
‫منغلق على ذاته وعلى تراثه يعيد إنتاج نفسه‪ "،‬وبالتالي فال عجب في أننا نتخبط اليوم في‬
‫ظالم بهيم أو عجز رهيب فنحن مضطرون لالشتغال على جهتين دفعة واحدة جبهة إحياء‬
‫الصلة بالتراث الفلسفي العقالني‪ ....‬وجهة استدراك التأخر المريع بالقياس إلى الحضارة‬
‫األوربية (مسافة التفاوت التاريخي تتراوح بين ثالثة مائة وأربعمائة سنة"(‪.)1‬‬
‫يذهب محمد أركون إلى دارسة العقل اإلسالمي الكالسيكي أو الفقهي دارسة تحليلية‬
‫‪L’hisotrité de la‬‬ ‫تركز على تاريخيته‪ ،‬حيث يقول "ولهذا السبب تحدثت عن تاريخية‬
‫‪ raison‬أق صد بالطابع المتغير والمتحول للعقل وبالتالي المتغير للعقالنية المنتجة عن‬
‫طريق هذا العقل هذا هو في نهاية المطاف نقدي للعقل اإلسالمي(‪ ،)2‬فمفهوم أركون للعقل‬
‫هو تلك الملكة الغير متعالية على التاريخ واشتراطاته والغير مطلقة حيث ال تستند إلى أية‬
‫مرجعية مقدسة‪ ،‬فالعقل التاريخي ال يشتغل تحت غطاء المطلق والثابت بل النسبي والمتغير‪،‬‬
‫بل آليات خاضعة للتفكيك والنقد والحفر ألن العقل في النهاية ظاهرة بشرية نسبية ال تخرج‬
‫عن نطاق الظروف الثقافية والتاريخية واالجتماعية واالقتصادية لمرحلة ما من مراحل تطور‬
‫العقل‪" ،‬فالعقل ليس شيئا مجردا قابعا في الهواء وإنما هو شيء محسوس ومؤطر بشكل‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ :‬نقد العقل الديني – مصدر سابق ذكره – ص‪.288‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ :‬الفكر االسالمي نقد واجتهاد –مصدر سابق ص ‪.234‬‬
‫‪104‬‬
‫جيد‪ .‬العقل ليس جوه ار يخرج عن كل تاريخياته وكل مشروطيته فللعقل تاريخه أيضا وكل‬
‫واحد من هذه العقول المذكورة مرتبط بمرحلة معينة من مراحل التاريخ بكل معطياتها‬
‫وأدواتها‪ ،‬إنه مرتبط بالبيئة والمجتمع والحالة التطورية لألنظمة الثقافية المعرفية السائدة في‬
‫زمن كل مفكر ‪ ...‬فالعقل اإلسالمي(ال) يقبع خارج الزمان والمكان وإنما هو شيء مرتبط‬
‫بحيثيات وظروف محددة تماما(‪ ،)1‬وهو ما يؤكده الجابري " أي ارتباطه بالثقافة التي يتحرك‬
‫داخلها الشيء الذي ينزع عنه الصيغة االطالقية"(‪.)2‬‬
‫أي أن أركون يؤكد أن لكل مرحلة تاريخية معينة ظروف واشتراطات تؤثر في العقل‬
‫اإلسالمي وفي المفكرين وبالتالي في إنتاجهم الفكري‪ ،‬فلكل مرحلة تاريخية عقلها الخاص‪،‬‬
‫يخضع للظروف والبيئة الثقافية واالجتماعية والسياسية السائدة‪ ،‬فضال عن الصراعات‬
‫األيديولوجية والفكرية‪ ،‬وهذا ما يسمه أركون بأنسنة العقل‪ ،‬يعني عدم التعامل مع "العقل‬
‫كأيقونة مقدسة أو هوية ثابتة ‪.‬فيما هو مصطلح أو مفهوم أو نظام أو معيار‪ ،‬يجري اختراعه‬
‫أو تركيبه أو بنائه أو االتفاق بشأنه‪ ،‬بقدر ما هو سياق نصوصي أو تشكيل خطابي أو‬
‫ترتيب لغوي "(‪.)3‬وهذا ما يسمح بالتعامل مع العقل اإلسالمي بشكل حر من خالل نقد مبادئه‬
‫الماورائية المقدسة والغيبية والنصوص المقدسة المؤسسة للرؤى التي سيطرت طويال على‬
‫ساحة الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وهذا ما يسميه أركون بالعقل االستطالعي الذي قدمه كبديل في‬
‫مشروعه الفكري للعقل الفقهي المنغلق على ذاته مقصيا كل فكر مختلف‪ ،‬ال يؤمن بالتعايش‬
‫بين مختلف الثقافات واألجناس‪.‬‬
‫‪-4‬العقل االستطالعي المستقبلي االستكشافي‪:‬‬
‫العقل االستطالعي هو عقل المستقبل‪ ،‬الذي يقطع مع كل العقول الكالسيكية السابقة‬
‫بأشكالها الفقهية والالهوتية األصولية والدينية التي تتموقع داخل سياجات دوغمائية شمولية‬
‫دينية كانت (إسالمية ‪ ،‬مسيحية أو يهودية) أو أيديولوجية (علمانية أو لبرالية أو يسارية )‪،‬‬
‫إنه عقل تطلعي حداثي‪ ،‬أي ينطلق من منجزات الحداثة الغربية في مناهجها العلمية‬
‫وتصوراتها العقالنية ورؤاها المنفتحة على التأويل ‪ ،‬الحفر والتفكيك منطلقا‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ :‬المرجع نفسه ‪،‬ص ‪.233‬‬


‫‪ -2‬محمد عابد الجابري ‪ :‬العقل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت لبنان – ط ‪ – 1996 – 5‬ص ‪26‬‬
‫‪ -3‬علي حرب ‪ :‬أزمنة الحداثة الفائقة ‪ ،‬اإلصالح‪ ،‬االرهاب‪ ،‬الشراكة ‪،‬المركز الثقافي العربي ‪ ،‬دار البيضاء المغرب نط ‪، 1‬‬
‫‪ – 2005‬ص ‪.134‬‬
‫‪105‬‬
‫أركون يعمد إلى توظيف مصطلح العقل االستكشافي أو االستطالعي الحر عوضا عن عقل‬
‫ما بعد الحداثة‪ ،‬حيث يقول في هذا الصدد أن‪ " :‬ضمن هذا المنظور الموسع باستمرار نجد‬
‫أن التحدث عن ما بعد الحداثة لم يعد كافيا ولذا فإني أفضل عليه مصطلح " العقل الجديد‬
‫المنبثق الصاعد "ولحسن الحظ فإن هذا المصطلح أي مصطلح ما بعد الحداثة مر بسرعة‬
‫ولم يعد مهيمنا اآلن وطاغيا كما وصل لبضع سنوات في السابق‪ ...‬ألن مصطلح ما بعد‬
‫الحداثة يسجننا داخل مسار واحد للفكر أو للعقل وهو المسار األوربي أو الغربي‪ ....‬ولهذا‬
‫السبب فإني لم أذعن للموضة العابرة ولم أعتمد مصطلح ما بعد الحداثة وإنما اخترعت مكانه‬
‫مصطلحا جديدا وهو العقل الجديد المنبثق الصاعد‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫الحداثة خطاب إنساني بالدرجة األولى وال تختص بعرق معين‪ ،‬وهنا يعود إلى اللحظة‬
‫الحداثية المبكرة والتدشينية في الفكر اإلسالمي اإلنساني مع ابن مسكويه والجاحظ والتوحيدي‬
‫وابن رشد‪ ،‬والذين تمكنوا من تأسيس التفكير التنويري الحداثي من خالل صهرهم مختلف‬
‫االختالفات والثقافات في عصرهم في نطاق ايبستمي التفكير اإلسالمي‪ .‬ورغم أن هذه‬
‫الموجة لم تستمر نظ ار النتصار االتجاه الفقهي المتزمت على االتجاه العقالني الحر‪ ،‬فإن‬
‫اللحظة األوربية أعادت إحياء هذه اللحظة اإلنسانية والحداثية‪ ،‬وهو منهجيات العقل الجديد‬
‫الذي يريد أن ينبثق ولكي نعرف مدى مصداقية هذا العقل من خالل تطبيقه على تراث آخر‬
‫غير التراث األوربي‪ .‬إن العقل ما يدعونا محمد أركون لالستفادة منها‪ ،‬ويرى أركون "أن‬
‫ساحة الفكر اإلسالمي مالئمة جدا لكي نطبق عليها الذي نحلم بظهوره هو عقل تعددي‬
‫متعدد األقطاب متحرك‪ ،‬مقارن‪ ،‬انتهاكي‪ ،‬ثوري‪ ،‬تفكيكي‪ ،‬تركيبي‪ ،‬تأملي ذو خيال واسع‪،‬‬
‫شمولي إنه يهدف إلى مصاحبة أخطار العولمة ووعودها في كل السياقات الثقافية الحية‬
‫(‪)2‬‬
‫حاليا (أي في كل الثقافات البشرية المعاصرة)‬
‫العقل االستطالعي هو عقل منبثق‪ ،‬يستقرء ويستكشف الذات اإلسالمية من خالل‬
‫لينزع عنها هالة‬ ‫الغور في المساحات المسكوت عنها والمناطق المحرمة حف ار وتفكيكا‬
‫التقديس والحجب‪ ،‬التي تضمن للعقل الكالسيكي السلطة والمشروعية والتأثير المخدر في‬
‫المخيال الجماعي‪ ،‬وبالتالي ترسيخ الجمود واإلقصاء والتعصب الفكري الذي ميز الثقافة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪:‬نحو نقد العقل االسالمي –مصدر سابق ذكره – ص ‪33‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪:‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل – مصدر سابق ذكره – ص ص ‪329 – 328‬‬
‫‪106‬‬
‫اإلسالمية منذ القرن الخامس هجري‪ ،‬وهو في ذلك يعمل ناقدا في االتجاهين‪ ،‬للذات‬
‫معتمدا في ذلك التعدد والتنوع والثراء‬
‫ً‬ ‫الالسامية من جهة وللذات الغربية من جهة أخرى‬
‫المنهجي والمعرفي الذي توفره له المناهج األلسنية واألنثروبولوجية والنفسية والفلسفية‬
‫المعاصرة‪ ،‬فالفكر االستطالعي المستقبلي المنبثق الحر يمارس النقد المزدوج للعقل الالهوتي‬
‫اإلسالمي وللعقل الحداثي واالستشراقي الغربي ويهدف إلى تفكيك كل السياجات الدوغمائية‬
‫التي تكبل العقل وتمنعه من االشتغال بحرية‪ ،‬إنه "يكافح على جميع الجبهات وإنه ال ينحاز‬
‫للغرب أو الشرق‪ ....‬بل إ نه ينتمي إلى مذهب االتهام الفلسفي المنهجي البناء هذا المذهب‬
‫الذي يشك في كل ما ينطق به العقل ويحاول تأسيسه كمذهب ال مذهب سواه أو بعده‬
‫يفرضه اإلنسان بالقوة على اإلنسان(‪.)1‬‬
‫العقل في منظور محمد أركون ظاهرة إنسانية ال تنحاز إلى جهة جغرافية كالغرب أو‬
‫الشرق وال ينتمي إلى طائفة دينية أو عرقية‪ ،‬بل يعمل من خالل إستراتيجية الشك المنهجي‬
‫(الغزالي وديكارت)في كل المسلمات والمقدسات و المبادئ القبلية واألفكار الشمولية واألحكام‬
‫اإلطالقية التي عملت على تحنيط العقل كصنم غير قابل للنقد والتفكيك‪ ،‬رسخت ثقافة‬
‫التقديس الممنوع التفكير فيه‬
‫أركون وهو يقوم بخلع القداسة على النصوص المؤسسة للتراث اإلسالمي تلك‬
‫النصوص التي تعطي مصداقية للسلطة القائمة وتبرير سلوكها‪ ،‬يخلع ذلك وبجرأة في طرح‬
‫األسئلة والتحليل والنقد "يتحسر على التقليد اإلنساني الوسيط التي كانت تسود فيه حرية‬
‫التفكير ويذهب إلى إعادة االعتبار لبعض المواقف التراثية كنظرية القرآن الكريم لدى‬
‫المعتزلة"(‪ ،)2‬ويذهب إلى أن التراث اإلسالمي المستنير قد شهد علمانية ‪ ,‬أي الفصل بين ما‬
‫هو روحي وما هو زمني‪ ،‬و أن السلطة الدينية والزمنية كانت ممثلة في الخليفة وليس اإلمام‪،‬‬
‫وذلك منذ بواكيره األولى‪ ،‬إلى عصر النبوة ودولة المدينة "حيث يلتبس الديني بالسياسي‪.‬‬
‫ويحلل المثلث األنثروبولوجي (العقل ‪ -‬المجتمع ‪ -‬السلطة‪/‬السيادة العليا) كما صاغه أركون‪،‬‬
‫جيدا ‪ -‬يؤكد أركون ‪ -‬يجب إدخال‬ ‫هذه العالقة بكيفية واضحة‪....‬وأنه لفهم هذه العالقة ً‬
‫العامل التاريخي في الحسبان‪ ،‬والعمل على توضيح الفرق بين اإلمام والخليفة والسلطان‪،‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪:‬قضايا في نقد العقل الديني – مصدر سابق – ص ‪9‬‬


‫‪ -2‬ولد أباه السيد ‪ :‬أعالم الفكر العربي – الشبكة العربية لألبحاث والنشر – بيروت لبنان – ط ‪ – 2010 – 1‬ص ‪143‬‬
‫‪107‬‬
‫دائما تحل بالوسائل الدموية ال‬
‫وكيف أن مسألة الخالفة أو السلطة في اإلسالم كانت ً‬
‫بالطرق المشروعة‪ ،‬لذا يجب تجاوز الفهم العامي لعالقة الدين بالسياسة باعتبارهما إطاران‬
‫مختلفان‪ ،‬والدعوة إلى تحليل تاريخي يقول بوجود علمنة في اإلسالم من دون القفز على‬
‫الدين"(‪.)1‬‬
‫العقل الذي يهدف إليه أركون هو العقل االستكشافي الذي يسعى للبحث عن الحقيقة‬
‫من خالل التحليل‪ ،‬النقد والتمحيص‪ ،‬واستغالل مختلف المناهج والتخصصات خاصة في‬
‫حقل العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬للتخلص من الرؤية العقالنية األحادية لالنخراط في‬
‫عقالنية قائمة على اختالف الرؤى واألفكار‪ ،‬أي فك أسر العقل اإلسالمي السجين بين‬
‫مختلف السياجات الدوغمائية المسلمات غير القابلة للنقاش‪ ،‬لينخرط في حركية الفكر‬
‫العالمي الحر‪ .‬التي دشنت عصر التنوير األوروبي‪ ،‬أي إحداث قطيعة مع العقل الكالسيكي‬
‫الديني والدوغمائي‪" .‬فالعقل االستطالعي المستقبلي الذي أتبناه محكوم بالعمل في ظل التيه‬
‫والتشرد والتردد واالشتباه المستمر بمواقفه وإنجازاته فإن عليه واجب توضيح كل مسلماته‬
‫الضمنية لكي يخضعها للنقاش(‪ ،)2‬وهو ما ُيمكن العقل من التحرر من القيود اإلبستمولوجية‬
‫للعقل الدوغمائي من خالل الكشف عن الظروف التاريخية المحيطة بالحقيقة التي يدعي هذا‬
‫العقل امتالكها واستثمار منجزات فلسفة اللغة المعاصرة خاصة تقنيات التأويل للبحث عن‬
‫المعاني الثاوية خلف حجب السلطة وقداسة النص‪ ،‬فالعقل االستطالعي يعتمد "نظرية‬
‫التنازع بين التأويالت ‪ conflits d'interprétation‬بدال من الدفاع عن نظرية واحدة‬
‫في التأويل واالستمرار فيها(‪ ،)3‬أركون يرمي إلى إحداث ثورة في النقد الموجه للتراث‬
‫اإلسالمي من إحداث رؤية جديدة متحررة من كل القيود اإليديولوجية واللغوية والدينية وهذا‬
‫ما يؤكده في قوله "إن خياري االستراتيجي األول يتمثل في قلب الساحة الدينية بالصيغة‬
‫الموجودة عليها حاليا‪ ....‬ولكن عملية القلب أو االنقالب التي أقوم تشمل أيضا العلوم‬
‫االجتماعية الوضعية التي تفرض تقسيمات أو تأويالت ا ختزالية للظاهرة الدينية‪ ....‬وينبغي‬

‫محمد‬ ‫الراحل‬ ‫المفكر‬ ‫عند‬ ‫الديني‬ ‫النص‬ ‫قراءة‬ ‫خليقي‪:‬‬ ‫المجيد‬ ‫‪-1‬عبد‬
‫أركون‪http://maaber.50megs.com/issue_july13/spotlights3.htm:‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪:‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ‪ -‬مرجع سابق ذكره – ص‪92.‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪:‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪108‬‬
‫على هذا االنقالب المعرفي أن يصل إلى ممارسات الالهوتيين كما إلى ممارسات فالسفة‬
‫الدين لكي يؤثر عليهم أيضا(‪.)1‬‬
‫خالصة‪:‬‬
‫يعمل محمد أركون في مشروعه لنقد العقل اإلسالمي من خالل التفكيك والتأويل‬
‫آلليات اشتغاله‪ ،‬والحفر في طبقات العقل اإلسالمي للكشف عن إستراتيجيته المعرفية‬
‫والفقهية‪ ،‬وذلك بإعادة النظر في البداهات والمسلمات التي بني عليها هذا العقل‪ ،‬هذا النقد‬
‫سيتسم بالشمولية والعمق في التحليل بما يتجاوز كل قومية أو انغالق عقدي أو إثني أو‬
‫لغوي‪ ،‬لذلك يعمد محمد أركون إلى اجتراح مفهوم العقل االستطالعي المنبثق الذي يوظف‬
‫مختلف المناهج التاريخية‪ ،‬االنتربولوجية‪ ،‬النفسية‪ ،‬اللغوية والفلسفية المعاصرة‪ .‬وهو ما يسميه‬
‫باإلسالمي ات التطبيقية الساعية لفهم النصوص الدينية والتحرر من السياجات الدوغمائية التي‬
‫منعت العقل من ارتياد مناطق ظلت بعيدة عن االستكناه المعرفي والفكري واقتحام مساحات‬
‫ظلت محرم التفكير فيها ألزمنة عديدة‪.‬‬
‫يرى محمد أركون إذا أردنا إحياء علوم المسلمين وإحداث نهضة جدية في الفكر‬
‫اإلسالمي يجب إ حداث قطيعة مع األطروحات الكالسيكية للعقل اإلسالمي التي تضع‬
‫سياجات دوغمائية وتضفي هالة من التقديس على النص وعلى العقل ‪-‬نتاج هذا النص ‪-‬‬
‫نفسه‪ ،‬وتتعالى على التاريخ والواقع‪ ،‬أساسها العقل الفقهي الذي يسعي لتبرير الواقع القائم بل‬
‫واإلبقاء عليه للحفاظ على منافع أيديولوجية واجتماعية‪ ،‬لذلك يعمد إلى اجتراح مفهوم العقل‬
‫االستطالعي المنبثق الذي يوظف مختلف المناهج التاريخية واالنتربولوجية والنفسية واللغوية‬
‫والفلسفية المعاصرة كالحفر والتفكيك‪ ،‬ما يسميه باإلسالميات التطبيقية لفهم النصوص الدينية‬
‫والتحرر من القداسة التي حرمت العقل من ارتياد مناطق ظلت بعيدة عن االستكناه المعرفي‬
‫والفكري واقتحام مساحات ظلت محرم التفكير فيها‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪:‬المرجع نفسه ص ‪92.‬‬


‫‪109‬‬
‫ثانيا‪ :‬اإلستشراق ودوره في تشكيل العقل اإلسالمي المعاصر‪:‬‬

‫بداية يجب تحديد اتجاه وتصور االستشراق على أنه دراسة اهتمت بالشرق وبعلومه‪،‬‬
‫خاصة الحضارة اإلسالمية من طرف مفكرين ليسوا من الشرق إنما هم مفكرون ومؤلفون من‬
‫الغرب عمدوا لدراستها بنية مبيته ترمي لتحقيق أهداف معينة‪ .‬هذا ما لفت انتباه المفكرين‬
‫والعلماء المسلمين إلى أن عمل المستشرقين لم يكن علما جادا ولم يرقى لدراسة نقدية عميقة‬
‫لإلسالم والتراث اإلسالمي بل على العكس تماما كانت دراسات المستشرقين سطحية وتخفي‬
‫خبثا ومك ار وتآم ار واضحا عكس ما كانت تبديه وتزعمه من خالل اشتغالهم وانشغالهم‬
‫ولوازمهم لواقع الشرق والتراث اإلسالمي هذا ما دفع الباحثون والمفكرون المسلمون لمحاولة‬
‫بحث ومعرفة مصطلح االستشراق والوقوف على األدوات والمناهج التي وصفوها في تلك‬
‫البحوث والدراسات‪ ،‬ألن االستشراق "في دراسته لإلسالم ليس علما بأي مقياس علمي وإنما‬
‫معينة عن اإلسالم‬
‫هو عبارة عن "إيديولوجية" خاصة يراد من خاللها ترويج تصورات ّ‬
‫بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق أو مرتكزة على أوهام أو‬
‫افتراءات"‪.1‬‬

‫‪-1‬الدالالت اللغوية واالصطالحية لالستشراق‪:‬‬

‫االستشراق لغويا "قد تكون كلمة منحوتة من مادة شرق التي لها أصل في اللغة حيث‬
‫‪2‬‬
‫يقال شرقت الشمس شرقا وشروقا إذا طلعت و شرق المكان شرقا إذا أشرقت عليه الشمس"‬

‫غير أنه يجب أن نتفطن "أن الكلمة التي نبحث عن مفهومها اللغوي لم ترد في المعاجم‬
‫العربية المختلفة"‪ ،‬غير أن هذا ال يمنع الباحث من الوصول الى معناها الحقيقي استنادا‬

‫‪ 1‬أحمد عبد الرحيم السايح‪ ،‬االستشراق في ميزان نقد الفكر االسالمي‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪،‬ط‪ ،1996 -1‬ص‬
‫‪15‬‬
‫‪2‬المعجم الوسيط‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،480‬ط‪ ،1972‬مجمع اللغة العربية (‪)Harcoun‬‬
‫‪110‬‬
‫إلى قواعد الصرف وعلم االشتقاق حيث يبدو أن معنى ( استشرق) أدخل نفسه في أهل‬
‫الشرق وصار منهم"‪ ،1‬ما يدل على أن مصطلح االستشراق" ليست عربية أصلية بل هي‬
‫مولدة عصرية أكدت على ذلك بعض المصادر اللغوية الحديثة‪ ...‬وكما هي مولدة عصرية‬
‫‪orientaliste‬‬ ‫في اللغة العربية فهي كذلك في اللغة األجنبية فقد ظهرت كلمة مستشرق‬
‫في إنجلت ار سنة ‪1779‬م وكلمة ‪ orientaliste‬في فرنسا سنة ‪ 1799‬ثم أدرجت كلمة‬
‫االستشراق في قاموس األكاديمية الفرنسية ‪ DicoleFacademie Française‬عام‬
‫‪2‬‬
‫‪1938‬م "‬

‫أ‪ -‬اصطالحا‪:‬‬

‫أما اصطالحا فكلمة"مستشرق لها معنى عام و معنى خاص وفي معناها العام تطلق‬
‫على عالم غريب يشتغل بدراسة الشرق كله أقصاه ووسطه وأدناه في لغاته و آدابه و‬
‫المعنى الخاص فيراد به الذي يعنى بالدراسات الغربية المتعلقة‬ ‫حضارته و أديانه – أما‬
‫بالشرق اإلسالمي في لغاته و آدابه و تاريخه و عقائده و تشريعاته و حضارته بوجه عام و‬
‫هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي اإلسالمي عندما يطلق لفظ‬
‫استشراق و مستشرق"‪.3‬‬

‫هناك تعريف آخر لالستشراق وهو" طلب معرفة ودراسة اللغات واآلداب الشرقية ويطلق لفظ‬
‫المستشرق على الدارس للغات الشرق وفنونه وحضاراته وعليه فاالستشراق دراسة يقوم بها‬
‫غير الشرقيين لتراث الشرق"‪. 4‬‬

‫هناك تعريف آخر لالستشراق والذي اقترحه أحمد عبد الحميد غراب ورأى أن فيه‬
‫شمولية ودقة عن أي تعريف آخر يقول فيه "إن االستشراق دراسات أكاديمية يقوم بها‬
‫عقيدة وثقافة وشريعة‪،‬‬ ‫غربيون من أهل الكتاب لإلسالم والمسلمين من شتى الجوانب‬

‫‪ 1‬د‪ :‬أحمد سيمايلوفيتش‪ ،‬فلسفة االستشراق و اثرها في األدب العريب المعاصر‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،1998 ،‬دط‪،‬‬
‫ص‪22-21‬‬
‫‪ 2‬عبد المنعم فؤاد‪ ،‬من افتراءات المستشرقين على اصول العقيدة في االسالم‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪.16-15‬‬
‫‪ 3‬عبد المنعم فؤاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ 4‬سعد المرصفي‪ ،‬المستشرقون و السنة‪ ،‬مؤسسة الريّان‪ ،‬بيروت لبننا‪ ،‬دط‪،‬د س‪ ،‬ص‪.09‬‬
‫‪111‬‬
‫وتاريخا وتنظيما‪ ...‬بهدف تشويه اإلسالم وتشكيك المسلمين فيه وفرض التبعية للغرب عليهم‬
‫ومحاولة تبريرها عن طريق نظريات ّتدعي العلمية والموضوعية"‪. 1‬‬

‫هناك عدة تعاريف ترى بأن االستشراق فكر غربي في نظرته وتعريفه لألسماء واألحداث‬
‫وكيفية التعامل معها وهذا ما ذكره بعض المفكرين على أن "االستشراق عبارة عن دراسة‬
‫أكاديمية يقوم بها الغربيون في الدول االستعمارية للشرق بشتى جوانبه التاريخية والثقافية‬
‫وأديانه ولغاته ونظمه االجتماعية والسياسية وثرواته وإمكاناته من منطلق التفوق العنصري‬
‫والثقافي على الشرق وبهدف السيطرة عليه لمصلحة الغرب وتبرير هذه السيطرة بدراسات‬
‫وبحوث ونظريات تتظاهر بالعلمية والموضوعية"‪. 2‬‬

‫أما إذا أردنا تحديد مفهوم المستشرق فيعرفه أنور عبد المالك في دراسته فيقول‪" :‬إنني‬
‫أعني بالمستشرق أولئك الذين يدرسون الشرق األدنى إذ أن فكر الهند والصين هو بالتأكيد‬
‫فكر ذو أهمية رئيسية لمعرفة سبل الذهن‪ ...‬لكنه ليس على اي صلة هذا من حيث التعريف‬
‫العام للمستشرق"‪.3‬‬

‫‪ -2‬نشأة االستشراق‪:‬‬

‫لقد ِاعتبر األوروبيون المسيحيون منذ العصور الوسطى المسلمين أعداء لهم‪ .‬وزاد على‬
‫هذا انتشار اإلسالم وتوسعه على حساب المسيحية حتى في أوروبا نفسها ما تسبب في‬
‫وقوع خالف حضاري كبير بين الشرق المسلم مع شمال إفريقيا وبين أوربا المسيحية وأثار‬
‫مخاوف رجال الدين المسحيين وبالتالي دفعهم هذا إلى محاولة دراسة اإلسالم والحضارة‬
‫اإلسالمي ة لمواجهة هذا التوسع ومحاولة الحد من تقدمه بواسطة التنقيب عن الثار المادية‬
‫والمعنوية التي احتوتها الحضارة اإلسالمية ومعرفة معاني ودالالت خطابها الفكري وكشف‬
‫الغموض الذي اعترى الدين اإلسالمي منذ عصور بسبب التبجيل والتقديس إال أن هذه‬
‫الدراسة لم يكن الغرض منها نبيل بل كانت من أجل إيجاد طرح يتمكن من خالله المفكرون‬
‫األوروبيون ورجال الدين المسيحيين من مجابهة ازدهار اإلسالم والحضارة اإلسالمية‪ .‬ألن‬

‫‪ 1‬عبد المنعم فؤاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫‪ 2‬سعدون محمد السموك‪ ،‬الوجيز في علم االستشراق‪ ،‬دار المناهج اللنشرو التوزيع‪ ،‬ط‪ ،1،2003‬ص‪.75‬‬
‫‪ 3‬محمد إبراهيم الفيومي‪ ،‬االستشراق رسالة االستعمار‪ ،‬ملتزم الطبع و انشر‪ ،‬دار الفكر العربي‪،1993 ،‬د ط‪ ،‬ص‪152‬‬
‫‪112‬‬
‫هؤالء المستشرقين في حقيقة األمر كانوا قساوسة هدفهم التنصير بالدين المسيحي والتصدي‬
‫لإلسالم‪ .‬أما فيما يخص تحديد الفترة الزمنية لالستشراق فكان هذا محل اختالف بين‬
‫المفكرين والمؤرخين ونأخذ على سبيل المثال المفكر محمد البهي الذي يرى‪" :‬أن االستشراق‬
‫بدأ في بعض البلدان األوروبية في القرن الثالث عشر ميالدي على الرغم من اعترافه‬
‫محاوالت فردية قبل ذلك ثم يؤكد أن المؤرخين يكادون يتفقون على أن هذا العلم انتشر‬
‫‪1‬‬
‫جدية بعد اإلصالح الديني الذي قام به مارتن لوثر وغيره في أوربا"‬
‫بصورة ّ‬

‫ما يؤكد ويبرهن هذا القول‪ -‬أحمد الشرباصي الذي يرى أن بداية فترة االستشراق "بدأ تقريبا‬
‫في القرن الثالث عشر ميالدي حيث انبثق من الحروب الصليبية التي لم تكن سوى نقطة‬
‫‪2‬‬
‫التحول في تاريخ الشرق"‬

‫أما االسكندراني رأى في تحديد زمن االستشراق أن بدايته كانت في "القرن العاشر‬
‫ميالدي حينما أدرك الغرب تلك المعجزة الحضارية التي شادها العرب فاندفعوا إليها ليتعلموها‬
‫ويتسلحوا بها ويستفيدوا منها فأخذوا يدرسون لغتها وآدابها ويترجمون كتبها وينقلون علومها‬
‫الى بالدهم وكان من بدأ بذلك رجال الدين ثم تالهم غيرهم من أبناء جلدتهم"‪ .3‬وهذا تماما ما‬
‫حدث في العصر الوسيط حيث عمد "الغربيون بترجمة مؤلفات علمية من العربية الى‬
‫الالتينية وابتداء من القرن السادس عشر بدأ الفكر الغربي يزدهر ويتسع ويصبح أكثر‬
‫إشعاعا وعلى النقيض من ذلك كان الفكر العربي اإلسالمي قد بدأ بالتراجع واالنحصار‬
‫‪4‬‬
‫ليصبح فك ار تابعا"‬

‫إال أن البعض يرى أن البداية األولية والفعلية لفكر االستشراق تزامن "بصدور قرار‬
‫مجمع فيينا الكنسي في عام ‪ 1312‬بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من‬
‫الجامعات األوروبية‪ ،‬ويقول الدكتور( حمدي زقزوق) على أن هناك استشراق رسمي يدل‬
‫على أن هناك استشراق غير رسمي قبل هذا التاريخ هو على حد تعبير الدكتور (محمد‬

‫‪ 1‬أحمد سمايلوفيتش‪ ،‬فلسفة االستشراق وأثرها في األدب العربي المعاصر‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة مصر‪ ،‬د ط‪،‬‬
‫‪ ،1995‬ص‪54‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫تونس‪ ،‬عنوان محمد أركون و مواقفه من االستشراق‪ -‬االستشراق و عوائقه المعرفية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪4‬رمضان بن رمضان‪ ،‬باحث من‬
‫‪113‬‬
‫البهي) بمثابة محاوالت فردية ويكاد المؤرخون يجمعون على أن القرن الثالث عشر بداية‬
‫رسمية ثم انتشر بصفة جدية بعد فترة ما يسمى في التاريخ األوروبي عهد اإلصالح‬
‫‪1‬‬
‫الديني‪".‬‬

‫من خالل كل ما سبق يمكننا القول أنه ال يوجد اتفاق بين الباحثين على فترة معينة‬
‫ٍ‬
‫تحديد زمني بإجماع كل األطراف‬ ‫لبداية االستشراق وأنه من الصعب أن نكون دقيقين في‬
‫للبداية الحقيقية له بوضع تاريخ معين للحظة األولى التي تجلى فيها ألن هناك من رأى أن‬
‫االستشراق انبثق في القرن العاشر الميالدي بعد تطور الحضارة األندلسية اإلسالمية وقيام‬
‫المفكرين بعملية ترجمة العلوم من اللغة العربية إلى اللغة الالتينية في القرن السادس عشر‬
‫ومنهم من رأى أن االستشراق رافق الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر الميالدي‪.‬‬
‫ومنهم من يؤرخ لبدء وجود االستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فينا الكنسي‬
‫عام‪1312‬بتأسيس عدد من كراسي األستاذية في العربية واليونانية والعبرية‪.‬‬

‫‪ - 3‬دوافع االستشراق‪:‬‬

‫لنقل أن هناك العديد من األسباب التي أدت إلى ظهور االستشراق منها عوامل‬
‫سياسية واقتصادية واستعمارية ودينية وعلمية نقدم منها ثالثة دوافع هي‪:‬‬

‫أ‪ -‬الدوافع الدينية لالستشراق‪:‬‬

‫بما أن معظم المستشرقين كانوا رهبانا وقساوسة وبما أن المسيحية في أوربا خاصة‬
‫اعتبرت اإلسالم عدوها اللدود منذ العصور الوسطى‪ .‬فإن الهدف من تردد المستشرقين‬
‫المستمر على بلدان المسلمين وأمصارهم وانشغالهم في كنائسهم ومعاهدهم ومدارسهم بدراسة‬
‫الفكر اإلسالمي وكتب المسلمين كان التبشير والتنصير للديانة النصرانية ال غير التي لم‬
‫تستطع الوقوف في وجه المد اإلسالمي الرهيب والعجيب خاصة بعد ما شهدته الحضارة‬
‫اإلسالمية في األندلس من ازدهار علمي وتطور فكري برز في مختلف المجاالت وبدت‬
‫أوطان المسلمين أنذاك تحتل الريادة العلمية التي استقطبت طالب العلم والمفكرين ما حز‬

‫‪ 1‬عبد المنعم فؤاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪20-19‬‬


‫‪114‬‬
‫في نفوس رجال الدين المسيحيين ودفعهم إلى التماس التلمذة على يد األساتذة المسلمين‬
‫واألخذ مما وصلوا إليه وحققوه من علوم وفنون ‪.‬حيث كان هدف هؤالء الظاهر هو االحتكاك‬
‫والنهل من مشارب الحضارية اإلسالمية ومنابعها من معاهد ومدارس وكتب إسالمية قيمة‬
‫شملت مختلف العلوم كالطب والفلسفة‪ .‬وأما هدفهم المضمر والمهم فهو التأسيس لخطاب‬
‫فكري يالمس الحضارة اإلسالمية عن قرب ويستكشف عمقها ليتمكن من إيجاد لغة يقنع بها‬
‫جمهوره بالعدول والتوقف عن االنبهار والدهشة من الدين اإلسالمي لذلك أتوا بكل حقد وعلى‬
‫مصممين وهمهم الوحيد الطعن في اإلسالم وتشويهه وتحريفه ليثبتوا ألتباعهم أن اإلسالم‬
‫دين ال يستحق كل هذا‪ .‬ولعل هذا الدافع الديني هو أساس توليد االستشراق الذي حاول‬
‫بواسطته رجال الدين المسيحيين والمفكرين األوروبيين اختراق التراث اإلسالمي بدراسته‬
‫ولزومه ثم تقديمه كقراءة خرافية أسطورية بتفسير األحكام اإلسالمية بطرح مغاير تماما‬
‫لمقاصده وتأويل نصوصه الدينية تأوال ال يقدم معناه الحقيقي‪ .‬من خالل "العصبية العمياء‬
‫التي أثارت رجال الكنيسة في شعوب أوروبا مفترين على المسلمين أبشع االفتراءات‬
‫محرضين النصارى أشد تحريض على تخليص مهد المسيح من أيدي الكفار أي‬
‫‪-‬المسالمين‪ -‬فكان جمهرة المقاتلين من جيوش الصليبين من هؤالء الذين أخرجتهم العصبية‬
‫الدينية من ديارهم عن حسن نية وقوة عقيدة الى حيث يالقون الموت والقتل والتشريد حملة‬
‫‪1‬‬
‫بعد حملة وجيش بعد جيش "‬

‫هذا الحقد كان واضحا وصريحا بالنظر للخلفية الدينية االنتقامية للمسيحيين من خالل‬
‫حروب االسترداد أو الحروب الصليبية السترداد القدس واألراضي المقدسة التي استولى‬
‫عليها المسلمين واالنتقام منهم بعد االضطهاد الذي لحق باألقباط في عهد الحاكم بأمر هللا‬
‫وهدم كنيسة القيامة التي تعتبر أقدس المواقع المسيحية إ ْذ كانت هذه المواجهات عبارة عن‬
‫سلسلة من الصراعات العسكرية ذات طابع ديني واكتشف من خاللها الصليبيين تلك‬
‫الحضارة الزاهرة وهذا التطور الزاخر بالفنون والعلوم وانبهروا بمبانيها وعمرانها ووقفوا على‬
‫براعة وقوة محاربيها واندهشوا من توسع مواطنهم اإلسالمية وانتشار دينهم‪ .‬وطبعا ترك ذلك‬
‫أث ار عميقا في نفوس الصليبيين ونقلوا كل ما رأوه في تقاريرهم ومراسالتهم وأخبارهم‪ .‬فبدى‬

‫‪1‬د‪،‬عبد الرحيم السايح‪ ،‬االستشراق في ميزان نقد الفكر اإلسالمي‪ -‬الدار المصرية اللبنانية القاهرة‪ ،‬ط‪1996 ،1‬‬
‫‪115‬‬
‫تأثرهم واضحا بهذا الدين الذي جذب األوروبيين إليه مرة أخرى‪ .‬وبطبيعة الحال لم يقف‬
‫رجال الدين المسيحي مكتوفي األيدي بل خططوا للوقوف في وجه هذا الخطر القادم من‬
‫الشرق واستنتجوا أن الحروب العسكرية لن تجدي نفعا فقرروا أن يتعلموا لغة أعدائهم كأداة‬
‫ليتمكنوا من خاللها اكتشاف خبايا هذا الدين وهذه الحضارة وعمدوا إلى دراسة التراث‬
‫اإلسالمي من خالل التردد على البلدان اإلسالمية والتنقل بين المكتبات اإلسالمية وترجمة‬
‫الكتب والمخطوطات القيمة والعلوم ‪.‬ونرجع لنقول أن هذا التحول نحو الساحة الفكرية‬
‫اإلسالمية يعتبر استشراق له أهداف غير شريفة تمثلت في محاولة االلتفاف حول المسائل‬
‫الفقهية والتأويالت النصية وإ عطائها تصور ذاتي سطحي بهدف تحريف المفاهيم الدينية‬
‫وإضعافها وإ عطاء تفسيرات خاطئة تمكنهم من رسم صورة سلبية عن اإلسالم وبالتالي‬
‫تمكنهم من وقف هذا االنتشار الرهيب لإلسالم في أوطانهم‪.‬‬

‫من هذا يتبين لنا "أن الدوافع الدينية بكل ما فيها من القوة واالندفاع كانت إحدى‬
‫األسباب الرئيسية لتعلم اللغات الشرقية عامة ولغة اإلسالم خاصة وظلت هذه اللغة بيت‬
‫القصيد في نشاط الرهبان ألسباب الدفاع والهجوم واالحتالل واالستغالل والحرب والسالم‬
‫والتبشير واالستعمار ومحاولة تعميد أهل القرآن و إذا فالسبب الرئيسي المباشر الذي دعا‬
‫األوروبيين إلى االستشراق هو سبب ديني بالدرجة األولى"‪ . 1‬وبالتالي نستنتج أن االستشراق‬
‫كان غايته األساسية رسم صورة مشوهة وغير مناسبة لإلسالم والوقوف في وجهه من خالل‬
‫تعاليمه مركزين على الغموض والتقديس الذي احتواه "ولقد تعاون المستشرقون النصارى مع‬
‫المستشرقين اليهود في دراساتهم حول الكتاب المقدس (أي العهدين الجديد والقديم) ثم في‬
‫دراسات حول اإلسالم والمسلمين لكي يتعرفوا سويا على ثغرات يمكن من خاللها بث الفرقة‬
‫والفتنة بين المسلمين وتشكيكهم في دينهم تمهيدا لردتهم عنه"‪2‬لقد انعكست مواقفهم وأهدافهم‬
‫الخبيثة المضمرة على قراءاتهم لإلسالم المجحفة من خالل أحكامهم الذاتية التي أخدت طابع‬
‫أيديولوجي ومن خالل إثارة البلبلة والجداالت الفارغة التي لم تؤسس لمفهوم صحيح وال‬
‫لتبرير مقنع حتى داخل جدران مدارسهم‪.‬‬

‫‪ 1‬أحمد سمايلوفيتش‪ ،‬فلسفة االستشراق واثرها في األدب العربي المعاصر‪ -‬دار الفكر العريب ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬د ط‪،‬‬
‫‪ ،1995‬ص ‪.54‬‬
‫د‪ .‬عبد المنعم فقؤ‪ ،‬من افتراءات المستشرقين على أصول العقيدة في اإلسالم‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪2.23‬‬

‫‪116‬‬
‫الدوافع االستعمارية لالستشراق‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬

‫إن كابوس التوسع اإلسالمي الحق رجال الدين المسيحي في أحالمهم ونغص‬
‫عيشهم فلم يجدوا له حال سوى التصدي له بكل ما أوتوا من قوة فتعمدوا دراسة الحضارة‬
‫اإلسالمية لتشويهها وتحريفها وبالتالي يتمكنوا من إعطاء تبرير مقنع يردون به على شعوبهم‬
‫وعلى أتباعهم بإجابات غير صحيحة عن اإلسالم وغير منطقية تحمل صورة عتيمة عنه‬
‫تمهد لحروب مشروعة عليه تستبيح من خاللها أوربا المسيحية أراضي وبلدان المسلمين‬
‫بمباركة الكنيسة‪ .‬هذه العملية الفكرية التي حدثت آنذاك كان هدفها استعماري الذي يمكننا‬
‫القول أن لالستشراق دافع استعماري تبنى في المرحلة األولى الدراسة والبحث من اجل إيجاد‬
‫لغة يتفق من خاللها الجميع على محاربة هذا الدين ومن اجل تبرير االقتتال باسم الدين‪"،‬وقد‬
‫نهج المستشرقون في األقطار المختلفة (المبدأ الميكيافيلي) الذي يقول الغاية تبرر الوسيلة‪،‬‬
‫فالهدف األول التي سعت إليه منذ بداية اتجاهات نحو االستعمار األقطار الضعيفة هو‬
‫اكتشاف البالد العربية اإلسالمية وبسط سيطرتها االستعمارية عليها وهذا هدف أساسي‬
‫‪1‬‬
‫خدمهم فيه المستشرقون‪".‬‬

‫ومنه نستنتج أن االستشراق أداة استعملها رجال الدين المسيحي ليشفوا غليلهم ويذهبوا‬
‫غيضهم من بطش وسطوة المسلمين على األراضي المقدسة بواسطة إعالن حرب مشروعة‬
‫بمباركة دينية الستعادة مقدساتهم وأراضيهم من المسلمين‪".‬فقد كان استشراق المبشرين عامال‬
‫هاما لدراسة الطبيعة التي يحتاج االستعمار لمعرفتها عن الوطن العربي هذا‪ ،‬من جانب ومن‬
‫جانب آخر فقد جلب المبشرون من المستشرقين أخالق الغرب ثقافته وحضارته وكان‬
‫التصاقهم بالشعب العربي آو بطوائف منه قد فتح األذهان على الغرب مما جعل لوجودهم‬
‫بين العرب أث ار في تغلغل الثقافة الغربية وانتشارها وهي من العوامل المساعدة على دخول‬
‫‪2‬‬
‫الغرب كله إلينا بعدئذ‪".‬‬

‫ج‪ -‬الدوافع االقتصادية لالستشراق‪:‬‬

‫‪ 1‬سعدون الساموك‪ ،‬االستشراق و مناهجه في الدراسات االسالمية‪ -‬دار المناهج للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ 2010 ،1‬ص‬
‫‪.14‬‬
‫‪ 2‬سعدون الساموك‪ ،‬مرجع سابق ذكره‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪117‬‬
‫إن العارف بالواقع األوروبي عموما يعلم جيدا طبيعته المادية التي تَُب َرُر فيها الوسائل‬
‫بالغايات وإعجاب الغربيين بالحضارة اإلسالمية ومواردها وكنوزها زاد من أطماعهم في‬
‫استمالكها فلم يكتفوا كما زعموا بداية بالتعايش والتبادل الفكري والعلمي‪ .‬فالتطور الصناعي‬
‫الذي عرفته أوروبا جعلها تبحث عن موارد ومواد أولية وأسواقا تسوق فيه منتوجها وتوسع فيه‬
‫أعمالها وتجارتها‪ .‬وولد في عمق المجتمع األوروبي رغبة ملحة في نقل تلك الخيرات إليهم‬
‫واالستحواذ عليها من أجل تحريك مصانعهم‪ .‬دون أن ينسوا هدفهم األسمى أال وهو الهيمنة‬
‫على البلدان اإلسالمية وكنوزهم ويمكن القول أن هذا دفع فعال لالستشراق خاصة أن عالقة‬
‫الغرب األوربي بالشرق المسلم عرفت تبادال تجاريا كبي ار تاله استعمار استباح الغرب من‬
‫خالله ثروات وخيرات الشعوب اإلسالمية‪ .‬فالغرب "أدرك أنه لكي يتسرب إلى مصادر القوة‬
‫في الشرق ويمزقها يجب عليه أن يتسلح بالقوة االقتصادية ولذلك تشبث بهذا المحور وجعله‬
‫هدفه األسمى وسخر كل شيء في سبيله فطلب التجارة الرابحة وهو أقوى المشجعات البشرية‬
‫على النشاط والعمل كان له أثره الطبيعي في ميول األمة ومجهوداتها الفكرية"‪.1‬‬

‫لم يخف الغربيون أبدا نواياهم من التردد على العالم اإلسالمي وقراءة تراثه كما لم‬
‫يكن على المسلمين مكلفا معرفة ذلك لكن ما سعى إليه األوروبيون كان في نظرهم مشروعا‬
‫نظ ار لكون األراضي المفتوحة مكسب ديني عتيق وما تحمله وتحتويه تلك األوطان من حقهم‬
‫وزاد على ذلك حاجتهم الملحة لموارد يستطيعون بواسطتها تحقيق النهضة التي يحلمون بها‬
‫فأسسوا لعالقات مع العالم اإلسالمي ظاهرها ودي تمثل في التبادل التجاري وحركية‬
‫اقتصادية مزدوجة المنفعة وباطنها عدائي تمثل في مهب واستغالل خيراته أي عالقات‬
‫اقتصادية يتم من خاللها التزود بالمواد األولية الخام التي تحتاجها أوروبا من اجل تحريك‬
‫عجلة االقتصاد وفي المقابل يحصل المسلمين على المنتوجات األوروبية‪ .‬هذه الصفقة التي‬
‫أبرمت جعلت العالم اإلسالمي لحد اللحظة يعاني من تبعية اقتصادية وثقافية وسياسية كون‬
‫المسلمين أصبحوا مجتمعات استهالكية ال تنتج وال تبحث‪.‬‬

‫‪ 1‬أحمد سمايلوفيتش‪ ،‬مرجع سابق ذكره‪ ،‬ص ‪.6 4 -45‬‬


‫‪118‬‬
‫في األخير نستطيع القول أن األنظمة الغربية سعت إلقرار هذا الوضع بكل‬
‫الطرق فعمدت إلضعاف الشخصية اإلسالمية اقتصاديا وسياسيا وفكريا من خالل بث الشك‬
‫في المعتقد وتذويب القيم في وحل المادية واستعمار البلدان اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪ - 4‬محمد أركون والمنهج االستشراقي‪:‬‬

‫بما أن محمد أركون اعتمد في دراساته كلها منطلق النقد العلمي فقد انشغل بموضوع‬
‫االستشراق مثله مثل باقي الدراسات بمبدأ نقدي علمي أيضا إ ْذ تناوله بدراسة عيوب‬
‫االستشراق وأخطائه غير أن أركون من جهة أخرى أظهر أعمال المستشرقين وبحوثهم على‬
‫أنها أعمال لها أهمية كبيرة في دراسة التراث اإلسالمي ما عكس الجانب االيجابي لهذا الفكر‬
‫حيث دعا أركون لجمع كل هذه األعمال ودراستها كونها انجازات كبيرة ينبغي االهتمام بها‬
‫فيرى أن"اإلسالميات الكالسيكية هي المعرفة الغربية المنجزة حول اإلسالم قبل ‪ 1950‬وهذه‬
‫المعرفة لعبت دو ار إيجابيا ال يمكن إهماله فيما يدعوه المسلمون بالنهضة وإسهامها األكثر‬
‫ديمومة واألقل إثارة للنقاش هو نشر عدد معتبر من النصوص الكبرى المنسية خالل قرون‬
‫حتى من قبل التراث اإلسالمي نفسه"‪.1‬‬

‫ينتقد أركون من جهة أخرى المفكرين المسلمين على جمودهم الفكري وعلى عدم‬
‫انشغالهم بتراثهم بطريقة علمية نقدية يستطيعون من خاللها الوصول لمعرفة أصول أعمالهم‬
‫التاريخية ودراسة نصوصهم الدينية دراسة تعتمد على المناهج العلمية الحديثة وفي المقابل‬
‫يشيد بمجهودات المستشرقين على أنها مشاريع كبيرة كما يراها أنها "مشروع سوف يدشن عما‬
‫قريب الموسوعة الكبرى للقرآن الكريم ‪....‬إنها تغني مشروعا ضخما يساهم فيه كبار‬
‫االختصاصيين في الدراسات العربية اإلسالمية سواء كانوا مستعربين أجانب أم من أصول‬
‫عربية أو إسالمية و سوف تضم هذه الموسوعة جميع المعارف المتضمنة في القرآن الكريم‬

‫‪1‬‬ ‫فارح مسرحي‬


‫‪119‬‬
‫أو المرتكزة عليه أو المتعلقة به من قريب أو من بعيد بمعنى أنها سوف تضيء القرآن الكريم‬
‫من كل جوانبه"‪.1‬‬

‫من خالل القراءات العديدة ألركون يظهر لنا موقفه من المستشرقين حيث فضل لو‬
‫أن هذه الدراسات االستشراقية األكاديمية اهتم بها المسلمون أنفسهم كونهم هم المعنيون بذلك‬
‫ألنها تمثل جزءا كبي ار من تراثهم المعنوي وفي المقابل يرى أركون أن ما قام به هؤالء‬
‫المفكرون األوروبيون أعطى صورة واضحة عن الفارق الكبير في المستوى والمنهج بين‬
‫الفكر اإلسالمي وبين الفكر االستشراقي إذ رأى أن كتابات المسلمين وبحوثهم خاوية من‬
‫الروح النقدية وظلت مغموسة في التقديس والتفسيرات الالهوتية التي غيبت اإلنسان‪.‬وعكس‬
‫ذلك تماما فدراسة المستشرقين لهذا التراث تميزت بتطبيقهم المنهج التاريخي وأدواته‬
‫ومصطلحاته عليه حيث استطاعوا أن يزيحوا بواسطته الغموض الذي اعتراه منذ البداية وان‬
‫ينيروا جانبا كبي ار منه ظل مظلما لفترة طويلة‪ .‬كما حث أركون المسلمين على بذل المجهود‬
‫من أجل دراسة وقراءة تراثهم قراءة نقدية مثلما فعله الغربيون والكف عن االنتقادات العاطفية‬
‫االنفعالية غير المؤسسة نهائيا ودعاهم ألن يتحلوا بالجرأة ليتمكنوا من مقارعة المستشرقين‬
‫بتناول التاريخ اإلسالمي بدراسة علمية تعتمد على المناهج التاريخية الحديثة‪ .‬وفي هذا يقول‬
‫أركون "ال يحق للعرب المسلمين ان يهاجموا المستشرقين إال إذا ّ‬
‫قدموا عن تراثهم دراسات‬
‫علمية بالمستوى نفسه الذي يقدمه كبار المستشرقين فالمسألة ليست مسألة عواطف‬
‫وانفعاالت ذاتية وشعارات إيديولوجية أو تبجيلية وإنما هي مسألة بحث علمي أو إرتفاع‬
‫الى مستوى البحث العلمي وغير ذلك فهو ضجيج وعجيج"‪. 2‬‬

‫قد يظن القارئ لموقف أركون من المستشرقين من الوهلة األولى من خالل ما تم تقديمه‬
‫سابقا أنه معجب بهم وبأعمالهم كلها بينما إذا تعمقنا أكثر في طرحه يتبين لنا أنه لم يقتنع‬
‫كليا بما قدمه كل المستشرقون كنتائج دراسية واعتبر أن معظم الدراسات االستشراقية سطحية‬
‫اقتصرت على ترجمة لغوية للنصوص الدينية ولم تكن هي أيضا في مستوى المناهج‬
‫التاريخي وفي المقابل ال يخفي أركون إعجابه ببعض المستشرقين بعد تناولهم لنصوص‬

‫‪1.306‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقلف الديني‪ -‬مرجع سابق‪ -‬ص‬
‫‪2.307‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪120‬‬
‫ظلت لمدة طويلة حبيسة الغموض ما سمي (بالمسكوت عنه) أو (الالمفكر فيه)‪ .‬حيث دعا‬
‫كل المفكرين المسلمين الى مثل هذه الدراسة وتطبيقها في أعمالهم كلها كمنهج علمي نقدي‬
‫شجاع ال يعترف بالمطلق خالي من الذاتية واإليديولوجيات‪ .‬وأركون ال يعترف لهؤالء‬
‫المستشرقين بهذا الدور فحسب بل أيضا دعا المفكرين المسلمين لذلك إ ْذ يقول"ولكن لنكن‬
‫متواضعين في ذات الوقت ولنعترف بمكتسبات العلم االستشراقي وانجازاته فالعدل‬
‫واالنصاف يفرض علينا ذلك ولذا فإني أحيي بكل اعتراف بالجميل جهود ومكتسبات رواد‬
‫االستشراق من أمثال يوليوس فيلهاوزينق وهوبيرغريم وتيودور نولدك و فريديريك شوالي‬
‫وقون ج بغستراسير وأوبريتزل و إ‪ .‬غولد زهير وتور أندري وأ‪.‬غيوم و أ‪ .‬جيفري و م‬
‫‪1‬‬
‫برافمان"‬

‫يستثني أركون من نقده للمفكرين الغربيين الذين تناولوا التراث اإلسالمي مجموعة من‬
‫الباحثين هم من ذكرهم سابقا وحتى تالميذهم فيقول "الذين واصلوا على نفس الدرب من‬
‫أمثال رودي باريت ورجيسبالشير وهاريس بيركالند وربيل ووليام مونتغمري واط وجون‬
‫‪2‬‬
‫بيرتون وجون وانزبروغ وأ‪.‬تويوروبان"‬

‫يستدل أركون في ذلك لنصوص قيمة في التراث اإلسالمي البن رشد وابن خلدون كانت‬
‫مهمشة وكادت أن تندثر لوال انتباه المستشرقين لها إ ْذ يرجع لهم الفضل في إظهارها وإحيائها‬
‫ويقدم أركون"األمثلة الناصعة على أهمية البحث االستشراقي في إعادة بعث نصوص جد‬
‫مهمة من التراث اإلسالمي كتاب "فصل المقال" البن رشد الذي طواه النسيان ولم يعتن أحد‬
‫من المسلمين بتحقيقه وإعادة نشره إلى أن جاء المستشرق " ‪ "MJ Moller‬الذي نشره ألول‬
‫مرة في عام ‪1859‬م معتمدا على مخطوط واحد ثم أعاد تحقيق األستاذ ف‪ .‬حوراني بعد قرن‬
‫من الطبعة األولى ‪ 1959‬وما قيلت عن مؤلفات ابن رشد يقال عن مؤلفات ابن خلدون‬
‫وغيرهما من أعمدة التراث العربي اإلسالمي والسيما المفكرين المغضوب عليهم من قبل‬
‫‪3‬‬
‫السلطان أو من قبل فقهائه"‪.‬‬

‫ص‪1.32‬‬ ‫محمد أركون‪ ،‬الفكر األصولي و استحالة التأصيل‪ ،‬مرجع نفسه‪،‬‬


‫المرجع نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪2.32 ،‬‬

‫‪ 3‬فارح المسرحي‪ ،‬من االسالميات الكالسيكية الى االسالميات التطبيقية‪ ،‬قراءة في نقد أركون لالستشراق‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫بما أن أركون مفكر نقدي عارف بأصول المناهج التاريخية الحديثة وأدواتها‬
‫ومصطلحاتها ومطلع على خلفيات ومبادئ الفكر االستشراقي الغربي الحقيقية فإن قراءته‬
‫لهؤالء المفكرين لم تقتصر على التفاعل معهم إلضفاء شرعية عليهم واالعتراف بمجهوداتهم‬
‫في التراث اإلسالمي بل عكس ذلك فقد تج أر على مواجهة معظمهم بالقصور والذاتية‬
‫بواسطة اس لوبه النقدي الذي يستمد مشروعيته من المناهج التاريخية الحديثة التي تعتمد على‬
‫الدراسة الموضوعية والقراءة العلمية‬

‫‪ -5‬النقد األركوني لالستشراق‪:‬‬

‫يؤكد أركون ويصر على ضرورة استخدام مناهج العلوم اإلنسانية لدراسة التراث‬
‫اإلسالمي وتوظيف أحدث ما توصلت إليه مناهج العلوم في الغرب‪ .‬لكن المشكل ليس‬
‫بالتحديد في هذه النقطة المشكل يكمن في الموقف من االستشراق أي من الدراسات‬
‫التاريخية النقدية التي قام بها الغربيون للتراث اإلسالمي إ ْذ وبنفس االتجاه درس أركون‬
‫االستشراق دون تسامح ودون تساهل بكل موضوعية بواسطة نفس األدوات التي اعتمدتها‬
‫المدارس والمعاهد األوروبية التي نقل منها المستشرقون مفاهيمهم ومبادئهم وبالتالي فأركون‬
‫عارف بخبايا هذا الفكر وله تصور عميق عن أبعاده وإمكانياته حيث الحظ من خالل‬
‫دراسته لالستشراق أنه اقتصر في دراسته للتاريخ على منهج فقه اللغة أي الفيلولوجية تلك‬
‫الدراسة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر قائمة على أساس مقارنة النصوص ومقارنة‬
‫االديان دون االعتماد على المناهج العلمية الجديدة التي حققها العلم الحديث في دراسة‬
‫التاريخ‪ .‬بعد هذا النقد الالذع الذي وجهه أركون لالستشراق يرجع مرة أخرى لدعوة المفكرين‬
‫الغربيين لتجاوز تلك الدراسات التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب ومسك أدوات العلوم‬
‫اإلنسانية الحديثة حيث يقول‪" :‬أن معظم إنتاج الفكر التاريخي العالمي يرتكز على دراسة‬
‫التراث الغربي سواء كان مسيحيا أو معلمنا أقصد بذلك أود أن يصبح االستشراق جزءا ال‬
‫يتج أز من البحث العلمي المعاصر وأن يلحق بركب التجديد المنهجي والمفهومي الذي حصل‬
‫ربع القرن الماضي فال يعقل أن يظل منغلقا على نفسه راضيا بمنهجية القرن التاسع عشر‬

‫‪122‬‬
‫ورافضا لالنفتاح على الثورة المنهجية واالبيستيمولوجية التي شهدتها العلوم اإلنسانية منذ‬
‫‪1‬‬
‫الستينات و حتى اليوم"‪.‬‬

‫يرمي أركون االستشراق عرض الحائط بعدما حكم على دراسته بالسطحية في التناول‬
‫ألنها قائمة على أساس االختيار واالختصار فالمستشرقون لم يهتموا إال بالنصوص الكبرى‬
‫لإلسالم حيث ترجموها كما هي للغات األوروبية دون تحليل ودون تفكيك حتى تتجلى بكل‬
‫حقيقتها ومعانيها ودالالتها رافضين التدخل فيما ال يعنيهم بحجة الحيادية‪.‬هذا ما يظهر من‬
‫خالل عدد المصنفات التي اعتمدوها في بحوثهم في علوم القرءان فلقد كانت" محدودة جدا‬
‫وهي في معظمها كتب جامعة ال تتحرر الصحة والنقد والرواية السليمة وهكذا نجد نولدك‬
‫وبيل وبالشير وبرتون في مجال جمع القرآن الكريم ال يتجاوزون كتب المصاحف البن أبي‬
‫داود واإلتقان للسيوطي والفهرست إلبن النديم في حين ال نجد عندهم إعتمادا يذكر على‬
‫الروايات الصحيحة الواردة في كتب الصحاح والسنن أو في مقدمات المفسرين' القرآنية‬
‫(مقدمة ابن عطية‪ ،‬مقدمة ابن جزي‪ ،‬مقدمة القرطبي وغيرها‪ ...‬ومن جهة أخرى يالحظ أن‬
‫المصنفات المعتمدة لدى المستشرقين المعاصرين هي نفسها التي كان يعتمدونها أسالفهم‬
‫من المستشرقين القدامى"‪.2‬‬

‫التناول الكالسيكي في االستشراق للتراث اإلسالمي الذي تحدث عنه أركون يتضح من‬
‫خالل اقتصار دراسات المستشرقين على الت ارث المكتوب والنصوص الكبرى والخطابات‬
‫الرسمية فقط متجاهلين التراث الشفوي وإسالم الشعوب كالبربر واألفارقة فهذه الدراسات كأنها‬
‫لم تقدم أي جديد للقارئ العربي خاصة بل قدمت معلومات محدودة عن اإلسالم فقط إلى‬
‫الجمهور الغربي فأركون يرى أنها مجرد ترجمة لنصوصنا القديمة والمعاصرة‪ "،‬يتمثل في‬
‫مسألة المنهج بمعنى أن مناهج المستشرقين متأخرة أو متخلفة إذا ما قورنت بمناهج العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية في صورتها المعاصرة إذ ال يزال االستشراق يعتمد على المناهج‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪2‬حسن عزوزي‪،‬آليات المنهج االستشراقي في الدراسات اإلسالمية‪ ،‬مطبعة أنفوبرانت‪ ،‬فاس المغرب‪ ،2007،‬د ط‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪123‬‬
‫المتطورة في القرن التاسع عشر في ظل ازدهار الفلسفة الوضعية السيما المنهج الفللوجي‬
‫(فقه اللغة) والتاريخ التقليدي السردي"‪.1‬‬

‫لقد أعطى أركون عناصر أخر ال تقل أهمية عن كل العناصر المشكلة للتراث‬
‫اإلسالمي وأهملها االستشراق أال وهي المخيال واألسطورة اللذان لهما دور مهم في تأسيس‬
‫األحداث التاريخية وفي المقابل اهتم االستشراق بالحدث التاريخي ما يبرز تأثره بالمنهجية‬
‫الوضعية التي تعتمد على رد الدالالت والقضايا إلى المنطق البحت ورفض التفسيرات‬
‫الميتافيزيقية‪"،‬أحد األبعاد األساسية التي يتكون منها الشخص البشري والثقافة البشرية على‬
‫العموم باإلضافة طبعا إلى البعد العقالني واالقتصادي والحسابي"‪. 2‬‬

‫هذا ما رفضه المنهج الوضعي المادي في القرن التاسع عشر ولم يأخذ بعين االعتبار‬
‫إ ْذ أن"البعد الخيالي واألسطوري لإلنسان ولذلك مرجا اعتبرت الدين والبعد الديني شيئا‬
‫متجاو از ينتمي إلى العالم القديم أما العلم المعاصر فهو يعيد االعتبار إلى األسطورة‬
‫ويعتبرها إحدى طرق" إنتاج المعرفة ‪ ...‬فهي تكشف إلى حد كبير عن العادات والتقاليد‬
‫‪3‬‬
‫واألخالقيات السائدة فيه"‪.‬‬

‫يعتبر أركون أن األسطورة كظاهرة انتروبولوجية تجتمع فيها التقاليد والقيم والعادات‬
‫وفي هذا يقول‪" :‬فاألسطورة هي إحدى الطرق إلنتاج المعرفة واألساطير المنشرة لدى شعب‬
‫من الشعوب تعلمنا الكثير عن أخالقه وعاداته وحساسيته والمعرفة األسطورية ليست خاصة‬
‫بالمسلمين أو بالثقافة اإلسالمية وإنما هي ظاهرة انثروبولوجية أي تشمل جميع الثقافات‬
‫وجميع الشعوب"‪ ،4‬ألن األسطورة تعتبر هي لب التاريخ والطاقة التي تحركه وتجعله يتفاعل‬
‫بشكل كامل مع كل عناصره‪ .‬ويلفت النظر أركون هنا لما ارتكبه الماركسيون الماديون‬
‫الذين ركزوا في دراساتهم على الجانب المادي االقتصادي وجعلوه دافعا قويا حسب رأيهم‬
‫لحركة التاريخ وتحديد اتجاهه وتأسيس وتكوين الفكر اإلنساني "فالبنية الفوقية" لم تعد نتيجة‬

‫‪1‬المسرحي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪6‬‬


‫‪2‬محمد الشبه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫‪ 4‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي نقد و اجتهاد‪ ،‬ص‪.329-328‬‬
‫‪124‬‬
‫ميكانيكية "للبنية التحتية بل أصبحت تمتلك استقاللية نسبية وأصبحت أحيانا تشكل قوة مادية‬
‫‪1‬‬
‫ودافعة لمختلف األحداث التاريخية"‪.‬‬

‫االختيارية واالختصار كمنهج اعتمده الفكر االستشراقي لم يتمكن من تقديم‬


‫حلول"لكونها تمارس اختزاال مزدوجا فهي من جهة ترفض أن تأخذ بعين االعتبار األساطير‬
‫والتزويرات والتحريفات والتصورات الخيالية التي يخلقها المخيال االجتماعي وتفقر إلى ذلك‬
‫إلى حد كبير من المضامين الحقيقة لكل وجود اجتماعي تاريخي كما وتفتقر آليات إنتاجه‬
‫وهي من جهة ثانية إذ تنتقي الوقائع الممكن السيطرة عليها وتحديد تاريخ زمني صحيح لها‬
‫ومؤلفيها الفعليين ونفي كل ما عاداها فإنها تشكل "بذلك تاريخية عقالنية أي مقطوعة عن‬
‫الحقيقة المعاشة من قبل الفاعلين االجتماعيين"‪. 2‬‬

‫على الرغم من أن أركون تقدم بنقد الذع للمنهج االستشراقي في دراسة التراث اإلسالمي‬
‫إال أن رد المستشرقين عليه كان قويا جدا حيث يروا أن"مشروع أركون النقدي دعوة إلى‬
‫االجتهاد والتجديد ولكن ليس في الفكر اإلسالمي كما ّيدعي بل في الفكر االستشراقي فهو‬
‫يقوم بدور االستشراق من الداخل إلثبات ما أثبته المستشرقون من الخارج"‪ ،3‬نفس ما فهمه‬
‫العديد من المفكرين الذين الحظوا ازدواجية في التصور لدى أركون تحمل تناقضا خطي ار‬
‫و أروا بأن أركون يعكس صورة غير مناسبة عن اإلسالم فهو "يوهم القارئ بأنه يخالفهم‬
‫مجرد وهم وتضليل وتغليط ألن أركون كثير المدح‬ ‫مخالفة جذرية منهجا وتطبيقا وهذا ّ‬
‫للمستشرقين وااللتزام بمنهجهم واالعتماد على تراثهم أما انتقاداته فبعضها انتقادات مشبوهة‬
‫‪4‬‬
‫ماكرة تتعلق بحثهم أكثر على التركيز على طرق هدم اإلسالم وإثارة الشبهات حوله‪".‬‬

‫‪1‬محمد الشبته‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32‬‬


‫‪2‬كيحل مصطفى‪ ،‬األنسنةو التأويل في فكر محمد أركون‪ ،‬منشورات اإلختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬د ط‪ ،2013 ،‬ص ‪.259‬‬
‫‪ 3‬المسرحي‪ ،‬مقال‪.‬‬
‫‪ 4‬المسرحي‪ ،‬مقال‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫األسس المنهجية لفهم بنية‬


‫العقل اإلسالمي‬
‫‪126‬‬
‫أوال ‪ :‬في مفهوم األنسنة وتاريخيتها‪:‬‬

‫األنسنة مصطلح يطلق على التحول لإلنسان أو سببية اإلنسان في كل التعقيدات‬


‫الكونية وانتسابها له ونجده في القاموس الفرنسي يطلق عليه اسم‪":‬هيومانيزم"‬
‫" ‪ "Humanism‬فهويعني"النزعة اإلنسانية أو اإلنسانوية‪ ...‬تأتي في اللغة العربية كترجمات‬
‫للمصطلح الفرنسي "‪ "humanisme‬والذي يشتق من اللغة الالتينية وتحديدا من كلمة‬
‫"‪ "humanistas‬والتي تعني في الالتينية تعهد اإلنسان لنفسه بالعلوم اللبرالية التي بها يكون‬
‫‪1‬‬
‫متميز عن سائر الحيوانات"‬
‫جالء حقيقته كإنسان ّ‬
‫"يميز هاشم صالح بين الصفة اإلسم‪ ،‬فصفة "اإلنساني أو‬
‫نجد تعريف آخر لألنسنة إ ْذ ّ‬
‫اإلنسي "‪ "humaiste‬اشتقت في اللغة األوروبية منذ القرن السادس عشر وبالتحديد عام‬
‫‪ 1539‬أما كلمة النزعة اإلنسانية على هيئة اإلسم أو المصدر "‪ "humanisme‬فلم تشتق‬
‫إال في القرن التاسع عشر هذا مع العلم أن مدلولها كان موجودا منذ وقت طويل فقد يوجد‬
‫الشيء قبل أن يوجد اسمه وكانت كلمة اإلنسي أو اإلنساني تطلق على البحاثة المتبحرين‬
‫في العلم بخاصة علوم األقدمين‪ :‬اليونان والرومان وقد ظهروا في ايطاليا أوال قبل أن يظهروا‬
‫في بقية أنحاء أوربا"ا‪ .2‬في تعريف آخر لألنسنة نرى "بأنها تلك المركزية التي تنطلق من‬
‫معرفة االنسان وموضوعها تقويم اإلنسان وتقييمه واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته‬

‫‪1‬كيحل مصطفى‪ ،‬األنسنة والتأويل في فكر محمد أركون‪ ،‬منشورات اإلختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬د ط‪ ،2013 ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫سواء بإخضاعه لقوى خارجية للطبيعة البشرية‪ ...‬وتمثل األنسنة قطيعة حاسمة مع كل‬
‫نظرة الهوتية قروسطية صادرت كيان اإلنسان باسم األيمان وتمثل في الوقت نفسه تأسيسا‬
‫لرؤية جديدة تحل اإلنسان محل المركز من الوجود‪ ...‬وبهذا فاألنسنة تتمفصل مع العقالنية‬
‫والعلمانية والتاريخية فهذه العناصر تشكل جوهر اإلنسية"‪ 1‬أكد نتشه هذا الرأي بتصوره‬
‫اإللحادي مستهزئاً بمواقف الميتافيزيقيين والالهوتيين باعترافه بقتل اإلله كناية عن استرجاع‬
‫االنسان لدوره في كشف قوانين الطبيعة بدل االعتقاد بالعناية الربانية‪ .‬وهذا أيضا ما دعا إليه‬
‫كارل ماركس بحكمه على اإلله بالخرافة ‪.‬أيمانا منهما بأن االنسان لم يتحمل مسؤولياته في‬
‫فهم الكون وأرجع هويته للعالم الميتافيزيقي وعليه أن يسترجعها حتى يسترجع وجوده من‬
‫جديد ويعود من غربته عن ذاته ليصبح اله كونه‪.‬‬

‫بينما المس مصطفى حسيبة هذا المفهوم فيرى أنها "حركة فلسفية تدعوا إلى إعادة‬
‫الكرامة إلى القيمة اإلنسانية كانت ترجع التفكير العقالني وأكدت على تفوق اإلنسان بذاته‬
‫وليس عن طريق القوى التي ال تخضع إلى منطق العقل‪ .2".‬بالتالي فإن األنسنة تضع‬
‫اإلنسان في إطار اهتمامها أما مراد وهبة فيراها"أسلوب في التفكير يدور على إمكان تحكم‬
‫اإلنسان في الكون ورفض المدهنات الدينية وإنكار التفاعل والخداع ومن شأن هذا أن يصبح‬
‫اإلنسان تشبيها باآللهة"‪. 3‬‬

