Professional Documents
Culture Documents
These PDF
These PDF
1
الهداء
أهدي هذا العمل اىل روح محمد أركون-
2
لكمة شكر
3
مقدمة
4
مقدمة
يفسر محمد أركون عدم تفاعل العقل اإلسالمي والعربي مع ما نقلته األديان السماوية
ومع ما قدمته الحداثة إلى عدم انتباهه للمعارف التي وصل إليها ،ألن التفكير الالهوتي في
مختلف المجتمعات لم يسمح بذلك وخاصة ما تعلق بدراسة التراث الديني وبالتحديد التراث
اإلسالمي والقرآني ،إذ يؤكد محمد أركون أن الحرية الفكرية قد تجلت في القرون الهجرية
الثالث األولى حيث تكون الفكر اإلسالمي من خالل التعددية الفكرية التي تمثلت في ظهور
المذاهب والفرق واختالفها والصراع الذي ميزها ،رغم أنها تمكنت من التعايش وااللتزام
باالحترام والمناقشة دون عنف إال أنها انطلقت كلها من مسلمات فكرية واحدة على الرغم من
تباينها.
لذا يعتقد محمد أركون أن العقل اإلسالمي عقل تاريخي له بداية تمثلت في رسالة
الشافعي التي وضعت األحكام الشرعية واألصول الدينية التي قام عليها الفقه فيما بعد
والزالت تلك األحكام واألصول لحد الساعة وحدها من تقدم التفاسير والتأويالت للنصوص
واألحداث ،وعليه فقد اشتغل العقل اإلسالمي حسب أركون لغاية هذه اللحظة في إطار
المعرفة الجاهزة .األمر الذي يدفعنا للتفكير في التاريخ اإلسالمي والعربي كما قام بذلك تماما
الفكر الغربي في أوربا بعد عصر األنوار في القرن 18عقب تحرير العقل من قيود المدارس
السكوالئية التي فرضتها الكنيسة لتقف على جميع انتاجات العقل كما يفعل الفقهاء في الفكر
اإلسالمي حتى تضع حدودا ال يمكنه تجاوزها ،وهذا حسب محمد أركون ينتمى للممارسة
السياسية من خالل استعمال هذا العقل الديني في التوجيه والتسيير ولكن بعد عصر األنوار
أصبح الفكر متحر ار تماما منها واستطاع قراءة التراث الديني والتفكير فيه.
يطرح ها هنا محمد أركون مفهوم جديد هو الظاهرة الدينية حيث يرى أن الدين
اإلسالمي حدث تاريخي ال يمكن للعقل اإلسالمي العربي دراسته أو تقديمه في المدارس
والمؤسسات األكاديمية التعليمية المختلفة بما فيها التعليم العالي من دون وصول هذا العقل
للعلمانية التي لها تاريخ بعيد كعامل مؤثر ومتفاعل معه في مختلف مراحله ،لذا ال يمكن
االستغناء عنها واستبعادها دون معرفة ألصولها ومرجعياتها عبر العصور ،وحسب أركون
5
فقد تجلت العلمانية بوضوح كبير من خالل الصراع القديم بين الفكر والدين ،والمقصود بهذا
األخير عنده هو الفكر الدوغمائي الذي استمد قوته من الكتب وركبها تركيبا لتصبح بنية
مغلقة وواجه من خاللها العقل بالرفض واإلقصاء.
العلمانية حسب أركون غير غريبة على المجتمعات اإلسالمية والعربية خاصة
وليست أيضا غريبة على المجتمعات الغربية ألنها هي من مثلت الطرف الفكري في الصراع
مع الدين منذ القدم ،وتجلت عند المسلمين والعرب في طرح المعتزلة من قبل كما ظهرت
أيضا في استخدام الدين لخدمة السلطة الحاكمة ما يفسر علمنة الدين في تلك المراحل ،ولقد
غرقت الدولة األموية أيضا في األفكار التي سيطرت على الدين .لذا نجد أركون يرفض
نهائيا فكرة اإلسالم دين ودولة أو دين ودنيا ،فالدولة في اإلسالم كما في المسيحية ظاهرة
دنيوية قبل أن تكون ظاهرة دينية وفكرة الدين دولة مثلت لوقت طويل االكراهات التي
سيطرت على العقل وحكمته وأغلقت عليه نهائيا ،فتاريخ العلمانية في كل المجتمعات عموما
وعند المسلمين والعرب بالخصوص مدرج بالدماء منذ القدم واستمر ينزف من مرحلة ألخرى
ليبين أن العقل واجهته آلة إيديولوجية عنيفة قمعت حركته وأسرته لوقت طويل حتى بلغ
مرحلة اليأس والتسليم وولد أزمة فكرية لحقت بها محاوالت مستميتة في الفكر اإلسالمي
والعربي لمالمسة العصر والتناغم معه ومسايرته إال أنها اكتفت باالعتماد على ذلك في
مشاكل التنمية والتحديث المادي ،لتندمج هذه المجتمعات شيئا فشيئا في العلمانية ألنها واقع
فرض نفسه منذ البداية وهذا ما يتضح في ظهور الحركات الفكرية فيها وتعددها واختالفها
فحتى الحركة األصولية في نظر محمد أركون مثلت العلمانية بلغة دينية ألنها ال تجيد
غيرها .األمر الذي حول الدين ألفكار سياسية تتبناها السلطة أحيانا والمعارضة أحيانا أخرى
أو كالهما معا وبذلك فقد الدين ذلك البعد المتعالي.
ال يقف هنا محمد أركون ضد الدين بل يقف ضد استعمال الدين ألهداف خاصة،
وعليه فالمسلمون عليهم أن يتخلصوا من قيود الدين القديمة ومن أجل ذلك يرى محمد أركون
أن العلمانية هي التي ستتحقق كمنهج ونظام بعد تحرير العقل وضمان الحقوق والقيم
اإلنسانية ،التي ستمكن فيما بعد من تحقيق الحداثة المنشودة التي ستستمر بدورها في زعزعة
الفكر بطريقة متواصلة ألنها مشروع ليس له نهاية بل يتوسع ويكبر كلما تطور ألن الحداثة
6
مفهوم يعني تحديث المعارف وتجديدها والتفاعل المستمر مع مختلف عناصرها في مختلف
المجاالت والميادين.
وقف محمد أركون مباشرة أمام الذات اإلسالمية والعربية وخاصة بالبحث في أسباب
التراجع واألزمة الفكرية ،كما وقف على تردد العقل اإلسالمي والعربي أمام الحداثة بسبب
الموقف األصولي المتعلق باألفكار القومية ومسائل الهوية الذي همش وأقصى العمل
التاريخي واالجتماعي والنفسي والفنولوجي وحتى استطاع إبعاد التساؤل الفلسفي من
الدراسات اإلسالمية الذي يعتبره محمد أركون سببا مباش ار في توقف العقل اإلسالمي العربي
ودهشته ،ليقدم لنا الحل الناجع حسب تصوره لتجاوز هذا الوضع :وهو العلمانية التي
ستتمكن حسب رأيه من بلوغ الحداثة ،ألجل هذا نجد أن مفهوم العلمانية احتل مكانة مركزية
في مشروع محمد أركون حين دراسة العقل اإلسالمي ،ويتأتى ذلك من خالل النهج الذي
قدمه والمتمثل في اإلسالميات التطبيقية التي رأى أنها ستقف أوال عند لحظة التجلي أو
االكتشاف وستزيل الغموض على أسباب النزول والنصوص الدينية وتناول العقل اإلسالمي
انطالقا من بدايته ،ثم تحديد الروابط التي تأسست بعد تلك اللحظة بين الدين والسياسة
والدنيا ،لتليها دراسة كل العوائق والقيود التي تولدت عبر كل المراحل .كما اجتهد محمد
أركون كثي ار ولمدة طويلة في وضع مشروعه على العقل اإلسالمي الذي يبين فيه ضرورة
تطبيقه لتحقيق ونشر الحداثة في المجتمعات اإلسالمية والعربية إال أن أعماله لم تلقى
االهتمام المناسب والكافي عند المثقفين المسلمين مثلما حضيت به في الفكر الغربي
األوربي بل وأكثر من ذلك فلقد لقت أفكاره استنكار وانتقادا الذعا وخاصة من األصوليين
اإلسالمي ين بسبب أفكاره الجريئة لتناول المسكوت عنه أو الال مفكر فيه في الفكر اإلسالمي،
وبسبب أيضا اعتماده على العلمانية التي وضعها كشرط أساسي للحداثة التي ترتسم مالمحها
في موقف أحرج الفكر األصولي واستفزه وهو فصل الدين عن الدولة.
لقد درس محمد أركون في مقابل الطرح العلماني الحداثي الغربي ،الفكر اإلسالمي
العربي وخاصة بعد تلك المحاوالت المترددة بعد االستقالل فرأى أنها لم ترقى إلى مستوى
الحداثة الحقيقية التي تشمل كل المظاهر والمفاهيم التي سبق تقديمها بل اقتصرت على
تحديث الجانب المادي الذي ظهر في استيراد واستقدام المنتجات التقنية ولم تهتم فعليا
7
باالستفادة وباستثمار المعطيات الذهنية والفكرية التي قدمتها الحداثة في الغرب األوربي،
ليعود مرة أخرى أركون يلح ويصر على نقد العقل اإلسالمي العربي بكل ما يحمله من
نصوص مقدسة وتراث ديني مزدحم وتحريره من جميع االكراهات والقيود وإلغاء كل األحكام
المطلقة والمسلمات والقوالب الجاهزة المنتهية التشكيل وفي المقابل تقبل النقد والتفسير.
من أجل كل هذا يضع محمد أركون العلمانية كمطلب ضروري ليتمكن الفكر
اإلسالمي من تخليص نفسه من األسر بعد فرض احترام حقوق االنسان وإرساء الحريات
الفردية لتتمكن العلمانية من االنتشار في المجتمعات اإلسالمية وتأخذ زعامة الفكر كي تقوده
لمسايرة ركب الحداثة .كما ال يقف مشروع محمد أركون عند العلمانية كأساس لتحقيق
الحداثة وضرورة توطينها في المجتمعات اإلسالمية والعربية بل يلح أيضا على احترام حقوق
االنسان كشرط لتحقيق العلمانية والتي تصبح هي األخرى فيما بعد شرط ضروري للحداثة .
ألجل هذه المقاربات ارتأينا أن نسلط الضوء على أحد أهم المشاريع الفكرية العربية
المعاصرة .أال وهو مشروع المفكر محمد أركون محاولين التركيز حول األرضية المفاهيمية
التي سيؤسس لها هذا المشروع ،وحدود تطبيق مثل هذه التصورات في الواقع العملي
اإلجرائي للمجتمعات العربية اإلسالمية .ولعل هذا هو الدافع الذاتي للبحث في موضوع
العلمنة والحداثة لدى محمد أركون.
أما الدافع الموضوعي فتمثل في انتمائنا لمشروع الفكر العربي المعاصر .ولعل أبرز
منظري هذا الفكر هو محمد أركون الذي خلقت تصوراته سجاال فكريا وسوسيولوجيا ال زال
مطروحا ومثي ار للعديد من الرؤى المدافعة والمهاجمة لهذا المشروع .لذا ارتأينا من خالل هذه
الرسالة أن نطرح الركائز والتصورات المفاهيمية لهذا المشروع بروح تحليلية نقدية بعيدا عن
الدوغمائية والتطرف الفكري.
-ما هي اآللية التي يراها أركون ضرورية لتحديث الفكر والمجتمع اإلسالمي وتماشيه
مع روح العصر الجديد؟.