‫يفصل أركون في شرحه بين اإلنسانية واألنسنة فيرى في هذا المضمون أن "الفرق‬
‫بين األنسنة والنزعة اإلنسانية ألن األولى تركز النظر في االجتهادات الفكرية لتعقل الوضع‬
‫البشري وفتح آفاق' جديدة لمعنى مساعي البشرية إلنتاج التاريخ مع الوعي‪ .‬أن التاريخ‬
‫صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقذة من‬
‫‪4‬‬
‫الضالل‪".‬‬

‫‪ 1‬زرفة بلقواس‪ ،‬محمد أركون‪ ،‬رؤيا في مسارات األنسنة‪ ،‬مجلة التغيير االجتماعي‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬جامعة بسكرة‪ ،‬محمد‬
‫خيضر‪.‬‬
‫‪ 2‬مصطفى حسيبة‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬دار أسامة للنشر و التوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬عمان‪ ،2009 ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪3‬مراد وهبة ‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬دار قباء للطباعة الحديثة للطباعة و النشر‪،‬مصر‪ ،‬د ط‪ ،2007 ،‬ص ‪.105‬‬
‫زكي ميالد‪ ،‬ص‪84‬‬
‫‪128‬‬
‫من هذا نفهم أن األنسنة ترجع في أصلها للغة الالتينية وجاءت كترجمة للمصطلح الفرنسي‬
‫« » ‪ Humanisme‬وهي ترتبط بالتاريخ والعقل والعلمنة وتمهد لنظرة وفكر جديد يتبنى فيه‬
‫االنسان توجهاته وفرضياته وأحكامه في دراسة العلل الطبيعية الفيزيائية والعلمية واالجتماعية‬
‫والتاريخية للظواهر الكونية المختلفة بعيدا عن التصور الغيبي في تحديد األسباب واستخالص‬
‫النتائج بهذا يصبح اإلنسان محو ار أساسيا للكون ‪.‬‬

‫‪ -1‬السياق التاريخي للنزعة اإلنسية في الغرب‪:‬‬

‫لقد ظهرت النزعة اإلنسية منذ بداية الفلسفة اليونانية وبالتحديد مع السفسطائيين إ ْذ‬
‫انكبوا في دراستهم على العقل اإلنساني فاعتقدوا أنه مقياس كل شيء الخير والشر ‪,‬الصحيح‬
‫والخطأ ولعل بروتاجوراس هو من األوائل الذين أسسوا لفكرة االنسان الرئيس أو اإلنسان‬
‫المعيار عند السفسطائيين منتقلين بذلك من السياق الطبيعي إلى السياق اإلنساني حيث يرى‬
‫بروتاجوراس في كتابه "عن الحقيقة أن االنسان مقياس األشياء جميعها فهو مقياس وجود ما‬
‫‪1‬‬
‫يوجد منها ومقياس ال وجود ما ال يوجد منها"‪.‬‬

‫أما في العصر الحديث فقد ظهر تصور جديد وضع اإلنسان والقيمة اإلنسانية في‬
‫أولويات كل شيء‪ .‬يثق فيه وفي إمكانياته وقدراته على صنع التقدم الحضاري ‪.‬ظهر هذا‬
‫التصور أثناء النهضة األوربية خاصة في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر‪ .‬في‬
‫رؤية جديدة أعادت المفكرين األوروبيين إلى النصوص اليونانية القديمة التي أ ِ‬
‫ُهملت العقل‬
‫اإلنساني إبان العصور الوسطى الساخطة على الفلسفة والثقافة المفعمة والفكر الالهوتي‪ .‬هذا‬
‫التحول الجديد هو ما أطلق عليه بالنزعة اإلنسانية "والتي جاءت كرد فعل عنيف أمام سطوة‬
‫وقوة وهيمنة وجبروت الالهوت وتشكلت هذه النزعة على أساس إحالل مركزية الالهوت‬
‫وهذه كانت فلسفة عصر النهضة – في القرن السادس عشر الذي اندفع فيه األوروبيون‬

‫‪1‬مصطفى النشار‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي‪ -‬دار قباء الحديثة للطباعة و النشر و التوزيع‪ ،‬القاهرة ط‪،2‬‬
‫‪ ،2007‬ص ‪.352‬‬
‫‪129‬‬
‫بحماس كبير نحو االقتالع من القيود واألغالل التي حاصرتهم وضيقت عليهم في ظل‬
‫هيمنة ومركزية الالهوت لذلك فقد حملت هذه النزعة معها موقفا عدائيا اتجاه الدين‪...‬‬
‫‪1‬‬
‫سعيا نحو التحرر والتمرد على الوضعيات السابقة ومن ذهنية التحريم والتكفير"‬

‫رواد هذا التصور يتوجهون أوالً إلى نكران كل مطلق ديني قطعي أتت به الكنيسة‬
‫ورِد كل هذه التعاليم الالهوتية المفروضة قه اًر من‬
‫الكاثوليكية خاصة في العصور الوسطى َ‬
‫السماء ورفض هيمنة الدراسات الميتافيزيقية على الدراسات اإلنسانية وفصل اإلنسان تماما‬
‫عن التبريرات الماوارئيات األحادية‪ .‬ومن ثم االنتقال إلى تقديم مفهوم الفردية الذي يهدف إلى‬
‫تأسيس عالقة جديدة ومهمة بين االنسان وكونه أو عالمه حتى يصبح اإلنسان مرك از كونيا‬
‫ومعيا ار معرفيا حقيقيا ‪.‬وأي معرفة ال تعتمد عليه أوال ترفع من شأنه ال جدوى منها وال لزوم‬
‫لها وأي معطى ال يخضع لدراسة إنسانية ال يمكن الوثوق فيه من أجل أن يصبح اإلنسان‬
‫هو محور كل التصورات واألطروحات التي حدثت والتي ستحدث مستقبالً ويصبح معيار‬
‫العقل في المعرفة وبناء األحكام هو األساس‪ .‬على هذا النحو انطلقت تلك الحركة اإلنسانية‬
‫القوية فاتحة المجال واسعا ألهمية وألسبقية كبيرة للعقل على النص الديني عكس اتجاه رجال‬
‫الدين في العصور ا لوسطى في تقديسهم للنصوص وتسليمهم للموروث الديني على حساب‬
‫العقل‪ .‬وبهذا التوجه يمكن التخلص من وساطة الكنيسة في وصول العقل للنص وتتم المعرفة‬
‫مباشرة من االنسان إلى هللا حيث يسترد العقل اإلنساني دوره ويعود من غربته عن ذاته‪.‬‬
‫بهذا"حدث انتصا ار للعقل الفلسفي والتنويري على العقل الالهوتي والنبوي وهذا االنتصار‬
‫الذي حصل ‪ ...‬كانت ثمرته "تحريم الروح واستقاللية الذات البشرية" ومعنى استقالل الذات‬
‫وسيدة مريدة وفاعلة وهذا هو مبدأ‬
‫تعامل اإلنسان تعامل اإلنسان مع نفسه كذات واعية ّ‬
‫الذاتية أما تحريم العقل والروح فقد عني احتالل العقل اإلنساني أي العقالني مكانة جديدة‬
‫بوصفه الحاكم األول والمرجع األخير في كل ما يختص بمعارف االنسان وأعماله ومساعيه‬
‫‪2‬‬
‫ومجمل عالقته بالطبيعة والعالم"‪.‬‬

‫‪ 1‬زكي ميالد‪ ،‬الفكر اإلسالمي والنزعة اإلنسانية‪ ،‬العدد ‪ ،24‬آفاق‪ ،‬ص‪.10‬‬


‫‪ 2‬علي حرب‪ ،‬الماهية و العالقة نحو المنطق التحويلي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنانن ط‪ ،1998 ،1‬ص ‪.214‬‬
‫‪130‬‬
‫وبالتالي يتحقق ويبحث العقل اإلنساني الحر بنفسه في ذاته وفي كينونته التاريخية‬
‫والفكرية واالجتماعية وا القتصادية ويواجه توجهاته وخياراته بكل مسؤولية وبكل جرأة وأيمان‬
‫ووعي تام بمختلف القواعد الموضوعية والعالمية مستمدا شرعيته من العقل وحده في إشارة‬
‫واضحة إلى حق العقل اإلنساني المطلق على الحكم بنفسه على ذاته وقدراته ومعطياته في‬
‫عالمه بكل استقاللية دون االعتقاد بالفرضيات الخارجية التي تتطلب الطاعة التامة للسلطة‬
‫أو المجتمع أوالدين ليستطيع في نهأية المطاف من استغالل ثرواته وكنوزه المعنوية والمادية‪.‬‬
‫هذا االتجاه انتشر في تلك الفترة كالعدوى من خالل تزامنه مع حركة اإلصالح الدينية مع‬
‫"توماس دكان" و"مارتن لوثر" من أجل مواجهة سيطرة رجال الدين والكنيسة في القرون‬
‫الوسطى على الساحة الفكرية ومقومات المجتمع وثرواته‪ .‬ومن أجل أيضا رفض االحتكار‬
‫الذي ساد أتذك للقواعد المؤطرة والمنظمة للمجتمع والعقل من خالل تنصيب الكنيسة نفسها‬
‫المتحدث الرسمي باسم الرب والوسيط المعتمد بين العقل والنص‪ .‬حيث أن االتجاه العقلي‬
‫الحديث دعا لتحرير الفكر من هذا السجن ورفض تقييد االنسان في تناوله لذاته وخصوصا‬
‫في دراسة الكتب المقدسة حتى يتمكن من شرحها وتأويلها بكل موضوعية ومن أبرز علماء‬
‫سبينوز‬
‫ا‬ ‫هذه النزعة اإلنسانية "رونيه ديكارت ( ‪ )1650 -1596‬إضافة إلى‬
‫‪J.jaque‬‬ ‫(‪ 1632-1677 )Baruehspinoza‬وجون جاك روسو( ‪)1712-1778‬‬
‫‪ Rousseau‬ومن أبر أقطابها ديديهأيراسيم (‪ )1536-1469 ( )didiesirassem‬الذي‬
‫ساوى بين الفلسفة والالهوت كوسيلتي للمعرفة والبحث فنادى بالعودة إلى المنابع الالهوتية‬
‫ودعا إلى دراسة نصوص العصور القديمة اليونانية والالتينية وأكد على حرية اإلنسان وأعاد‬
‫بناء العقيدة المسيحية على أساس إنساني خالص ويعد لودفيغ فيوربارخ ( ‪)1804-1872‬‬
‫(‪ )L.feuerabeh‬وفريديريك نتشه ( ‪F.nietzshe )1900-1844‬من أبرز النزعة‬
‫‪1‬‬
‫اإلنسانية"‪.‬‬

‫لقد حقق علماء ومفكري عصر النهضة األوروبية النضج العلمي المتطور والمزدهر‬
‫والخالص من جميع التصورات التقليدية وتبنوا التحول من مركزية الالهوت إلى مركزية العقل‬
‫الناقد المستقل من جميع القيود القديمة والمتحرر من أسر األفكار الميتافيزيقية‪ .‬هذا االنتقال‬

‫‪ 1‬العلمانيون و القرآن الكريم ‪ ،‬إدريس الطعان‪ ،‬ص ‪.605‬‬


‫‪131‬‬
‫يجسد أوالً لقطيعة نهائية مع الكنيسة ورجال الدين وكل ما ترتب عنهم من أطروحات ونظم‬
‫وأحكام وثانيا لبداية نهضة فكرية جديدة يقودها العقل اإلنساني المتحرر ولم يكن أبداً هذا‬
‫االنتقال جديد على المفكرين األوروبيين بل يعتبرونه رجوع العقل بعد غياب عن الساحة‬
‫الفكرية ‪.‬تلميحا للدور الذي لعبه العقل من قبل في الفلسفة اليونانية من خالل الكشف عن‬
‫أسرار الكون والبحث في الطبيعة وأسبابها بعيدا عن التفسيرات الغيبية وما تبع ذلك من‬
‫تغريب العقل وتغيبه عند الكنيسة ورجال الدين‪"،‬إنها قطيعة حاسمة مع كل نظرة الهوتية‬
‫قروسطية صادرت كيان اإلنسان باسم األيمان وتمثل في الوقت نفسه تأسيسا لفلسفة جديدة‬
‫برؤية جديدة تحل اإلنسان محل المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه"‪.1‬‬

‫في هذه الرؤية اإلنسانية يتضح بشكل جلي االهتمام الكبير باإلنسان ومرجعيته بتنصيبه‬
‫منطلقا رئيسيا لكل اإلشكاليات والتعقيدات واألسئلة الكونية وهو المؤشر المطلق لمختلف‬
‫األحكام العامة والخاصة‪ .‬غير أن هذه المبالغة في تبجيل العقل ذكرتنا فيما حصل مع رجال‬
‫الدين من تقديس للنصوص أدى إلى أسر العقل وتقييده‪ .‬وكأن ما حدث بين العقل والدين‬
‫هو تبادل للمواقع فقط على حساب الفكر فكالهما سعى الحتالل الساحة الفكرية بتغييب‬
‫اآلخر ‪,‬وهذا فعال ما تم مع االتجاه األنسني الذي غيب تماما الجانب الروحي والجوانب‬
‫األخرى ونسي أن العقل هو أيضا غير مطلق وخاضع هو أيضا لتغيرات السياقات‬
‫االجتماعية والثقافية والسياسية هذا ما تناوله فالسفة ما بعد الحداثة في مالحظاتهم عن هذا‬
‫االتجاه الذي أله العقل رغم خضوعه للتفكيك والنقد‪.‬‬

‫‪ -2‬السياق التاريخي للنزعة األنسنية عند العرب والمسلمين ‪:‬‬

‫بالرغم من أن المنهج األلسني ليس بغريب عن الثقافة العربية اإلسالمية في القرن‬


‫العشرين إال أن المفكر الجزائري محمد أركون بعد أن وسع من هذا المفهوم وجعله مساي ار‬
‫للوعي اإلنساني للنهضة الجديدة من خالل تحضيره ألطروحة الدكتوراه‪ .‬فهو يجد لألنسنة في‬
‫ارتباطها بتحرر االنسان من أغالل العوائق الالهوتية ما يؤكد مكانتها في الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية منذ القرن العاشر ميالدي ‪,‬الرابع ميالدي معتب ار أن ما قدمه "أبو حيان التوحيدي"‬

‫‪1‬عبد اإلله يلقزيز‪ ،‬العرب والحداثة‪ ،‬دراسة في مقالة الحديثين‪ ،‬مركز دراسة الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2007 ،1‬ص‪.62‬‬
‫‪132‬‬
‫و"مسكويه" من خالل دراسة ودمج التراث العربي اإلسالمي بالفلسفة اليونانية جدير‬
‫باالعتراف والتقدير وينبع من منبع األنسنة والعقالنية التي سادت أنذك‪ .‬بهذا يقدم أركون‬
‫تصو ار لما حصل في التراث اإلسالمي الذي أبدى تقدما واضحا في التوجه العقلي عن الفكر‬
‫األوربي من خالل التناول العقلي قبل حوالي ستة قرون‪.‬في جواب صريح على المستشرقين‬
‫الذين حكموا على الفكر العربي برفض أو التأخر في أنسنة المعارف وذهبوا إلى أنها نزعة‬
‫ظهرت في القرن السادس عشر في ايطاليا ثم أوربا‪.‬‬

‫‪ -3‬عوامل ظهور األنسنة في القرن الرابع هجري‪:‬‬

‫أ‪ -‬العامل السياسي‪:‬‬


‫يرى أركون أنه بالنسبة للعامل السياسي في تلك الفترة التاريخية "كان ظهور عالئم على‬
‫العلمانية الجنينية (أوالبدائية) ومن أبرز هذه العالئم إضعاف هيبة الخالفة من قبل األمراء‬
‫الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات‬ ‫البوهيين ثم ازدياد أهمية‬
‫المتكررة والحاصلة بين الطوائف والمذاهب والعقائد‪ ،‬والتراثات العرقية –الثقافية ومن المعلوم‬
‫أن الخالفة تتمتع برمزانية دينية عالية واستخفاف البويهيين بها يعني السير في طريق العلمنة‬
‫لمؤسسة السلطة العليا كما أن صعود العقل الفلسفي على حساب العقل المذهبي‬
‫‪1‬‬
‫األرثودوكسي يعني أيضا تأكيدا لعلمنة الفكر في الساحة العربية اإلسالمية"‬
‫يرى أركون أن نزعة الشرعية للخالفة العباسية وإضعاف الخالفة أدى الستحواذ‬
‫البويهيين على السلطة ما ترتب عنه تجسد للعلمانية على أساس األنسنة والعقالنية والحرية‬
‫في حل النزاعات والفصل في القضايا بشكل عقلي‪.‬‬
‫ب‪ -‬العامل اإلقتصادي‪:‬‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬نزعة األنسنة في الفكر العربي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.47‬‬


‫‪133‬‬
‫اقتصاديا لعبت الحركة التجارية الكبيرة والمهمة عند المسلمين في القرن الرابع الثامن‬
‫عشر ميالدي دو ار بار از في احتكاكهم بالحضارات والثقافات والعادات واللغات المختلفة‬
‫لمختلف الشعوب بعد سيطرتهم على السوق التجاري‪ ،‬ومن خالل رحالتهم التجارية حيث‬
‫"كان التجار يراقبون الطرق المالحية أي البحر المتوسط والمحيط الهندي والطرق البرية (في‬
‫الصحراء) ويشهد على ذلك ثراء األدب الجغرافي حيث اختزن المسافرين اإلنسانيون معارف‬
‫دقيقة متنوعة تتوزع على الشعوب والثقافات والحضارات‪ ...‬يغلب عليها الطابع الدنيوي‬
‫والعقالني وهو يساعد على رسم خطوط االنفصال بين أنسنة الذات ذات التمركز الالهوتي‬
‫يسيرها العلماء حماة المقدس وأنسنة فلسفية متمركزة حول تكوين اإلنسان العاقل القادر على‬
‫‪1‬‬
‫اإلبداع الفكري والممارسة النقدية للعقل"‪.‬‬

‫يتضح لنا أن العامل االقتصادي أدى لظهور اتجاه فكري جديد تمثل في النزعة‬
‫اإلنسية بعد التعامل المباشر من خالل التجارة مع كل التنوع الفكري والثقافي الذي كان سائد‬
‫في تلك الفترة‪.‬‬

‫ج ‪-‬العامل الثقافي‪:‬‬

‫كما لعب االحتكاك الثقافي دور مهم في إبراز تلك النزعة اإلنسية من خالل التعارف‬
‫والتبادل والتأثر والتأثير ومن خالل اكتشاف التراث اليوناني خاصة‪"،‬المجال الثقافي مكن‬
‫تقدم الفلسفة والعلوم اليونانية من تدعيم الفلسفة المعلمنة في القرن الرابع هجري‪ /‬العاشر‬
‫ميالدي"‪.2‬‬

‫لذا فإن قبول التعدد واالتفاق عليه واالعتراف باالختالف باحترام كل التصورات سمة‬
‫اتسمت بها المناهج اإلنسانية التي جسمت االنفتاح على مختلف الثقافات والمذاهب واألديان‬
‫بعد ما جعلت كل البحوث الفكرية خاضعة لفرضيات العقل وحده وإسناد كل األسئلة‬
‫والتعقيدات الكونية له كمنطلق فعلي لخوض مغامرة االستكشاف العلمي والتاريخي واألدبي‬
‫وإخضاع أيضا اإلجابات والتفسيرات لمنطق العقل اإلنساني ولقد وجد أثر تلك النزعة في‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬األنسنة واإلسالم مدخل تاريخي نقدي‪ ،‬ت‪ :‬محمود غرب‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2010‬ص ‪.37‬‬
‫‪ 2‬محمد أركون‪ ،‬المرجع نقسه‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪134‬‬
‫التراث العربي اإلسالمي من خالل التوحيدي ومسكويه في القرن الرابع هجري عندما تميزت‬
‫هذه الفترة "بنماذج تحتذي إنها تكشف بوضوح وصرامة نقدية ويقين متقد عن اهتمامات‬
‫الجيل الالحق للفارابي وابن سينا وقد أعلن التوحيدي بوضوح ‪ ...‬تمرده الفكري ونقده القاطع‬
‫وذلك من دون أن يتخلى عن بعده الروحي‪ .‬ومن أجل ذلك كان التوحيدي يريد تعطيل‬
‫الشعائر الدينية من أجل خلق فضاء مناسب للتعميق الروحي"‪ .1.‬ألن التوحيدي اشترط في‬
‫تحقيق التقدم والتطور واإلبداع عامل توظيف العقل في ذلك دون أي تخوف من التنوع‬
‫والمصادر واالنفتاح الشامل على التباين الحاصل في مختلف الحركات الفكرية والدينية‬
‫ورموزها واالستفادة من نتاجاتها ونتاجات العصور السابقة والحاضرة في مختلف المجاالت‪.‬‬
‫هذا نفسه ما ذهب إليه موسكويه "فقد كان صديق التوحيدي وكافال لجبرته ومحاورته إذ أنه‬
‫يعكس الصفاء والتربية الدؤوبة المتأنية المتزنة للحكيم الفيلسوف الناهل من الثقافة اإليرانية‬
‫‪2‬‬
‫والمنفتح على تاريخ كوني لثقافات وشعوب مختلفة"‪.‬‬

‫يعرض محمد أركون هنا مثالين لرؤية عربية إسالمية جسدت األنسنة‪ .‬وهو إ ْذ يقدمهما‬
‫فهو يلفت النظر إلى إمكانية إحياء هذه النزعة في الفكر العربي اإلسالمي من أجل وضع‬
‫دافع قوي لالنطالق في دراسة جريئة‪ .‬هذا التصور الذي ظهر منذ القرن الرابع‬
‫ألسباب عديدة "هناك سببان‬ ‫للهجري‪/‬الحادي عشر الميالد في الواقع اإلسالمي أهمل‬
‫يدعوان عن التجربة اإلنسية من أجل موضعة اإلسالم في التاريخ بشكل أفضل‪ .‬األول هو‬
‫أن هذه التجربة كانت قد نسيت وأهملت من قبل المفكر العربي اإلسالمي نفسه منذ أن كان‬
‫السني في القرن الخامس الهجري‪ /‬الحادي عشر ميالدي ‪ ...‬إنها‬
‫حصل رد فعلي الفعل ّ‬
‫ليست منسية فقط وإنها هي منكرة ومرفوضة بشكل مزدوج من قبل اإلستشراق الذي يرفض‬
‫أن يخلع على اإلسالم تاللك التجربة الشهيرة‪ ...‬كما أنها مرفوضة من قبل التيار األصولي‬
‫اإلسالمي المعاصر الذي يريد التشديد على األصل اإللهي‪ ..‬أما السبب الثاني فهو فلسفي‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬األنسنة و إلسالم المرجع نفسه ص‪.39‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.39‬‬
‫‪135‬‬
‫ذلك أن النجاحات التكنولوجية للغرب جعلت الخطاب اإلنسي والنزعة اإلنسانية تبدو هامشية‬
‫وباطلة"‪.1‬‬

‫مرة أخرى يرجع أركون إللقاء الالئمة على العقل اإلسالمي في تهميش األنسنة باعتماده‬
‫على األحكام المقدسة وينتقد الفكر اإلستشراقي الذي استبعد دور االنسان في الساحة الفكرية‬
‫اإلسالمية كما انتقد التطور التكنولوجي المادي الذي غيب النزعة اإلنسية وسيطر على‬
‫العقل التواصلي حسب رأي هابرماس‪.‬‬

‫سعى أركون مجتهدا من أجل إثبات السبق في تناول الفكر العربي اإلسالمي النزعة‬
‫اإلنسية منذ عصور قبل النهضة األوربية ألن الثقافة اإلسالمية كانت تهدف إلى االنفتاح‬
‫واالستفادة من مختلف األفكار واستثمارها بالعقل لتحقيق اإلبداع‪.‬‬

‫غير أن أركون يرى أن هذه النزعة اإلنسية في الفكر اإلسالمي سرعان ما تالشت‬
‫واضمحلت ابتداء من القرن الخامس الهجري‪ .‬بعد أن "فرضت اللغة العربية والتعاليم‬
‫اإلسالمية نفسها فيها آخر مصي ار مختلفا جدا عن ذلك الذي شهدته بدءا من القرن الخامس‬
‫الهجري‪ /‬العاشر ميالدي حيث ابتدأ االنحطاط وذيول االتجاهات اإلنسانية والعقالنية‪ ...‬التي‬
‫كانت بالكاد قد ابتدأت تؤكد نفسها أقول راحت تدوي وتموت شيئا فشيئا‪ ،‬والسبب هوأنها‬
‫‪2‬‬
‫حوربت من قبل قوى اجتماعية داخلية وخارجية"‪.‬‬

‫دعوة يرى من خاللها أركون ضرورة استفاقة المفكرين المسلمين والعرب من سباتهم‬
‫موجها لهم الخطاب بالرجوع في البحث عن أسباب هذا التراجع الفكري ومراجعة جميع العلل‬
‫االجتماعية والثقافية واالقتصادية التي أدت لهذا التعثر المخيف "فهذه التحريات هي وحدها‬
‫القادرة على الكشف عن األسباب الدنيوية العريضة‪ ...‬لتهميش النظام المعرفي الذي بلوره‬
‫جيل مسكويه ودافع عنه إنها هي وحدها التي تكشف لنا عن سبب انهيار هذا النظام أو‬
‫تصفيته أو نسيانه في الساحة العربية ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا‪ ...‬ولئن جاز‬
‫سوسيولوجيا الفشل في هذه ينبغي أن ندرس المجريات التي تمت من خاللها تفكك عملية‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي‪ ،‬قراءة علمية‪ ،‬ص‪76‬‬


‫‪ 2‬محمد أركون‪ ،‬نزعة األنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه و التوحيدي‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ق ص ‪.49‬‬
‫‪136‬‬
‫السلطة السياسية واالقتصادية ثم إعادة تركيبها‪ ...‬ينبغي أن نأخذ بعين االعتبار الضغوط‬
‫التي مارستها القوى االجتماعية الجديدة كالعبيد والبدو واألتراك والمغول والصليبيين"‪.1‬‬

‫أركون ال يعتقد حسب رأيه بأن التفكير الديني الالهوتي هو وحده سبب االنغالق على‬
‫الثقافات األخرى وليس وحده من حكم على العقل بالدغمائية بل اجتماع كل تلك العوامل‬
‫الذاتية والفكرية والمادية هو من سمح لأليديولوجية الميتافيزيقية بتمثيل الفكر محل النزعة‬
‫االعقالنية واإلنسية‪.‬‬

‫‪ -4‬أسباب غياب النزعة اإلنسية في الفكر العربي ‪:‬‬

‫يواصل أركون في تبرير تراجع النزعة اإلنسية في الفكر العربي اإلسالمي بطرحه‬
‫لعدة عوائق حالت دون استمرارها في منهجه ومن بينها‪:‬‬

‫‪ -‬األرثودوكسية‪ :‬استحدث محمد أركون هذا المصطلح لتماثل دور الكهنة في الكنيسة‬
‫بدور رجال الدين في اإلسالم وهو يراها أنها‪":‬هيئة من الفقهاء تسيطر على األرثودوكسية‬
‫وتشرف على تطبيق القانون الديني وذلك بالتعاون مع سلطة الدولة فجماعة العلماء من كبار‬
‫رجال الدين قد أدوا في اإلسالم الكالسيكي كما في األنظمة السياسية المعاصرة دو ار مشابها‬
‫في نواح كثيرة لدور الكهنة في الكنيسة المسيحية قبل أن يحصل الفصل بين الكنيسة‬
‫والدولة فشخصيات من مثل المفتي والقاضي واإلمام يشكلون هيئة دينية ومدنية في آن‬
‫‪2‬‬
‫معا"‪.‬‬

‫أركون منذ الوهلة األولى انطلق في دراسة العقل اإلسالمي ‪ -‬متأث ار بما ما وصل‬
‫إليه المفكرون األوربيون في دراسة نصوصهم وتاريخهم في تلك الفترة ‪ -‬ومعجبا بأدواتهم‬
‫التي استعملوها في بحوثهم رأى في الموروث اإلسالمي أتذك ما أروا هم عن موروثهم‬
‫واتخذ أحكامهم معيا ار للحكم على العقل اإلسالمي العربي ليستنتج أن العقل اإلسالمي‬
‫العربي ظل غارقا في نوم عميق وذلك بسبب رجال الدين الذين فرضوا الصمت أمام‬

‫محمد أركون‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪50‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬محممد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي‪ ،‬نقد واجتهاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.136‬‬
‫‪137‬‬
‫النصوص المقدسة ووقفوا في وجه البحث العقلي والدراسة اإلنسانية وحرموا اآلخر وكل ما‬
‫يأتي منه ونصبوا أنفسهم الناطق الرسمي والوحيد باسم الرب وجعلوا من أنفسهم وسيط بين‬
‫العقل وهللا مثلهم في هذا مثل الكهنة في الكنيسة األرثودوكسية الذين عمدوا لرفض األنسنة‬
‫والعقالنية وحاربوا كل من حاول فهم الغموض وأراد رفع القداسة على النصوص المقدسة‪.‬‬
‫نفس ما نجده تماما من تعصب فكري وانغالق في الرؤية في التيارات الفكرية والسياسية‬
‫كالشيوعية والعلمانية‪ .‬فكانت كلها تتبنى الخالص وترفض كل من يعارضها وتصفه‬
‫بالرجعي‪.‬‬

‫ما دفع أركون لإلصرار على دعوة المفكرين العرب إلى إعادة تناول موروثهم العربي‬
‫اإلسالمي بتصور نقدي وتحليل عقلي محض يأخذ كل المعطيات بنحو تفكيكي تستوي فيه‬
‫مختلف التعاليم الدينية المطروحة وتتيح بكل قناعة الفرصة للباحث لالستفزاز النص بأسئلة‬
‫العقل حتى يستل الحقائق منه دون رهبة ودون ندم وخاصة في تناول (الالمفكر فيه)الذي‬
‫بقى لفترة طويلة حبيس الخوف والتبجيل‪.‬‬

‫السياج الدوغمائي‪ :‬في تصور أركون الدوغمائية أعاقت بشكل مباشر النزعة اإلنسانية‬
‫وتوجهاتها حيث أنتج العقل المنغلق ‪,‬المقيد كل تأخر فكري وتخلف علمي وتفكك اجتماعي‬
‫وفي هذا يتصور أركون أن الدوغمائية لها" انعكاسات واقعية أو تطبيقية على حياة اإلنسان‬
‫وإنجازاته وتقدمه وتحرره أو تأخره وفشله وضعفه وانحالل قيمه ومذاهبه ونظمه ومساعيه‬
‫الهادفة إلى تحقيق السعادة والنجاة وسائر المطامح وإن الصعوبة الكبرى التي تواجهنا هنا‬
‫تكمن في كيفية تحريم العقل النقدي من القيود االبستيمية واإلبستيمولوجية التي فرضها العقل‬
‫الدوغمائي على جميع الممارسات الفكرية والثقافية"‪.1‬‬

‫يسترسل أركون في نقده للعقل الدوغمائي فيراه أنه ال يقبل أي طرح أو بحث نقدي ألنه‬
‫محاط بسياج مغلق وحبيس أفكار منغلقة على ذاتها‪ .‬عقل أحادي متعالي نرجسي ال يؤمن‬
‫باآلخر وال يتقبل التنوع والتبأين بل يرى نفسه مركز لكل التصورات وهو"يحذف من دائرة‬
‫بحوثه مسألة المحتويات والمضامين لمصلحة األشكال والوظائف واآلليات وطرق‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني‪ ،‬كيف نفهم اإلسالم اليوم‪ ،‬ت‪ :‬هاشم صالح‪ ،‬دار الطليعة للطباعة و النشر ‪،‬‬
‫بيروت ص ‪.6‬‬
‫‪138‬‬
‫االشتغال‪ ...‬فالعقلية الدوغمائية تركز أساسا على ثنائية ضدية حادة هي‪ :‬نظام من األيمان‬
‫أو العقائد‪ /‬ونظام من األيمان واالعتقاد بكلمة أخرى أكثر وضوحا فإن العقلية الدوغمائية‬
‫ترتبط بشدة وبصرامة ولمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة‬
‫مجموعة أخرى وتعتبرها الغية ال معنى لها ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه‬
‫‪1‬‬
‫أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن واألجيال على هيئة ال مفكر فيه"‪.‬‬

‫إن الدغمائية تصور أحادي متعالي ال يعترف إطالقا بالدراسة النقدية وال يتقبلها نهائيا‬
‫مهما كانت البراهين العلمية وبقي هذا العقل على العموم يؤمن بمركز يته وقداسة أفكاره‬
‫مرسخا بذلك جملة من المعتقدات والتصورات المبهمة التي دخلت في دائرة (الالمفكر‬
‫فيه)‪.‬منغلقا على ذاته طيلة عصور على غرار العقل العربي اإلسالمي بل وأكثر من ذلك‬
‫الزالت لحد اآلن الساحة العربية اإلسالمية خاضعة له ‪.‬‬

‫‪ -5‬هيمنة المفكر فيه‪:‬‬

‫يقدم أركون تفسير( المفكر فيه) و( الالمفكر فيه) يعني "هو كل ما أتيح للفكر العربي‬
‫اإلسالمي – أن يفكر فيه خالل تاريخه الطويل ( المفكر فيه) وكل ما لم يتح له أن يفكر‬
‫فيه( الالمفكر فيه) فهو يرى أن ما لم يفكر فيه الفكر اإلسالمي أهم واجل شأنا مما كان قد‬
‫فكر فيه ومهمته اليوم كمجدد للفكر اإلسالمي أن يفتتح تلك القارة الواسعة من الالمفكر فيه‬
‫والتي بقيت مغلقة زمنا طويال‪...‬وذلك ألسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها"‪.2‬‬
‫لهذا يرى أركون أنه ينبغي علينا أوال البحث عن المفكر فيه في النصوص الدينية ثم بعد ذلك‬
‫نتطرق (لالمفكر فيه)‪.‬‬

‫ألنهما حسب أركون مفهومان مترابطان متالزمان ومتكامالن"وهكذا نجد أنفسنا أمام تشكيل‬
‫جبار لممكن التفكير فيه من نوع أسطوري –ديني منضغط في تسلسل زمني( ‪324-1‬ه‪/‬‬
‫‪ 936-622‬م) ضيق ومنفتح في آن معا على قبل ‪ /‬وبعد من األبدية يبدوا هذا الممكن‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي‪ ،‬قراءة‪ ،‬علمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪6-5‬‬
‫‪ 2‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪139‬‬
‫التفكير فيه (‪ )pensable‬قاسيا إكراهيا وبالتالي مرتبطا بال مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر‬
‫أهمية كما توغلنا في زمن األرثودوكسية"‪.1‬‬

‫يهدف تحرير وانفتاح العقل العربي اإلسالمي إلى تمكينه من دراسة (الالمفكر فيه) إ ْذ‬
‫ال ينبغي الفصل بين (المفكر فيه) و(الالمفكر فيه) بل بالعكس ينبغي اعتبارهما مفهومان‬
‫متالزمان ومترابطان ألن البحث في (الالمفكر فيه) يستدعى دراسة المسائل والتعقيدات التي‬
‫أدت للوصول للدغمائية األرثودوكسية بواسطة العقل النقدي للتراث اإلسالمي ولهذا وجب‬
‫العمل على "تعرية الوظائف األيديولوجية والتالعبات المعنوية واالنقطاعات الثقافية‬
‫والتناقضات العقلية التي تساهم في نزع الشرعية عما كان متصو ار ومعاشا طيلة قرون وقرون‬
‫بمثابة أنه التعبير الموثوق عن اإلرادة اإللهية المتجلية في الوحي‪ ...‬يعني أن نخترق أو‬
‫ننتهك ( ‪ )transgresser‬المحرمات والممنوعات السائدة أمس واليوم ونتهم الرقابة‬
‫االجتماعية التي تريد أن تبقى في دائرة المستحيل التفكير فيه )‪ (impensable‬كل األسئلة‬
‫لتي كانت قد طرحت في المرحلة األولية والبدائية لإلسالم"‪.2‬‬

‫أركون يريد قراءة نقدية جديدة للتراث اإلسالمي وإعادة بناء ألسسه العلمية‬
‫واالجتماعية والتاريخية بواسطة المناهج والوسائل الحديثة المتمثلة في االجتماعية والعلوم‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -6‬األنسنة كركيزة منهجية في فكر محمد أركون ‪:‬‬

‫أركون بعد دراسة عميقة للفكر اإلسالمي يقر باحتالل النزعة اإلنسانية موقع مهما‬
‫عبر تاريخه كما يريد من خالل رأيه إبراز نضج الفكر اإلسالمي في مرحلة معينة بتناول‬
‫عقلي بمختلف القضايا والمعطيات وهنا يقدم أركون بشكل فلسفي نزعتين نزعة علمانية‬
‫ونزعة دينية خاضعة لرجال الدين وال أساس لها من الواقع ألنها تمثل سلطة ميتافيزيقية‬
‫محصورة في تصور مقدس ال يتيح المجال لقراءة نقدية للنصوص الدينية هذه النزعة الدينية‬
‫تجسدت في الديانات كلها سواء كانت إسالمية أو يهودية أو مسيحية من خالل تقديس‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪ ،‬ص ‪.257‬‬


‫‪-2‬محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪140‬‬
‫النصوص واعتبار األحكام الدينية مطلقة ال تقبل النقد وال يمكن تكذيبها‪".‬في الواقع أن جميع‬
‫األديان تقدم نفسها على أساس أنها أنظمة من االعتقاد‪ /‬والالإعتقاد‪ :‬أي أنظمة تشتمل على‬
‫مجموعة من المعتقدات األساسية التسليمية وتنفي ما عداها‪...‬تمارس فعلها على هيئة‬
‫الحقائق المطلقة ال يمكن تجاوزها كما وتقدم نفسها على هيئة نواميس معيارية للسلوك‪ ،‬ورؤيا‬
‫محددة للواقع وأجوبة عملية لحل المشاكل التي تعرض في الحياة وكل هذه المعتقدات تفرض‬
‫نفسها على جميع البشر بشكل إجباري ألنها مصاغة ومقدمة من قبل األلوهية أو اآللهة"‪.1‬‬

‫يرى أركون أن فهما تقليديا للدين ساهم في تثبيط العقل من خالل تقييد اإلنسان‬
‫بمختلف أطيافه وطبقاته من مفكرين وعلماء بأحكام الدين وبتسييج العقل بمجموعة من‬
‫العقائد وفرض الوالء والطاعة المطلقة للتعاليم اإللهية وبالتالي أخر وأعاق ووقف في وجه‬
‫النزعة اإلنسية كمنهج نقدي عقلي خوفا من التعرض إلعادة النظر في المنتوج الديني‬
‫وتصحيحه‪"،.‬ولقد ظل هذا النظام الديني مهيمنا على عقول البشر حتى ظهور الحداثة‬
‫الفكرية وسالحها المفضل النقد التاريخي للنصوص كل النصوص بما فيها النصوص‬
‫المقدسة‪ ...‬ماذا تقصد بأنها خاضعة للتاريخية؟ نقصد بأنها خاضعة لضرورات الحياة‬
‫السياسية واالجتماعية والثقافية وأنها متغيرة بتغيرها"‪.2‬‬

‫لقد برر أركون هذا االتجاه العقلي النقدي في الفكر اإلسالمي بضعف صمود النص‬
‫الديني أمام التغيرات التي حصلت وهشاشة تلك األحكام الفقهية والفتاوي أمام السيرورة‬
‫االجتماعية واالقتصادية والتاريخية عبر الزمن وتغير تلك األحكام بتغير الظروف‬
‫االجتماعية واالقتصادية والتاريخية مثلما تقره القاعدة الفقهية "تتغير األحكام مع تغير الزمان‬
‫"ما جعل أركون يطرح مفهوم التاريخية لدراسة الموروث اإلسالمي بتناول عقلي انسي‬
‫خالص‪.‬‬

‫حسب رأي أركون التراث الديني أو المقدس "اإلسالمي( كالتراثيين المسيحي أو‬
‫اليهودي) يتمتع بامتياز خاص هو‪ :‬ممارسة األستاذية العقائدية على كل مسألة أو مشكلة‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬نزعة األنسنة في الفكر العربي المعاصر‪ ،‬جيل مسكويه و التوحيدي‪ ،‬ت‪ :‬هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص ‪17‬‬
‫‪ 2‬محمد أركون‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪141‬‬
‫تنبثق في التاريخ البشري وهم يعتقدون أن التراث الديني يمتلك وحده المبادئ والمنهجية"‬
‫الصحيحة" التي تمكنه من تقديم أجوبة منسجمة مع مجمل القيم والعقائد اإلنسانية‪ ...‬يدعي‬
‫في الوقت ذاته سيطرته على كل الميادين العلمية‪ ...‬وهنا في هذه النقطة بالذات يتولد‬
‫الصراع المحتوم بين الفقهاء الذين يمارسون هذه األستاذية العقائدية وبين كبار‬
‫‪1‬‬
‫االختصاصيين في المجاالت العلمية"‪.‬‬

‫يدافع أركون بكل قوة عن موقفه في النزعة اإلنسية ويدعوا العقل اإلسالمي الستخدام‬
‫المناهج الحديثة واستثمارها في إعادة بناء الفكر على أسس عقلية لتحقيق األهداف المرجوة‬
‫وال يتأتى هذا إال بتحرير العقل من الدين ووضع الموروث الديني على طاولة التشريح بنقد‬
‫عقلي سليم حتى يتمكن من التعافي من قيود الدوغمائية ويتمكن من تحقيق النهضة‪ "،‬تعاني‬
‫من إشكالية ثبات الحقيقة ثم إحاطة اإلله بها ثم قدرة اإلنسان الوصول إليها من هذا الطريق‬
‫فاإلله يخاطب االنسان من طريق الوحي ومن خالل قراءة الوحي يستكشف اإلنسان الحقيقة‬
‫ومجرد اعتقاد اإلنسان أن الحقيقة موجودة في النص –ولو كان كالما إلهيا – يفقد االنسان‬
‫‪2‬‬
‫جزءا مما يسميه أركون " المسؤولية الفكرية''‪.‬‬

‫بما أن الدراسة النقدية تطلبت الحرية والجرأة من الباحث فإن األنسنة مكنت العقل عموما‬
‫ماديا ال ديني أكدت من‬
‫أدبيا ً‬
‫فلسفيا ً‬
‫ً‬ ‫مذهبا‬
‫ً‬ ‫أساسا‬
‫ً‬ ‫من هذا التصور حيث أنها اتجاه َمَث َل‬
‫خالله على فردية االنسان ضد الدين الذي غيب وأسر لفترة طويلة العقل اإلنساني كما‬
‫دعت إلى تحرير االنسان من أغالل وقيود العصور الوسطى وسيطرة الكنيسة عليه‬
‫واستبعدت الوقوف بين العقل وأدواته وبين النص وما تضمنه‪ .‬فالنزعة اإلنسية ليست نسقا‬
‫فلسفيا معينا وجامدا وال هي تعاليم مغلقة على ذاتها بل جدال مستمر عرف عدة تصورات‬
‫قبل القرون الوسطى على اعتبارها حق مشروع في الفكر اإلنساني منذ قديم الزمان ولكن‬
‫تعددت أشكال التعبير عليها فقط ‪.‬وبالعودة إلى ما أراده أركون من الثقافة العربية اإلسالمية‬
‫هو إسقاط هذا المفهوم عليها بممارسة النقد العقلي بهدف نزع القداسة على التاريخ اإلسالمي‬
‫حيث رأى أن التعاليم في الفكر اإلسالمي ينبغي اعتبارها غير مطلقة وعليه يمكن تحرير‬

‫‪1‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي‪ ،‬نقد و اجتهاد‪ ،‬ص‪.144-113‬‬


‫‪ 2‬مصطفى الحسن‪ ،‬الدين‪ ،‬النص‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.102‬‬
‫‪142‬‬
‫العقل من هذه القداسة من أجل تمكينه من دراسة النص بكل جرأة ‪ .‬أركون وهو يدعو لما‬
‫تبنته النزعة اإلنسانية يثبت في نفس الوقت جذورها في الفكر اإلسالمي القديم في القرن‬
‫الرابع هجري إ ْذ يرى أركون أن الفقهاء والمفكرين في التاريخ اإلسالمي اعتقدوا أن موروثهم‬
‫الذي نقل إليهم بعد النزول استلموه دون تحريف أو دون زيادة أو حذف بكل صدق وأمانة‬
‫ما أعطى هذا التراث مصداقية مطلقة وأحادية متعالية بما أنها "كلمة هللا" إال أن رجال الدين‬
‫استغلوا هذا الوضع فنصبوا أنفسهم ممثلين لها ووسطاء بينها وبين العقل وأكثر من ذلك‬
‫استفردوا بتفسير الخطاب الديني ووضعوا ألنفسهم دون غيرهم الحرية المطلقة لفهم معاني‬
‫النصوص اللغوية وما تحمله من دالالت ما أدى بعد ذلك لتحويل الخطاب الديني إلى‬
‫وهذا ما نقرأه في الكتب الفقهية مثل كتاب "ابن القيم الجوزي" "إعالم‬ ‫خطاب سياسي‬
‫الموقعين من رب العالمين "الذي يرى فيه أن هؤالء الفقهاء ورجال الدين هم صورة لإلرادة‬
‫اإللهية في هذا الكون‪.‬‬

‫يدعو أركون إلعادة بناء التاريخ اإلسالمي بنزعة إنسية من خالل البحث في أسباب‬
‫تغييب هذا التصور في تاريخ الثقافة العربية اإلسالمية والرجوع للنقطة التي عرفت تراجع‬
‫العقل اإلسالمي بعد االزدهار الفكري الذي عرفه ومن خالل معرفة تلك العوامل يمكن وضع‬
‫أرضية جديدة انطالقا من تصور عقلي يحتوي تلك المعارف والقيم ويقدم إجابات مقنعة‬
‫تمكننا من العودة مرة أخرى للنزعة اإلنسية ألن تلك الفترة الكالسيكية أظهرت احتراما كبي ار‬
‫للذات اإلنسانية التي كانت تصبوا لتحقيق االزدهار والتطور وفك أغالل الدوغمائية المنغلقة‬
‫بسالح العقالنية المستنيرة فهي" نظرية ترفض كل أشكال االغتراب واالضطهاد وتطالب‬
‫‪1‬‬
‫باحترام الكرامة اإلنسانية وحق األشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها"‪.‬‬

‫تتفق تلك الرؤية مع ما نادى إليه كانط في اعتقاده أن االنسان هو موضوع وفاعل (الذات)‬
‫وهي نفسها لها دخل بالمعرفة والعمل الفكري هو نتاج تفاعل واحتكاك مع اآلخر ألن بنية‬
‫الفكر معدة من أجل أن تستوعب في داخلها جميع المعارف‪ .‬والنزعة اإلنسية في الثقافة‬
‫العربيى اإلسالمية مست جميع المجاالت"فالعصر الكالسيكي كان قد شهد النزعة اإلنسانية‬

‫‪ 1‬زرقة بلقواس‪ ،‬محمد أركون‪،‬رؤية في مسارات األنسنة‪ ،‬مجلة التغيير االجتماعي‪ ،‬جامعة بسكرة‪ ،‬محمد خيضر‪ ،‬العدد‬
‫الرابع‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫نظريا وعمليا واتخذت لديه من الناحية األسلوبية صيغة األدب بالمعنى الواسع للكلمة وليس‬
‫بالمعنى إجمالي أو الفني وقد اعتنى األدب بالعناصر والمعطيات الفلسفية بمعنى أن كتب‬
‫األدب الكالسيكية كانت تحتوي على البيان األسلوبي واألفكار الفلسفية في آن معا"‪.1‬‬

‫ألن الثقافة العربية اإلسالمية شهدت في العصر الكالسيكي جداال فكريا وعلميا ثريا‬
‫وعرفت التحاق علماء ومفكرين من ذوي الثقافات واألصول الحضارية المتنوعة باإلسالم‬
‫وحضارته‪ .‬هذا كله استطاع أن يجعل في تلك الفترة محافل الخلفاء ملتقيات للفكر وعرض‬
‫لكل ما استجد على الحياة العلمية والفكرية بين النخبة الفكرية في هذه المجتمعات‪ .‬إ ْذ أن‬
‫تركيزهم في ذلك العصر لم يكن حول النصوص الدينية فقط بل كان أيضا حول االنسان‬
‫الذي تمكن من البحث العلمي وتقديم الدالالت وتفسير التعاليم بإرادة حرة صنعت اإلبداع‬
‫والتطور بكل وعي ومسؤولية وفي هذا تبنى المفكرين في هذا العصر النزعة اإلنسية التي‬
‫آمنت باهلل وآمنت بإرادة االنسان المتمردة والمتحررة من القيود‪ .‬وجمعت العمل بالعلم كما‬
‫جاء في رأي التوحيدي‪.‬‬

‫في هذا الصدد يقول أركون‪" :‬لقد سبقنا أبو حيان التوحيدي إلى مثل هذه اإلشارات‬
‫ضد الممارسات االعتباطية للعقل واإلعراض عن‬ ‫والتنبيهات وأظهر دور التمرد العقلي ّ‬
‫قوانين البحث العلمي ‪ ...‬رحم هللا أبو حيان الذي علمني القيمة الفكرية للتمرد العقلي إذا ما‬
‫ضاق المجال أمام الممارسة الهادئة "والمنهاجية" للعقل وهو الذي قال وك ّرر "إن اإلنسان‬
‫أشكل عليه اإلنسان" لقد ناضل أبو حيان وهوجم وظلم وعاند وثابر وصبر‪ ...‬لكي ال يستعبد‬
‫اإلنسان لعنف اإلنسان"‪.2‬‬

‫يرى أركون أن أبو حيان التوحيدي كان واحدا من هؤالء الذين اجتذبهم هذا الجدال‬
‫الفكري والعلمي الجريء والثري ولقد ترك للفكر والثقافة واألدب والعلم تراثا يفتخر به التراث‬
‫العربي اإلسالمي إلى اليوم‪ .‬عكس بطرحه بشكل واضح النزعة اإلنسية التي نصبوا نحن‬
‫إليها والتي حملها عصر النهضة كجنين بدت مالمحه بشكل أفضل وتام في عصر األنوار‬
‫هذه النزعة التي اهتمت أكثر باإلنسان وبالتبادل الثقافي وبالجدال الفكري واستبعاد العنف‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬نزعة األنسنة في الفكر العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ -‬ص ‪.14‬‬
‫‪2‬محمد أركون‪ ،‬قضايا من نقد العقل الديني‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪144‬‬
‫ورفضه وهي نزعة واقعية ليست نزعة إنسية شكالنية‪ "،‬ال عالقة لها بالواقع فهذه اإلنسية ال‬
‫تقيم أية مقارنة بين تعاليم الفلسفة اإلنسية النبيلة والسامية وبين الممارسات السياسية التي‬
‫تجري على ارض الواقع‪ ...‬هذه اإلنسية شكالنية ويحق لفوكو وغيره أن يدينوها خصوصا‬
‫بعد كل ما حصل أثناء المرحلة اإلستعمارية وأثناء الحربين العالميتين األولى والثانية من‬
‫مجازر لإلنسان يشيب لها الولدان"‪.1‬‬

‫انطالقا من هذا فإن أركون يقترح دراسة سوسيولوجية للبحث في أسباب الرئيسية وراء‬
‫تراجع النزعة اإلنسية لذا بداية "ينبغي أن نطرح مشكلة االنحطاط‪ -‬أو الجمود‪ -‬ال يقرره‬
‫شخص واحد‪ ...‬االنحطاط يقرره تيار تاريخي أو بنية اجتماعية بأسرها فإذا ما جمدت بنية‬
‫المجتمع أو تكلست أو تراجعت تكلس الفكر فيه وتراجع‪ .‬وإذا ما ازدهر هذا الفكر وتألق‬
‫المجتمع هو الذي يحسم األمور وليس الفرد األطر االجتماعية‪ ،‬للمعرفة هي التي تستقبل‬
‫الفكر الفلسفي أوال تستقبله هي التي تتيح له أن يزدهر أو تضيق عليه الخناق"‪.2‬‬

‫ألن أركون يرى أن هذه النظم احتواها الفكر العربي اإلسالمي وتبناها في مرحلة معينة من‬
‫تطوره إال أنه تراجعت واضمحلت بداخله تلك الشعلة اإلنسية واتجه لرؤية دينية منغلقة تماما‬
‫على ذاتها وعلى اآلخر تترجم ذلك بصراع الهوية والحفاظ على الموروث الديني‪" .‬وعندما‬
‫يخشى المجتمع على نفسه ويشعر بأنه مهدد باألخطار فإنه ال يعود يفكر بشكل عقالني‬
‫هادئ وإنما يصبح مياال إلى الفكر األيديولوجي الذي يجيش الجماهير من أجل الكفاح أو‬
‫الجهاد ومواجهة األخطار"‪.3‬‬

‫هذا ما يجعل الفكر الدوغمائي يسيطر بدال من الفكر التنوري العقالني المبني على النقد‬
‫التاريخي‪ ،‬فالمجتمع هوالذي يلعب الدور لكي يحمي العقل حتى يستطيع أن ينمو ويزدهر‪،‬‬
‫وإذا حدث العكس فيصبح الفكر األرثودوكسي الدوغمائي هو دائما المسيطر على الوعي‬
‫والفكر االجتماعي‪.‬‬

‫‪1‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اإلسالمي نقد و اجتهاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪2‬محمد أركون‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني‪ ،‬ص ‪.301‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.301‬‬
‫‪145‬‬
‫إن محمد أركون يرى أن استبعاد العقل وخضوع النصوص الدينية للتأويالت الفكرية‬
‫من طرف المتسابقين على السلطة ثبط امتداد وتطور النزعة اإلنسية في القرن الرابع الهجري‬
‫وأدى هذا إلى الدوغمائية المنغلقة التي أنتجت المذاهب الفقهية التي تلقت تعاليمها من الفكر‬
‫التقليدي ‪.‬تماما ما حدث مع رجال الدين في الكنيسة حيث أنتجت (المدارس السكوستيكية)‬
‫في العصور الوسطى‪ .‬يعتبر هذا التوجه في الفكر اإلسالمي نقطة تحول سلبية غربت‬
‫العقل عنه وعمقت البعد بينه وبين النزعة اإلنسية وعليه البد من وضع استفسار شامل‬
‫لمعرفة العلل التي أوقفت مسار الفكر في تلك الفترة التاريخية‪.‬‬

‫يذهب أركون إلى أبعد من ذلك عندما يرى أن ما كتب في الفكر اإلسالمي الكالسيكي‬
‫أعمق بكثير مما كتب في الفكر اإلسالمي المعاصــر‪ .‬ويتساءل عن ما هي العوامل التي‬
‫ساعدت على ظهور األنسنة في العصر الكالسيكي اإلسالمي؟ ولماذا تراجعت ولم تكتمل‬
‫سيرورتها فيه؟ واألهم من ذلك كيف يمكن بعث هذه النزعة من جديد في الفكر العربي‬
‫اإلسالمي المعاصر؟‬

‫أركون يطرح هذه األسئلة وفي نفس الوقت يدعــو إلى التحرير الفكري من خالل طرح‬
‫مشكلة المقدس وتحديد العالقة بين الحقيقة والوحي واللغة والتاريخ وغرضه من كل ذلك هو‬
‫التحرر من الالهوت القروسطي‪ ،‬وتوليد الهوت جديد ليبرالي إنساني‪ ،‬يستبعد المسلمات‬
‫الدوغمائية ويؤسس للقيم الفلسفية النقدية المناهضة للمطلق والمقدس‪ ،‬ورد االعتبار للعقل في‬
‫صياغة األسئلة بعيدا عن كل سبق ديني‪ .‬ألنه يرى أن ارتباط اإلسالم بالسياسة وارتباط‬
‫المفكرين بالسياسيين في العصر الحديث لم يسمح باستعادة الرصيد العقلي الفلسفي وبالتالي‬
‫لم يسمح باستعادة النزعة اإلنسية ألن هؤالء المفكرين وقعوا في فخ التعالي والتقديس للتراث‬
‫والذي أدى لمشكل الهوية التي تقف في وجه الدراسة النقدية وفي وجه االنفتاح والتبادل‪" .‬وإذا‬
‫كان هذا السبب السياسي في هيمنة هذا السياج في الفكر اإلسالمي المعاصر فإن سببه‬
‫األساسي يتمثل في ثالث قوى مشكلة لنظام العمل التاريخي لهذه المجتمعات بالذات وهي‬
‫هللا والسلطة والجنس وهي قوى تنتج من تفاعلها نوعا ما من "الربوبية األرثودوكسية" وهو ما‬

‫‪146‬‬
‫يجعل العقل اإلسالمي المعاصر يبني تصو ار عموديا للكون عمادة مفهوم السلطة وممارستها‬
‫الصاعدة نحو هللا مرو ار برئيس العائلة فرئيس األمة"‪.1‬‬

‫يركز أركون على الرجوع للتجربة اإلسالمية التي حدثت في القرن الرابع للهجرى من‬
‫أجل إعادة االنطالق بنفس التصور الذي انطلق منه روادها أمثال التوحيدي الذي يقول عنه‬
‫أركون" أحلم شخصيا بمن ينهض بتأليف كتاب كبير يسترجع على ضوء التاريخ الثقافي‬
‫والسياسي واالجتماعي "لإلسالم" تلك الصرخة المؤثرة التي أطلقها أبو حيان في الهوامل‬
‫‪2‬‬
‫والشوامل قائال "إن اإلنسان أشكل عليه اإلنسان"‪.‬‬

‫األكيد مما تم طرحه أن أركون يهدف برأيه إلى إحياء النزعة اإلنسية في الفكر العربي‬
‫اإلسالمي ويسعى إلى اعتبارها منهج دراسي غير غريب على الفكر اإلسالمي من خالل‬
‫تقديمه لما وصل إليه المفكريين في تلك المرحلة أمثال مسكويه والتوحيدي وتحديد ما وصلوا‬
‫إليه أنذاك نقطة بداية جديدة إلعادة تشغيل جهاز العقل اإلسالمي ببرنامج عقالني نقدي‬
‫بهدف التأسيس للنزعة اإلنسية في الفكر العربي اإلسالمي من أجل أن يتحرر من التقديس‬
‫ومن أجل أيضا االعتماد عليها لفتح أفق واسع جديد بتصور بناء قائم على التعدد واالختالف‬
‫واجتماع كل األذواق واأللوان من مختلف األجناس واألعراق و األديان على طاولة الفكر‬
‫اإلسالمي العربي ‪.‬حتى يتمكن المفكر اإلسالمي العربي من مواجهة وتجاوز االنسداد الذي‬
‫حصل في اإلسالم بسبب(الدوغمائية)التي حصرت الفكر في دائرة(الالمفكر فيه)والحقائق‬
‫المطلقة‪ .‬هذا التصور الذي جعل الت ارث اإلسالمي خارج عن التاريخ وال يخضع لقوانينه‬
‫وبالتالي يقف جانبا ليترك حركة النهضة تمر دون محاولة منه لركوبها ودون التفكير حتى‬
‫في مرافقتها والسير في االتجاه الذي تمكن الغرب من خالله الوصول ألبعد محطة حيث يرى‬
‫في هذا الصدد "إن الهدف األول من كل معاركي من أجل األنسنة إذن هو وضع الفكر‬
‫الغسالمي في أزمة فكرية روحية هذا الفكر الذي تصادره وتحتجز أيديولوجية المعركة وتكبله‬
‫مؤسساته الميثيلوجية القصصية التاريخية منذ ‪661‬ه‪ .‬كما تقوم بذلك شر ذمة من المنافحين‬

‫‪ 1‬مختار الفجاري‪ ،‬نقد العقل اإلسالمي عند محمد أركون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.160 ،159‬‬
‫‪147‬‬
‫الجدد ‪ néo-apologétes‬أو باألحرى زمرة من أشباه علماء الالهوت صنعتهم وسائل‬
‫‪1‬‬
‫اإلعالم"‪.‬‬

‫لقد اعتمد أركون على أدوات عمل جديدة تعتبر من أحدث المناهج في علم النفس‬
‫وعلم التاريخ واأللسنيات واألنتربولوجيا من أجل دراسة نقدية عميقة وتصور شامل يحتوى كل‬
‫الثقافات واألديان تتبناها النزعة الكونية من خالل "العقلي االستطالعي" ‪La Raison‬‬
‫‪ "Engendre‬ألنه يوافق تماما هذا التقاطع والتباين والتماثل في الرؤى ويمكنه قراءة‬
‫النصوص والتاريخ قراءة صريحة وجريئة دون خوف ودون حرج وبكل حرية حتى تلك‬
‫المفاهيم ‪..‬التي استبعدت والتي اجتنبت منذ القدم في إطار التعايش السلمي‪" ،‬ال تقوم على‬
‫األوامر والنواهي التي تتضمنها القواعد األخالقية بقدر ما تقوم على االحترام والتقدير للذات‬
‫واألم أي لإلنسانية التي تجعل أفق الكائنات اإلنسانية بكل فروقاتها واختالفاتها وتمايزاتها‬
‫كونيا"‪.2‬‬

‫بمعنى آخر نقول إن مسألة األنسنة عند أركون في جوهرها تطرح عالقة اإلنسان‬
‫بالنص‪ ،‬خاصة النـص المقدس‪ ،‬أي تطرح مسألة أسبقية اإلنسان على النص أو أسبقية‬
‫النص على اإلنسان‪ ،‬وهل اإلنسان هو الذي يعطي مفهوم النــص وينتج دالالته‪ ،‬أم أن‬
‫النــص هــو الذي يحدد معنى اإلنسان ويضع هويته ففي مرحلة ما قبل عصر النهضة‬
‫واإلصالح الديني بالنسبة للفكر الغربي‪ ،‬ومرحلة ما قبل القرن الرابع الهجري بالنسبة للفكر‬
‫العربي اإلسالمي كانت النصوص المقدسة هي التي تصنع ماهية اإلنسان وتحدد له ما‬
‫يفعلــه وما ال يفعله بمعنى أن اإلنسان يستمع للنص بكل خضوع ووالء ويطيع تعاليمه‬
‫ويجتنب نواهيه دون تفكير أو تردد وال يستطيع أن يضع مسافة نقدية بين النص وبين العقل‪،‬‬
‫فالنص هو محور الكون‪ ،‬وهو نقطة البداية والنهاية غير أن نزعة األنسنة تجعل االنسان هو‬
‫محور االهتمام وتدعوه للتحرير الذات اإلنسانية من الرؤية الالهوتية ووضع االنسان في‬
‫مركز الوجـود‪ ،‬وذلك من خالل جع ــل العقل اإلنساني في مرتبة الحاكم األول وصاحب‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ ،‬األنسنة اإلسالم‪ ،‬مدخل تاريخي نقدي‪ ،‬محمود غرب‪ ،‬دار الطليعة للطباعة و النشر ‪ ،‬بيروت لبنان‪،‬ط‪،1‬‬
‫ص‪2010-45‬‬
‫عبد العزيز بومسهولي‪ ،‬مبادئ فلسفة التعايش‪ ،‬إفريقيا الشروق المغرب‪ ،‬د ط‪ 2013 ،‬ص‪2.12‬‬

‫‪148‬‬
‫السلطـة في كل ما يتعلق بمعارفه وإنجازاته‪.‬هذا ما يفرض في الفكر تحديد عالقة بين الذات‬
‫والموضوع ويؤسس لتفاعل ايجابي مع كل األجناس والطوائف والمذاهب واألديان‪ .‬هذا‬
‫التفاعل يجسد التوافق وقبول االختالف والتعايش مع اآلخر هذا ما يعتبره أركون أساس فهم‬
‫المعطيات الكونية ‪.‬‬

‫أخي ار يبدو أن مشروع محمد أركون وكأنه تتمة للمشـروع الغربي من خالل إسقاطه‬
‫على الفكر اإلسالمي‪ .‬فما يفعله بخصوص التراث اإلسالمي يشبه جدا ما فعله علماء أوروبا‬
‫ومفكروها بالمسيحية‪ .‬وهو يرى أن هذا النقد العلمي سوف يطبق على التراث اإلسالمي‬
‫عاج ـال أم آجال‪ .‬فسبيل النهضة يمر عبر هذا المنهج النقدي العقلي المتحرر ولن يعجب هذا‬
‫النقد التقليدين في المجتمع اإلسالمي مثلما حدث عند المسيحيين األوروبيين فأزمة الفكر‬
‫اإلسالمي المندهش تشبه في مالمحها أزمة الوعي األوربي مـع الحداثــة في بدايتها‪ .‬ويرى‬
‫أركون أن األنسنة ستتمكن من تحقيق أهدافها على العقل اإلسالمي كما سبق وأن تمكنت‬
‫من العقل المسيحي‪ ،‬وتخضـعه لمفاهيمـها ومناهجهـا وأدواتها في البحث والتحري‪ ،‬وهكذا فإن‬
‫أركون من خالل مشروع نقده للعقل اإلسالمي يضعنا أمام الحركة النقدية الحديثة المباشرة‬
‫وهي الحركة التي تتجه إلى نقد األسس المكونــة لهـذا العقــل وإعادة تأويل مسلماته وفرضياته‬
‫تأويال جديدا سيكش ــف عن ترابطه وتفاعلـه مع الحقيقة والتاريخ ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ثانيا ‪ :‬األلسنية ودورها في تفكيك العقل اإلسالمي‪:‬‬
‫األلسنية من أهم المنابع التي قامت عليها الفرضيات النقدية المعاصرة ونظرية‬
‫األدب في عالم ملئ باألطروحات الفكرية المتعددة ‪.‬وال يمكن الوقوف على أسس بحث متينة‬
‫في أي مجال وخاصة األدبي بدون معرفة مبادئ األلسنية وخاصة إذا تعلق األمر بالنص‬
‫المقدس أو البحث في اإلرث اإلسالمي رغبة في تحقيق الدقة والعمل بمنهجية للوصول إلى‬
‫نتائج مستقرة في هذا مجال ‪.‬ألن اللغة تتميز في خصائصها من مجتمع آلخر ومن فترة‬
‫زمنية ألخرى وفي أسلوبها ونظامها وتركيبها على غرار اللغة التي شكلت النص القرآني ما‬
‫جعل محمد أركون يدعو الباحثين في النصوص اإلسالمية االهتمام بالمصطلحات الواردة‬
‫فيه ومعانيها" لكون الحركات اإلسالمية الصاعدة حاليا يستغل إلى أقصى حد كل الدالالت‬
‫الحافة والمحيطة ذات المضمون التبشيري والدنيوي والتقديسي للغة العربية ومفرداتها‬
‫وصياغتها التعبيرية وأما الفكر النقدي فعلى العكس يصاب بالشلل جراء هذه "القيم" المعنوية‬
‫والداللية والبالغية والتقديسية"‪ ،1‬لهذا يحث أركون الباحثين من مفكرين وأدباء وفالسفة‬
‫ومؤرخين "أن يقوموا باالشتغال البطيء والصعب على المفاهيم والمصطلحات داخل اللغة‬

‫‪ 1‬محمد أركون –الفكر اإلسالمي – نقد و اجتهاد – ص‪.23‬‬


‫‪150‬‬
‫العربية بالذات وذلك قبل استخدامها من اجل نشر فكر علمي حديث وخصوصا في‬
‫المجاالت التي تتيح لنا إعادة التقييم النقدية للتراث‪ .‬هذا التراث الذي يمجد لنا من كل‬
‫الجهات بطريقة تبجيلية وتبريرية عقيمة أصبحت تسيء له أكثر مما تفيده فالدراسة النقدية‬
‫والعلمية للتراث هي وحدها القادرة على كشف جوانبه االيجابية وتبيان قيمته الحقيقية وفتح‬
‫الطريق لتجاوز سلبياته التي ال تزال تعوق نهضة العرب والمسلمين"‪ 1‬ولفهم النص اإلسالمي‬
‫بشكل صحيح يجب إقامة فكر ديني جديد في شكله ومعانيه ومفاهيمه بتطبيق األدوات‬
‫األلسنية الحديثة على لغة النص القرآني خاصة بعد التردد حول الحقيقة المطلقة الثابتة‬
‫واعتراء الحقائق الشك وظهور أبحاث رائدة تبحث عن أسباب تشكل المعنى في قالب‬
‫مميز يجد محمد أركون أن الطريق األلسني" راجع إلى أن األمل بالخالص ألية آلية ينبني‬
‫المعنى أو ينضج أو ينحل أو يتعجب أو يتعرى؟‪ ...‬إن تاريخيتنا هي بالضبط نسيج من‬
‫العالمات والرموز التي نستثمر ( نوظف) فيها رغباتنا وهلوساتنا وطوباوياتنا ومفهوماتنا‬
‫‪2‬‬
‫ونجاحاتنا وإخفاقاتنا ثم صراعنا ضد الموت "‬
‫يؤكد أركون أن البحث في معنى النص القرآني وطلب الحقيقة هو ما دفع إلى تبنى‬
‫واعتماد مناهج األلسنية كما يرى أن اللغة هي أداة لالتصال ولحفاظ آثار كينوناتها العميقة‬
‫التي تبحث باستمرار عن إمكانية تحققها بشكل أفضل ضمن هذا المعنى فإننا نجد أن‬
‫اللجوء إلى األلسنيات والسيمولوجيا أمر البد منه من اجل جعل الروابط مفهومة بين الدين‬
‫والتاريخية‪.3‬‬
‫يضع أركون في كل مرة الحقيقة والمقدس في أولويات دراسته كونهما نقطتان مهمتان‬
‫يشترط تناولهما في البحث في النص اإلسالمي فهو يؤمن بالنسبية في الحقيقة ويحث على‬
‫تفكيك النص القرآني والسني ما يتيح للباحث فرصة كبيرة للغوص في أعماق التاريخ‬
‫واكتشاف أس ارره باالعتماد على دراسة األنساق واألدلة والعالمات سواء كانت طبيعية أو‬
‫اصطناعية أي اعتماد السيميائية حيث تعد اللسانيات جزءا منها وبالتالي تتم دراسة العالمات‬
‫واألدلة والرموز اللغوية المشكلة للنص اإلسالمي وبالتالي تفكيكه وإعادة بنائه‪.‬‬

‫‪1.23‬‬‫محمد أركون‪ -‬المرجع –نفسه ص‬


‫‪- 2‬محمد أركون – الفكر اإلسالمي‪ -‬قراءة علمية ص ‪121‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪3 .121‬‬

‫‪151‬‬
‫يضيف أيضا أركون لمواصلة بحثه اعتماد علم اآلثار (األركيولوجيا) لكشف أسرار‬
‫وغالبا ما يكون لها ما يميزها في تلك الفترة كاآلالت البسيطة‬
‫ً‬ ‫الحضارة اإلسالمية القديمة‬
‫والمعقدة والقصور والمنازل القديمة والمقابر ويرى أركون أن علم اآلثار له أهمية كبيرة لمعرفة‬
‫أحداث التاريخ اإلسالمي ودراسته للوصول للحقيقة الفعلية بعيدا عن تأثير األيديولوجيات‬
‫واألساطير في طرح الوقائع ما يؤكد القطيعة التي نادى بها مع النصوص الجاهزة والموروث‬
‫كحقيقة مطلقة ‪.‬‬
‫أركون بهذا الطرح يذهب إلى نفس ما جاء به دريدا وهيدغر والحوليات الفرنسية في‬
‫دراسة شاملة دون حواجز للتاريخ باجتماع كل العلوم لتفسيره‪ .‬فهو يدعو لدراسة التاريخ‬
‫اإلسالمي أوال بالتسليم بنسبية المحتوى الفكري له وعدم األخذ بما جاء به على أنه حقيقة‬
‫مطلقة وإعادة تصور كل الظروف التي أسست لتاريخ العقل اإلسالمي باستعمال كل األدوات‬
‫العلمية على اختالف ميادينها االجتماعية واالقتصادية والقانونية واللغوية‪ .‬ثم تفكيك التعاليم‬
‫المقدسة أيضا بواسطة أدوات البحث في اللغة واألدلة والرموز وإعادة بناء النص القرآني‬
‫وقراءته قراءة علمية صحيحة ‪.‬‬
‫بما أن أركون يعتقد بعدم وجود المطلق والمقدس فإنه يرى أن المفاهيم والتعابير تتغير‬
‫بتغير الزمن وما ظهر باألمس ليس كما يبدو اليوم ألن الدالالت التي تفسر الخطاب‬
‫خاضعة للمجتمع في فترة معينة تحت ظروف أيضا معينة يمكنها أن تترادف بشكل جديد‬
‫ط ذلك المفهوم الذي رسخ في ذهن المجتمع ليرسم محله مفهوم مغاير تماما له ويمكنه‬ ‫فتُ ٍ‬
‫سق ُ‬
‫اجه بالرفض بأحكام متبأينة تماما من بيئة ألخرى ومن عصر آلخر‬
‫أن يظفر بالقبول أو يو َ‬
‫بل وأبعد من ذلك حتى داخل المجتمع الواحد فتتعدد اللغات واللهجات وتتنوع الصيغ‬
‫والتعابير اللغوية فتصبح كل ما يميز الفكر والتواصل وما يربط بين الفكر واللغة ‪.‬‬
‫من هنا يظهر اعتماد أركون على ما جاء به المستشرقون في فقه اللغة(الفيولوجية) والهدف‬
‫منه »تطبيق المنهجية اللغوية التاريخية الفيلولوجية الموروثة عن القرن التاسع عشر على‬
‫نصوص التراث العربي اإلسالمي من اجل تحقيق بشكل علمي تاريخي موثوق هذا من‬

‫‪152‬‬
‫جهة ومن جهة أخرى فقد ميزت منهجيته ( القول ألركون) عن منهجية العلوم السياسية التي‬
‫‪1‬‬
‫كانت في عز الصعود آنذاك"‪.‬‬
‫‪ -1‬القراءة األلسنية عند محمد أركون ‪:‬‬
‫تعني إحدى الطرائق التي افترضها أركون لقراءة وتأويل اإلرث اإلسالمي فهو يرى‬
‫"بأنها علم يعنى بدراسة العالمات ويعتبر تعريف مونانا نموذجا على تلك التعريفات فهو‬
‫يعرفه بأنه '' العلم الذي يدرس كل انساق ( أو أنظمة العالمات) أو(الرموز) يتواصل الناس‬
‫بفضلها فيما بينهم "‪.2‬‬
‫يؤكد دي سوسير أن السيميائية لها ارتباط وثيق مع علم النفس وعلم االجتماع "فان تطور‬
‫هذا العلم قد أظهرت عالقته بمجاالت كثيرة كالسينما والمسرح واإلشهار‪ ...‬وان ظل مجاله‬
‫األبرز هواللغة باعتبارها النموذج السيميائي األكمل وعد ذلك فرعا من اللسانيات"‪ 3‬ألن‬
‫اعتماد أركون على الطريق السيميائي هو هز للمطلق الذي فرضه العقل الالهوتي‬
‫األرثودوكسي وفي هذا الصدد يقول" إن التحليل األلسني أو السيميائي الداللي يساعدنا على‬
‫إقامة مسافة بيننا وبين العقائد األيمانية الموروثة ( كما أن ) التحليل األلسني يقوم بعملية‬
‫تجسيد أولي لكل أحكام الثيولوجية المسبقة الموروثة عن العصور الوسطى هذه األحكام التي‬
‫تحول بيننا وبين رؤية النص كما هو"‪. 4‬‬
‫لتتم تلك الدراسة الموضوعية التي تفسر الحقائق بعيدا عن المعتقدات التي سادت وبعيدا‬
‫عن الخوف من تناول النص المقدس وليتم أيضا كسر تلك الحواجز التي فرضتها الدوغمائية‬
‫على الفكر اإلسالمي يجب إعطاء أهمية للمنهج السيميائي لتفسير المعنى واالهتمام بالداللة‬
‫اللغوية للوقوف على شرح أعمق‪ ،‬يقول‪(" :‬فعلم السيمياء‪ )La sémiotique‬يطمح إلى‬
‫االستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بينها وبين المواد المقروءة األولية ثم كل المواد الثانية‬
‫أو الثانوية التي أنتجه التراث في أن معا (كيف تقوم العالمات ( ‪) les signes‬‬
‫المستخدمة في النصوص بالداللة وتوليد المعنى؟ما اآلليات األلسنية أو اللغوية المستخدمة‬
‫من اجل إنتاج هذا المعنى المحدد وليس أي معنى آخر غيره؟ لمن ينبثق هذا المعنى‬

‫محمدأركون‪ -‬الفكر اإلسالمي– قراءة علمية – ص ‪1 .121‬‬


‫المبارك حاميدي– المرجع نفسه‪ -‬ص ‪2.261‬‬

‫محمد أركون – أين هو الفكر اإلسالمي المعاصر – ص ‪033‬‬


‫محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪ -‬ص‪4.03‬‬

‫‪153‬‬
‫وضمن أي شروط؟"‪ 1‬وبسبب ما تعرض له محمد أركون من انتقادات طالته بسب موقفه من‬
‫تعرية النص من القداسة يبين هدفه من دراسة النص القرآني‪.‬فيقول‪":‬ال تهدف هذه األسئلة‬
‫إلى نزع صفة الوحي على النصوص وال إلى إلغاء شحنتها التقديسية وال إلى إزالة اثر‬
‫معناها الروحية بالنسبة للمؤمنين على العكس أنها تهتم بهذه األشياء والسمات وبوظائف‬
‫المعنى بصفتها أساليب لتوليد الداللة ال تزال تنتظر تحديد مكانتها المعرفية ضمن مقاربة‬
‫‪2‬‬
‫شاملة تهتم بكل ما يعنى ويدل ( أو بكل ما ينتج المعنى والداللة"‬
‫لقد غير االهتمام بالسياق الداخلي والخارجي للنص المقدس مجرى الدراسات التقليدية‬
‫التي لم تكن تهتم بجدية بدراسة اللغة التي شكلت تلك النصوص المقدسة من حيث الدالالت‬
‫المستهدفة بمنهجية تضفي الموضوعية على البحث والدقة في االستنتاجات ألن لغة النص‬
‫المقدس هي جزء من المعنى العام للمفهوم‪ .‬ولدراسة أعمق يجب اعتماد المنهج (السيميائي)‬
‫لفك الرموز وفهم اإلشارات واإليحاءات التي يحتويها النص القرآني‪ .‬ومن هنا يتضح لنا إن‬
‫النص المقدس له لغة واللغة لها معنى ينبغي علينا أن نتوصل لفهمه وال يتأتى هذا إال‬
‫باستعمال أدوات علمية وموضوعية يتم من خاللها قراءة النصوص القرآنية بشكل صحيح‬
‫خاصة وأن النصوص المقدسة ليست كلها طرحا واضحا وصريحا فقد يحتاج أغلبها لتأويل‬
‫في المعنى فهي تحمل المجاز والكناية والتشبيه والسرد‪ .‬وتماما عكس تلك التأويالت التقليدية‬
‫التي تناولت النص وقدمت شرحا أبعد ما يكون عن الحقيقة يجب تناول النص بتحديد‬
‫شكلين منه الشكل األول هو النص الديني المقدس والثاني هو الشكل الثانوي‪ .‬أما النص‬
‫المقدس فهو كلمة هللا أي النص األساسي الذي صدر من عند هللا في اللحظة األولى ويتم‬
‫البحث فيه من خالل معرفة الظروف والعوامل واللحظة التي ظهر فيها والتي يعتبره‬

‫التقليديون على أنه اللغة األصلية للنص وهي ما كانت عادةً المرجع الحقيقي و ُ‬
‫المطلق‬
‫للنص‪ .‬وأما النص الثانوي فهو تلك القراءات والشروحات التي لحقت بالنص المقدس بعد‬
‫محاوالت النقل والتفسير‪.‬‬
‫هذين النوعين من النصوص المقدسة يمكن التمييز بينهما بواسطة التحليل‬
‫السيميائي الذي يتخذ المقارنة اللغوية سبيل لدارسة لغة النص بالتركيز على الرصيد الشفوي‬

‫‪1.33‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية – ص‬


‫‪-‬ص‪2.34-33‬‬ ‫محمد أركون –الفكر اإلسالمي قراءة علمية‬
‫‪154‬‬
‫الغير مكتوب وفي هذا يقول أركون "يجب بالضرورة تنظيف اللغة بكل مفرداتها وتراكيبها من‬
‫الدالالت الجافة والمحيطة والموروثة عن اللغة األرثودوكسية لكي نستطيع التفكير في‬
‫‪1‬‬
‫اإلسالم بشكل علمي فلسفي"‬
‫يشير أركون هنا إلى مسألة مصداقية المفاهيم والثقة العمياء في لغة النصوص الدينية‬
‫خاصة بعد الذي مسها في شكلها ومضمونها نتيجة تحويرها بما يناسب غايات خاصة‪ .‬لغة‬
‫المقدس ومن خالل توظيف مفاهيمها ومقاصدها زاغت عن الحقيقة ما جعل أركون يرفض‬
‫رفضا قاطعا تلك المفردات التي أتى بها النص المقدس على لسان الرواة والنقال ويرفض‬
‫أيضا اعتبارها أولويات خالية من العيوب ويجب الخضوع لها كما ال يتقبل أركون لغة‬
‫اإلمالءات التي ترفض النقاش والجدال بل يؤكد أنها ليست حقائق مقررة وينبغي التفكير فيها‬
‫والتحدث عنها مثل كلمة الوحي والحرام‪ .‬وال يعتقد نهائيا باحتكار المعرفة الدينية وأسرها‬
‫داخل حواجز الدغمائية والذاتية‪.‬‬
‫يرى أركون أن دراسة النص القرآني يجب أن تتم باجتماع كل المدارس والمناهج‬
‫بتأصيل علمي للغته وبحث دقيق في مالحظاته وبتناول شامل وجرئ ألسباب تشكله هذا‬
‫التصور في نظر محمد أركون يتعدى األلسنية ويتبنى التعدد في األدوات من مختلف‬
‫المجاالت بمنطلق استطالعي وهذا ما نالحظه في قوله‪" :‬سوف تكون قراءتنا السنية أو‬
‫لغوية أوال ألنها تهدف بقدر اإلمكان التبيان القيم اللغوية المحضة للنص ولكنها ستكون نقدية‬
‫أيضا بمعنى أن كل ما ينقله لن تكون له إال قيمة استكشافية أو افتراضية في نظرنا‪ .‬في‬
‫الواقع أننا لن نفصل أي مدرسة السنية على غيرها‪ ...‬وسوف نترك المسائل األساسية‬
‫مفتوحة وهي المسائل التي تقرر مصير مضمون كل قراءة وتوجهها ونقصد بها مسالة‬
‫‪2‬‬
‫العالمة ‪ Signe‬ومسالة الرمز ‪ Symbole‬ومسالة الذات ‪"le sujet.‬‬
‫بهذا يتبين أن أركون يضفي مفاهيم ووسائط مناسبة لهذا النوع من الدراسة بعيدة عن‬
‫أي معرفة تقليدية موجودة ولقد تم اعتماد هذه الدراسة ألن "المنظورات التي نفتحها من اجل‬

‫حموم)‪1‬‬‫محمد أركون – اإلسالم –االخالق‪ -‬السياسة – ص‪( 176‬‬


‫‪2.121‬‬ ‫محمد أركون –القرام من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪-‬ص‬
‫‪155‬‬
‫االنخراط في بحث عن األسس االبيستيمولوجية لتشكيل فكر ديني جدير باللحظة الراهنة‪ :‬أي‬
‫‪1‬‬
‫باليوم ولهذا نقول أنها ال تنطوي إال على قيمة استكشافية"‬
‫لم يخف أركون إعجابه بلغة القرآن العميقة من خالل إثارة مميزاتها التي تعكس‬
‫مستواها الراقي كانسجام معاني نصوصه ما يجعله متجانس بسبب شبكة الضمائر التوصيلية‬
‫التي تخترق القرآن جميعه هذا ما يبرر في رأي أركون اختيار األلسنية في قراءة النص‬
‫القرآني ألنها تتيح مساحة أوسع وفضاء أرحب لدراسة معرفية للفكر الديني التي تأخذ في‬
‫الحسبان الظروف الراهنة من أجل استكشاف أس ارره دون أي أهداف أخرى‪.‬‬
‫"فشبكة الضمائر التوصيلية ( أنا‪ ،‬نحن‪ ،‬انتم ‪ ،‬هم)أو( هللا‪ ،‬محمد‪ ،‬البشر) وكذلك األمر فيما‬
‫يخص البنية القصصية التي ترمز إلى النبي واألنصار‪ /‬والكفر والمنافقين‪ .‬وإذن هناك‬
‫‪2‬‬
‫انسجام على مستوى العمق ال على مستوى السطح"‬
‫هنا أركون يرى أن "تجإنسية المدونة النصية القرآنية ترتكز على شبكة معجمية أو لغوية‬
‫واسعة وعلى نموذج قصصي أو تمثيلي واحد ال يتغير"‪ 3‬وبهذا التصور للغة النص المقدس‬
‫فإن أركون يجعل من الخطاب القرآني طرح فكري ثابت ومرتب ترتيبا محكما أسير سلطة‬
‫أنهت إعداده وفرضت عليه مسار دائم ال يتغير منذ لحظة نزوله وتضمن ثبات روابطه‬
‫وتتحدى تفكيكه على الرغم من أن النقاش في فترة الصحابي عثمان ابن عفان رضي هلل عنه‬
‫اشتد على إمكانية الحذف أو اإلضافة من النص المقدس‪.‬‬
‫ويضيف أركون أنه "على الرغم من أن المدونة القرآنية أصبحت مغلقة نهائيا وبشكل ال‬
‫مرجوع عنه من الناحية الالهوتية أننا نستطيع أن نقبل تاريخيا بان تظل مفتوحة على‬
‫التحسينات النصية التي قد يقدمها النقد الفيلولوجي أو اللغوي التاريخي ولكن هذه التحسينات‬
‫تظل افتراضية جدا ومشكوك فيها"‪ 4‬ما يدل على أن أركون يؤكد استحالة الترتيب الزمني‬
‫لآليات والسور‪.‬‬
‫‪ -2‬مفهوم السيميائية عند أركون وآلية توظيفها ؟‪.‬‬

‫‪1.112‬‬ ‫محمد أركون –القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص‬
‫محمد أركون –المرجع نفسه – ص ‪– 115‬ارجع إلى الهامش‪2‬‬
‫محمد أركون – المرجع نفسه – ص ‪3.115‬‬
‫محمد أركون – المرجع نفسه – ص ‪4.116‬‬

‫‪156‬‬
‫السيميولوجية هي علم العالمات أو الرموز أو اإلشارات اللغوية طبيعية أو اصطناعية‪،‬‬
‫ويعني هذا أن هذه العالمات يضعها اإلنسان بواسطة اختراعها واالتفاق على دالالتها‬
‫ومقاصدها ومعانيها‪ .‬ويهدف أركون من خالل هذه الدراسة إلى‪":‬الكشف عن أنماط‬
‫األساليب التعبيرية (أو اللغوية) المستخدمة في القران من اجل بلورة إشكالية مشتركة تنطبق‬
‫األساسية‬ ‫دراسة جميع مجتمعات الكتاب المقدس‪...‬عندما تنظر عن كثب إلى البنية‬
‫ألسلوب التعبير المستخدم في القران فإننا نكتشف أن صحة الكتاب المقدس ذات قاعدة‬
‫لغوية أساسا ال ريب في أن المؤمن يتصور هذه الصحة وكأنها نقل حصل بالفعل بواسطة‬
‫‪1‬‬
‫وسائل وأساليب التوصيل السماوي أو اإللهي"‬
‫ما انفك أركون ببحثه النقدي يعيب على النص المقدس طابعه القصصي الخيالي‬
‫الخرافي غير الصريح الذي يطغى عليه المجاز‪ .‬كما استبعد نتائج (الثيولوجية) في فهم قراءة‬
‫الخطاب الديني ألنها تحصر أفق التناول الحر بوضع حدود للباحث في النص المقدس‬
‫بشماعة (الال مفكر فيه )‪.‬‬
‫لذا يطرح أركون طريقة جديدة لقراءة النص القرآني باستعمال األدوات اللغوية‬
‫السيميائية والنقدية ألنها تهتم بالفصل بين النص األول األصلي الذي نتج في اللحظة‬
‫األولى (لحظة االنبثاق)وبين النص الثانوي الذي لحق بالنص األول بعد محاوالت التفسير‬
‫والتأويل التي تبعته والتي أسست لتشكيل التراث الديني‪"،‬فالتحليل السيميائي يجبر الدارس‬
‫على ممارسة تمرين التقشف والنقاء العقلي والفكري ال بد منه بمثل ذلك فضيلة ثمينة جدا‬
‫وخصوصا أن األمر يتعلق بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال‬
‫عديدة الحساسية والمخيال والجماعيين والفرديين وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية اتجاه‬
‫النصوص أو بيننا وبين النصوص "المقدسة" دون إطالق أي حكم من األحكام الثيولوجية‬
‫أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين‪ ....‬وهذا الذي لم يفهمه أبدا النقد‬
‫التاريخي اإلستشراقي أو المنهجية اإلستشراقية المرتكزة على القران والحديث"‪ 2.‬وبما أن اللغة‬
‫في دالالتها ومعانيها تلعب دور مهم ومرتبط بالفكر بشكل كبير فاللغة تؤثر في الفكر وهذا‬
‫ما نالحظه في النص القرآني الذي أدى دو ار كبي ار في تحديد المفهوم ومنحه صبغة فكرية ما‬

‫محمد أركون‪ -‬القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪ -‬ص ‪1001‬‬
‫محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي ‪ -‬قراءة علمية –ص ‪2.32‬‬

‫‪157‬‬
‫ورط العقل اإلسالمي في األحادية المتعالية وما حصر الفكر اإلسالمي في ساحة الدوغمائية‬
‫المنغلقة على نفسها ولم يقتصر هذا على العقل اإلسالمي فقط بل وأيضا برز في العالم‬
‫األوروبي خاصة في العصر الحديث‪.‬‬
‫تركيز أركون على الطرح السيميائي اللساني يهدف إلى إنتاج مفهوم جديد للنص‬
‫القرآني فهو يعتقد أن الخطاب الديني يمكن أن تتعدد دالالته وتختلف باختالف الظروف‬
‫من خالل ممارسة الشعائر والطقوس ويمكن للنص أن يحمل عدة معاني ودالالت ألنه يعتمد‬
‫لغة المجازية التي تفتح النص على معاني مختلفة وتأويالت متعددة تتجدد بتغير الظروف‬
‫وتتفاعل بتفاعل المعطيات ألن النص القرآني يتسم باستم اررية الطرح (الديمومة)فلغته تصلح‬
‫لكل زمان فهو يتمظهر في كل مرة بمظهر جديد ويقدم طرحا جديدا بتفاعله مع األحداث‬
‫والمستجدات وال يمكن أن تكتفي لغته بمفهوم وحيد وكلما تتعين وتتخصص الظروف المؤثرة‬
‫في اللغة يتغير ويتعين المعنى والمفهوم حسبها وبهذا يرفض أركون شروحات التي قدمها‬
‫رواد (اإللهيات) التقليديين وفي المقابل يقترح لغة جديدة للقرآن باعتماد األلسنية اعتبا ار بدور‬
‫الدالالت القرآنية الكبير في تفسير اللغة مرك از على االهتمام مبدئيا بالرابطة الموجودة بين‬
‫اللغة والفكر إذ تبين من خالل دراسة الفكر اإلسالمي تأثره الكبير في التفسير باأليديولوجيات‬
‫وتبأينت الشروحات بعد تغير الظروف أو تطور األحداث رغم أن لغته بقت ثابتة‪" ،‬إن الديني‬
‫ينبثق ويتطور وينتقل إلى الناس ويعاد تنشيطه عن طريق الذاكرة الشفهية أو الكتابية أو‬
‫االثنين معا ولذا فينبغي ان نبتدئ باستكشاف التغييرات (أو التجليات) اللغوية والسيميائية –‬
‫الداللية – االشارية‪ -‬الحركية لهذه الذاكرة لكي نتوصل إلى السالالت المؤمنة التي تشكل‬
‫التراثات الحية" ‪.1‬‬
‫بهدف إضفاء الدقة والموضوعية ومن أجل الوصول لنتائج ثابتة يرى أركون أنه علينا‬
‫مراجعة الرابطة بين الفكر واللغة هذه العالقة التي تميزت في اتصالها المستمر بتأثر وتأثير‬
‫متبادل ما يفرض دراسة النص الديني عامة باعتماد األلسنية التي تختص بالبحث في هذا‬
‫الخطاب ألن "القراءة األلسنية قيمة ال تضاهى من حيث التقشف والدقة والصرامة فهي‬

‫محمد أركون ‪ -‬الفكر األصولي استحالة التأصيل ‪2831-‬‬


‫‪158‬‬
‫تجبرنا على أن نظل محصورين داخل الحدود الصارمة لإلمكانيات التعبيرية للغة مع استبعاد‬
‫‪1‬‬
‫كل المفترضات الصريحة والضمنية "‪.‬‬
‫يستمر أركون في تبرير استعماله للمناهج السيميائية في البحث في النص الديني عامة‬
‫والنص القرآني خاصة ألنها تجعل النص خاضعا ويستجيب للدراسة‪ .‬وتتطابق نتائجها مع‬
‫الواقع الحديث وال تتعارض معه بما أنها ال تعترف مبدئيا بتلك األحكام المطلقة وتشكك فيها‬
‫كلها في جدال صريح مع العقل التقليدي الذي تسلم النص الديني وسلمه كما جاء واقتنع بكل‬
‫الخرافات التي احتواها واكتفى في اللغة بتالزم الدال بالمدلول أي أنه متى وجد اللفظ وجد‬
‫المعنى فاللفظ يطابق ما يدل عليه والعالمة اللسانية بنية واحدة يتحد فيها الدال بالمدلول‪.‬‬
‫غير أن الفكر الجديد يعارض هذا الطرح ويرى بفصل الدال عن المدلول من أجل نزع‬
‫القدسية التي رافقت النص الديني من خالل وضع حيز نقدي كافي بين الباحث والموضوع‬
‫وفي هذا يرى أركون‪" :‬إنني ال أزال مص ار على موقفي وال أزال أقول بان التحليل السيميائي‬
‫(أو العالماتي الداللي) ينبغي أن يحظى باألولوية وبخاصة عندما يتعلق األمر بالنصوص‬
‫الدينية التأسيسية ذات الهيبة الكبرى فالتحليل السيميائي يقدم لنا فرصة ذهبية لكي نمارس‬
‫تدريبا منهجيا ممتا از يهدف إلى فهم كل المستويات اللغوية التي يتشكل المعنى ( أو يتولد)‬
‫من خاللها وهذه الخطوة المنهجية تمتلك أيضا رهانات ابيستمولوجية فهي تتيح لنا‪...‬أن‬
‫نترك مسافة نقدية فكرية بيننا وبين المسالة األساسية التي تخص المؤلف والمكانة المعرفية‬
‫للخطاب القرآني"‪. 2‬‬
‫ناشد أركون الحرية الثقافية والفكرية التي تعطي المهتمين بدراسة النصوص الدينية‬
‫فرصة كبيرة لقراءة وفهم وإعطاء تفسيرات أكثر واقعية وأكثر موضوعية للموروث‪ .‬هذه الحرية‬
‫نجدها في السيميائية التي َتوِلد المفاهيم دون أي اعتبار للحواجز والمسلمات التقليدية‪.‬‬
‫‪ -3‬قراء سورة الفاتحة نموذجا‪:‬‬
‫يضع أركون مفهوم القرآن على أنه "من الناحية األلسنية أو اللغوية ‪ ....‬بأنه عبارة عن‬
‫مدونة منتهية ومفتوحة من العبارات أو المنطوقات المكتوبة باللغة العربية وهو مدونة ال‬
‫يمكن أن نصل إليها إال عن طريق النص الذي ثبت حرفيا أو كتابيا بعد القرن الرابع‬

‫‪1.112‬‬
‫محمد أركون‪ -‬القران من التفسير الموروث إلى الخطاب الديني ص‬
‫‪352‬‬ ‫محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص ‪- 34‬‬
‫‪159‬‬
‫هجري‪ /‬العاشر ميالدي‪ ،‬إن كلية النص المثبت على هذا النحو كانت قد عوملت بصفتها‬
‫‪1‬‬
‫كتابا واحدا أو عمال متكامال "‬
‫بعد اعتماد محمد أركون األلسنية كمنهج للدراسة والبحث في النص الديني وبالخصوص‬
‫النص القرآني ليس غريب عليه أن يعتبره ساحة فكرية (مدونة) تتماثل مع كل المعطيات‬
‫العلمية والفكرية الموجودة وبالتالي يطبق عليه ما طبق على غيره من باقي العلوم واألفكار‬
‫التي كونت الفكر الحديث فمن الناحية اللغوية يرى أركون أن النص الديني يشبه النص‬
‫األدبي في تركيبه وشكله لذا ال مانع من تناوله مثلما يتم مع النص األدبي وبذلك يصبح‬
‫القرآن مجال بحث لغوي كغيره من البحوث األدبية ويمكن لأللسنية بتقديم الفرضيات على‬
‫األحكام المقدسة بكل حرية والوصول إلى نتائج دقيقة وموضوعية ‪.‬‬
‫إذ يؤكد أركون أن القرآن "عبارة عن مدونة متجانسة وليست عبارة عن مدونة عينة (أو‬
‫متخذة كعينة) ومقتطعة اعتباطيا بواسطة قواعد مسبقة في بحث كل العبارات التي يحتويها‬
‫كانت قد أنتجت في نفس الوضعية العامة للكالم"‪ ،2‬ألن القرآن إجماال أومن خالل شكل‬
‫خطابه العام يتماثل من حيث الضمائر التي تأخذ حي از مهما في لغته‪ .‬هذه اللغة التي‬
‫بدورها تمثل جزءا كبي ار من الساحة الفكرية(مدونة) للقرآن‪ .‬يقول أركون‪" :‬فتجانسية المدونة‬
‫النصية القرآنية ترتكز على شبكة معجمية لغوية واسعة وعلى نموذج قصصي أو تمثيلي‬
‫واحد ال يتغير"‪.3‬‬
‫وبما أن النصوص المقدسة تميزت بدقة االتساق واالنتظام العام ‪-‬بعيدا عن الشكل‪ -‬يرى‬
‫أركون أن علم أسباب النزول لم يفي الغرض المطلوب منه في البحث عن التفسير العميق‬
‫للنصوص القرآنية وفهمها فهما صحيحا ومعرفة الحكمة من أحكامها ولم يساعد القارئ على‬
‫معرفة أسباب النزول الحقيقية وبالتالي لم يوفق كليا في فهم النصوص القرآنية فهما مناسبا‬
‫لما تصبوا إليه بسبب تنوع الطرح في السور واآليات وتعدد القضايا الفقهية التي حملتها تلك‬
‫النصوص متمكنة في نفس الوقت من الحفاظ على اتزان منظومتها التعبيرية القصصية‬
‫وهندسة بنائها واحترام العالئق بين دوالها بمدلوالتها‪.‬‬

‫‪1.114‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪ -‬ص‪-113‬‬
‫محمد أركون – المرجع نفسه –ص ‪2.115‬‬
‫محمد أركون‪ -‬امرجع نفسه – ص ‪3.115‬‬

‫‪160‬‬
‫يحدد أركون الدور المهم للحالة العامة للكالم وخصائص النصوص القرآنية‬
‫لتحقيق معرفة مستقرة وعميقة بعيدة عن النتائج التقليدية في تفسير النصوص التي وصل‬
‫إليها علم أسباب النزول ألنه لم يستطع تقديم معرفة صحيحة للظروف العامة التي أسست‬
‫للنص فأركون يرى "أن هذه األسباب ال تشمل جميع الظروف المتعلقة بالوضعية العامة‬
‫للخطاب بل هي بعيدة جدا عن ذلك في الواقع‪ .‬إن أسباب النزول ليست إال ذريعة أو نعت‬
‫إنها عبارة عن أسباب خارجية ونوع من القصة الصغيرة المرافقة لكل أية‪ ،1".‬كما يلفت‬
‫أركون االنتباه للذاتية التي لوثت النقل والتفسير القرآني من خالل بلورة المفهوم في سياق‬
‫خاص والتي عمد الفقهاء إليها خالفا تماما للمعنى الحقيقي للنصوص القرآنية مبتعدين عن‬
‫دراسة الظروف العامة للخطاب وقت النزول وأسباب النزول‪" .‬ولهذا السبب بان ما يدعى‬
‫بأسباب النزول المستخدمة عموما كبرهان تاريخي على السياقات التي أوحيت فيها اآليات‬
‫تبدو لنا مضللة أو خادعا كليا‪ .‬لماذا؟ ألنها تنتمي إلى السياقات الجديدة المبلورة من اجل‬
‫‪2‬‬
‫تلبية حاجات الذاكرة الجماعية (المدعوة بالتراث الحي لكل فرقة إسالمية"‬
‫السياقات التي وضعت المفهوم في بوتقة االختالفات يرى أركون أنها تولدت نتيجة تعدد‬
‫واختالف ِ‬
‫الف َرق والمفكرين والفقهاء الذين آمنوا بفكرة الفرقة الناجية استنادا للحديث الشريف‬
‫(ستفترق أمتي على ثالث وسبعين فرقة كلها في النار إال واحدة) فكل واحد منهم كان يرى‬
‫أنه على حق ويحكم على من يخالفه بالكفر وهذا ما تسبب في انشغال الساحة العربية‬
‫اإلسالمية بتبرير المواقف وتفسير النصوص بما يناسب أيديولوجيات وسياسيات خاصة على‬
‫حساب المعنى السامي للنصوص القرآنية‪" ،‬فكل فرقة بما فيها الفرقة األلسنية األرثودوكسية‬
‫تعمل بالطبع من اجل نيل لقب الفرقة األرثودوكسية أو الطائفة المهدية الصحيحة والقويمة‬
‫وهذا هو الشرط المنهجي لكي نكشف كيف أن ( هللا) و(الوحي) و(الرسول) و(النبي)‬
‫و(القران) و(السنة) و( الشريعة) راحت تتوجد كقوة متماسكة حية جوهرانية أو كسيادات عليا‬
‫‪3‬‬
‫إلزامية ونهائية "‬

‫‪1.115‬‬ ‫محمد أركون ‪ -‬المرجع نفسه ص‬


‫‪ 2‬محمد أركون‪ -‬القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.37‬‬
‫محمد أركون – المرجع نفسه – ص ‪3.37‬‬

‫‪161‬‬
‫يطرح أركون مفهوم الظرف العام للخطاب الديني الذي يريد من خالله إعادة بناء أحداث‬
‫النص القرآني منذ البداية بمعنى آخر البحث في الظروف التي أسست وتزامنت مع نزول‬
‫النص حيث يرى أن أسباب النزول والتبريرات والتعليالت وما إلى ذلك مما تم تداوله باعتماد‬
‫المنهج التقليدي ناقصة وأضاعت الكثير من الجزئيات المهمة التي ضاع بسببها المعنى‬
‫الحقيقي للخطاب الديني كما قدم الفقهاء مفهوما غير دقيق أو بعيد جدا عن الحقائق متأثرين‬
‫بأوضاع غريبة ومختلفة عن الواقع اإلسالمي بهدف فرض أحكام معينة وتبرير مواقف‬
‫خاصة لذا يميز أركون بين المصحف وبين الخطاب القرآني فالمصحف يراه أركون (مدونة)‬
‫أي ساحة تم تشكيلها وغلقها نهائيا أي ما انزل على النبي محمد(ص) شفويا من الوحي َب ْي َد‬
‫أن الخطاب القرآني هو مجموعة النصوص المقدسة التي رافقت وتبعت المصحف فيما بعد‬
‫على يد الرواة والنقال والفقهاء واختلفت عنه وأسست للفكر اإلسالمي جديد مغاير تماما‬
‫للنص األول إال أن المفكرين لم يتمكنوا من تناوله خوفا من قداسته واعتقادا منهم بمطلقية‬
‫الحقائق الدينية ‪.‬والتسليم لألحكام بمجرد االستشهاد بأية أو حديث نبوي‪.‬‬
‫يطرح من جديد أركون مسألة الشك في الموروث الديني الذي اعتبره نقاش ديني ضعيف‬
‫غير مكتمل تميز في مرحلة معينة بالقصور الفكري والتبعية األيديولوجية والسياسية التي‬
‫أثرت على الخطاب والمفهوم الديني وقدمت شرحا مختلفا تماما عن النص األصلي بهدف‬
‫إطالق األحكام وتبرير المواقف‪.‬‬
‫يريد أركون من خالل هذا االعتراف بوقوع تحريف للنص القرآني في فترة معينة وتبناه‬
‫الفكر اإلسالمي من دون دراسة علمية ألسباب وظروف نزول النصوص القرآنية األصلية‪.‬‬
‫ويعني أركون بالمدونة المقفلة‪" :‬إنها محصورة أو مغلقة أو ناجزة إنها حاليا محدودة أو‬
‫محصورة بعدد معين من العبارات أو اآليات التي تشكلها كما إنها ناجزة أو مكتملة من حيث‬
‫صيغة التعبير أو صيغة المضمون (نقصد بذلك أنماط التمفصل ما بين الدال والمدلول أو‬
‫الداالت أو المدلوالت) إن مفهوم االنجاز أو اإلكمال أو التمام هذا يجنبنا من االكتفاء بالقراءة‬
‫الفيلولوجية التي تبحث عن المصادر السابقة المؤثرة في النص عن غموضه وتناقضاته‬
‫ونواقصه األسلوبية"‪.1‬‬

‫‪1.115‬‬ ‫محمد أركون – القرام من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص‬
‫‪162‬‬
‫لكي ال يمكننا تناول لغته بالحذف منها أو اإلضافة إليها كما يقصد تجاوز القراءة الحرفية‬
‫فأركون في رأيه (المدونة) "مفتوحة أو منفتحة على الرغم من محدوديتها أو اكتمالها‪ ،‬اقصد‬
‫هنا إنها منفتحة على السياقات أكثر تنوعا التي تنطوي عليها كل قراءة أو تفرضها بمعنى‬
‫آخر أن النص القرآني يقول شيئا ما ويؤمن التواصل أو التوصيل ويحفز على الفكر أيا يكن‬
‫‪1‬‬
‫الوضع العام للخطاب هذا الوضع الذي يتموضع القارئ داخله"‬
‫أي أن هذه (المدونة) غير منتهية التشكيل تماما كما يظهر بل هي متاحة على مختلف‬
‫القراءات واألساليب حيث يقول أركون‪" :‬عندما افترضنا بان القران هو مجموعة عبارات أو‬
‫منطوقات لغوية فإننا لفتنا االنتباه إلى انه كان وال يزال كالما شفهيا قبل أن يكون نصا‬
‫مكتوبا ولكن الكالم المتلفظ به من قبل النبي (ص) ليست له نفس المكانة اللغوية كذلك الذي‬
‫‪2‬‬
‫يردده المؤمن في صيغة صوتية وكتابية مثبتة بكل صرامة‪".‬‬
‫لقد ذهب أركون بطرحه هذا لنقطة خطيرة شملت مصداقية وصحة النصوص القرآنية‬
‫المكتوبة الحالية وعدم مطابقتها لما أنزل شفويا على الرسول(ص) بواسطة الوحي من عند‬
‫هللا إ ْذ ومن خالل تمييزه بين القرآن والنص المقدس أي بين الوحي المنزل وبين ما دونه ونقله‬
‫الرواة والصحابة على لسان النبي محمد (ص) يجعل ما بين أيدينا اليوم(المصحف)المكتوب‬
‫محل ريبة ويرى أركون أنه قد تم تعديله بعد وفاة الرسول(ص)باإلضافة أو الحذف من طرف‬
‫النقال والمفسرين حتى يخدم مآربهم وخير دليل على ذلك هو قوله في وصف المصحف‬
‫الحالي‪( :‬ليست له نفس المكانة اللغوية)‪.‬‬
‫من خالل تأمل أركون في النص القرآني استنتج ما يميزه من جهة مفهوم اآليات الذي‬
‫ال يمكن أن يتجلى إطالقا فيها إال بعد فهم شامل وكامل للقرآن‪ .‬هذا ما يدل حسب رأيه على‬
‫"إن مجمل المنطوقات أو العبارات اللغوية المدعوة آيات تشكل سلسلة من النصوص القصيرة‬
‫المفتوحة على النص الكلي الشامل المكون من كل المنطوقات المسجلة في المدونة أو‬
‫المكانة اللغوية واألدبية للنص الكلي ال يمكن أن يحدد إال بعد القيام بسلسلة من التحريات‬
‫واالستكشافات للنصوص القصيرة ( أي اآليات) والنصوص المتوسطة ( أي السور) وهكذا‬

‫‪1.115‬‬ ‫محمد أركون – المرجع نفسه –ص‬


‫محمد أركون– المرجع نفسه – ص ‪2.116‬‬

‫‪163‬‬
‫ينبغي علينا أن نقيس درجة االستقاللية الذاتية ودرجة االنغالق وانفتاح كل واحد من هذه‬
‫النصوص"‪. 1‬‬
‫نستطيع بالتالي أن نرى ماذا يريد أن يطرح محمد أركون مما سبق حيث يحث‬
‫الباحث في النصوص القرآنية على الفصل بين المصحف وبين الخطاب القرآني ألن‬
‫المصحف هو(المدونة الرسمية)ألنه المرجع األعلى وأُعتُِب َر كذلك ألنه نتاج مجموعة من‬
‫األحكام الصادرة من طرف السلطة العليا بمباركة من الفقهاء وأنه (المدونة المغلقة) ألنه‬
‫خطاب إال هي كامل انتهى إعداده وتشكيله وال يمكن بأي حال من األحوال تعديله‪.‬‬

‫‪ -4‬مستويات القراءة عند أركون‪:‬‬


‫يستند أركون في قراءته إلى ثالثة برتوكوالت وهي البروتوكول الطقسي واللساني‬
‫والتفسيري‪ ،‬أما البروتوكول الطقسي أو الشعائري فهو القراءة التي يرددها المسلم في كل مرة‬
‫أثناء كل صالة وهي سورة الفاتحة مثال‪ ،‬نوفي هذا يرى أركون أن‪" :‬هناك أوال بروتوكول‬
‫القراءة الطقسية أو الشعائرية بالطبع فان هذه القراءة هي وحدها الصالحة أو الصحيحة من‬
‫وجهة نظر الوعي اإلسالمي فالمسلم إذ يكرر الكلمات المقدسة للفاتحة يعيد تحيين أو تجسيد‬
‫اللحظة التدشينية التي تلفظ أثناءها النبي بكلمات الفاتحة ألول مرة وهذا يعني انه يلتقي من‬
‫جديد بالحالة العامة للخطاب الخاص بالمنطوقة األولى انه يلتقي بالمواقف الشعائرية‬
‫والتواصل الروحي مع جماعة المؤمنين الحاضرين والغائبين وبااللتزام الشخصي لكل مؤمن‬
‫بالميثاق الذي يربطه باهلل كما ويستنبط كل التعاليم الموحى بها والمكثفة في اآليات السبع‬
‫لسورة الفاتحة وهي آيات تشفع له عند اله يوم القيامة وتنقذ روحه‪ ،‬آيات منفتحة على الدين‬
‫كله"‪.2‬‬
‫أما البروتوكول التفسيري فيقصد به أركون تلك المساحة التفسيرية التي دونها‬
‫الصحابة والتابعين في مصاحفهم الخاصة توضيحا لبعض األلفاظ أو المبهمات في القرآن‬
‫وما أنتج بعد ذلك في التراث اإلسالمي بتناول النص القرآني بالتفسير من طرف الفقهاء‬
‫والمفكرين‪" ،‬إن القراءة التفسيرية تتميز باعتماد المنطوقة الثانية بصفتها نصا ذا وصاية‬

‫‪1.116‬‬‫محمد أركون –القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص‬
‫‪-2‬أركون محمد ‪ ،‬القرآن من التفسير الموروثإلى تحليل الخطاب الديني ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.120-‬‬
‫‪164‬‬
‫بالمنطوقة األولى ومفس ار بمساعدة المبادئ التي تمارس عملها بشكل عفوي في البروتوكول‬
‫الشعائري‪ .‬وقد ظلت هذه المبادئ مقدسة‪ ،‬وال يمكن مسها حتى يمنا هذا‪ .‬فهي تحصر كل‬
‫إعادة قراءة للفاتحة‪ ،‬ضمن حدود لم يستطع حتى تدخل الفلسفة العربية اإلسالمية في العصر‬
‫الكالسيكي أن يتجاوزها"‪.1‬‬
‫‪ -‬ثالثا البروتوكول األلسني النقدي‬
‫بداية يحلل أركون البيان اللغوي لسورة الفاتحة فيدرس األسماء والعالئق واإليقاع‬
‫والضمائر والنظم وكل البنية اللغوية األلسنية لسورة الفاتحة أين يتطرق لبداية سورة الفاتحة‬
‫حيث بدأت ب "ال" هذه الصيغة لها أهمية لغوية كبيرة في البناء العام للخطاب القرآني‬
‫"فالحمد أو ال‪-‬حمد باألحرى ينبغي أن نسجل هنا قائلين بان فطنة المفسرين الكالسيكيين‬
‫كانت قد لمحت وأدركت األهمية المعنوية لهذا االستخدام وقالوا بان أداة التعريف لها قيمة‬
‫التعميم في الزمان والمكان وقيمة الحمد يقول الرازي "الفائدة الثانية انه تعالى لم يقل أحمد هللا‬
‫ولكن قال ( الحمد هلل) وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه احدهما انه لو قال أفاد ذلك‪ .‬كون ذلك‬
‫القائل قاد ار على حمده أما لما قال ( الحمد له) فقد أفاد ذلك انه كان محمودا قبل حمد‬
‫الحامدين وقبل شكر الشاكرين‪....‬فهو تعالى محمود من األزل إلى األبد بحمده القديم وكالمه‬
‫‪2‬‬
‫القديم"‬
‫لتوضيح أهمية أداة التعريف التي استعملها القرآن في سورة الفاتحة يقول أركون "إن أداة‬
‫التعريف ال وظيفة التصنيف في التراكيب اللغوية التالية‪ :‬الصراط المستقيم‪ ،‬الذين أنعمت‬
‫عليهم‪ =( ،‬المنعم عليهم)‪ ،‬المغضوب عليهم‪ ،‬الضالين‪ ،‬فهذه التراكيب هي عبارة عن مفاهيم‬
‫أو أصناف أشخاص محددين بدقة من قبل المتكلم وقابلين للتحديد من قبل المخاطب عندما‬
‫يصبح بدوره قائال أو متكلما"‪ .3‬الجرأة في مواجهة النص القرآني التي اكتسبها أركون من‬
‫تطبعه بالفكر الغربي خاصة من علماء ما بعد الحداثة في دراسة نصوصهم المقدسة جعله‬
‫يرى أنه يمكن أن يتم تطبيق ذلك على النص القرآني على فيمكن تفكيك بيانه وتناول لغته‬
‫دون أي حرج ودون أي قداسة ‪.‬‬

‫‪-1‬أركون محمد ‪ ،‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪320 .120-‬‬
‫محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪2.127‬‬

‫محمد أركون – المرجع نفسه –ص ‪1273‬‬


‫‪165‬‬
‫‪ -5‬األلسنية في سورة الفاتحة‬
‫‪ .1‬الضمائر في سورة الفاتحة‪:‬‬
‫يعتقد أركون أن توظيف الضمائر في سورة الفاتحة له دور مهم في بناء المعنى‬
‫العام لها لذا فإن تحليلها ضرورة ملحة في عملية قراءة الفاتحة حتى يتضح المعنى والعالقة‬
‫بين النص وصاحبه والنص والمتلقي ألن الضمائر فيها تدل على الذات (هللا) وعلى‬
‫المخاطب والمتكلم‪ .‬حيث الحظ أركون وجود ضمير زائد وهو مستخدم مرتين في " إياك‬
‫نعبد" و" إياك نستعين" مستعمال أداة الفصل "أيا" وضمير المخاطب "ك"‪ .‬في داللة واضحة‬
‫على من هو أحق با لعبادة وطلب االستعانة منه والذي يعود بعد ذلك فاعال في "أنعمت"‬
‫بضمير المخاطب (ت) داللة على المنعم‪ .‬وفي "أهدنا" استعمل الضمير "نا" في محل‬
‫المفعول به للداللة على من هم بصدد طلب الهدأية‪.‬‬
‫‪ .2‬االفعال في سورة الفاتحة‪:‬‬
‫يرى أركون أن األفعال في سورة الفاتحة قليلة جدا مقارنة باألسماء حيث نجد أن هناك‬
‫(‪)04‬أربعة أفعال فقط هي فعل أمر في "إهدنا" وفعل ماض في "أنعمت" وفعلين مضارعين‬
‫في "نعبد" و"نستعين" هذا ما يوضحه أركون في قوله‪ :‬إن األفعال قليلة مقارنة باألسماء حيث‬
‫يجد أوال فعلين مصرفين على طريقة الفعل المضارع وهما نعبد‪ ،‬نستعين وصيغة الفعل‬
‫المضارع على التوتر وعلى الجهد الذي يبذله العامل رقم (‪ )2‬لكي يصل إلى العامل رقم(‪)1‬‬
‫إن فعل المضارع يدل على ديمومة هذا الجهد من اجل سد الفجوة الكائنة بين المتكلم يعرف‬
‫بوصفه كخادم وضعيف ومخاطب محدد بكل هذا اإللحاح استخدام كلمة" إياك" مرتين قبل‬
‫‪1‬‬
‫كل فعل " إياك نعبد" و" إياك نستعين"‪.‬‬
‫هذا الحوار الذي حملته سورة الفاتحة بين هللا وعباده يحدد تباين وتبادل األدوار بين‬
‫الخالق والمخلوق وعالقتهما ببعضهما التي تنتقل أحيانا من األمر إلى العبادة وأحيانا أخرى‬
‫من الدعاء لالستجابة‪.‬‬
‫‪ .3‬االسماء في سورة الفاتحة‪:‬‬

‫‪1.130‬‬ ‫محمد أركون –القارن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص‬
‫‪166‬‬
‫يبين أركون أن كل األسماء الواردة في سورة الفاتحة سواء كانت فاعل أو مفعول به أو‬
‫مصدر أوصفات سبقها تعريف ب" ال" أوب "كلمة" داللة على أن الموضوع معرفة بالنسبة‬
‫للمتكلم أو قابل للمعرفة كما أن هناك داللة أخرى رافقت األسماء تقريبا كلها فأتت مسبوقة‬
‫بلفظ الجاللة "هللا"ما يعطي مركزية لهذا الفظ‪ .‬ويرى أركون أن البناء اللغوي للقرآن هو نفسه‬
‫الذي تم تداوله عند النزول الذي تميز بالبساطة والسهولة فيصل للمتلقي بكل يسر"المفاهيم‬
‫األصلية هي تلك التي إذا ما اختزلت إلى جذرها المعنوي تفلت من التمفصالت المنطقية‬
‫والصرفية التي تدخلها التحديدات التقنية إلى الكلمات أو المفاهيم المشتقة وبالتالي فان هذه‬
‫المفاهيم األصلية تحيلنا إلى كونية اللغة في تمفصلها المعنوي "الطبيعي" إنها تقدم معيا ار‬
‫‪1‬‬
‫صلبا من اجل تحديد ثيولوجيا للخطاب القرآني والخطابات بشكل عام"‬
‫يبين أركون قائال‪" :‬أنه يبدو من السهل أكثر أن نقبض على هذا التدخل في عملية‬
‫التحويل إلى اسم أي اللجوء إلى كلمات مزدوجة ( كالمصادر التي قد تكون أسماء فاعل أو‬
‫مفعول به) وهذه المصادر تمارس فعلها نحويا كأسماء في الوقت الذي تعبر فيه عن عملية‬
‫فعل"‪.2‬‬
‫البيانات النحوية‪:‬‬
‫يعتمد أركون فيها على العالقة النقدية بتفكيك سورة الفاتحة تفكيكا منتظما حتى نتمكن من‬
‫التميز بسهولة بين القراءات في نص السورة فيرتب أركون بين وحدات القراءة القاعدة األربع‬
‫والفظات األربع والسبع لفظات إخبارية وذلك طبقا للترتيب اآلتي‪" :‬يمكن أن نميز بيم أربع‬
‫وحدات للقراءة القاعدية ثم سبع فظات إخبارية ذلك طبقا للتوزيع التالي‪.‬‬

‫‪ -1‬الرحمن الرحيم‬ ‫‪ -1‬بسم هللا‬


‫‪ - 1‬رب العالمين‬ ‫‪ -2‬الحمد هلل‬
‫‪-2‬الرحمن الرحيم‬
‫‪ -3‬مالك يوم الدين‬
‫‪-1‬صراط الذين أنعمت عليهم‬ ‫‪ -3‬إياك نعبد و إياك نستعين‬

‫‪1.231‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬المرجع نفسه –ص‬


‫‪2.132‬‬ ‫محمد أركون – المرجع نفس –ص‬
‫‪167‬‬
‫‪-2‬غير المغضوب عليهم‬ ‫‪ -4‬اهدنا الصراط المستقيم‬
‫‪1‬‬
‫‪-3‬وال الضالين"‬
‫يبين أركون هنا فائدة هذا التقطيع الذي قام به قائال "إن هذا التقطيع للسورة يرتكز على‬
‫التمييز النحوي المقام عادة بين العبارة –النواة‪/‬والعبارة‪-‬التوسع‪ .‬وهذا التقطيع يتيح لنا إن‬
‫نوضح بشكل أفضل ذلك الدور النحوي المركزي للفاعل المقصود بكلمة هللا أو بعملية‬
‫‪2‬‬
‫القول‪ :‬هللا) وكذلك يتيح لنا إن نفهم كيفية التوسع المعنوي لذا الفاعل نفسه"‬
‫هكذا استنتج أركون ‪-‬اعتمادا على السيميائية‪ -‬أن النص الديني متاح دون أي حرج‬
‫لتحليل أعمق ولتفكيك أشمل ودراسة ترمي بعيدا عن النص والموروث الديني كل المفاهيم‬
‫الراسبة التي أثرت عليه وتنزع عنه التبجيل والتسليم المطلق بطرح حديث وبناء عقلي‬
‫محكم‪"،‬تعرية اآلليات السيميائية للخطاب السردي القصصي والدراسة التحليلية للمجاز‬
‫والرمز ثم دراسة التصورات األسطورية من خالل المنظور األنتربولوجي لم تعد تسمح‬
‫لألخبار والحكآيات التقليدية في أن تغمس الوعي في عالم العجيب الساحر والخارق‬
‫للطبيعة"‪ ،3‬عكس التصور الكالسيكي تماما الذي كان سائد في عالقة الدال بالمدلول‬
‫المتطابقة يقترح الطرح الحديث فصلهما عن بعضهما باالحتفاظ على الرابطة بينهما بكل‬
‫حرية واستقاللية‪.‬‬
‫أركون من خالل هذا التصور الحديث في عالقة الدال والمدلول أعطى لمفهوم العقل يرتكز‬
‫على العالمات واآليات والرموز وليس على الواقع ذاته ألن الخطاب القرآني يشكل عالما‬
‫كامال من اآليات‪ ،‬فمع دخول الفلسفة اليونانية والمنطق األرسطي إلى الفضاء اللغوي‬
‫والثقافي العربي لم تعد كلمة العقل في القران تعني مجرد الربط بين السماء والتعالي بين‬
‫األرض والنعم التي رزقنا هللا بها بل تعني التحليل المفهومي أو المنطقي للظواهر‪.‬‬

‫–ص‪1.133‬‬ ‫محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‬
‫محمد أركون – المرجع نفسه –ص ‪2.133‬‬
‫المبارك حاميدي‪ -‬مرجع سابق ذكره‪ .‬ص ‪3.260‬‬

‫‪168‬‬
‫ثالثا‪ - :‬التاريخية وميالد العقل اإلسالمي‪:‬‬
‫التاريخية دراسات تناولت دقة أو دالئل تواجد أشخاص أو وقوع أحداث معينة‪،‬‬
‫بمعنى آخر التأكد من اعتبار هؤالء األشخاص أو األحداث جزًء واقعيا من التاريخ ال كأجزاء‬
‫من خرافة أو أسطورة أو خيال أدبي وهي ترتكز على الحقائق المجردة حول التاريخ كالدقة‬
‫التاريخية وموثوقية المصادر وواقعية الحدث‪ .‬وهي من المصطلحات التي أنتجتها الفلسفة‬
‫الحديثة وتجّلت الحاجة إليها بفعل التطور الذي عرفته العلوم اإلنسانية‪ ،‬واستفحال نـزعة‬
‫الحداثة ثم ما بعد الحداثة وهي مصطلح أُشتُق من التاريخ الذي يراه محمد عبد الرحمن ابن‬
‫خلدون بحث في الوقائع والحوادث الماضية "وهو خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو‬

‫‪169‬‬
‫عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتآنس والعصبيات‬
‫وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من املك والدول ومراتبها‬
‫وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والضائع وسائر ما يحدث‬
‫في ذلك العمران بطبيعته من األحوال«‪1‬وتجاوز أركون وظيفة التاريخ التي اقتصرت على‬
‫سرد التاريخ اإلسالمي إلى تحليله ودراسته وفهم األدوات التي ساهمت في تدوين المعلومات‬
‫وما أحاط بها في تلك الفترة من ظروف ومعتقدات أثرت في الخطاب والنقل والتاريخية عند‬
‫أركون أن حدثا ما قد حصل بالفعل وليس مجرد تصور ذهني كما هي الحال في األساطير‪،‬‬
‫أو القصص الخيالية‪ ،‬أو التركيبات األيديولوجية انطالقا من السيرة النبوية وأخبار الصحابة‬
‫ووصوال إلى المدونات التاريخية‪ .‬ولم يكن أركون من خالل هذه الدراسة النقدية يسعى لجمع‬
‫اكبر قدر من األحداث بل كان يركز على "المبادئ المعرفية التي توجه بنيتها وتشكيلتها‬
‫ونمط العقل الذي يخلع الصالحية على معناها ودالالتها لنركز اهتمامنا أوال على خطاب‬
‫السيرة النبوية كما وصلتنا عن ابن إسحاق عاش ما بين عامي ‪ 151-985‬م ‪ .‬والذي‬
‫كان يتمترس أو يختبئ وراء المشروعيات والسيادات المأذونة التي تقف فوقه وتتجاوزه ولهذا‬
‫السبب فهو يستخدم في مستهل كل رواية من رواياته عبارات من نوع زعموا فيما ذكر لي‪-‬‬
‫القصاص والواعظ كما‬
‫فيما بلغني وقد وقع تحت تأثير الحكايات الشعبية المنقولة عن طريق ّ‬
‫‪2‬‬
‫وقع تحت تأثير الحكايات التبجيلية التقديسية التضخيمية واالستشهادات الشعرية"‬
‫لقد سلك أركون في دراسة التراث اإلسالمي طريقة نقدية تقوم على إعطاء الجانب‬
‫العقلي دور كبير في تناول األحداث وخاصة مجال العلوم اإلنسانية والعلوم االجتماعية‪.‬‬

‫وينبغي أن تكون هناك آلية ّ‬


‫للتمييز بين الحدث الغيبي والواقعي‪ ،‬والمشروط والمطلق‪ ،‬فهي‬
‫يخية" يوظف في مجال‬
‫لحظة تقاطع الميتافيزيقا مع التاريخ‪ .‬ومن هنا يفهم أن مفهوم "التار ّ‬
‫إعطاء األولوية للمادي والواقعي على حساب الغيبـي والمتعالي والالمشروط‪ .‬بعيدا عن‬
‫الدغمائية التي فرضتها سلطة الدين وبتجاوز هيمنة النص وقداسته‪" .‬إن وجهة النظر هذه‬
‫تتخذ أهمية حاسمة ألنها هي وحدها التي تجبرنا على الربط بين مختلف أنواع المنهجيات‬

‫‪ 1‬د‪ :‬محمد جميل صليبا‪-‬المعجم الفلسفي ج‪-1‬دار الكتاب اللبناني‪-‬لبنان بيروت‪-‬دط‪-1982-‬ص ‪.227‬‬
‫د‪ :‬محمد أركون‪-‬نحو انقد العقل اإلسالمي‪-‬ت‪ :‬هاشم صالح‪-‬دار الطليعة للنشر و الطبع‪-‬بيروت‪-‬ط‪-2009-1‬ص‪-112‬‬
‫‪2.113‬‬

‫‪170‬‬
‫التحليلية وهكذا نطبق التحليل األلسني والتحليل السيميائي الداللي والتحليل التاريخي والتحليل‬
‫االجتماعي أو السوسيولوجي والتحليل األنتربولوجي والتحليل الفلسفي وعلى هذا النحو نحرر‬
‫المجال أو نفسح المجال لوالدة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية ولكم من دون أن نعزلها‬
‫‪1‬‬
‫أبدا عن الظواهر األخرى المشكلة للواقع االجتماعي التاريخي الكلي"‬
‫‪ -1‬مفهوم التاريخية عند أركون‪:‬‬
‫استمر أركون في تحليله للمراحل التاريخية للعقل اإلسالمي الذي أبدى نضجا كبي ار في‬
‫مرحلة معينة في الحفاظ على النص الديني والسني وتناوله لمصادر التشريع اإلسالمي‬
‫وأحداث أسست لتاريخه‪ .‬لكنه يرى أن هذا العقل اكتفى بالرواية والنقل فيما بعد لينسحب‬
‫بشكل مفاجئ في وقت عرف فيه الغرب نهضة غريبة فككت مختلف جوانب المجتمع‬
‫األوربي ووضعتها تحت اختبار العقل والمنطق بما في ذلك النص الديني وتعاليم الكنيسة‬
‫وهذا ما أسس لتطور فكري سليم أنتجه أيمانهم بمنطق البحث العقلي وبتعرية كل المقدسات‬
‫الغامضة‪" .‬مسألة التاريخية اتخذت مكانة مركزية بالنسبة للفكر الحديث بدءا من القرن‬
‫الثامن عشر وهي تميل في آن معا إلى الممارسة التوسيعية للتاريخ النقدي بصفته علما‬
‫شامال دخل العلوم االجتماعية ثم بدأ تأثير هذا العلم على البحث الفلسفي ونقصد بذلك‬
‫تأثيره على فيكو وعلى هيردير ودلتي وهيدغر وجان بول سارتر وريمون أرون وبول‬
‫ريكور"‪ ،2‬وان مصطلح التاريخية ظهر في الساحة األوربية "حسب قاموس الروس الكبير‬
‫للغة الفرنسية في مجلة نقد ‪ critique‬وذلك في ‪ 6‬نيسان ‪ .1872‬أما روبير فانه ال يذكر‬
‫أن األمر تعلق في الحقيقة بصياغة علمية مستخدمة خصوصا من قبل فالسفة الوجود‬
‫كما يبين أن للتحدث عن االمتياز الخاص الذي يمتلكه االنسان في إنتاج سلسلة من‬
‫األحداث والمؤسسات واألشياء الثقافية التي تشكل بمجموعها مصير البشرية"‪.3‬‬
‫أسئلة محمد أركون من خالل نهجه النقدي سلطت الضوء على موضوع خطير‪ ،‬واجه‬
‫العقل العربي بشكل ملح هو هذا التصادم بين المبادئ وبين التطور الفكري الجديد‪ .‬الذي‬

‫محمد أركون‪-‬القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪ -‬ق‪:‬هاشم صالح دار الطليعة للطباعة و النشر‬
‫بيروت‪-‬ط‪-2012-3‬ص ‪1 .70‬‬
‫‪ 2‬محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪-‬ت‪ :‬هاشم صالح دار الطليعة للطباعة و النشر‪-‬‬
‫بيروت ط‪-2012-3‬ص ‪48 -47‬‬
‫محمد أركون الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪-‬ت‪ :‬هاشم صالح‪ -‬المركز الثقافي العربي‪ -‬دار البيضاء‪-‬ط‪—1996 – 2‬ص‬
‫‪3 116‬‬

‫‪171‬‬
‫استفز القيم بشكل مباشر وأدى إلى انهيارها تماما أمام هذا التسارع في اإلنتاج الفكري الغزير‬
‫وفرضه أسلوب التوافق الفكري رغم التباين في األصول والمذاهب والطرح وحتى في‬ ‫ِ‬ ‫والمتنوع‬
‫الدين‪ ،‬ويجزم أركون أن المبادئ ليس لها قيمة في األساس ألنها قامت على قاعدة هشة‪ ،‬إذ‬
‫تستمد قيمتها من فكر محدود بالبعد الزمكاني تحمل شوائب خرافية وأوهام عكس األيمان فهو‬
‫يقين راسخ يسعى لهداية اإلنسان‪.‬وهذا ما يذهب إليه على حرب في كتابه نقد النص في‬
‫قوله‪" :‬إن رهان أركون األساسي فيما يبذله من جهود فكرية متواصلة هو إدخال التاريخية‬
‫إلى ساحة الفكر العربي اإلسالمي بكل مراحله وأطواره وبمختلف نصوصه وخطاباته بما في‬
‫ذلك النص القرآني نفسه‪ ...‬والتاريخية يعني أن لألحداث والممارسات والخطابات أصلها‬
‫الواقعي وحيثياتها الزمانية والمكانية وشروطها المادية والدنيوية كما تعني خضوع البنى‬
‫‪1‬‬
‫والمؤسسات والمفاهيم للتطور والتغيير أي قابليتها للتحويل والصرف وإعادة التوظيف‪".‬‬
‫فكل واقعة تاريخية لها واقع زماني ومكاني مرتبطة به ومشروطة كذلك بالعوامل السياسية‬
‫واالقتصادية واالجتماعية التي تؤثر فيها بالضرورة وتساهم بالتالي في تأسيسها‪ .‬وبالنسبة‬
‫ألركون النقد التاريخي للنص القرآني ال يمكن تجاوزه وأي حكم ديني صادر عن النص‬
‫المقدس يخضع ألسئلة العقل من أجل فهمه والتحقق من صدقه بإخضاعه للظروف‬
‫واألسباب التي أنتجته واالمتداد الزماني والمكاني للمجتمع والحدث‪ .‬الحدث الواقعي من‬
‫ناحية الزمن سابق للنص والنص خاضع للواقع‪.‬‬
‫أركون ‪ -‬متأث ار بما فعله الغربيون بنصوصهم المقدسة الموجودة في اإلنجيل– طبق‬
‫على القرآن هذا النقد التاريخي الجريء من أجل دراسة ترتكز على المقارنة العلمية والبحث‬
‫في كل جوانب النص القرآني نازعا بذلك كل القداسة والهيمنة التي رافقته في الخطاب‬
‫والنقل‪" .‬المؤسس الحقيقي للنقد التاريخي للنصوص المقدسة في دراسته التاريخية للعهد القديم‬
‫حيث بين أن هذا النص ال يحتوي على مادة معرفية تخضع لمحاكاة التصديق أو الرفض‬
‫الواقعيين بل هو يحتوي على خطاب أخالقي مناقبي أسطوري‪ ....‬أي التاريخي اللغوي‬

‫‪1‬محمد أركون‪-‬القران من التفسيرالموروثإلى تحليل الخطاب الديني‪ -‬ت‪ :‬هاشم صالح‪-‬دار الطليعة للطباعة و النشر‪-‬بيروت‬
‫ط‪ -2012 3‬ص ‪.48-47‬‬

‫‪172‬‬
‫المضبوط ففرق بين الحقيقة كما يراها الدين وتراثه وبين معنى النص ومضمونه كما تشير‬
‫إليه دالئل الواقع"‪.1‬‬
‫انتقد أركون المفكرين العرب المعاصرين بسبب عزوفهم عن السير في هذا االتجاه في‬
‫دراساتهم وأبحاثهم وإهمالهم للتاريخية وعدم تطبيقها على إرثهم العميق ما تسبب في تأخر‬
‫نهضتهم متخبطين في صراع الهوية مرة والعقيدة مرة أخرى‪ .‬وبرفضهم لدراسة ماضيهم بشكل‬
‫التي تدور حوله وأصابه جمود‬ ‫صحيح انسحب العقل اإلسالمي من الساحة الفكرية‬
‫وتعصب لمعطياته ورفض تام لكل ما يختلف معه ما جعله في مواجهة واقع خطير أدى إلى‬
‫سقوطه بشكل عنيف في صراع مع الذات ومع األخر‪ .‬وهذا العقل الدوغمائي ‪la raison‬‬
‫‪ dogmatique‬أصبح هو الغالب حيث أصبح" العقل الذي يسيطر على خطاب المؤمن‬
‫األرثودوكسي غريب كليا وراديكاليا عن المعرفة التاريخية النقدية واأللسنة االجتماعية‬
‫األنتربولوجية هذا ما يعني أن العقل األصولي الذي يسيطر على أغلبية المسلمين اليوم بعيدا‬
‫كل البعد عن أنوار المعرفة الحديثة "‪2‬يعني هذا أن التركيز على التاريخية كعلم يهدم كل‬
‫الحدود بين العلوم والمذاهب واالتجاهات التي ميزت الدراسات الكالسيكية من أجل تحقيق‬
‫قراءة أشمل وأوسع للبحث عن الحقيقة والستنباط األجوبة برفع الغموض الذي ساد األحداث‬
‫في الطرح وبعده في النقل ويضع العقل في مواجهة مع الخوف من األحكام األولية وجميع‬
‫التأويالت التي لم تبحث في تفاصيل النصوص بعقل ناقد غير منحاز ودون استعمال‬
‫عتمد في مختلف العلوم الحديثة وبالتالي تتم دراسة الموضوع‬
‫ألدوات العلم الحديث التي تُ َ‬
‫وتفكيكه من الواقع المناسب الذي شمل كل الظروف واألسباب المحيطة بالنص والسنة‬
‫والحدث كأساس النطالق التاريخ وتطوره ومنه تكون االستنتاجات علمية وواقعية تعبر عن‬
‫تمهد لنا الطريق‬ ‫حقائق صريحة واضحة ومادية تسمح للمفهوم بالتجلي وتستطيع أن‬
‫للنهضة‪ .‬وهي شرط ضروري وحتمي للحداثة‪ .‬ويدعو أركون الباحثين والمفكرين العرب‬
‫للتركيز واالهتمام بالنقد التاريخي العقلي إ ْذ يرى أنهم ليس لديهم إرادة قوية لهذا العمل ولم‬
‫يتمكنوا من مسك المناهج واألدوات الحديثة الالئقة التي سبقهم فيها المفكرون والفالسفة‬
‫األوربيون في تعاملهم مع تراثهم وتعاليمهم المقدسة فالمفكرون العرب المعاصرون "لم‬

‫‪1‬‬ ‫عزيز العظمة – العلمانية من منظور مختلف –مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت ط ‪ -1996 -1‬ص ‪.32‬‬
‫محمد أركون‪-‬نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية‪ -‬دار السافي بيروتط‪-2018-3‬ص ‪2.195‬‬

‫‪173‬‬
‫يخاطروا أبدا بدراسة نقدية للدين على طريقة ماركس فيبر أوتروليتش‪"Troelscht " E‬‬
‫ولم يقوموا بصراع ضد الكهنوت على طريقة فولتير "‪ "Voltaire‬وال في تفسير األفكار‬
‫الجامدة ‪ Dogme‬والوعي الخاطئ على طريقة " مونتيني" ‪ .Montaine‬ولم يدخلوا في‬
‫صراع دائم وذي داللة أو أهمية تذكر من أجل تعرية األصول اآلنية والمرحلية والدنيوية‬
‫للشريعة وال بإنجاز ثيولوجيا إسالمية مالئمة للروح العلمية الجديدة"‪ .1‬ومن هنا فان التناول‬
‫العلمي التاريخي للنصوص المقدسة لم يتم بعد في الثقافة العربية اإلسالمية وما أنجز منه‬
‫فقير ال يفي بالغرض ولم يحقق مراميه بعد‪ ،‬سواء كان ذلك للنص المقدس أو للتاريخ‬
‫والتراث اإلسالمي ويفسر أركون ذلك بأن" التكلم على التاريخية بشكل واع ومعقول في مجال‬
‫إسالمي ما أمر ضروري من وجه نظر ذاتية ( وجهة نظر الباحث) لكنه خطر من وجهة‬
‫نظر موضوعية بل انه مستحيل‪ .‬إن النقد التاريخي المطبق على القرآن والحديث والفقه‬
‫والذي طبق سابقا على الشعر الجاهلي والخالفة قد أثار وال يزال يثير حتى اآلن ردود فعل‬
‫‪2‬‬
‫عنيفة من قبل المجتمع الذي يشعر بأنه مهدد في حقائقه المطلقة وقيمه المحورية"‪.‬‬
‫فضل محمد أركون النمط النقدي العلمي في دراسة العلوم اإلنسانية داعيا إلى ترك‬
‫الدراسة الالهوتية واأليديولوجية للتاريخ متأث ار بتطبعه بالمناهج الغربية الحديثة عوض‬
‫المناهج القديمة الكالسيكية التقليدية بهدف كشف اُل ِ‬
‫لبس على األفكار باستعمال منهجية‬
‫التفكيك وهذا النوع من الدراسات بدأهما أركون معتمدا على مدرسة الحوليات الفرنسية‬
‫إضافة إلى مفكرين وفالسفة آخرين أمثال" دريدا" و" هيدغر" ‪ ،‬و" دوبي" و" لوسيان فيفر""‬
‫فوكو ميشال" وغيرهم أن هذه الرسالة وغيرها اعتمدها أركون "من اجل إزاحة الركام واكتشاف‬
‫الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو للواقع التاريخي‪ .‬يعني التفكيك أيضا تعرية آليات‬
‫الفكر الذي ولد النظريات المختلفة والتشكيالت األيديولوجية المتنوعة والتركيبة الخيالية‬
‫عنها وتبيان منشئها‬ ‫وكل ذلك من اجل نزع البداهة‬ ‫والمعرفية‬ ‫واألنظمة اإليمانية‬
‫‪3‬‬
‫وتاريخيتها وبالتالي نسبيتها‪".‬‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪-‬تاريخية افكر العربي اإلسالمي‪-‬المركز الثقافي العربي‪ -‬دار البيضاء المغرب‪ -‬ط ‪.237-1998-3‬‬
‫‪ 2‬محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي قراء علمية‪ -‬المركز الثقافي العربي‪-‬دار البيضاء المغربة – طذ‪– 1998 -3‬ص ‪.10‬‬
‫محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية‪ -‬المركز الثقافي العربي‪ -‬دار البيضاء المغرب – ط‪ 1998-3‬ص ‪3.10‬‬

‫‪174‬‬
‫ناقش أركون تلك النزعة الربانية المعظمة للروآيات الموروثة‪ .‬ورأى أنه ال وجود للحقيقة‬
‫الخالصة الموجودة في ذاتها وبذاتها ويجب إخضاع التراث للشك ألنه نتاج تاريخي مادي‬
‫مقرون بغيره مشروط بالواقع وحيثياته وهو عنصر مساهم وشريك وليس محور رئيسي مطلق‬
‫له أسبابه التي يمكن استنباطها من الرجوع للواقع ودراسته دراسة عقلية حديثة بعيدا عن‬
‫الغرور باعتقاد المطلق كوجود ثابت وال يمكن بأي حال من األحوال رفض اآلخر بتلك‬
‫النظرة األُحادية للفكر االرتودوكسي األبائي المبني على احتكار الحقيقة والذي ادعى امتالك‬
‫الخالص‪.‬‬
‫ولعل من أخطر القضايا في التاريخ اإلسالمي هي التي أثيرت في الجدل الالهوتي عند‬
‫المعتزلة في العصرين األموي والعباسي وهي ال تزال نقطة هامة في الجدال حول كيفية قراءة‬
‫النص الديني وإشكالية خلق القرآن ولقد غلبت آنذاك على المعتزلة النزعة العقلية فاعتمدوا‬
‫على العقل في التأسيس لعقائدهم وقدموه على النقل ورفضوا األحاديث التي ال يقرها العقل ‪-‬‬
‫في‬ ‫بالغوا‬ ‫قد‬ ‫فإنهم‬ ‫لذلك‬ ‫معرفة هللا بالعقل‬ ‫بوجوب‬ ‫وقالوا‬ ‫زعمهم‪،-‬‬ ‫حسب‬
‫استخدام العقل وجعلوه حاكماً على النص‪ ،‬بعكس أهل السنة الذين استخدموا العقل وسيلة‬
‫لفهم النص ‪.‬‬
‫اقترب أركون تماما من هذا المفهوم في حكمه على النص القرآني والسني وأبعد من‬
‫ذلك حيث أكد أن الخطاب اإلسالمي خطاب غيبي مترفع خارج عن التاريخ ( ميتاتاريخي)‬
‫يكتفي بالسرد القصصي األسطوري لألحداث الدينية ويقتصر على النقل السلبي للروآيات‬
‫خضع الموروث لتأثير األيديولوجيات فتعددت القراءات واختلفت وضاعت الحقيقة بين‬‫وهذا ي ِ‬
‫ُ‬
‫هذا وذاك‪ .‬ويرى أركون أنه كان على العقل اإلسالمي التأثير في الواقع بواسطة التاريخية‬
‫والدراسة العق لية لهذه األحداث الدينية بالرجوع ألسباب النزول في النصوص القرآنية وكل ما‬
‫احتوته وظروف الحديث في السنة وهذا ما دفع أركون باستخدام مصطلح ( الحدث القرآني)‬
‫يقول‪" :‬ينبغي أن يعلم القارئ أن اإلسالم ليس كيانا أبديا أو أزليا ال يتأثر بأي شيء وبؤثر‬
‫في كل شيء كما يتوهم جمهور المسلمين هذا التصور المثالي جدا وغير تاريخي لألمور‬
‫إنهم يتوهمون إن اإلسالم المثالي هذا يتولد عن النصوص التأسيسية ( القران والحديث)‬