8
ينبثق عن هذا اإلشكال المركزي مجموعة من التساؤالت الفرعية يمكن أن تطرح كما يلي:
-كيف يزاوج محمد أركون بين العلمنة والحداثة كشرط لتعزيز قيم الحداثة السياسية
والفكرية واالجتماعية؟.
-ما هو السبيل الذي اعتمده محمد أركون في مشروعه الذي خاضه في دراسة نقد
التراث اإلسالمي؟.
-هل تستطيع المناهج الغربية التي اعتمدها أركون أن تنسجم مع البيئة الفكرية
اإلسالمية وهل ستتمكن في التراث اإلسالمي من تحقيق نفس النتائج التي حققتها في
دراسة التاريخ الغربي؟
-كيف ميز أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة اإلسالمية؟
-كيف وظف اإلسالميات التطبيقية كمنهج بديل لالستشراق؟
ألجل الغوص في هذه اإلشكالية وتحليل هذه التساؤالت اخترنا المنهج التحليلي ،الذي نراه
متوافقا مع المغزى العام من هذا البحث أال وهو تسليط الضوء على المفاهيم والتصورات
األركونية دون إلباسها أي طابع إيديولوجي معين.
أما منهجية العمل فقد قسمنا البحث إلى ثالث فصول رئيسة ،تنقسم كل منها إلى مبحثين
اثنين رئيسين.
الفصل األول عنون بالعلمانية والحداثة :مقاربات في المفهوم والداللة ،اخترنا فيه عرض
السياق التاريخي واالجتماعي لمفهومي العلمانية والحداثة لدى الغرب األوروبي وكذا لدى
الشرق اإلسالمي .محاولين فهم أهم االختالفات التي صاحبت ظهور المفهومين بالضفتين
الغربية والشرقية.
أما الفصل الثاني فقد عرضنا فيه ألهم الركائز المفاهيمية والمنهجية للمشروع األركوني.
اخترنا أبرزها وهي :العقل اإلسالمي ،االستشراق ،األنسنة ،األلسنية والتاريخية.
آخر فصل للرسالة المعنون بتمفصالت مفهومي العلمانية والحداثة لدى محمد أركون فقد
حاولنا تفكيك وتشريح المفهومين بمقاربة فلسفية تاريخية اجتماعية ولسانية .متسائلين في هذا
الفصل :هل البديل العلماني الذي يطرحه أركون هو مالذنا لولوج الحداثة.
9
الدراسات السابقة التي اعتمدتاها في هذا البحث كثيرة ومتعددة أغلبها مقاالت منشورة
حول الفكر األركوني .لكن الدراسة األبرز المعتمدة هي رسالة دكتوراه للباحث الجزائري فارح
مسرحي حول فكر محمد أركون .وهي رسالة مناقشة بجامعة باتنة الجزائر.
لكل بحث صعوبات ،والصعوبة األبرز التي واجهتنا هي كثرة الدراسات والنقاشات
والسجاالت حول فكر محمد أركون .مما دفعنا في كل مرة إلى محاولة تحاشي التوجهات
اإليديولوجية التي غلبت على المدافعين أو المناوئين لفكره .وذلك بالعودة إلى النصوص
األصلية باحثين عن المعنى األصيل لألفكار المطروحة.
10
الفصل األول
11
مدخل:
قناعة منا باألهمية البالغة لمفهومي العلمانية والحداثة في تصور المنظرين للفكر
السياسي واالجتماعي والثقافي والفلسفي رأينا أنه من الضروري التناول بالدراسة والبحث
المستفيض في هذا الفصل من البحث هذين المفهومين ،بداية بالسياق التاريخي للعلمانية في
الغرب انطالقا من موقف الكنيسة من الدولة في العهد القديم ومرو ار بأهم المحطات التي
تجل فيها هذا الفكر مع الوقوف على مختلف العوامل المباشرة والغير المباشرة التي ساهمت
في وضع العلمانية كمنهج بديل لهيمنة الكنيسة وثانيا من أجل إرساء الحريات ودعائم الفكر
المتحرر ،وفي المقابل كخطوة ثانية قمنا بوضع د ارسة بشكل موازي لنفس المفهوم في الشرق
اإلسالمي والعالم العربي تناولنا فيها العوامل التي ساهمت في ظهور العلمانية بهذا العالم
العربي اإلسالمي بداية باالتصال بالغرب وبدايات التفكير في العلمانية ثم تحليل مواقف
المفكرين العرب والمسلمين من العلمانية ألن التاريخ اإلسالمي عرف محطات فكرية عديدة
ومهمة حملت تناقضات مختلفة مست جوهره الفكري والعقائدي واالجتماعي وعرف العلمانية
من خالل اجتماع عوامل داخلية وخارجية كثيرة سنفصل فيها بشكل عميق أثناء بحثنا هذا.
كما تناولنا في هذا الفصل مفهوم الحداثة بداية بوضع تعريف لغوي واصطالحي لها
حتى يتسنى للمتلقي تحديد شرح وافي لها وإدراك معالمها كي ال يتوه بين ما تسعى إليه
الحداثة وبين عوامل تحقيقها ،وفي هذا الصدد تطرقنا ألهم المظاهر التي ميزت صورة
الحداثة في الغرب من خالل التحوالت الحضارية والدينية التي شهدها الغرب ،والتي ولدتها
النزعة العلمية وأحداث عصر النهضة األوروبية .ولإللمام بهذا الموضوع أكثر خاصة في
هذا الفصل تناولنا أهم المحطات التي ميزت الحداثة كعقالنية ديكارت في فرنسا وتجريبية
بيكون في انجلت ار وفي األخير سلطنا الضوء على الشكل النهائي الذي رسمته الحداثة في
أوربا إبان عصر التنوير وما حققته النزعة العلمية فيه.
كما تناولنا الحداثة في السياق العربي اإلسالمي وأهم أسباب ظهور الفكر النهضوي
بها كحملة نابليون الفرنسية في عهد الدولة العثمانية واصالحات محمد علي السياسية
والثقافية واالجتماعية واالقتصادية والبعثات العلمية التي حملت للبلدان العربية فكر جديد ترك
12
العالم العربي اإلسالمي مندهشا يتأمل الهوة التي تفصل بينه وبين العالم الغربي ومتألما على
ما يحيط به من تخلف وجهل ما جعله يستسيغ كل ما أتت به حقائب رواد النهضة أنذاك.
13
المبحث األول:
14
أوال :قراءة في تاريخ العلمانية لدى الغرب .
يبدو أن المسيحية كانت منتبهة جدا منذ بدايتها من خالل مواقفها إزاء السلطة لتفادى
الصراع معها حين ترى أن الطاعة للدولة مقدسة وفي إطار الطاعة الدينية والخضوع للدين
والدولة واجب والخضوع للدولة فيما ال يخالف الطاعة هلل هو أصل الخضوع هلل ألن هللا هو
الذي سمح لقيصر أن يحكمهم فعليهم الخضوع لهذا القانون ومن هنا اعتبرت المسيحية دينا
فقط ال دخل لها بشؤون الفكر والسياسة فكانت ال تمثل مرجعية قانونية وال عالقة لها بحاكم
الدولة وقوانينه الوضعية وال عالقة لها بالعلم وشؤون المجتمع .ولقد تأكد بعد عصور لرجال
الدين المسيحيين بأنفسهم أن الديانة التي يعتنقونها ويتحملون أوزارها ال تعكس نهائيا أي
عمل عقلي وأدركوا أيضا أن استمرارهم مرهون باستمرار سلطة الكنيسة وهذه األخيرة وجودها
مرهون بردع العقل وتثبيطه وتقييده بالتقاليد والقداسة وهذا ما يتضح من خالل مقولة القديس
"أوغسطين" الذي انتشرت أفكاره في القرون الوسطى األوربية" :لست أسعى للفهم لكي أعتقد
بل إنني أعتقد كي أفهم ".ولقد رأى "مارت لوثر" أنه "ال تستطيع أن تقبل كال من اإلنجيل
والعقل فأحدهما ال يفسح الطريق لآلخر إن العقل هو أكبر عدو لإليمان" .ولقي هذا الموقف
لرجال الدين المسيحيين اتجاه العقل معارضة عنيفة وتمردا من المفكرين الداعين للحرية
وللفكر ومورست ضدهم أبشع طرق التعذيب من أجل ردعهم وإيقافهم وفي ظل هذا الوضع
الع َداء للدين بل
اتخذت الحركة العقلية في أوربا في عصر النهضة منعطفا متطرفا تمثل في َ
اإللحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة ،وذلك االضطهاد المستمر لهؤالء وضع
التحرر الفكري عندهم مساوي لموقفهم الرافض للدين عموما وكان بديهي في الضمير الغربي
منذ ذلك الوقت تناقض ا لفكر والعلم مع األديان بوجه عام وبهذا جنت المسيحية الثالوثية
عداء العلماء والمفكرين لها وبهذا أيضا تمت استعادة الفكر اإلغريقي العلماني من جديد في
عصر النهضة للوقوف في وجه الكنيسة وبالخصوص الفكرة المادية اإللحادية عند
"ديمقريطس" و"أبيقور" الذي نجد لمساته في إنتاجات رواد االتجاه المادي االنجليزي عند
"هوبز" و"لوك" و"هيوم" في عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر وشاع
15
بواسطة المفكرين الفرنسيين أمثال "ديدرو" و"فولتير" و"دالمبير" ويبدو من ذلك انفصال
العلمانية عن األديان بوجه عام ثم تطور الفكر العلماني إلى العديد من المذاهب الشهيرة في
القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الماركسية والوضعية المنطقية والعلمانية التحليلية
والبرجماتية والوجودية اإللحادية.
لم يزعج اإل مبراطورية الرومانية في العهد القديم تواجد ديانات وثنية لم تهتم بالسياسة ولم
تكن في مجال أطماعها السلطة والحكم وتعايش بانسجام -في اإلمبراطورية الرومانية-
الوثني مع األباطرة الذين تألهوا دون أيضا أن يزعج هذا الوثنيين بل ساروا في هذا االتجاه
بالدعوة لطاعة اإلمبراطور وتبجيله "فاإلمبراطور الذي يجسد العظمة الرومانية كان معبودا
من قبل الشعب كإله ففي أصغر قرية من قرى اإلمبراطورية كانت له هياكل 1.إال أن هذا
الوئام اختفى بعد ظهور المسيحية وانتشارها بين عامة الناس وإعجابهم بما جاءت به من
مساواة وبموقفها من عبادة األوثان والحجر وبرفضها لمفهوم العبادة لإلنسان آنذاك ،وقامت
بتقديم البديل الغيبي األحق بالطاعة والوالء .األمر الذي فجر احتدام طاحن بين الدين
والسياسة في اإلمبراطورية الرومانية الذي دام ثالثة قرون تلقى فيها المسيحيون األوائل أشد
أنواع التضييق واالضطهاد واإلقصاء "فقد ذكر المؤرخ "سويتونيوس "أن اإلمبراطور كالديوس
(54-41()Claudiusم)أصدر مرسوم بطرد المسيحيين كافة من مدينة روما مدعيا أنهم قد
أثاروا القالقل واالضطرابات بوحي من تعاليم المسيح والمالحظ أن المرسوم وصفهم باليهود
ألن الذهنية الرومانية عدت المسيحيين األوائل طائفة من اليهود وبالمثل قام اإلمبراطور
"نيرون" بالبطش بالمسيحيين حيث قام بإلقاء مسيحي روما في النار التي أشعلها بالمدينة
أسر معتنقو المسيحية اعتقادهم ولم يبدوه حتى يجتنبوا الصراع مع
عام64م" وخوفا من هذا ّ
2
األباطرة وبطشهم ولكن دون جدوى فلقد عرف المسيحيون أشد أنواع االضطهاد والتعذيب
مرة أخرى بسبب رفضهم لعبادة اإلمبراطور وتقديسه وتقديم القرابين له ألن األباطرة اعتقدوا
أن الخروج عن اإلمبراطور تهديدا لمصالحهم وللنظام اإلمبراطوري الذي اعتبر المسيحيين
خونة فعاقبهم على هذا بعقوبة الخيانة العظمى وهي الصلب "أوربا قبل ظهور المسيح عليه
-1عبد الرحيم العالم ،العلمانية و الدولة المدنية ،مؤمنون بال حدود للنشر والتوزيع ،المملكة المغربية ،الرباط ،
ط،1ص.87
- 2نفس المرجع ،ص.89،90
16
السالم كانت تعيش عصر الوثنية أي تعدد اآللهة ألن المرجعية الدينية والثقافة والحضارة
ألوروبا هي بالد اإلغريق – اليونان – واإلغريق عرفوا عدد اآللهة فعندهم إله للحب وإله
للحرب وإله للجمال وإله للمطر ...وغيرها .فلما ظهر المسيح ودعا الناس إلى توحيد هللا
تعالى ...وقفت اإلمبراطورية الرومانية موقفا صارما ضد هذا الدين ...وقد امتد أذى الدولة
ال رومانية إلى إتباع المسيحية في كل أرض كانت خاضعة لهم...وكانت الدولة الرومانية
تعتبر اعتناق المسيحية جرما في حقها فقاومته بكل قسوة وعنف "1رغم هذا توسعت المسيحية
لتشمل كافة الطبقات االجتماعية دون التعاطي مع السياسة في بادئ األمر ألن آباء الكنيسة
كانوا يعتقدون بأن طاعة الحاكم هي تنفيذ إلرادة هللا واستقر دور الكنيسة في المجتمع في
التوجيه الروحي والعبادة وانسجمت الكنيسة واإلمبراطورية وانتهى ذلك الصراع كليا في القرن
الرابع عشر بعدما انتهت فكرة تأليه اإلمبراطور ولقد جاء هذا مع "قسطنطين الكبير" الذي
حاول أن يوافق م ا بين الدين الوثني القديم والدين المسيحي الجديد حتى يحافظ على مكانته
السابقة في وجود المسيحية والحفاظ على لقبه الذي ورثه عن أجداده الرومان" الكاهن
األعظم" كما استقبل اإلمبراطورفي بالطه آنذاك العديد من رجال الدين المسيحيين وأسندت
الوظائف الكبرى في اإلمبراطورية لرجال الدين الوثنين والمسيحيين في مقابل أن يحتفظ
"قسطنطين " بصالحياته وبامتيازاته " مع القيصر قسطنطين األول أو قسطنطين الكبير الذي
قرر إثر انتحاره في إحدى حروبه سنة 312للميالد االعتراف بالمسيحية كدين لإلمبراطورية
الرومانية مما فتح الباب للكنيسة الكاثوليكية لتصبح دولة داخل دولة بل لتتحول في فقرات
طويلة من تاريخ أوربا إلى مؤسسة تعلو على الدولة لها السيطرة على الحياة الروحية والنفوذ
والهيمنة على الحياة االجتماعية واالقتصادية والسياسية " 2إ ْذ أن النصر األعظم الذي
حققته الكنيسة هو اعتراف قسطنطين بالمسيحية كديانة رسمية لإلمبراطورية الرومانية هذا
األمر الذي انعكس على المجتمع بانتقاله من الصبغة الوثنية إلى الصبغة المسيحية وهذا ما
انعكس أيضا في المجال القانوني الذي وجد نفسه أما معطيات جديدة لم يتمكن من تجاوزها
وإغفالها.
- 1عبد الشافي محمد عبد اللطيف ،العلمانية في الفكر اإلسالمي ،دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة ،القاهرة
،ط،1،2006ص.14،15
- 2د .محمد عابد الجابري ،الدين والدولة وتطبيق الشريعة ،مركز دراسات الوحدة العربية ،لبنان ،ط، 1996 ، 1
ص.94
17
التوافق بين الكنيسة والدولة اإلمبراطورية:
لم تكن المسيحية مهتمة بشؤون السلطة وقضايا السياسة ولم تطمح ألكثر من دورها
الشكلي الذي كانت تؤديه بين عامة الناس وعلى بالط اإلمبراطور وتحت إشرافه مستغنية
عن ما يتجاوز حدود أبعادها" لكن هذه الحرية التي يبتغيها آباء الكنيسة ليس سوى حرية
جوانية تقتصر تجلياتها على الشؤون التعبدية تاركة الدنيا لإلمبراطور فالحرية بهذا المعنى
تعلو فوق مطالب الحياة ومقتضياتها على اعتبار أن تلك المطالب والمقتضيات إنما هي من
قبل األعراض الزائلة وأن المهم في مدينة الرب هو الخير الباقي بعد هذه الحياة
الدنيا1".خاصة بعد اعتراف "قسطنطين" لها دينا لإلمبراطورية الرومانية األمر الذي شجعها
على أن تسمح لالنسجام بتخلل عالقتها مع اإلمبراطور وترتاح لمصالحته في انتظار مجيء
مملكة هللا من أجل االحتكاك بالمجتمع والتواصل المباشر معه داخل اإلمبراطورية لتبليغ
الكتابات الالهوتية السياسية التي سعت من خاللها الكنيسة إلى نشر الفكر الالهوتي الذي
يحث على طاعة اإلمبراطور واعتبار ذلك لب الخضوع هلل باالستناد على الكتاب المقدس من
أجل تهيئة الفكر المسيحي الجديد للتناغم مع المقوالت الالهوتية ومن هنا ظهرت عبارة "أعط
ما لقيصر لقيصر وما هلل هلل" هذا ما فسر موقف الكنيسة من اإلمبراطور وصور إجاباتها
عن أسئلة المجتمع فيما يخص طاعة الحاكم وطاعة هللا والفرق بينهما ولم تجد حرجا في
تدارك مواقفها البدائية التي كانت تواجه بها األباطرة الذين دافعوا عن تأليه اإلمبراطور
ووجدت للتأليه معنى آخر بتمثيل الحاكم لإلله ووجوب الخضوع له ورفض مخالفته وتحريمها
فأعطت الكنيسة للسلطة تبري ار مقنعا لممارسة سطوتها وأقنعت المجتمع بالحدود التي رسمتها
السياسة للحرية وكأن الكنيسة عقدت صفقة مع اإلمبراطور تلزم فيها بالترويج المتيازات
الحاكم وصالحيات سلطته القانونية مقابل السماح لها بممارسة الشعائر الدينية والتبشير في
إطار محدود يقتصر على الشؤون التعبدية فقط" ولكن في القرن الثالث أصبحت المسيحية
قوة خطيرة الزدياد عدد أتباعها ازديادا مطردا ...ومهما يكن فإن المسيحية خرجت من
جميع هذه المعارك ظافرة مرفوعة الرأس ال سيما بعد أن أخذ اإلمبراطور قسطنطين
-1عبد الرحيم العالم ،العلمانية و الدولة المدنية ،مؤمنون بال حدود للنشر والتوزيع ،المملكة المغربية ،الرباط ،
ط،1ص.96،97
18
337/307بسياسة األمر الواقع فأصدر مرسوم ميالن الشهير سنة 313م معترفا بوضع
الديانة المسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل اإلمبراطورية بمعنى أن يتمتع
المسيحيون في اإلمبراطورية بكافة الحقوق التي يتمتع بها غيرهم من أتباع الديانات
األخرى1.ولم يستمر الوضع على هذا إ ْذ وبعد ضعف اإلمبراطورية الذي قابله توسع
المسيحية الذي شمل كافة الفئات والطبقات االجتماعية وحتى السياسية تمكنت الكنيسة من
فرض سلطتها وإعالء كلمة رئيسهم الديني على سلطة الحاكم واستطاعت أن توفر للسلطات
الدينية سطوة ونفوذا استطاعوا من خالله ممارسة الترانيم في المدارس وإقصاء المفكرين
الذين ال يتفقون مع نزعة الكنيسة " وقد أوضح البابا "جويجوري" ...عندما قال عبارته
المشهورة إن قوى الملوك مستمدة من قوى البشر وقوة رجال الدين مستمدة من رحمة هللا إن
البابا شيد األباطرة ألنه يستمد قداسته من تراث سلفه القديس كما جاءت في األوامر البابوية
التي جمعت المواد التالية..البابا وحده هو الذي يتمتع بسلطة عالمية – البابا وحده يمتلك
تعيين األساقفة وعزلهم – جميع األمراء يجب أن يقبلوا قدم البابا وحده – للبابا حق في عزل
األباطرة – ال يجوز عقد أي مجمع ديني عام إال بأمر البابا – ليس ألي فرد أن يلغي ق ار ار
بابويا في حين من حق البابا أن يلغي ق اررات بقية الناس ال يسأل البابا عما يفعل وال يحاكم
على تصرفاته ...ومن حق الكنيسة أن تحارب باألسلحة الروحية والمادية كل حاكم يمتنع
عن تنفيذ تعاليمها- ...فالبابا -هو صاحب السلطة العليا في حكم المجتمع المسيحي2".ومن
هنا عرف تاريخ الدين المسيحي منعطفا خطي ار ارتبط في الفكر الغربي بصورة بشعة عنه
رسمت كل أنواع االضطهاد والقتل والتنكيل واإلقصاء للمفكرين والعلماء وإبعاد العلم وعكس
استبداد الكنيسة الغربية واحتكارها للسياسة والفكر فمسحت إرث أوربا اليوناني وعزلتها
وثبطت كل المحاوالت العلمية فأصبح من البديهي في تصور الفكر الغربي ربط الدين
المسيحي بموقف الرافض للعقل ،كما شهد تاريخ الكنيسة على تغير اهتمامات رجال الدين
المسيحيين فاتجهوا لتحصيل المناصب والمصالح وجمع األمالك ومنافسة السياسيين في
األعمال السياسية واالقتصادية والفكرية والثقافية .ولم تكتف الكنيسة بهذا بل ذهبت ألبعد
-1عبد الشافي محمد عبد اللطيف ،العلمانية في الفكر اإلسالمي ،دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة ،القاهرة ،
ط.1،2006،21،22
- 2عدنان محمد زرزور ،جذور الفكر القومي العلماني ،المكتب اإلسالمي بيروت،ط،3،1999ص.134،135
19
منه ببناء المدارس وإدارتها وتأطيرها وبهذا امتلكت وسائل الدولة لتعويض اإلمبراطورية
الرومانية التي أنهكتها الحروب واستمرت بكل ثقة في ممارسة سطوتها الدينية من خالل
إصدار صكوك الغفران اقتناعا من رجال الكنيسة أن أحكامهم إلهية ولهم كل التفويض فيها
من هللا فسيطروا على الدولة وأصبحت الكنيسة هي الدولة التي تعني الحكومة التيوقراطية
التي أعطت األحقية لرجال الدين بالسيادة وخالفة الرب في الدولة فتولت الكنيسة اختيار
الملوك وعزلهم "على الرغم من انحياز عامة الشعوب األوروبية للكنيسة ...والتي أصبحت
وريثة لإلمبراطورية الرومانية بعد انهيار النفوذ اإلمبراطوري في الغرب خالل القرن الخامس
وعلى الرغم من هذا االنجاز الذي كان ما يبرره لقرون عديدة ...فإن األمر وصل في نهاية
العصر األوربي الوسيط إلى الحد الذي ال يمكن استم ارره أمام التسلط الكنيسي أو السلطان
الكنسي الذي يمكن تعرفه في هذه المرحلة الحاسمة بأنه سلطة رجال الدين التي تحالفت مع
الملوك والنبالء وأمراء اإلقطاع من جهة والتي قاومت اتجاه العلماء نحو تعليل ظواهر
الطبيعة واكتشاف سننها من جهة أخرى1".غير أن الذي لن يشفع أبدا للكنيسة أبدا في
تاريخها هو محاكم التفتيش التي أنشأتها والتي قتلت الماليين من العلماء والمفكرين وكل
المعارضين لها والسجون التي وضعت بها غرف للتعذيب والتنكيل وسادت الكنيسة بسلطة
السيف والقهر وزرعت الرعب والخوف في نفوس الجميع ولم تراودها كوابيس تؤنبها ألنها
تمتلك إرادة الرب التي استعملها أساقفتها حسب أهوائهم فكانوا يناقضون أنفسهم عندما
يطلبون من أتباعهم الزهد والصوم ويفرضون عليهم ُعشو اًر ويسعون هم لملذات الحياة وجمع
العطايا من اإلقطاعيين فتحالفت معهم ولم تخلف عنهم كثي ار .