‫‪175‬‬
‫ويطبع كل المجتمعات التي انتشر فيها بطابعه ويعبر العصور دون أن يط أر عليه أي تعديل‬
‫‪1‬‬
‫أو تبديل‪".‬‬
‫مما سبق تتضح حالة الفكر اإلسالمي المؤسفة المنغلق في بوتقة القوالب المعدة والمهيأة‬
‫والتقليدية المستسلم لنظام الطبيعة مهمال دور العقل رغم أن له داللة قوية فهو يعبر عن‬
‫النظام والتنظيم وبالخصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية‪ ،‬حيث دعا القرآن لالعتبار‬
‫والتأمل بغية بلوغ الهداية والفضيلة والمعرفة والحق‪ ،‬ولم ينكر القرآن النظر العقلي كوسيلة‬
‫لأليمان‪ ،‬بل إن القرآن قد دعا إلى التبصر في العالم والمخلوقات ولفت األنظار والحواس‬
‫إلى دالئل قدرة هللا‪ ،‬وجعل من هذه البراهين مجاال واسعا لالستدالل عليه كقوله تعالى‪":‬أفال‬
‫ف ُرِف َع ْت وإلى الجبال كيف نصبت َوإلى‬ ‫ِ‬
‫الس َماء َك ْي َ‬
‫ِ‬ ‫ِين ُ‬
‫ظ ُرونَ إلى اإلِب ِل َك ْي َ‬
‫ف ُخلَق ْت َوإلى َ‬
‫ف ُس ِط َح ْت‪".‬صدق هللا العظيم وبهذا تتضح الحاجة الملحة للخطاب العلمي‬ ‫األ َْر ِ‬
‫ض َك ْي َ‬
‫الحديث وضرورة القطيعة مع التأويالت الالهوتية الخاصة بين األديان التوحيدية الثالث‪"،‬فال‬
‫يمكننا تحقيق أ ي تقدم في مسالة تاريخية القران اال بتفكيك مفهوم الدوغمائية واالنتقال من‬
‫‪2‬‬
‫مرحلة الفكر األسطوري إلى مرحلة الفكر التاريخي الواقعي"‪.‬‬
‫العقل اإلسالمي بمختلف توجهاته يسعى إلى ترسيخ وتأسيس" نفس األفق الديني أو‬
‫الرمزي ويستخدم ذات وسائل النقل واستغالل النصوص أو تفسيرها‪ .‬ولكنه ينتج( أو يولد)‬
‫دالالت ومعاني متالئمة ومتوافقة مع المصالح المباشرة لكل فئة تناضل من اجل بقائها‬
‫علي قيد الحياة أومن اجل مد سلطتها وهيمنتها‪ ،‬هكذا نجد الدالالت المتولدة تصبح محفوظة‬
‫وراسخة في الذاكرة عن طريق الجماعة أو الفئة المعينة‪ ...‬التي تحسم وجود المجتمع بكليته‬
‫‪3‬‬
‫وتحدد له وجهته"‬
‫وألن أغلب المسلمين باختالف مدارسهم يتناولون موروثهم الديني بالتسليم المطلق رغم‬
‫تأثير السياسة والمذاهب فيه فإن أركون يدعو إلقصاء هذه األيديولوجيات واإللهيات عن‬
‫كتاب التاريخ ليسمح هذا بتدوينه بكل موضوعية ويفسح المجال أمام المؤرخ لقراءته بكل‬

‫ص‪1.174‬‬‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني‪ ،‬مرجع سابق‪-‬‬


‫‪ 2‬محمد أركون‪ -‬نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية‪ -‬مرجع سابق ذكره ص ‪.200‬‬
‫‪ 3‬محمد أركون‪ -‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي‪ -‬مرجع سابق‪-‬ص ‪.94‬‬
‫‪176‬‬
‫حرية متخلصا من قيود التبعية لألحكام المسبقة والتبجيل‪ .‬ولهذا يؤكد أركون ضرورة تجاوز‬
‫التاريخية التي كانت تخدم سياسات ومذاهب ومعتقدات عقيمة‪.‬‬
‫في هذا الصدد يقول أركون "ينبغي تجاوزها لكي نصل إلى التاريخية التي تسمح‬
‫وحدها بتجاوز االستخدام الثيولوجيا والقومية وبشكل العام األيديولوجي للتاريخ هذا التاريخ‬
‫الذي كان يكتب في السابق (عند العرب وعند الغربيين أيضا) من قبل مؤرخين خاضعين‬
‫‪1‬‬
‫لتوجهات الدولة المركزية ولأليديولوجية الرسمية التي تحكم باسمها "‬
‫بكل تأكيد لم تنشأ المذاهب الفكرية في التاريخ العربي اإلسالمي في العصر األموي‬
‫خاصة من العدم ولم تقم أيضا على العدم بل كانت متصلة األوصال بمن قبلها من حركات‬
‫فكرية لها هي األخرى جذورها وأصولها في صيرورة الفكر العربي اإلسالمي‪ .‬في ذلك‬
‫العصر المميز بالصراعات السياسية‪.‬بدأ تأثير السلطة على األحكام الشرعية ومناقشتها جليا‬
‫من خالل تحليل الحرام وتحريم الحالل وإصدار األحكام الشرعية ضد كل من خالف الحكام‬
‫والنظام‪ .‬جعل هذا العقل العربي اإلسالمي عقل مسجون في الدوغمائية التي ثبطت إنتاجه‬
‫الفكري وأدخلته في سبات عميق‪ .‬من خالل فتأوي وإجابات جاهزة عن كل ما أرق العقل‬
‫العربي اإلسالمي في بحثه في التباين والتشابه والتقارب والغموض في األحكام والنصوص‬
‫ما يتضح بشكل جلي في رسالة إدريس الشافعي لعبد الرحمن بن مهدي التي جمع فيها كل‬
‫معاني القرآن ووقوع األحداث ودالئل اإلجماع والقياس وتبيان الناسخ والمنسوخ في القرآن‬
‫وروآيات السنة وفتاوي التابعين‪ .‬هذا ما أسر العقل اإلسالمي وجعله مصابا بالدهشة‬
‫والخضوع لهذا الفكر متمحو ار حول ذاته وزادت قداسة األحكام وزاد الرهبة من استعمال‬
‫األدوات العقلية في تفسير العقيدة وجس التاريخ الستخراج المعلومات‪ .‬فرسالة الشافعي‬
‫"قامت بترسيخ للمحاكمة القانونية المطبقة على النصوص القطعية من قرآن حديث‪ ...‬فانه‬
‫قد قصد الحط من قيمة االجتهادات الشخصية من رأي واستحسان‪...‬ولم يشحن القانون بالقيم‬
‫األخالقية الدينية وإنما جعله متعاليا ومقدسا عن طريق تقنيات االستدالل أي استنباط القوانين‬
‫التشريعية والقانونية باالعتماد على مجموعة نصية ناجزة إلهية ونبوية"‪2.‬‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ -‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.139‬‬


‫‪ 2‬محمد أركون‪-‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي‪-‬مرجع سابق ذكره‪ -‬ص‪.74‬‬
‫‪177‬‬
‫وتعدى الشافعي ذلك عندما رأى أن كل أقوال الرسول(ص) وأفعاله وحي مستدال‬
‫باآلية الكريمة‪ "":‬إن هو إال وحي يوحى"‪ 1‬إ ْذ ليس المعنى هنا أن كل كالم ينطق به النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم يكون وحيا من عند هللا‪ ،‬وإنما معناها أن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫معصوم من الخطأ في ما يبلغه عن هللا ولم يتكلم عن القرآن بما تهوى نفسه‪ ،‬بخالف غيره‬
‫من الكالم الذي يحتمل االجتهاد ‪.‬جدير بالذكر أن الرسول(ص) في كثير من المواطن أكد‬
‫أنه يجتهد في إصدار األحكام الشرعية وتفسير األمور الدينية وما لم ينزل عليه وحي‬
‫كاالجتهاد في أسرى بدر وأخذ الفداء منهم واالجتهاد في إذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة‬
‫تبوك‪ .‬وأثناء غزوة بدر وما حققه المسلمون بانتصارهم على المشركين رغم قلة عددهم وكثرة‬
‫عدد الكفار حيث تساءلوا عن سبب ذلك ‪...‬أوحي هذا أم مكيدة فأجابهم الرسول (ص)بل‬
‫الحرب والمكيدة‪ .‬يدل هذا أن ليس كل أفعال الرسول(ص) وحي وإنما يعلمنا (ص)أن للعقل‬
‫دور كبير في امتالك مفاتيح المعرفة باالجتهاد والتأمل‪.‬‬
‫‪ -2-‬توظيف التاريخية في النص القرآني‪:‬‬
‫من بين األسباب التي حملت أركون على اعتماد التاريخية في النصوص القرآنية هي‬
‫أنه يرى أن القرآن هو أساس األحداث لدى العقل العربي اإلسالمي فهو بدابة تدوين لفكر‬
‫جديد ونقطة بداية لتحول عظيم لدى مجتمع خاص أثر وتأثر بشكل مباشر وغير مباشر‬
‫في ذاته وفي غيره بفرض نظام رباني جديد وتعاليم واضحة وأخرى غير واضحة بخطاب‬
‫اقتداء بما فعل‬
‫ً‬ ‫بسيط ‪.‬لذا وجب تفكيك هذا الخطاب بأدوات العلم الحديث بكل عقالنية‬
‫علماء الحداثة وما بعدها بتعاليمهم الدينية ونصوصهم السماوية‪" .‬اقصد القران كحدث‬
‫يحصل ألول مرة في التاريخ وبشكل أدق ما يلي‪ :‬التجلي التاريخي لخطاب شفهي في زمان‬
‫ومكان محددين تماما (الزمان هو بداية التبشير والبيئة االجتماعية الثقافية التي ظهر فيها‬
‫هي الجزيرة العربية) الخ هنا على الطابع الشفهي للقران في البداية ألنه لم يكتب ولم يدون‬
‫إال فيما بعد وهذا الخطاب الشفهي رافقت الممارسة التاريخية المحسوسة لفاعل اجتماعي‬
‫يدعى ‪ :‬محمد ابن عبد هللا"‪2‬‬

‫‪1‬‬
‫سورة النجم ‪ -‬اآلية رقم ‪4‬‬
‫‪2‬‬ ‫محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – مرجع سابق – ص ‪.186‬‬
‫‪178‬‬
‫خاطر أركون بطرح جريء ألح من خالله على قراءة النص القرآني وشرحه قراءة‬
‫وشرحا أدبيا وفق مناهج النقد األدبي الحديث‪ .‬هذا طبعا لم يعجب الكثيرين ‪ -‬وهذا مشروع‬
‫في الساحة العلمية ‪ -‬مثل اإلسالميين والجابري ‪.‬حيث أن قضية الدعوة للبحث في النص‬
‫القرآني بهذه الطريقة لم يتج أر عليها أي مسلم من قبل رغم التباين الكبير الذي ميز الفكر‬
‫اإلسالمي في المذاهب والطوائف‪ .‬إال أن أركون تردده كان واضح من خالل تحديده لهدفه‬
‫من هذه الدراسة ردا على منتقديه قائال‪ " :‬فأنا إذا بلورت المصطلح على هذا النحو لم أكن‬
‫أهدف إلى الدفاع عن البعد الديني لهذا الخطاب أو نفي هذا البعد عنه لم أكن أهدف إلى‬
‫خلع التقديس عليه أو نزع التقديس عنه‪ ،‬وإنما كنت أهدف إلى وصف األمور كما هي‪...‬‬
‫من تطبيق المنهجية الجديدة على القران إلى التركيز في أن معا على البعد اللغوي‬
‫والسيميائي والسوسيولوجي والنفسي واألنتربولوجي لهذا الخطاب"‪1.‬‬
‫وبعد النقد الذي طاله بسبب فكرته عن تطبيق النقد األدبي على النص القرآني‬
‫واستف اززه للمجتمع العربي اإلسالمي في النصوص والحديث أراد أركون تحاشي الوقوع في‬
‫المحظور بتداركه لهذا الموقف الذي يعلله بأن هناك عائق حال بين النص القرآني وفهمه‬
‫خاصة ألنه يفرق بين ما أنزل على الرسول(ص)شخصيا فهذا مقدس ال يمكن استهدافه‬
‫بتلك المفاهيم الوضعية وبين النصوص الحالية التي نقلها الحفاظ والرواة‪ .‬لكن في الوقت‬
‫الذي أراد أركون استدراك أرائه ومغازلة نقاده باحتواء تلك المواقف زاد من مسافة التباعد بينه‬
‫وبينهم بتفسير نهجه في دراسة وتفسير القرآن والسنة باستعمال أدوات العلم الحديث تماما‬
‫كما تدرس وتفسر قوانين الطبيعة كالفيزياء والبيولوجية والعلوم اإلنسانية باستعمال العقل في‬
‫منهج البحث في القرآن وتعريته من قداسته‪ .‬بتجاوز األساطير حسب زعمه بدراسة أدبية‬
‫للنص القرآني ألن له تركيبته الثقافية التي تشكلت فيه فهو يعبر عن واقع مادي‪ .‬ورأى بأنه‬
‫ينبغي اعتبار القرآن كحدث واقعي مثل الفيزياء وليس ككالم منزل من السماء‪ .‬يرى أركون‬
‫هذه الطريقة وحدها هي التي ستسمح بفهم اآليات القرآنية‪ .‬وهي التي سترفع االلتباس في‬
‫األحكام والشرح جراء التأثر باالختالف في المذاهب واألفكار خاصة عند تناول الموروث‬
‫الديني والتسليم بكل ما جاء به دون دراسة عقلية‪ "،‬فبعض المخطوطات قد أتلفت كمصحف‬

‫‪179‬‬
‫ابن مسعود مثال وذلك الن عملية الجمع تمت في ظروف حامية من الصراع السياسي على‬
‫السلطة والمشروعية"‪.1‬‬
‫يطرح أركون مجددا مصطلح القطيعة مع التفكير الالهوتي الذي سيطر لفترة كبيرة‬
‫على العقل البشري خاصة بعد تزاوجه بالسلطة حيث أصبحت تصدر أحكام بالتجريم‬
‫والتحليل والتحريم بمباركة من رجال الدين الذين دفعهم الوالء للحكام ببيع ذممهم بل وأبعد‬
‫من ذلك فمثال ذهبت الكنيسة الكاثوليكية ببيع صكوك الغفران مقابل مبالغ مادية وتختلف‬
‫تلك المبالغ حسب الذنوب وكأن الكنيسة تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء وطبعا استندت‬
‫الكنيسة في هذا على عدة نصوص إلهية ‪.‬هذا ما أسقطه كليا وبصورة واضحة أركون على‬
‫الواقع العربي اإلسالمي في تحليله لمقوماته الفكرية واالجتماعية المستمدة جذورها من القرآن‬
‫حيث حكم عليه بالمنغلق وعلى أنه فاقد لروحيته‪ .‬والرتباط القرآن بالتاريخ فهو خاضع له‬
‫خاصة أنه يعبر عن أحداث االنسان ال أحداث اآللهة‪" ،‬ال نستطيع أن نستوعب القطيعات‬
‫التي تحصل في مجرى التاريخ أو التصفيات التي يقوم بها من حين لحين عندما يحتفظ‬
‫بأحداث معينة ويحذف م ا عداها وكذلك األمر فيما يخص ظاهرة النسيان فالتاريخ ال يسجل‬
‫كل شيء وإنما ينسى أو يتناسى بعض األشياء‪...‬الخ كمعطيات ناتجة عن الصيرورات‬
‫االجتماعية والتاريخية ما دمنا سجناء هذا التصور الخطي المستقيم عن حركة التاريخ ولكننا‬
‫نعلم انه لكي نفهم التاريخ كليته فانه ينبغي أن يهتم باألشياء السلبية كما باألشياء االيجابية‬
‫‪،‬باألشياء المحذوفة كما باألشياء المثبتة‪ ،‬وبالتالي ينبغي أن ندرس القطيعة أو التصفية‬
‫والحذف والنسيان بصفتها ظواهر معينة تحصل في التاريخ "‪.2‬‬
‫إال أن القطيعة التي يريدها أركون ليست القطيعة الكلية مع كل النصوص الدينية بل‬
‫مع بعضها فقط تلك التي تنفي جميع التصورات األخرى وترى في كل اختالف جرم ينبغي‬
‫أن يدان يعني القطيعة مع كل األحكام األحادية وبكل تأكيد المس في موقفه هذا تفكير‬
‫الجابري الذي يعترف بالتراث كجزء ال يمكن االستغناء عليه‪ .‬وبهذه القطيعة يمكن للفكر أن‬
‫يؤسس ويمهد لنا الطريق نحو الحداثة‪ "،‬لكن مفهوم أركون للتحديث يتضمن مسلمة ضمنية‬
‫مفادها أن بين الحاضر والماضي صلة حتمية ال فكاك منها وال اختيار لنا فيها وكل محاولة‬

‫‪ 1‬محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني –مرجع سابق ص ‪.188‬‬


‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني –مرجع سابق – ص ‪2.188‬‬

‫‪180‬‬
‫للقطع مع التراث قطعا نهائيا هي محاولة تتنكب الشروط التاريخية الضرورية للتقدم‬
‫والتحديث باعتبار التراث مستم ار فينا بشكل من األشكال"‪.1‬‬
‫يجادل أركون ضد أساليب القراءة التقليدية للنصوص الدينية التي تعتمد على تقديس‬
‫صاحب النص والتسليم بكل ما جاء ويرى أركون أنه قد تعمل الخبرات وتحيزات الناقل‬
‫بمثابة شروحات نهائية للنص‪ .‬ولمحاولة الوصول لتفس ير أكثر وثوقا للنص ينبغي ممارسة‬
‫التفكيك للنصوص المقدسة وقراءتها بعيدا عن مصدرها وبهذا يرجع المفهوم الصحيح للتعاليم‬
‫والمراد منها يتحقق كون ما وصل إليه العقل اإلسالمي ذاتي ال يخدم الهدف االسمي بل‬
‫يوظفه لغايات محسوسة بعيدة كل البعد عن سمو طرحها الرباني‪ .‬لذا علينا أن نبني نهضة‬
‫على ركائز علمية حديثة تنسجم مع ما وصل إليه العلم الحديث حتى ال تكون في مواجهته‬
‫ثانية مع أسس تتقبل اآلخر وتذهب بالبحث الجديد ألبعد الحدود في دراسة التاريخ اإلسالمي‬
‫دراسة ستجد نفسها استم ار ار لما حملته منذ نقطة البداية‪" ،‬صورة تاريخية عن مرحلة اإلسالم‬
‫األولي وتشكل المصحف ودولة المدنية والخالفة‪(...‬كما فعل المؤرخون الغربيون بالنسبة‬
‫للمسيحية األولى وشخصية يسوع والتشكل التاريخي لألناجيل) كما ينبغي دراسة سيرة النبي‬
‫وشخصية الصحابة األساسيين على ضوء علم التاريخ الحديث وذلك لفرز العناصر التاريخية‬
‫فيها‪/‬عن العناصر التبجيلية التضخمية‪ ،‬هذه الصورة التاريخية إذا ما تمت سوف تدخل في‬
‫صراع مع الصورة التسليمية أو التقديسية التي كرستها القرون وهذا الصراع الخالق بين كلتا‬
‫الرؤيتين للتاريخ ‪،‬أي الرؤية الواقعية التاريخية والرؤيا التاريخية الموروثة هو الذي سيولد‬
‫البد يل الجديد‪ ..‬فالبديل ليس جاهزا‪ ،‬البديل يتولد من خالل العمل من خالل الصراع‪ ،‬من‬
‫خالل التفاعل مع ما هو موجود"‪.2‬‬
‫لقد ساد الثقافة األوربية في فترة الحداثة وما بعدها هذا التحرر من التبعية الروحية‬
‫للتاريخ المترفع عن واقع الفكر اإلنساني كما عرفت تلك الفترة التخلص نهائيا من الشعور‬
‫بالعبء الخرافي وشهدت تمرد عنيف على كل من يمثل المحاكم الربانية وأسندت كل‬
‫المعطيات التاريخية للعمل العلمي الموضوعي وأصبح دخول الحداثة مشروط بإحداث‬

‫‪1‬امباركحاميدي‪-‬التراث و اشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية‪-‬بيروت ط‪2017 – 1‬‬
‫– ص ‪232-231‬‬
‫محمد أركون – قصايا في نقد العقل الديني‪ -‬ص ‪2.293‬‬

‫‪181‬‬
‫أن ال وجود للمطلق في التاريخ وكل الحقائق‬
‫القطيعة مع القناعات التاريخية التقليدية واعتبار ْ‬
‫نسبية‪ .‬واألسباب والظروف واالمتداد الزماني والمكاني جزء ال يتج أز من هذا الحدث التاريخي‬
‫ويمكن وضعه بكل حرية تحت طائلة الدراسة العقلية دون تسليم مسبق ودون تصديق خالص‬
‫وال حرج أبدا في ذلك ما دام أن الهدف هو البحث عن الحقيقة‪"،‬بأن كل شيء أوكل حقيقة‬
‫تتطور مع التاريخ وهي تهتم أيضا بدراسة األشياء واألحداث وذلك من خالل ارتباطها‬
‫بالظروف التاريخية "‪.1‬‬
‫والحقيقة أن سيرورة التاريخ تُِق ُر بتباين األحداث والمقام واألفكار وتؤكد نسبية‬
‫األحكام فمثال غالبا ما تكون الحقيقة خالف لما بدت عليه للوهلة األولى أو ينبغي تفكيكها‬
‫وتحليلها لكشفها ‪.‬كما أن الحدث التاريخي في الحقيقة ال يستحق تلك المكانة األحادية‬
‫المتعالية التي وضعه فيها العقل المستسلم للمسلمات الخاضع للقوالب الجاهزة فمبادئ‬
‫الحداثة ترتكز على"أن كل الوحدات االجتماعية البشرية (أوكل المجتمعات) أيا يكون حجمها‬
‫تبدو خاضعة آلليات التحول والتغير والتطور‪ ،‬ويكون هذا التطور إما باتجاه الدمج والتعقيد‬
‫والمزيد من القوة والميل إلى الهيمنة وإما باتجاه التفكك والضعف المتزايد الذي يحصل إلى‬
‫مرحلة التالشي الكامل وكل ما يحصل في الوحدات االجتماعية هو نتيجة اللعبة المستمرة‬
‫للقوى الخارجية والداخلية فهذه القوى هي التي تؤثر في المجتمع وهي التي تحسم مسألة‬
‫اإلرادات والمبادرات والتصورات الخاصة بالوكالء االجتماعيين الذين يدعون أيضا بالفاعلين‬
‫أو الممثلين االجتماعيين"‪.2‬‬
‫بالتسليم بدور التأثر والتأثير في مركبات المجتمع المختلفة يتضح جليا أهمية دارسة‬
‫المخيال االجتماعي "‪ "Imaginaire‬الذي استطاع في كل فترة أن يحول المحسوس إلى‬
‫معقول مشكال بذلك وفي مختلف العصور نقطة انطالق األحداث التاريخية "لكون العقل ال‬
‫يمارس فعله أبدا بشكل مستقل على عكس ما أوهمنا بذلك تاريخ طويل من الفلسفة والالهوت‬
‫في الغرب األوربي كما في اإلسالم‪ .‬العقل يمارس فعله ودوره دائما على عالقة مع الخيال‬
‫والمتخيل" ‪ "Imaginaire‬وقد الحظنا منذ فترة قريبة فقط أن المؤرخين المحدثين (كجورج‬

‫‪1.293‬‬‫محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني –ص‬


‫‪2.132‬‬ ‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني – مرجع سابق ص‬
‫‪182‬‬
‫دوبي مثال) وعلماء االجتماع بدؤا يدرسون ما يدعونه بالمتخيل االجتماعي ‪Imaginaire‬‬
‫)‪ )social‬وهو يشكل احد األبعاد الحاسمة لكل وجود اجتماعي" ‪.1‬‬
‫لقد أدى التفاعل مع المتخيل في كل الفترات إلى تأسيس أبعاد جديدة لكن باتصال‬
‫مباشر مع مشروع إما غيبي أو معلوم وتحيز مفضوح النتماء أو والء لسلطان‪ .‬وبهذا‬
‫يتبين أن المخيال االجتماعي هو إفراز تاريخي متواصل بنى مجتمعات وثقافات ‪".‬ينبغي أن‬
‫نعلم أن الدوائر الخاصة بما هو خارق للطبيعة وبالتعالي الهي أو الميتافيزيقي وباآللهة‬
‫الناشطة والمهيمنة وباإلله الواحد الحي ولكن البعيد‪ ،‬بالعقائد السحرية أو األسطورية أو‬
‫الشعرية أو الخرافية أو الدينية‪ ،‬هذه العقائد المرتبطة جميعا بالمتخيل‪...‬أقول ذلك كله أيضا‬
‫من صنع الفاعلين االجتماعيين‪ ،‬أي البشر فلو لم يخلق البشر هذه التصورات أولو يؤمنوا‬
‫بها لما وجدت وبالتالي فينبغي أن تخضع للتحليل العلمي والنقدي‪....‬ألننا نريد تقدير مدى‬
‫صحتها وحجم أثارها على اإلنتاج التاريخي العام للمجتمعات البشرية"‪.2‬‬
‫يثير أركون لتدعيم موقفه عن التاريخية نقطة حساسة جدا وهي محدودية العقل‬
‫التقليدي وانغالقه على نفسه ويعلل ذلك بتأثره بالظروف التي كانت تحفه كالصراع الذي كان‬
‫قائما بين المذاهب والمدارس واألديان األمر الذي ترتب عنه تعدد المقدسات واختالفها‬
‫واتساع (رقعة الممنوع التفكير فيه)‪ .‬فاالجتهاد مثال تم في الواقع حول مسائل أصول الفقه‬
‫ولم يكن مجرد في منأى عن الدولة وقيود المجتمع لهذا يجب تسليط الضوء على الخلل‬
‫األيديولوجي في االتصال بين العقل والقرآن وبالتالي يصحح تناول القراءات ويعاد صياغة‬
‫النص في شكل جديد‪" .‬ينبغي أوال إعادة كتابة قصة تشكل هذا النص بشكل جديد كليا‪ ،‬أي‬
‫نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث المنقول هذا نقدا جذريا هذا يتطلب منا‬
‫الرجوع إلى كل الوثائق التاريخية التي أتيح لها أن تصلنا سواء كانت ذات أصل شعبي أم‬
‫خارجي‪ ،‬أم سني‪ ،‬هكذا نتجنب كل حذف ثيولوجي لطرف ضد آخر ‪ ،‬المهم عندئذ هو التأكد‬
‫من صحة الوثائق المستخدمة بعدها نواجه ليس فقط مسالة إعادة قراءة هذه الوثائق وإنما‬
‫أيضا محاولة البحث عن وثائق أخرى مكانة الوجود‪ ...‬هكذا نجد أنفسنا أمام عمل ضخم من‬

‫‪ 1‬محمد أركون – علمنة و الدين‪ :‬السالم المسيحية و الغرب –سلسلة بحوث اجتماعية‪ -‬دار الساقي‪-‬ت‪ :‬هاشم صالح‪-‬ط‪-1‬‬
‫‪ -1990‬ص‪26‬‬
‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني‪ -‬مرجع سابق ‪2.133-132‬‬

‫‪183‬‬
‫البحث وتحقيق النصوص الذي يتبعه فيما بعد‪ -‬وكما حدث لإلنجيل والتوراة‪ -‬إعادة قراءة‬
‫سيميائية ألسنية للنص القرآني"‪ ،1‬ومعنى هذا أن أركون يشكك في مدى صحة الوثائق‬
‫المنقولة إلينا حول كيفية تشكل المصحف( القران الكريم)‪ ،‬ألنه يعتبر أن المصحف المتداول‬
‫لنا اليوم مصحف من نتاج التاريخ وليس هذا فحسب بل التشكيك حتى في رواية‬
‫الصحابة(رض) فيما يخص تشكيل المصحف فهو يرى "إن سيادة التراث الكتابي المقدس‬
‫وهيبته مشروطة بمدى قيمة كل شهادة من الشهادات التي وصلتنا ألن جيل الصحابة وحده‬
‫الذي رأى وسمع وشهد الظروف األولى والكلمات األولى التي نقلت فيما بعد كل ناقل على‬
‫هيئة القران والحديث والسيرة وانه لمن الصعب تاريخيا أن لم يكن من المستحيل التأكيد بان‬
‫كل ناقل قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله على الرغم من هذه الحقيقة فالنظرية‬
‫التيولوجية المزعومة قد فرضت بالقوة أن كل الصحابة معصومون في شهاداتهم وروآياتهم"‪2‬‬
‫ولقد انتقلت صيرورة المناهج النقدية للدراسة التاريخية عند أركون للعقل العربي اإلسالمي‬
‫المَنزل‬
‫إلى أبعد من هذا الحد في مالمستها لقداسة النص القرآني والسني بعد تمييز النص ُ‬
‫الم ْنقول ألن استالم وتسليم النصوص اعتمد في نظره على طريقة الحفظ واإللقاء الشفوي‬
‫عن َ‬
‫ما يعني أن أركون وضع الصحابة الذين ُكلِفوا بجمع القرآن والحديث محل ريب وبالتالي‬
‫فرواياتهم معظمها يعتريها االلتباس بإضافتهم آليات وإهمالهم ألخرى في القرآن‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫للحديث فيستدل من درجة صحة الحديث ألن االختالف عليها كان منذ البداية‪ .‬هذا من جهة‬
‫ومن جهة أخرى أثار أركون حالة العقل العربي في ضعف اإلنتاج الفكري وتسليمهم‬
‫بالموروث القرآني والسني دون تأمل ودون استدالل لكشف الحقائق ونزع اللبس عنه‪ .‬يفسر‬
‫أركون ذلك قائال‪" :‬في الواقع إن األحاديث النبوية واالمامية هي في األصل إنتاج جماعي‬
‫فردي وهي تعكس بعض المجريات البطيئة من لغوية وثقافية ونفسية –سوسيولوجية وهذه‬
‫المجريات جميعها أدت إلى تشكيل الروح اإلسالمية العامة أو العقلية اإلسالمية بالمعنى‬
‫األنتربولوجي"‪. 3‬‬

‫محمد أركون – تاريخية الفكر العربي اإلسالمي – مرجع سابق – ص ‪2911-290‬‬


‫محمد أركون –الفكر اإلسالمي قراءة علمية –مرجع سابق –ص‪2 .174‬‬
‫محمد أركون‪ -‬الفكر االصولي و استحالة التاصيل‪-‬مرجع سابق ص ‪3 .201‬‬

‫‪184‬‬
‫لقد استمر أركون في السير في اتجاهه النقدي التاريخي الجريء باقتراح تدوين جديد‬
‫للحديث وعمال جديدا عليه لتقييم صحته وإثباته وأنكر عمل الرواة والمهتمين بتدوين األحكام‬
‫والسيرة وربط الخطاب الديني بالتفكير األيديولوجي والتبعية السياسية لتحقيق غآيات خاصة‪.‬‬
‫يرى أركون أن هذا الفكر حمل في طياته الوالء للسلطة من خالل تمييع األحكام وتحويلها‬
‫عن مجراها الحقيقي وسعى في الحفاظ على مكانته التي حققها بفرض هذا الواقع العقيم على‬
‫العقل العربي اإلسالمي وتعاطى معه بكثير من الخطاب األسطوري بدل تناول السيرة‬
‫بمقاييس علمية موضوعية ودراستها دراسة شاملة لمختلف جوانبها التي أحاطت بها‪ .‬كما أن‬
‫أركون لم يكتفي بما طرحه عن السيرة والتراث الديني وتفسير األحداث التاريخية بل ذهب‬
‫للنص القرآني المق دس على خطى الفالسفة والباحثين الغربيين وبكل ثقة عمياء أراد أن يفعل‬
‫بالنص القرآني تماما مثلما فعلوا هم بكنيستهم وبذلك يتأكد وبكل وضوح موقفه الغريب‬
‫بتقديمه النص القرآني مثل النصوص األدبية بهدف تعريته من قدسيته التي حملها منذ نزوله‬
‫ما يعرف بأرخنة النص إال أن هذا الطرح ال يقبله الجابري فهو يقر بالتاريخية لكن ال‬
‫يسقطها على القرآن فيقول‪ ":‬ال يستقيم مثال بأنه من الممكن افتراض أن تكون هناك خالفات‬
‫جوهرية بين النص كما جمع ورسم زمن عثمان وبين القرآن كما تلقاه الناس زمن النبي‪،‬‬
‫ذلك أن المسلمين والصحابة أنفسهم اختلفوا وتنازعوا وقامت بينهم حروب‪ ...‬ومع ذلك لم‬
‫يهتم أيا منهم كطرف ما بالمس بالقران كنص وكان هناك من خصوم كمعاوية (الذي كان‬
‫من كتاب الوحي) قاتلوه يوم صفين وهم يخاطبونه وقومه األمويين قائلين‪ :‬قاتلناكم على‬
‫تنزيله واليوم نقاتلكم على تأويله‪ ،....‬وإذا فالخالف والن ازع زمن عثمان ومعاوية كان حول‬
‫"التأويل" ولم يكن يمس في شيء التنزيل (النص)‪ ،...‬وإذا فليس هناك مجال لممارسة النقد‬
‫التاريخي حول صحة النص القرآني"‪.1‬‬
‫كان الجابري صريحا مع نفسه ومع غيره خاصة ‪.‬كما كان موقفه موافقا بشكل كبير مع‬
‫بيئته حيث سلم بإمكانية دراسة العناصر الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين‬
‫ونادى بدراسة العقل السياسي واألخالقي للواقع العربي اإلسالمي لكن امتنع ‪-‬عكس أركون‪-‬‬

‫‪ 1‬محمد عابد الجابري – في قضايا الفكر و الدين –مجلة مقدمات ‪http.awraq-com.MAKTOOB Blog.com‬‬
‫‪185‬‬
‫عن الخوض في قدسية النص القرآني ألنه حسب رأيه القرآن محفوظ من عند هللا كما أن‬
‫التواتر اللفظي لم يميزه‪.‬‬
‫‪-3‬القراءة التأويلية األنتربولوجية عند أركون‪:‬‬
‫اهتم أركون من خالل منهجه العقلي بفرض أدوات العلم الحديث كما أكد استقراء‬
‫التاريخ بواسطة كل العلوم الحديثة دون استثناء بما في ذلك علم االنسان (‪)Anthorpology‬‬
‫لدراسة القرآن والسنة بداية بفهم تصرفات العقل العربي اإلسالمي المعاصر وتفسير بنائه‬
‫لفكره وأدائه في كل مرحلة من مراحل التاريخ وتأثير اللغة على الحياة االجتماعية للفكر‬
‫العربي اإلسالمي‪ .‬والتحقيق باألدلة المادية في إثبات أو رفض الموروث الديني‪ .‬ويعرف‬
‫أركون االنثروبولوجيا‪ :‬هي"مذهب في معرفة االنسان مؤلف بشكل تنظيمي واألنتربولوجيا‬
‫يمكن النظر إليها من الناحية الفيزيولوجية ومن الناحية العلمية )‪ (pragmatique‬فمعرفة‬
‫االنسان الفيسيولوجية تتناول البحث فيما صنعته الطبيعة باإلنسان ومن الناحية العلمية‬
‫(البراجماتية) تتناول البحث فيما صنعه االنسان بنفسه في نفسه كائئا ح ار أو ما يقدر أن‬
‫يفعل أو ما ينبغي ان يفعله في نفسه‪ ...‬واألنتربولوجيا عند " كنت" علم يتناول مزيجا من‬
‫علم النفس وعلم الطباع ) ‪ )caractérologie‬وعلم الجناس والشعوب "‪. 1‬‬
‫من أجل تبرير ما قدمه أركون يرى أن العقل البشري ال يمكن بأي حال تحديده بالمطلق‬
‫في النص القرآني الذي حسب زعمه يمنع الخوض في مسائل عديدة ومهمة ونهي بشكل‬
‫وقاس أركون مساحة (الال مفكر فيه)في الفكر العربي‬ ‫مباشر عن مجرد التفكير فيها‬
‫اإلسالمي واستنتج أنها شاسعة تستدعي استعمال كل األدوات والوسائل العلمية الحديثة‬
‫لتفكيك تاريخ الفكر العربي اإلسالمي وبما أن األنتربولوجيا علم مرتبط بمختلف العلوم‬
‫اعتبرها هي المنقذ الوحيد لتسليط الضوء على ما أهمله النص الديني حسب رأيه‪.‬‬
‫فاألنتربولوجيا "تبين لنا كيف تقوم التراثيات الخطية ببتر نفسها عن طريق ضغوط االنتقاء‬
‫والحذف التي تمليها األرثودوكسيات الدينية أو الفلسفية أو األدبية"‪2‬‬

‫‪ 1‬عبد الرحمن بدوي‪-‬موسوعة الفلسفة –ج‪ -1‬المؤسسة العربية للدراسة و النشر‪-‬بيروت ط‪ -1984-1‬ص ‪.231‬‬
‫محمد أركون‪ /‬معارك من اجل األنسنة في السياقات اإلسالمية –ت‪ :‬هاشم صالح‪-‬دار الساقي بيروت ط‪-2001-1‬ص‬
‫‪2 .314‬‬

‫‪186‬‬
‫بما أن علم دراسة االنسان (‪) Anthorpology‬علم قائم على تطبيق كل الميادين‬
‫العلمية على اختالفها في دراسة الظواهر اإلنسانية بما في ذلك التاريخية فإنه يثبت بشكل‬
‫موضوعي وواقعي كل ما هو مقبول من طرف العقل رغم التباين في المبدأ معه ويجعل‬
‫الباحث في التاريخ الديني خاصة له دراية كاملة بقوانين التأريخ ويمكنه من رسم صورة‬
‫تاريخية عن الثقافات القديمة‪ ،‬ومعرفة عالقات التماس والتضاد مع الدين أو نقاط االلتقاء‬
‫واالختالف مع األديان‪ ،‬وخاصة ما يتعلق بالدين اإلسالمي ويتيح له رؤية أبعد بكل حرية‬
‫ويزيح من العقل اإلسالمي مفهوم المطلق ويشكك في كل المعطيات التاريخية بهدف تنقيته‬
‫من الشوائب واستخالص الحقيقة كما هي‪ .‬وبالتالي تكسر تلك األغالل المقيدة للعقل‬
‫اإلسالمي وترفع الحواجز عنه لتمكنه من الخروج من دائرة (الدوغمائية)‪".‬فهي ال تتم فقط‬
‫بالوقائع واألسماء واألحداث التي تحصل في وضح النهار وإنما تهتم أيضا بالجوانب‬
‫الغامضة والمخفية من التاريخ المقارن لألديان والثقافات والحضارات‪ ،‬إنها تهتم بالوظائف‬
‫الرمزية وعمليات اإلبداع المجازي واألسطرة والمخاتلة واألدلجة والتقديس والتعالي‪....‬وكل‬
‫اآلليات المرتبطة بالخيال والمتخيل أكثر مما هي مرتبطة بالعقل أو بالفاعلية العقالنية"‪1‬‬
‫بالفعل ومن دون أدنى شك احتاج العالم لعلم يشمل دراسة االنسان بشكل كامل تتقاطع فيه‬
‫كل العلوم ويبحث في الحقيقة ويمارس النقد لتفكيكها‪ ,‬علم يمكنه أن يتخلص من التبعية‬
‫التاريخانية واأليديولوجية والسياسية بنفي جميع األحكام والقوانين الموروثة وإعادة بنائها‬
‫وصياغتها‪.‬‬
‫يؤكد محمد أركون حاجة البحث في العقل العربي اإلسالمي االنثروبولوجيا بسبب‬
‫قصوره ألنه لم يكن باستطاعته فهم قراءاته لقلة وعيه وسلطة التفسير الموروث عليه‪ ,‬لذا‬
‫وجب وضع أطر تحكيمية خالصة يكتسبها الباحث مثل (المثلثات األنتربولوجية)‬
‫‪ ،Anthropological triangle‬كمثلث (العنف والتحريم والحقيقة) أو(الوحي والتاريخ‬
‫والحقيقة) أو( اللغة والتاريخ والفكر)‪. 2‬‬
‫يبرر أركون اعتماده على هذا األسلوب بقلقه وخوفه على ومن الواقع العقل العربي‬
‫اإلسالمي بسب طغيان األنظمة المعرفية المبنية على األيمان والنظرة األحادية‪ .‬إن هذه‬

‫محمد أركون‪ -‬قضايا في نقد العقل الديني‪ -‬ص ‪2161-215‬‬


‫‪2‬‬ ‫محمد أركون ‪ -‬القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني – مرجع سابق ص ‪7‬‬
‫‪187‬‬
‫القراءة الفكرية التي يدعو إليها أركون بإمكانها كشف مكمن الخلل وتسّليط الضوء على النهج‬
‫الذي يمكنه أن يرسم خط َة ٍ‬
‫إنقاذ لما تبّقى من أجل االستطاعة على النهوض ومسايرة‬
‫العصر لدى الشعوب العربية اإلسالمية القابعة تحت وطأة األحكام التكفيرية‪ ،‬والدعوات‬
‫الجهادية‪ ،‬ومشاريع الدمار الشامل معرفياً واقتصادياً واجتماعياً‪ .‬والبحث عما يربط بين‬
‫المقدسة المتعالية؟ وكيف يمكن تفسير القتل باسم‬
‫ّ‬ ‫العنف الممارس على األرض والحقيقة‬
‫الدين؟‬
‫واجه أركون كل هذه المشاهد بخوف كبير بسبب توجهه لتأويل القرآن بواسطة القراءة‬
‫األنتربولوجية للنص القرآني ألنه يعتبر اإلسالم كدين هو نتاج العناصر المحسوسة التاريخية‬
‫واالجتماعية والثقافية التي أسسته عقيديا وفكريا وبالتالي فهو يشبه أي دين أو مذهب آخر‪.‬‬
‫والمسلمون اعتبروا اإلسالم أنه جوهر عظيم يؤثر في كل شيء وبإمكانه أن يحقق كل شيء‪،‬‬
‫يضخم اإلسالم من جهة‪ ،‬وبين التصور‬
‫ّ‬ ‫ما يجعل التباين واضح بين التصور الوهمي الذي‬
‫أن اإلسالم يخضع‬‫التاريخي الذي يضع في األولويات الواقع المحسوس‪ .‬فالباحث يرى ّ‬
‫التطرف تكاثرت من‬
‫ّ‬ ‫المتجسدة في"القوى الشعبوية"‪ .‬التي وقعت في‬
‫ّ‬ ‫للتاريخ وللقوى المحسوسة‬
‫يؤدي بالطبع إلى تراجع العقل ولم‬
‫مما ّ‬
‫خالل التجييش بواسطة النعرات العصبية والعواطف‪ّ ،‬‬
‫يقتصر هذا على اإلسالم بل شمل كل األديان كاليهودية والمسيحية‪ .‬والتاريخ يؤكد هذا من‬
‫خالل حمالت الكنيسة ضد الحركات الثورية وعلى ما حدث مع المعتزلة‪.‬‬

‫ولفهم هذا الطرح األنتربولوجي يجب شرح كل عنصر من عناصر المثلث‬


‫األنتربولوجي(الحقيقة ‪.‬العنف‪ .‬المقدس) على حدا ونبدأ بالحقيقة التي يعتبرها أركون أنه ال‬
‫يمكن اعتبارها جوه ار أو أم ار معطى بشكل نهائي فهي مجموع التصورات المختزنة من طرف‬
‫الموروث الحي للجماعة وهي أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي قد يتالشى ليحل محله‬
‫تركيب أخر‪ .‬ألن الحقيقة قائمة على مبدأ التوحيد وعلى كل الحقائق التي أتت من عند‬
‫الرسول محمد (ص)‪ ،‬فأركون يلغيها ألنها تلغي التاريخية وتفرض المطلق وتتجاوز المعرفة‬
‫اإلنسانية وكل الحقائق العلمية‪ .‬ألن الحقائق النصية الدينية مقدسة وحقائق متعالية مطلقة‬
‫ال نقاش فيها وال جدال فيها وهذا غير عملي وينافي البحث الصحيح الذي يتطلب الشك‬
‫والتساؤل‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫ثانيا المقدس ومن أجل الكشف عن مصادر الشرعية‪ ،‬هذا الموضوع الذي ما يزال‬
‫يصر أركون على ّ‬
‫أن مشكلة الشرعية في كل المجاالت‬ ‫صنف ضمن دائرة (الالمفكر فيه‪ّ ).‬‬
‫ُي ّ‬
‫التفحص النقدي لتوظيف الشرعية وخاصة في‬
‫ّ‬ ‫قد تُ ِركت تماما منذ العصور الوسطى‪ .‬و ّ‬
‫إن‬
‫الميدان السياسي يجب أن يتم دون قداسة أو رهبة بتعرية النص القرآني منها وتناوله مثل‬
‫باقي النصوص العلمية أو التاريخية أو األدبية‪ .‬ومن وجهة نظر أركون األنتربولوجية‬
‫بإمكانها نزع المنحى الرمزي والقصصي عن النص الديني‪.‬‬
‫فظاهرة التقديس "‪ " la sacré‬شيء موجود في كل المجتمعات البشرية أنها ظاهرة‬
‫انثروبولوجية فقط تختلف درجة حدتها وإشكال تجلياتها من مجتمع ألخر بحسب مستوى‬
‫تطوره االجتماعي والثقافي"‪.1‬‬
‫وهي ظاهرة اجتماعية مختلفة من مجتمع آلخر بل يمكن أن تتباين داخل المجتمع الواحد‬
‫هناك إذا درجات من الشعور بالمقدس بعضها يعبر عن نفسه بالفن واألدب والموسيقى‬
‫والغناء والرسم وغيرها وبعضها يعبر عنه في التدين أوفي كليهما‪ ،‬المهم إن الشعور الذي‬
‫نصفه بتجربة المقدس شعور قائم خارج إطار الدين أيضا‪2‬‬
‫ثالثا العنف فيرى أركون ّ‬
‫أن ما نراه اليوم هو عنف مزدوج فهناك العنف الذي تمارسه السلطة‬
‫ألن هذا‬
‫التي نشأت بعد حقبة االستقالل‪ .‬وهناك ثانياً العنف الذي يمارسه النظام العالمي ّ‬
‫النظام يعيق التطور الذاتي‪ .‬وهناك عنف مكتوب في أعماق المجتمعات العربية واإلسالمية‬
‫المعاصرة وهو النص القرآني وهذا الذي يركز عليه أركون من خالل آيات التحريض على‬
‫‪3‬‬
‫الجهاد ‪ -‬في نظره ‪ -‬مثلما جاء في سورة التحريم "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين"‬
‫"قاتلوا المشركين"‪" ،4‬أال تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم"‪- 5‬‬
‫غير أن التحريض عن العنف في القرآن مشروع ألن السياقات التي حرضت عليه جاءت‬
‫لرد االعتداء والدفاع عن الدين أو الدفاع عن العرض أو الوطن‪" -‬وإن قاتلوكم فاقتلوهم"‪.6‬‬

‫‪1.11‬‬‫محمد أركون‪ ،‬لفكر اإلسالمي قراءة علمية ص‬


‫‪2‬‬ ‫عزمي بشارة –الدين و العلمانية في سياق تاريخي‪-‬ج‪ -1‬المركز العربي لألبحاث‪.‬‬
‫سورة التحريم‪3.‬‬
‫سورة االنفال‪4.‬‬
‫سورة التوبة ‪5‬‬
‫‪ -‬سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪6191‬‬

‫‪189‬‬
‫وألن الحقيقة التي يمتلكها (المخيال االجتماعي) دائما ما تتعرض للعنف سواء من طرف‬
‫الكفار إذا كانت الجماعة دينية أومن طرف أعداء الوطن إذا كانت الجماعة سياسية وال ينفي‬
‫أركون أن كل ال تعاليم الدينية في مختلف األديان إدانتها للعنف ورفضها له لكنها في المقابل‬
‫تباركه وتدعو إليه‪ .‬فالعنف متجذر فيها ‪.‬‬
‫في األخير يمكن وبكل وضوح تفسير موقف أركون من النص القرآني والحديث‬
‫والتاريخ اإلسالمي بالدراسة األنتربولوجية من أجل قراءة أشمل ومن أجل أيضا تصحيح‬
‫جميع الـتأويالت التي رافقت الحدث التاريخي منذ البداية وفتح أفق أوسع لهذه العملية وبكل‬
‫جرأة ودون أي حواجز أو خوف‪ .‬تماما كالدراسة التي تمت في العلوم اإلنسانية والعلوم‬
‫االجتماعية ‪.‬وعلى خطى الباحثين األوروبيين أراد أركون تطبيق أعمالهم على اإلنجيل‬
‫وكتبهم المقدسة وإسقاطها على النصوص الدينية اإلسالمية بتوظيف األدوات العلمية الحديثة‬
‫عليها‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫تمفصالت مفهومي العلمانية‬


‫والحداثة في فكر محمد أركون‬

‫‪191‬‬
‫مدخل‪:‬‬
‫اعتمدت دراسة محمد أركون للفكر اإلسالمي على منهج نقدي تحليلي فكك بواسطته‬
‫كل جوانبه إذ يؤكد أن حالة الدهشة الحضارية واالنسداد المستمر بين العمق والحاضر أدت‬
‫إلى ضياع وافتقاد المنهجية في الوعي والتطلع المتحرر وفي هذا الباب نتناول جرأة محمد‬
‫أركون عندما قدم البديل العلماني كأداة فعالة حسبه لتحقيق الحداثة التي جاءت بها بواخر‬
‫البعثات العلمية إليه والمستشرقين وتركته مندهشا ومتطلعا أللوان الحداثة ووسائلها وسنتطرق‬
‫بالتفصيل في هذا الفصل لهذه الحالة وما قدمه محمد أركون كأدوات حديثة للخروج منها‬
‫ولتجاوز آثارها تمثلت في اإلسالميات التطبيقية وهي منهج يرى أركون أنه سيخفف الضغط‬
‫واالكراه الديني وسيقف في وجه القداسة ويعريها وسيعيد النظر في الحقائق المطلقة وسيعيد‬
‫تصور األحداث كما سنتناول في هذا الفصل أهم األدوات المعرفية الحديثة التي يريد مفكرنا‬
‫محمد أركون إتباعها إلعادة بناء التراث الذي ال يجد حرجا أركون في حكمه عليه عندما أقر‬
‫باحتوائه للفكر العلماني منذ البداية من خالل سرد شواهد على ذلك سنذكرها بالتفصيل هي‬
‫أيضا وسنقف عند التراث خصوصا بعدما أكد مفكرنا على أن البداية ينبغي أن تكون من‬
‫الرجوع لنقطة التجلي التي عرفها العقل اإلسالمي والتي يحددها برسالة الشافعي التي تناولت‬
‫التأصيل للفقه اإلسالمي وحملت السنة النبوية واجماع األئمة إذ يؤكد محمد أركون هنا أنه‬
‫البد أن تتم دراسة حديثة بوسائل علم حديثة لهذه البداية ونستمر بواسطتها وبواسطة تلك‬
‫األدوات الحفر عميقا في التراث حتى نستطيع تصحيح مسار العقل اإلسالمي ووضعه على‬
‫السكة الصحيحة ليتمكن من اللحاق بركب الحضارة ويحقق الحداثة التي يصبوا لها‪ .‬وفي‬
‫هذا الصدد نركز في هذا الفصل على تلك األدوات المعرفية ونذكرها بالتحديد والشرح حتى‬
‫يتمكن المتلقي من وضع صورة شاملة لهذا الموضوع وننهي هذا الفصل في األخير بدراسة‬
‫أهم فكرة تعتبر الرئيسية في فكر محمد أركون وهي حقوق االنسان ونبذ العنف واالرهاب‬
‫الحاصل في العالم ألن هذا يعتبر مبدأ رئيسيا للعلمانية وهي تسعى في الواقع لتحقيقه وال‬
‫يمكنها أبدا االستمرار دونه وقدمنا أهم مظاهرها وتناولت نقدا موضوعيا شمل مظاهر‬
‫العلمانية في الواقع اإلسالمي العربي وهذا ما تعمقنا فيه في هذا الفصل‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫المبحث األول‬

‫األبعاد النظرية واإلجرائية‬


‫للعلمانية في تصورات أركون‬

‫‪193‬‬
‫‪ -1‬مفهوم العلمانية لدى أركون‬

‫يعتبرمحمد أركون أحد أهم المنظرين للفكر العلماني الغربي وأحد أبرز المفكرين‬
‫المسلمين والعرب الذين حملوا على عاتقهم عبء التبشير له في الدول اإلسالمية العربية إذ‬
‫يؤكد أركون ارتباط سيادة الفكر العلمي وتحقق الحداثة في أوربا مع عصر التنوير الذي قام‬
‫بعد تحرير اإلنسان من سلطة الدين وتقديم العقل في مختلف المجاالت الفكرية والثقافية‬
‫والعلمية والسياسية وبعد إرساء قواعد الفكر العلماني كاالحترام وضمان الحريات والحقوق‬
‫ومتط لبات العيش المشترك واستقاللية السلطة السياسية واستقاللية مختلف الخيارات الروحانية‬
‫والدينية التي ال تخضع لها السياسة وليس للسياسة أيضا سلطة عليها‪ .‬لذلك فمحمد أركون‬
‫يجزم أن العلمانية شرط ضروري لتحقيق الحداثة في الدول اإلسالمية العربية ألنها أداة فعالة‬
‫الجتثاث الفكر الالهوتي األورتدكسي من المجتمعات العربية وعزله عن السلطة من أجل‬
‫بناء مجتمع مدني حر‪ .‬وهي الوسيلة الوحيدة لتحقيق النهضة العربية اإلسالمية كونها اإلطار‬
‫السياسي المناسب الذي يوفر المناخ المساعد لبلورة مفاهيم معرفية وعلمية في هذه البلدان‬
‫العربية اإلسالمية‪.‬والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هو مفهوم هذا اإلطار وما هي شروطه‬
‫التي وضعها محمد أركون لتحقيق الحداثة ؟‬

‫ينطلق محمد أركون في تقديمه مفهوم للعلمانية عند قوله‪ ":‬حسب اإلتيمولوجيا (علم‬
‫أصول الكلمات) فإن كلمة ‪ Laicos‬اليونانية تعني الشعب ككل ماعدا رجال الدين أي بعيدا‬
‫عن تدخلهم في حياته‪،‬في التينية القرن الثالث عشر نجد أن ‪Laicus‬تعني الحياة المدنية أو‬
‫النظامية كما كانوا يقولون في ذلك الحين‪ ، 1".‬فيميز هذا التفسير بين أسلوبين للعيش أسلوب‬
‫يمثل رغبة الشعوب في وضع المنهج الذي تريده بكل حرية في إطار الدولة المدنية النظامية‬
‫أما األسلوب الثاني فيمثل سلطة رجال الدين أو الكهنوت –الكنيسة‪ -‬الذين مارسوا سطوتهم‬
‫بكل قوة في مختلف المجاالت الدينية واالقتصادية والسياسية ولفترة طويلة تمكنوا فيها من‬
‫السيطرة على كل المجتمعات وخاصة العامة الذين انساقوا دون تردد لتعاليم الالهوت فشجع‬
‫هذا رجال الدين على األخذ بزمام األمور في مقاليد الحكم وفي االستحواذ على المعرفة‬
‫وجعلها مفاهيم مطلقة ال يمكن مناقشتها وال يسمح بنقدها أو حتى التفكير في ذلك بعدما‬

‫‪- 1‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخية الفكر اإلسالمي‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪291‬‬


‫‪194‬‬
‫تمكنوا من إخضاع المجتمع لهم حتى أصبح "الشعب متكال على هذه الطبقة الخاصة في‬
‫كل اللحظات األساسية من لحظات وجوده بدءا من الوالدة (عمادة أوختان)وحتى الموت‬
‫مرو ار بالمدرسة والتعليم (إذا كان هناك تعليم)والزواج و الوالدات التي تنتج عنه وهكذا‪...‬كل‬
‫هذه اللحظات األساسية في الحياة تحمل سمات التدخل الهائل لطبقة رجال الدين"‪ . 1‬يفسر‬
‫هذا سطوة رجال الكهنوت الكاملة على المجتمع في مختلف المجاالت الفكرية والسياسية‬
‫والثقافية والمعرفية واالجتماعية وتسليم الفرد داخل هذا اإلطار القصري بكل ما يفرضه‬
‫الالهوت ‪.‬‬

‫لغويا "تعود كلمة علمانية والتي هي ترجمة غير كافية للكلمة الفرنسية ‪ Laicite‬إلى‬
‫أصل الهوتي قبل أن تلبس دالالت جديدة ذلك أن التقليد الكنسي عودنا على التمييز بين ما‬
‫هو رسمي الئكي بين أسقف مرسوم اإلكليروسي وأسقف علماني‪ ،2".‬وهذا يدل على امتداد‬
‫هذا المفهوم عبر تاريخ الفكر الغربي األوربي الذي يصل إلى الفترة التي عرفت تصادم‬
‫المفكرين والعلماء مع رجال الدين والمواجهة بينهما التي ولدت التمييز بين السلطة الروحية‬
‫والسلطة الزمنية وتمثل فيها المشهد الذي صور انتقال السلطة من الكنيسة إلى سيادة العقل‬
‫على يد رجال الفكر والعلماء ‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف محمد أركون من العلمنة‪:‬‬

‫يحث أركون صراحة ودون أي إحراج المجتمعات العربية اإلسالمية على انتهاج‬
‫النهج العل ماني فهو يراهاإحدى المكتسبات البشرية وهي في تصوره" مفيدة جدا عندما نفهمها‬
‫جيدا ونستطيع أن نتمثلها ونهضمها ونسيطر على تعاليمها وما تتيح لنا أن نفعله‪ 3".‬ومن هنا‬
‫نتساءل عن كيفية تصور محمد أركون للعلمانية وما هو موقفه منها وخاصة نتساءل عن‬
‫الطريقة التي قدمها محمد أركون للمجتمعات العربية اإلسالمية حتى يتمكن من وضع مفهوم‬
‫تستسيغه هذه المجتمعات بعيدا عن األحكام القبلية التي سبقت مفهوم العلمانية وبعد ذلك‬
‫كيفية تجسيدها في المجتمعات العربية اإلسالمية بكل استعداد لها؟‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬تاريخية الفكر اَلسالمي‪،‬ص‪.292‬‬


‫‪ -2‬بشير ربوح ‪،‬معز مديوني ‪ ،‬اَلشكاليات التاريخية واْلفاق المعرفية ‪،‬ابن النديم للنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر ‪،‬ط‪،1،2015‬ص‪.29‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬اَلسالم والحداثة‪،‬ص‪.200‬‬
‫‪195‬‬
‫لإلجابة على هذا االستفسار ننطلق أوال من تجاوز محمد أركون للتفسير القاصر للعلمانية‬
‫والذي يختزلها في فصل الدين عن الدولة وهو يرى أن العلمانية مفهوم أوسع من هذا‬
‫الحصر الضيق لماهيتها بالرغم من تأكيده على أهمية هذا المبدأ في النهج العلماني إال أنه‬
‫يرى أن "تفريقا كهذا موجود عمليا في كل المجتمعات حتى عند من ينكر وجوده ويحجب‬
‫بواسطة المفردات الدينية‪ .1".‬ولقد تم إثبات هذا المنطلق فعال من خالل الحقائق التاريخية إذ‬
‫يؤكد محمد أركون أن هذا الفصل كان موجودا منذ القدم بوجود السياسة المتمثل في الدولة‬
‫في مختلف الديانات القديمة بما فيها اإلسالمية والمسيحية فلقد كانت تلك السلطة الدينية‬
‫تعبر باستمرار عن وجودها الدنيوي ويستدل أركون على ذلك خاصة في المجال اإلسالمي‬
‫بعدة شواهد سنأتي على ذكرها في المحطات الالحقة من هذا البحث إال أن تصور محمد‬
‫أركون للعلمانية أوسع وأشمل من أن يقتصر على هذا المبدأ فهو ينطلق من القواعد الفلسفية‬
‫التي ولدت المفهوم في بيئته ومن األسباب السياسية المباشرة التي اقتضت تحديده وتحديد‬
‫التفاعل االبستيمولوجي معه في إطار المستحدثات والشروط التي تكونت فيها العلمانية ألن‬
‫العالقة بين السلطتين الدينية والسياسية لم تكن موجودة‪ ،‬وفي هذا يرى محمد أركون‬
‫"فاألطروحة التي تضاد اإلسالم بالمسيحية وتقول إن المسيحية قد فصلت بين الذروتين‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬فيما اإلسالم خلط بينهما منذ اعتبار الشروط التاريخية لكل الدينين أضف‬
‫إلى ذلك المفهوم الهام دين المعنى وال المنظورات واألفاق المعرفية التي افتتحت مؤخ ار من‬
‫قبل األنتروبولوجيا السياسية والدينية‪ ،2".‬هذه هي الرؤية التي يرفضها أركون فهو يعتقد أن‬
‫الرأي القائل أن اإلسالم دين ودولة وهو ليس كالديانة المسيحية غير صحيح فأركون يرى أن‬
‫األصل في الدولة أنها حدث دنيوي قبل أن يكون حدث ديني فرجال السياسة برروا رغباتهم‬
‫وتصرفاتهم بعلل دينية وبمباركة رجال الدين وبهذا اكتسبوا مشروعيتهم الفكرية وتمكنوا من‬
‫فرض سلطتهم على الجميع وهذا ما يؤكد دنيوية الدولة في تأسيسها وتطورها وهذا ما يجنبها‬
‫تاريخيا وسياسيا الرؤية الدينية وحتى وإن وقع تاريخيا التداخل بين السياسة والدين فإن هذا‬
‫كان له أسبابه ولم يكن ظاهرة عامة بل كان حدث استثنائي في مراحل معينة شهدتها الدولة‬
‫كمراحل الضعف الخارجي والداخلي وفي هذه الحالة يستند فيها رجال السياسة على رجال‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي قراءة علمية‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.180‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد ‪،‬ط‪،2012‬مصدر سابق‪،‬ص‪.62‬‬
‫‪196‬‬
‫الدين من أجل الحفاظ على عرشهم واستمرار حكمهم وبالتالي يكتسبون الشرعية من رجال‬
‫الدينأما غير ذلك فعالقة السياسة بالدين أو ارتباط السلطة العليا بالدولة لم يتم‬
‫طرحهإطالقا‪.‬ومن أجل هذا يرفض محمد أركون المعنى المختصر للعلمنة ويدعوا إلعادة‬
‫النظر في مفهومها ألنها ليست مفهوما منغلقا ثابتا بل هو مفهوم متغير مستمر حي‪ ،‬فأركون‬
‫ال يعترف بالمطلق وال بالمسلمات في كل المعطيات بما فيها المفاهيم الفكرية والنصوص‬
‫القديمة الدينية والتاريخية وهذا ما فعله مع مفهوم العلمانية الذي أراد أن يبعده عن التصور‬
‫التقليدي المنغلق الدوغمائي وهذا ما يثبته برهان غليون حيث يرى أن العلمانية كمفهوم ينبغي‬
‫"إعادة تفكيكها والكشف عن المشاكل الجوهرية التي تريد أن تحلها‪...‬من أجل فحص ظروف‬
‫نشأة الفكرة ومساراتها االجتماعية ومصيرها التاريخي وإمكانيات تحقيقها العملية وحل‬
‫المشاكل التي تطرحها ‪...‬ذلك أن المبادئ ال تفهم لوحدها فنحن الذين نفهمها ونصوغها‬
‫ونترجمها ونطبقها‪...‬فكل نظرية قاصرة مهما كملت ولم تعد العلمانية كما عرفها القرن‬
‫الماضي أو القرن الراهن كما هي مطبقة هنا وهناك صالحة بالضرورة لتقديم الحلول واستلهام‬
‫اإلجابات الصحيحة لمواجهة مشاكل التعامل بين الدولة والدين‪1".‬وبهذا فمفهوم العلمانية‬
‫مفهوم غير ثابت يتشكل باستمرار ويتطور من أجل أن يصبح أداة تتبلور فيها كل االتجاهات‬
‫الفكرية على اختالفها ومنه تصبح "أداة أساسية لخلق اإلجماع السياسي في الغرب بقدر ما‬
‫فتحت ساحة عملية تلتقي فيها كل المذاهب واآلراء"‪ ،2‬بهدف وضع حد لكل التصادم‬
‫والمواجهات االيديولوجية العميقة التي لم تجد أي مكان لاللتقاء واالتفاق وليس من أجل أن‬
‫تزيد العلمانية في تأجيج نار الخالف في الغرب بعدما " تحولت إلى طرف إضافي في‬
‫الصراع العقائدي وتحولت بالتالي إلى مصدر جديد لتوليد الخالف وتعميق االنقسام والتقسيم‬
‫الفكري والسياسي‪ 3".‬الذي ولدته الخطابات المتزمتة والعنيفة المنغلقة والتي الزالت تلقى في‬
‫المنابر الغربية أو عند من يزعمون تبنيهم التصور العلماني في البلدان العربية اإلسالمية‬
‫وخير دليل على ذلك مفهوم اإلسالموفوبيا الذي أطلقه هؤالء على اإلسالم ووصفه بالتطرف‬
‫واإلرهاب والرجعية والبربرية‪.‬وفي المقابل ولد ذلك عند العرب والمسلمين رفضا قاطعا لكل ما‬

‫‪-1‬برهان غليون ‪ ،‬نقد السياسة الدولة والدين‪،‬المركز الثقافي العربي‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪،‬ط‪،2007/4‬ص‪.491‬‬


‫‪-2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.503‬‬
‫‪-3‬برهان غليون ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.503‬‬
‫‪197‬‬
‫جاء به الغرب وأنتج دغمائية جديدة أغلقت على العالم اإلسالمي فظهر من جديد طرفي‬
‫نزاع في ساحة الفكر العربي اإلسالمي العلمانين واإلسالميين األصوليين "فكالهما يقودان‬
‫حتما إلى تدمير روح اإليمان والمسؤولية وتحويل النظام االجتماعي مثل ماهو عليه اليوم‬
‫إلى نظام قهري ال يستطيع أن يضمن بقاءه بغير المعونة القمعية والمادية واألجنبية وال‬
‫يستطيع أن يجمع ويحشد القوى االجتماعية التي تحتاج إليها مواجهة المشاكل‬
‫المطروحة‪ . 1".‬ويعتبر أركون أن لب المشكل هو هذا الصراع األخالقي الذي لم يسمح‬
‫بتأسيس تعايش فكري وثقافي تتناغم فيه الرؤى وتستوضح فيه الغايات من أجل خلق فضاء‬
‫منسجم يشمل كل االختالف مهما كانت دون اقصاء يضم الملحد والمسلم والعلماني الليبرالي‬
‫اليساري والمؤمن وخلق مناخ يساعد على تجنب التصادم وفرض االحترام وغير ذلك‪،‬‬
‫تصبح العلمانية وسيلة استبداد في يد السلطة وتصبح أرتودوكسية كاألورتودوكسية الدينية‬
‫التي سادت في المجتمعات لمدة طويلة‪ .‬وهذه هي فكرة محمد أركون عن العلمانية السلبية‬
‫التي راجت‪ ،‬فالعلمنة عنده تتجاوز الطرح المتزمت لها الذي يولد التطرف الفكري واالنغالق‬
‫على الذات ويستعمل العنف واالستبداد الذي ينتج بدوره مواجهة عصبية ال تنفك أبدا بل‬
‫تستمر في توليد الرفض والعنف‪" .‬إذ ال يوجد دين أو روحانية من أي نوع كانت ال ترتبط‬
‫بالسياسة أو مفهوم سياسي أو بحث موسع إلى حد ما بالقضية بطريقة أو بأخرى وبالمثل ال‬
‫يوجد نظام أو ممارسة سياسية حتى في أكثر المجتمعات علمانية إلحادا أو نبذا مفصول‬
‫بالكامل عن نقاط مرجعية دينية‪2".‬فالقضية المهمة للعلمانية في رأي محمد أركون ال تتمثل‬
‫في الفهم التقليدي المختصر لها والذي يقف عند الفصل بين الدين والسلطة‪ ،‬بل القضية‬
‫تتجاوز كليا هذا الطرح وتتعداه إلى مشاكل جوهرية تتبلور في كل المجتمعات على اختالفها‬
‫وتشمل كل التناقضات والرؤى وتهتم باإلصالحات السياسية وترافق الجانب المعرفي العلمي‬
‫وتؤطر حركية التنمية في االقتصاد وتتبنى وضع المناهج التربوية في قطاع التعليم وتوسع‬
‫المجال الثقافي داخل المجتمعات تلك هي وظائف العلمنة ومهامها األساسية التي تحمل كل‬
‫التصورات الشاملة التي ينبغي على المجتمعات الغربية استيعابها وحتى المجتمعات العربية‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.504‬‬


‫‪ -2‬طارق رمضان ‪،‬اإلصالح الجذري اْلخالقيات اإلسالمية والتحرر‪،‬ت‪:‬أميين أيوب ‪،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ‪،‬بيروت‬
‫لبنان‪،‬ط‪،1،2010‬ص‪.295‬‬
‫‪198‬‬
‫اإلسالمية يجب عليها فهم هذه الرؤية ألنها قضايا تتعلق بتجديد المفاهيم والتصورات‬
‫واالعتقادات االجتماعية ومواجهة الخوف من تبني الحداثة السياسية الذي حال بين العالم‬
‫العربي اإلسالمي وتحقيق الحداثة والتقدم وأخرها وثبتت السلطات التقليدية التي هي في حد‬
‫ذاتها تحتاج للعلمنة من أجل إحداث التغيير وفتح آفاق التقدم وبهذا يدعوا محمد أركون‬
‫المجتمعات الغربية والعربية اإلسالمية على حد السواء إلعادة بلورة مفهوم العلمنة حتى‬
‫يتسنى استيعابه وفهمه من طرف الجميع ولكي يكون مفتوحا على الجميع ألن العلمانية‬
‫أصبحت مطلب ضروري إلحدا ث التقدم والتطور حيث أن "أهمية موضوع كهذا ليست علمية‬
‫أو نظرية فحسب وإنما حياتية أو معايشة ينبغي لكي نحل هذه المشكلة في اإلسالم القيام‬
‫بإعادة نقد لمفهوم العلمنة نقدا فلسفيا كما كانت قد استخدمت وطبقت في فرنسا‪ ،‬في الواقع‬
‫أن العلمنة تبقى مسألة حاضرة وملحة فيما يخص العالم العربي واإلسالمي بشكل عام‬
‫إنها‪...‬مسألة التزال تطرح نفسها في فرنسا أيضا لكن بالطبع ملحة أكثر في أرض اإلسالم‬
‫وذلك من أجل تشكيل الدولة بالمعنى الحديث لكلمة دولة‪ ، 1".‬وأركون هنا يوجه الدعوة‬
‫للمفكرين والمسؤولين في مختلف المجاالت للبحث واالجتهاد من أجل مواجهة المشاكل‬
‫ومناقشة قضايا الواقع اإلسالمي والعربي وتقديم حلول واقعية بكل شجاعة ودون تردد أو‬
‫احراج وهذا يستدعي منا مجهودا كبي ار ألن محمد أركون يرى أن هناك ندرة في "المراجع‬
‫التاريخية الالزمة لكي نعرف كيف كانت مشكلة العلمنة قد طرحت نفسها داخل هذه‬
‫المجتمعات اإلسالمية‪2".‬فأركون يعتقد أنه لم تكن هناك إرادة حقيقية وصحيحة لوضع بحث‬
‫عميق وموضوعي يتجنب التوظيف العاطفي الفكري للمعرفة ويتطرق لمفهوم العلمانية داخل‬
‫المجتمعات العربية واإلسالمية بمنهجية معاصرة وحديثة وهو يسعى بكل جهد في تحديد‬
‫المنهج العلماني بشكل يتمكن به من خلق توافق مرضي تتقبله المجتمعات العربية‬
‫واإلسالمية ومنه نتساءل عن ماذا يريد محمد أركون من هذه المجتمعات؟‪.‬‬