-1عدنان محمد زرزور ،جذور الفكر القومي العلماني ،المكتب اإلسالمي بيروت،ط،3،1999ص.136
20
:2عوامل ميالد العلمانية الغربية في العصر الحديث.
لقد رمى التَ َزُم ُت بالكنيسة إلى عواقب لم يحمد عقباها وخصوصا ضد العلم والفكر
وبزعمها امتالك المعرفة وما كان وصمة في جبينها هو قمع المفكرين وقتل العلماء
واضطهادهم األمر الذي ترك أوربا تعيش في ظالم دامس وما زاد الطين بّلة سطوتها على
مختلف مجاالت العلم بهدف ردع العقل وإلزامه زاوية التقديس والمفاهيم المغلوطة كآرائها في
الكون والطبيعة التي تعود لنظريات فلسفية بائدة أو من مفاهيم خاطئة كنظرية "بطليموس"
حول ثبات األرض ودوران الكواكب حولها و "يقول مارتن لوثر عن كوبرنيكوس ...يريد ذلك
األحمق أن يقلب علوم الفلك كلها رأسا على عقب ولكن كما يقرر الكتاب المقدس أن
الشمس نفسها وليس األرض هي التي أمرها يوشع بأن تقف...وأكد جون كالفن من كبار
قادة اإلصالح الديني أن األرض ثابتة مستشهدا بالمزمور93وكذلك ثبتت للسكونة ال تتزعزع
وسأل الحتقار من ذلك الذي يجرؤ على وضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطان الروح
القدس" .1ولكن في مطلع القرن السابع عشر بدأت بعض اإلطالالت من باحثين ومفكرين
أوربيين من خالل التصريح العلني ببعض األفكار المخالفة لوجود الكنيسة كنظرية
"كوبرنيكوس" الفلكية حول دوران األرض مثل الكواكب األخرى وكان رد فعل الكنيسة آنذاك
أن حرمت كتابه ومنعت صدوره وعقبه " برونو " الذي أكد أفكار" كوبرنيوس" فسجن وعوقب
حتى تاب عن أفكاره " قائال أمام المحكمة أنا جاليلوا وبلغت السبعين من عمري سجين راكع
أمام فخامتك أرفض وأعلن وأحتقر القول اإللحادي الخاطئ بدوران األرض 2".وفي كل مرة
كانت الكنيسة تستجمع فيها قواها لترصد المخالفين لها وتالحقهم كانت تفقد الكثير من وزنها
في المجتمع بسبب سياستها التعسفية التي مارستها على العلماء وحتى العامة من الناس
فلطخت يديها بدماء العلماء واألبرياء وقمعت الشعوب الواقفة وراء جدرانها في بؤس لتجمع
عشور للكنيسة الحاقدة وصادرة المراجع والمصادر العلمية ،نفس ما حصل في اإلسالم
وتحديدا مع ابن رشد حين نفي وأحرقت كتبه وابن خلدون الذي سجن العديد من المرات
- 1أحمد ادريس الطعان ،العلمانيون والقرآن الكريم ،دار حزم للنشر والتوزيع الرياض ،ط ،2007 ،1ص.68
- 2برتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية ،الفلسفة الحديثة ،ج ،3ت :محمد فتحي الشنطي ،الدار المصرية العامة
للكتاب،دط ،1977،ص71
- 3مصطفى باحر ،العلمانية المفهوم ،والمظاهر واألسباب ،ص.68
22
جديد ألهلها فأبعدت آراء رجال الدين عن الحياة وخرجت أوربا من دغمائية الكنيسة وتشكلت
النخبة العلمية التي تتبنى العقل والفكر والمعلومة أصبحت في المتناول وأصبح الدين
وقداسته محل تفكيك ودراسة ودخل الشك لتعاليمه فتج أر الناس عليه فتعرى أمامهم وبدت
سوأته بكل عيوبها فرفض المجتمع كل ما جاء به الدين وصرفوا عنه األنظار لجانب مشرق
باألنوار انتشر في كل األرجاء لينعم الجميع به مقتنعين أن العيش في ظل العلم والمعرفة
أرحم بكثير من ترانيم الكنيسة التي أزعجت مسامعهم وقضت مضاجعهم "إن واقع الكنيسة
كان يفرض على المجتمع واألمة أن تتكاتف وتتخلص من منابع االستبداد والقهر
واالضطهاد الذي تعتمده الكنيسة ولم يكن ذلك إال في الدين وهو ما بدأ الغرب يسعى إليه
للتخلص منه إال أن القتل كان بأعداد هائلة فقد قدر "لورنتي" سكرتير التفتيش في إسبانيا
عدد الضحايا فيها الذين تم إحراقهم من سنة 1790م إلى سنة 1792م بنحو ثالثين ألف
شخص هذه الوحشية الكنيسية خلقت لدى الناس نوعا من التشاؤم والكراهية للكنيسة بل
لألديان جميعا كما أثار تعاطف الناس مع هؤالء الذين يعدمون في سبيل أفكارهم ...وهذا
كان عامال آخر من عوامل انتشار الفكر العلماني وترسيخه1".ليتمتع الجميع بتحصيل
ال معرفة التي كانت حك ار على النبالء واإلقطاعيين وأصحاب النفوذ الذين تأسسوا برعاية
الكنيسة ليحملوا آراءها مستقبال وأثناء تخبطها في آخر أنفاسها استدركت الكنيسة مواقفها من
بعض كتابات " أرسطو " عّلها تصلح ما أفسده تاريخها بأن جعلتها ضمن البرنامج الدراسي
بعد أن حرمتها وتم ذلك بتأثير من " توما األكويني" والمساهمات الفلسفية لكل من"دانتي"
قدموا للكنيسة رؤية إصالحية جديدة مع الماضي بداية ثم مع
و"أوكام" و"ألبرت الكبير" الذين ّ
الحاضر فجعلت الكتابات األرسطية جزء من اإليمان الديني الذي رفض الفكر والعقل ورفض
أي رؤية خارجة ع ن معتقداته ومزاعمه " ولكن في ظل استمرار اضطهاد الكنيسة للعلماء
والمفكرين في عصر النهضة فإن الحركة العقلية في أوربا اتخذت منحى متطرفا اتجه بها
إلى العداء للدين بل اإللحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة واضطهادها وذلك ألن
االضطهاد المستمر لهؤالء قرن التحرر العقلي عندهم باتخاذ الجانب المناوئ للدين عموما
وبات مستق ار في الضمير الغربي منذ ذلك الحين تناقض للفكر والعلم مع األديان بوجه
-1أحمد إدريس الطعان ،العلمانيون والقرآن الكريم ،دار ابن حزم للنشر والتوزيع الرياض ،ط،1،2007ص.52
23
عام 1".وتستمر في كل مرة تلك المحاوالت الفكرية في رسم حدود جديدة أوسع وأبعد بينها
وبين الكنيسة وبهذا الواقع أيضا فرضت السياسة شروطا وقيودا لتنظيم دور الكنيسة في
المجتمع وتقنينه بما يسمح إلقامة عالقة وفق التصورات الراهنة .فالتجليات التي أبرق بها
العلماء وعلى رأسهم "إسحاق نيوتن" في الجاذبية وأينشتاين" في النسبية وعدة من العلماء
الذين اكتشفوا أسرار الطبيعة وفسروها وفق اتجاههم العقلي فتجلت أمامهم الحقائق التي ظلت
حبيسة الخرافات والقداسة وأصبح الشك في كل يقين ديني وعلمي وفكري مباح بنسبية
أينشتاين حتى الشروحات والمعاني الدينية التي قدمتها الكنيسة على أنها حقائق مطلقة
فالعقل نسبي إذا كل ما جاء منه نسبي ،ولقد أثر هذا كثي ار على تطور العلم عموما ،هذا وال
يستهان بما قدمته من نقد لالهوت باألدلة المنطقية التي تبطل كذب التأويالت السابقة من
خالل ما أسهم به "ديكارت" في التوظيف الحسن للعقل الذي يفسر الوجود بربطه بالتفكير
واإلبداع وتجاوز النقل والتقليد واإليمان أن الشك هو اليقين بعينه وعلى غرار المفكرين الذين
ُووجهوا بالرفض هو أيضا تعرض للنقد من طرف رجال الكنيسة ومنعت كتبه بسبب إيمانه
بحرية التفكير حين صرح ب"الكوجيتو" :أنا أفكر إذن أنا موجود ،على الرغم من أنه لم
يتطرق للكنيسة إطالقا ونعود مرة أخرى لما جاء به "إسحاق نيوتن" كونه أسهم بشكل مباشر
في تأسيس قوانين الطبيعة الميكانيكية مبر از إمكانية تطبيق نفس القوانين على األحداث
السياسية واالقتصادية ورأى أن اإلنسان يمكنه أن يعتمد على قدراته الفكرية في فهم كل
الظواهر وحل كل المشكالت ودون ذلك من شأنه أن يؤدي للتيه والجهل ،يتضح مما قدم
دور العلم في انبثاق العلم انية وارتباط هذه األخير به وهذا ما لمحناه أيضا في الفكر القديم
حيث عرفت البشرية في المرحلة األولى قبل المسيحية تفسير الظواهر والمشكالت بالعقل
دون الرجوع للدين.
لقد اجتمعت عدة عوامل أخرى ساهمت في تأسيس العلمانية وفي ظهورها في الغرب
ا لمسيحي كالعامل االقتصادي حيث لعب دور بارز في تحديد مفهوم العلمانية وإعطاء دوافع
-1محمد إبراهيم مبروك ،العلمانية العدو األكبر لإلسالم من البداية إلى النهاية ،مركز الحضارة العربي ،القاهرة
،ط،1،2007ص.23
24
لالنتقال من التصورات الدينية إلى التصورات الدنيوية وكل ما يتعلق بالظروف االقتصادية
وانعكاساتها على الواقع الغربي وتبني التحضيرات الضرورية الستقبال الفكر العلماني
المتحرر من ب ارثيم الكنيسة خاصة ومن الدين عموما وهذا من خالل تغيير الظروف
االقتصادية التي فرضها اإلقطاعيون من قبل من جهة وتصحيح تعاليم الكنيسة التي تمليها
على البؤساء ليزدادوا بؤسا بدعوتها التقشف واالبتعاد عن الملذات التي تعكر صفو الروح
من جهة أخرى" ،الطغيان الكنيسي كما هو معروف أن الكنيسة مارست الطغيان على شتى
المجاالت الدينية منها والسياسية وحتى االقتصادية من قبل رجالها الذين كانوا يمثلون القدوة
عند عامة الناس والشعب ألنهم قدسيين ورسل سالم وآخرة" 1هكذا كان وعظ الكهان للعامة
في الكنائس من أجل تنظيم شؤون حياتهم االقتصادية لكن لم ينطبق هذا عليهم فلقد تمتعوا
بكل ما ل ّذ وطاب بعد أداء الصالة وانصرفوا في جمع العقارات واألمالك والعشور حتى
أصبحوا أعلم بشؤون التجارة والفالحة والمال من غيرهم وزادت سطوتهم بزيادة ثروتهم فأصبح
لهم نفوذ في السياسة واتجهوا إليها باسم اإلرادة اإللهية وباسم تعاليم النص المقدس وليس هذا
فقط فلم يسلم التعليم منها من خالل إقامتها للمدارس السكوالئية التي فرضوا فيها مناهجهم
األفقية التي كانت تغرس القهر واالستبداد على الطبقة االجتماعية .ولقد أثرت الظروف
االقتصادية وتغيراتها في تحديد األفكار التي بلورت النظرية المادية التي كان ماركس
يطرحها في تصوره االقتصادي الذي لعب دو ار كبي ار في تشكيل الوعي االقتصادي لضرورة
االنفصال عن الدين ليس من أجل الدين ولكن من أجل سلطته التي فرضها على الجميع
بالقهر والقصر كما أدى االقتصاد دو ار مهما أيضا في تشكيل مفهوم جديد للحياة والمعتقد
في نفس الوقت وهذا فعال ما قدمته األبحاث التي تناولت تفسير العلمانية وعواملها
االقتصادية .