‫نستطيع القول أن ما يريده محمد أركون بعد تحديده لمفهوم العلمانية بهذا الشكل هو‬
‫أساسا إرادة المعرفة والتعقل بمعنى آخر أنه يريد أن ينتقل الطرح الفكري إجماال من الجانب‬
‫المظلم المنغلق والعنيف إلى الطرح الموضوعي الحر في المعرفة والعلم والتحرر من أي‬
‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخية الفكر اَلسالمي ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.276‬‬
‫‪-2‬غير موجود‬
‫‪199‬‬
‫شكل من أشكال العنف والقهر والتسلط عليه ونبذ كل االكراهات الدينية واللغوية والفكرية‬
‫والسياسية وتجاوز كل العوائق التي تقف ضد وضع معرفة تكتنفها العلمنة والموضوعية في‬
‫المجتمعات العربية واإلسالمية من أجل الوقوف على مواضع الضعف وفهمها وإعادة بناء‬
‫المعرفة الصحيحة من جديد وهنا يرى أركون أن العلمنة "تواجه مسؤوليتين أو تحديدين‬
‫اثنين‪ ،‬أوال‪ :‬كيف نعرف الواقع بشكل مطابق وصحيح أي كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة‬
‫تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة (بغض النظر عن اختالفاتها) نحو‬
‫التوصل إلى الحقيقة ؟ هنا تكمن المهمة والمسؤولية المفتوحة أو المنفتحة باستمرار إنها عمل‬
‫ال ينتهي وال يغلق وهذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية‬
‫وحتى الدينية ( أي يتجاوز حتى الخصوصية الدينية التي ولد فيها‪...‬وهنا تكمن العلمنة أساسا‬
‫وتفرض نفسها بشكل واعي متساوي وإجباري على الجميع دون استثناء‪1".‬ويتناول هذا الجزء‬
‫من العمل مبدئيا دراسة األرضية وتهيئتها الحتضان التغير المتوقع ويتم هذا بإدراك جميع‬
‫عناصر الواقع والتشكيال ت البدائية التي ساهمت في تشكيل الفكر فيه والبد لهذه الدراسة أن‬
‫تتوافق مع هذا الواقع وتتواصل معه وتتقبل كل اختالفاته العميقة حتى تتمكن الشعوب‬
‫العربية واإلسالمية من االطمئنان لهذا التغير وتستعد له بكل اقبال ودون تردد وأما‬
‫"المسؤولية الثانية فتخص مناقشة أخرى أكثر شيوعا وألفة ‪...‬بمعنى أنه بعدما نتوصل إلى‬
‫معرفة ما بالواقع فإنه ينبغي أن نجد صيغة أو وسيلة مالئمة لتوصيلها إلى اآلخر دون أن‬
‫ولكي تمتد العملية وتستمر في إرساء دعائم العلمانية ينبغي أن‬ ‫‪2‬‬
‫نشترط حريته أو تقيدها‪".‬‬
‫يتواصل العمل في هذا الجزء على إيجاد نمط مناسب للفهم والمعرفة ينسجم مع الواقع الذي‬
‫تم دراسته في المرحلة السابقة وهذا ال يتم إال بعنصرين أساسين هما‪ :‬الحرية والجرأة من أجل‬
‫إلغاء كل األفكار التقليدية ومواجهتها بالواقع الجديد بطريقة موضوعية وعقلية كما يؤكد‬
‫محمد أركون على أن "العلمنة تتركز فقط في اإللحاح على حاجة الفهم والنقد داخل توتر‬
‫عام في اإلنسان وبمواجهة "ضابط" ماهو موجود دائما وضروري أن يوجد سواء كنا نعيش‬
‫في مجتمع الدولة –الكنيسة‪ -‬أو في مجتمع الدولة القومية الحديثة‪ 3".‬وفي نظر أركون أن‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬العلمنة والدين ‪ ،‬اإلسالم المسيحية الغرب‪،‬دار الساقي لبنان‪،‬بيروت‪،‬ط‪،3،1996‬ص‪.10‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.10‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬تاريخية الفكر اَلسالمي ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.294‬‬
‫‪200‬‬
‫هذه الظروف هي التي ستكسبنا الجرأة وستدفعنا لتحمل مسؤولياتنا خصوصا فيما يخص‬
‫موضوع ما يجب أن نقوم به وما هو المنتظر منا فعله أمام هذا الواقع بعدما تمت دراسته‬
‫دراسة نقدية عقلية وبعدما تم ايجاد سبيل يتناغم مع جميع حيثياته ونعراته ومميزاته ليتم في‬
‫األخير التحلي بالشجاعة الالزمة واإلرادة القوية والتمتع بالحرية المطلقة في إطار علماني‬
‫يساعد في األخيرعلى تحقيق عمل راقي يمثل الحداثة والتطور في أبهى صورها ليتجاوز كل‬
‫العوائق التي تشكلت عبر الزمن وينسف بكل الحدود التي أغلقت على الفكر ليسمح أيضا‬
‫هذا العمل بالتطرق وتناول المقدس بدراسة صحيحة ال تقصي أي عنصر من عناصر‬
‫الحدث والمعرفة فتصبح كلها مسموح التفكير فيها وتتيح للدارس والباحث فرصة المالحظة‬
‫والقراءة والنقد كما تشمل دراستها كل األدوات والوسائل العلمية المتوفرة دون إهمال ألي‬
‫جانب من جوانب الدراسة والبحث وانطالقا من هذا يتبين لنا أن العلمانية ظ‬

‫اهرة نقدية بالدرجة األولى من أجل الوصول إلى المعرفة العلمية والتحكم فيها وتبدأ من‬
‫التمييز بين تاريخ الفكر الكالسيكي وتاريخ أنظمة الفكر الذي يعمل في إطار أركيولوجيا‬
‫والحقائق ألنها غير منغلقة على‬ ‫المعنى والتأمل في أسباب تكوين األصول والمفاهيم‬
‫المعرفة والواقع المعاش ألن هذه الدراسة تستطيع أن تحدث القطيعة االبستيمولوجية مع كل‬
‫األفكار والرؤى الدوغمائية التي ال تعتقد إال باالتجاه األحادي المنغلق على البديهيات‬
‫واألحكام واألفكار المطلقة كما يمكن لهذا العمل أن يتيح المجال لالنفتاح والتعدد ويسمح‬
‫بالمالحظات والتناول الفلسفي والعلمي الذي يستطيع هو اآلخر أن يفرق بين الخرافي‬
‫والتاريخي ألن أركون يريد "تأسيس مجال معرفيجديد للعلمانية وإخراجها من بوتقة الالمفكر‬
‫فيه ألنه متيقن بأن العلمانية جزء ال يتج أز من الحداثة وعلى تعبير كمال عبد اللطيف »لقد‬
‫فتحت أسئلة محمد أركون المجال الجديد للتفكير في العلمانية من أكثر من زاوية وبأكثر من‬
‫صيغة وهي في نظرنا تقدم فتحا فلسفيا هاما يساهم في التأصيل الفلسفي الخالق‬
‫والمبتكر‪1".‬ونفس الغاية والهدف نستشفه من دعوة أركون إلعادة صياغة مفهوم العلمانية‬
‫عندما أراد أن يبين ويوضح المعنى الراقي لهذا المفهوم الذي يتجاوز التعريف القاصر لها‬
‫الذ ي اختصر المفهوم في تصور النزاع بين الدين والسلطة ونادى بالفصل بينهما بل بالعكس‬

‫‪ -1‬بشير ربوح ‪،‬بويش محرز ‪،‬اإلشكاليات التاريخية واْلفاق المعرفية ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪7‬‬
‫‪201‬‬
‫تماما فأركون لم يقف عند هذا الطرح بل رفضه ودعا لتجنبه ورأى أن العلمانية ال ترفض‬
‫الدين وال تعزله بل هي منهج يتناول الدين والدنيا على السواء وال يمكن أن تقف ضد‬
‫أحدهما‪ ،‬بل العلمانية جاءت لخدمة الدين وحمايته من االستعمال واالكراه الفكري من طرف‬
‫المتدينين الذين مارسوا السياسة أو من خالل توظيف النصوص الدينية من طرف السياسيين‬
‫الذين استعملوا رجال الدين لمباركة سلطتهم وضمان استمرارها فالنصوص الدينية استعملت‬
‫ووظفت من الطرفين ويكمن عمل العلمانية هنا عندما تتدخل للفصل بين هذا التوظيف وهذا‬
‫الخلط ليس من أجل الفصل ولكن لتبقي كل سلطة في مجالها ولتضع حدودا تالمس‬
‫السادتين دون السماح بالتجاوز غير المشروع واالستعماالت الذاتية للدين ومن أجل هذا "إن‬
‫اإلسالم في حد ذاته ليس مغلقا في وجه العلمنة ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة‬
‫فإن عليهم أن يتخلصوا من االكراهات والقيود النفسية واللغوية واإليديولوجيات التي تضغط‬
‫عليهم وتثقل كاهلهم ليس فقط بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي وعليهم لكي يتوصلوا‬
‫إلى ذلك أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر اإلسالمي في القرون الهجرية األربعة‬
‫األولى‪ 1".‬فلقد كانت هناك في تلك الفترة حركة تسمى حركة المعتزلة مثلت التيار العقالني‬
‫والتفكير العقلي الذي تبنى الحداثة آنذاك واستعملوا العقل من أجل فهم النص الديني وتناولوا‬
‫مسألة خلق القرآن وكانت هذه المسائل في تلك المرحلة حساسة وتتطلب جرأة وشجاعة‬
‫لتناولها ومناقشتها وعلى الرغم من ذلك فلقد تمكنت هذه الحركة من فرض تصورها وأعطت‬
‫صورة مقبولة عن العلمانية لذا فأركون يحث على الرجوع لتلك الفترة أي القرون األربعة‬
‫الهجرية األولى التي برزت فيها هذه النزعة التي أعجب بها فهو يريد أن نعتبر منها وننتهج‬
‫الطريق الذي تبنته ويريد معرفة أسباب ظهور هذه الرؤية في المجتمع العربي اإلسالمي‬
‫ومعرفة أيضا أسباب توقف العمل على ذلك الشكل المتميز‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬العلمانية والدين ‪،‬اَلسالم المسيحية‪،‬ص‪،59‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪202‬‬
‫‪ -3‬مستويات العلمانية عند أركون‪:‬‬

‫يقدم محمد أركون نوعين من العلمانية هما العلمانية االيديولوجية النضالية والعلمانية‬
‫المنفتحة‪.‬‬

‫أ‪ /‬العلمانية النضالية‪:‬‬

‫تبلور هذا النوع من العلمانية في عصر النهضة ومثل موقف العقل من الدين آنذاك يسميه‬
‫أركون "العلمانية المناضلة ‪Laïcisme Militant‬والوضعية التي تعتبر بدءا من عصر‬
‫النهضة الموقف الذي يتوافق مع العقل المستقل ويرى أوغست كونت أنه ينبغي اعتبار‬
‫المرحلة (التيولوجية أو الالهوتية )من حياة البشرية بحكم الماضية والمتجاوزة وبحسب هذه‬
‫الرؤية الخطية المستقيمة لتقدم الروح فإننا قد وصلنا إلى مرحلة إيجابية محسوسة من المعرفة‬
‫وهذه المرحلة تحذف كليا الموقف الديني وتعتبره شيئا قديما باليا‪1".‬فالعلمانية المناضلة لها‬
‫تصور مغاير تماما عن العلمانية المنفتحة وال تشبهها فهي كما يرى عبد الوهاب المسيري‬
‫"رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد عالقة الدين‬
‫والمطلقات والماورائيات (الميتافزيقية) بكل مجاالت الحياة‪ ،‬وهي رؤية عقالنية مادية‪ ،‬تدور‬
‫في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى مركز الكون‪ ،‬غير مفارق أو متجاوز‬
‫مكون أساساً من مادة واحدة‪ ،‬ليس لها أية قداسة وال تحوي أية أسرار‪،‬‬
‫له‪ ،‬وأن العالم بأسره ّ‬
‫وفي حالة حركة دائمة ال غاية لها وال هدف‪ ،‬وال تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو‬
‫‪2‬‬
‫المطلقات أو الثوابت‪ ،‬هذه المادة تشكل كالً من اإلنسان والطبيعة‪".‬‬

‫يرى أركون أن هذا التصور له عالقة تاريخية بالتاريخ األوربي وبالتحديد في عصر‬
‫النهضة ‪Renaissance‬تلك المرحلة من التاريخ األوربي التي شهدت صراعا حادا بين‬
‫رجال الكهنوت الذين نثلوا سلطة الكنيسة وبين النخبة من رجال العلم والفالسفة وتميزت تلك‬
‫الفترة باقتتال دموي كبير انتهى بفصل سلطة الكنيسة عن السياسة بل وأيضا عزل الدين عن‬
‫الشؤون االجتماعية والدنيوية حيث يرى محمد أركون أن الرؤية النضالية راودت كثي ار الفكر‬

‫‪-1‬محمد أركون ‪،‬العلمنة الدين اَلسالم المسيحية ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.72،73‬‬


‫‪.122‬‬ ‫‪-2‬عبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة‪ :‬العلمانية تحت المجهر‪ ،‬سلسلة حوارات لقرن جديد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪ ،2000 ،01‬ص‬
‫‪203‬‬
‫األوربي " وقد سيطر هذا الموقف فترة طويلة من الزمن في أوربا الغربية وخصوصا فرنسا‬
‫وهيمن على األوساط الفكرية والثقافية وأوساط الباحثين (‪ )...‬ومن هنا نتج الموقف النضالي‬
‫أو الصراعي المضاد للكهنوت ولكنه ليس فقط مضاد للكهنوت (‪ )...‬بل وعلى الحياة‬
‫الخاصة لكل فرد‪ .1".‬ويرجع ظهور هذا التصور للماركسية التي قدمت نظاما معرفيا جديدا‬
‫ووضعت فلسفة سياسية مختلفة تدعوا لالندماج فيها وتبني أفكارها التي تميزت بالمادية‬
‫وسعت بكل جهد للتصدي للدين وحكمت عليه بالخرافة وعزلته وقلصت من دوره داخل‬
‫المجتمع وفرضت عليه سطوتها وفي هذا يرى أركون "هنا يكمن نقص الماركسية فهي تقف‬
‫على رجل واحدة ال رجلين –( وهنا يتفوق ماكس فيير على كارل ماركس‪ 2".‬وهو يؤكد أن ما‬
‫لحق بالدين من ظلم من الماركسية قد حصل تماما في التجربة الفرنسية عندما عبرت عن‬
‫العداء للدين بمصطلح الالئكية وهذا التصور يعبر عن نظرة عقلية قاصرة وهي تعكس الغلو‬
‫الذي ساد في أوربا في استعمال العقل وجعله أساسا لكل المفاهيم والدراسات واستبعاد كل‬
‫العوامل األخرى وبالتالي ولد هذا التصور بعدا واحدا دوغمائيا جديدا مثل تصور جامد مغلق‬
‫وهذا ما وصفه الفيلسوف األلماني يورجن هابرماس بالعقل اآلداتي االستهالكي الذي ال‬
‫يحترم الجانب اإلنساني لإلنسان فهي نظرة براغماتية بامتياز ال تراعي الجانب الديني وهذا ما‬
‫يسعى إليه أتباع العلمانية النضالية وهذا ما رفضه أركون ورأى أن هذا التصور هو الذي‬
‫جعل العلمانية تزيغ عن هدفها األساسي وعن مسعاها الصحيح حيث أصبحت أداة فكرية‬
‫معادية لإلنسان والدين ومنه فهي لم تختلف عن التصورات األصولية الراديكالية وغير الدينية‬
‫التي تسلطت واستعملت الدين لفرض هيمنتها على مختلف االتجاهات الفكرية وأغلقت عليه‬
‫من أجل أن تستفرد بالسلطة فقط‪ .‬وعكس ذلك فأركون يحث على االهتمام بالبعد الديني‬
‫ومكانته في المجتمع ألنه يرى أن الدين مرتبط بالوجود اإلنساني وال يمكن االستغناء عليه‬
‫وفي هذا الصدد يرى أركون "التجربة تثبت لنا وعلم االنتروبولوجيا المقارن يثبت لنا أنه ال‬
‫يمكن أن يوجد مجتمع بشري بدون تقديس أو دين ولكن هذا التقديس يختلف من مجتمع‬
‫‪3‬‬
‫آلخر كما أنه يتعرض للتغيير والتحول عبر العصور فالتقديس حاجة إنسانية أيضا‪".‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪،‬العلمنة والدين المسيحية واإلسالم ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.73‬‬


‫‪-2‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.329‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.329‬‬
‫‪204‬‬
‫فطبيعة اإلنسان تجبره على الميول فطريا للميتافيزيقا وهو ال يمكنه االبتعاد عن القوى‬
‫الخارقة التي يؤمن بها ويطمئن لها ويحتاج إليها ليحقق الراحة الروحية حتى وإن كان هذا‬
‫اإلنسان اتجاهه مادي إال أنه يؤمن بالدين في ق اررة نفسه‪.‬‬

‫ب‪ /‬العلمانية المنفتحة‪:‬‬

‫يعرفها أركون على أنها نمط من الفكر "المنفتح والممارس بصفته موقفا نقديا اتجاه‬
‫كل فعل من أفعال المعرفة وبصفته البحث األكثر حيادية واألقل تلوينا من الناحية‬
‫االيديولوجية من أجل احترام حرية اآلخر وخياراته هو أحد المكتسبات الكبرى للروح البشرية‬
‫وهذه هي العلمنة الحقيقية ‪ ،1".‬إنه نمط يختلف تماما عن العلمانية النضالية فهذا الصنف‬
‫من العلمانية يمنح للتصور الديني والروحي مكانته ويتجنب أيضا المواجهات مع رجال‬
‫الدين‪ ،‬فالعلمانية المنفتحة تقف في وسط طرفي النقيض وتتبنى موقفا تجاه الدين تتخطى به‬
‫الرؤية الكالسيكية وال تقف عندها نهائيا بل أكثر من ذلك فموقفها يحتوى التعددية الدينية‬
‫والثقافية والفكرية وتدعوا هذا التنوع لالنسجام من أجل التعايش السلمي وتحقيق االحترام‬
‫المتبادل كما أن العلمانية المنفتحة ال تعزل البعد الروحي والماورائي لإلنسان فالعلمانية‬
‫المنفتحة هي العلمانية الجزئية حيث عرفها المسيري عبد الوهاب فقال‪" :‬فهي ال تتسم‬
‫بالشمول وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن السياسة وربما االقتصاد وما هو‬
‫يعبر عنه بعبارة فصل الدين عن الدولة ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت بشأن‬
‫المجاالت األخرى من الحياة‪ ،‬كما أنها ال تنكر وجود مطلقات وكليات أخالقية وإنسانية وربما‬
‫دينية أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقا‪ 2".‬فالعلمانية المنفتحة ال تنكر الدين وال تعزله عن‬
‫الحياة االجتماعية بل بالعكس فهي تحميه وتحرره من االكراهات والتوظيف غير الصحيح له‬
‫من طرف السلطة السياسية أو السلطة الدينية فالعلمانية المنفتحة هي الوسيلة الوحيدة كما‬
‫يرى محمد أركون إلبطال المشروعية‪" ،‬ولذا ينبغي سحب البساط من تحت أقدام الحركات‬
‫األصولية ‪ ،‬والتمييز بين المستوى الروحي والمتعالي للدين ‪ /‬وبين المستوى االيديولوجي‬
‫السائد حاليا ولكن الناس البسطاء ال يستطيعون القيام بهذا التمييز فينخدعون باألقوال‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.65‬‬


‫‪ -2‬بشير ربوح ‪ ،‬طالبي محمد كريم‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.338‬‬
‫‪205‬‬
‫والشعارات ويخلطون بين الدين الحقيقي ‪ /‬وبين أدلجة الدين‪ ،‬أو تحويله إلى ايديولوجيا بل إن‬
‫العاديين؟!هكذا تنطلي الحيلة‬
‫ّ‬ ‫المثقفين أنفسهمال يستطيعون التمييز دائما فما بالك بالناس‬
‫على الناس ويحول الدين إلى نظام إيديولوجي هدفه الوصول إلى السلطة وتحقيق المزيد من‬
‫السلطة‪ 1".‬ومن هنا فالعلمانية غرضها من فكرة الفصل ليس العزل واالهمال للبعد الروحي‬
‫بل هدفها هو حماية هذا الجانب من التوظيف والتحريف والتأويالت الملتوية التي تخدم‬
‫أغراض شخصية وعندما يتم ذلك ستتحقق الحداثة اإلسالمية‪ .‬وغير ذلك يرفضه أركون‬
‫ويلقيه جانبا وخاصة فكرة اإلسالم دين ودولة وهذه الفكرة هي ذاتها التي يتطرق إليها المفكر‬
‫عبد الوهاب الميسري عندما قال‪ " :‬كما أني أرى أن اإلسالم ليس دينا ودولة وإنما دين ودنيا‬
‫وأن نحصره في الدولة فيه ظلم ّبين لرؤية تتسم بالشمول‪ 2".‬وعموما فإن العلمانية المنفتحة‬
‫التي جاء بها محمد أركون تهتم بالبعد الروحي وال تهمله ويرى أن إهمال هذه الثقافة الدينية‬
‫يولد اإلرهاب الفكري والبراغماتي واإلكراه والتضليل ألن كل إنسان ال يمكنه معارضة دينه‬
‫ويرى أنه على حق ومنه سيرفض اآلخر ولكن إذا أردنا تجاوز هذا الصراع وهذه المواجهة‬
‫ينبغي علينا دراسة الدين كحدث لكي نتمكن من إنهاء هذا التصادم وإرساء دعائم التعايش‬
‫السلمي وال تترك الساحة شاغرة لإلسالميين والعلمانيين حيث يمكن التصدي لإلسالميين‬
‫ومنعهم من توظيف النصوص المقدسة ألغراضهم الفكرية ويمكن أيضا الوقوف في وجه‬
‫العلمانيين الذين يسعون إلفراغ المجتمع والفرد من البعد الروحي الميتافيزيقي الذي ال‬
‫يمكناالستغناء عنه ألن "التوتر الروحي الداخلي والحنين للخلود واألبدية يشكالن بعدا أساسيا‬
‫من أبعاد اإلنسان‪ ،‬اإلنسان ال يعيش فقط بالمادية واالستهالك المادي فقط وإال لكان‬
‫كالحيوان‪ ،‬اإلنسان في حاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادي من وقت آلخر لكي يعانق شيئا‬
‫آخر أكثر دواما واتساعا‪ ،‬أي أقل عبو ار وآلية وال يمكن أن نبتر اإلنسان عن هذا البعد‬
‫األساسي من أبعاده وال يحق لنا ذلك‪ . 3".‬يناقض محمد أركون التصور المادي الذي يلقي‬
‫بالبعد الروحي ويلغيه ويرفض المقدس من الحياة ويرجع كل األشياء للنسبية وفي النهاية‬
‫نستطيع القول أن أركون يريد أن يؤسس ثيولوجية جديدة بنظرة تتيح الفرصة للتعايش والحوار‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.226‬‬


‫‪ -2‬عبد الوهاب الميسري ‪ ،‬العلمانية والحداثة والعولمة ‪،‬دار الفكر ديمشق‪،‬ط‪،2009-1‬ص‪.109‬‬
‫‪-3‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.260‬‬
‫‪206‬‬
‫بين األديان وهذا ما يفسر دعوة أركون إلدماج مادة األديان المقارنة في المدارس وبمعنى‬
‫آخر هو يريد دراسة الدين كظاهرة انتروبولوجية وستسمح لنا بالبحث فيها ومناقشتها ومالمسة‬
‫أسرارها ‪.‬‬

‫‪ -4‬العلمانية الفرنسية‪ :‬نموذجا للرؤية األركونية‪.‬‬


‫قبل الحديث عن العلمانية الفرنسية ال بد من اإلشارة أوال لفضل الطبقة البورجوازية‬
‫في تفجير الثورة الفرنسية عام ‪1789‬حيث يشهد لها أنها هي من حثت شعوب القارة األوربية‬
‫على الثورة على االستبداد وعلى سلطة النبالء المتحالفين مع الكنيسة وكان لها ذلك بعد أن‬
‫عزلت النبالء عن السلطة من خالل إبطال االمتيازات التي كان النبالء يتمتعون بها بعد أن‬
‫وضع أساس لدولة القانون التي هي صورة للحكم السائد حاليا في أوربا وتقوم على المساواة‬
‫والمواطنة وإلغاء االمتيازات وبذلك تمكنت البرجوازية من تقليص سلطة الكنيسة بعد أن قامت‬
‫أيضا بفصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية وبهذا تمكنت من الوقوف في وجه رجال‬
‫الدين ولقد اعتبرت هذه الخطوة مهمة في السير في اتجاه تجسيد العقالنية والحرية ولقد‬
‫أعجب أركون كثي ار بهذه الخطوة التي قامت بها الطبقة البورجوازية العلمانية التي يرجع لها‬
‫الفضل في إحداث التغيير في تلك الفترة حيث يقول‪" :‬أن هذا الوضع لم يتغير إال عندما‬
‫ابتدأت البورجوازية التجارية ثم الرأسمالية تنتقص شيئا فشيئا استقاللية الدائرة االقتصادية‬
‫وتناضل من أجل اكتساب استقاللية الدائرة القانونية وكان يعني بالتالي تحرير الدولة من‬
‫أسر الدائرة الدينية الذي أصبح طابعها اإليديولوجي غيرمحتمل وغير مقبول في معارضة‬
‫االيديولوجية المنافسة التي شكلتها البورجوازية‪ .1".‬فلقد قدمت البورجوازية تصو ار جديدا له‬
‫بعد عقالني متحرر من هيمنة رجال الدين وبدى في وسط المجتمع الحوار والتعقل وتحول‬
‫النشاط البشري نحو االنفتاح على المعارف العلمية وتمت القطيعة االيبستيمولوجية مع‬
‫التأويالت الالهوتية التقليدية التي اعتمدت على األحكام الدينية في تحديد المعارف وفهم‬
‫قوانين الطبيعة ويعتقد أركون أن هذا التحرر وهذا التغيير لم يكن ليتحقق لوال فصل السلطة‬
‫الزمنية عن السلطة الروحية الذي قامت به الطبقة البورجوازية وهذا بعدما تم تحديد وظائف‬
‫كل منهما‪ ،‬فالعمل السياسي كان يختص باألمور السياسية والوظيفة الدينية كانت تختص‬

‫‪ -1‬محمدأركون‪،‬الفكراَلسالمينقدواجتهاد‪،‬مرجعسابق‪،‬ص‪.63‬‬
‫‪207‬‬
‫بالشؤون الروحية ومنع كل تداخل بينهما حتى ال يوظف أحدهما اآلخر من أجل فرض‬
‫السلطة في شؤون السياسة وفي المقابل تم الحفاظ على مكانة الدين لتجنب التصادم‬
‫والمواجهة الدموية التي أثرت على المجتمع في مختلف المجاالت االقتصادية والفكرية‬
‫والثقافية والسيكولوجية ومنه فإن إجراء البورجوازية عاد بنتائج إيجابية وفعالة على المجتمع‬
‫األوربي وساعد بشكل مباشر في المضي قدما نحو الحداثة بعدما انتهج العلمنة من خالل‬
‫التصور العقالني الحر الذي سار فيه‪ .‬وانطالقا من إعجابه بهذه التجربة أراد أركون أن‬
‫يستثمرها في المجتمعات العربية اإلسالمية من خالل وضع مقاربة بينها وبين التراث الديني‪،‬‬
‫لكن ورغم إعجاب أركون بالتجربة الفرنسية إال أنه انتقدها ورأى أن هذه العلمانية المناضلة‬
‫وقعت في نفس ما وقع فيه الدين بعد أن أغلق على الحريات وقيدها فلقد أصبحت هي‬
‫األخرى منهج يفرض سطوته على الفكر ويحد من حريته مثلما فعلت الكنيسة من قبل ولهذا‬
‫يحذر أركون من الوقوع في هذا المشكل فيقول‪ " :‬ينبغي أن نحتاط جيدا فالعلمنة ال ينبغي‬
‫هي األخرى أن تصبح عقيدة إيديولوجية تضبط األمور وتحد من حرية التفكير كما فعلت‬
‫األديان سابقا‪ ،‬والعلمانية النضالية ‪ Laïcisme Militant‬المعادية للكهنوت في الغرب ربما‬
‫كانت قد مشت في هذا االتجاه‪ 1".‬هذا يعني أن العلمانية في فرنسا وقعت في نفس المشكل‬
‫الذي أرق من قبل الفكر األوربي مع الكنيسة وظلمها ويرجع أركون هذا للتعصب الذي وقعت‬
‫تسع فعليا لحل‬
‫فيه العلمانية المناضلة ضد الدين ووقوفها ضده في موقف معادي له ولم َ‬
‫مشاكل الدين بطريقة عقلية بل انتهجت في ذلك القوة والعنف والتسلط وولد هذا بطبيعة‬
‫الحال عنفا مضادا وبالتالي لم تكن التجربة العلمانية الفرنسية أحسن حال من سلطة الكنيسة‬
‫ودوغمائية الفكر الالهوتي ورجال الدين فما لبثت أوربا تنفك منها حتى دخلت في دوغمائية‬
‫العلمنة العقلية ورجاالتها وبمعنى آخر فلقد خرجت أوربا من تقديس النص الديني ليواجهوا‬
‫تقديس ال عقل ألنهم اعتقدوا أن العقل وحده هو من باستطاعته تجاوز كل العوائق وحل كل‬
‫المشاكل دون االعتماد على أي عامل آخر فهو وحده يمكنه إدراك المطلق ومعرفة قوانين‬
‫الطبيعة والسيطرة عليها‪ .‬ويوضح أركون في هذا الصدد أن العلمانية الفرنسية لم تختلف‬
‫تماما عن الفكر األورتودكسي بل وكانت منغلقة على نفسها أيضا أمام الدين خاصة وحتى‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخية الفكر اَلسالمي نص‪.293،294‬‬


‫‪208‬‬
‫على العلم فيرى أن االتجاه العقالني المنفتح ‪" :‬بقي غائبا عن الساحة ذلك الموقف العقلي‬
‫الذي أتبناه شخصيا والذي يضع كال من الموقف الديني والموقف العلماني على مسافة‬
‫متساوية‪1".‬األمر الذي لم يتم اطالقا في فرنسا فالعلمانية الفرنسية سعت في نفس الطريق‬
‫المنغلق على نفسها وأعطت أهمية للفلسفة المادة والوضعية وانتهجت موقف العدو اتجاه‬
‫الدين والبعد الروحي‪ .‬بينما التاريخ يثبت أن ال العقل بمفرده وال العلم وحده استطاعا استقراء‬
‫المشاكل ووضع الحلول خاصة تلك التي تتعلق بالجانب الروحي فال يمكن للعلم دراستها إال‬
‫بالرجوع للدين إذ يرى أركون أن "األديان قد قدمت لإلنسان ليس فقط التفسيرات وااليضاحات‬
‫وإنما أيضا األجوبة العلمية القابلة للتطبيق واالستخدام مباشرة فيما يخص عالقتنا بالوجود‬
‫واآلخرين والمحيط الفزيائي الذي يلفنا بل حتى الكون كله وفيما وراء األشياء المدعوة "فوق‬
‫الطبيعة" أو خارقة للطبيعة أي تلك التي تتجاوز الطبيعة المحسوسة والقابلة للمالحظة‬
‫والعيان‪ ، 2".‬إذ ال نستطيع االستغناء عن الدين فهو مبثوث في كل المعارف كالتاريخ واألدب‬
‫ومعظم النصوص لها عالقة بالدين فال يمكننا دراسة تاريخ المسيحية إال بالعودة للدين‬
‫وبتغييب الدين ال يتمكن األستاذ من شرح النصوص في المعاهد وهذا هو مشكل المدرسة‬
‫الفرنسية التي أغلقت التناول الديني وبالتالي لم تتمكن من فهم النصوص المقدسة فهما‬
‫صحيحا وعليه ينبغي على المدرسة الفرنسية أن تعترف بالبعد الديني فالحروب الصليبية‬
‫أحداث دينية وواقعية وتاريخية تمت في القرون الوسطى وهي مرتبطة بشكل مباشر بتاريخ‬
‫األمم وال يمكن اجتثاثها من التاريخ وفهم النصوص التي رافقتها واألحداث التي تشكلت‬
‫بعدها وهذا يجعل من دراسة التاريخ والفكر آنذاك دراسة قاصرة غير مكتملة‪ .‬غير أن "الفكر‬
‫العلماني فعل عكس ذلك راح يحذف من المدرسة العامة كل تدريس علمي لتاريخ األديان‬
‫الحيادية‬ ‫بصفتها بعدا دائما وكونيا من أبعاد المجتمعات البشرية وقد فعل ذلك باسم‬
‫والموضوعية وهكذا أصبح الناس أمنين بكل ما يخص الحياة الدينية والخطاب الديني‬
‫وخاصة في فرنسا فالعقالنية الوضعية والعلموية التي يمكن التمثيل عليها بنص كارل ماركس‬
‫‪ ...‬قد جعلت المستحيل التفكير فيه بأشياء أساسية جدا كاألسطورة والرمز والرأسمال الرمزي‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬العلمنة والدين‪،‬ص‪.70‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬العلمنة والدين ‪،‬ص‪.23‬‬
‫‪209‬‬
‫والمجاز ومن المعروف أنها تمارس دو ار حاسما في كل خطاب ديني‪ ، 1".‬وهذا الموقف الذي‬
‫غيب الدين في المدارس الفرنسية قدم إنسانا جاهال لدينه ولجميع األديان األخرى وخاصة‬
‫الدين اإلسالمي الذي يعتبر الديانة الثانية في فرنسا بعد المسيحية فالدين اإلسالمي في‬
‫المدارس الفرنسية ال تعرفه إال بعض التفاصيل السطحية المرتبطة بالحالل والحرام من ملبس‬
‫ومأكل أما فيما يخص لب القضايا األساسية في اإلسالم كالعدالة والحرية والمساواة والتسامح‬
‫والتعايش السلمي غير موجودة في المدارس الفرنسية بل وأكثر من هذا فلقد أجمعوا رأيهم‬
‫على معاداته والنيل منه بتلفيق التهم و إلقاء األحكام غير الصحيحة عليه كوصفه بدين‬
‫االرهاب والتعصب والعنف ولعل أوضح دليل على هذا مصطلح اإلسالموفوبيا الذي تداولته‬
‫كبرى الجامعات والمعاهد الفرنسية وراج في المجتمع الفرنسي كوسيلة مباشرة إلعطاء صورة‬
‫عنيفة عن اإلسالم فأركون يرى " اإلسالم أصبح يعني العنف والظالمية والتعصب واإلرهاب‬
‫فقط وهذا ما ألمسه لمس اليد بحكم تواجدي في أوربا وبحكم زياراتي المتكررة لمختلف‬
‫الجامعات األوربية واألمريكية ولقاءاتي بالمسؤولين والمفكرين والسياسيين‪ .2".‬ويتساءل مفكرنا‬
‫محمد أركون عن ماذا ننتظر من فكر كهذا؟ ويجيب هو نفسه أننا ال يمكننا أن ننتظر منه‬
‫غير اإلرهاب والعنف ألنه منطق متعصب متطرف يعمد دون حرج ودون تردد إلى محاربة‬
‫كل األطراف األخرى بما فيها الديانات على اختالفها وكل التيارات التي تمثل الطرف اآلخر‬
‫وال يعترف إال بما يمثله هو فقط ولعل أيضا أحسن دليل على نتائج هذا التزمت الفكري هو‬
‫وقائع ‪Charlie Hebdo Bataclan‬و حتى يقف كل هذا فعلى النخبة في الغرب‬
‫والمسؤولين التحلي بالمسؤولية أمام ما يحصل داخل المجتمع الفرنسي وعليهم مراجعة‬
‫برامجهم التعليمية وإدراج دراسة األديان في برامجهم التعليمية وخاصة الديانة المسيحية‬
‫واإلسالمية واليهودية حتى يتمكن الفرد من معرفة حقيقتها ويتمكن من إدراك قيمتها الروحية‬
‫وهذا ما سيجنب المجتمعات الكثير من التصادم الفكري والثقافي والحضاري وفي هذا الصدد‬
‫يرى أركون "أن البلدان التي تطرح نفسها كمرجعية للعالم وكقوة يحتذى بها اآلن في بلدان‬
‫أوربا فهي طورت حضارة قوية وثقافة علمية ضخمة منذ ثالثة قرون وحتى اليوم وبالتالي‬
‫فمن غير المقبول أن هذه الثقافة العلمية المتقدمة بتاريخ األديان والمقارنة العلمية الصريحة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد‪،‬ص‪65،66‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬اسالم أوربا الغرب‪،‬ص‪.208‬‬
‫‪210‬‬
‫بينها من غير المقبول أن نستبعد تاريخ األديان والعقائد الروحية من ساحة تعليمها‪ .1".‬فمن‬
‫بين أهم مظاهر الحداثة والتطور االنفتاح الحضاري على مختلف المعطيات والذي يشمل‬
‫التعاطي مع مختلف التصورات الفكرية واألبعاد الروحية وإفساح المجال لألخذ والعطاء‬
‫المعرفي من ولآلخر مهما كانت مرجعياته العقائدية ومهما كانت اتجاهاته الفكرية والسياسية‬
‫ويبدو جليا من خالل امتعاض مفكرنا محمد أركون عن العلمانية الفرنسية أنها لم ِ‬
‫تول‬
‫االهتمام الالزم كما ينبغي لألديان ولالتجاهات الفكرية المختلفة ولم تقدمها كما يجب‬
‫للمجتمع الفرنسي ولم تقم بوضع دراسة علمية لهذه المجاالت ووضع مناهج حديثة تهتم‬
‫بإبراز الحقائق المتغيرة وتفسر العقائد الدينية وبالتالي تجنب الوقوع التقليدي في التصادم‬
‫المستمر بين الدين والحياة والسياسة وتجنب أيضا االنقسامات المتعصبة واإلرهاب الفكري‬
‫والمادي األمر الذي وقع فعال في أوربا وفي بالد المسلمين ولعل خير شاهد على هذا ما‬
‫تشهده البلدان العربية اإلسالمية حاليا من إرهاب وتطرف كليبيا وأفغانستان والعراق وسوريا‬
‫واليمن وكذلك ما يدل على ذلك ما يحصل في بلدان المسلمين العرب من انقسامات طائفية‬
‫دينية وما يحدث أيضا من إرهاب وجرائم عنيفة‪.‬ولهذا يحث أركون المجتمع الفرنسي على‬
‫إعطاء مكانة مهمة للبعد الروحي مثل مكانة البعد المادي فيه من أجل إرساء توازن يحفظ‬
‫استقرار الفرد والمجتمع فال يمكن االستغناء عن هذين البعدين أبدا "وهذه هي المسافة النقدية‬
‫التي يحتفظ بها أركون في معالجته للعلمانية باعتبارها موقفا للروح أمام مسألة المعرفة لذلك‬
‫يقترح ضرورة إدماج العامل الديني في الفضاء العام للمجتمع من خالل الوقوف موقفا حياديا‬
‫من كل األديان أي دراسة الدين كظاهرة أنتروبولوجية ال يخلو منها أي مجتمع واالبتعاد عن‬
‫تدريس الدين على الطريقة المذهبية التقليدية ألن ذلك من شأنه أن يولد العصبيات الدينية‬
‫وينتج العنف المقدس‪ ،2".‬ألن محمد أركون يعتقد أن الحداثة ال يمكن أن تتم إال "من خالل‬
‫زحزحة األديان من أرضيتها الالهوتية وتحديداتها الدوغمائيةوالالتارخية وكل ذلك من شأنه‬
‫أن يمكن أركون من توليد أثر ومعنى جديد للعلمنة وعدم قولبة معناها في تجربة تاريخية‬
‫معينة وتحويلها إلى تجربة أقنومية ثابتة تتعالى على التاريخ واألحداث التاريخية‪ ،3".‬وبما أن‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.208‬‬
‫‪ -2‬كحيل مصطفى ‪،‬اْلنسنة والدين في فكر محمد أركون ‪،‬منشورات اَلختالف‪،‬الجزائر ‪،‬دط‪،2013‬ص‪.225‬‬
‫‪ -3‬نفس المرجع ‪ ،‬نفس الصفحة‪،‬ص‪.225‬‬
‫‪211‬‬
‫أركون يعتقد أن العلمانية التي يصبو لها هو تختلف عن العلمانية األوربية وال تشبهها وبما‬
‫أنه يجزم بأن العلمانية مطلب ضروري لتحقيق الحداثة فإن أركون يقترح تصو ار جديد لها‬
‫سواء في المجتمعات الغربية أو المجتمعات اإلسالمية فهو يعتقد أنها أوال مكتب بشري يسعى‬
‫إلرساء العقالنية والحرية والعدالة والمساواة وتحمي الضعفاء وتضع مكانة للمقصيين دون‬
‫استثناء وتعترف بطموحات الغير وتثمن جهود العلماء والمفكرين دون الرجوع للخلفيات‬
‫الفكرية أو الدينية أو العرقية التي تدفعهم ‪.‬‬
‫‪ -5‬النموذج التركي للعلمانية‪:‬‬
‫لقد انتقد أركون كثي ار الفكر الفرنسي الذي عكس آراء المتزمتين للعلمانية العقلية الذين‬
‫اتخذوا من منابرهم مجالس للتشهير بالدين ومن خطاباتهم المتطرفة مواضيع لنفث أحقادهم‬
‫عليه وتحالفوا ضده من أجل عزله وإبطال دوره في المجتمع في الوقت الذي عرف فيه العالم‬
‫تطو ار علميا في مختلف العلوم الذي كان باإلمكان أن يلعب هذا دو ار مهما في‬
‫تفسيروتوضيح الغموض الذي اعترى النصوص الدينية ورافقها لمدة طويلة ولقد ذهب أركون‬
‫في هذا النقد إلى حد التمييز بين العلمانية النضالية االيديولوجية التي عرفت صراعا طويال‬
‫مع الدين وهي من تبنت الفكر المتعصب فيما بعد وهذا النوع من العلمانية غير المرغوب‬
‫فيه عند أركون ويطرح هو نوع محمود أال وهو العلمانية المنفتحة التي تتموقع في الوسط بين‬
‫الد ين والسياسة وتحاول م ار ار التوفيق بينهما وتضع لهما حدودا ال ينبغي تجاوزها حتى تتمكن‬
‫من حماية الدين من التوظيف غير المشروع في السياسة لتحافظ على استمرارها وبقائها ‪.‬‬
‫ثم ينتقل أركون بعد ذلك ليقدم نموذجا آخر للعلمانية تمثل في التجربة التركية العلمانية التي‬
‫تزعمها كمال أتاتورك التي يعتقد أركون أنها مثلت التجربة العلمانية الوحيدة في اإلسالم وال‬
‫تشبهها أي تجربة علمانية أخرى في الدول العربية اإلسالمية ألنها أقدمت على إحداث‬
‫القطيعة الجذرية مع كل التراث والتقاليد التي عرفتها تركيا غير أن هذا التغيير جاء بطريقة‬
‫عنيفة وصادمة‪،‬األمر الذي يعرض هذه التجربة ألحكام هي األخرى قاسية حيث اتهمت هذه‬
‫التجربة بأنها اتخذت موقفا راديكاليا ايديولوجيا ذات البعد الواحد مثلها مثل التجربة الفرنسية‬
‫مع الكنيسة ورجال الدين في غرب أوربا‪ .‬وبالرجوع ألسباب وصول العلمانية لتركيا مع‬
‫مصطفى كمال أتاتورك يتضح جليا أنه تأثر بالتجربة العلمانية الفرنسية أثناء تواجده بها‬

‫‪212‬‬
‫حيث تلقى دراسته األكاديمية العسكرية بمدينة تولوزالفرنسية ويبدو أنه تأثر كثي ار بالفلسفة‬
‫الوضعية السائدة في تلك الفترة والبد من اإلشارة إلى أن أتاتورك كان كبقية المثقفين الذين‬
‫عاصرهم أو الذين سبقوه قد "عاشوا صدمة فكرية بين عامي(‪ )1880‬و(‪ )1940‬نتيجة‬
‫دراستهم في المدارس والجامعات األوربية وهذه الصدمة تمت السيطرة عليها (أو عدم‬
‫السيطرة)بدرجات متفاوتة في المرحلة التالية من عمرهم فالمجتمع اإلسالمي الذي ولدوا فيه‬
‫(سواء في تركيا أو غيرها كان خاضعا لمجموعة من المحرمات الدينية والشعوذية السحرية‬
‫كما كان خاضعا لتفاوتات اجتماعية صارخة ولممارسات سياسية تعسفية غير محتملة سواء‬
‫أكان مصدرها الداخل أم االستعمار هذا وباإلضافة إلى التأخر الثقافي المروع‪ .1 ".‬ولقد‬
‫ساهمت هذه العوامل بشكل كبير في التأثير الفكري والنفسي على مواقف النخبة في الدول‬
‫العربية اإلسالمية بعد إدراكهم للهوة الكبيرة التي تفصل بين العالمين األوربي والعالم العربي‬
‫اإلسالمي وعرفوا ما مثلته دول أوربا من حضارة وألوان وما كان يتمتع به رواد الفكر آنذاك‬
‫فيها من ظروف وامتيازات حيث تميزت " بالحريات التي رسخها النظام الجمهوري بعد الثورة‬
‫والمفعم بالحيوية االقتصادية واالبداعية والثقافية واتساع النظرة التاريخية وإرادة المعرفة‬
‫والسيطرة ثم الرفاهية البادية والنظافة السائدة في الشوارع أو األماكن العامة أو في البيوت ثم‬
‫استصالح األرض جيدا وثراء المدن ‪ ،2".‬وبطبيعة الحال حصلت الدهشة عند المثقفين‬
‫العرب المسلمين أمام هذه المظاهر الصادمة إال أن ردة فعلهم اختلفت من مفكر آلخر‬
‫"فكلهم عبر بأسلوبه الخاص وعن طريق الكتابة أو الممارسة عن مأساة تاريخية مأساة‬
‫التفاوت الفظيع بين عالمين مختلفين والتزال هذه المأساة تتعقد وتستمر على صعيد بشري‬
‫متعاظم ومتفاقم‪ 3".‬فردة فعل مصطفى كمال كانت عنيفة فبعد رجوعه من فرنسا متأث ار بما‬
‫عاشه بها وتربعه على الحكم في تركيا لم يعجبه الواقع الذي وجده فيها ولم يتقبل نهائيا‬
‫الوضعية االجتماعية التي كانت في تركيا والحظ التأخر والتدهور الذي رسم سمات المجتمع‬
‫اإلسالمي بها فقرر أن يحدث تغيي ار جذريا في تركيا وكان هذا اإلجراء عنيفا وصادما حيث‬
‫قام بتأسيس جمهورية تركية على الطريقة الفرنسية وألغى الخالفة في السياسة وباشر في‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد ‪،‬ص‪.72‬‬


‫‪ -2‬محمد اركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد ‪،‬ص‪.72‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.73‬‬
‫‪213‬‬
‫ِ‬
‫يكتف بإلغاء‬ ‫اإلطاحة بالرموز اإلسالمية "وقد ذهب أتاتورك بعيدا أكثر من هذا الخط فلم‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫السلطنة التي رفعها الوعي الجماعي للمسلمين إلى مرتبة الخالفة المقدسة ‪...‬لم‬
‫أتاتورك بذلك وإنما انقض على المناخ السميائي أو الرمزي لكل المسلمين فقد استبدل‬
‫الحروف الالتينية بالحروف العربية واستبدل القبعة األوربية بالطربوش والزي األوربي بالزي‬
‫التقليدي والقانون السويسري بالشريعة‪ ،1".‬ومن أجل اجتثاث الموروث التاريخي الحضاري‬
‫اإلسالمي من عمق المجتمع التركي قام أتاتورك بقطع كل أوصال العالقة المتجذرة في‬
‫ِ‬
‫يكتف بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية‬ ‫المجتمع التركي مع الدين اإلسالمي ولم‬
‫حتى يمحو كل مظاهر الحضارة اإلسالمية في تركيا ويستطيع تجسيم الصورة الغربية بها‬
‫ولقد عكس هذا مدى تأثر أتاتورك بالحضارة الغربية " ومن المعروف أن االحتفاالت الرسمية‬
‫والمطبخ واألثاث وفن العمارة والتفوق الزمني ‪...‬إلخ تشكل األنظمة السميائية أو الرمزية التي‬
‫تتحكم بالحساسية الفردية والجماعية لمجتمع ما وحضارة ما وهي التي توجه األشكال‬
‫األسبقية أوالمسبقة للتعقل والفهم(حسب مصطلح كانط)‪ .2".‬ولقد تج أر أتاتورك كثي ار عندما‬
‫وقف ضد هذه الرموز وأيضا ذهب بعيدا عندما وقف ضد الدين ولم يحترم الموروث‬
‫اإلسالمي وذهب أبعد من ذلك عندما أراد طمس هوية المجتمع التركي اإلسالمية وتغريبه‬
‫ذاتيا ووجوديا وهذا ما جعل أركون يعارض التجربة التركية العلمانية الجذرية بالرغم من أنها‬
‫تجربة حديثة وتجربة استطاعت أن تحقق خطوة مهمة فيما يخص تحديث المجتمع التركي‬
‫غير أنها لم تختلف كثي ار عن التجربة الفرنسية وما قام به العلمانيون العقالنيون فيها حتى‬
‫أصبح المنهج العلماني له خلفية ايديولوجية علمناوية‪ Laïcisme‬يقول أركون‪" :‬هكذا‬
‫تالحظون أن هذه التجربة قد ذهبت بعيدا في جرأتها لكنها لم تكن في الواقع إال " كاريكاتير"‬
‫للعلمنة رافقته بعض التطرفات كما حدث ذلك في فرنسا سابقا‪ ، 3".‬فالمنهج الذي سلكه‬
‫أتاتورك إزاء الدين أنه قام بالهيمنة عليه وأخضعه لسلطته القاهرة ولم يقم بالفصل بين‬
‫يتبن في ذلك مبادئ العلمانية بل يعتبر هذا العمل منافيا‬
‫السلطتين على أساس أنه لم َ‬
‫لمبادئها التي تتجنب الدين واستعماله في السياسة‪.‬و جدير بالذكر أن هذا الغلو في تطبيق‬

‫‪ -1‬نفس المرجع ‪ ،‬ص‪.73‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.73،74‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخية الفكر العربي اَلسالمي‪،‬ص‪.278‬‬
‫‪214‬‬
‫العلمانية عمق من إرساء جذورها في ا لمجتمع التركي إال أنه أهمل عامل الدين الذي يعتبر‬
‫عامال مهما حيث مثل ولوقت طويل مرجعية فكرية ودينية راسخة عند المسلمين األتراك كما‬
‫أن التغيير الذي قدمه أتاتورك لم يهتم بالمشاكل الحقيقية والمعاناة التي كان المجتمع التركي‬
‫يعاني منها كما أهمل البعد الطائفي الملموس داخل المجتمع التركي "وقد تأثر النموذج‬
‫العلماني الكمالي بهذا المثالي المعادي للدين فتحول عنده الفصل بين الدولة والدين إلى‬
‫استئصال الدين‪ 1".‬هذا العداء وهذه الحرب المعلنة على الدين هي التي كانت السبب‬
‫الرئيسي الذي جعل "الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته مما يفسر العودة‬
‫الدينية العنيفة بدءا من عام ‪1940‬راح التيار اإلسالمي يسترجع مواقعه بقوة من هذا‬
‫التاريخ‪ 2".‬وألن هذه العلمانية غريبة عن الشعب التركي ومفروضة عليه قص ار لم تستطع‬
‫الصمود طويال أمام عمق الموروث الديني الحضاري اإلسالمي وفشلت العلمانوية في تركيا"‬
‫فالتطور العلماني في فرنسا كان تطو ار طبيعيا ومعقوال جاء بعد فترة طويلة من الصراع‬
‫الفكري والجدلية االجتماعية‪...‬أما في تركيا فاألمر مختلف تماما ‪.‬تركيا بلد تقليدي لم يعرف‬
‫ال نهضة وال تنوير ‪...‬وبالتالي فقد كان نقل هذه التجربة التاريخية الكبرى بحذافيرهامن فرنسا‬
‫إلى المجتمع التركي التقليدي يشكل مخاطرة ومغامرة غير مضمونة العواقب‪ .3".‬أي أن‬
‫العلمانية لم تتدرج في القدوم لتركيا ولم يتم التمهيد لها بدراسة للواقع التركي الذي سيحتضنها‬
‫بل تم فرضها بالقوة على المجتمع التركي واستعملت كوسيلة لمحاربة الدين اإلسالمي الذي‬
‫كان يمثل عمق المجتمع آنذاك ما جعل العلمانية التركية تتسم بالطابع االيديولوجي العنيف‬
‫‪.‬كما أنها لم تنبثق من المجتمع التركي ولم تتبناها إرادة الشعب بكل كانت غريبة عنه ف ـ " ال‬
‫ريب أن أتاتورك قد فرض تجربته العلمانية بشكل صارم وجذري على المجتمع التركي لدرجة‬
‫أ نه نجح في زرع فكرة العلمنة عميقا فيه ولكن هذه العلمنة تظل نضالية وجدلية أكثر مما‬
‫هي منفتحة ومرنة وبهذا المعنى فهي خطرة من الناحية الثقافية والعقلية وسوف تظل مهددة‬
‫بالخطر ألنها ال تأخذ بعين االعتبار كل أبعاد المجتمع المدني التركي وخاصة البعد الديني‬
‫لهذا الم جتمع الذي هو أيضا متجذر وعميق كما أنها ال تأخذ بعين االعتبار التعددية العرقية‬

‫‪ -1‬عبد اإلله بلقزيز ‪ ،‬الدولة والدين في اَلجتماع العربي اإلسالمي‪ ،‬منتدى المعارف ‪ ،‬بيروت لبنان ‪ ،‬ط‪،2،2017‬ص‪.32‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخية الفكر العربي اَلسالمي ‪،‬ص‪.278‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد‪،‬ص‪.272‬‬
‫‪215‬‬
‫والطائفية للمجتمع المدني التركي‪ . 1".‬لذا فهذه العلمانية علمانية لها طابع ايديولوجي نضالية‬
‫ليست منفتحة ألنها علمانية تقصي اآلخر منغلقة على ذاتها تماما كالعلمانية الفرنسية‪" .‬فهي‬
‫تظ ل أحادية الجانب وعمياء أو متعامية عن المشاكل الواقعية والحقيقية للمجتمع التركي‬
‫ولهذا السبب نالحظ عودة اإليديولوجيات الدينية والطائفية والعرقية إلى سطح األحداث من‬
‫جديد في السنوات األخيرة‪ ، 2".‬وال يمكن اعتقاد أن أركون يتوجس هذا الرجوع وهو ليس ضد‬
‫عودة الدين وكل ما يرفضه هو الطابع الديني المؤدلج الذي يسعى أركون لتجنبه ألنه يعتقد‬
‫أننا سنكون أمام ايديولوجية أخرى ال تقل خطورة عن اإليديولوجية السابقة وبهذا يعتقد أركون‬
‫أننا لن نستطيع الخروج من نفق اإليديولوجيات المتعصبة وبالعودة للتجربة التركية فإن أركون‬
‫قد انتهى من حكمه عليها بالفشل بعدما ثبت أنها لم تحترم مبادئ العلمانية الصحيحة التي‬
‫تمثلت في الحرية والعدالة والمساواة والعقالنية وهذا هو لبها فمصطفى كمال أتاتورك ظن أن‬
‫هذه العلمانية التي استوردها من الغرب ستمكنه من اجتثاث الدين اإلسالمي ورموزه من‬
‫المجتمع التركي واعتقد أن هذا العمل هو الذي سيخلص تركيا من مشاكلها التي تعيش فيها‬
‫من تخلف وتأخر وتدهور وظن أن الحل الوحيد لذلك يكمن في استعمال منهج علماني‬
‫يقصي به الدين ويرسي حضارة أوربا فيها ولقد غفل أتاتورك عن أن هذا الجانب الروحي‬
‫برموزه مثل عمق المجتمع التركي وال يمكن بأي حال من األحوال استبعاده عنه ولم يستطع‬
‫المجتمع التركي االستمرار من دونه وهذا ما أدى لفشل التجربة التركية في اعتقاد أركون‬
‫"فنقل هذه التجربة العظمى إلى بلد آخر مختلف تماما عن فرنسا بلد ذي تارخية ومرجعيات‬
‫يبق‬
‫ثقافية مختلفة تماما قد ولد احتجاجات كبيرة وردود فعل هائجة‪ ، ".‬فالمجتمع التركي لم َ‬
‫‪3‬‬

‫مكتوف األيدي أمام التجربة العلمانية النضالية فلقد ولدت له عنف مضاد وتعصب آخر‬
‫خاصة من طرف الحركات الدينية التي ظهرت من جديد وتشكلت ضمن أحزاب واندمجت‬
‫في العملية السياسية وتمكنت من الوصول للحكم بواسطة االنتخابات التي أعطت لها‬
‫المشروعية من طرف الشعب بواسطة تزكيتها باألغلبية الساحقة وكانت هذه صفعة قوية‬
‫أعطاها المجتمع التركي في وجه العلمانين وغرورهم ‪.‬‬

‫‪ -1‬محمدأركون‪،‬الفكراَلسالمينقدواجتهاد‪،‬ص‪.272‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.272‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد‪،‬ص‪.272‬‬
‫‪216‬‬
‫في النهاية يمكن القول أن الحركة اإلسالمية المتمثلة في حزب التنمية والعدالة في‬
‫تركيا قد سارت في االتجاه الصحيح بعدما فهمت الدرس جيدا بعد انهيار العلماناوية وليس‬
‫العلمانية في تركيا إذ أنها حافظت على علمانية الدولة والمجتمع وعندما نقول العلمانية هنا‬
‫ِ‬
‫تقص الرموز الدينية ولم تقف موقف العداء ضد الدين بل‬ ‫فإننا نقصد العلمانية التي لم‬
‫بالعكس قد حافظت عليه ألنه أحد مكونات الشعب التركي وبالتالي قدمت علمانية منفتحة‬
‫ومتفتحة على مختلف االتجاهات الدينية والفكرية والعرقية والطائفية والسياسية ‪.‬فهذه هي‬
‫العلمانية التي أعجب بها مفكرنا محمد أركون وهذا هو المنهج الذي ألهم به وأجتهد بكل قوة‬
‫ليبينه في وسط المجتمع الغربي وعند الشعوب العربية اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪ -6‬العلمانية في اإلسالم ‪:‬‬

‫ال يمكننا إدراك تصور أركون للعلمانية وتاريخها في اإلسالم دون فهم لإلطار‬
‫التاريخي والثقافي العام ولمفهوم اإلسالم السياسي ودون تناول لكل ما يشمله هذا األخير من‬
‫آراء تتعلق بموقف اإلسالم من العلم‪ ،‬والملفت لالنتباه هنا أن أهداف محمد أركون من هذا‬
‫هو سعيه لتبيان أصل وتطور هذا المفهوم في اإلسالم عبر مختلف العصور خاصة بعد‬
‫موقف اإلسالم السياسي من الفصل بين الديني والسياسي حيث رفض هذا الفصل لذا فلقد‬
‫اجتهد أركون بكل قوة في تقديم األدلة الدامغة على هذه الرؤية وهذا التصور الذي تبلور في‬
‫المنهج اإلسالمي السياسي منذ بداية الدولة اإلسالمية ولعل هذا ما يحيلنا مباشرة للتساؤل‬
‫عن أصل ونشأة الدولة في التاريخ اإلسالمي فهل كان ذلك له إطار روحي ديني أم أن‬
‫أصل الدولة في اإلسالم يرتسم بالسمات المدنية الزمنية؟‬

‫يؤكد محمد أركون أن الدولة في اإلسالم أصلها زمني مدني ولقد تجلت فيها منذ بدايتها‬
‫وأثناء تطورها عدة محطات مهمة وأحداث كبيرة ووقائع ومواجهات يمكننا وصفها اليوم‬
‫بالعلمانية حتى وإن لم ُي ْنتََبه لها من قبل عززت كلها تأصيل الدولة في نشأتها للطابع المدني‬
‫الزمني ولعل أحسن مثال عليها ما حدث مباشرة بعد وفاة الرسول صل هللا عليه وسلم في‬
‫أحداث سقيفة بني سعد وما حصل من مواجهات دموية بين معاوية وعلي بن أبي طالب وما‬
‫وقع أيضا من صراع بين المذاهب السنية والشيعية والخوارج لذا فالمفكر أركون ال يعترف‬

‫‪217‬‬
‫نهائيا بالتصور الذي يرى أن اإلسالم فصل بين الدين والسياسة وهو يرى أن المجتمع‬
‫اإلسالمي ساده الفكر العلماني في مختلف مراحل تطوره و" أنه تنقصنا في الواقع المراجع‬
‫التاريخية الالزمة لكي نعرف كيف كانت مشكلة العلمنة قد طرحت نفسها داخل هذه‬
‫المجتمعات اإلسالمية‪...‬ذلك أن اإلسالم لم يعرف أبدا في تاريخه تفكي ار فلسفيا يطرح مسألة‬
‫العلمنة كما نفهمها اليوم‪ ،‬هذا ال يعني بطبيعة الحال أن العلمنة لم تعش حياتيا أو لم تعرف‬
‫بيئات إسالمية‪.1".‬‬

‫سننطلق مع مفكرنا أركون في طرحه وإب ارزه لمظاهر العلمانية في اإلسالم من تحديده‬
‫لمحطتين أساسيتين مرت بهما بعثة الرسول صل هللا عليه وسلم فالمحطة األولى يرى أركون‬
‫أن هذه "التجربة التي يمكن تسميتها" بتجربة مكة والمدينة" انطوت على معطيات من نوع‬
‫ديني ومعطيات من نوع دنيوي خاصة بأعمال قائد لجماعة محددة في مجتمع محدد‪ .2".‬فلقد‬
‫اتسمت دعوته في مكة بالطابع الروحي الخالص من خالل الحث على عبادة هللا وحده‬
‫والنهي عن عبادة األوثا ن‪ ،‬أما المحطة الثانية فكانت حين هاجر الرسول صل هللا عليه وسلم‬
‫إلى يثرب وسماها المدينة وفي ذلك إشارة واضحة على معنى معين يحيلنا بشكل مباشر‬
‫لتفسير العديد من األحداث التي تخص العالقة بين الدين والسياسة وأسباب تشكلها في‬
‫اإلسالم وبداية البد من ذكر نقطة مهمة جدا وهي أنه "تطلعنا ثالث حقائق رئيسية‪ ،‬أن‬
‫النصوص الدينية لم ترسم شكال للنظام السياسي وال حددت آليات عمل االجتماع السياسي‬
‫للمسلمين وأن المرجع الوحيد الذي في حوزتنا للتعرف على كيفية تكوين المجال السياسي هو‬
‫التجربة النبوية في " الدولة " المدنية وتجربة الخالفة الراشدة في ما بعد ‪ ،‬ثم أن الدولة التي‬
‫جرت إقامتها على عهد النبي (ص)والخلفاء لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي‬
‫تفهم من عبارة الدولة الدينية‪ 3".‬ألن النصوص القرآنية لم تقدم أي تفسير للشكل الذي يكون‬
‫عليه النظام وال نجد أيضا فيها ما يحدد طبيعة العالقة بين الرئيس والمرؤوس ونفس الشيء‬
‫بالنسبة للسنة النبوية لم تقدم هي األخرى في هذا الشأن أي شرح لهذا الموضوع و " ليس من‬
‫قبيل الصدفة تجاهل القرآن لها فهذا التجاهل نابع من االختيار األول للدين أي للروح‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪ ،‬تاريخية الفكر اَلسالمي ‪،‬ص‪.277‬‬


‫‪-2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.280‬‬
‫‪ -3‬عبد اإلله بلقزيز‪،‬اإلسالم والسياسة ‪،‬دور الحركة اَلسالمية في صوغ المجال السياسي ‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪ ،‬دار البيضاء‬
‫المغرب‪،‬ط‪،1،2001‬ص‪.35‬‬
‫‪218‬‬
‫بالمعنى اإلرادي الحري والباطني كوعاء للرسالة مقابل الدولة التي كانت رديفا لقوة السيطرة‬
‫القهرية‪1".‬ففي واقع الحال؛ المسلمون استحدثوا مصطلح الدولة اإلسالمية وابتدعوه وتحديدا‬
‫بعد وفاة الرسول صل هللا عليه وسلم ومنه فمفهوم الدولة أصال ليس له مرجعية دينية في‬
‫حقيقة األمر وفي هذا يرى عبد اإلله بلقزيز" فإذا كنا نعني بالدين نصوص القرآن الكريم‬
‫فنحن نعلم على وجه القطع أن ليس هناك تشريع قرآني للمسألة السياسية وليس فيه إلزام‬
‫للمسلمين بنظام حكم بعينه وإنما ترك لهم أن يختاروا أمر نظامهم السياسي بأنفسهم وإن‬
‫عنينا بالدين سيرة الرسول الكريم فإن "الدولة " التي أنشأها في المدينة إنما أنشأها باجتهاد‬
‫منه ال بنص ملزم"‪ .2‬جدير بالذكر أن العديد من النصوص القرآنية واألحاديث النبوية دعت‬
‫بإلحاح إلى تحقيق العدل والمساواة في المجتمع وحثت على الشورى في تسيير شؤون الرعية‬
‫وعززت قيم التسامح والتعايش ورد الظلم وفي ذلك تحديد واضح لإلشارات الرئيسية التي‬
‫تبنى عليها الدولة رغم خلو النصوص القرآنية والنبوية من أي تفصيل لآلليات التي تضبط‬
‫الدولة حيث يدخل هنا دور االجتهاد وتفعيل العقل البشري وحاجة المصلحة وهذا ما يفسر‬
‫لنا أن الدولة تقوم على قيم اجتماعية وليس على قيم دينية وبذلك فهي خاضعة لقوانين ال‬
‫لنصوص دينية وبدراس ة لسيرة الرسول صل هللا عليه وسلم يتضح لنا أن أعماله السياسية‬
‫"كانت ممارسات قائد دولة المسلمين ملتزمة أحكاما وموجبات تدبير المصلحة وعليه لم يتردد‬
‫النبي (ص) بأسلوب المساومة مع الخصم لدفعه إلى الحياد أو لكسب والئه أو لدفع مضرة‪،‬‬
‫فعل ذلك مع قبيلة غطفان القوية حليفة قريش حين فوت لها ثلث إنتاج واحة المدينة والتي‬
‫كانت تطمع في السيطرة عليها قصد فك ارتباطها بقريش وتحيدها في الصراع الذي كان‬
‫يشهد انعطافاته وقعة الخندق الحاسمة ‪3".‬كما شهد تاريخ اإلسالم واقعة تعتبر من "أعظم‬
‫الشواهد على ذلك ما جرى في "صلح الحديبية" بين النبي (ص) وقريش والذي لم يشاطره فيه‬
‫بعض صحابته العتبارات "مبدئية" وقد ثبت بالنتائج أن النبي (ص) – وهو موقف سياسي‬
‫محسوب‪ -‬كان أرجح من موقف بعض الصحابة المبدئي خاصة موقف عمر بن‬
‫الخطاب‪ .4".‬هذا ما يجعلنا نجزم أن معظم الممارسات السياسية خضعت لسلطة العقل‬

‫‪ -1‬برهان غليون ‪ ،‬نقد السياسة الدولة والدين ‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪ ،‬الدار البيضاء المغرب‪ ،‬ط‪.4،2007‬‬
‫‪ -2‬عبد اإلله بلقزيز ‪،‬الدولة والدين في اَلجتماع العربي اَلسالمي ‪،‬منتدى المعارف ‪،‬بيروت ‪،‬ط‪،2،2017‬ص‪.64‬‬
‫‪ -3‬عبد اإلله بلقزيز ‪،‬اإلسالم والسياسة ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.41‬‬
‫‪ -4‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.42‬‬
‫‪219‬‬
‫واالجتهاد وما تتطلبه ضرورة المصلحة وبناء على ترتيب األولويات التي توضع في عين‬
‫االعتبار عند تحديد المواقف وحسم األمور وحتى لو اعتبرنا تلك الممارسات السياسية للنبي‬
‫(ص)نابعة من حكومة قائمة فهي في الواقع تمثلت في "حكومة احتكام وليست حكومة حكم‬
‫بمعنى أنه لم يكن يلزم الناس االتجاه إليه –أو إلى غيره – للفصل في الخصومات أو‬
‫المنازعات وهو كان يقوم بذلك إذا رفعت إليه شكوى أو خصومة ولم يكن في عهد النبي‬
‫(ص) فرض للضرائب (على التجارة أو الدخل أو الميراث)وال خراج(ضرائب األرض) وال‬
‫مكوس(ضرائب نقل البضائع) ولم تفرض كل هذه اإلجراءات إال في مراحل الحقة أي عندما‬
‫تأسست الدولة اإلسالمية تدريجيا في عصر الخالفة الراشدة مستفيدة من نظم الفرس ومصر‬
‫والبيزنطيين وغيرها من البلدان التي تم فتحها‪ .1".‬ما يثبت أن النبي (ص) لم يسع أبدا للحكم‬
‫أو للرئاسة بل كان شغله الشاغل والمهم هو إرساء مبادئ العدالة واألخالق الفاضلة والقيم‬
‫العليا واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الهداية للناس ولم يحرض صحابته على‬
‫تأسيس دولة كما يرى البعض وحتى النصوص القرآنية لم تأمر "المسلمين بدولة وال أثار‬
‫حماسهم بالحديث عن منافعها وخيراتها ولكن وعدهم بالجنة والرضى اإللهي والمغفرة ولم‬
‫يطلب منهم أن يحكموا اآلخرين وينتزعوا منهم أراضيهم وأقواتهم ويبيدوا نسلهم‪...‬ولكن طلب‬
‫منهم الرحمة وتبليغ الرسالة والمعاملة الحسنة والتقوى والعدل واإلحسان والصدقة ‪...‬ولم‬
‫يعلمهم علوم السياسة والحرب ‪...‬ولكنه علمهم المبادئ التي تتجاوز مسألة تكوين الدولة‬
‫ذاتها وتمثل الشرط األول لوجودها مبادئ الحياة الجماعية والعمل الجماعي والتعامل المادي‬
‫والتضامن الروحي‪ 2".‬وعليه فالمبادئ والقيم هي ما يمثل لب العقيدة الصحيحة خالفا تماما‬
‫لما تؤمن به االتجاهات اإلسالمية التي وضعت الدولة أساس إلقامة الدين ووضعت الدولة‬
‫فرض من فرائض العقيدة اإلسالمية وبترسيخ هذه القيم النبيلة في المجتمع المسلم سيتمكن‬
‫من تأسيس دولته بكل حرية بما يتوافق مع مصلحته وحاجاته فقد "كانت الدولة عبر التاريخ‬
‫اإلسالمي متأثرة باإلسالم‪...‬في ممارستها والقانون يسنه البشر في ضوء القيم اإلسالمية كما‬
‫يفهمونها ومع ذلك ظلت الدولة اإلسالمية ال بمعنى قوانينها ومسالكها وتراتيبها حية وإنما هي‬

‫‪ -1‬نبيل دباش ‪،‬العلمانية والسلطة نقد خطاب النخبة العربية ‪ ،‬منشورات اَلختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪،2017، 1‬ص‪.197‬‬
‫‪ -2‬برهان غليون ‪ ،‬نقد السياسة الدولة والدين‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.55‬‬
‫‪220‬‬
‫اجتهاد بشري قد يوافقه اجتهاد ويخالفه آخر تمارس قدر من الحياد‪ .1".‬وبالتالي فليس الدافع‬
‫الديني هو الذي يضع أليات السلطة ويستثنى من هذا بعض التوجيهات التي جاءت في‬
‫نصوص قطعية كقانون األسرة والميراث وعدا ذلك فكل الممارسات السياسية منوطة بالعقل‬
‫واالجتهاد يحددها البشر وفق ضرورة المصلحة ومبدأ األولويات ألن المصلحة مرجعيتها‬
‫شرعية وفق القاعدة األصولية التي تصرح " أينما كانت المصلحة فثم شرع هللا" ومنه فال‬
‫حرج في أن نأخذ "بمبادئ الدين في العمل السياسي [ وهذا] أمر مشروع وقد يكون ضروريا‬
‫ألخلقة الحياة السياسية التي تجردت من األخالق وإلعادة ضخ مبادئ الفضيلة والخير‬
‫والتضامن وحرمة الكرامة اإلنسانية والعدل والصدقة واألمانة وغيرها من المبادئ في نسيج‬
‫العمل السياسي وفي عالقة السياسة بالناس‪ .2".‬وهذا ال يعني أن الدين والدولة سواء بل‬
‫يفسر استعمال السياسة للدين فصل ايجابي بين الروحي والزمني وهذا الفصل يخدم الدين‬
‫وحاجيات الدولة والشعب وهذا ليس مستحدثا بل تم الفصل بينهما من طرف النبي (ص)في‬
‫عدة أحداث تشهد وتؤكد هذا نذكر منها ‪:‬‬

‫الشاهد األول‪:‬‬

‫الصحيفة‪:‬‬

‫أثناء هجرة النبي(ص ) من مكة إلى المدينة وبعد وصوله إليها أول ما فعله آنذاك‬
‫"سن دستو ار اسمه "الصحيفة" هذه "الصحيفة"‪...‬تضمنت جملة مواثيق بين المهاجرين‬
‫واألنصار بمختلف قبائلهم الذين اعتبرتهم أمة والقبائل اليهودية من سكان المدينة الذين‬
‫اعتبرتهم كذلك أمة أي يشكلون أمة من دون الناس وهنا الحديث ليس عن أمة الدين وإنما‬
‫عن أمة سياسية ‪...‬وهنا التمايز بين الديني والسياسي‪...‬فالمسلمون أمة عقيدة واليهود أمة‬
‫عقيدة وهم من بقية سكان المدينة يشكالن جمعا يمثل أمة من دون الناس وهي أمة مفتوحة‬
‫لمن لم يلتحق بأرضها كما هي مفتوحة لألجيال القادمة وهذا مفهوم األمة السياسي‪.3".‬‬
‫والمثير لالهتمام أن النبي(ص) في الصحيفة لم يميز بين مسلم ويهودي وال بين القبائل‬