لم ينعم الحكم المطلق كثي ار على رأس الدولة خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر
والذي ظهر في سيطرة الملكيات على جميع الميادين السياسية واالقتصادية والدينية إ ْذ
- 1سفر عبد الرحمن الحوالي ،العلمانية نشأتها وتطورها في الحياة اإلسالمية المعاصرة ،دط،د م ن،دار
الهجرة،1992،ص.21
25
سرعان ما اندلعت الثورات في بريطانيا وهو ما مهد الندالع ثورات عنيفة الحقة في دول
أوربية وشمال القارة األمريكية باألخص في فرنسا سنة1789م" فكانت هذه مرحلة الثورة
الفرنسية والدستور المدني اإلكليروسي فليس يخاف أن الثورة الفرنسية كانت تتسم بعدائية
جلية للدين بصورة عامة وللكنيسة الكاثوليكية وطبقة اإلكليروس بصفة خاصة وذلك في
إطار سعي رجاالت الثورة إلى اإلطاحة بالنظام القديم ودك بناءه اإليديولوجي والمؤسسي
وخصوصا فكرة الحق اإللهي على نحو ما أساغها متكلمو الكنيسة 1".لقد شملت هذه الثورات
كافة المجاالت الدينية واالقتصادية والثقافية والسياسية التي ظفر فيها الفكر العلماني بعدة
مكتسبات على حساب الفكر الديني أهمها علمنة التحوالت السياسية واالجتماعية الكبرى
إضافة إلى انشغال " لوثر" و" كالفن " باإلصالح الديني خالل عصر النهضة والثورة العلمية
الفيزيائية برئاسة " قاليلي " التي مثلت الثورة السياسية لظهور الدولة بعد مصادرة الثوار
لممتلكات الكنيسة وإقصائها من الميدان السياسي والمدني لصالح السلطة السياسية كما تم
سحب كل امتيازات وصالحيات الكنيسة التي تمتعت بها سابقا " وذلك ما حدث في 1789م
ففي تلك الليلة صوت المجلس الوطني باإلجماع على إلغاء جميع االمتيازات اإلقطاعية
وأعلن المساواة التامة بين جميع المواطنين الفرنسيين وبذلك أرغم األكليروس على التنازل
على ضريبة العشر التي كان يفرضها قبل الثورة ،هذا فضال عن علمنة األحوال المدنية
2
التي أقرها دستور 1791م الذي أقر بصحية الزواج إال بعقد مدني".
-الثورة الفرنسية:
واجه المحافظون رواد الثورة بشعاراتهم التي كانوا يتغنون بها المتمثلة في المثل العليا
واعتبروا أن الحق اإللهي وجميع الحقوق المكتسبة سابقا والموروثة حق مشروع يكفله الحق
الطبيعي والعقد االجتماعي و أروا بأن الفكر الديمقراطي هو سبب الفرقة والصراع المستمر
كما لم يستوعبوا القاعدة الصريحة الجديدة التي تنادي بالحرية الفردية المطلقة واعتبروها علة
الفوضى واألنانية وعدم االحترام" إن الموضوع الذي سارت في نهجه الثورة الفرنسية هو نهج
تحرري فكري في جانب منه وثوري وقائعي في جانبه اآلخر فالتحرري كان من كل القيود
لقد عرف تاريخ الكنيسة مظاهر مختلفة ومنعرجات خطيرة بتفاعلها مع مختلف
المجاالت االجتماعية والسياسية والعلمية وما ميزها أثناء ظهورها هو اقتصار أدائها في
حدود الدين ترعى مملكة السماء على األرض ملتزمة بالخالص ،الروح زاهدة في شؤون
الدنيا تنادي بالتوافق من خالل شعارها "مالقيصر لقيصر وما هلل هلل" فلم تسع للدولة ولم
تساهم في بلورة القوانين أو النظم الوضعية ال السياسية وال االجتماعية وال االقتصادية وال
الفكرية واكتفت في عالقاتها بمبدأ الدين للكنيسة والمجتمع للدولة .غير أنها لم تبق تتفرج في
الواقع مكتوفة األيدي بل وبعد توسعها وانتشارها تغير وزنها وزاد في ظل رضا نسبي عنها
من طرف اإلمبراطور وانعكس ذلك على مواقفها الغريبة التي طبعتها "فالكنيسة وقفت موقفا
معاديا وغريبا من العلم والعلماء ولم تسمح ألحد أن يحاول حتى فهم اإلنجيل إال من خاللها
ومن خالل رجالها ...وكانت تفزع أشد الفزع إذا سمعت أن أحدا بحث أو تكلم في أي من
-1برنار غروتويزن ،فلسفة الثورة الفرنسية ،ت :عيسى عصفور،دار منشورات عويدات،بيروت،ط،1،1982ص5،6
27
تلك العلوم فضال عن احتكارها لتفسير اإلنجيل ...وإن النظرة التي هزت الكنيسة ألول مرة
هي نظرية "كوبرنيق" الفلكية فقبل هذه كانت الكنيسة هي المصدر الوحيد للمعرفة وكانت
فلسفتها تعتنق نظرية "بطليموس" التي تجعل األرض مركز الكون ...فكان جدير أن يقع في
قبضة محاكم التفتيش ولم ينج من ذلك ...وحرمت الكنيسة كتابه وحرمت تداوله1".إ ْذ لم
يستقر للكنيسة وضع بعد ذلك ،فتاريخها منذ ذلك الحين حافل بالتجليات والتطورات التي
أسست لتصور فكري تناوله العديد من المفكرين من مختلف الزوايا عبر عصور وغالبهم
يؤكد أن الكنيسة بعد إقصائها للدولة أو اإلمبراطورية الرومانية في التاريخ الذي تال ظهورها
قامت بوضع أسسها المتينة في الحكم وفي المجتمع وفي السياسة والفكر واالقتصاد
وأخضعت الكل لسلطتها بالسطوة والبطش والقوة فكانت هذه المرحلة من تاريخ الكنيسة نقطة
سوداء حسبت عليها بعد أن وضعت كل المجاالت التي تشمل الحياة داخل اإلمبراطورية في
سجن مظلم وأغلقت الباب عليها بمفتاح القداسة ووضعه في جيبها " ولكن رجال هو "جردانوا
جام غضبها وزجت به برونو" بعث النظرية بعد وفاة صاحبها فصبت عليه محكمة التفتيش ّ
في السجن ست سنوات فلما أصر على رأيه أحرقته(1600م) وذرت رماده في الهواء وجعلته
عبرة لمن اعتبر وبعد موته ببضع سنوات توصل "جاليليو" إلى صنع المراقب
(التيليسكوب)فأيد تجريبيا ما نادى به أسالفه نظريا فكان ذلك مبر ار للقبض عليه ومحاكمته
وقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان ...إلى أن أعلن ارتداده عن رأيه وهو
راكع أمام رئيس المحكمة قائال أنا جاليليو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام
فخامتك والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي أرفض وأحتقر القول اإللحادي الخاطئ بدوران
األرض 2".فعاشت أوروبا أسوأ أيامها وساد الرعب والخوف بسبب طغيان الكنيسة وعم الجهل
واالنحطاط الذي فرض عليها عصور مظلمة وامتد طموحها في الدولة فجمعت الديني
والمدني بنظرية السلطة الجامعة التي حكمها الباباوات أو من يوالون الكنيسة ويباركهم
الباباوات ولقد ظهر هذا النظام في تاريخ أوربا وعرف بنظرية الحق اإللهي للملوك غير أن
واقع أوربا في هذه المرحلة هو الذي فجر التمرد على الدين وأقنع الفكر والمجتمع األوروبي
بأن عدو العقل فيه هو الدين فـ ـ "كانت الثورة العلمانية التي فجرتها فلسفة التنوير األوروبي
لقد فهمت الدول االستعمارية األوروبية الدرس واستوعبته جيدا بعد خروجها من بالد
المسلمين وهي تجر أذناب الهزيمة والخيبة متأكدة بشكل لم يترك للريبة مجال من استحالة
طمس هوية شعوب البالد اإلسالمية واستحالة إرساء التبعية الفكرية بها بواسطة حروبها
الصليبية التي شنتها بكل حقد على بالد المسلمين والتي لم ِ
تجن منها سوى رصيد نتن من
اإلجرام وسفك الدماء ورسمت لها صورة بشعة استبقتها إلى كافة المحافل وفي كامل
التصورات عبر التاريخ وعكس ما كانت تتوقعه الدول االستعمارية األوروبية فعند التفاتها
للمجتمعات المسلمة بعد خروجها منها لم تر سوى تمسك المسلمين بدينهم وأرضهم ولغتهم
ولم يفارق المسلمون أبدا االلتباس في مواقف هذه القوى ولم يتحمسوا أبدا لصداقتها .ما
صور فشل القوى االستعمارية بكل تفاصيله في مشهد لعب فيه المسلمون أصحاب األرض
دور البطولة في مواجهة ٍ
معتد آثم بصدور عارية لينتصروا بكل مقوماتهم عليه وبقي هذا
التاريخ راسخا في أذهان العالم كله ولم تستطع القوى االستعمارية تجرعه فعمدت لتغير
طريقتها التقليدية واعتمدت الغزو الفكري كنوع جديد من االستعمار علها تستطيع الوصول
به ألهدافها الدنيئة .ومثل ذلك "غزوة وحملة نابليون تعبي ار عن روح الثورة الفرنسية وإنها
اتخذت طابعا رافضا لكل ما هو ديني فاألفكار التي كان يحملها الفرنسيون إلى
مصر(والبلدان اإلسالمية) كانت تتسم بالعلمانية ولكن لم تصطبغ الحملة الفرنسية بصبغة
دينية فكانوا ال يتفقون على دين فكل واحد منهم ينحوا دينا يخترعه بتحسين عقله ...وأسماهم
جمال الدين األفغاني بالدهرية أو الطبيعيين ...وذكرهم بمصطلحهم الغربي )(Naturalism
وهم الذين يقصرون الوجود على الطبيعة المنظورة وأن ال شيء خارج الطبيعة فالطبيعة
مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها 1".وأول مظهر من مظاهر هذا الغزو الفكري
تمثل في حملة نابليون بونابارت على مصر عام 1789م التي لم تكتف بأسلحتها الحتالل
ا لبالد بل حملت إليها فك ار غربيا غريبا رفقة أدوات ثقافية انتشرت بأشكال مختلفة في بالد
المسلمين كالصحيفة والمطبعة ما أعطى إشارة انطالق للتغريب في العصر الحديث والذي
لقد ظهرت العلمانية في الغرب بشكل طبيعي نتيجة لظروف ومعطيات دينية واجتماعية
وسياسية وعلمية واقتصادية فبعد عصور من التدرج والتطور والتفكير وصلت إلى صورتها
التي هي عليها اليوم أي أن التطور الكبير الذي حققه الغرب عبر التاريخ في مختلف
المجاالت الفكرية واالقتصادية والسياسية هو الذي وّلد العلمانية ولقد امتدت للبلدان العربية
اإلسالمية عبر عمليات الغزو الفكري المنظمة ،والتي صادفت في الوقت نفسه ً
قلوبا فارغة
نفوسا متخلفة هائمة في الحضارة ووجدت
من اإليمان ،وعقوالً عاطلة عن التفكير الصحيح ،و ً
بعد غياب المفاهيم مهيأ للحشو واالستعباد والتبعية الفكرية الواقع العربي اإلسالمي
اإلسالمية الصحيحة عن واقعه وبعد انحراف التصورات التي تناولت عمق التراث الفكري
اإلسالمي عن اإلسالم الصحيح .ففرضت العلمانية واقعها عليه وأصابته الصدمة من تناوله
رغم استحالة تحديد تاريخ معين لظهور كلمة العلمانية في اللغة العربية فإنه يمكن
اعتبارها مصطلح جديد مستحدث ووافد واألكيد أيضا أن الذي ميز ظهور هذا المصطلح
هو االلتباس الذي اعتراه أثناء ترجمته من اللغات األجنبية حيث احتمل اللفظ أكثر من معنى
العلمانية بفتح العين إشارة ِ
لذا تعددت التعريفات فنجد العلمانية بكسر العين لإلشارة للعلم و َ
- 1براق زكريا ،الدولة والشريعة في الفكر العربي اإلسالمي ،مركز الحضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،بيروت ،ط1
،2013،ص.120
35
للعالم وحده الموجود بوجود الحياة فيه وال عالقة له بالغيبيات ،واإلنسان يتطور بالعقل وحده
وال يتوقف ذلك على الدين" .ويرى عادل ظاهر أنه قد شاع لفترة طويلة ومازال شائعا بين
عدد كبير من مثقفينا أن االسم الذي اشتهرت به العلمانية ينبغي أن يلفظ بكسر حرف العين
مما أوحى نسبتها إلى العلم إن هذا خطأ ينبغي تصحيحه إذ أن لفظة "علمانية " مشتقة من
"عالم " وليس من "علم" والطريقة الصحيحة للنطق بها هي بفتح حرفي العين والالم معا
فالعلماني "بكسر حرف العين" هو ما يشار إليه عادة في كتاباتنا المعاصرة بالعلموي غير أن
لفظه "علموي" ال يمكن لغويا اشتقاقها من " علم " واألصح لغويا أن تقول علماني (بكسر
حرف العين )بدل ( علموي )،والعلمانية (بكسر العين)هو ما يتخذ من المعرفة العلمية كما
هي ممثلة في العلوم الطبيعية1".ومن هذا التصور الخطير لمصطلح العلمانية يقدم المفسرون
مفهوما شامال يتعارض كليا مع الدين ويحمل في ثناياه دسائس خبيثة للفكر اإلسالمي من
أجل استئصال جذور الدين من عمق المجتمع العربي اإلسالمي فالمفهوم استثنى عموما
الدين والماورائيات والميتافيزيقا من دائرة التناول أصال كونها على -حسب زعم رواد
العلمانية -ال تخضع لمعايير العلم وجعل من العقل أساسا لمختلف النتائج الفكرية
واالقتصادية والسياسية" .ويرى فؤاد زكريا أن الربط بين العلمانية وبين معنى (العالم) أدق من
الربط بينهما وبين العلم ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا :إن الترجمة الصحيحة للكلمة هي
الزمانية ألن اللفظ الذي يدل عليها في اللغات األجنبية أي ()Seculorفي االنجليزية مثال
مشتقة من كلمة تعني القرن(...(speculumفالعلمنة ترتبط في اللغات األجنبية باألمور
الزمنية أي ما يحدث في العالم وعلى هذه األرض في مقابل األمور الروحانية التي تتعلق
أساسا بالعلم اآلخر2".كما يقدم فؤاد زكريا تفسيره للعلمانية الذي أكد من خالله أن الطبيعة
العالمية هي التي تصب كل طاقتها في دراسة قوانين الطبيعة والحياة بالعقل وحده بعيدا عن
المفاهيم األخرى ونفي كل توافق بين مجال العقل ومجال الدين ،وبما أن العلمانية طرح
يهتم بالكون فقط فالمعارف فيها في تطور زماني متغير ليست أزلية وحقيقتها من اختصاص
ِ
العقل وحده الذي يستطيع اكتشافها وتفسيرها وال فرق بين ما تحمله العلمانية و َ
العلمانية للفكر
- 1عادل طاهر ،األسس الفلسفية للعلمانية ،دار الساقي ،بيروت لبنان ،ط ، 2015، 3ص.37
- 2عبد الرحمن العالم ،العلمانية والدولة المدنية ،تواريخ الفكرة وسياقاتها وتطبيقاتها ،مؤسسة مؤمنون بال حدود
للدراسات واألبحاث ،ط ، 2016، 1المملكة المغربية الرباط ،ص. 69، 68
36
الغربي تحديدا وللفكر العربي أيضا ِإذ األكيد أنها وليدة التغيرات والصيرورات والتناقضات
التي حملتها تصورات الفكر الغربي واإلسالمي على حد سواء ووليدة بقايا تراثية لمحت
بشكل أو بآخر لهذا المفهوم في التاريخ الغربي أو العربي كفرقة المعتزلة التي حاك اتجاهها
مفهوم العلمانية واقترب منه كثي ار عندما أسس للعقل في تصوراته وفي بلورة مفاهيم ظلت
لوقت طويل غير متاحة للدراسة بسبب مرجعيتها الدينية المقدسة .واألجدر اليوم تناول
العلمانية كونها أمر واقع فعلي واتجاه له إطالالت في عمق التاريخ وال يمكن أبدا دراسة
العلمانية انطالقا من تجليها الحالي في الفكر عموما ولكن يتطلب ذلك العودة للعمق أكثر
ألنها بالفعل اتجاه بدا بشكل أو بآخر منذ بوادر التفكير األول الذي تبنى المعرفة المجردة
عن االعتقاد الغيبي وبحث بكل جرأة آنذاك عن أسباب وقوانين الطبيعة فاستنتجها وفسرها
وراح في هذا االتجاه يبني مفاهيمه في االقتصاد والسياسة والعلم.
لقد اختلفت تعريفات العلمانية عند العرب باختالف تصورات المفكرين العرب عنها
فمنهم من رأى أنها إجراء جزئي أي أداء خاص في النظام ال عالقة له بالشؤون النهائية،
ومنهم من عرفها على أنها قاعدة شاملة تتأسس عليها األنظمة العالمية الحديثة " .فيعرفها
محمد أحمد خلف هللا " بأنها حركة فصل السلطة السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية
وليست فصل الدين عن الدولة " وال تصح حركة الفصل هذه في تصوره من أن تعمل
السلطتان جنبا إلى جنب في الحياة لكن تعمل كل واحدة حرة مستقلة دون أن تتأثر باألخرى
أو تؤثر فيها 1".وهذا هو التعريف الذي جاء بالعلمانية الجزئية التي تقول بضرورة فصل
السياسة أو االقتصاد عن الدين دون إهمال الدين في الحياة وهذا ما ظهر في فرنسا بتبنيها
الكاث وليكية رغم علمانيتها .خالفا تماما للعلمانية الشاملة التي فسرت عالقة الدين والغيبيات
بكل مجاالت الحياة " وهي رؤية عقالنية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية
التي ترى أم مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له وأن العالم كله مكون أساسا
من مادة واحدة وال تحتوي على أي أسرار وهي في حالة حركة دائمة ال غاية لها وال هدف
لقد شهد التاريخ اإلسالمي تجليات وتناقضات عديدة ومحطات متباينة مست جوهره
العقائدي واالجتماعي والفكري فشعبت مآخذه ومطامحه ولونت مظاهره بألوان مختلفة فاختلف
داخله وانق سم لنعرات وطوائف وأجناس عديدة متباينة الطرح ومتصارعة باستمرار ولوقت
طويل إلى مجيء العلمانية التي وجدت في هذا مرتعا لها لتمرير سمومها الحاقدة غير أن
هذا لم يفرض العلمانية ولم يكن لها سببا إنما األسباب الموضوعية التاريخية لها بدأت مع
الحروب الصليبية وتحديدا مع نابوليون بونابارت "إن بزوغ العلمانية كتيار في المجتمع
العربي اإلسالمي مرده إلى هزيمة العرب عسكريا في عام 1967م فقد ذاع الشعار التالي"
إن علمانية اإلنسان بتحرره من العصابة الدينية ...وقد انبهر بعض المثقفين بحضارة الغرب
فارتأوا في أسلوبها أفضل وسيلة لمعالجة مشكالت مجتمعنا العربي" 2كما كان للجهود الفكرية
لـ "فرح أنطوان" و"سالمة موسى" و"شبيل شميل" و"رفاعة الطهطاوي" و"محمد علي" و"على
عبد الرزاق" دور والتي ظهرت كبدايات هيأت األرضية الفكرية للمجتمع اإلسالمي قبل
الحملة االستعمارية في القرن التاسع عشر ،جدير بالذكر أن المسيحيين العرب كانوا ثغور
حساسة تخللت المجتمع اإلسالمي وهللوا للعلمانية فيه بل تبنوها أيضا فـ"قد بلور المصلحون
المصريون والشوام في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اختيارات فكرية تدعوا
إلى قيم التنوير ...في تطوير الفكر العربي وذلك انطالقا من دورها العام في تطوير الفكر
اإلنساني ومن أبرز هؤالء المثقفين المتحمسين لفكر األنوار يمكن أن نذكر على سيبل المثال
ال الحصر فرح أنطوان ،وشبلى شميل وأديب إسحاق وسالمة موسى ولطفي السيد وعلي عبد
الرزاق وطه حسين وقد ساهم كل هؤالء بدرجات متفاوتة في إنجاز تأويل إيجابي لفكر
أ -االستعمار الغربي :بعد أن استقرت العلمانية في الغرب وتأصلت في جميع اتجاهاته وبعد
أن تأكد الغرب أنه حقق انتصا ار مدهشا امتد طموحه ألبعد من ذلك فسعى لطمس هوية
الشعوب المستعمرة ومحو مقوماتهم "وكان االستعمار يرمي من وراء هذه القوانين إلى هدم
شخصية هذه األمة وإخراجها عن أطرها وقيمتها واستغالل البالد لفائدة األغيار وإسباغ
الحماية القانونية إلى الحانات وبيوت الدعارة ...وهذه القوانين هي إحدى المعطيات التي يمن
بها على المسلمين والعرب دعاة العلمانية ويرونها مقدمة لخطوة تالية :هي تغيير جلد هذه
األمة واإللقاء بها في أتون األممية وتحطيم ذاتها ومعنوياتها 2".ولقد عرف المستعمر مكمن
هذه األمة فصب انشغاله على إرساء مناهج تعليمية مختلفة وغريبة عن ثقافة وقيم المجتمع
اإلسالمي وشيد لها مؤسساتها تتعهد عقول المسلمين وتغير آراءهم من أجل إعدادها
الستقبال الطرح العالمي الجديد والتناغم معه "ولقد اعترف المبشرون أنفسهم بأهمية تأثير
هذه المدارس على األجيال وأهميتها في تربيتهم على تقبل األفكار العلمانية والعمل على
نشرها فيما بعد في البالد اإلسالمية اعترفوا بذلك في مؤتمرهم الذي عقد في عاصمة الدولة