‫‪ -1‬د‪:‬راشد الغنوشي ‪،‬الدين والدولة في الوطن العربي ‪،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬بيروت‪،‬ط‪،1،2013‬ص‪.105‬‬
‫‪ -2‬عبد اإلله بلقزيز ‪،‬الدولةوالدين‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.125‬‬
‫‪ -3‬د‪ :‬راشد الغنوشي‪ ،‬مرجع نفسه‪،‬ص‪.104‬‬
‫‪221‬‬
‫األخرى التي مثلت المجتمع في المدينة آنذاك ألن الصحيفة حملت طابع مدني مرجعياتها‬
‫العالقات المدنية وليس المرجعيات الدينية‪ .‬وبالتالي أصبحت المدينة دولة مواطنين تعامل‬
‫فيها النبي(ص) مع مختلف الجماعات بواسطة عقد اجتماعي الذي يعتبر أكبر دليل على‬
‫وجود الممارسة "العلمانية" في المجتمع اإلسالمي األول ويعتبر أيضا تبرير قاطع للممارسات‬
‫السياسية للنبي(ص)التي تبنى فيها احتواء االختالف الطائفي والعقائدي والجنسي والثقافي‬
‫بكل ما يحمله من تباين في دولة قدمت يديها للجميع دون استثناء مقابل الوالء لها وليس‬
‫للدين ومنحت األمان للجميع والحرية في ممارسة العقائد األخرى‪ ،‬هنا يتضح جليا فصل‬
‫الروحي عن الزمني والتمييز بينهما بائن ولقد " ظل هذا التمايز واضحا في سلوك النبي‬
‫(ص) حتى اختلط األم ر أحيانا بين ماهو ديني سبيله التقيد واإللزام وما هو سياسي وهو‬
‫مجال االجتهاد‪ ،‬أحيانا كان األمر يختلط على الصحابة فيسألون النبي(ص) هل هذا وحي‬
‫ملزم أو هو رأي ومشورة ‪...‬وعندئذ قد يختلفون معه في الرأي ففي أكثر من مرة خالف‬
‫األصحاب الرسول (ص) باعتباره رئيسا للدولة ‪...‬ويأتي صحابي يقول له وهللا أن الموقف‬
‫اآلخر أفضل وبالفعل يتنازل النبي(ص) عن رأيه ويأخذ برأي هذا الصحابي‪ .1".‬بالرغم من‬
‫أهمية الموقف حيث حدث ذلك أثناء غزوة بدر بين الرسول محمد صل هللا عليه وسلم‬
‫و"الحباب بن منذر" وهو صحابي من األنصاروكان ذو رأي ومشورة حيث أخذ النبي محمد‬
‫(ص) برأيه أثناء التخطيط لمعركة بدر فبعدما نزل الرسول محمد صل هللا عليه وسلم‬
‫والمسلمون عند أدنى ماء من مياه بدر قال "الحباب بن المنذر" ‪» :‬يا رسول هللا‪ ،‬أرأيت هذا‬
‫أنزله هللا ليس لنا أن نتقدمه وال نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب‬ ‫المنزل؟ أ منزالً‬
‫والمكيدة؟«‪ ،‬قال‪» :‬بل هو الرأي والحرب والمكيدة«‪ ،‬قال‪» :‬يا رسول هللا فإن هذا ليس‬
‫بمنزل‪ ،‬فانهض يا رسول هللا بالجيش حتى تأتي أبعد ماء من القوم فننزله ونردم ما وراءه‬
‫ماء ثم نقاتل القوم‪ ،‬فنشرب وال يشربون«‪ ،‬فأخذ‬
‫حوضا فنملؤه ً‬
‫ً‬ ‫من اآلبار‪ ،‬ثم نبني عليه‬
‫الرسول محم د (ص) برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه‪ ،‬ثم صنعوا‬
‫الحياض وردموا ما عداها من اآلبار‪.‬فكانت هذه الحادثة لحظة مهمة في تاريخ الدولة في‬
‫اإلسالم حيث أظهرت ممارسة فعلية للمجال الزمني على حساب الروحي وينبغي هنا األخذ‬

‫‪ -1‬د‪ :‬الغنوشي ‪،‬الدين والدولة في الوطن العربي‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.104‬‬


‫‪222‬‬
‫بعين االعتبار تلك اللحظة التي كانت تتلقى الوحي فيها من السماء مباشرة ليبين هذا‬
‫الموقف تميز جلي بين الممارسة العقلية في السياسة والحرب وبين الوحي ويعتبر هذا أكبر‬
‫شاهد على تدبير الرسول (ص) لشؤون المسلمين بواسطة العقل والتشاور ولن نكتفي في هذا‬
‫الصدد بسرد األحداث والوقائع بل وحتى النصوص القرآنية حملت هذا التنبيه كقوله تعالى‬
‫"قل إنما أن بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد"‪ 1‬وكذلك قوله "قل سبحان ربي هل‬
‫كنت إال بش ار رسوال‪ . 2".‬فالوحي لم يجرد النبي محمد (ص) من إنسانيته والصواب هنا أنه‬
‫علينا أن نفرق بين النبي محمد (ص) كنبي حين يتلقى الوحي من هللا ومحمد (ص) كبشر‬
‫يصيب ويخطئ وال تقتصر الشواهد عند هذا فحسب فهي عديدة نذكر منها أيضا واقعة تأبير‬
‫النخل عندما " مر النبي (ص) على قوم في المدينة وهم يؤبرون النخل فقال‪...‬ما أرى هذا‬
‫مفيد أن تضعوا هذا الشيء فظن أهل المدينة أو قسم منهم أنه وحي ‪ ،‬فلم يؤبرون النخل تلك‬
‫السنة فأتى شيصا أي م ار فسألوه لماذا أمرتنا بهذا ؟فقال أنتم أعلم بأمور دنياكم‪3".‬ولعل أعظم‬
‫دليل وشاهد على اجتهاد الرسول (ص) العقلي في إدارة شؤون المسلمين وأحوالهم وأن أفعاله‬
‫وأقواله لم تكن كلها وحي يوحى هو الحديث المهم الذي روي عنه عندما أراد الفصل بين‬
‫خصمين تقدما إليه للحكم بينهما فقال الرسول (ص) إنكم ‪:‬تختصمون إلي ولعل بعضكم أن‬
‫يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق‬
‫أخيه فال يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له من نار‪ ، 4".‬وبالتمعن في هاتين الحادثتين أي حادثة‬
‫تأبير النخل وحادثة الخصمين يتضح لنا جليا الفصل بين الروحي الديني والزمني الدنيوي‬
‫هذا الفصل الذي يثبت بشكل قطعي ال مجال فيه للشك أن العلمانية ممارسة ظهرت في‬
‫الدولة اإلسالمية في وقت مبكر جدا قبل المجتمعات األخرى كالمسيحية ومنه يمكننا الجزم‬
‫"أن اإلسالم على نقيض المسيحية عرف مسا ار علمانيا مبك ار لم تعرفه المسيحية إال بعد‬
‫قرون في مسارها التاريخي ‪ ...‬فالخالف الذي عرفت به النصوص حول مسألة الحكم جعل‬

‫‪ -1‬سورة الكهف ‪،‬رقم‪.110‬‬


‫‪ -2‬سورة اَلسراء ‪،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ -3‬الغنوشي ‪ ،‬الدين والدولة في الوطن العربي ‪ ،‬مرجع نفسه‪،‬ص‪.104‬‬
‫‪ -4‬د‪ :‬نبيل دبابش ‪،‬العلمانية والسلطة‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.108‬‬
‫‪223‬‬
‫الخالف بين الصحابة يطفوا إلى السطح وكل ذلك نتيجة التهميش المبكر للدين من خالل‬
‫ممارسة الدنيوي وتخليه عن الروحي إلى حد التطاول على المقدس"‪.1‬‬

‫يبقى هذا االجتهاد مختزال رغم ما تقدمنا به من شواهد ودالئل على حقيقة وجود‬
‫ممارسات من طرف الرسول (ص) أحيانا روحية دينية محضة وأحيانا أخرى بشرية خاضعة‬
‫الجتهاد العقل مثلت بوضوح العلمانية في المجتمع المسلم منذ البداية وإن لم يتم التصريح‬
‫بها ووضع مفهومها فكانت العلمانية واقع موجود في كل ممارسات المجتمع اإلسالمي‬
‫لتفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي أي بين الوحي المنزل من عند هللا وبين أعمال‬
‫السياسة التي خضعت لميزان العقل والشورى والمصلحة ويرى مفكرنا أن هذه الممارسات هي‬
‫التي حملت بذور العلمانية الحقيقية آنذاك التي ال تشبه إطالقا علمانية الغرب أو علمانية‬
‫بعض المسلمين الذين تأثروا بشكل مباشر بالفكر الغربي وميوله فحملوا بين ثناياهم دسائس‬
‫العلمنة المتزمتة ونقلوها كما هي ألوطانهم ولعل هذا سبق ذكره في طرحنا للعلمانية في‬
‫المجتمعات اإلسالمية العربية كمصر وتونس والجزائر والترك وسوريا أما العلمانية التي‬
‫ارتسمت في المجتمع المسلم األول بزعامة النبي(ص) مختلفة عنها تماما ولقد حث الرسول‬
‫(ص) بشكل واضح على إعمال العقل واالجتهاد في حل شؤون المسلمين وخاصة في بعض‬
‫المسائل التي لم يتقد النص فيها بحل أو لم يتم استيعابها والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا‬
‫لم يتم طرح اشكالية الفصل بين الدين والسياسة من قبل؟ والجواب هو أن ذلك راجع إلى أن‬
‫"اإلسالم الديني كان هو الذي أسس بنفسه للحيز المدني وأكد وشرع له منذ أن جعل الرسالة‬
‫المحمدية خاتمة النبوة وكل وحي في العالم وأعطى العقل بدءا من ذاك الوقت الدور الوحيد‬
‫في تسيير المجتمع والتاريخ حتى قيام الساعة‪2".‬فللعقل اإلنساني قدرة عظيمة في فهم وتفسير‬
‫وتأويل النصوص بشكل صحيح ليوجه أفعاله وفقها من خالل الرجوع للحظة التي تشكل فيها‬
‫تلك النصوص ودراستها من مختلف جوانبها الثقافية واالجتماعية والعقل اإلنساني بإمكانه‬
‫فهم رسالة الوحي بالرغم من أن الوحي مطلق إال أن تفسيره في إطاره التاريخي والثقافي‬
‫واالجتماعي يختلف عن المفهوم الذي يكتفي بالتشكيالت الجاهزة والتأويالت الالهوتية‬
‫المغلقة‪.‬‬
‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.110‬‬
‫‪ -2‬برهان غليون ‪،‬نقد السياسة الدولة والدين‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.341‬‬
‫‪224‬‬
‫هذا هو المنهج الذي أصر عليه محمد أركون الذي تمثل في التاريخية وحث عليها‬
‫ودعا إلعماله ا وممارستها في فهم وتفسير النصوص الدينية واألدبية تفسي ار صحيحا يتحقق‬
‫بعد بناء عقلي لمختلف الحيثيات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل‬
‫األحداث والنصوص األدبية والدينية كما تضع هذه الدراسة في عين االعتبار مركز هذه‬
‫األحداث وهو اإلنسان الفاعل الذي لعب دو ار كبي ار في تشكيل األحداث ويعد من أهم أسباب‬
‫اإلنتاج األدبي في التاريخ فهو كما قال تعالى "إن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما‬
‫بأنفسهم‪ .1".‬إذ أن هللا خلق اإلنسان ومنحه اإلرادة الحرة والعقل السليم ليحدد مكانته في‬
‫وجوده وليتمكن من فرض ذاته على األحداث ويصبح فاعال فيها ومسؤوال عن ما يصدر منه‬
‫وبالتالي يستطيع تشكيل التاريخ ويساهم فيه فاإلنسان يتفاعل مع التاريخ بشكل مباشر يتأثر‬
‫به ويؤثر فيه جدير بالذكر هنا أن نتوقف عند ما جاء في القرآن الكريم من أنواع اآليات‬
‫التي تضمنها فهناك آيات محكمات وأخرى متشابهات وفي هذا الفصل دليل واضح على‬
‫إرادة هللا التي تحث على تفعيل العقل في تأويل وفهم المتشابهات انطالقا من سياقها الفكري‬
‫والثقافي واالجتماعي والتاريخي وكذلك حسب ما تقتضي المصلحة وهذا أيضا ما يعترف به‬
‫االتجاه األصولي نفسه – الحكم يدور مع العلة – هذا المفهوم يتناغم مع السياسة التي‬
‫تسعى لوضع نظم وأحكام بواسطة االجتهاد والعقل وفق ما تتطلبه المصالح وبالتالي فمرجعية‬
‫هذا الطرح الزمني ديني وبالعودة أكثر للبحث في هذا الموضوع نكتشف أن هناك موضوعا‬
‫مهما جدا يستدعي االنتباه والتمعن في أسبابه وهو عدم تفسير الرسول(ص) للقرآن كله فلقد‬
‫ك ان باستطاعة الرسول(ص)تفسيره بما أنه كان نبي والوحي كان يخصه هو إال أن النبي‬
‫محمد (ص) لم يفعل ذلك ألن لو فعل ذلك ألصبح القرآن أحادي المعنى ولتعطل العقل‬
‫عنده وبذلك يتوقف دور اإلنسان في صناعة التاريخ والوجود‪ ،‬وفي هذا إشارة من هللا لإلنسان‬
‫بالبحث والعمل المعرفي حتى يتواصل اإلنسان مع النص القرآني في كل زمان وفي كل‬
‫مكان دون أن يدفع هذا إلى التصادم والمواجهة وهذا أيضا ما يضفي صفة الديمومة على‬
‫القرآن فهو صالح لكل زمان ومكان ومفتوح غير مغلق وهذا ما يؤكد عالمية الرسالة‬
‫اإلسالمية‪.‬وبالتالي فالفصل بين الزمني والروحي هو ممارسة علمانية تحدد وجودها في‬

‫‪ -1‬سورة الرعد‪،‬آية‪.11‬‬
‫‪225‬‬
‫اإلسالم منذ البداية في اللبنات األولى للدولة في اإلسالم على يد الرسول محمد (ص) وإن‬
‫لم يتم ذكر ذلك أو تحديد هذا المصطلح آنذاك غير أن األعمال التي عكست هذا المفهوم‬
‫كثيرة واألحداث التي تشكلت في تلك المرحلة والتي ساهمت في تشكيل التاريخ اإلسالمي‬
‫عكست رؤية علمانية وحملت بذورها منذ البداية مع الرسول محمد (ص)‪.‬‬

‫الشاهد الثاني‪:‬‬
‫‪ -‬أحداث السقيفة‪:‬‬
‫يعتبر ما وقع في سقيفة بني سعد حدث مهم عكس تموضع العلمانية في نشأة الدولة‬
‫اإلسالمية غير أنه سبقه حدث أهم بكثير مما جاء بعده وهو ما يعرف في كتب السنن وعند‬
‫الرواة بيوم الرزية وترجم بوضوح اختالف الصحابة وتباين مواقفهم أثناء مرض الرسول (ص)‬
‫الذي توفي بعده وصور هذا الحدث مشهد صادم حيث "يروي ابن سعد عن ابن عباس أنه‬
‫قال ‪ »:‬يوم الخميس وما يوم الخميس ‪ .‬قد اشتد برسول هللا(ص)وجع في ذلك اليوم فقال‬
‫ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا ال تضلوا بعده أبدا‪ ،‬قال بعض من كان عنده ‪ »:‬إن‬
‫نبي هللا ليهجر‪...‬فكان رد عمر ابن الخطاب "عندكم القرآن وحسبنا كتاب هللا " فوقع اختالف‬
‫بين أهل البيت فمنهم من كان يقول قربوا يكتب لكم رسول هللا ومنهم من كان يقول برأيكم‬
‫حسبكم القرآن وبعد كثرة اللغط واالختالف وغموا رسول هللا قال "قوموا عني" "‪ .1‬قدم هذا‬
‫الحدث فكرة واضحة عن بداية الخالف بين الصحابة ومثل هذا التصادم نقطة فاصلة في‬
‫تاريخ المجتمع اإلسالمي بين ما تقدم من أحداث وما جاء بعد ذلك من نتائج لهذا االختالف‬
‫لغاية مقتل عثمان بن عفان وفي اللحظة التي انتقل فيها رسول هللا صل هللا عليه وسلم إلى‬
‫الرفيق األعلى وبينما كان أهل بيت النبي منشغلين بتحضير دفن الرسول(ص) اجتمع جمع‬
‫من األوس والخزرج في سقيفة بني سعد من أجل النظر في استخالف خليفة لرسول هللا‬
‫(ص)بعد وفاته ولقد اختلف القوم حينها قبل دفن الرسول (ص) عن من هو األحق بالخالفة‬
‫فلقد "اجتمع قادة األوس والخزرج في سقيفة بني سعادة الختيار خليفة رسول هللا(ص) من‬
‫بينهم وقد سارعوا على هذا االجتماع ليختاروا من أرادوا في غياب المهاجرين المنشغلين‬
‫بموت رسول هللا(ص) من خالل اقتحام السقيفة‪ ،‬تنبه أو بكر الصديق وعمر بن الخطاب‬

‫‪ -1‬نبيل دبابش‪ ،‬العلمانية والسلطة ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.111،112‬‬


‫‪226‬‬
‫ومعهم مجموعة من المهاجرين فسارعوا إلى السقيفة – دون علي ابن أبي طالب الذي كان‬
‫منشغال بترتيب دفن الرسول(ص) – فسجل الرواة حدوث سجال بين أبي بكر وعمر من جهة‬
‫المهاجرين وسعد بن عبادة من جهة األنصار أساسه المناورة والمواجهة مع اعتماد كل فئة‬
‫لغة العنف والتهديد دون أدنى تقيد باالعتبارات الدينية ‪.1".‬‬
‫الواقع أن ما يهمنا في هذا الحدث ليس إبراز التصادم الذي وقع بين الصحابة‬
‫والمواجهة العنيفة بينهم من أجل الخالفة بل ما يهمنا هنا أن الخالف لم يكن راجع لعلة دينية‬
‫روحية إنما كان بسبب العصبية والقبلية كما ذكرت الروايات التي أكدت ذلك من خالل‬
‫اقتراح تنصيب أميرين واحد من األنصار وآخر من المهاجرين ( منكم أمير ومنا أمير ) ولقد‬
‫عكس هذا الحدث أيضا تفهم جميع األطراف لهذا االختالف الذي نشب أثناء وفاة‬
‫الرسول(ص)رغم أنه غريب عن المجتمع المسلم آنذاك فلقد كان األمر طبيعيا عندهم ولم‬
‫يتردد أي طرف في السعي له هذا ما يفسر قيام الرسول (ص) بهذا األمر وعلمهم به عنه‬
‫فلقد الحظوا فصل الرسول (ص) بين الزمني الدنيوي وبين الروحي الديني كما أن الرسول‬
‫(ص) لم يحث المسلمين على إقامة دولة أبدا وربما كان هذا ما دفعهم للتنافس على الخالفة‬
‫فلو افترضنا أن هناك نص قرآني أو حديث نبوي عن الرسول محمد(ص) ما تورط الصحابة‬
‫في مواجهة مع بعضهم البعض خاصة في تلك الظروف التي كانت تستدعي االنتظار‬
‫احتراما للموقف الجليل الذي تمثل في دفن الرسول (ص) هذا وقد نقل الشيعة عن الرسول‬
‫(ص) أنه أوصى بالخالفة من بعده لعلي بن أبي طالب يوم الغدير بعد عودته من حجة‬
‫الوداع إال أن هذا لم ِ‬
‫ينف وجود فصل بين الزمني وبين الروحي في تلك المرحلة المبكرة من‬
‫مراحل نشأة الدولة اإلسالمية وهذا ما برهنت عليه الشواهد والدالئل التي تقدمنا بها سابقا‬
‫وخاصة التي تلت وفاة الرسول(ص) والتي كانت منعرجا خطي ار مثل بداية فصل جديد في‬
‫التاريخ اإلسالمي وأسست للفكر السياسي الذي تبلور بعد احتدام الصراع حول الخالفة‬
‫واستمرار التصادم عليها ولقد كانت "أحداث السقيفة وقبلها وانشغال زوجات الرسول بأمر‬
‫السلطة هي أفضل نماذج تاريخية تسطر الوجه الذي ستكون عليه السياسة ومؤسسة الخالفة‬
‫في اإلسالم فاختالف الناس لم يكن حول العقيدة ‪...‬بل كان حول أمور دنيوية وهو ما‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.112‬‬


‫‪227‬‬
‫‪1‬‬
‫يوصف بالمدنس والذي سيجعله التشريع في مرحلة الحقة من أسس الدين واإليمان القويم‪".‬‬
‫فتأخر مبايعة علي ألبي بكر وعدم مبايعة كل من سعد بن عبادة األنصاري وهو زعيم‬
‫الخزرج قبل اإلسالم والزبير بن العوام وهو ابن عمة الرسول (ص) وابن أخ زوجته خديجة‬
‫رضي هللا عنها والعباس ابن عبد المطلب عم رسول هللا (ص) وحبر األمة وغيرهم من بني‬
‫هاشم ألعظم برهان على التميز بين الزمني والروحي واختالف الصحابة على البيعة وتأخرهم‬
‫عنها وعدم حث النبي(ص) صحابته على إقامة دولة يؤكد أن مرجعية الدولة في اإلسالم‬
‫ليست دينية بل عقلية زمنية‪ ،‬وهذا يدل على أن السياسة والسلطة ليس لها عالقة بالدين وال‬
‫تتعارض معه بسبب عدم وجود نصوص دينية ال من القرآن وال من السنة تفصل في نظام‬
‫الحكم والسلطة لكن كانت المسألة كلها نتاج اجتهاد وتشاور حول السلطة وتسيير شؤون‬
‫األفراد داخل الدولة على اختالف مللهم وأجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم بما تقتضي المصلحة‬
‫وضرورة التعايش واالتفاق وهذا ما أكده النص القرآني من خالل قول هللا تعالى‪" :‬وأمرهم‬
‫شورى بينهم "‪ –2‬وأيضا قوله‪":‬وشاورهم في األمر"‪ ،3‬وكذلك ما أقره الرسول (ص) من خالل‬
‫قوله‪ " :‬ما خاب من استشار" لذا فالشورى والعقل واالجتهاد هم آليات السلطة والحكم في‬
‫الدولة اإلسالمي ة فيما ال نص فيه وهذا يعكس مفهوم حديث معاصر وهو ديموقراطية اليوم‬
‫بشكل مباشر وصريح ألن هذه اآلليات لم تستمد مرجعيتها من الدين وإنما ارتكزت فعليا على‬
‫العقل ما يطرح مفهوم السياسة في هذا المجال الذي يجيب عن االستفهامات ويفسر‬
‫الغموض ويحل المسائل بالرجوع للمصلحة السياسية العامة وهذا فعال ما حصل بعد استمرار‬
‫الخالفة ووصولها لألمويين والعباسيين ومختلف السالطين الذين وقفوا على الحكم بعد‬
‫المراحل األولى لنشأة الدولة اإلسالمية‪ .‬وحتى من تولى الخالفة من الصحابة بعد وفاة‬
‫الرسول (ص) مثل‪ :‬أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي هللا عنهما فلقد كانت مرحلة خالفتهم‬
‫مكتظة باألحداث والوقائع التي أكدت فصل الزمني عن الروحي ونستشهد منها حادثة حروب‬
‫الردة "التي أطلقها الخليفة أبو بكر الصديق ضد المرتدين لم تنته إلى إعادة فرض اإلسالم‬
‫دنيا العرب وإنما إلى إعادة فرض سلطان دولة المدنية على تلك األطراف المتمردة والفارق‬

‫‪ -1‬نبيل دبابس‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.113‬‬


‫‪ -2‬سورة الشورى‪،‬اآلية ‪.38‬‬
‫‪ -3‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.159‬‬
‫‪228‬‬
‫بين األمر كبير لقد جادل أبو بكر كبار الصحابة في شأن منع الزكاة وفي ما إذا كانت‬
‫خروجا عن الدين كما يقول هو ‪ :‬أو عصيانا على الدولة وكان من هؤالء الصحابة من احتج‬
‫على رأيه بأن مانعي الزكاة لم يسقطوا الصالة وال الشهادتين حتى يستفاد من تمردهم بأنه‬
‫خروج عن الدين "‪ 1‬انكار كبار الصحابة لموقف أبي بكر من مانعي الزكاة يؤكد الممارسة‬
‫السياسية العقلية للخليفة ألن هذا الحدث لم يرد فيه نص ديني ألنه لو ورد في ذلك نص‬
‫قرآني أو حديث نبوي لما ناقش كبار الصحابة في ركن من أركان اإلسالم ومنه فقضية‬
‫الخالفة ونظام الحكم وآليات السلطة في تاريخ المجتمع اإلسالمي لم تخضع لمعايير دينية‬
‫بل كان ذلك من منطلق عقلي وعصبي وقبلي للفصل في من يحكم وكيف يتم ذلك ولعل‬
‫معركة صفين ومعركة الجمل أكبر دليل على ذلك‪ ،‬ومن هنا يتبين لنا أن تلك الممارسات‬
‫السياسية في حقيقة األمر كانت ممارسات "علمانية" ودلت على عمق المدنية في المجتمع‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫الدولة األموية‪:‬‬
‫لقد استمرت ‪ -‬بعد أحداث الخالفة وما سبقها‪ -‬الشواهد على الممارسة السياسية في‬
‫المج تمع المسلم من خالل الدولة األموية أو ما يسمى بالخالفة األموية حيث تعتبر هذه‬
‫المرحلة أيضا مظه ار آخر من مظاهر الممارسة العلمانية في التاريخ اإلسالمي والتي انطلقت‬
‫" منذ ‪661‬م أي بعد ثالثين عاما من وفاة النبي ففي ذلك التاريخ استطاع معاوية أن يستولي‬
‫على السلطة ويجعل مركزها دمشق ويصفي دمويا أنصار علي ابن أبي طالب هؤالء‬
‫األنصار الذين سيصبحون فيما بعد الشيعة‪ ،‬لقد قام معاوية بانقالب دموي حقيقي من أجل‬
‫االستيالء على السلطة وتحقيق أهدافه ولكن "الخلفاء" األمويين في دمشق راحوا يخلعون رداء‬
‫الشرعية الدينية على ما فعله بعد أن انتصر وقد تم ذلك بمساعدة رجال الدين الذين ابتدأوا‬
‫في تشكيل علم الهوت رسمي وكانت تلك بداية علم الكالم (أي التيولوجيا مع كل المناقشات‬
‫الحامية التي رافقت تشكله والتي ال نزال نجهلها كثي ار ولكن هنا تكمن قصة الخالفة في‬
‫اإلسالم‪ ،2".‬فالخالفة األموية منذ نشأتها قامت على أساس عصبي وليس على أساس ديني‬
‫كما يظن البعض‪ .‬وبالتالي فالحكم األموي آلياته عكست التميز بين الذروتين السياسية‬

‫‪ -1‬عبد اإلله بلقزيز ‪ ،‬الدين والدولة‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.105‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬العلمنة والدين‪،‬ص‪.89،90‬‬
‫‪229‬‬
‫والدينية " فمبدأ الخالفة ال يميز بين النص وبين التاريخ التي تحكمت في مساره عوامل‬
‫متعددة جعلت من الزمني هو صانع المعنى وليس العكس وهو ما حدث فعليا منذ‬
‫وفاته(ص) حيث لم نسمع عن خليفة واحد ترك الوالية لغيره أو تم عزله بالطريقة‬
‫السلمية‪...‬وال عرفنا قواعد متبعة في موضوع الشورى متفق عليها بل الكل يؤولها بالشكل‬
‫الذي يجعلها تبقيه في السلطة أو تضمن بقاء عشيرته في أسوء الحاالت هل ينكر‪...‬أن‬
‫الخليفة الثالث رفض التخلي عن الخالفة عندما خيروه بينه وبين الموت‪ .1".‬والغاية هنا من‬
‫طرح هذا الحدث تتمثل في الكشف عن أصل الخالفة وطبيعتها ابتداء من أحداث السقيفة‬
‫وما قبلها رافقت وفاة الرسول(ص)والتي برهنت على أن الخالفة والحكم في اإلسالم ممارسة‬
‫سياسية عكست تصورعلماني ولم تكن أبدا ترجع ألصل ديني أو شرعي وتج أر الصحابة على‬
‫تلك الممارسة واالختالف عليها إلى حد القتال فيما بينهم أكد أن تلك الممارسة غير مقدسة‬
‫ولو كانت كذلك لما استباح األمويون في عهد "يزيد ابن معاوية ‪...‬دم الحسين بن فاطمة‬
‫بنت رسول هللا(ص)‪ ،‬وهل غير تلك العوامل سلطت يزيد ابن معاوية على عاصمة الخالفة‬
‫األولى بهتك حرماتها وهي مدينة رسول هللا(ص) وهل استحل ملك بن عبد مروان بيت هللا‬
‫الحرام ووطأ حماه إال حبا في الخالفة والغيرة عليها ومن وراء الحب والغيرة قوة قاهرة‪.2".‬‬
‫ما يدل على أن الخالفة آنذاك لم تؤسس على شورى بل قامت في عهد األمويين‬
‫على القهر وفرض القوة على المعارضين ولم يثبت في التاريخ أبدا أن اجتماع على الخالفة‬
‫تم بشكل صحيح "إن فكرة إجماع الصحابة أو أهل الحل والعقد ‪...‬على نصب إمام نيابة‬
‫عن رسول هللا(ص) هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة ألن اإلجماع في هذه المسألة‬
‫بالذات لم يحدث أبدا على مدى التاريخ فالخالفة لم ترتكز إال على أساس القوة‬
‫والترهيب‪...‬ألم يقتل الصحابة في المراحل األولى بعد وفاته(ص)ألجل السلطة ولم يجدوا ما‬
‫يحتكمون إليه سوى نزعتهم القبلية‪ 3".‬فلقد كانت القواعد واضحة للجميع ولم تكن خفية على‬
‫أحد أن الخالفة كانت لمن له الغلبة وهذا ما يفسر عالقة الدين بالسياسة فالسلطة والدولة‬
‫مصدرهما وضعي وهي نتاج اجتهاد إنساني " مصدر وضعي بشري غير متعال أو مقدس‬

‫‪ -1‬نبيل دبابش‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.145،146‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.158،159‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.158‬‬
‫‪230‬‬
‫وأن الحكم فيها ال يمضي باسم السماء بل باسم مبدأ اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ولكن‬
‫ال أحد يملك أن يمنع السياسة من أن تستنبط أو تستلهم بعض المبادئ العليا للدين مثل‬
‫العدل والتضامن والتكافل والرحمة والغفران ونكران الذات فستدخلها في منظومة التشريع كما‬
‫استدخلت اإلنسانية الحديثة الكثير من المبادئ‪1".‬فأصل الدولة في اإلسالم مدني خضعت‬
‫منذ البداية لممارسة العقل واالجتهاد والوضع في عين االعتبار المصلحة العامة إال ما جاء‬
‫في بعض النصوص القرآنية القطعية مثل قانون األسرة التي أخذتها في عين االعتبار تلك‬
‫الدولة المدنية تماما ما دعت إليه العلمانية الصحيحة المنفتحة والتي يلح عليها محمد أركون‬
‫دولة ال تقصي الدين من الحياة االجتماعية وال من الحياة السياسية بل تحترمه وتحميه من‬
‫االستعماالت الالهوتية ‪.‬‬
‫‪ -7‬التصور األركوني للرؤية االعتزالية‪:‬‬
‫من خالل كل ما تم تقديمه في هذا البحث وإن كان مختص ار فهو يعكس تصور محمد‬
‫أركون عن انفتاح اإلسالم على العلمانية حيث يؤكد بدراسته على التاريخ اإلسالمي أن‬
‫المجتمعات اإلسالمية عرفت في وقت مبكر عدة تجارب وممارسات علمانية ولعل التاريخ لم‬
‫يبخل علينا مرة أخرى من أن يقدم شواهد أخرى تشهد على وجود هذه الممارسة في القرون‬
‫األربعة األولى للهجرة حيث برزت حركة ثقافية تنويرية تمكنت من إحراز خطوة مهمة‬
‫بإحداث القطيعة مع األفكار القديمة من أجل فك قيود السلطة الدينية ولقد عرفت آنذاك هذه‬
‫الحركة بالمعتزلة وفي هذا الصدد يصرح محمد أركون " فالواقع أنه وجدت في أرض اإلسالم‬
‫بين القرنين والثالث للهجرة من المثقفين يدعون بالمعتزلة لقد وصل األمر بهؤالء المفكرين‬
‫إلى حد طرح مشكلة ما دعوه "بالقرآن المخلوق" إن مجرد اعترافهم بأن القرآن مخلوق يمثل‬
‫موقفا فريدا تجاه ظاهرة الوحي إنه يمثل موقف حداثة في عز القرن الثاني للهجرة ‪/‬أو الثامن‬
‫للميالدي‪...‬وهذه الحركة الفكرية األصلية (أي المعتزلة مرتبطة باألطر االجتماعية للمعرفة‬
‫وليس باإلسالم كدين بمعنى أن التطور االقتصادي واالجتماعي للمراكز الحضرية الكبرى قد‬
‫تحكم مباشرة بانتشار العلوم العقالنية المؤدية لعلمنة الفكر والوجود‪.2".‬‬

‫‪-1‬عبد اإلله بلقزيز‪،‬الدولةوالدين‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.100‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬العلمانية والدين ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.59،60‬‬
‫‪231‬‬
‫ففرقة المعتزلة عالجت إشكاليات فكرية ليس بالرجوع للوحي وإنما استثمروا ما حصلوه من‬
‫معارف من الحضارة اإلغريقية في حلها والبحث في تفسير الغموض الذي اعت ارها ولقد كان‬
‫هذا اإلجراء منعرجا خطي ار في تاريخ الفكر اإلسالمي وتطلب جرأة كبيرة منهم لخوض غمار‬
‫هذه المغامرة التي زعزعت المجتمع العربي اإلسالمي باألسئلة وبتناول جريء لمختلف‬
‫القضايا التي بقيت لوقت طويل حبيسة التقديس حيث " عالجوا مسائل فكرية أساسية انطالقا‬
‫من ثقافتهم المزدوجة المرتكزة على الوحي اإلسالمي والفكر اليوناني ‪ ،‬كما أدخل المعتزلة‬
‫بعدا ثقافيا ولغويا في طريقة طرحهم مسألة خلق القرآن واعترفوا بمسؤولية العقل ودوره في‬
‫فهم النص الموحى وامتالكه غال أن األمر حسم لصالح الخط األشعري الممثل للخط‬
‫الرسمي‪1".‬للدولة حينها ‪ ،‬أي الناطق الرسمي للسلطة والسياسة الرسمية ولقد تم إعالن العداء‬
‫ضد فرقة المعتزلة التي مورست ضدها أبشع صور االضطهاد وتلفيق التهم حيث تم احتقار‬
‫أتباعها وأشيع عنهم أنهم يقدسون العقل على حساب النص القرآني ويقدموه عليه وتم نبذهم‬
‫واقصاؤهم وعزلهم واتهموا بالكفر والظالل لكن في الواقع هذه الفرقة االعتزالية مثلت خطوة‬
‫مهمة فكرية وثقافية بعد الذي وصلت إليه من اكتشاف وإبداع وتحرر واستطاعت فك قيود‬
‫األرتودوكسية التي اجتهدت منذ وقت طويل من أجل فرض سطوتها الدوغمائية على اإلنسان‬
‫من أجل تحقيق أغراضها الذاتية ومصلحتها الخاصة ومن أجل خدمة اتجاهات ايديولوجية‬
‫خاصة فلقد استطاعت الحركة االعتزالية من استنبات بذور اإلنسية في المجتمع المسلم‬
‫واسترجعت قيمة العقل واإلنسان ودوره في االجتهاد ألنه هو الذي يتمكن من فهم وتفسير‬
‫النصوص القرآنية وألنه هو الذي سيضع اآلليات والقواعد اللغوية لذلك فالمعتزلة أقروا بشكل‬
‫مباشر بمسؤولية العقل في فهم وتفسير معاني الوحي ودالالته لكن لم يدم هذا االتجاه طويال‬
‫فسرعان ما تم إعالن الحرب ضده و إقصاؤه من طرف السلطة الحاكمة بمباركة رجال الدين‬
‫الذين سعوا عند الخليفة القادر من أجل الوقوف في وجه المعتزلة ونبذهم حيث أصدر أحكاما‬
‫قاسية ضد اتباع المعتزلة كإهدار دمهم واتهم كل من يتبنى فكرهم بالخروج عن الملة‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬وفي األخير نستطيع الجزم أن المعتزلة مثلوا اتجاها فكريا عقليا متحر ار فك ار‬
‫تنويريا حداثيا وتبنوا بهذا التصور مسألة الفصل بين الروحي والزمني وأقروا به‪.‬‬

‫‪َ -1‬ل يوجد‬


‫‪232‬‬
‫مما سبق ذكره في هذا البحث من شواهد ودالئل كلها تثبت بشكل ال يترك أي مجال‬
‫للشك فيه أن المجتمع اإلسالمي وقف على عدة محطات مختلفة تجلت فيها الممارسات‬
‫السياسية بوضوح وعكست بوضوح أيضا ممارسات علمانية وإن لم يتم التصريح بها وهذا‬
‫جراء الفصل بين الذروتين الدينية والسياسية التي انطلقت أولى أشكالها مع الرسول‬
‫محمد(ص) أثناء تواجده في المدينة من خالل الصحيفة‪ ،‬والخالف بين الصحابة الذي حدث‬
‫أثناء احتضار النبي(ص) عندما أراد أن يترك الوصية‪ ،‬ومن بعد وفاته (ص) واالختالف‬
‫على من هو أحق بالخالفة في أحداث السقيفة ‪ ،‬ثم ما حدث بعد ذلك عبر تاريخ حافل‬
‫بالشواهد كمعركة صفين والجمل ومواجهة معاوية وعلي بن أبي طالب رضي هللا عنه إلى‬
‫غاية ظهور الدولة األموية والعباسية واألمراء والسالطين العثمانيين فكل تلك المحطات‬
‫والتجليات تعكس لنا أن أصل السلطة علماني وليس ديني كما هو سائد اليوم في فكر‬
‫اإلسالميين‪ ،‬هذا إضافة إلى أن التراث اإلسالمي بلور الفترة النبوية في عصر تأسيسي‬
‫أسطوري بهدف سياسي وتاريخي خاص‪.‬‬

‫‪ -8‬العلمنة والعقالنية‪:‬‬

‫يجمع الجميع على أن ما وصلت إليه العلوم اإلنسانية واالجتماعية حاليا من مناهج وأدوات‬
‫علمية حديثة ساهم بشكل فعال في إعادة بلورة التصورات التقليدية وتصحيحها وتقديم إجابات‬
‫وتبريرات جريئة و مقنعة عن العديد من القضايا الغامضة واألحداث المهمة المشكلة للتاريخ‬
‫التي اعتبرت لوقت بعيد كحقائق مطلقة وأحكام مقدسة ال يجوز التفكير فيها واستسلمت لها‬
‫العقول لفترة طويلة بعد أن انفرد التفكير الالهوتي بالكالم عن معتقدات المجتمع وتفسر ما‬
‫جاءت به األحداث واألديان تفسي ار بعيدا عن العقل والحقيقة وجعل منه وسيلة لخدمة السلطة‬
‫ولفرض ايديولوجيات معينة وللحفاظ على استقرار الحكم في يد الدين فعزلت العقل وأغلقت‬
‫عليه بقيود القداسة وكبلته‪ ،‬هذا ما حدث للفكرالغربي والفكر اإلسالمي‪،‬مما دفع محمد أركون‬
‫لوضع مشروعه الحداثي العلماني من أجل تطبيق مناهج العلم الحديثة على التصورات‬
‫اإلسالمية التقليدية حتى نتمكن من فك قيود التفكير الديني على العقل فأركون يرى أن الفكر‬
‫العربي اإلسالمي "سيطرت عليه مسلمات اإليمان اإلسالمي‪،‬لقد ركز عمله على تحرير هذا‬

‫‪233‬‬
‫الفكر من كل ما يحول بينه وبين التجدد‪...‬وهنا تكمن نقطة البداية في منهج مفكرنا‪ .1".‬فما‬
‫قدمه النص المقدس في رأي محمد أركون من قواعد وتشريعات وتوجيهات تناوله رجال الدين‬
‫بواسطة عقل أورتودوكسي اعتبر إلى حد بعيد أحكامه مطلقة ثابتة لم يسمح أبدا بتناولها‬
‫أودراستها أو حتى التفكير فيها وفسر الحقائق واألحداث بشكل منفرد رافضا أي شكل من‬
‫أشكال التبادل الفكري والثقافي وبالتالي تمكن من فرض إطار منغلق واستطاع هذا الفكر أن‬
‫يتمسك بسيرورة التاريخ وحركيته وتحديد المفاهيم األساسية عن العالم واإلنسان وفق اتجاهه‬
‫الدوغمائي حتى أصبح اإلنسان غير فعال في تشكيل التاريخ كونه أصبح متلقيا عاج از بعقل‬
‫مستسلم لألقدار واألحكام الدينية منغلقا ومكبال بأغالل الفكر الدوغمائي‪ ،‬جديربالذكر أن‬
‫المشكل هنا ليس في النصوص الدينية وإنما في التفسيرات والتأويالت التي لحقت بها والتي‬
‫اكتفت ب تقديم تفسير واحد واقتصرت دراستها للنص الديني على وضع شروحات منفردة وكثي ار‬
‫ما كانت تتعارض مع النصوص القرآنية وال تتوافق معها فالقرآن في حد ذاته حث اإلنسان‬
‫على تحمل مسؤوليته في التعامل مع الواقع وبالتالي في تغيير األحداث وتشكيلها ومنه شجع‬
‫بشكل مباشر اإلنسان على صناعة واقعه وتاريخه بنفسه يقول هللا تعالى " إن هللا ال يغير ما‬
‫بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪ .2".‬قدمت هذه السورة معنى واضح وجلي لإلنسان من أجل أخذ‬
‫زمام األمور في تغيير الواقع الذي يعيشه ومن أجل المساهمة في تشكيل األحداث والتاريخ‪.‬‬
‫عكس ما ولده الفكر الالهوتي من استسالم وعجز بعدما عزل اإلنسان عن العقل وإنتاجاته‬
‫وجمد حركته واستطاع أن يجعل "المعرفة بهذا المعنى هي مجرد استنباط لغوي من‬
‫النصوص أو عمل معنوي سيمانتي وليس عبارة عن استكشاف حر للواقع يؤدي إلى التجديد‬
‫المعنوي و المفهومي في كل المجاالت‪ ،‬لقد رسخ األصوليون هذه النظرية عن طريق تشكيل‬
‫علم األصول الذي ولد التماسك التيولوجي وكل البناء األخالقي والتشريعي ‪...‬راحت تزايد‬
‫من سماكة السياج الدوغمائي وتقوي من انغالقه عن ذاته‪ ،3".‬تلك هي النتيجة التي آل إليها‬
‫العقل وأصبح فيها بال قدرة أسير المعطيات القبلية والتي لم يشارك في وضعها ولم يسمح له‬
‫بمناقشتها أو رفضها بل خضع اإلنسان داخل إطارها لمسلمات وحقائق فرضت عليه قص ار‬

‫‪ -1‬د‪:‬نايلة أبي ناذر – التراث والمنهج بين أركون والجابري ‪،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ‪ ،‬لبنان ‪ ،‬ط‪،1،2008‬ص‪.121‬‬
‫‪ -2‬سورة الرعد ‪،‬آية‪.11‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.07‬‬
‫‪234‬‬
‫فكبلت حركته وأوقفت إبداعه وثبطت إنتاجه الفكري في حدود رسمها الفكر األورتودوكسي‬
‫مسبقا‪ .‬غير أن هذا ال يتفق أبدا مع ما جاءت به العلمنة بل وترفضه تماما وتضعه جانبا‬
‫وتستخلفه باتجاه ال يؤمن بالمطلق وال باألحكام المقدسة وينطلق من مبدأ ثابت في اكتشاف‬
‫الحقائق وتفسيرها وهو مبدأ النسبية التي تخضع كل ما جاءت به النصوص الدينية‬
‫واألحداث السابقة للشك والنقد اإلبستيمولوجي ليتمكن العقل به من إحداث القطيعة مع الفكر‬
‫التقليدي واال نطالق لخوض غمار المعرفة العقلية الحديثة والبحث العلمي السليم لذا فمحمد‬
‫أركون يحث المسلمين ألخذ زمام األمور في االجتهاد من أجل فك قيود الفكر الكالسيكي‬
‫المنغلق وكسر الحواجز التي أعاقت العقل اإلسالمي لوقت طويل حتى يتمكن من اإلنتاج‬
‫الفكري واإلبداع الذي يمكن العقل من االستمرار في حركته وتطوير واقعه الذي سيجعله‬
‫يكتب تاريخه من جديد بشكل علمي مستندا في هذا على البحوث والمناهج العلمية الحديثة‬
‫التي تمكنت سابقا من زحزحة التصورات الدوغمائية في أوربا واستطاعت أن تقدم حقائق‬
‫وتأويالت وتفسيرات مبنية على المعرفة العلمية الحقيقية وليس على األساطير التي تولدت‬
‫من الفكر الالهوتي وهذا نفسه ما تم في تاريخ العقل العربي اإلسالمي الذي البد له أن يقوم‬
‫من جديد حسب أركون بواسطة إحداث القطيعة اإلبستيمولوجية مع المفاهيم الكالسيكية‬
‫الالهوتية أوال ثم تبنى اإلسالميات التطبيقية كمنهج قائم بذاته من أجل عقلنة الفكر‬
‫اإلسالمي وإرساء الحرية والحداثة في المجتمعات المسلمة لتتمكن من دراسة التراث‬
‫اإلسالمي دراسة عميقة بواسطة اإلسالميات التطبيقية وما تحويه من أدوات بحث في‬
‫مختلف المجاالت العلمية " فاإلطار المعرفي الذي يتشبث به الباحثون في الفكر اإلسالمي‬
‫والدارسين للمجتمعات المنعوتة باإلسالمية ال يزال مرتبطا باإلطار المعرفي اإلسالمي‬
‫الموروث أكبر مما هو مرتبط بما كنت قد دعوته بالعقل االستطالعي أو‬
‫المستقبلي» ‪ « Raisin Emargent‬وأقصد به العقل الجديد الذي يطمح إلى التعرف‬
‫على ما منع التفكير فيه‪...‬لكن تبقى مشروعية أنواع السلطة وقداسة أنواع الحاكمية مؤثرة في‬
‫المخيال الديني والسياسي تأثي ار ميثولوجيا تقديسيا تأليهيا مهما كانت الظروف التاريخية‬
‫واألثر الثقافية والبيئات االجتماعية واألوضاع االقتصادية‪ .1".‬هذا التناقض هو ما فسر‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬قضايا في نقد العقل الديني ‪،‬ص‪.07‬‬


‫‪235‬‬
‫تصادم الدين مع العلمنة ووتر العالقة بينهما إلى حد بعيد وهذا ما يجتهد فيه محمد أركون‬
‫من أجل إعادة بلورة تصور جديد للدين والعلمانية يحدد من خالله عالقتهما التي تسمح‬
‫بتعايش الذروتين دون تصادم‪.‬وفي هذا يقول محمد أركون "وعلى هذا الصعيد ينبغي علينا‬
‫أن نقلص العلمنة إلى مجرد خط للقاء بين المسلمين والمسيحيين فالخصومة ليست موجودة‬
‫فقط بين األديان نفسها وإنما بين العلمنة والدين ‪...‬ذلك أنه ينبغي على كل العائالت الروحية‬
‫وكل االتجاهات الفكرية أن تتفق على إعادة تفحص مكانة العامل الديني في المرحلة الراهنة‬
‫من الحداثة‪1".‬في هذا الطرح يقدم محمد أركون نقطة مهمة لصالح الدين فهو يدعو هنا‬
‫إلعادة االعتبار لألديان واحترامها إال أنه ال يدعوا لتبنى الدين والوحي من دون طرح‬
‫اإلشكاليات ومن دون مساءلته والتفكير فيه بل بالعكس فأركون يحث على تحرير التراث من‬
‫أسر المدارس السكوالئية التي استفردت بالتأويالت وادعت امتالك الحقائق وذهب أبعد من‬
‫ذلك بعدما طلب بتفعيل دور العقل وتحريره وإعطائه األولوية الكاملة في االجتهاد الفكري‬
‫واالنتاج المعرفي ويرى محمد أركون‪" :‬أنه يعتمد مستقبل العلمنة في اإلسالم أساسا على‬
‫االنتشار الواسع لما كنت قد دعوته بالحداثة العقلية أو الفكرية‪ ...‬من أجل خلق إمكانية‬
‫جديدة لنشر الثقافة التحررية أو المحررة ولكن أصر القول بأن الحداثة العقلية والفكرية هي‬
‫الوسيلة األكثر إلحاحا وفعالية للشروع بإعادة تقييم شاملة لإلسالم‪ .2".‬فإرساء العلمنة والعقلنة‬
‫والحرية في المجتمعات العربية اإلسالمية ال يمكن أن يتم " ضمن فراغ ثقافي كهذا أن تنتشر‬
‫بكل إمكانياتها اإليجابية ليس هناك في المجتمعات اإلسالمية من وسيلة سياسية أو ثقافية‬
‫إلحداث مجابهة خصبة بين الرؤية العلمانية للعالم والرؤية الدينية للعالم أي بين طرفين‬
‫مختلفين في اإلدراك والوعي والتفكير والعمل والخلق والمعرفة‪ ،‬كان الفكر الغربي قد اكتشف‬
‫حقوال وآفاقا جديدة من خالل هذه المجابهة ‪...‬أما في الوقت الراهن فنجد أن العلمنة في‬
‫المجتمعات اإلسالمية تمثل ذريعة وموضوعا إيديولوجيا موجها لنقد إلحاد الغرب وماديته‪.3".‬‬

‫نستنتج أن العلمانية تستند على العقل وتبدأ من التعقلن في تصورها حين تتقدم من أجل‬
‫طرح مفاهيمها التي تعتمدها في فهم قوانين الطبيعة وتفسيرها بعيدا عن التفسيرات الخرافية‬

‫‪-1‬محمد أركون ‪،‬العلمنة والدين‪،‬ص‪.69‬‬


‫‪-2‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي قراءة علمية‪،‬ص‪.181‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون‪ ،‬الفكر اَلسالمي قراءة علمية‪،‬ص‪.181،182‬‬

‫‪236‬‬
‫والحقائق المطلقة والمقدسة بعد إخضاع تلك الحقائق والمسلمات لمبدأ النسبية ولعمل العقل‬
‫بكل حرية كما تشجع العلمانية المفكرين والباحثين على التحلي بالجرأة أمام أحكام الواقع وعند‬
‫طرح اإلشكاليات الحالية وبالخصوص ما تعلق منها بالتراث والعلمنة كما دعا محمد أركون‬
‫لالهتمام بالجانب التعليمي التربوي ألنه اللبنة األولى التي تقوم عليها المجتمعات اإلسالمية‬
‫لذا ينبغي االنطالق منها بإرساء مشروع حداثي عقالني حر‪.‬‬

‫‪ -9‬العلمانية وتحقق حقوق اإلنسان ‪:‬‬

‫يشترط محمد أركون لتحقيق الحداثة العلمانية ويرى أن تحقيق العلمانية يتطلب دعائم‬
‫أهمها احترام حقوق اإلنسان خاصة أمام األحكام الكالسيكية والمفاهيم الدينية لذا فهو يعرف‬
‫العلمانية على أنها " موقف أمام الروح والمعرفة ومن هنا فالعلمنة (إذ تؤخذ كمصدر للحرية‬
‫الفكرية و كف ضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة‬
‫العليا والمشروعية) هي عبارة عن شيء ينبغي الشروع به داخل المجتمعات الغربية األوربية‬
‫المعاصرة أيضا‪ 1".‬ويرى أركون أنه ال يمكننا أبدا تحقيق حقوق اإلنسان والحرية في إطار‬
‫العقل الديني الالهوتي الدوغمائيوهو يجزم أن نقطة االنطالق لتحقيق تلك المبادئ تكمن في‬
‫توقف العقل الديني على التمييز بين المؤمن واإلنسان الكافر ألن كل واحد منهما يتمتع‬
‫بنفس الحقوق ونفس الحريات فمسألة الحق والحرية في العلمانية غير مشروطة بأي انتماء‬
‫عرقي أو جنسي أو عقائدي أو لغوي "فالفلسفة العلمانية الحديثة لم تعد تميز بين المواطنين‬
‫طبقا ألصولهم العرقية أو الدينية أو الطائفية وذلك على عكس الالهوت الديني القديم سواء‬
‫أكان إسالميا أم مسيحيا أم يهوديا نقول ذلك ونحن نعلم أن الفقهاء يميزون المؤمن الحر‬
‫الخاضع لمعايير االعتقاد األورتودكسي والذي يتمتع بحماية الشرع والقانون بشكل كامل‬
‫‪...‬وبين العبد غير المسلم وبين مجمل غير المؤمنين باإلسالم والذي تنبغي محاربتهم حتى‬
‫يعتنقون اإلسالم بشكل ال مرجوع عنه‪ ،2".‬ولقد تم تجاوز هذه الرؤية المنغلقة من قبل في‬
‫القرنين السابع والثامن عشر الميالدي في أوربا مع ظهور فالسفة األنوار حيث كانت هذه‬
‫"الحركة تهدف إلى تحرير اإلنسان من التقديس األعمى والتعظيم الخاضع للنصوص‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي قراءة علمية‪،‬ص‪.183‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬نحو نقد العقل اَلسالمي ‪،‬ت‪ :‬هاشم صالح ‪،‬دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت لبنان‪،‬ط‪،1،2009‬ص‪.214‬‬
‫‪237‬‬
‫المقدسة ‪...‬وبالتالي توجيه العقل اإلنساني بكل طاقته اإلبداعية ال إلى الكتب المقدسة‬
‫والمراسيم المكتوبة بل إلى الطبيعة والمجتمع واإلنسان مخضعا كل الوجود الطبيعي‬
‫واالجتماعي واإلنساني إلى مبدأ البحث والتدقيق والنقد والتفسير‪ . 1.‬وهذا من أجل تحرير‬
‫العقل اإلنساني من جميع األوهام الخاطئة واألحكام المطلقة التي أسرت عقله وكبلت حريته‬
‫في األخذ بزمام األمور في تغيير واقع وصناعة تاريخه‪،‬فلقد كانت الثورة الفرنسية منعرجا‬
‫خطي ار في تاريخ اإلنسانية بعد أن وضعت أهدافا لنضالها في سبيل التحرر من القيود‬
‫الكالسيكية والتي تمثلت في الحرية والمساواة واإلخاء والتعايش إذ نستطيع القول أن " إعالن‬
‫حقوق اإلنسان والمواطن كان قد أعلن ألول مرة في فرنسا عام ‪ 1789‬م من قبل الثورة‬
‫الفرنسية ثم صدر اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان عن األمم المتحدة عام ‪1948‬م وكان‬
‫بمثابة توسيع لألول لكي يشمل كل األرض المعمورة والشعوب البشرية‪ ،‬إن هذه االنجازات‬
‫التي حصلت في أوربا تشكل فتوحات تاريخية لتحرير الوضع البشري بالذات"‪.2‬‬

‫لقد أصبحت إشكالية حقوق اإلنسان مطلب ضروري في كافة بلدان العالم حتى تتمكن‬
‫من احترام كرامة اإلنسان وحريته وإرساء العدالة وتحقيق المساواة بين البشر ولكي تستطيع‬
‫تبني مبدأ الحرية والتسامح ووضع إطار مناسب يسمح باإلخاء وبالتعايش السلمي‪" .‬بهذا‬
‫المعنى فإن األمر المطلق "يغدو المبدأ األخير لحقوق اإلنسان "إنه المبدأ الذي يؤسس‬
‫لوجوب احترام اإلنسانية في ذاتها باعتبارها قاعدة للكونية التي تضمن انفتاح اإلنسان على‬
‫أخريته انفتاحا يؤطر االحترام ‪...‬ففي انتهاك هذه القاعدة انتهاك لإلنسانية‪...‬ومن ثم فتكريس‬
‫القاعدة الكونية للحق هو تقديس للحياة ولكرامة اإلنسان وإقرار بحقوق اآلخرين وحرياتهم‪.3".‬‬
‫وإذا كان هذا ما ترمي إليه الحداثة والعلمانية فكيف يرى محمد أركون إشكالية حقوق اإلنسان‬
‫في المجتمعات الغربية؟ أو ما هي رؤية محمد أركون لمسألة حقوق اإلنسان حاليا وبشكل‬
‫عام؟‬

‫أوال ينتقد أركون البلدان الغربية في تصورها لمسألة حقوق اإلنسان وحريته وطريقة‬
‫تفاعلها معها‪ ،‬ألنه يعتقد أن هذه البلدان سيست مسألة حرية وحقوق اإلنسان ووظفتها‬

‫‪ -1‬فيصل عباس ‪ ،‬الموسوعة الفلسفية ‪،‬ج‪،5‬الفلسفة الحديثة ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.210‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬نحو نقد العقل اَلسالمي ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.176‬‬
‫‪ -3‬د‪:‬عبد العزيز بو مسهولي‪ ،‬مبادئ فلسفة التعايش ‪ ،‬افريقيا الشروق‪ ،،‬دار البيضاء‪،2013،‬دط‪،‬ص‪.22‬‬
‫‪238‬‬
‫ألغراض إيديولوجية ولم تستطع أن تحققها بشكل شامل من دون تميز وفي هذا يرى محمد‬
‫أركون "ينبغي على الحداثة كمشروع إنساني أن تصحح إرادة المعرفة الهادفة إلى السيطرة‬
‫واالستغالل والهيمنة ولكن كيف؟ عن طريق اإلدخال الفعلي أي الفلسفي والقانوني لحقوق‬
‫الروح في حقوق اإلنسان فقد تحولت هذه األخيرة إلى مصطلح مؤدلج أكثر من اللزوم بل‬
‫ومستهلك وفاقد لروحه‪ ،‬فالغرب يرفعه كشعار إيديولوجي للضغط على اآلخرين أكثر مما‬
‫يتقيد به عندما يتعامل مع اآلخرين‪.".‬‬

‫األمر الذي يعكس فراغ مسألة حقوق اإلنسان في المجتمعات الغربية من روحها ومن‬
‫أهدافها التي تسعى إليها وهذا ما جعلها تحيد عن مسارها الذي رسمته منذ البداية ولقد انتقد‬
‫بشدة محمد أركون االنتقائية في التعامل مع مسألة حقوق اإلنسان واعتبر هذا انتهاكا واضحا‬
‫لمبادئ التعايش والحريات وكرامة اإلنسان حيث يقول‪" :‬إن العقل ليشعر بالعجز والوعي‬
‫بالذهول أمام اإلهانات التي ال تحتمل والتي تصيب الشعب الفلسطيني ويشعر المرء بالشيء‬
‫نفسه أمام المصائب والويالت التي يتعرض لها الشعب العراقي وأمام السجن الجماعي الذي‬
‫يتعرض له الشعب الليبي وأمام الجنون الذي يدمر الشعب الجزائري وأمام االحتقار الذي‬
‫يتعرض له الشعب السوداني واألفغاني وأمام سحق الشعب الكردي وأمام المحن التي يتعرض‬
‫لها الشعب اإلندونيسي وأمام التالعبات الشيعية المفروضة على الشعب اإليراني العظيم‪.1".‬‬
‫والشواهد على االنتقائية في تبني حقوق اإلنسان وتمثيلها عديدة وكثيرة فمفكرنا يرى أن هذه‬
‫المبادئ أصبحت شعارات فارغة تخدم أطراف معينة على حساب أطراف أخرى من أجل‬
‫تبرير مواقف وأفعال أمام المجتمع العالمي حتى تتمكن من تحقيق أغراض ذاتية لذا أصبح‬
‫اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان " شعائري بدون أثر فعلي على األرض كما يتلو المؤمنون‬
‫نصوصهم المقدسة فال حل وال خالص‪ ،‬ينبغي أن يقولوا أن هذا اإلعالن قابل للتعميم‬
‫الكوني وليس كونيا منذ اآلن لماذا؟ ألنه بكل بساطة غير مطبق إال في الدول المتقدمة وبقية‬
‫الدول ال تستطيع تطبيقه‪ ،2".‬لقد تعدى األمر ذلك وأصبح الوضع أكثر خطورة عندما تبنت‬
‫الدول الغربية شعارات حقوق اإلنسان ودافعت عنها وفي المقابل سكتت عن انتهاكات القوى‬
‫عما يحصل في الدول العربية واإلسالمية أو في بعض الدول‬
‫العظمى وغضت الطرف ّ‬
‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي واستحالة التأصيل‪،‬ص‪.234‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬نحو نقد العقل اإلسالمي‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.186‬‬
‫‪239‬‬
‫المتخلفة وقدمت باسم تلك المبادئ والشعارات تبريرات لالنتهاكات التي قامت بها الدول‬
‫الغربية القوية كما ال يمكن أن ننسى ما يحدث في تلك الدول الغربية التي تبنت حقوق‬
‫اإلنسان من تمييز عنصري اتجاه الجاليات المغتربة بها وباألخص الجالية اإلسالمية‬
‫المتواجدة بالدول الغربية " على الرغم من أن الدستور الوطني الفرنسي الصادر عام ‪1901‬م‬
‫في ظل ال جنرال ديغول فإننا نجد العبارة التالية في ديباجته أو مقدمته‪ "،‬إن فرنسا هي عبارة‬
‫عن جمهورية واحدة موحدة ال تتج أز وعلمانية وديمقراطية واجتماعية وهي تضمن لجميع‬
‫مواطنيها المساواة فيما بينهم أما القانون بدون أي تمييز من حيث األصل أو العرق أو الدين‬
‫إنها تحترم كل العقائد اإليمانية أيا تكن‪ .1".‬ومن التناقض أن هذا اإلعالن حصل في نفس‬
‫الوقت الذي كانت فرنسا تحتل فيه الجزائر وتقتل فيه األطفال والنساء والشيوخ دون رحمة‬
‫وبدون مراعاة لحقوق الشعب الجزائري في بالده فهل يمكننا أن نصدق شعارات الحرية‬
‫والمساواة واإلخاء واحترام اإلنسان التي تتغنى بها الدولة الفرنسية هذا ما يعكس موقف محمد‬
‫أركون من مسألة حقوق اإلنسان ويراها أنها ظاهرة عالمية في شكلها بينما الواقع يثبت‬
‫العكس‪.‬‬

‫‪ -‬حقوق اإلنسان والحرية في البلدان العربية‪:‬‬

‫يستمر أركون في نقده أيضا لمشكلة حقوق اإلنسان في المجتمعات العربية اإلسالمية‬
‫وينطلق من التطرق لطريقة تشكيل األنظمة السياسية في هذه المجتمعات وعن الكيفية يرى‬
‫أركون أنها هي من تقف في وجه تحقيق أدنى الحقوق في تلك البلدان وال تعترف نهائيا بها‬
‫كما أن " اإلعالن اإلسالمي لحقوق اإلنسان يقدم نفسه كإعالن كوني أو عالمي وليس‬
‫كإعالن محلي أو إسالمي فقط إنه معلن "على وجه العالم وانطالقا من قائمة منظمة عالمية‬
‫كبرى وعليا هي اليونيسكو وهذه المنظمة مرتبطة هي األخرى أيضا بقوانين أساسية محددة‬
‫ودقيقة لطريقة االشتغال الكونية منذ‪1945‬م‪ 2".‬ومن هذا فإن محمد أركون يرى أن‪" :‬هنا‬
‫تكمن المشكلة بالضبط مع اإلعالن اإلسالمي لحقوق اإلنسان فعندما نق أر ديباجته ماذا‬
‫نالحظ؟ نالحظ أن كل حيثيات اإلعالن وكل مفرداته وأحكامه ومحور رؤيته وتنفيذه الفعلي‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.181‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬نحو نقد العقل اَلسالمي ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.218‬‬
‫‪240‬‬
‫واقع تحت التبعية الصارمة لمصدرين أساسيين هما القرآن والسنة وإنما لهم مرجعياتهم‬
‫وتراثاتهم األخرى ‪ . 1".‬وما يرمي إليه أركون هنا ليس النص نفسه وإنما سوء قراءته وتأويله‬
‫وما ترتب عن تلك األخطاء بعدما قدمت المحاوالت التقليدية المزيفة للشرح مفهوم عن تلك‬
‫النصوص غير صحيح جعل من مسألة حقوق اإلنسان فكرة مرفوضة وغير مرغوب فيها في‬
‫المجتمعات اإلسالمية بحجة ألنها تعارض التعاليم والتوجيهات وتشجع على الممارسات‬
‫الالأخالقية وتحث على التجرد من العقيدة‪.‬وفي هذا المفهوم يقول محمد أركون‪" :‬من المعلوم‬
‫أن مبادئ اإلخاء والتضامن واحترام حياة األشخاص وأرزاقهم هي أشياء طالما تحدث عنها‬
‫القرآن وكرر الحديث وكذلك التراث الذي تاله ولكن هذه المبادئ تطبق اآلن بشكل مأساوي‬
‫مرعب في جو من اإلرهاب المعمم على المستويين المحلي والدولي ‪ . 2".‬هذا ما نقرأه في‬
‫التفسيرات الالهوتية المنغلقة التي تدعي أنها هي من تمتلك الحقيقة وهي الناطق الرسمي‬
‫للعقيدة اإلسالمية وترفض جميع األطراف األخرى التي قدمت مبادرات جادة من قبل لذا فلقد‬
‫كان الفكر األرتودوكسي بهيمنته على العقل اإلسالمي فكر أحادي التصور قام بعزل العقل‬
‫عن كل الثقافات األخرى وصنف اإلنسان على أساس العقيدة فالمسلم هو اإلنسان وما عداه‬
‫غير ذلك يستحق القتل واإلقصاء هذا ما صبغ الخطابات الدينية الالهوتية بصبغة عنيفة‬
‫تشجع على اإلرهاب وتدعولقتل من هم غير مسلمين كاليهوديين والمسيحين‪ ،‬ويرى أركون أن‬
‫هذا الفكر األصولي خطير على اإلنسانية وعلى العقيدة اإلسالمية نفسها لذا فلقد كان من‬
‫نتائج هذه الرؤية إبادة المسلمين في سوريا والعراق والجزائر وتونس باسم الدين لذا فلقد كان‬
‫هذا النمط من التفكير هو من غذى العنف في الغرب المسيحي ضد المسلمين وفي الشرق‬
‫المسلم ضد غيرهم‪ ،‬يرى أركون أن العقيدة اإلسالمية في عمقها األخالقي تدعوا الحترام‬
‫األديان وتنهى عن المساس بمقدسات الغير وتجنب إكراههم التباع اإلسالم والدالئل على‬
‫هذا كثيرة في القرآن والسنة كقول هللا تعالى " ال إكراه في الدين‪ . 3".‬وأيضا قوله " لست‬
‫عليهم بمسيطر"‪ 4‬وأيضا قوله "ولو شاء ربك آلمن الناس جميعا‪ .5".‬وأيضا ما حصل مع‬
‫مسيحي نجوان بعدما سمح لهم الرسول محمد (ص) في مسجده وأمامه بإقراع نواقسهم وإقامة‬
‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.218‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬الفكر اَلسالمي واستحالة التأصيل ‪،‬ص‪.217‬‬
‫‪3‬سورة الغاشية ‪22،‬رقم‬
‫‪-4‬سورة البقرة‪256،‬رقم‬
‫‪ -5‬سورة يوني‪99،‬رقم‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫صلواتهم وترانيمهم ‪ ".‬ولو شاء ربك آلمن من في األرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى‬
‫يكونوا مؤمنين‪ .".‬كما يوجد العديد من النصوص التي تأمر صراحة باحترام حرية المعتقد‬
‫واإلنسان وتنهى عن اإلكراهات أما عن موضوع حكم الردة فهذا ما تطرق له الفقهاء وهو من‬
‫تأويالتهم وليس من النصوص نفسها ألن حكم الردة لديه حكم وتفسير آخر ليس الحكم الذي‬
‫قدمه الفقهاء لنا وهذا ما هدف له أركون من خالل التطرق لهذا التباين بين النص والتأويل‬
‫وفجوة عميقة بينهما ما نتج عنها هوة كبيرة بين المسلمين وتراثهم الغني وهذا ما يفسر وقوفهم‬
‫وتأخرهم عن ركب الحضارة لذا فأركون يشترط لذلك إعادة قراءة التراث بجدية وبطريقة فعالة‬
‫وعلمية متطورة لتمكنوا من إيجاد منطلق حقيقي يستطيعون به استغالل رصيدهم الحضاري‬
‫الثري من أجل التفاعل اإليجابي مع ما توصلت إليه الحضارة الغربية من علوم وفنون‬
‫وتطور مس مختلف الميادين بواسطة التبادل الثقافي والفكري والسياسي والعلمي وبالتالي‬
‫ينفتح العقل اإلسالمي العربي على مختلف الثقافات ويتمكن من األخذ واالستفادة مما وصلت‬
‫إليه الحضارة الغربية ومنه ومن خالل تصور محمد أركون ينبغي أوال على المسلمين‬
‫التأسيس لعلمنة إنسناوية جديدة متفتحة على العالم وهذا ال يتم إال بعد فك أغالل الفكر‬
‫الالهوتي الخرافي والت حرر منه واالنتقال إلى العقل التاريخي العلمي والموضوعي ليتمكن من‬
‫زحزحة التراث ونقله من إطاره الضيق الذي خدم إيديولوجيات خاصة إلى أفق علمي حر‬
‫وواسع ألن التراث وهذه الشريعة في واقع الحال هي نتاج لتصور تاريخي حدده اإلنسان على‬
‫أساس تأويالتهم الخاصة للنصوص القرآنية والنبوية‪.‬‬

‫ما يرمي إليه محمد أركون بتبني العلمنة في المجتمعات اإلسالمية هو إشراك‬
‫المسلمين في الحضارة الغربية وحث العالم المسلم على السعي من أجل اللحاق بركب‬
‫الحداثة وهذا ال يتم إال بإرساء حقوق اإلنسان والحريات حتى تتمكن هذه الشعوب من تحقيق‬
‫كرامتها وقيم تها وهذا يتحقق بعد "توفير أماكن الحوار والتبادالت والمناقشات لكي نجعل أكبر‬
‫عدد ممكن من المواطنين يتأقلمون ويتألفون مع أفاق المعنى والجدة للممارسات الثقافية‬
‫والتفاعلية اإلبداعية‪ ،1".‬فمحمد أركون يرى أن هذا ما يمكن من تأسيس قواعد إنسية تحترم‬
‫الحرية واإلنسان وتنبذ العنف واإلرهاب واإلكراه وهو نفسه ما تدعوا إليه العلمانية الحقيقية‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪ ،‬معارك من أجل اْلنسنة في السياقات اإلسالمية ‪،‬ص‪(hamoum(.331‬‬


‫‪242‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬‬

‫مالمح الحداثة اإلسالمية في‬


‫فكر محمد أركون‬

‫‪243‬‬
‫‪ -1‬في مفهوم الحداثة لدى أركون‪:‬‬

‫يستهل محمد أركون مشروعه بالتركيز على الخطاب اإلسالمي‪ ،‬إ ْذ قام بإخضاعه‬
‫لدراس ة تحليلية عميقة بواسطة النهج النقدي من أجل وضع مجال معين يتم فيه تحديد كافة‬
‫النقائص بالبحث في أصول المشكلة وتفكيك العقل اإلسالمي ويظهر هذا بعدما وضع محمد‬
‫أركون فكرة اخضاع العقل اإلسالمي للتاريخية واستبعاد التشكيالت الموضوعة والجاهزة‬
‫وجميع الموروثات السطحية التي شكلت سلطة وأعاقت العقل وكبلته‪ ،‬ولقد حث محمد أركون‬
‫جميع المفكرين المسلمين بضرورة اتباع هذا المنهج الحديث فالعقل "العربي اإلسالمي يبقى‬
‫سجين المناخ العقلي القروسطي على الرغم من أهميته وعظمته وإنه ليس هو الحل وإنما‬
‫الوسيلة التي إذا ما عرفنا كيف نستخدمها ونطورها ونتجاوزها استطعنا أن نصل إلى الحل‬
‫‪...‬فالعقل اإلسالمي موجود في النصوص والعقول وبإمكاننا أن نقبض عليه وبالتالي دراسته‬
‫فإن دراسته دراسة نقدية تاريخية – ال تجريدية تأملية أمر ممكن بل إن نقد العقل اإلسالمي‬
‫بهذا المعنى يشكل الخطوة األولى التي ال بد منها لكي يدخل المسلمون الحداثة ‪ ،‬لكي‬
‫يسيطرون على الحداثة"‪ .1‬ويحدد محمد أركون مفهوم العقل اإلسالمي قائال‪" :‬وعندما أقول‬
‫العقل اإلسالمي أقصد العقل العربي والعقل التركي والعقل االيراني والباكستاني واألفغاني‬
‫‪...‬إلخ أقصد كل عالم االسالم‪ .2".‬فالمعنى من هذا أن محمد أركون عندما يتطرق لمفهوم‬
‫العقل اإلسالمي ال يختصه في العقل العربي وحده‪ ،‬وإنما يقصد به كل األعراق واألجناس‬
‫الذين شملتهم الظاهرة اإلسالمية ألنه كان يهدف إلى دراسة الظاهرة الدينية في شكلها العام‬
‫كما ينبه أركون لما علق بفكرته عن نقد العقل العربي التي يرى أنه لم يكن الغرض من كلمة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني ‪ ،‬المرجع السابق ذكره‪،‬ص‪.331‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.290‬‬
‫‪244‬‬
‫نقد "‪"Critique‬هو زرع الشك في الموروث اإلسالمي فهو" ال يقصد بكلمة "نقد" هنا التجريح‬
‫أو التشكيك كما يتوهم بعضهم وإنما يقصد الكشف التاريخي عن كيفية تشكل هذا العقل ألول‬
‫مرة وكيفية اشتغاله في المجتمعات العربية اإلسالمية منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا‪ ،‬إن‬
‫محاوالته النقدية هذه تشكل تعرية تاريخية واجتماعية وفلسفية للتراث بالمعنى القوي والعالي‬
‫للكلمة"‬
‫‪1‬‬

‫هذا كان من أجل الرد على من رموه بإثارة البلبلة والفتنة وعلى من انتقدوه في نهجه‬
‫هذا‪ ،‬فلقد فند تماما ما جاؤوا به ليبرهنوا أن محمد أركون أراد التشكيك في العقيدة وقال أن‬
‫هذه الدراسة التحليلية والعميقة للعقل اإلسالمي تقدم للدين خدمة جليلة بإزالة اللبس الذي‬
‫علق به وتسترجع المفاهيم الصحيحة للنصوص من خالل استخدام المنهجية األركيولوجية‬
‫أي عملية الحفر والتنقيب التي يقوم بها علماء اآلثار في أبحاثهم واستعمال التفكيك على‬
‫المفاهيم والدالالت وهو منهج استوحاه محمد أركون من هيدغر ودريدا وميشال فوكو‪ ،‬ويرى‬
‫أن هذا المنهج النقدي للعقل اإلسالمي ال " يعني التخلي عن العقل وإنما تصحيح مساره‬
‫وتوسيعه وجعله أكثر انسانية وأقل أنانية وهكذا كان في بداية التنوير‪ ،‬بالطبع هناك بعض‬
‫العدميين في الساحة األوربية الذين يريدون تدمير العقل كرد على كل ما حصل ولكن هذا‬
‫ليس موقعنا‪ ،2 ".‬فهو يريد تجاوز المواجهة مع خصومه ونقاده ووضع اتجاهه‪ ،‬أما الفكر‬
‫اإلسالمي والغربي وتقديم طرحه النقدي بتأسيس منطلق للعقل اإلسالمي وبدايته حتى يتشكل‬
‫االطار الزمني للعقل اإلسالمي الذي سيخضعه أركون للدراسة النقدية كونه لم يتم أبدا‬
‫اخضاعه لها وبتحديد المنطلق يريد اركون العودة من جديد لألصول األولى التي تشكل فيها‬
‫العقل اإلسالمي ويقول‪" :‬إننا ال نهدف ‪...‬إلى الشروع في وصف دقيق مقتص للبسيكولوجيا‬
‫المحددة في القرآن أو في الحديث النبوي أو في النصوص الكبرى للفقهاء التيولوجيون أو‬
‫نصوص الفالسفة أو المتصوفة أو األدباء بقدر ما نهدف إلى فهم السلوك والعقلية الحالية‬
‫للمسلمين‪ ،‬من الواضح أننا سوف نكون مضطرين كلما دعت الحاجة إلى ذلك إننا نريد هنا‬
‫إلقاء نظرة تاريخية ونقدية على مالمح الوعي اإلسالمي تشمل كل المسار الذي قطعه هذا‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.274‬‬
‫‪-2‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.321‬‬
‫‪245‬‬
‫الوعي على مدى قرون لكن بدال أن نبتدئ بدراسة هذا المسار من نقطة األصل ونستمر‬
‫ذلك تارخيا حتى اللحظة الحاضرة فسوف نفعل العكس سوف نبتدئ من اللحظة الحاضرة‬
‫ونرجع إلى الوراء‪. 1".‬‬

‫يذهب محمد أركون ليبرر اختيار هذا المنهج العكسي في بحثه وتحليله بقوله‪" :‬وذلك‬
‫لكي ننقض فكرة االستم اررية الخاطئة التي تقول باستم اررية منتظمة وثابتة لهذا الوعي‬
‫ومنتشرة في كل األوساط االجتماعية الثقافية منذ أن ظهر القرآن‪ .2".‬إ ْذ من خالل هذا‬
‫المنهج العكسي يمكننا الغوص في عمق التصورات بواسطة النقد والتفكيك الذي يتناول‬
‫المبادئ األساسية والمنطلقات األولى التي شكلت وأسست لمفهوم العقل اإلسالمي وباستبعاد‬
‫المناهج الكالسيكية التي اكتفت بالنقل الحرفي دون تحليل وتمحيص ودون استعمال العقل‬
‫التحليلي والنقدي في ذلك وهو إ ْذ يقول هذا فإنه يريد تجديد القراءة التأويلية وتحديثها‬
‫وعصرنتها قراءة تختلف نهائيا مع القراءات السابقة قراءة تاريخية للعقل العربي اإلسالمي‬
‫وهنا يرى علي حرب ‪" :‬هذا من جعل مشروعه يمتاز عن المشاريع األخرى لكونه مشروعا‬
‫جذريا يطالب النقد والتفكيك األصول والفروع والمرحلة التأسيسية‪3 ".‬لتقديم عقل نقدي يحرر‬
‫الفكر اإلسالمي من السياج المعرفي الذي ظهر ووضع أحكاما سطحية جامدة كقوالب جاهزة‬
‫ال تسمح بالتناول أو البحث أو التحليل ولهذا أكد محمد أركون "على تفكيك كتابة التاريخية‬
‫لتبيان خضوعها اإلبستمولوجي للمسلمات المعرفية نفسها الشغالة التي وضعها المؤرخون‬
‫المسلمون وأصبحت المصادر األساسية للمؤرخين المعاصرين (أقصد أن المؤرخين‬
‫المعاصرين ال يستطيعون كتابة التاريخ إال إذا اعتمدوا على المعلومات الواردة في تلك‬
‫المصادر والمراجع الكالسيكية )وال تزال تلك المسلمات المعرفية الضمنية تؤثر تأثي ار كبي ار‬
‫على كتابة المسلمين اليوم ‪...‬دون أن يميزوا بين ما فرضه العقل الدوغمائي على تصوراتهم‬
‫للماضي البعيد القريب‪/‬بين ما يفتحه الخطاب القرآني من آفاق عديدة متجددة للتفكير‬
‫والتأويل والمعاني االجمالية واالبداعات الرمزية‪ .4 ".‬فاألفكار التي كانت مطلقة وكانت‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬تارخية الفكر العربي االسالمي ‪ ،‬ص‪.116‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪ ،‬نفس الصفحة ‪.116،‬‬
‫‪ -3‬علي حرب ‪ ،‬الممنوع والممتنع نقد الذات المفكرة ‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬لبنان‪،‬ط‪،1،1995‬ص‪.131‬‬
‫‪ -4‬محمد أركون ‪ ،‬نقد العقل الديني ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.07‬‬
‫‪246‬‬
‫ترفض االنفتاح أقبعت العقل اإلسالمي في التسليم الالهوتي األرثودوكسي بالمقوالت‬
‫الالهوتية التي بلورت مختلف األفكار التي أنتجت وألفت‪ ،‬والتي رسمت التاريخ اإلسالمي‬
‫وفق تصورها وهذا ما وسع مجال دائرة" الالمفكر فيه " في الفكر العربي اإلسالمي‪ ،‬ولألسف‬
‫الزالت تلك األفكار لحد اآلن تسيطر على التفكير وعلى العقل اإلسالمي الذي أعاقه العقل‬
‫األرثودوكسي المنغلق وأسره وأوقف تقدمه الفكري الذي اقتصر أداؤه في اجترار الموروث‬
‫الديني لذا ألح أركون على المفكرين المسلمين أن يسعوا إلى تحرير عقولهم من األسر‬
‫وتخليص الفكر اإلسالمي من االنغالق على ذاته وخاصة في قراءة التراث اإلسالمي‬
‫والنصوص القرآنية وعليهم رفع القداسة عن الموروثات والتشكيك في األحكام المطلقة التي‬
‫ينبغي اخضاعها للعقل وتفكيكها‪ ،‬وبهذا تسترجع الذات اإلسالمية مكانتها في الواقع وتتم‬
‫الثورة الفكرية التي تفتش وتجتهد في أصول الظواهر الفكرية واالجتماعية والسياسية والثقافية‬
‫وترفض األوهام التي تأصلت في العقل اإلسالمي وثبطت حركته وتقدمه ووقفت بينه وبين‬
‫االبداع‪ ،‬ويمكن ذلك بداية بإعادة النظر في وضعية االنطالق التي تأسس فيها العقل‬
‫اإلسالمي ‪ ".‬فينبغي على الباحث أن يكتفي بنقل التراث كما هو ولكن بعد نقله يبتدئ بتفكيكه‬
‫وتشريحه عن طريق الدراسة النقدية حيث تستفيد منه المجتمعات بصورة ايجابية‪.1".‬‬

‫معنى هذا أن أركون يدعو لوضع دراسة للتراث بطريقة منهجية تمكن من تخطي‬
‫العوالق التقليدية العتيقة وتمحو القيود التي رسمت للعقل أمام توجهه وتقدمه‪ .‬ولكي نكون‬
‫منصفين في حكمنا على الطرح الذي وضعه أركون يجب علينا أن نشيد بالشجاعة التي‬
‫ميزت عمله على التراث والعقل اإلسالميين إ ْذ تظهر جرأته في المنهج الذي اقترحه في‬
‫استجواب المراحل األولى التي تأسس فيها الفكر اإلسالمي الذي فكك بواسطته وحفر من‬
‫خالله ونقب به عن واقعية األصول األولى بواسطة أدوات معرفية حديثة ومنهج الدراسة‬
‫الذي يعتمد في العلوم اإلنسانية واالجتماعية فلقد كان عمل أركون هو"مشروع نقدي‬
‫لإلسالميات الكالسيكية في تصورها ألصل ثابت وجوهر متغير للدين ومن جهة أخرى لنقد‬
‫األطروحات االستشراقية التي تنطلق من التصور الجوهراني الالتاريخي لإلسالم وهو كذلك‬

‫‪ -1‬المسرحي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.102،103‬‬

‫‪247‬‬
‫نقد جذري للعقل الالهوتي عند أهل الكتاب‪ .1".‬والشيء المالحظ أن محمد أركون في نقده‬
‫للعقل اإلسالمي التقليدي لم يقص العقل االستشراقي منه الذي تجاهل في أعماله على العقل‬
‫اإلسالمي والتراث العديد من العوامل التاريخية واالجتماعية ولم يستعمل أدوات البحث‬
‫دور مهما في مكونات العقل اإلسالمي أال وهو دور‬
‫الحديثة فيها ولم يقدم في أبحاثه أيضا ا‬
‫المخيال في تشكيله‪ ،‬ولذلك أركون يحث على دراسة المخيال ألن العقل اإلسالمي أتى‬
‫مرتبطا بثنائية العقل والمخيال ما أدى إلى اختالط المفهوم الخرافي بالمفهوم التاريخي‪ ،‬ولم‬
‫يكن ممكنا الفصل بينهما إضافة إلى التعالي على الواقع اإلسالمي‪ ،‬األمر الذي دفع بمحمد‬
‫أركون إلى االنطالق في نقده من عدة أوجه كنقد العقل الفقهي والعقل التفسيري والعقل‬
‫التاريخي‪ ،‬إ ْذ يبحث في المجال الفقهي عن القواعد األساسية التي يحملها النص المقدس من‬
‫أجل تفسير الحكم الشرعي وتبريره وبهذا سيصبح تناول النصوص القرآنية والموروثات الدينية‬
‫خاضعة لدراسة علمية حديثة دون حرج أو خوف بعدما كانت حك ار على الفقهاء الذين‬
‫اعتبروا أنفسهم مخوليين من عند هللا للقيام بهذه المهمة وظلوا مطوال يعتقدون أنهم الوحيدون‬
‫القادرون على استنباط األحكام الشرعية وفهم مقاصدها وفهم النصوص القرآنية وشرحها‬
‫بطريقة صحيحة مثل – القوانين الفقهية البن الجزي‪ -‬وأصول الفقه في كتاب األم للشافعي‬
‫التي مثلت مرجعا الزال لحد اآلن يستند إليه المسلمين في معرفة األحكام والقواعد الفقهية بل‬
‫وأبعد من ذلك فلقد أصبحت هي األخرى مقدسة مثل النصوص القرآنية‪ ،‬وهذا ما جعل‬
‫الفقهاء أهل الحل والعقد والفتوى واحتكار الحقيقة وهذا أيضا ما نالحظه في كتاب ابن‬
‫الجوزية "إعالم الموقعين من رب العالمين" إ ْذ بمجرد قراءة العنوان يتبادر لك أن المعنيين‬
‫بالموقعين هم من اسند لهم من رب العالمين فهم النص وشرحه وتفسيره وهذه الرؤية التي‬
‫تحمل التعالي والقداسة واالستحواذ لإليمان الحقيقي والحقيقة المطلقة الزالت تسيطر على‬
‫العقل اإلسالمي‪ .‬ولهذا فإن "هذه الموضوعات المحرمة تحتاج اليوم إلى أكثر من‬
‫البيداغوجية الصابرة من أجل فتح العقليات (أو إطالق سراح العقليات ‪...‬المغلقة منذ زمن‬
‫طويل ينبغي أن يبتدئ بفتح ورشة كبيرة عن الدراسات القرآنية ‪[...‬و]لقد لعب القرآن الدور‬
‫الحاسم الذي نعرفه في توسيع وانتشار ماال نزال نمارسه اآلن تحت اسم العلوم الدينية‬

‫‪1‬ولد أباه السيد ‪،‬أعالم الفكر العربي ‪،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ‪،‬بيروت ‪،‬لبنان‪،‬ط‪،1،1995‬ص‪.131‬‬
‫‪248‬‬
‫بصفتها مضادة للعلوم العقلية‪ .1".‬وهذا ألن قراءة النصوص القرآنية واستيعابها ومعرفة‬
‫مقاصدها ظلت والزالت أسيرة في يد العلماء المفسرين والفقهاء التقليديين الذين ساهموا بشكل‬
‫كبير في تأصيل التعارض والتباين بين العقيدة والعلم خاصة العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪،‬‬
‫أن على المسلمين رفض هذا التفكير األرثودوكسي المعتمد من طرف‬ ‫ويرى محمد أركون ّ‬
‫فقهاء الالهوت وتبني مناهج العلم الحديثة لتصحيح المفاهيم والتأويالت القديمة وتحرير‬
‫العقل من الدوغمائية التي أحاطت به ومنعته من االحتكاك باآلخر وبتحرير العقل واستحداث‬
‫أدوات البحث العلمية الجديدة في الدراسة وتعرية النصوص الدينية من القداسة والتشكيك في‬
‫األحكام المطلقة تتجلى الرؤية الصحيحة وينكشف المفهوم الحقيقي وتتضح األسس األولى‬
‫التي شكلت العقل اإلسالمي‪.‬‬

‫العقل في تصور محمد أركون ال يتعارض مع التغيرات والمستجدات بل يتناسق‬


‫ويتناغم معها في إطار واحد وهو جوهر قابل للتغير مع النسق االجتماعية والثقافية‬
‫والسياسية المختلفة والمتعددة ألن العقل معطى تاريخي يتفاعل باستمرار مع األحداث‬
‫الزمانية والمكانية‪ ،‬فالعقل له تاريخ حيث يستدل أركون على ذلك بقوله‪ ":‬أن العقل الشرقي‬
‫القديم هو غير العقل في العصر اإلغريقي اليوناني وهو غير العقل القروسطي وهو غير‬
‫العقل الحديث أي إن العقل يتأثر ويتطور بالمستجدات والمستحدثات واألحداث الجديدة‬
‫ونفس الشيء بالنسبة للعقل اإلسالمي فمدرسة النقل تعتمد على عقل ال يشبه العقل المعتمد‬
‫داخل المدرسة العقلية وهذا ما يطرح فكرة تاريخية العقل‪ ،‬ومن خالل هذا فاإلنسان هو الوحيد‬
‫الذي يمكنه فهم وتفسير واقعه الذي يحياه متخطيا بذلك كل العوائق التي واجهته من طرف‬
‫الفقهاء واال يديولوجيات السياسية حتى يتمكن من فهم تاريخه والفصل بين األسطورة والتاريخ‪،‬‬
‫ألن التاريخ اإلسالمي أو الفقه اإلسالمي يضع نفسه في موقع مرتفع عن الواقع متعالال‬
‫يضاهيه غيره ولهذا دعا أركون إلى اقتحام هذا المجال بكل جرأة والتنقيب فيه وفي أسس‬
‫نشأة العقل اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ -2‬أركون ونقد العقل الكالسيكي اإلسالمي‪:‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪،‬قضايا في نقد العقل الديني‪،‬ص‪.58‬‬


‫‪249‬‬
‫يعد الطرح األركوني للدراسة عموما طرحا نقديا عقالنيا متحر ار ويتناول في أغلب‬
‫دراساته العقل اإلسالمي أحيانا والعقل الغربي األوربي أحيانا أخرى‪ ،‬وفي تصور محمد‬
‫أركون النقد هو الرجوع لألصول األولى أي عودة االنسان إلى أناه وعقله من أجل إعادة‬
‫النظر في المقررات والبديهيات والبراهين واألدلة التي تخص الفكر اإلسالمي والبحث في‬
‫أسس العقل وتصوراته واخضاع المسلمات للدراسة الحديثة وتطبيق الدراسات نفسها والمناهج‬
‫الجديدة على آليات العقل اإلسالمي من أجل تفكيك العقل األحادي في التفكير المنغلق‬
‫والتطرق "للالمفكر فيه" و"الممنوع التفكير فيه "‪ ،‬وألن العقل يرتبط كثي ار بالزمن واألحداث في‬
‫هذا التصور فلقد كان البد على مفكرنا أركون أن يحدد نقطة البداية التي سينطلق منها في‬
‫دراسته والتي بدأت ترسم مالمح العقل اإلسالمي وتشكله‪ ،‬والتي حددها في رسالة الشافعي‬
‫ألنها تعتبر أول خطوة يخطوها العقل اإلسالمي ويراها أركون " مؤلفا معياريا رائدا أعترف به‬
‫منذ القرن الثالث الهجري بصفته محال لإلجماع واالشاعات إنها رسالة الشافعي (‪-150‬‬
‫‪204‬هـ‪750-727-‬م) عوضا أن نبحث عن تبرير مسبق لخيارنا هذا فإنه يجدر بنا أن نبين‬
‫من خالل الدراسة كيف أن علم أصول الفقه كما كان قد تبلور لدى الشافعي ألول مرة بشكل‬
‫متماسك‪،‬يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعاال من الناحية التاريخية والتأملية للعقل اإلسالمي‬
‫الكالسيكي‪...‬وبالمقابل نجد أنه من المفيد أن نتدارس خصائص الرسالة بالصيغة النهائية‬
‫التي وصلتنا عليها‪ 1".‬وبهذا اعتبرت مرجعية العقل اإلسالمي هي رسالة الشافعي التي قدمت‬
‫شرحا شامال للفقه واألحكام الشرعية والقواعد األصولية ألن جوهر التفكير اإلسالمي يبنى‬
‫على مسألة التأصيل سواء في التاريخ القديم أو في الوقت الراهن‪ ،‬وفي هذا السياق يقول‬
‫محمد أركون‪" :‬ومن المعروف أن الفكر اإلسالمي كسائر االجتهادات الفكرية المعروفة في‬
‫التاريخ اعتمد واليزال يعتمد على عملية التأصيل ونقصد به البحث عن أقوم الطرق‬
‫االستداللية وأصح الوسائل التحليلية واالستنباطية لربط بين األحكام الشرعية واألصول التي‬
‫تتفرع عنها أو لتبرير ما يجب اإليمان به ويستقيم استنادا إلى فهم صحيح للنصوص األولى‬
‫المؤسسة ‪...‬وكان هاجس األئمة منصبا على تأسيس حجية القرآن ثم السنة النبوية (وسنة‬
‫األئمة عند الشريعة)واالجماع والقياس وتعتبر رسالة الشافعي (ت‪204.‬هـ)المحاولة األولى‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬تارخية الفكر العربي االسالمي‪،‬ص‪.67‬‬


‫‪250‬‬
‫لتأسيس ما ازدهر بعده باسم أصول الفقه‪ .1".‬فهذه الرسالة تعد عند محمد أركون نقطة‬
‫انطالق مهمة لدراسة الظروف األولى لبداية العقل اإلسالمي وآلياته والطريقة التي ميزت‬
‫تفكيره في وضع األدلة والبراهين‪ .‬فحسب أركون أن رسالة الشافعي عند معاينتها شكال‬
‫ومضمونا وعند تعين مواضيعها نجده يعتمد على أمر أساسي وهو اإلمساك بالسيادة العليا‬
‫وفي هذا الصدد يقول‪" :‬يكفي أن نلقي نظرة على عناوين الفصول المتضمنة في الفهرس‬
‫لكي نكتشف أنها تعالج جميعها موضوعا أساسيا ومركزيا واحدا "هو السيادة العليا أو‬
‫المشروعية العليا لإلسالم " وهذه السيادة تشمل ثالث ذرى تتراتب هرميا كاآلتي – القرآن‬
‫بصفته مصدر للسيادة العليا اإللهية – السنة السيادة العليا للنبي – االجماع والقياس‬
‫واالستحسان وهي العمليات البشرية من أجل بلورة السيادة العليا واحترامها‪.2".‬‬

‫يجعلنا محمد أركون بهذا أمام حقيقة يراها هو مؤلمة واستنتاج يعتبره مؤسف وهو‪ :‬أن‬
‫العقل أتى في المرتبة الثالثة بعد النص القرآني والسنة النبوية وبالتالي فإن العقل سيكون‬
‫أداؤه مصبوغ بتصور ديني مسبق يضعه في إطار محدود ويسيج عليه بسياج‪ ،‬وال يستطيع‬
‫أن يتقدم أو يتحرك ويصبح مقتنعا باألفكار الالهوتية التي تسيره نحو االعتصام بالمشروعية‬
‫اإللهية العليا المطلقة فتؤول به إلى العقل الفقهي المرتبط بالنص في المقررات البديهية أوفي‬
‫المعارف التي استنتجت‪ ،‬وهذا العقل الفقهي هدفه األسمى هو الوصول إلى اليقين القطعي‬
‫والتمسك به دون إ يجاد آلية فعالة تبحث في أصول الفقه الحقيقي التي أساسها اجتهادات‬
‫ومضامين عديدة كالعرف والتقاليد‪ ،‬لكن الفقهاء وضعوا عليها رداء القداسة واكسبوها شرعية‬
‫دينية فأصبحت تلك االستنتاجات بمثابة نصوص قرآنية ال تعارض وال تناقش‪" .‬وهكذا يولد‬
‫الخطاب األصولي فالفقهاء والمفسرون هم الذين يحددون األصول بواسطة التقنيات الشكالنية‬
‫الستنباط أصوال إلهية على القانون (أو الشريعة)والواقع أن هذه مشكلة من األعراف المحلية‬
‫التي خلع عليها‪ ،‬رداء التقديس وهذه األصولية تولد النزعة التمامية‪ :‬أي المحافظة على نزاهة‬
‫الوحي وكليانيته هذا الوحي الذي يعتقد بأنه تلقى ونقل ودون مع مراعاة كل متطلبات الصحة‬
‫في مدونه رسمية مغلقة (توراة‪ ،‬انجيل‪ ،‬قرآن)وبفضل هذه المدونة أو المصحف الذي يقع في‬

‫‪1‬محمد أركون‪،‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل‪،‬ص‪.07‬‬


‫‪ -2‬فارح المسرحي ‪،‬ص‪،36‬المرجع السابق ذكره ‪.‬‬
‫‪251‬‬
‫متناول كل يد يمكنهم أن يدمجوا في البنية العامة للنظام األصولي كل التصرفات الجديدة‬
‫المفروضة على المجتمع‪ ،1".‬ألن األحكام والفقهية القواعد األصولية الفقهية توضع أوال ثم‬
‫يأتي الفقهاء والمفسرون للبحث عن سند لها ينسجم معها في النصوص القرآنية والسنة‬
‫النبوية كمحاولة لتبرير أحكامهم وقوانينهم التي شرعوها وأصلوها وحفوها بالقداسة والهيبة‬
‫ووضعوها موضع القرآن والسنة للفكر اإلسالمي‪ ،‬وبهذا يبقى العقل تابعا للوحي وللقواعد‬
‫الشرعية من خالل اإلجماع ال يمكنه تجاوزها وال يمكنه الخروج عنها رغم أن باب االجتهاد‬
‫مفتوح‪ ،‬وهذا ما يدل عند محمد أركون على أن العقل العربي اإلسالمي لم يتحرر بعد‪ ،‬وهو‬
‫عقل خاضع للوحي يعمل داخل إطار ضيق ال يتعداه "‪ .‬وبالتالي يبقي العقل دوما تابعا‬
‫خاضعا للوحي هذه العالقة تجعل العقل محدودا إذ هناك مجال يمكنه التفكير فيه وهناك‬
‫حدود ال يمكن تجاوزها ألن هناك فضاء ممنوع على العقل التفكير فيه وهو ناتج بالضرورة‬
‫عن طريق تنظيم الحقل المسموح التفكير فيه‪.2".‬‬

‫هذا هو المفهوم الذي يعبر عنه محمد أركون بالمسكوت عنه أو الممنوع التفكير فيه‬
‫أي ما ال يسمح باالجتهاد ودراسته أو حتى التفكير فيه‪ ".‬وهنا تبرز إحدى أهم خصائص‬
‫العقل اإلسالمي والعقل الديني بصورة عامة "فالعقل الذي يشتغل داخل إطار المعرفة الجاهزة‬
‫ويستخرج كل المعرفة الصحيحة استنادا إلى معيار النصية للكتابات المقدسة وبذلك فالعقل‬
‫الديني بطبيعته تابع أي أنه يأتي في الدرجة الثانية بعد النص ومهمته هي توليد النصوص‬
‫من نصوص سابقة وذلك ما يؤكده أركون بقوله "فهو عقل خادم للوحي وال يجرؤ أبدا على‬
‫مبادرة السؤال أو التأويل ال يسمح به الوحي المبين‪ .3".‬وبهذا يسجن العقل وتجمد حركته‬
‫وتضيق عليه مساحة نشاطه وتعدم حريته ويقتصر أداؤه في الوحي وفي مجال معين محدود‬
‫ال يسمح فيه باالستنتاج واالستدالل والتحليل ومن هذا التصور "قد نكون المسنا الخاصية‬
‫الثانية للعقل اإلسالمي وهي أنه عقل دوغمائي ‪ Raison Dogmatique‬يركز على ثنائية‬
‫حادة متمثلة في نظام من العقائد واإليمان يقابله نظام من الالعقائد والالإيمان‪ ،‬فالعقل‬
‫الدوغمائي يرتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪ ،‬أين هو الفكر االسالمي المعاصر ‪،‬ص‪.128‬‬


‫‪ -2‬فارح المسرحي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.38‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.37‬‬
‫‪252‬‬
‫والصرامة ما عداها يعتبر الغيا وال معنى لها وتحل في دائرة الممنوع التفكير فيه‪ .1".‬إذ أن‬
‫هذا السياق الخاص من التفكير هو الذي ولد في الثقافة العربية اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي‬
‫فكرو " الالمفكر فيه "أو "الممنوع التفكير فيه"‪ ،‬خاصة بعدما أصبح العقل اإلسالمي يركز‬
‫فقط على الشروحات والتأويالت األولى للرواة المفسرين األوائل وال يحاول تخطي هذه‬
‫المبادئ السابقة‪ ،‬فكما رأى الجابري هذا يعتبر تفسير تراثي للتراث ويؤكد أيضا أنه ينبغي‬
‫علينا أن" نتحول من كائنات تراثية لكائنات لها تراث‪" .‬فهو يقصد الدراسة بمنهج جديد‬
‫وبتطوير أساليب الفهم والتفسير وجعل الموروث خاضعا للعقل وليس العكس‪ .‬وبما أن العقل‬
‫انتقل عبر التاريخ بتجليات مختلفة اختار محمد أركون رسالة الشافعي التي كان تهدف إلى‬
‫"تحقيق خاصية جوهرية للعقل اإلسالمي وهي خاصية التعالي على التاريخ األرضي وضرورة‬
‫تقنين هذا التاريخ داخل فضاء الوحي وإلنجاز ذلك يفصل أركون القول في العرض الداللي‬
‫‪2‬‬
‫إلى المستويات التالية‪".‬‬

‫أما المستوى األول‪ :‬فيتمثل في اللغة التي ومن خالل تحليل أركون لرسالة الشافعي ينتقده‬
‫كبير في رفض التاريخية جراء العالقة المباشرة التي وضعها بين اللغة‬
‫ا‬ ‫ويرى أنه مثل عامال‬
‫والحقيقة دون إدخال األحداث التاريخية ودورها‪ ،‬والمستنتج من رسالة الشافعي أن مضمونها‬
‫ال يحتوي التاريخية‪ ،‬فالتاريخ في تصور الشافعي خاضع للوحي إ ْذ فضل اللغة العربية على‬
‫سائر اللغات األخرى ألنها اللغة التي أنزل بها الوحي اإللهي وهذا التمييز حسب أركون لم‬
‫"يتم على أساس معرفي بل تم على أساس التمركز العرقي كما أن الشعور بالحرج المعرفي‬
‫دفع الشافعي إلى االستنجاد بالقرآن»فإن قال قائل ما الحجة في أن كتاب هللا محض بلسان‬
‫العرب(‪)...‬الحجة في كتاب هللا‪ ،3".‬إن هذا التفسير يؤكد في نظر أركون على أن الشافعي‬
‫في الرسالة حفز بشكل مباشر على التصور الذي يميل إلى االنغالق على الذات الذي ال‬
‫يفسح المجال لالنفتاح على اآلخر إذ أن مجمل التعليالت والتفسيرات فيه تعكس مركزية‬
‫الذات والجنس والعرق ألن هذا الفكر الدوغمائي سيكون ولفترة طويلة "مساهما في سجن‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر االسالمي قراءة علمية ‪،‬ص‪.06‬‬


‫‪ -2‬د ‪ :‬مختار الفجاري ‪ ،‬نقد العقل االسالمي عند محمد أركون ‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪،2005‬ص‪.135‬‬
‫‪-3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.136‬‬
‫‪253‬‬
‫العقل اإلسالمي داخل أسوار منهجية معنية سوف تمارس دورها في شكل استراتيجيا إللغاء‬
‫التارخية "ألنه يسعى إلى تأسيس عالقة لغوية مطلقة تربط الحقيقة المتعالية التي أوحى بها‬
‫هللا بالصيغ اللغوية المتقبلة في القرآن‪ ،‬وهذه الحقيقة المتعالية يحققها القول بالتوفيق ألن‬
‫المصدر اإللهي للغة الوحي يقطع الطريق أمام التاريخية‪ .1".‬فلقد ساهم الشافعي في حبس‬
‫العقل داخل سياج مغلق بربط اللغة بالحقيقة وتفضيل اللغة العربية عن باقي اللغات األخرى‬
‫ووضع أمام هذا العقل المسجون أبواب مقفلة بأقفال من الوحي فال يجرؤ العقل فضها وال‬
‫يستطيع حتى التفكير في ذلك‪ ،‬والشافعي بهذا التصور قد ضيق واسعا ووقف في طريق‬
‫تحرير العقل وتقدمه‪.‬‬

‫المستوى الثاني يتمثل في السنة النبوية أي الحديث ولقد قام الشافعي بتقديم أدلة على أن‬
‫السيادة العليا للسنة النبوية الشريفة (الحديث)كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع‬
‫اإلسالمي ودليله في ذلك مأخوذ من القرآن العظيم لتبرير فكرته من أجل السيطرة على‬
‫عقول المسلمين وإخضاعهم للسنة ومثل هذه األدلة التي قدمت كقوله تعالى‪" :‬وما كان‬
‫لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى هللا ورسوله أم ار أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي هللا‬
‫ورسوله فقد ضل ضالال مبينا‪ ،2".‬وقوله تعالى أيضا ‪ " :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إال‬
‫وحي يوحى‪.3".‬‬

‫يرى أركون أنه بهذا قدس الحديث وأصبح مثل النص القرآني أي أن كل ما صدر‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم هو من الوحي وله نفس المنزلة مع القرآن معنى هذا أن‬
‫"العالقة التي تربط بين هللا والرسول تصبح في جهة التعالي ألن هللا بذاته يتكلم ويتدخل في‬
‫التاريخ بواسطة رسوله الذي يتخذ ق ارراته بنوع من المعصومية التامة(العصمة) ويسير على‬
‫طريق الهدى‪ ،‬وأما االنسان العادي فيمكنه االلتحاق بهذه العالقة أو المعادلة "هللا الرسول"‬
‫عندما يصبح " رفيقا لألنبياء والصحابة واألولياء " إن السنة التي خلع عليها التعالي‬

‫‪ -1‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.137‬‬


‫‪ 2‬سورة األحزاب ‪ ،‬اآلية رقم‪.36‬‬
‫‪ -3‬سورة النجم ‪،‬اآلية رقم ‪.03،04:‬‬
‫‪254‬‬
‫والتقديس بهذا الشكل تستطيع عندئذ أن تكون رديفا أو مكمال للقرآن لكي تمد توسع من‬
‫عملية التعالي والتقديس وتعممها فتشمل كلية التاريخ البشري‪.1".‬‬

‫يرى محمد أركون أن الشافعي بهذا التأسيس للعقل اإلسالمي وضع مقدمة خاطئة له‬
‫دفعت لمزيد من التقديس ووسعت كثي ار ساحة الالمفكر من خالل تقديس الحديث واعتباره‬
‫وحي إالهي ويرى أركون أن هذا أيضا ساهم بشكل كبير في فرض االنغالق والتقوقع على‬
‫الذات وبالتالي ألغى التاريخية لوجود أحكام قطعية غير قابلة للنقاش وترفض التفسيرات‬
‫األخرى وال تسمح بالتناول أو حتى التشكيك فيها رغم أن الرسول صلى هللا عليه وسلم حسب‬
‫محمد أركون كان يتصرف في أحيان كثيرة كبشر لذا فال يمكن اعتبار كل ما جاء به الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم وحي وهذا ما قرره الوحي على الرسول صلى هللا عليه وسلم نفسه‬
‫وحى إَلي﴾"‪ .2‬ومعنى هذا أن هللا لم يجرد الرسول‬ ‫ِ‬
‫عندما قال‪ُ﴿" :‬ق ْل إنما َأنا َب َشر م ْثَل ُك ْم ُي َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم من انسانيته ولم يؤلهه وهذا تماما حسب أركون اللبس الذي وقع فيه‬
‫الشافعي الذي ضر بالعقل اإلسالمي وجمد حركته واعتبر فيما بعد مقياس يقاس به التقارب‬
‫والتقابل في المفاهيم من أجل التأويل أو التفسير وبهذا "نالحظ أن العقل المستخدم هنا في‬
‫رسالة الشافعي هو من نوع خاص إنه عقل ديني‪...‬وهذا العقل الديني معياري بمعنى يحدد‬
‫ما هو الحق وما هو الباطل وما هو الخير وما هو الشر ولذا يسهل على جمهور المؤمنين‬
‫فهمه واستيعابه‪...‬بشكل يقينا متماسكا إكراهيا بالنسبة للفكر ومطمئنا لسكون النفس ومغذيا‬
‫للقلب ومنظما لشؤون المجتمع‪...‬وهكذا ينتج هذا العقل الديني "العلم" ليس بالمعنى الحديث‬
‫للكلمة وإنما بمعنى التعرف على الشيء بشكل عفوي واالنتساب المباشر بالقلب والعاطفة إلى‬
‫الحقائق البديهية األبدية الخالدة تماما كاهلل مؤلفها وصانعها"‪ .3‬ومن هنا أخضع هذا العقل‬
‫كافة األدبيات اإلسالمية وارتفع عن الجميع ولم يتمكن منه أحد وسيطر بالوحي على حركة‬
‫التاريخ وخرج عن المفهوم التاريخي وسياقه وهذه الرؤية هي التي ثبطت العقل اإلسالمي‬
‫ووقفت بينه وبين تقدمه وإبداعه‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬تارخية الفكر العربي اإلسالمي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.80‬‬


‫‪2‬سورة الكهف ‪،‬االية ‪.110‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪ ،‬نحو نقد العقل االسالمي ‪ ،‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.95‬‬
‫‪255‬‬
‫المستوى الثالث‪ :‬فيتمثل بإعطاء األفضلية للنصوص القرآنية واألحاديث النبوية مقابل‬
‫القياس العقلي‪ ،‬لذا فالعقل سيكون في مرتبة اقل من النص بنوعيه والهدف من هذا "تكبيل‬
‫المعقول العقلي وإخضاعه للنص أمام استحالة احتوائه الهوتيا وإلحاقه بالمشروعية العليا‬
‫نفسها التي يتمتع بها بكل من القرآن والسنة إذ إن» إبداعية هذا العقل الخاضع تماما لسيادة‬
‫هللا المطلقة تقلص إلى درجة مؤثرة في نظرية القياس الذي ينبغي أن يؤسس على‬
‫العلة(‪)...‬إن العلة عبارة عن عنصر ثابت ال متغير يتيح إجراء القياس بين حالة أصل‬
‫وحالة فرع ‪...‬وهذا ما يجعل حالة جديدة أو مستحدثة ينبغي أن نجد لها أصال في الفضاء‬
‫األنطولوجي المشكل من قبل النصوص‪. 1".‬‬

‫لقد رأى أركون أن النص الديني يمارس ضغطا رهيبا على حرية العقل ألنه يطمح‬
‫دائما بشغف لتجاوز الحدود واألطر النصية عندما يقدم تفكي ار أو تفسي ار أو يحاول أن يبرهن‬
‫على األحكام وهذا لم يكن ممكنا أبدا‪ ،‬وبذلك حبس التفكير األرثودوكسي العقل اإلسالمي‪،‬‬
‫ومن هنا يحث محمد أركون المفكرين المسلمين إلى مراجعة النصوص القرآنية بشكل مختلف‬
‫جديد وتقديم تفسير وشرح وتأويل برؤية جديدة مختلفة أيضا بواسطة فظ أقفال الوحي وفتح‬
‫المجال واسعا للعقل وتحريره من السياج الدوغمائي وانتهاج أدوات البحث والدراسة الحديثة‬
‫كالحفر والتنقيب والتفكيك وممارسة ذلك على المفاهيم واألحكام والمعاني اللغوية ألنها نتاج‬
‫إنساني يمكن إخضاعه لدراسة حديثة‪.‬‬

‫نستنتج من كل هذا أن محمد أركون ركز مباشرة ودون حرج أو تردد على خلع القداسة‬
‫من التراث األول والمنطلق الذي أسس للعقل اإلسالمي وهذا ال يتحقق إال بإحداث القطيعة‬
‫من األفكار الكالسيكية وإخضاع كل الرصيد االجتماعي والسياسي والتاريخي والديني‬
‫والفكري وكل ما يحمله من سياقات مختلفة ومتعددة لدراسة بمناهج العلم الحديثة التي‬
‫اعتمدت في الدراسات الحديثة للعلوم اإلنسانية‪ .‬وهو ما دعاه لوضع منهجه الخاص والذي‬
‫سماه اإلسالمي ات التطبيقية‪ ،‬فماذا يعني بها وعلى ما تقوم إستراتيجيته في نقد العقل‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ -1‬د ‪ :‬مختار الفجاري‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.139‬‬


‫‪256‬‬
‫‪ - 3‬مشروع اإلسالميات التطبيقية لدى أركون‪:‬‬

‫لقد قام مشروع أركون في دراسة التراث اإلسالمي على أساس منهج اإلسالميات‬
‫التطبيقية ولقد استوحى محمد أركون "هذه التسمية من كتاب صغير لروجيه باستيد بعنوان‪:‬‬
‫األنتروبولوجية التطبيقية‪ .1".‬ويمثل هذا الكتاب معرفة نظرية للتطبيق يعتمد على العديد من‬
‫العلوم المختلفة من أجل تحقيق أهداف علمية دقيقة وهذا بالضبط ما أراده محمد أركون‪ ،‬فقد‬
‫بنى مشروعه لدراسة التراث اإلسالمي عامة والقرآني خاصة على هذه القاعدة التي اعتمد من‬
‫خاللها على مجموعة مختلفة من العلوم المعاصرة‪ ،‬فهذا المشروع مؤسس على أسس معرفية‬
‫مختلفة يهدف لتفكيك وتحليل الخطاب الديني والتراث التاريخي ومن ثم إعادة بنائه وفق‬
‫تصور أنتربو‪-‬سوسيولوجي ألسني الجتثاث حالة الخمول من واقع التراث العربي اإلسالمي‬
‫الذي غرسه فيه الفكر الالهوتي األرثودوكسي حتى يستطيع أركون أن يمنح هذا الواقع رؤية‬
‫جديدة مسايرة لضرورات العصر ومتطلباته وإدماج التراث اإلسالمي في عجلة للسيرورة‬
‫التاريخية ونقله من المرحلة السكوالئية إلى المرحلة المعرفية‪ .‬ومن هذا التقديم يتبادر في‬
‫أذهاننا اإلشكال اآلتي ما هي غاية وأعمال اإلسالميات التطبيقية ؟وما هي أسسها؟‪.‬‬

‫يرى محمد أركون أن التراث اإلسالمي يشهد واقعا مختلفا عن الفكر األوربي المتطور‬
‫ما يعرف باإلسالميات التقليدية التك اررية واإلجت اررية التي اعتمدت على االجتهاد الكالسيكي‬
‫القديم منذ البداية والزال هذا الوضع قائما لحد الساعة‪ ،‬واإلسالميات التطبيقية منهج قائم من‬
‫أجل تصحيح هذا الوضع‪،‬بمعنى أن العقل اإلسالمي عموما يعيش في حالة مزرية تتطلب‬
‫اعتماد طريق جديد مختلف ليؤمن لمرحلة انتقالية مغايرة لما قبلها فاإلسالميات التطبيقية‬
‫جاءت في خضم المعاناة االجتماعية العربية اإلسالمية وفي المقابل جاءت في خضم‬
‫التطورات المعرفية والفكرية الحاصلة واألدوات العلمية الحديثة من أجل قراءة التراث‬
‫اإلسالمي والنصوص اإلسالمية من قرآن وسنة نبوية وفهمها "لقد استرد االسالم كدين‬
‫وكتراث فكري حيوية مطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات اإلسالمية إنه يلعب دو ار من‬
‫الطراز األول في عملية إنجاز اإليديولوجيات الرسمية والحفاظ على التوازنات النفسية‬
‫واالجتماعية وإلهام المواهب الفردية‪ ،‬من هنا نجد أن الحاجة إلى فهم أفضل للمحتوى‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬تاريخية الفكر العربي االسالمي ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.275‬‬


‫‪257‬‬
‫الموضوعي للرسالة القرآنية ولفكر العلماء والمؤسسين للتراث الحي تبرز نفسها اآلن ليس‬
‫فقط عن األقلية من الخاصة كما كان عليها في الماضي وإنما أيضا عند الجماهير الشعبية‬
‫التي تتزايد بإستمرار‪ . 1.‬فالمنهج العلمي توجه ضروري بالنظر للواقع اإلسالمي العاجز عن‬
‫عاجز عن االهتمام بواقع المسلمين أما "اإلسالميات التطبيقية‬
‫ا‬ ‫فهم ودراسة تراثه ألنه كان‬
‫تنطلق إذن من واقع المسلمين وحاضرهم ومشاكلهم ثم استنباط ما يتعلق بها من تعاليم دينية‬
‫وأغراض سياسية ومصالح اقتصادية وغير ذلك من العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية‬
‫الشاملة للمجتمعات وهو ما يدعوه أركون بالمقاربة النقدية للواقع والتي تسمح بتعرية ماهو‬
‫مطموس ومخفي في اللغة الشائعة والخطاب الشائع الذي يستخدمه المسلمون‪. 2".‬‬

‫الهدف من هذا االتجاه توفير أدوات بحث جديدة من أجل مراجعة وفهم التراث‬
‫اإلسالمي الذي يعني الرسالة اإلسالمية فهما مساي ار لروح العصر ومستجداته ليتمكن من‬
‫كشف الغموض الذي الزال يعترى عدة زوايا في الساحة اإلسالمية ويزيح اللبس الذي رافق‬
‫التراث لعصور طويلة أثناء القراءة والتأويل سواء من طرف العامة أو من طرف المفكرين‬
‫المسلمين ألن األبحاث اإلسالمية مازال وضعها "يستمر في االرتكاز وإلى حد كبير على‬
‫المسلمات المعرفية – إبستيدي –القرون الوسطى وذلك ألنه يخلط بين األسطوري والتاريخي‬
‫ثم يقوم بعملية تكريس دوغمائية للقيم األخالقية والدينية وتأكيد تيولوجي لتفوقية المؤمن على‬
‫غير المؤمن والمسلم على غير المسلم وتقديس اللغة ثم التركيز على قدسية المعنى المرسل‬
‫من قبل هللا ووحدانياته(معنويا)هذا المعنى الموضح والمحفوظ والمنقول عن طريق الفقهاء‬
‫باإلضافة إلى عقل أبدي فوق تاريخي‪...‬ومجهز بأساس أنتولوجي يتجاوز كل تارخية‪.3".‬‬
‫فلقد كان عجز الفكر العربي اإلسالمي نتيجة للرؤية الضيقة التي اقتصرت على اعتقاد‬
‫المسلمات مسائل قطعية مطلقة ال تسمح بأي نقاش أو دراسة‪ ،‬لذلك ابتعد التصور العربي‬
‫اإلسالمي تماما عن البحث العلمي المتطور واستمر في االبتعاد وتوسعت الهوة أكثر بينه‬
‫وبين الحداثة وتحصيل المستجدات في العلوم المختلفة لهذا كله أصبح من الضروري اعتماد‬
‫مناهج جديدة ترافق التراث اإلسالمي كله لنقله من هذا الواقع لعالم جديد مليء باألفكار‬

‫‪ --1‬محمد أركون ‪،‬تارخية الفكر العربي االسالمي ‪ ،‬المرجع السابق ‪،‬ص‪.55‬‬


‫‪ -2‬فارح المسرحي‪،‬المرجع السابق ص‪.68‬‬
‫‪-3‬محمد أركون‪،‬تارخية الفكر العربي المعاصر‪،‬ص‪.55‬‬
‫‪258‬‬
‫العلمية الجديدة واألدوات المعرفية الحديثة وهذه اإلسالميات التطبيقية في نظر محمد أركون‬
‫هي من تستطيع فعل ذلك ألن " اإلسالميات التطبيقية تريد أن تنقض هذه الهيمنة ذلك أن‬
‫مهمتها ال تتلخص فقط في انتاج الدراسات الموثقة كما كان االستشراق قد فعل سابقا وإنما‬
‫هي تريد أيضا أن تأخذ على عاتقها طرح المشاكل الفعلية التي تعاني منها المجتمعات‬
‫اإلسالمية ثم محاولة حلها والسيطرة عليها من قبل المسار العلمي والمنهجية العلمية‪...‬فهي‬
‫تريد أن تتموضع داخل هذه المجتمعات اإلسالمية لكي تتعرف على مشاكلها القديمة‬
‫والحديثة‪. 1".‬‬

‫هذا ما جاء به محمد أركون كمشروع جديد من أجل التحرر من التصور الثيولوجي‪،‬‬
‫وحث أيضا جميع المفكرين والعلماء على اعتماد هذه الرؤية وعلى التحلي بالشجاعة‬
‫لالندماج في دراسة الحالة الفكرية السائدة في المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وهذه هي الرسالة التي‬
‫يريد محمد أركون تحقيقها بواسطة اإلسالميات التطبيقية باالنطالق من الواقع الحال للمجتمع‬
‫اإلسالمي والظروف التي يعاني منها األمر الذي سيساعد أكثر في تقديم حلول فعلية تتوافق‬
‫بشكل تام مع متطلبات واحتياجات هذا الواقع وهذا يمكن أن يتحقق بالحفر في عمق‬
‫المجتمع اإلسالمي وبإعادة النظر في التراث الديني الذي يعتبر أساس العقل اإلسالمي حيث‬
‫يرى محمد أركون أن‪" :‬من وجهة نظر ابستيمولوجية (معرفية)فإن اإلسالميات التطبيقية تعلم‬
‫بأن ليس هناك من خطاب ومنهج بريء إنها ترجح في كل مساراتها وخططها فقد‬
‫الخطاب(أي خطاب)وذلك بالمعنى الذي حدده لوى ماران‪...‬كما أنها ترجح تعددية المناهج‬
‫الفاحصة من أجل تجنب أي اختزال للمادة المدروسة‪...‬وهي دراسة الالمفكر فيه في ضمن‬
‫الفكر اإلسالمي‪ .2".‬هذا يعني أنه يجب أن يتم تسليط الضوء مباشرة على التراث التاريخي‬
‫والفقهي والتأويالت والتفسيرات بقراءة جديدة مبنية على قواعد ابستمية بأدوات ومنهجية‬
‫حديثة‪.‬‬

‫أما عن طبيعة اإلسالميات التطبيقية فهي تستند على مجاالت متعددة "وهذا ناتج عن‬
‫اهتماماتها المعاصرة (فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر ومخاطره)‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.276‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬تارخية الفكر العربي االسالمي‪،‬ص‪.57‬‬
‫‪259‬‬
‫والمتطلبات الخاصة بموضوع دراستها لقد ارتبطت ظاهرة االسالم منذ نشأتها بكالم أصبح‬
‫نصا‪ ،‬وهذا يعني أنه ينبغي على عالم اإلسالميات أن يكون مختصا باأللسنيات بشكل كامل‬
‫فاإلسالم كظاهرة دينية ال يمكن لنا أن نقلصه (أو نختزله) إلى مجرد نظام من األفكار‬
‫المجردة ‪...‬فهو جسد مؤلف من عدة عوامل ال ينفصم العامل النفساني والبسيكولوجي‬
‫(الفردي الجماعي) والعامل التاريخي (تطور المجتمعات اإلسالمية)والعامل السوسيولوجي أي‬
‫محل االسالم ضمن نظام العامل التاريخي لكل مجتمع‪ ، 1".‬فتجلي النص الديني القرآني‬
‫والحديث النبوي والتراث اإلسالمي ككل تم بتفاعل شامل لكل تلك العناصر وحفته مختلف‬
‫العوامل المؤثرة ‪،‬وقد اتخذ النص الديني (القرآن والسنة) بعد ذلك أساليب مميزة ومحددة متأث ار‬
‫بتلك العوامل وأنتج االرتباط الزمكاني تأويالت وتفاسير خاصة به تتجدد وتتغير في كل مرة‪،‬‬
‫ألن خصوصيات كل فترة تتغير وتستمر في التبدل الذي يجعلها حقائق نسبية غير مطلقة‪،‬‬
‫واإلسالميات التطبيقية تهتم وتركز بالخصوص على هذه النقطة أي النسبية في التأويل لذلك‬
‫هي تتجاوز الخطاب التقليدي القديم الالهوتي األورثودوكسي الذي ينفرد بقراءة منعزلة‬
‫ويقصي كل الدراسات الجديدة الحديثة للتراث ولهذا يحث محمد أركون في هذه الرؤية‬
‫الجديدة على التروي في إصدار األحكام السلبية للقراءات‪ ،‬ومن هذا يقول‪" :‬أقول ذلك لكي ال‬
‫يسارع القراء » المؤمنون « إلى رفض قراءات التي أقترحها للقرآن ألنها خارجة عن إطار ما‬
‫أسميه بالتفسير الموروث وهناك من يكفر « هذه القراءات بناء ال على ما فهمه واجتهد‬
‫إلدراك مقاصد المؤلف ولكن أساس ما غاب عن فكره ومعلوماته إذا كان لم يكتشف بعد‬
‫تعاليم اللسانيات والسيميائيات واألنتروبولوجية والسوسيولوجيا الدينية والثقافية وعلم النفس‬
‫التاريخي‪ .2".‬ويستمر محمد أركون في قوله‪" :‬إن اإلنتاج العلمي فيما يخص علوم االنسان‬
‫والمجتمع اليزال قليال في هذه المجتمعات اإلسالمية بل وال يزال سطحيا مقلدا بعيدا عن‬
‫االبداعات والتحوالت والطفرات المعرفية التي طرأت مؤخ ار بكل مصطلحاتها ومفهوماتها‬
‫ومناهجها"‪ . 3‬األمر الذي جعل محمد أركون يحث في كل مرة من خالل كتاباته وخطابه‬
‫الفكري على توظيف تلك العلوم – االجتماعية واإلنسانية‪ -‬واستثمار مناهجها وما وصلت‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬مرجعنفسه‪،‬نفس الصفحة‪.‬‬


‫‪ -2‬محمد أكون ‪ ،‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ‪،‬ص‪.7‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه ‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪260‬‬
‫إليه في دراسة التراث اإلسالمي ألنها مناهج مؤسسة على قواعد علمية وموضوعية مستمدة‬
‫من أحدث ما وصل إليه العلم ‪.‬‬

‫‪ -4‬مهام اإلسالميات التطبيقية‪:‬‬

‫يتمثل لب انشغال اإلسالميات التطبيقية في التصدي للضغوطات الفكرية واللغوية‬


‫التي تطبق على الفكر اإلسالمي وعلى التراث اإلسالمي وفي تحرير العقل اإلسالمي منها‬
‫وبالتالي كان "الهدف النهائي لإلسالميات التطبيقية هو خلق الظروف المالئمة لممارسة فكر‬
‫إسالمي محرر من المحرمات (‪ )Tabous‬العتيقة والميثولوجية البالية ومحر ار من‬
‫االيديولوجيات الناشئة حديثا‪ ،‬فسوف إننا سننطلق من المشاكل الحاضرة ومن األسلوب الذي‬
‫عولجت به هذه المشاكل في المجتمعات اإلسالمية نحدد بذلك نوعين أو قطبين من‬
‫االهتمامات ‪...‬القطب الذي يدعوه العرب بالتراث والذي ما انفك الوعي العربي اإلسالمي‬
‫عن الحنين اليه (أو إدعائه) حتى اليوم و المدعو أحيانا بالعصر التأسيسي( الزمن المليء‬
‫بالوحي ‪ -‬زمن السلف –زمن النماذج)‪ ،‬ثم قطب الحداثة‪ .1".‬من هذا تتبين جليا المهام‬
‫الرئيسية لإلسالميات التطبيقية والتي تتمثل في السعي واالجتهاد من أجل إيجاد ظروف‬
‫مناسبة للفكر العربي اإلسالمي ظروف تتماشى ومتطلبات الحداثة ومسايرة للتطورات العلمية‬
‫والفكرية والسياسية والثقافية واال قتصادية بعيدة عن تلك التي كانت سائدة فيه منذ العصور‬
‫األولى والتي لم تتركه يتحرك وأخضعته لتفكر الهوتي سيطر عليه وأقبعه لفترة طويلة في‬
‫أسره المظلم وتركه في عزلة موحشة يتفرج دون أن يحاول فهم ذاته أو فهم غيره ولم يسمح‬
‫في المقابل بذلك للذين اهتموا بالتراث اإلسالمي وأغلق على نفسه ورفض كل المحاوالت‪،‬‬
‫لذلك أراد محمد أركون صناعة مفهوم جديد وحديث للتراث العربي اإلسالمي متحرر من هذه‬
‫الدغمائية التي كانت والزالت لحد اليوم تقف حائال ومانعا قاه ار وقصريا لحركة الفكر العربي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهذا سيتم في تصور محمد أركون باتباع منهجية الحفرية التي استلهمها من‬
‫ميشال فوكو بالتنقيب والحفر في الزوايا التي مثلت مجال الالمفكر فيه والمبادرة في مناقشتها‬
‫ليتم استبدال المناهج القديمة التي اعتمدت على األسطورة والتعالي واألدلجة بمنهجية‬
‫التاريخية الحديثة التي استوحاها من مدرسة الحوليات الفرنسية‪.‬‬

‫‪-1‬محمد أركون‪ ،‬تاريخ الفكر العربي االسالمي‪،‬ص‪.58‬‬


‫‪261‬‬
‫هذا يعني أن محمد أركون يريد تخطي الدراسات السكوالئية اإلسالمية واالجتهاد‬
‫التقليدي القديم ويقوم فيما بعد بإزاحة كل الحواجز التي تعزل التراث اإلسالمي لكي ينخرط‬
‫في حركة التاريخ ويتفاعل بشكل شامل وكامل مع مقتضيات الحداثة لتذوب في النهاية كل‬
‫العوائق والحدود وترفع األقالم عن الفكر الحر حتى يتم استظهار المعاني والمفاهيم‬
‫الموؤدةو بعثها من جديد بعناية اإلسالميات التطبيقية بكل شجاعة ودون اقصاء‪ ،‬وبهذا يتم‬
‫الوقوف على أفق أوسع بكل حرية ويتم العمل على التراث اإلسالمي بكل التزام بمبادئ الفكر‬
‫ومناهج العلم الحديث‪" .‬وإعادة قراءة لتأويل االسالم والتراث العربي اعتمادا على مناهج‬
‫حديثة تمكن من إلقاء ضوء جديد على التراث وإبداع مواقف فكرية أكثر ارتباطا وإلتزاما‬
‫بالفكر العلمي المعاصر"‪ .1‬كما ستأخذ اإلسالميات التطبيقية بعين االعتبار الجانب الغير‬
‫مكتوب من التراث اإلسالمي إذ أن هذا الجزء ال يستهان به وال بدوره في تشكيل وبلورة الفكر‬
‫اإلسالمي والتراث اإلسالمي إال أنه لم يتم تدوينه بل رفضت كتابته ومنعت فتم بذلك إقصاؤه‬
‫وتهميشه بسبب تأثيرات فكرية واعتبر هذا الجانب لمدة طويلة أسير أحكام التكفير والقداسة‬
‫والتعالي وتم االتفاق بشكل مباشر أو غير مباشر على فصله عن سياق التاريخ‪ ،‬لذا ركز‬
‫محمد أركون على وضع قراءات عديدة ومختلفة ومقاربات منهجية لنقد التراث اإلسالمي‬
‫بواسطة منهجه الجديد الذي يتبنى قراءة تحليلية معاصرة تحوي معارف متعددة كالسيميائية‬
‫واأللسنية والتاريخية والسوسيولوجية واألنتروبولوجية والتيولوجية بكل تفاعل مع النص الديني‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف سيوظف محمد أركون هذه المناهج في قراءة التراث‬
‫اإلسالمي؟‪.‬‬

‫أ‪ -‬القراءة األلسنية‪:‬‬

‫يتضح اهتمام محمد أركون بهذا الجانب لماله من دور مهم يلعبه في دراسة وتفسير‬
‫اللحظة اللغوية التي تأسس فيها النص القرآني والنصوص التاريخية‪ ،‬فالبحث األلسني‬
‫باستطاعته تفكيك األبعاد والمستويات الداللية المختلفة كالتعبيرات المباشرة الصريحة‬
‫والمجازية والتشبيهية والقراءات المستترة وراء البنى اللغوية وذلك من أجل التخلص من‬
‫التفاسير التقليدية والتأويالت العتيقة السطحية الشكلية من أجل الوقوف في وجه المؤسسات‬

‫‪ -1‬فارح المسرحي‪،‬ص‪.69‬‬
‫‪262‬‬
‫األرثودوكسية التي أ نهت تشكيل النص ووضعته في قوالب جاهزة وحرمت مناقشتها لضمان‬
‫استمرار سلطتهم في تأويل النصوص من أجل ضمان مصالحهم اإليديولوجية‬
‫والسوسيولوجية‪ ،‬لذلك أصر محمد أركون على استبدالها بقراءة جديدة حديثة وفسح المجال‬
‫واسع ا للدراسة األلسنيةالتي تعتمد البحث في عمق النص والداللة التي تحفه وفي هذا المفهوم‬
‫يقول هاشم صالح‪ :‬أركون " قد حررنا – ولو للحظة – من الهيبة الساحقة للنص هذه الهيبة‬
‫التي تحجب عنا حقيقة مادية اللغوية (أي حقيقة كونه مكتوبا بحروف لغة بشرية معينة‬
‫وطبقا لقواعد نحوها وصرفها – هي هنا اللغة العربية التحليل األلسني أو السميائي يساعدنا‬
‫على إقامة مسافة بيننا وبين العقائد االيمانية الموروثة منذ نعومة أظافرنا دون أن يعني ذلك‬
‫القضاء على االيمان على االطالق (فااليمان يبقى ولكنه ايمان ما بعد التحريرال ما قبله‪)...‬‬
‫التحليل األلسني يقوم بعملية تحييد أولي لكل األحكام‪1".‬ويعني بهذا " األحكام التي تحول‬
‫بيننا وبين رؤية النص كما هو وهكذا نجد أن التحليل األلسني –أو اللغوي – له مرتبة‬
‫األولوية وبخاصة عندما يتعلق األمر بالنصوص القديمة التي غاصت لحظة نشأتها في‬
‫أعماق الزمن حتى لكأنها أصبحت فوق التاريخ فوق الزمن‪. 2 ".‬‬

‫ألن محمد أركون رغب في تموضع نقدي بإنشاء مسافة بين الدال والمدلول ليتمكن‬
‫من الوقوف فيها بين النص األصلي المؤسس والنصوص التي رافقت النصوص األصلية‬
‫التي جاءت كنتيجة لتفسيرات وتأويالت لها‪ ،‬ألن الدال والمدلول اشتركا لوقت طويل في‬
‫القداسة والتعالي على التاريخ ما استحال على المفكرين إخضاع العالقة بينهما للدراسة‬
‫النقدية وبهذا التصور الخاطئ تأسس العقل اإلسالمي‪ ،‬ولذلك اهتم محمد أركون بهذه الدراسة‬
‫اللغوية األلسنية لتمكنه من تعرية النصوص الدينية من القداسة والتعالي واخضاعها للتحليل‬
‫والتفكيك اللغوي وفي هذا الصدد يؤكد محمد أركون أن التحليل السميائي "يمثل المرحلة‬
‫األولى التي البد منها قبل أن ننخرط في أي تفسير لكن نبلور القانون أو لكي نبلور‬
‫الهوتادوغمائيا سوف يدعم فيها بعد من قبل أي نظام سياسي راسخ‪...‬التحليل السيميائي (أو‬
‫العالماتي الداللي) ينبغي أن يخص باألولوية وبخاصة عندما يتعلق األمر بالنصوص‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬أين هو الفكر االسالمي المعاصر‪،‬ص‪.13‬‬


‫‪.......................................................................... -2‬‬
‫‪263‬‬
‫الدينية التأسيسية ذات الهيبة الكبرى‪ ،‬فالتحليل السيميائي يقدم لنا فرصة ذهبية لكي نمارس‬
‫تدريبا منهجيا يهدف إلى فهم كل المستويات اللغوية التي تشكل المعنى أو يولد من‬
‫خاللها‪ . 1".‬ويهذا المنهج نتمكن من دراسة وفهم النص القرآني ودرجاته المتنوعة ونستطيع‬
‫أيضا وضع تفسير صحيح للمجاز الذي يحمله النص القرآني أو النص التاريخي أو النص‬
‫األدبي من أجل فك رمزية اللغة واتساعها لتشمل التنوع الداللي الالمحدود ويرى محمد أركون‬
‫أن هذا العمل ينبغي أن يتم من خالل الرجوع إلى اللحظة األولى التي تجلى وانبثق فيها‬
‫النص القرآني المقدس أو النص التاريخي وهذا ما يسمى بالمنهجية التراجعية التي ارتكز‬
‫عليها أركون التي تعني الرجوع إلى القرون الهجرية الثالث األولى وتناول كل اإلشكاليات‬
‫التي شملتها ودراسة النص وتذكر كل النسق التي رافقته بواسطة آليات ومنهجيات حديثة‬
‫جديدة وفي هذا المفهوم يقول محمد أركون‪" :‬إن القرآن كنص موجود ولكنه كتفسير أو كقراءة‬
‫يستهلكها القراء المسلمون غير موجود‪ ،‬فهناك عدة مدارس مختلفة من معتزلة وأشعرية وسنة‬
‫والشيعة االسماعيلية وبالتالي فهناك قراءة مختلفة وأنواع مختلفة للوعي اإلسالمي وبالتالي‬
‫فالوعي اإلسالمي الواحد غير موجود ذلك أن كل طائفة فسرت القرآن بحسب تصورها‪...‬وال‬
‫أريد أن اتبع هذه المدرسة من األلسنيات دون تلك‪...‬فأنا أحاول فيما يخصني أن أستخدم ما‬
‫يبدو لي مفيدا وذلك مردود‪ .‬وأنا استخدم ذلك انطالقا من المادة التي أدرسها"‪ .2‬وهذا مخالف‬
‫تماما لما كان المفكرون التقليديون يفعلونه أثناء تناولهم للمواضيع التي كانوا يشتغلون عليها‬
‫من أجل تفسيرها بواسطة تطبيق منهج معين عليها وهذا ما رفضه محمد أركون وقال‪" :‬إن‬
‫المادة التي أدرسها هي التي تفرض علي إختيار المنهج المالئم وليس العكس‪...‬ذلك أنه‬
‫ينبغي إعطا ء الكالم للنص أوال وطرح األسئلة عليه ومن خالله قبل تطبيق أي منهجية‬
‫أجنبية عليه‪...‬نقول ذلك بخصوص كل النصوص فكيف إذا كان األمر يتعلق بالقرآن‪.3".‬‬

‫بهذا المفهوم يتبين أن محمد أركون أخضع دون تردد النص القرآني والنص الديني‬
‫عموما للدراسة النقدية التحليلية األدبية تماما مثلما يفعل بالنصوص األدبية والنصوص‬
‫التاريخية‪ ،‬ألنه يريد تحرير العقل اإلسالمي من أحادية المفهوم والمعنى الخاص بالنص‬

‫‪1‬محمد أركون ‪،‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ‪،‬ص‪.34،35‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون ‪،‬الفكر االسالمي قراءة علمية ‪،‬ص‪.230‬‬
‫‪-3‬المرجع نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫القرآني الذي احتكره الالهوت األرثودوكسي لخمة ايديولوجيات خاصة ومنعوا أي محاوالت‬
‫أخرى للوصول إليه بفرض التزامات تصعب على أي راغب في العمل على المفهوم الديني‬
‫تناوله بل وكانوا محل أحكام بالكفر والتبديع لمجرد إبداء رأي أو إظهار موقف يخالف تلك‬
‫التأويالت الالهوتية ألنهم كانوا ولفترة طويلة يحتكرون مهمة التفسير بما يناسب مصالحهم‬
‫والجانب الشفهي لم يطرح أبدا ألنه لم ينسجم مع رغباتهم وسيعارض تورطهم في تأويالت‬
‫اعتباطية‪ ،‬لذا فأركون يفرق بين لحظتين في تاريخ النص القرآني هما‪:‬‬

‫أوال‪ :‬اللحظة الشفوية وتمثلت في فترة ما قبل جمع المصحف‪ ،‬ولحظة الكتابة وهي‬
‫الفترة التي شهدت جمع المصحف بأمر من الخليفة عثمان بن عفان‪ .‬ولهذا ركز محمد‬
‫أركون في مشروعه النقدي على الدراسة والتحليل األلسني واعتبرها نقطة انطالق أساسية‬
‫لبداية العمل قبل أي محاولة للتفسير أو التأويل للنص القرآني حتى نتمكن من رفع القداسة‬
‫على كل التفسيرات والحقائق الالهوتية المنغلقة وهذا يستدعي "العودة إلى هذه المادة‬
‫األولية(النصوص األولية)في جذرها األولي وعناصره التكوينية والعوامل المتحكمة الخاصة‬
‫بها؟ نالحظ أن هذه العودة إلى األصل الزمة التراث الذي يتكرر باستمرار لكن العودة التي‬
‫نقصدها مختلفة‪ :‬إنها العودة إلى العصر األسطوري المؤسس‪...‬إن علم الدالالت (أو علم‬
‫السمياء‪)La Semiotique‬يطمح إلى االستعادة النقدية التي تتخذ المسافة بينها وبين المادة‬
‫المقروءة ثم كل المواد الثانوية التي أنتجها التراث في آن معا‪،‬كيف تقوم العالمات( ‪Les‬‬
‫‪)Signes‬المستخدمة في النصوص بالداللة وتوليد المعنى؟"‪.1‬‬

‫لقد عمد أركون لكل هذا الشرح التفصيلي ألهدافه من هذا المشروع حتى يتفادى‬
‫معارضة الفقهاء لدراسته النقدية فيرى " ال نهدف‪...‬إلى نزع صفة الوحي على النصوص وال‬
‫إلى إلغاء شحنتها التقديسية وال إلى إزالة أثار معناها الروحية بالنسبة للمؤمنين على العكس‪،‬‬
‫إنها تهتم بهذه األشياء والسمات وبوظائف المعنى بصفتها أساليب لتوليد الداللة‪ .2".‬ألن‬
‫النصوص تفسر في نسقها العام وليس في نسقها الخاص وعندما يفهم الكل يتضح الجزء‬
‫ونتمكن من تقديم فهم حقيقي صحيح للمعاني والدالالت‪ ،‬لذا وجب تركيب كل المعاني‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر االسالمي ‪ ،‬قراءة علمية ‪،‬ص‪.33‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.33،34‬‬
‫‪265‬‬
‫الجزئية لتشكيل صورة تعكس المفهوم العام للنص القرآني دون إغفال للنصوص الدينية‬
‫المرافقة له‪ ،‬وهذا ما يجعل التحليل السميائي ذا أهمية كبيرة في دراسة التراث اإلسالمي ألنه‬
‫يزود الباحث في هذا المجال بأدوات حديثة وفعالة ويمكنه من معرفة شاملة للمصطلحات‬
‫والمفاهيم الخاصة بعلم السميائيات واأللسنيات‪ ،‬ألن هذه الدراسة تجعل النص القرآني عبارة‬
‫عن كلمات والكلمات عبارة عن لغة التي هي نتاج اجتماعي من إشارات ورموز تستدعي‬
‫شرحا وتأويال دقيقا‪.‬‬

‫غير أن محمد أركون حث على توفر عاملين مهمين فيمن يريد االختصاص بهذه لمعرفة‬
‫فيقول‪" :‬أوال ما يجب على القارئ أن يتزود به من تكوين علمي واإلحاطة باألرضية‬
‫المفهومية الخاصة باللسانيات والسميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد‬
‫االبستيمولوجي وثانيا أن يتدرب القارئ على التمييز بين االحتجاج واالدراك والتأويل والتفسير‬
‫الذي يتم في اإلطار المعرفي العقائدي الدوغمائي وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني"‪.1‬‬

‫من هذا نستنتج أن هناك نوعين من النصوص‪ ،‬أوال ‪ :‬النص األصلي أي المؤسس‬
‫للظاهرة اإلسالمية (الدال)والنص الفرعي (المدلول)وهو النص الشارح للنص الدال األصلي‬
‫‪ ،‬وهما يختلفان ويمكن تمييزهما ألن النص المدلول المفسر تعددت اتجاهات واختلفت‬
‫باختالف سياقاته واختالف بناء أحكامه الشرعية‪ ،‬وهذا ما تناولناه سابقا عندما تطرقنا لتعدد‬
‫القراءا ت واختالفها لنجد العديد أيضا من التأويالت التي ظهرت في أشكال متنوعة كالتأويل‬
‫السني والشيعي واالسماعيلي واإلباضي واألشعري والمعتزلي بل وأبعد من هذا فهناك تباين‬
‫في داخل االتجاه الواحد أيضا كاالختالف الموجود في المذهب السني األشعري والسلفية‬
‫ويحاول دائما محمد أركون أن يقدم تبريرات لتوضيح أهدافه من هذا التناول فيقول‪" :‬فتحليل‬
‫الخطاب الديني أو تفكيكه يتم ال لتقديم معانيه »الصحيحة « وإبطال التفاسير الموروثة بل‬
‫إلبراز الصفات اللسانية اللغوية وآالت العرض واالستدالل واالقناع والتبليغ والمقاصد‬
‫المعنوية الخاصة بما أسمته الخطاب النبوي"‪.2" "Le Discours Prophétique‬‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪-2‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫المقاربة التحليلية األلسنية هي التي نتمكن بواسطتها من التمييز بين الدال والمدلول‬
‫أي بين النص األصلي األول والنصوص التي تشكلت بعده‪ ،‬وبالتالي نستطيع أن نكتشف ما‬
‫هو كتابي مدون وما هو شفهي غير مكتوب وغير مدون‪ ،‬كما تمكننا هذه الدراسة من‬
‫مراجعة المفاهيم والمفردات الموروثة التي أصلها العقل الالهوتي وجعلها مسلمات وحقائق‬
‫مطلقة ال يسمح بمناقشتها وال تفسيرها وجعلها في مجال الممنوع التفكير فيه‪ ،‬ومحمد أركون‬
‫ال يستثني أي نص أو مصطلح من الدراسة النقدية ألن اللغة هي رموز وجب فك شفرتها‬
‫واستنطاقها الكتشاف معانيها الحقيقية‪.‬‬

‫‪ -5‬المنهجية التاريخية األنتروبوسوسيولوجية‪.‬‬

‫لقد علم محمد أركون أن الجوانب االجتماعية والسياسية والثقافية لعبت دو ار كبي ار‬
‫ومهما في تشكيل وبلورة التراث اإلسالمي والنص القرآني‪ ،‬لذا استند في مشروعه النقدي على‬
‫المنهجيات التاريخية واألنتروبولوجية والسوسيولوجية وذلك بواسطة الرجوع إلى األحداث‬
‫االجتماعية والسياسية والثقافية التي رافقت النص وساعدت في تأسيسه‪ ،‬ونحن هنا إذ نركز‬
‫على النص القرآني فألنه يشكل حدثا معقدا تأسس من خالل تجليات تاريخية مختلفة‬
‫تستدعي توظيف الدراسة التحليلية التاريخية التي تقدم قراءة وفهما موضوعيا للنص القرآني‬
‫وللحادثة الدينية وال تسمح بالتوظيف والذاتية وتتمكن من إخضاع المفاهيم واألحكام والحقائق‬
‫لدراستها ألن العقل الالهوتي رفع الظاهرة الدينية والقرآنية عن التاريخ رغم أن النص القرآني‬
‫انبثق نتيجة ألحداث ما يسمى بأسباب النزول‪ ،‬أي أن هناك نسق وظروف معينة ساهمت‬
‫في ظهور وتأسيس الحدث التاريخي‪ .‬حيث استوحى محمد أركون هذه الطريقة من مدرسة‬
‫الحوليات الفرنسية والمنهجية األركيولوجية الحفرية لميشال فوكو حيث يفرق فوكو بين تاريخ‬
‫األفكار وتاريخ األنساق ف" تاريخ األفكار "‪"Histoire Des Ideés‬وهو سرد األفكار بعيدا‬
‫عن مشروطياتها االجتماعية والسياسية والثقافية وتاريخ نسقات الفكر" ‪Histoire Des‬‬
‫‪"Systémes De Pensée‬وهو الربط بين المقدمات والمقوالت والمبادئ والمناهج التي‬
‫يعتمد عليها جميع المفكرين والباحثين في انتاجهم وهكذا نالحظ ‪...‬أن مدرسة الحوليات‬