العثمانية التي كانت ال تزال جامعة للدول اإلسالمية في العقد الثاني من القرن العشرين .وقد
نشر هذا االعتراف في مجلة العالم اإلسالمي التي يحررها هؤالء المبشرون باللغة االنجليزية
واللغة الفرنسية 3".من جهة أخرى سعى لوضع العراقيل أمام التعليم اإلسالمي والتقليل من
شأن طلبته إذ لم يتمكنوا من شغل أدنى المناصب وفي المقابل فتح أبواب المستقبل الزاهر
لطالب المدارس الحديثة وعينهم في أعلى مناصب الدولة سعيا من المستعمر لطمس هوية
المسلم وقطع أوصاله بتراثه وحضارته في كل البلدان اإلسالمية كسوريا ومصر والجزائر
- 1كمال عبد اللطيف ،التفكير في العلمانية إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي ،رضا عوض رؤية للنشر
والتوزيع القاهرة ،ط، 2007، 1ص.26
- 2أنور الجندي ،سقوط العلمانية ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،ط ح .1980،ص.30
- 3السيد أحمد فروج ،جذور العلمانية ،دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ،ط ،1978، 3ص.31
39
ولبنان وليبيا وتونس والمغرب "إن العلمانية نشأت في ظروف تاريخية في أوروبا كرد فعل
لسطوة الكنيسة الكاثوليكية في روما وطغيانها السياسي والديني ...ومنذ وفدت إلى العالم
اإلسالمي وهي تلقى معارضة شديدة من المفكرين المسلمين ألنها تنكرت للدين من ناحية
ومن ناحية ثانية أنها جاءت في أعقاب موجة االستعمار األوربي الحديث الذي بدأ يجتاح
العالم اإلسالمي منذ القرن السابع عشر حتى أكمل سيطرته على ذلك العالم بعد انتهاء
الحرب العالمية األولى سنة1981م حين انهارت الدولة العثمانية وأعقب ذلك زوال الخالفة
سنة1924م" 1ولم يتركها حتى أينع ما استنبته فيها بجيل من العلمانيين العرب منهم أدباء
ومفكرين في مختلف المجاالت الذين استساغوا األكل من موائد الفكر االستعماري
"فبونابارت" حمل معه إلى مصر فكر أوربا كله الذي قام على نبذ الدين وعلى الحرية الفردية
واحترام إرادة اإلنسان .هذاما حملته األفكار الغربية في أوطانها أما حقيقة الحمالت
االستعمارية هي أطماع ونهب واستغالل بطريقة جديدة بدأت بالمشروع الصليبي الحاقد
وامتدت لحملة بونابارت والحمالت التي تلتها والتي كانت تزعم نقل الحضارة للمجتمعات
المسلمة وتحريرها من العادات والقوانين التي لم تسمح لها بتحقيق النهضة كذلك األمر
كان في احتالل الجزائر والمغرب وتونس بوضع العقل المسلم تحت السيطرة والتبعية لطمس
هويته باستبدال لغته وفكره مع احتالل األرض ونهب الثروات طبعا واستغالل اإلنسان بهذا
يتضح الهدف الحقيقي للعلمانية في بالد المسلمين ولم يكن أبدا كما زعم روادها الهدف
الذي طبعته السياسة االمبريالية االستعمارية التوسعية والسيطرة على الشعوب العربية
اإلسالمية ،ويبدو جليا اآلن هذا الهدف من خالل واقع البالد العربية اإلسالمية الذي يسوده
حكام تورطوا في التبعية الفكرية والسياسية واالقتصادية مقابل نيل السكوت على ما يقع في
أوطانهم من استبداد وتقييد للحريات الفردية والجماعية.
ب -العلمانية في مصر (حملة نايليون):
مثلت حملة "نابليون بونابارت" بداية الغزو الفكري الجديد ومنعطفا كبي ار في تصور
الحروب واالستعمار إذ اختلفت جهود وأدوات الدول االستعمارية في تحقيق أهدافها والتمكن
من نهب ثروات الدول العربية اإلسالمية فلقد عمدت إلى نقل صورة الحضارة الزاخرة للبلدان
- 1عبد الشافي محمد عبد اللطيف ،العلمانية في الفكر اإلسالمي ،دار السلم للطباعة والنشر والترجمة ،ط، 2006، 1
ص.173
40
اإلسالمي ة القابعة تحت براثيم الجهل بفعل الحروب واجتهدت في تأليف الخطابات الرنانة
التي تلقيها في المحافل األوربية من أجل المغالطة ومن أجل تلطيف صورتها أمام فكر
مندهش مصدوم سحرته أفكار الغزاة عن الديمقراطية والحرية الفردية والتطور العلمي
والحضاري ومهيأ تماما الستقبالها فلم ينتظر طويال ليرى حجم الفارق وانقلب يفتش بين ثناياه
عن معالمه فلم يستوعب كثي ار ما يصنعه فبقي الفكر العربي اإلسالمي تائها في وسط
الطريق بين ذاته وبين ركب الحضارة الجديد كان هذا كصفعة تلقاها أيقظته من سباته
ليكتشف واقعه المرير .ولم يحسن الفكر العربي اإلسالمي انتقاء األفكار الغربية وتصفية ما
حملته من دسائس خبيثة ".إن أول ظهور للعلمانية بمصر كان مع حملة نابليون تعبي ار عن
روح الثورة الفرنسية وأنها اتخذت طابعا رافضا لكل ماهو ديني ...فعلى حد قول الدكتور
صالح العقاد أن األفكار التي يحملها الفرنسيون إلى مصر كانت تتسم بالعلمانية ألن أثر
الفكر العلماني الذي خلفته الثورة الفرنسية كان اليزال قويا ولذلك لم تصطبغ الحملة الفرنسية
بصبغة دينية ومن هنا قال فيهم الجبرتي إنهم ال يتفقون على الدين فكل واحد منهم ينحو دينا
يخترعه بتحسين عقله 1".فتشبع من تلك األفكار المجتمع المصري خصوصا بأيادي
المسيحيين العرب الذين كانوا أدباء ومفكرين وتبنوا الفكر العلماني بكل صراحة وكانوا أول
المرحبين به ورافقوا الفرنسيين في كل المجاالت وزوقوه للعرب المسلمين في مصر خاصة
واستمر هذا الوضع بعمالء العلمانية في مصر بعد خروج نابليون منها حيث واصلوا أداء
مهمتهم التي أسندت لهم بل واستطاعوا تحقيق أكثر مما عجز عليه نابليون نفسه في حملته
على مصر "لم يخرج االستعمار من البالد اإلسالمية حتى خلف وراءه جيشا من العلمانيين
الذين دربهم وصنعهم على عينه تحولوا إلى صنابير يسيل منها كل ما هو غربي في مصر
مثال خلف االستعمار محمد علي وابنه إبراهيم ليقوموا بالدور الذي عجز عنه نابليون في
حملته على مصر حتى سنة 1863م لما جاء إسماعيل باشا فألغى المحاكم الشرعية وترجم
القانون الفرنسي المدني الجنائي إلى العربية2".إ ْذ وبعد تولي "محمد علي" الحكم بدأت بوادر
القبول والرضا عن العلمانية تلوح فوق سماء مصر باتجاه فرنسا بإرسال بعثات إليها ضمت
"رفاعة الطهطاوي" الذي اعتبر رائداً من رواد العلمانية المستوردة ويظهر هذا من خالل
- 1السيد أحمد فروج ،جذور العلمانية ،دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ،ط ،1978، 3ص.11
- 2باحو مصطفى ،العلمانية المفهوم والمظاهر واألسباب ،جريدة السبيل سال المغرب ،ط ، 2011 ، 1ص.80
41
مؤلفاته وآرائه التي كانت األساس األول لدخول العلمانية للدول العربية واإلسالمية ،حيث
يصرح أنه ال يعارض العلمانية مالم تخالف الشريعة ويرى أنه ال عبرة للعقل إال إذا انظم له
الشرع لكونه هو المرجع الرئيسي والمال والمنافع والمقاصد ثم لحق به علي إسماعيل باشا
الذي ألغى المحاكم الشرعية وترجم القانون الفرنسي المدني للغة العربية الذي ال يقيد المنفعة
بالشرع وال يقيد حقوق اإلنسان بحدود هللا وهذا ما كان يطمح له المستعمر برفع األحكام
الشرعية عن الفكر اإلسالمي ووضع العقل محله لتمرير المبادئ الغربية عبره .وبنيران
صديقة استطاع الغرب بدون خسائر من أن يحقق أهدافه بعد كل ما قام به إسماعيل باشا
في مصر من استبدال للقوانين اإلسالمية بالقوانين الغربية حيث قدم خدماته بالمجان ألعداء
الفكر اإلسالمي واختصر الغرب بواسطته عناء ثالثة قرون من الترقب والمحاوالت الفاشلة
وما شق عليهم لعصور طويلة قدمه لهم إسماعيل باشا على طبق جاهز واستمر الفكر
الغربي في مصر بسياسته الخبيثة بإنشاء المدارس في كل أنحاء البالد ولقد أثرت هذه
المدارس كثي ار في مصر بعدما انتهل منها المسلمون في مراحل تعليمهم وتشبعوا بمبادئ
الفكر العلماني فيها فاجتمع في فكرهم التناقض بين تراثهم وتصوراتهم وبرر لهم الواقع ج أز
منه فأصبحوا يعتقدون أنه جزء من قيمهم ومن تراثهم فلم يجدوا حرجا في العيش تحت ظل
نظام مستورد يقصي الدين كليا من سلطته ويجعل للمجتمع قوانين وضعية تحت سلطة
التيار العلماني ظاهره إنساني وباطنه ليبرالي توسعي يخضع الفرد المسلم له ويستغله وينهب
خيراته ويف رغه من روحه وقيمه تحت شعارات أخالقية إنسانية شاملة كالحرية والمساواة
والتسامح والتعايش ولو على حساب الهوية والدين واللغة ليتمكن في األخير الصليبيين من
تحقيق أهدافهم بدون جهد وبدون خسائر ونفس ما جرى في مصر لحق ببلدان شمال إفريقيا
الجزائر وتونس وليبيا وحدث أيضا نفسه في سوريا ولبنان ،فالبعثات اإلسالمية كلها كانت
ترمي لتكوين نخبة برعاية غربية الستعمالهم في أوطانهم كنقاط لترويج الفكر العلماني
وإرسائه بأيادي قادة وزعماء تدللوا في كنفه وشحنهم بمعطيات وأفكار لتمريرها لبلدانهم فكان
التغريب بعينه وبكل ما حمل معه لألمة اإلسالمية من قطيعة مع التراث اإلسالمي والحضارة
اإلسالمية وهذا ما ظهر في تركيا بعد القضاء على الخالفة اإلسالمية بها.
42
ج-عوامل أخرى:
وصول العلمانية للعالم اإلسالمي العربي لم يقتصر على تلك األسباب فقط بل كانت
هناك عوامل أخرى سهلت لنجاح الغزو الفكري للشرق اإلسالمي تمثل في اإلعالم والصحافة
والحركات الصهيونية والماسونية التي اجتهدت في زرع الخوف والقلق وزعز ِ
عت اعتقاد
المتدينين.