‫‪267‬‬
‫تقطع مع التاريخ الوقائعي الحدثي لصالح المدة الطويلة كما أنها تصور يقيم " قطيعة حاسمة‬
‫مع السمات االتصالية والجوهرانية التي طبعت التاريخ الكالسيكي بخلفياته الميتافيزيقية إنه‬
‫يقيض كل العصور التي تحيل إليها أوهام الثبات والكرامة وسيادة الذات الواعية‪ .1".‬ألن‬
‫محمد أركون يعتقد أن كل األحداث التاريخية لها أنساق ساهمت في تأسيسها األمر الذي‬
‫يدفعنا لدراستها هي األخرى وعدم تجنبها والبحث عنها‪ ،‬وهذه مهمة المجال الحفري‬
‫األركيولوجي التي سيساهم بشكل فعال في اكتشاف واستظهار المغيب والغامض في مراحل‬
‫التاريخ اإلسالمي ويقول أركون‪ » " :‬إن إعادة كتابة التاريخ التي ندعو إليها تهدف إلى إثارة‬
‫كل المسائل التي تحاشاها المؤرخون الرسميون وطمسوها أو شوهوها أو حذفوها أو لم ينتبهوا‬
‫إليها قط وذلك بسبب مشكلة المستحيل التفكير فيه المفروض إجباريا في كل ثقافة وفي كل‬
‫مرحلة من مراحل تطورها [‪]...‬إنها القراءة السلبية للتاريخ هي األمر الوحيد الممكن‬
‫اليوم « وعلى هذا النحو يكون الدارس أمام مفهوم جديد للحقيقة في التاريخ حقيقة نسبية‬
‫تتغير بتغير زاوية نظر البحث‪. 2".‬‬

‫هذا ما دفع بأركون من أجل استغالل األركيولوجية وما تقدمه في البحث في طبقات‬
‫ومستويات التراث اإلسالمي‪ ،‬ووضع لذلك العمل نقطة بداية تمثلت في الظرف التأسيسي‬
‫االول الذي امتد عبر القرون الهجرية الثالثة‪ ،‬ويبرر أركون هذه الخطوة المهمة حيث يقول "‬
‫إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات (أو األساليب) التي تعبر عنها كانت‬
‫بالطبع قد تغ يرت كل لحظة من هذه اللحظات‪ ،‬إن الصعوبة األساسية بالنسبة لنا اليوم تتركز‬
‫في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق – بدء من المعارف المجتمعة في اإلتقان – الطبقات‬
‫الرسوبية للخيال اإلسالمي المتشكل خالل القرون الهجرية األربعة األولى من أجل أن نصل‬
‫إلى زمن الوحي‪ .3".‬فمحمد أركون وضع منطلقا رئيسيا للبحث تمثل في تشكيل تصور‬
‫تاريخي للقرآن يتفاعل معه بشكل كامل كحدث يتضمنه ويحتويه في محيط زمكاني تاريخي‪،‬‬
‫أي أن النص القرآني نزل بداية في سياق وفي لحظة معينة يسميها محمد أركون باللحظة‬

‫‪1‬كحيل مصطفى ‪ ،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.233‬‬


‫‪ -2‬د‪ ،‬امباركحاميدي ‪ ،‬التراث إشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‬
‫‪،‬ط‪،1،2017‬ص‪.239‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬الفكر االسالمي قراءة علمية ‪،‬ص‪.257‬‬
‫‪268‬‬
‫التدشينية األولى‪ ،‬وبتحديدها يمكن معرفة كل النسق والظروف التي ساهمت في تأسيسها‬
‫كحدث تاريخي بواسطة تطبيق المنهج التاريخي ويتم العمل أوال بكشف نقدي لقراءات اللحظة‬
‫التدشينية من أجل استقراء أسرار الثيولوجية العتيقة وما تضمره األفكار ومن أجل تحرير‬
‫الفكر من الخرافات والحقائق المطلقة والتقديس والمتعالي بهدف الوصول لفهم صحيح وتأويل‬
‫حقيقي للقرآن والحديث وما جاء بعد ذلك من تفسيرات وشروحات دينية وهذا انطالقا من‬
‫وعي شامل بكل ما رافق الظاهرة اإلسالمية الدينية‪.‬‬

‫‪ -6‬المقاربة األنتروبولوجية‪:‬‬

‫لم يكتف محمد أركون بالدراسة التاريخية في مشروعه النقدي فلقد استند أيضا على التحليل‬
‫األنثروبولوجي ألنه علم مبني" على النموذج الديكارتي الذي يدعو للمعادلة التالية‪ ":‬أن تفهم‬
‫أو أن تعرف = أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه‪ ،‬لكن من أجل أن تسيطر عليه فإنه‬
‫ينبغي البدء بالمعرفة أوال ‪،‬ولكنك لن تستطيع أن تعرف (أو تفهم شيء) إال بشرط أساسي‪:‬‬
‫هو أن تتحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة‪ .1".‬ألن هذا المنهج العلمي أساسه إلغاء‬
‫الرؤية الفردية األحادية والتفتح على جميع االختصاصات من أجل دراسة وتفسير أي ظاهرة‬
‫سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو دينية ألنها تهتم باستيعاب العلل التي زحزحت التاريخ‬
‫‪،‬فإصرار محمد أركون على اعتماد التحليل األنتربولوجي من أجل دراسة التراث‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ألن هذا المنهج باستطاعته أن "يخرج العقل من التفكير" داخل السياج الدوغمائي‬
‫المغلق" إلى التفكير على مستوى أوسع بكثير‪...‬كما أن العلم األنتروبولوجي يعلمنا كيفية‬
‫التعامل مع الثقافات األخرى بروح منفتحة ومتفهمة وضرورة تفضيل المعنى على القوة أو‬
‫السلطة ثم تفضيل السلم على العنف والمعرفة المنيرة على الجهل المؤسس أو‬
‫المؤسساتي «‪[...‬فهو]يمارس عمله كنقد تفكيكي وعلى صعيد معرفي لجميع الثقافات البشرية‬

‫‪-1‬كحيل مصطفى‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.277‬‬


‫‪269‬‬
‫المعروفة‪ ،‬إنه يمارس عمله بعيدا عن التأويالت التاريخية األيديولوجية‪ .1".‬وبعيدا عن‬
‫اإلرغام اللغوي ومتفهما لالختالف الثقافي كما أن هذا المنهج ال يختص بالبحث في ديانة‬
‫معينة فقط بل يشمل كل الظاهرة الدينية من أجل شرحها وتأويلها بتصور أنتوبولوجي حديث‬
‫يمكنه أن يوسع أفاق الدراسة‪ ،‬حيث يرى محمد أركون أنه المخرج إلظهار المهمش من‬
‫التراث واكتشاف والمحذوف أثناء اجراء التدوين في المرحلة العالمة‪ ،‬لذا فتوظيف هذا المنهج‬
‫سيضع حدا ابستيمولوجيا "مع الرأي الواحد وتشريع االختالف في فهم التراث ‪[...‬و]توسيعا‬
‫الفق النظر وتنويعا لزوايا البحث فضال عما يميز هذا العلم أصال من نظرة شاملة مقارنة‬
‫تضفي على الموضوع المدروس سمة اإلنسية بما تؤسسه من تشريع لالختالف الثقافي‬
‫واالجتماعي ولما ترسيه من نسبية في األحكام والمواقف التي تتخذها الذات تجاه اآلخر‬
‫المختلف أيا كان داخليا‪...‬باعتبار ذلك االختالف ناشئا عن اختالف في الشروط التاريخية‬
‫والجغرافية والثقافية للظاهرة المدروسة‪ . 2".‬وإذا تم العمل بهذا المنهج في دراسة التراث‬
‫اإلسالمي فسيقف في وجه الدوغمائية التي أعاقت البحث عن الحقيقية التاريخية الغير‬
‫المكتوبة والغير الرسمية ألن المعروف في التاريخ أنه يكتبه الغالب وليس المغلوب‪ ،‬وطبعا‬
‫سيتم ذلك بما يناسب الغالب اجتماعيا وسياسيا وسيضطر المدون للحذف والتزييف من أجل‬
‫ذلك لنقل األحداث بما يخدم مصالحه وهذا ما يسميه محمد أركون‪" :‬بالكتابة السلبية للتاريخ‬
‫وهي طريقة تستهدف إعادة تركيب المناخ العقلي وإعادة رسم خريطة الحياة الكاملة الحقيقية‬
‫بما فيها الجوانب التي أغفلها أو تناساها المؤرخون التقليديون‪ .3".‬فمهمة البحث‬
‫األنثروبولوجي هي السبيل الفعلي للكشف عن التراث الشفهي المسكوت عنه والممنوع التفكير‬
‫فيه الذي طمر من طرف المفكرين في مراحل التاريخ "ولكي نفهم الوضععلى حقيقته فإنه ال‬
‫ينبغي ان نكتفي بذكر أسماء المناضلين (أو المحاربين)بعقولهم وأنفسهم ووصف محتويات‬
‫نظرياتهم العقائدية وإنما األهم من كل ذلك من حيث تاريخ الفكر‪:‬هو أن نستنطق ما كان‬
‫مسكوتا عنه أوال يمكن التفكير فيه‪ .4".‬ويحث محمد أركون المسلمين على رفض الدوغمائية‬
‫والتحرر من التأويالت المنغلقة وعدم التردد في تخطي الرؤية التقليدية واالنفتاح على‬

‫‪.......................................................-1‬‬
‫‪2‬د ‪:‬امباركحاميدي‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.245‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.39‬‬
‫‪ -4‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل‪،‬ص‪.11‬‬
‫‪270‬‬
‫االنجازات العلمية والفكرية كما ينبههم قائال‪" :‬وإذا استمر الفكر وهو يكتفي بترديد ما تسمح‬
‫اللغة والنصوص العقائدية والرامزات الثقافية واجماع األمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه فإنه‬
‫يتضخم ويثقل ويتراكم ويسيطر على العقل عندئذ مالم يفكر فيه بتلك اللعنة وفي تلك الدائرة‬
‫المعرفية وتلك الحقبة التاريخية‪ 1".‬يعني هذا أن محمد أركون أراد من المفكرين المسلمين‬
‫وضع حد للمعرف التقليدية وتركها وزحزحت المفاهيم واستجالئها بواسطة تطبيق هذه المناهج‬
‫العلمية الحديثة وبالخصوص المنهج األنتروبولوجي‪.‬‬

‫‪ -7‬التحليل السوسيولوجي‪:‬‬

‫حتى يخلص أركون لدراسة شاملة في مشروعه على التراث اإلسالمي استعان أيضا‬
‫منطلقا من فكرة المسلمين عن الدين وكيف يرونه من خالل‬ ‫بالمنهج السوسيولوجي‬
‫خطاباتهم التي يحددون فيها موقع الدين من المجتمع‪ ،‬فيعتبرون االسالم متعالي عن التاريخ‬
‫–ميتا تاريخيا‪ -‬طوباويا وهذا ما ينكره محمد أركون نهائيا بسبب تغير المفهوم التقليدي عن‬
‫الدين ‪ ،‬فهو عند أركون ظاهرة كونية "يعني أنه ال يوجد مجتمع بشري من دون دين أومن‬
‫دون ظاهرة أومن دون تقديس ولكن هذه الظاهرة تتخذ أشكاال شتى بحسب نوعية كل مجتمع‬
‫ولذلك توجد أديان عديدة في البشرية ال دين واحد ولكنها جميعها تعبر في العمق عن حاجة‬
‫واحدة‪ .2".‬وباعتقاد هذا فإن الدين يصبح خاضعا للتحليل والدراسة والمالحظة بواسطة‬
‫المناهج واألدوات العلمية الحديثة والتي تمثل السوسيولوجيا جانب مهم منها ألن الظاهرة‬
‫الدينية تتفاعل مع األنساق والظروف المالزمة له في إطار زماني ومكاني معين يختلف من‬
‫حين آلخرويترتب عنه اختالف وتغير في المفهوم وليس في الجوهر ولهذا فهذا المنهج‬
‫السوسيولوجي ضروري لسببين أوال من أجل دراسة الظاهرة الدينية واإلسالمية وثانيا من أجل‬
‫تخطي االعتقاد السائد عند المفكرين المسلمين "بتعالي اإلسالم على األمور الدنيوية‬
‫والتاريخية (‪)...‬ألن الدين القويم يؤثرعلى المجتمع ويسيره ويوجهه ولكن العكس ال‬
‫يصح « فواقع الظاهرة الدينية في المجتمع يؤكد "أن الدين إنما هو ظاهرة من ظواهر الحياة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.11‬‬


‫‪ -2‬مصطفى الحسن ‪،‬الدين والنص والحقيقة ‪،‬قراءة تحليلية في فكر محمد أركون ‪،‬الشبكة العربية لألبحاث ‪ ،‬بيروت‬
‫‪،‬ط‪،1،2012‬ص‪.116‬‬
‫‪271‬‬
‫االجتماعية تالحظ توصف كسائر األوضاع االقتصادية والسياسية والثقافية "من ثمة ال بد‬
‫من االستعانة بالتحليل السوسيولوجي في محاولة فهم الظاهرة اإلسالمية والتراث اإلسالمي"‪،1‬‬
‫أل ن النص القرآني والدين عموما يتأثر بالسياقات وبالمكان والزمان وهذا ما أثبتته الدراسات‬
‫الكالسيكية السابقة في القواعد األصولية والمبادئ الفقهية كا"لحكم يدور مع العلة" "تعذر‬
‫الفتوى زمانا ومكانا وشخصا‪ ،‬واألهم من هذا كله هو اختالف الفقهاء أنفسهم في إصدار‬
‫الفتاوى واألحكام وهذا يؤكد تطبيق السوسيولوجيا من أجل دراسة التراث ألن النصوص‬
‫تغيرت في مفهومها وداللتها وحكمها‪ ،‬ولكن بقى ثابتا في جوهره وبهذا تم الجزم على أن‬
‫تغير المفهوم واختالفه هو الذي جعل النص القرآني صالح لكل زمان ومكان ووصف‬
‫بالديمومة ‪.‬‬

‫لقد وضع محمد أركون اإلسالميات التطبيقية من أجل قراءة التراث اإلسالمي هذا‬
‫المنهج الجديد عنده يشمل مجاالت مختلفة للدراسة كالتحليل التاريخي واألنتروبولوجيا‬
‫آخر يراه أركون ضروري للدراسة هو التيولوجيا‬
‫والسوسيولوجيا واأللسنية ‪ ،‬كما يضيف جانبا ا‬
‫االيمانية ألن "تحليل المستوى التيولوجي يعتبر أم ار ال مفر منه ينبغي على الخطاب‬
‫التيولوجي أن يتمثل كل المستويات التحليلية المذكورة وبدون هذا االنفتاح يبقى الخطاب‬
‫التيولوجي عبارة عن تبجيل دفاعا ألمة منغلقة على قناعتها ويقينها"‪ .2‬األمر الذي يفرض‬
‫تحرير النص الديني من السياج الدوغمائي ومن أسر الفكر الالهوتي األورثودوكسي أي‬
‫علماء الدين والفقهاء والمفسرين التقليديين بواسطة تطبيق مناهج العلوم االجتماعية واإلنسانية‬
‫لقراءة جديدة للنصوص التاريخية والدينية وفي هذا يقول أركون "ال أستبعد التيولوجيا من حقل‬
‫التفحص والدراسة الخاصة باإلنسان والمجتمع ولكن ينبغي على التيولوجيا أن تخضع للقواعد‬
‫والمناهج المشتركة المطبقة على كل عملية معرفية ولكي تحقق ذلك ينبغي عليها أن تستعيد‬
‫من جديد دراسة كل مسألة الوحي استنادا على معطيات جديدة‪ .3".‬لذا يجب على الباحثين‬
‫التحلي باإلرادة والجرأة من أجل تفكيك األفكار التيولوجية المنزوية وراء األفكار والبناءات‬
‫اللغوية للخطاب الديني ومن أجل إزاحة الغموض الذي فرضته الدوغمائية التيولوجية المعتقدة‬

‫‪ -1‬فارح مسرحي‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.73‬‬


‫‪ -2‬محمد أركون ‪ ،‬تاريخ الفكر العربي االسالمي‪،‬ص‪.38‬‬
‫‪ -3‬محمد أركون ‪،‬الفكر االسالمي نقد واجتهاد‪-‬ت ‪:‬هاشم صالح‪،‬دار الساقي بيروت‪،‬ط‪،6،2012‬ص‪...‬‬
‫‪272‬‬
‫بالرؤية الواحدة وكأنها مفوضة من طرف هللا لتأويل وتفسير النصوص الدينية‪ ،‬وهي الوحيدة‬
‫المخول لها ذلك دون غيرها ككتاب ابن القيم الجوزية "إعالم الموقعين من عند رب العالمين‬
‫" فبمجرد قراءة العنوان يتبادر للذهن ان هؤالء الفقهاء والمفسرين مفوضين من عند هللا لتلك‬
‫المهمة في األرض وبالتالي كل ما جاء من عندهم مقدس ال يناقش وال يعارض وهذا طبعا‬
‫منطق ال يقبله محمد أركون وال يتوافق نهائيا مع مبادئ أفكاره التي طرحها والتي استوحاها‬
‫من عدة مدارس فكرية تتعارض هي األخرى مع الدراسة الكالسيكية للتراث‪ ،‬ويقدم أركون‬
‫البديل المجدي للوصول لفهم التراث اإلسالمي باعتماد هذه المناهج العلمية والفكرية الحديثة‬
‫لينتهي بنا العمل لفهم موضوعي وعلمي ونقدي الستجالء الحقائق الصحيحة "ولقد رسخ‬
‫العلماء األصوليون هذه النظرية عن طريق تشكيل علم األصول الذي ولد التماسك التيولوجي‬
‫وكل البناء األخالقي والتشريعي وعليه فإن مصطلح األصولي يشير إلى تلك الممارسة‬
‫الفكرية المثبة والمقننة بصرامة في رسائل األصول التي راحت تزيد من سماكة السياج‬
‫الدوغمائي وتقوي من انغالقه على ذاته‪ .1".‬ألن ما يريده محمد أركون من هذه الدراسة هو‬
‫أن يدفع بالباحث للتحرر والشجاعة وترك الذاتية أثناء دراسته ويحثه على االرادة الصلبة من‬
‫أجل فك الحصار على النصوص المقدسة لذا فأركون يهدف من دراسته هذه لتوسيع أفق‬
‫البحث والفكر ليساعد العقل اإلسالمي على التحرر أيضا من تلك السياجات المنغلقة ومن‬
‫األحكام المطلقة والمعتقدات المستحدثة من طرف رجال الالهوت ليفسح الطريق أمام شغف‬
‫العقل المستمر كي ال يقتنع بالتشكيالت المنتهية‪ ،‬ومن أجل أن يضع حدودا فاصلة بينه‬
‫وبين القراءات والتأويالت التقليدية القديمة للتراث اإلسالمي إذ يرى أركون أنه "هنا يكمن‬
‫الرهان األكبر لمراجعة التراث اإلسالمي كله ولتأسيس الهوت جديد في االسالم [أي]تأسيس‬
‫عالقة جديدة بين هللا‪/‬واالنسان بين المجال المقدس‪/‬المجال الدنيوي بين العبادات‪/‬والمعامالت‬
‫فمن الواضح إذا لم نتحرر من التصور الالهوتي القروسطي لهذه العالقة فإننا لن نستطيع‬
‫أن نتحرر على مستوى السياسي أو االجتماعي أو األخالقي أو حتى االقتصادي‪ .2".‬واألهم‬
‫في تصور محمد أركون هو االنطالق من التحرر من اإليديولوجيات التقليدية الدينية وهذا‬

‫‪ -1‬محمد أركون‪،‬الفكر اإلسالمي نقد و اجتهاد تر هاشم صالخ دار الساقي بيروت ط ‪. 2012 . 2‬ص ‪14-13‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون‪،‬نقد العقل الديني ‪،‬ص‪.281‬‬
‫‪273‬‬
‫سيكون المؤسس األولي لبداية الدراسة وبالتالي لولوج عالم الحداثة والتطور األخالقي‬
‫والسياسي والثقافي والسياسي واالجتماعي ‪.‬‬

‫نستنتج من هذا أن محمد أركون ارتكز بشكل كامل وشامل في مشروعه على التراث‬
‫اإلسالمي واإلسالميات التطبيقية التي استوحاها من دراسة وبحث طويل وصل به المطاف‬
‫إلى مشروع ّبين يتناول الظواهر التاريخية بإشراك كل المعارف واألدوات العلمية الحديثة في‬
‫مختلف المجاالت المعاصرة كاأللسنية واألنتروبولوجية والتاريخية والسوسيولوجية من أجل‬
‫الغوص في أعماق التاريخ وتفكيك مستوياته وتحليل كل معانيه واعادة تركيبه بما يتماشى‬
‫والحداثة ‪.‬‬

‫‪ -8‬في معنى وطبيعة التراث‪:‬‬

‫عرف مصطلح التراث تباينا كبي ار في تحديد مفهومه منذ القدم من شخص آلخر‬
‫بسبب اختالف مواضيعه الخاصة به وبسبب اختالف رؤية الناس له وموقفهم منه وخاصة‬
‫إذا وقفنا على هذا المصطلح في علم التجذير "االيتيمولوجي" الذييكشف لنا تعقد واستحالة‬
‫إ يجاد مفهوم شامل متفق يحدد لنا مفهوم التراث عكس ما يظهر مبدئيا من وضوح معناه‬
‫وسهولة تعريفه بسبب تداوله المتكرر لدى عامة الناس فنجد كلمة تراث في اللغة العربية" من‬
‫مادة (و‪ -‬ر‪ -‬ث) وتجعله المعاجم القديمة مرادفا ل "اإلرث" و"الورث" و" الميراث" على ما‬
‫يرثه اإل نسان من والديه من مال أو حسب‪...‬وقد وردت مرة واحدة في سياق قوله تعالى»كال‬
‫ضون على طعام المسكين‪ ،‬وتأكلون التراث أكال لما وتحبون‬ ‫بل ال تكرمون اليتيم وال تحا ّ‬
‫محمد عابد الجابر ّي في كتابه التّراث والحداثة‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬ ‫هذا‬ ‫إلى‬ ‫انتبه‬ ‫ولقد‬ ‫‪.‬‬‫‪1‬‬
‫المال حبا جما«‬
‫أن المجال اّلذي يتناوله التراث وما يرافقه في الخطاب العربي القديم كان منذ القدم‬
‫اعتقد ّ‬
‫ّ‬
‫أقل النسب‪ .‬ولقد اهتمت به المراجع والمؤلفات المهمة في "الفقه‬ ‫المال ويليه بمستوى ّ‬

‫‪ -1‬د‪ :‬محمد عابد الجابري ‪ ،‬التراث والحداثة ‪،‬دراسات ومناقشات ‪ ،‬مركز دراسات‪ ،‬الوحدة العربية ‪،‬بيروت‬
‫‪،‬لبنان‪،‬ط‪.1،1991‬‬
‫‪274‬‬
‫اإلسالمي حيث ُعني الفقهاء عناية كبيرة بطريقة توزيع تركة الميت على ورثته حسب ما قرره‬
‫القرآن ‪...‬أما لفظ تراث فال نكاد نعثر على أثر له في خطابهم‪ .1".‬فلقد أتى معنى التراث في‬
‫وراث َوَورث الوراث ُة‬
‫أن التراث أصُله‬‫األصفهاني "المفردات في غريب القرآن" ّ‬ ‫الراغب‬
‫كتاب ّ‬
‫ّ‬
‫عن الميت فينعت‬ ‫المنتقل‬ ‫وس ّمي بذلك‬ ‫الك ِ‬ ‫واإلرث تحول ِ‬
‫ُ‬ ‫سبة من أحد آلخر بغير عقد‪ُ ،‬‬ ‫َ‬
‫سبة الموروثة بميراث وإرث‪ .‬ويقال ورث ماال عن أحد وورثت أحدا وقال تعالى "وورث‬ ‫ِ‬
‫الك َ‬
‫سليمان دواد" أي ‪ :‬في الملك والنبوة ‪ ،‬وليس المراد وراثة المال وقال تعالى أيضا في سورة‬
‫ُم ِه الثلُ ُث" وفي سورة البقر اآلية‪ "233‬وعلى الوراث‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫النساء " َفإن ل ْم َي ُكن ل ُه َوَلد َوَوِرثَ ُه أََب َواهُ َفأل ّ‬
‫مثل ذلك " ‪،‬وقال في سورة النساء اآلية‪"12‬وإن كان رجل يورث كاللة" "وقال أيضا في سورة‬
‫الحقيقية هي أن يحصل لإلنسان‬ ‫فإن الوراثة‬
‫آخرين" ّ‬ ‫اها َق ْو ًما َ‬ ‫الدخان اآلية‪ِ َ 28‬‬
‫ّ‬ ‫"ك َذل َكَ أ َْوَرْثَن َ‬
‫شيء ال يكون عليه فيه تبعة وال عليه محاسبة‪.‬‬

‫غير أنه في المجال المعرفي في الثقافة العربية اإلسالمية "مثل األدب وعلم الكالم‬
‫والفلسفة فال تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص بل ال نكاد نعثر لها على ذكر‪...‬أما‬
‫شؤون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تماما عن المجال التداولي‪ ،‬أو الحقل الداللي لكلمة‬
‫"تراث" ومرادفاتها ‪...‬فعندما يتحدث الكندي‪...‬ال يستعمل العبارة الشائعة لدينا اليوم عبارة‬
‫(تراث األقدمين)بل يستعمل تعابير أخرى مثل» ما أفادونا من ثمارفكرهم « "‪ .2‬وهذا تركيب‬
‫ليعبر به عن إرث األسالف اّلذين‬
‫الكندي ّ‬
‫ّ‬ ‫لفظي استعمله أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق‬
‫صناعي وعلمي‪.‬‬‫سبقونا وما تركوه لنا من رصيد ّ‬

‫ومن هذا نكتشف أن األصل المعجمي لكلمة تراث ال يخرج عن مفهومين اثنين مفهوم المال‬
‫ّ‬
‫وما ينجر عنه ومفهوم الحكمة والعلم وهذا المفهوم األخير ليس متوات ار في المعاجم القديمة‬
‫أن لفظ تراث المنقلب عن وراث موصول في وجهه‬ ‫يدل على ّ‬
‫تواتر المفهوم األول‪ ،‬مما ّ‬
‫المادي أكثر من اتّصاله باإلرث الرمزي المجرد وبهذا نستنتج "كال من‬
‫ّ‬ ‫المعجمي باإلرث‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه ‪،‬نفس الصفحة‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه ‪،‬ص‪.23‬‬
‫‪275‬‬
‫التعريف اللغوي واالستعمال القرآني لكلمة تراث يبتعد بها عن الموروث الثقافي والفكري الذي‬
‫‪1‬‬
‫ُيعطى لها في الخطاب العربي المعاصر‪".‬‬

‫‪ -‬مفهوم التراث ‪:‬‬

‫يرى الجابري أن معاني كلمتي ‪ Héritage‬و ‪ Patrimoine‬في المفهوم الفرنكوفوني وكلمة‬


‫ّ‬
‫األنكلوفونيلم تقدم أكثر مما تم في التعريف العربي القديم حيث‬
‫ّ‬ ‫‪Patrimony‬في المعنى‬
‫نسية في معنى مجاز ّي‬
‫عبرت عن تركة الهالك إلى أبنائه ولم تستعمل كلمة ‪ héritage‬الفر ّ‬
‫عامة التّراث الروحي إالّ ناد ار‬
‫وبكيفية ّ‬
‫ّ‬ ‫الخاصة بحضارة ما‬
‫ّ‬ ‫للداللة على المعتقدات والعادات‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫عبرت عن مواقف وقوى‬ ‫أن مفهوم التراث هو اتّجاهات مختلفة عديدة ّ‬
‫وهو ما يؤكد ّ‬
‫اجتماعية وعن أفكار وتصورات متباينة "فإن كلمة ‪Héritage‬و‪ Patrimoine‬ال تحمل‬ ‫ّ‬
‫المضامين نفسها التي تحملها اليوم لكلمتنا العربية "التراث" إن معناها ال يكاد يتعدى حدود‬
‫المعنى العربي القديم للكلمة إلى تركة الهالك إلى أبنائه‪ ،‬نعم لقد استعملت كلمة‬
‫‪Héritage‬بالفرنسية في معنى مجازي للداللة على المعتقدات والعادات الخاصة بحضارة ما‬
‫وبكيفية عامة "التراث الروحي" ولكن حتى في هذه الحالة يظل معنى الكلمة فقي ار جدا‬
‫‪2‬‬
‫بالقياس إلى المعنى الذي تحمله كلمة " تراث" في الخطاب العربي المعاصر‪".‬‬

‫بالتحديد الذي يقدمه الفكر العربي المعاصر اّلذي تخطى المفهوم‬


‫ّ‬ ‫وهذا ما يجعلنا نكتفي‬
‫ّ‬
‫المعجمي الضيق للتراث الذي تصوره الغرب بعد أن عدد ونوع الفكر العربي المعاصر الحقل‬
‫الداللي لهذا المفهوم األمر الذي جعل الدارس ال يقتنع بمعناه إال في إطار الفكر العربي‬
‫المعاصر"'فالتراث' بمعنى الموروث الثقافي والفكري والديني والفني وهو المضمون الذي‬
‫تحمله هذه الكلمة داخل خطابنا العربي المعاصر ملفوفا في بطانة وجدانية أيديولوجية لم‬
‫يكن حاض ار ال في خطاب أسالفنا وال حقل تفكيرهم‪ ،‬كما أنه غير حاضر في خطاب أي لغة‬
‫‪3‬‬
‫من اللغات الحية المعاصرة التي نستورد منها المصطلحات والمفاهيم الجديدة علينا‪".‬‬

‫‪ -1‬فارح المسرحي‪،‬الحداثة في فكر محمد أركون ‪ ،‬رسالة مقدمة لنيل درجة الماجيستير في الفلسفة السنة الجامعية ‪-2002‬‬
‫‪.2003‬‬
‫‪-2‬محمد عابد الجابري‪،‬التراث والحداثة ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.23‬‬
‫‪ -3‬محمد عابد الجابري ‪ ،‬التراث والحداثة ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.23‬‬
‫‪276‬‬
‫بمعنى أن مفهوم التّراث كما يظهرفي الفكر العربي المعاصر مفهوم ذو خاصية روحية‬
‫ّ‬
‫وعمق فكري متغير بتغير الزمان والمراحل والحاالت والرؤى‪ ،‬وهذا ما شبع مجاله المعجمي‬
‫ونوعه‪ .‬وبالتالي يمكننا تقديم معنى التراث الذي "يشير اليوم إلى ما هو مشترك بين العرب‬
‫أي التركة الفكرية والروحية التي تجمع بينهم‪...‬فإن التراث قد أصبح بالنسبة للوعي العربي‬
‫المعاصر عنوانا على حضور األب في االبن حضور السلف في الخلف حضور الماضي‬
‫في الحاضر‪...‬ومن هنا ينظر إلى التراث ال على أنه بقايا ثقافة الماضي بل على أنه " تمام‬
‫هذه الثقافة وكليتها‪ :‬إنه العقيدة والشريعة واللغة واألدب والعقل والذهنية ‪...‬وبعبارة أخرى إنه‬
‫في آن واحد ‪:‬المعرفي وااليديولوجي وأساسها العقلي وبطانتها الوجدانية في الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية‪.1".‬‬

‫أن‬
‫المصطلحي المتفق عليهما يقوداننا إلى خالصة وهي ّ‬
‫المفهوم اإليتيمولوجي المعجمي و‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدالالت ما تعدد وذلك راجع إلى طبيعة موضوعه وخصائص‬ ‫التّراثله من المعاني ومن ّ‬
‫السالف واستلمه الالّحق من جهة التّسليم‬
‫ألنه تركة وإرث تركه ّ‬‫الناس منه‪ّ ،‬‬
‫مكوناته ومواقف ّ‬
‫ّ‬
‫خاصة‪ ،‬جعلت‬ ‫ّ‬ ‫واالسترسال وهو ما أكسب مفهوم التّراث اهتماما كبي ار عند المعاصرين‬
‫تناولهملهمحل اختالف كبير باختالف التصورات وبتباين األفكار واألهداف وهم يدرسون‬
‫تتقوم به ثقافاتهم‪.‬‬
‫مادية وفي نفس الوقت مخّلفا رمزّيا ّ‬
‫التّراث على أنه تركة ّ‬

‫‪ -9‬الحداثة والتراث عند محمد أركون‪:‬‬

‫من بين أهم األعمال التي التزم محمد أركون بدراستها في مشروعه من خالل‬
‫اإلسالميات التطبيقية هو بلورة تصور دقيق للتراث العربي اإلسالمي الذي ال يمكن حسب‬
‫رأيه بأي حال من األحوال تحديده بعيدا عن الحداثة وكل ما تتضمنه من تغيرات واختالفات‬
‫في التصورات الفكرية والعلمية التي حاول أركون استثمارها في أعماله على التراث العربي‬
‫اإلسالمي وخاصة ما جاءت به منهجية الحوليات الفرنسية وما وصل إليه كل من فوكو‬
‫وهيدغر ونيتشه وما قدمته العلوم المختلفة من أدوات بحث ودراسة حديثة فاستوحى من هذا‬
‫كله دراسة تنطلق من المقاربة التحليلية األنثروبولوجية ألنه رأى أن التراث هو عبارة عن أي‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.24‬‬
‫‪277‬‬
‫نص تاريخي مكتوب سواء كان أدبي أوديني أو فلسفي أو فني غير أن محمد أركون يؤكد‬
‫كثي ار على النص القرآني الذي مثل نقطة تأسيسية للعقل والتراث اإلسالمي فمادام النص‬
‫الديني إ جراء خطابي فهو خاضع للتأويل والتفكيك بواسطة تطبيق المناهج واألدوات الحديثة‬
‫عليه عكس تماما ما ألفت الدراسات اإلسالمية الكالسيكية عليه ‪-‬اإلسالميين واالستشراقيين‬
‫– الذين حجروا العقل اإلسالمي وحرموه من محاولة الدراسة العلمية االبستيمولوجية‬
‫للنصوص الدينية ‪ ،‬أما عند محمد أركون فالتراث لديه مستويات عديدة فالمستوى األول وهو‬
‫التراث اإلسالمي المقدس والمستوى الثاني وهو المتمثل في العادات والتقاليد أما المستوى‬
‫الثالث فهو الذي يتمثل في التراث اإلسالمي الكلي أو السنة اإلسالمية الشاملة ولفهم كل هذه‬
‫المستويات وتناولها تقدم محمد أركون متأث ار بما تم طرحه مما وصلت إليه العلوم اإلنسانية‬
‫والعلوم االجتماعية وأدوات العلم المعاصر بمقاربة علمية معاصرة بهدف وضع مفهوم جديد‬
‫للتراث ومن بين هذه المقاربات مقاربتان؛ أوال المقاربة الداللية التي تقدم المعنى على أنه‬
‫طرح متغير غير ثا بت يتأثر بالتحول الذي يحتويه لذا فهو خاضع لتأويالت وقراءات خاصة‪،‬‬
‫وثانيا المقاربة السوسيوتاريخية التي تطمح لتحديث السياق اإليديولوجي وبهاتين المقاربتين‬
‫سيتمكن محمد أركون ‪ -‬حسبه ‪-‬من تقديم معنى جديد متفاعل ومنفتح وسيتمكن أيضا من‬
‫تحرير الفكر اإلسالمي من اجترار المفاهيم واألفكار القديمة ‪ .‬ألن التراث هو مجموعة من‬
‫الفترات والمراحل والعصور المتعاقبة وهو " كما يقول "جورج بالندي" يشبه إلى حد ما تاريخ‬
‫الكرة األرضية الذي ينتج طبقات جيولوجية متراصة فوق بعضها بعضا صحيح أن تاريخ‬
‫البشر يتحرك بسرعة (‪)...‬ولكنه يولد هذا اآلخر أيضا طبقات سميكة وينبغي أن تكتشفها‬
‫العلوم االجتماعية‪ .1".‬التي تستطيع دون شك تحديد وإيجاد الحقائق بتجاوز الطبقات‬
‫السطحية والحفر في عمقها بالرجوع ألصل النص الزمني بواسطة المنهج األركيولوجي‬
‫الحفري التفكيكيليتمكن الباحث من مواجهة اللحظة التدشينية التي انبثق فيها النص القرآني‬
‫فمحمد أركون يعتقد بوجود "مستويات وطبقات متراتبة بعضها فوق بعض من التراث التي‬

‫‪ -1‬المسرحي فارح‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.55‬‬


‫‪278‬‬
‫تندرج فيه بعض التقاليد والعقائد القديمة جدا والتي يجري دمجها وخلع التقديس عليها من‬
‫قبل التراث الكتابي المقدس‪. 1".‬‬

‫يعتبر أركون أن أحسن وسيلة لذلك هي الحفر والتفكيك من أجل اختراق الطبقات‬
‫المتراصة والمتعاقبة واكتشاف اللحظة التأسيسية األولى للنصوص الدينية وتجاوز التأثيرات‬
‫الفكرية واالكراهات اللغوية والمسلمات والتقديس الذي فرض على النصوص التفسيرية‬
‫والتأويالت الدينية‪ ،‬وهذا ما يهدف إليه محمد أركون من خالل المنهج الحفري التفكيكي الذي‬
‫يأمل بواسطته استرجاع زمن التجلي التأسيسي للقرآن والحديث النبوي ألنه هو المنطلق‬
‫الفعلي لصناعة فكر حداثي يتمكن من فهم الفكر العربي اإلسالمي التقليدي وتقديمه بوجه‬
‫جديد يختلف تماما على ما تم وضعه بالدراسات اإلسالمية الكالسيكية من تفسيرات‬
‫وتأويالت بل يرفضها أركون ويحدث معها قطيعة نقدية ويدعوا لتجاوزها وتركها ألنها أوقفت‬
‫حركة العقل اإلسالمي بتصوراتها التي احتكرت بواسطتها الحقائق وحكمت عليها بالجمود‬
‫والتعالي ولم تسمح بدراستها وتفسيرها أو مراجعتها فالتراث عند محمد أركون إنتاج بشري‬
‫نسبي غير ثابت خاضع لمختلف النعرات والنزعات والتصورات مثله مثل باقي التراثات ومنه‬
‫فهو خاضع كغيره للدراسة التاريخية وغير مقدس ألن التراث عند محمد أركون يتمثل في كل‬
‫النصوص المكتوبة سواء كانت تاري خية أو أدبية أو فنية أو حتى دينية وال مجال الستثناء‬
‫النصوص القرآنية والنبوية من هذا التمثيل و‪ -‬حسب رأيه ‪ -‬يعتقد أن النص القرآني شهد‬
‫فترتين ؛ أوال الفترة الشفوية التي تمثلت في المرحلة التأسيسية والفترة الثانية هي مرحلة‬
‫التدوين ليضع محمد أركون مسافة زمنية بين المرحلتين أدت لغموض المفهوم وغياب‬
‫المعنى الحقيقي‪ ،‬تلك هي المسافة التي تحدث عنها محمد أركون ووضعها لكي يتمكن من‬
‫الوقوف فيها وقفة نقدية وفي هذا يقول محمد أركون‪" :‬إن االنتقال من مرحلة الخطاب‬
‫الشفهي إلى مرحلة الخطاب المدون والمكتوب لم يؤخذ بعين االعتبار حتى اآلن ال من قبل‬
‫المفسرين المسلمين المهتمين بأسباب النزول والفاسخ والمفسوخ من أجل بلورة األحكام الفقهية‬
‫‪،‬وال من قبل المستشرقين الذين يتبعون المنهجية الفونولوجية الوضعية والتاريخية‪ .‬فالخطاب‬
‫الشفهي تلفظ به النبي (ص)طيلة عشرين سنة وفي ظروف متغيرة ومختلفة وأمام جمهور‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬الفكر االسالمي نقد واجتهاد‪،‬ت‪:‬هشامصالح‪،‬دار الساقي بيروت‪،‬ط‪،6،2012‬ص‪.109‬‬


‫‪279‬‬
‫محدد من البشر ونحن ال يمكن أن نتوصل إلى معرفة هذه الحالة األولية الطازجة للخطاب‬
‫مهما حاولنا فقد انتهت بوفاة أصحابها ‪ ،‬لقد ضاعت إلى األبد ‪1".‬ـ‪ ،‬ويستمر أيضا في هذا‬
‫بقوله "إن االنتقال من مرحلة الخطاب الشفهي إلى مرحلة المدونة النصية الرسمية المغلقة‬
‫(أي مرحلة المصحف)لم يتم إال بعد حصول الكثير من عمليات الحذف واالنتخاب‬
‫والتالعبات اللغوية‪...‬فليس كل الخطاب الشفهي يدون وإنما هناك أشياء تفقد أثناء الطريق‬
‫‪...‬وذلك ألن عملية الجمع تمت في ظروف حامية من الصراع السياسي على السلطة‬
‫المشروعة‪ .2".‬ما يدل في نظر محمد أركون على أن النصوص القرآنية حرفت وعدلت أثناء‬
‫عملية التدوين ومنه ال يمكنها أن تكون مقدسة كما يظن المسلمون وال يمكن اعتبارها متعالية‬
‫عن الدراسة والنقد وحقائقها التي تشملها نسبية غير مطلقة لذا ينبغي إخضاعها للدراسة‬
‫والتفكيك معتمدين على المناهج العلمية الحديثة وأدوات البحث والتحليل والحفر ألن النص‬
‫القرآني خاصة والديني عامة كمثل النصوص األخرى التي يتطلب استكشافها واستجالؤها‬
‫دراسة وتفكيكا وتحليال علميا حديثا باستعمال مختلف ما توصلت إليه العلوم اإلنسانية والعلوم‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -‬مستويات التراث عند محمد أركون‪:‬‬

‫يعتبر محمد أركون أن ما حدث في أوروبا في مراحل المحاوالت العنيدة ضد التصور‬


‫األرثودوكسي للسعي من أجل تحرير الفكر ووقوف التقليدين في مواجهة ذلك هو نفسه ما‬
‫سيحدث مع التراث العربي اإلسالمي غير أن محمد أركون ال يعتبر ذلك عائقا للسير في‬
‫هذا االتجاه وسيتحقق المبتغى من كل الدراسات الحاصلة التي تبنتها الحداثة أما فيما يخص‬
‫اتجاه أركون في تناوله ألزمة الوعي اإلسالمي وفي دراسته التراث العربي اإلسالمي فمعروف‬
‫عنه أنه اعتمد اإلسالميات التطبيقية التي شملت رؤية فكرية حديثة للبحث بآليات معاصرة‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني‪،‬ص‪.187‬‬


‫‪-2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.188‬‬
‫‪280‬‬
‫والتي تضع مسافة بين التراث التاريخي والتراث األسطوري وهذا يحيلنا للمستويات التراثية‬
‫التي حددها محمد أركون وهي‪:‬‬

‫المستوى األول‪ :‬في نظر محمد أركون مفهوم التراث أوسع وأشمل مما تم حصره في‬
‫الممارسة اإلسالمي ة من خالل النص القرآني والسني فقط بل سبق ذلك أحداث تم تهميشها‬
‫ورميها والتخلص منها ووضعها في ما اعتبر(الجاهلية وعصر الظلمات) أما التراث في‬
‫اعتقاد التقليديين هو بداية الوحي اإللهي وما سبقه من إرهاصات مهدت له تراث متعالي‬
‫مقدس ال يقبل التبدل وهنا يشمل هذا المستوى» التراث الجاهلي والتراث اإلسالمي «الذي‬
‫يتفرع هو اآلخر لقسمين "هذا يعني أنه يوجد في كل مكان من المجتمعات العربية‬
‫واإلسالمية تراثان مختلفان من حيث مكانتهما األنثروبولوجية‪ ،‬هناك التراث األول الذي‬
‫احتقره اإلسالم بشدة ودعاه ب"الجاهلية" في الواقع هو عبارة عن الفكر المتوحش (بمعنى‬
‫ليفي ستراوس)والثقافة المتوحشة والممارسة المتوحشة للمجتمع العربي وخصوصا المجتمع‬
‫البدوي الذي ال يعرف الكتابة وال السلطة المركزية وال القانون المشترك وال اللغة الواحدة‪.1".‬‬

‫أما فيما يخص القسم الثاني من هذا المستوى التراثي "وهو التراث اإلسالمي الذي افتتحه‬
‫القرآن ودولة المدنية التي أسسها محمد (ص) فهو يستند على الكتابة بالمعنى المزدوج للكلمة‬
‫‪:‬أي أوال الكتابة بمعنى الكتابات المقدسة وثانيا الكتابة بمعنى التثبيت الخطي والحرفي للكالم‬
‫الشفهي هذا التثبيت الذي يؤدي إلى تشكيل األرشيف وانتصار الخط العقلي والكتابي إنه‬
‫يستند أيضا على القانون المجموع في المصحف وعلى اللغة العربية الرسمية والثقافة‬
‫الحضارية العالمية التي تنتجها وتسيطر عليها النخبة المرتبطة باستراتيجيات سلطة‬
‫الدولة‪ .2".‬إ ْذ يصر محمد أركون على توسيع نطاق البحث وعدم حصر التراث اإلسالمي في‬
‫بداية كتابة الرسالة القرآنية وما جاء بعدها من نقل وتدوين ألنه قد تم إقصاء جزء مهم منه‬
‫تمثل في القراءات الشفهية بطريقة معتمدة ومقصودة من أجل أن يخدم هذا اإلجراء فكرة‬
‫التعالي والتقديس من خالل إضفاء التأليه على التراث اإلسالمي المشكل نهائيا الذي ال يقبل‬
‫النقاش في أحكامه وال التغيير في آرائه حتى يستطيع خدمة إيديولوجيات ومصالح ذاتية‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬الفكر االسالمي قراءة علمية ‪،‬ص‪.70،71‬‬


‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.71‬‬
‫‪281‬‬
‫وبهذا ارتسمت أشكال الفكر األرتودوكسي الالهوتي‪ ،‬ويتساءل بعد هذا محمد أركون عن‬
‫الوسيلة التي يمكنها دراسة التراث اإلسالمي أهي المقاربة المثالية المتعالية التي ترفض‬
‫اإل خضاع للممارسات النقدية الحديثة استنادا إلى تصور التقليديين واإلسالميات الكالسيكية‬
‫الذين يقرون بنهاية تشكيل النصوص الدينية والذين يؤكدون أن اإلسالم كله بما فيه من‬
‫عقائد وممارسات ومعاير أخالقية وقانونية ‪...‬موجود في القرآن المدون وهذا يتفق أيضا مع‬
‫رؤية التيار اإل صالحي السلفي؟ أم يجب علينا دراسة التراث بالمقاربة التاريخية االجتماعية‬
‫كون التراث اإلسالمي نتاج بشري قابل للتغير وخاضع للنسبية لذا وجب فتح المفاهيم‬
‫اإلسالمية على الدراسة وعدم تحديدها بشكل نهائي ألنها خاضعة للتغير المستمر الذي‬
‫يفرضه التاريخ وبالتالي نستطيع حسب محمد أركون أن نتطرق للتفاعل الذي حصل عبر‬
‫التاريخ اإلسالمي بين التراث الشفهي والتراث المكتوب ونستطيع أيضا دراسة ذلك بطريقة‬
‫حديثة معاصرة فأركون يؤكد ويلح في تصوره على إدماج القراءة الشفهية التراثية التي حدثت‬
‫في مرحلة الجاهلية بالقراءات المدونة التي تلتها وهذا من أجل تحديد صحيح للمفاهيم و ما‬
‫جاءت به أثناء هذه القراءات الشفهية فمن غير المنطقي أن يتم البحث في التراث اإلسالمي‬
‫اعتمادا على مصطلحات إسالمية بحتة‪.‬‬

‫المستوى الثاني‪ :‬يرى محمد أركون أن األحداث التاريخية التي جاءت بعد وفاة النبي‬
‫محمد(ص)تناقض كليا التصور األحادي للتراث اإلسالمي الذي طرحته اإلسالميات‬
‫الكالسيكية ألن أحداث ما بعد النبي (ص) تؤكد على وجود بدايات أخرى عديدة أسست‬
‫لتراثات أخرى مختلفة بلورها تفاعل جديد مع القرآن والسنة وتجربة المدنية التي احتوت‬
‫التباين العرقي والثقافة السائدة في شبه الجزيرة العربية والبلدان المجاورة وهذا هو المستوى‬
‫التراثي الثاني الذي مثل»التراث الشامل « وهو عند محمد أركون " المعنى الشامل والكامل‬
‫والتعددي [للقرآن ] ‪ :‬أي بكل خطوطه واتجاهاته وليس فقط من خالل خط واحد يبتر ما‬
‫عداه "‪ .1‬وهو تراث عبرت عنه فيما بعد األورتودوكسيات الثالثة الكبرى السنية والشيعية‬
‫والخوارج والتي تجلت نتيجة التباين اإليديولوجي والعرقي والمعروف عن هذه الفرق تشبثها‬
‫بأفكارها وإقصائها للحركات والمذاهب األخرى ولقد أهملت الدراسات اإلسالمية الكالسيكية‬

‫‪ -1‬د‪ :‬مبارك الحاميدي ‪ ،‬التراث وإشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي ‪،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪282‬‬
‫هذا الجانب المهم من التراث العربي اإلسالمي الذي تم في فترة مابين القرن الثالث عشر‬
‫حتى القرن التاسع وبالتالي أهملت مرحلة زمنية كبيرة من مراحل التراث اإلسالمي لهذا‬
‫يرفض محمد أركون إقصاء ما يمثل عنده مكونات التراث اإلسالمي األساسية ويدعوا لضم‬
‫واحتواء كل ما عبر عن الفكر اإلسالمي دون بتر "وهو ما يعني تجاوز حالة التشظي التي‬
‫تمت بالتدرج منذ عصر التأسيس والعمل على إعادة توحيد التراث اإلسالمي والوعي به‬
‫ليصبح شامال لجميع مكوناته المذهبية والفقهية (سنة‪ ،‬شيعة ‪،‬خوارج‪ ،‬متصوفة‪...‬وغيرها‬
‫مستوعبا لكل تياراته الكالمية والفلسفية استبعدت أو همشت بسبب التوظيف االيديولوجي‬
‫واستراتيجيات السلطة واالعتقاد األورتودوكسي بأن دين هللا الصحيح ال يمكن أن ينتج إال‬
‫تراث واحد مطابقا له‪ .1".‬هذا ما كان محمد أركون يلمح له كثي ار في خطاباته ويدعوه‬
‫باستمرار عندما ينطلق في وصف الحالة اإلسالمية ودراسة أسباب األزمة الفكرية اإلسالمية‬
‫بالدوغمائية التي أعجزت العقل اإلسالمي ووصل إليها الفكر اإلسالمي بواسطة اعتقادات‬
‫المذاهب واالتجاهات التي بلورت التراث اإلسالمي في هذا التصور المنغلق ووقفت في وجه‬
‫المحاوالت التي أرادت االجتهاد في التأويل والتفسير بطريقة حديثة‪.‬‬

‫المستوى الثالث‪ :‬يحاول محمد أركون أن يقرب التراث الديني اإلسالمي من التراث اإلغريقي‬
‫من أجل تبرير ميله للمناهج الغربية التي سعى بواسطتها في البحث في التراث اإلسالمي‬
‫الذي هو "جزء من التراث اإلغريقي – السامي وليس من أي تراث معرفي آخر بهذا المعنى‬
‫فإن اإلسالم ينتمي إلى الغرب ال إلى الشرق على عكس ما يتوهم الكثيرون فال عالقة للدين‬
‫اإلسالمي بأديان الشرق األقصى كالهندوسية والبوذية مثال هذا في حين أن عالقته أكثر‬
‫واضحة بأديان الكتاب أي " باليهودية والمسيحية " وال يكتفي أركون باالستناد إلى تحليل‬
‫العناصر العقائدية الرمزية‪...‬بل يضيف إليها العامل الجغرافي‪ ،‬يقول أركون في صيغة‬
‫استفهامية إنكارية» هل فلسطين وسوريا وتركيا وتونس والجزائر والمغرب‪ ،‬شرق؟ الشرق‬
‫يبتدئ بعد أفغانستان مباشرة وليس قبله‪ .2".‬لذا فأركون يعتقد بانتماء التراث اإلسالمي للتراث‬
‫اإلغريقي اليوناني حيث يرى أن اإلسالم جزء من الغرب وليس من الشرق وهذا ما يفسر‬

‫‪ -1‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.106،107‬‬
‫‪ -2‬امباركحاميدي‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.107‬‬
‫‪283‬‬
‫توافق الدين اإلسالمي مع الديانات السماوية األخرى والعالقة التي تربط هذه األديان مع‬
‫بعضها وهذا ما يوحي بوجود روابط تاريخية حقيقية في األصول األولى ما يترتب عنه‬
‫إمكانية تطبيق نفس المناهج التي تمت على المسيحية والتراث المسيحي على الدين‬
‫اإلسالمي والتراث اإلسالمي ويفسر محمد أركون هذا بقوله " إن القطيعة التي حصلت داخل‬
‫اإلسالم ذاته ثم بين اإلسالم وبين أوربا الحديثة فيما بعد هي التي حجبت عنا رؤية تلك‬
‫االستم اررية الروحية والفكرية العميقة للفضاء اإلغريقي السامي وهي التي حجبت عنا وحدته‬
‫وتشابك عالقته الوثيقة‪.1".‬‬

‫القطيعة هنا يريد بها محمد أركون إثبات وجود وتأثير الفكر األرتودوكسي الالهوتي الذي‬
‫أسر العقل اإلسالمي وأغلق عليه في سياج ال يسمح له بالتفاعل واالنسجام مع الحضارات‬
‫األخرى وهو المسؤول عن الوقوف بين التراث الديني اإلسالمي وبين التفكير األوربي الغربي‬
‫لذا فهو بذلك يحمل مسؤولية التخلف واالنغالق على الذات للفكر الالهوتي ‪.‬‬

‫المستوى الرابع‪ :‬وهو» التراث الحي « الذي ينشأ من شعور األجيال المسلمة وتعاقبها‬
‫باالنتماء والتبعية لمجتمعاتها اإلسالمية بصورة مستمرة بما يتفق مع نسقها وطبيعتها ‪.‬فهو‬
‫يشمل كل ما أ نتج من تعابير حية وعادات وتقاليد توارثت بأساليب مختلفة شفهية وكتابية‬
‫نتيجة التفاعل مع النصوص المنتهية التشكيل كالقرآن وكتب الحديث وكتب الفقه والتفسير‬
‫أي" هو الوعي المتشكل ببطئ على مدى أجيال المسلمين المتعاقبة وذلك بفعل المدونات‬
‫الرسمية المغلقة كالمصحف وكتب الحديث النبوي والتفاسير ‪...‬وغيرها‪ .‬هذا الوعي الذي‬
‫يجعل المؤمن يشعر كلما تال آية أو حديثا‪ ، ...‬معاص ار لجميع المسلمين األحياء وكذلك لكل‬
‫األجيال التي نقلت هذا التراث وعاشته منذ تأسيسه ‪...‬ويحدث ذلك التواصل دون شعور‬
‫بالتمييز بين استم اررية االعتقاد من جهة والقطيعة اإلبستيمولوجية والمعنوية الحاصلة حتما‬
‫كلما تغيرت الشروط التاريخية للجماعة المؤمنة‪ .2".‬غير أن محمد أركون يلح على إحداث‬
‫القطيعة اإلبستيمولوجية مع هذا المستوى الذي يوسع من دائرة االنغالق الفكري ويمنع‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪ ،‬قضايا في نقد العقل الديني‪،‬ص‪.270‬‬


‫‪ -2‬امباركحاميدي ‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.109‬‬
‫‪284‬‬
‫االحتكاك ويرفض اآلخر ويشجع على االنتماء للذات والتقوقع فيعزل العقل بعيدا عن‬
‫الحداثة‪.‬‬

‫ومن أجل هذا كله يلح محمد أركون على إعادة تقييم الشكل والمضمون للتراث اإلسالمي‬
‫ألن كل المضامين المعرفية والمفاهيم األساسية التي أسست له أصبحت معروفة بفضل‬
‫الدراسة العلمية التي تضفي المصداقية على التراث وتخلصه من الشوائب الخرافية التي‬
‫علقت به على مدار العصور الغابرة وهذا ال يتم إال بتجاوز األسلوب الذي اعتمدته‬
‫اإلسالميات الكالسيكية وتجاوز الالهوت األرتودوكسي والحقائق المطلقة وبالتحلي بشجاعة‬
‫كبيرة دون تردد لتناول التراث اإلسالمي كله بالمنهج النقدي بما فيه النصوص الدينية‬
‫المقدسة التي ألفت العزلة وهذا أيضا يتم بواسطة اعتماد مناهج البحث والتحليل الحديثة‬
‫التي تعتمدها العلوم االجتماعية والعلوم اإلنسانية واستعمال أدوات العلوم المعاصرة‬
‫كاألركيولوجيا واألنتروبولوجيا والسيوسيولوجيا واأللسنية إ ْذ يؤكد أركون‪" :‬أن العولمة كمرحلة‬
‫تاريخية جديدة من مراحل الفكر تفتح ألول مرة المجال من أجل المقارنة بين أنظمة الحقيقة‬
‫التي سيطرت على البشر عبر التاريخ وهي إذ تفعل ذلك تخضع كل نظام إلى منهجية الحفر‬
‫األركيولوجي العميق من أجل الكشف عن البنايات التحتية المدفونة التي أثبتت عليها‬
‫الحقائق السط حية الظاهرة وهذه المرة ال يمكن استثناء أي نظام من أنظمة الحقيقة بحجة أنه‬
‫إلهي منزل وغيره بشري زائل أو دنيوي عرضي‪..‬ال‪..‬فجميع التراثات الدينية سوف تخضع‬
‫لمنهجية النقد التاريخي ‪...‬وإذا كان هناك نظام للحقيقة فسيجبر ال محالة عن أن يحدد بيانه‬
‫وبراهينه وتأصيله‪.1".‬‬

‫نستنتج مما سبق الجرأة التي تحلى بها محمد أركون في مشروعه الذي أطلقه على‬
‫دراسة التراث اإلسالمي بواسطة منهجية اإلسالميات التطبيقية وما احتوته تلك المناهج من‬
‫أدوات علمية معاصرة وإتّباع لمناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية الحديثة دون تردد أو خوف‬
‫والسير قدما ف ي ذلك بخطى ثابتة ترتكز على قواعد معرفية دقيقة وتستنتج الحقائق الصحيحة‬
‫بكل موضوعية وهذا ال يتم طبعا إال إذا تفتحت المجتمعات العربية اإلسالمية على مختلف‬

‫‪ -1‬محمد أركون ‪،‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪،‬ص‪.10‬‬


‫‪285‬‬
‫األمم وما شملتها حضاراتهم من إبداعات في شتى الميادين وهذا االحتكاك واإلرادة الحقيقية‬
‫هما العامل المهم الذي يعكس النية الصادقة لألعمال واألهداف التي يرغب الفكر العربي‬
‫اإلسالمي الوصول لحقيقتها ‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫الخاتمة‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫يفسر محمد أركون عدم تفاعل العقل اإلسالمي والعربي مع ما نقلته األديان السماوية‬
‫ومع ما قدمته الحداثة إلى عدم انتباهه للمعارف التي وصل اليها‪ ،‬ألن التفكير الالهوتي في‬
‫مختلف المجتمعات لم يسمح بذلك وخاصة ما تعلق بدراسة التراث الديني وبالتحديد التراث‬
‫اإلسالمي والقرآني‪ ،‬إذ يؤكد محمد أركون أن الحرية الفكرية قد تجلت في القرون الهجرية‬
‫الثالث األولى حيث تكون الفكر اإلسالمي من خالل التعددية الفكرية التي تمثلت في ظهور‬
‫المذاهب والفرق واختالفها والصراع الذي ميزها رغم أنها تمكنت من التعايش وااللتزام‬
‫‪287‬‬
‫باالحترام والمناقشة دون عنف إال أنها انطلقت كلها من مسلمات فكرية واحدة على الرغم من‬
‫تباينها‪.‬‬

‫لذا يرى محمد أركون أن العقل اإلسالمي عقل تاريخي له بداية تمثلت في رسالة‬
‫الشافعي التي وضعت األحكام الشرعية واألصول الدينية التي قام عليها الفقه فيما بعد‬
‫والزالت تلك األحكام واألصول لحد الساعة وحدها من تقدم التفاسير والتأويالت للنصوص‬
‫واألحداث‪ ،‬لذا فلقد اشتغل العقل اإلسالمي حسب أركون لغاية هذه اللحظة في إطار المعرفة‬
‫الجاهزة األمر الذي يدفعنا للتفكير في التاريخ اإلسالمي والعربي كما قام بذلك تماما الفكر‬
‫الغربي في أوربا بعد عصر األنوار في القرن‪18‬بعد تحرير العقل من قيود المدارس‬
‫السكوالئية التي فرضتها الكنيسة‪ ،‬لتقف على جميع انتاجات العقل كما يفعل الفقهاء في‬
‫الفكر اإلسالمي حتى تضع حدودا ال يمكنه تجاوزها‪ ،‬وهذا حسب محمد أركون ينتمى‬
‫للممارسة السياسية من خالل استعمال هذا العقل الديني في التوجيه والتسيير ولكن بعد‬
‫عصر األنوار أصبح الفكر متحر ار تماما منها واستطاع قراءة التراث الديني والتفكر فيه‪.‬‬

‫هنا يطرح علينا محمد أركون مفهوم جديد هو الظاهرة الدينية حيث يرى أن الدين‬
‫اإلسالمي حدث تاريخي ال يمكن للعقل اإلسالمي العربي دراسته أو تقديمه في المدارس‬
‫والمؤسسات األكاديمية التعليمية المختلفة بما فيها التعليم العالي من دون وصول هذا العقل‬
‫للعلمانية التي لها تاريخ بعيد كعامل مؤثر ومتفاعل معه في مختلف مراحله لذا ال يمكن‬
‫االستغناء عنها واستبعادها دون معرفة ألصولها ومرجعياتها عبر العصور‪ ،‬وحسب محمد‬
‫أركون لقد تجلت العلمانية بوضوح كبير من خالل الصراع القديم بين الفكر والدين‪ ،‬الذي‬
‫يمثل لديه الفكر الدوغمائي الذي استمد قوته من الكتب وركبها تركيبا لتصبح بنية مغلقة‬
‫وواجه العقل بالرفض واالقصاء والعلمانية حسب اركون غير غريبة على المجتمعات‬
‫اإلسالمية والعربية خاصة وليست أيضا غريبة على المجتمعات الغربية ألنها هي من مثلت‬
‫الطرف الفكري في الصراع مع الدين منذ القدم وعند المسلمين والعرب تجلت في طرح‬
‫المعتزلة من قبل وظهرت أيضا في استخدام الدين لخدمة السلطة الحاكمة ما يفسر علمنة‬
‫الدين في تلك المراحل ولقد غرقت الدولة األموية أيضا في األفكار التي سيطرت على الدين‬
‫لذا فهو يرفض نهائيا فكرة اإلسالم دين ودولة أو دين ودنيا فالدولة في اإلسالم كما في‬
‫‪288‬‬
‫المسيحية ظاهرة دنيوية قبل أن تكون ظاهرة دينية وفكرة الدين دولة مثلت لوقت طويل‬
‫االكراهات التي سيطرت على العقل وحكمته واغلقت عليه نهائيا وحسب محمد أركون أن‬
‫تاريخ العلمانية في كل المجتمعات عموما وعند المسلمين والعرب بالخصوص مدرج بالدماء‬
‫منذ القدم و استمر ينزف من مرحلة ألخرى ليبين أن العقل واجهته آلة ايديولوجية عنيفة‬
‫قمعت حركته وأسرته لوقت طويل حتى بلغ مرحلة اليأس والتسليم وولد أزمة فكرية لحقت بها‬
‫محاوالت مستميتة في الفكر اإلسالمي والعربي لمالمسة العصر والتناغم معه ومسايرته إال‬
‫أنها اكتفت باالعتماد على ذلك في مشاكل التنمية والتحديث المادي لتندمج هذه المجتمعات‬
‫شيئا فشيئا في العلمانية ألنها واقع فرض نفسه منذ البداية وهذا ما يتضح في ظهور‬
‫الحركات الفكرية فيها وتعددها واختالفها فحتى الحركة األصولية في نظر محمد أركون مثلت‬
‫العلمانية بلغة دينية ألنها ال تجيد غيرها األمر الذي حول الدين ألفكار سياسية تتبناها‬
‫السلطة أحيانا والمعارضة أحيانا أخرى أو كالهما معا وبذلك فقد الدين ذلك البعد المتعالي‬
‫وهنا محمد أركون ال يقف ضد الدين بل يقف ضد استعمال الدين ألهداف خاصة ‪ ،‬وعليه‬
‫فالمسلمون عليهم أن يتخلصوا من قيود الدين القديمة ومن أجل ذلك يرى محمد أركون أن‬
‫العلمانية هي التي ستتحقق كمنهج ونظام بعد تحرير العقل وضمان الحقوق والقيم اإلنسانية‬
‫والتي ستمكن فيما بعد من تحقيق الحداثة المنشودة التي ستستمر بدورها في زعزعة الفكر‬
‫بطريقة متواصلة ألنها مشروع ليس له نهاية بل يتوسع ويكبر كلما تطور ألن الحداثة مفهوم‬
‫يعني تحديث المعارف وتجديدها والتفاعل المستمر مع مختلف عناصرها في مختلف‬
‫المجاالت والميادين ولقد وقف محمد أركون مباشرة أمام الذات اإلسالمية والعربية وخاصة‬
‫بالبحث في أسباب التراجع واألزمة الفكرية كما وقف على تردد العقل اإلسالمي والعربي أمام‬
‫الحداثة بسبب الموقف األصولي المتعلق باألفكار القومية ومسائل الهوية الذي همش وأقصى‬
‫العمل التاريخي واالجتماعي والنفسي والفنولوجي وحتى استطاع إبعاد التساؤل الفلسفي من‬
‫الدراسات اإلسالمية الذي يعتبره محمد أركون سببا مباش ار في توقف العقل اإلسالمي العربي‬
‫ودهشته ويقدم مفكرنا الحل الناجع لتجاوز هذا الوضع وهو العلمانية التي ستتمكن حسب رأيه‬
‫من بلوغ الحداثة ولقد احتلت العلمانية مكانة مركزية في مشروع محمد أركون في دراسة‬
‫العقل اإلسالمي من خالل النهج الذي قدمه المتمثل في اإلسالميات التطبيقية التي رأى أنها‬

‫‪289‬‬
‫ستقف أوال عند لحظة التجلي أو االكتشاف وستزيل الغموض على أسباب النزول والنصوص‬
‫الدينية وتناول العقل اإلسالمي انطالقا من بدايته ثم تحديد الروابط التي تأسست بعد تلك‬
‫اللحظة بين الدين والسياسة والدنيا ثم دراسة كل العوائق والقيود التي تولدت عبر كل المراحل‬
‫ولقد اجتهد محمد أركون كثي ار ولمدة طويلة في وضع مشروعه على العقل اإلسالمي الذي‬
‫يبين فيه ضرورة تطبيقه لتحقيق ونشر الحداثة في المجتمعات اإلسالمية والعربية إال أن‬
‫أعماله لم تلقى االهتمام المناسب والكافي عند المثقفين المسلمين مثلما حضيت به في الفكر‬
‫الغربي األوربي بل وأكثر من ذلك فلقد لقت أفكاره استنكار وانتقادا الذعا وخاصة من‬
‫األصوليين اإلسالميين بسبب أفكاره الجريئة لتناول المسكوت عنه أو الال مفكر فيه في الفكر‬
‫اإلسالمي وبسبب أيضا اعتماده على العلمانية التي وضعها كشرط أساسي للحداثة والتي‬
‫ترتسم مالمحها في موقف احرج الفكر األصولي واستفزه وهو فصل الدين عن الدولة ولقد‬
‫اتضحت معالم الحداثة من قبل في المجتمعات الغربية عند مفكري األنوار كأولوية الذات‬
‫التي حاولت استرداد دور االنسان في اكتشاف الحقائق واستبعاد المعطيات الدينية والعقائد‬
‫والسلطات كما تجلت في استعمال العقل الذي استطاع تفسير الغموض وتقديم اإلجابات التي‬
‫ترتبط باإلنسان ووجوده بعيدا عن األساطير والخرافات أما في المجال السياسي فلقد بدت‬
‫مظاهر الحداثة بداية بعد نزع القداسة عنها وفي الدولة الديموقراطية التي أتاحت الحرية‬
‫للجميع في اختيار الحكام والتي قامت على فصل الدين على الدولة‪ ،‬أما في المجال‬
‫االقتصادي فلقد ظهرت الحداثة في تطور إنتاجية العمل اإلنساني وتحكمه في قوى الطبيعة‬
‫واإلنتاج ‪ ،‬أما على المستويين االجتماعي واألخالقي فلقد عبرت الحداثة عن قيم منفتحة‬
‫متفاعلة قائمة على التعددية الفكرية وقابلة للتغيير ومعيارية غير مطلقة‪ ،‬ولقد درس محمد‬
‫أركون في مقابل هذا الطرح العلماني الحداثي الفكر اإلسالمي العربي وخاصة بعد تلك‬
‫المحاوالت المترددة بعد االستقالل فرأى أنها لم ترقى لمستوى الحداثة الحقيقية التي تشمل كل‬
‫المظاهر والمفاهيم التي سبق تقديمها بل اقتصرت على تحديث الجانب المادي الذي ظهر‬
‫في استوراد واستقدام المنتجات التقنية ولم تهتم فعليا باالستفادة وباستثمار المعطيات الذهنية‬
‫والفكرية التي قدمتها الحداثة في الغرب األوربي ليعود مرة أخرى أركون ليلح ويصر على نقد‬
‫العقل اإلسالمي العربي بكل ما يحمله من نصوص مقدسة وتراث ديني مزدحم وتحريره من‬

‫‪290‬‬
‫جميع االكراهات والقيود والغاء كل االحكام المطلقة والمسلمات والقوالب الجاهزة المنتهية‬
‫التشكيل وفي المقابل تقبل النقد والتفسير ومن أجل كل هذا يضع محمد أركون العلمانية‬
‫كمطلب ضروري ليتمكن الفكر اإلسالمي من تخليص نفسه من األسر بعد فرض احترام‬
‫حقوق االنسان وإرساء الحريات الفردية لتتمكن العلمانية من االنتشار في المجتمعات‬
‫اإلسالمية لتأخذ زعامة الفكر لتقوده لمسايرة ركب الحداثة كما ال يقف مشروع محمد أركون‬
‫عند العلمانية كأساس لتحقيق الحداثة وضرورة توطينها في المجتمعات اإلسالمية والعربية بل‬
‫يلح أيضا على احترام حقوق االنسان كشرط لتحقيق العلمانية والتي تصبح هي األخرى فيما‬
‫بعد شرط ضروري للحداثة ‪.‬‬

‫فهرس املحتويات‬

‫‪ -‬االهداء‬

‫‪ -‬كلمة الشكر‬

‫‪291‬‬
‫‪ -‬مقدمة ‪..............................................................................‬أ‬

‫الفصل األول‪:‬‬

‫* العلمانية والحداثة‪ :‬مقاربات في المفهوم والداللة‪5......................................‬‬

‫‪ -‬المبحث األول‪:‬‬

‫* دالالت مفهوم العلمانية بين التصور الغربي والرؤية العربية اإلسالمية‪7..................‬‬

‫‪ -‬المبحث الثاني‪:‬‬

‫* سؤال الحداثة‪ :‬المنطلقات واإلرهاصات‪38..............................................‬‬

‫الفصل الثاني‪:‬‬

‫* الركائز المنهجية والمفاهيمية للمشروع األركوني‪81.....................................‬‬

‫‪ -‬المبحث األول‪:‬‬

‫‪ -‬قراءة في مفهومي العقل اإلسالمي واالستشراق لدى أركون‪82...........................‬‬

‫‪ -‬المبحث الثاني‪:‬‬

‫‪ -‬األسس المنهجية لفهم تركيبة العقل اإلسالمي‪115......................................‬‬

‫الفصل الثالث‪:‬‬

‫* تمفصالت مفهومي العلمانية والحداثة في فكر محمد‬


‫أركون‪179...........................‬‬

‫‪ -‬المبحث األول‪:‬‬

‫‪292‬‬
‫‪ -‬األبعاد النظرية واإلجرائية للعلمانية في تصورات أركون‪180.............................‬‬

‫‪ -‬المبحث الثاني‪:‬‬

‫‪ -‬مالمح الحداثة اإلسالمية في فكر محمد‬


‫أركون‪236.....................................‬‬

‫* خاتمة ‪277..........................................................................‬‬

‫‪293‬‬

You might also like