-الصحافة واالعالم :حاول الغرب بشتى الطرق أن يقنع الشعوب المسلمة بصدق نواياه
في تواجده بينهم وعلى رأسهم وسعى لرفع كل التباس عن آرائه ومواقفه وجمع كل وسائله
الحديثة من أجل إرساء عالقة مظهرها حسن داخل وطن واحد يسوده التسامح والتعايش
واالحترام المتبادل كل هذا أراد الغرب أن يختزله ويقدمه للشعوب المسلمة بواسطة وسيلة
خطيرة من وسائل الفكر الغربي التي لعبت دو ار رئيسيا في توطين العلمانية في بالد
المسلمين ،وهي اإلعالم والصحافة " ولما للصحافة من أثر فعال في تغيير مفاهيم المجتمع
وتوجيه ثقافته الوجهة التي يريدها لما كان للصحافة ذلك األثر فقد ركز عليها أعداء اإلسالم
تركي از كبي ار وراحوا يصنفون الصحافة في العالم اإلسالمي ويدرسون سيرها الفكري الذي مشى
عليه 1".وتمثل دورها في تحسين صورة االستعمار وتبرير تواجده بالبلدان المسلمة التي
عانت كثي ار -حسب رأيه -من قيود األعراف والقوانين الظالمة ،وقدوم األوربيين لها كان
من أجل تخليصهم منها وإرشادهم لقطار الحضارة العالمية حتى تواكب الدول المسلمة الركب
ولقد كلفت الدول االستعمارية لذلك صحافة موالية له وناطقة بلسانه قادمة من المدارس
التبشيرية التي تأسست في الشرق اإلسالمي وفي المعاهد الفرنسية والبريطانية واألمريكية
لتخاطب فكر منغمس في تيه ودهشة إما بسبب الجهل أو بسبب المواالة واالنسجام الذي
تحقق عن طريق المدارس الحديثة والمناهج التعليمية" .وأهمية هذه الصحف ال ترجع إلى ما
كانت تذيعه فقط ولكن أهميتها الكبرى كانت ترجح إلى أنها كانت رم از لتنشئة الجيل التالي
من الصحفيين على هذه المبادئ ذات اللون الالديني ...وأن مديرو الصحف اليومية ينتمون
في معظمهم إلى من يسميهم بالتقدميين ولذلك كان معظم الصحف واقعا تحت تأثير اآلراء
واألساليب الغربية ...ما جعلها تسير في نفس االتجاه الذي رسمه لها وتتبع نفس المنهج
- 1د .محمد زين الهادي ،العلمانية وأثرها في المجتمع اإلسالمي ،دار العاصمة الرياض ،ط1409، 1هـ ،ص.98
43
الغربي العلماني1.وتعددت تلك الوسائل فمنها المسموعة ومنها المرئية ومنها المقروءة التي
حملت معها مهمة واضحة بأمر من رواد العلمانية وبأيدي النصارى والمسحيين "كفرح
أنطوان "و "مشال عفلق" وغيرهم من كان لهم دور كبير في التواصل بالشعوب المسلمة
والوصول لمختلف طبقاته لزرع األفكار العلمانية الغربية والتعريف بها .ولم يكن هؤالء
وحدهم من حققوا هذا التواصل بالعلمانية فكان للمفكرين واألدباء أيضا دور في ذلك أمثال
"طه حسين" من خالل التأليف والدراسة الفكرية في مختلف العلوم وخاصة األدب الذي قدم
صورة حضارية عن العلمانية ليخدعوا بها عقول الشعوب المسلمة.
-محاربة اللغة العربية :لم يستغرق المستعمر وقتا طويال لكي يعرف أن الشعوب المسلمة
تصوغ أفكارها القوية والعنيدة من عالقتها بكتابها المقدس ومن تمسكها بعقيدتها وأدرك أيضا
أن النسق الذي يجمع الشعوب المسلمة بمقوماتها هي اللغة العربية فعمد لقطع صلتها
بالقرآن وغيب الشريعة اإلسالمية من واقعها بقوة القانون الذي ساد على حساب الشريعة من
أجل فرنسة الشعوب المسلمة وخاصة شعوب المغرب العربي "يرى سالمة موسى "أنه ليس
علينا للعرب أي والء وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم فيجب أن نعودهم
الكتابة باألسلوب المصري الحديث ال باألسلوب العربي القديم ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من
العرب وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم فإن العرب أمة قديمة يجب أن
يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشول وبابل ...إننا نحتاج اآلن ما يهيج قلوبنا
ويملؤها تفاؤال بالحياة ولن نجد ذلك إال بارتباطنا بالغرب ...وأما الشعر العربي فقد سئمنا
قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين2".فبعد هذا تم عزل اإلسالم واللغة العربية
وعلمنة القانون واستبدلت لغة الشعب بلغة االستعمار وخير دليل على ذلك الجزائر التي
طبعتها الفرنسية بشكل كامل في تعليم اللغة الفرنسية والتدريس بها وأصبحت اإلدارات
تتحدثها وعمل بها وبقيت اللغة العربية معزولة في دور العبادات والكتاتيب والزوايا ولقد انتبه
لذلك عبد الحميد ابن باديس زعيم حركة اإلصالح والبشير اإلبراهيمي الذين تصدوا لهذه
المحاوالت بنشر اللغة العربية تحت شعار "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" ردا
ج-الماسونية :ظهرت الماسونية في المجتمعات األوربية برعاية يهودية ونادت بها الثورة
الفرنسية فلم تكن أبدا على هامش األحداث السياسية في أوربا وإنما لعبت دو ار أساسيا في
ذلك ولقد قامت الماسونية بضم أعضاء من كل األديان ولم تبد أي رفض لمعتقد معين بل
تبنت التعايش والتسامح من خالل خطاباتها التي لم تعكس نهائيا أغراضها الخبيثة التي
سعت من أجل تحقيقها وخاصة رغبتها في تمييع الدين في الفكر "الثورة الفرنسية المعروف
أنها من عمل الماسونية التلمودية ووضع إعالن حقوق اإلنسان أعلنت الماسونية المساواة
والحرية بين كل الناس بصرف النظر عن أديانهم وتقرر مصادرة األمالك األكليروس وإغالق
-1محمد أركون ،نافذة على اإلسالم ،ت :صياح الجهيم ،دار الطليعة للنشر ،بيروت ،ط ،1992، 1ص.44
45
المعاهد والجامعات الدينية وإنشاء مدارس وكليات وجامعات علمانية أي ال دينية وفي عام
1905م أقرت فرنسا قانونا حاسما في هذا المجال بفصل عالقات الدين بالدولة ويقوم على
أساس التفريق بينهما 1.وهذا ما مهد وساعد العلمانية في انتشارها والتعريف بها وبمبادئها
خاصة في البلدان اإلسالمية فبعد سقوط الخالفة اإلسالمية في تركيا سارعت الماسونية إليها
وجمعت أتباعها وعمالءها فيها حتى تمكنت منها ورسخت لمبادئها بها وأقامت بها دولة
تهتدي بهديها وتسير بإيعازها من خالل تقليد من يولونها مقاليد الحكم الذين تعهدوا في
مدارس أوربية بالدراسة ورجعوا ألوطانهم مشبعين بفكرها ومقتنعين بها تماما وفي بالدهم
أنشأت المدارس والمعاهد والجامعات تلقن مناهج الفكر العلماني ،وتخرجوا منها أدباء
ومفكرين وعلماء قادوا مجتمعاتهم بما اكتسبوه منها فدعوا للتغريب واالنحالل والتحرر
وانتشر هذا في كل المؤسسات والجامعات العربية من خالل الحركات والجمعيات والمنظمات
التي كانت تتلقى إيعا از بالتحرك يمينا أو شماال من الماسونية التي انتشرت في كل البالد
العربية اإلسالمية فالنخبة المثقفة فيها إما من طالب الجامعات الغربية أو من طالب
الجامعات العربية المنضوية تحت النهج الغربي .
د-االستشراق:
لقد التف الغرب في مرحلة معينة لدراسة الحضارة اإلسالمية الشرقية في إطار
االستشراق وتناولها بكل موضوعية وجرأة وهي حركة كما رأى "محمد أركون" أنها أثارت
مواضيع حساسة لم يتطرق إليها المسلمون ببحثها في المسكوت عنه غير أنها دراسة
فيلولوجية واكتفت بالدراسات التقليدية دون استعمال الوسائل الحديثة وهي دراسة غلب عليها
التشكيك في التراث اإلسالمي والطعن في ثوابته كالنبوة والقرآن ".المستشرق " جب " في
تحليله للمجتمع اإلسالمي – يرى – كيف أن األفكار الغربية جعلته يبدوا علمانيا في كل
شؤون حياته وهو يزعم أن هذه المرحلة التي وصل إليها المسلمون ال يمكن الرجوع عنها
بسهولة ويسر نسبة لتمكن وتغلغل الفكر الغربي فيهم هذا الفكر الذي يزعم أنه شمل كل
نواحي الحياة االجتماعية واالقتصادية والسياسية وفي أجهزة اإلعالم وفي التعليم والقوانين
التي يتحاكم إليها المسلم وحتى في الشؤون األسرية والمنزلية الخاصة أصبحت الحياة في كل
-1أنور الجندي ،سقوط العلمانية ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،ط ح .1980،ص.23
46
ذلك تبدوا غريبة بل ويحبذ المسلم وال سيما الشباب أن يبدوا بالمظهر الغربي وأن يظهر نفسه
أنه مثقف ثقافة غربية 1".فأسسوا مراكز من أجل التشكيك في العقيدة وأحيوا الفرق المغمورة
وبهذا مهدوا الستقبال العلمانية ولقد اعتمد المستشرقون على أتباع لهم في بالد المسلمين
لترويج تلك الثقافة وجسدوا العلمانية في واقع الفكر العربي اإلسالمي التي أنشأت المحاكم
المدنية التي تفصل بين الناس بالقوانين الوضعية بدل الشريعة اإلسالمية .
- 1محمد زين الهادي ،العلمانية وأثرها في المجتمع اإلسالمي ،دار العاصمة الرياض ،ط1409، 1هـ ،ص.101
47
المبحث الثاني
48
جراء التحوالت الحضارية :الفكرية
ارتبط مصطلح الحداثة بالغرب األوروبي تحديدا ّ
وتصدر العقل
ّ والسياسية والفلسفية والعلمية ...التي رافقتها األصوات الداعية للتحرر الفكري
في معرفة قوانين الطبيعة والتجديد ونبذ التقاليد ،وبعد الثورة األوروبية التي قامت ضد
الكنيسة في العصر الوسيط من أجل الخروج من دغمائيتها إلى نور العلم قد تحقق ألوروبا
ما كانت تسعى إليه بعد جهد كبير ومثمر بحضارة زاخرة مزدهرة شهدتها في مختلف
المجاالت التي فرضت على الواقع األوروبي والعالم كله التكيف معها ومسايرتها رغم
معارضة تيارات ما بعد الحداثة وأزمات الفكر الحداثي.
-1الحداثة لغة:
الحداثة كما جاء في لسان العرب كلمة ":مشتقة من الجذر حدث وحدث الشيء يحدث
حدوثا وحداثة فهو محدث وحديث األمر أي وقع وحصل وأحدث الشيء أوجده والمحدث هو
كما يقصد بالحداثة بالشيء أو الحدث الجديد أي" لفظ الحدوث في 1
الجديد من األشياء"
الوجود ،فالحدوث من حدث يحدث حدوثا أي وجد أصبح حدثا بعد أن لم تكن الحداثة هنا
تصبح مساوية للواقعة فحدث الشيء حدوثا أي وقع وقوعا أي وقع في إطار زمني معين
سواء بصورة متوقعة أو بصورة مفاجئة ، 2".ونجد لها معنى آخر في القاموس اللغوي العربي
عندابن منظور فهي" نقيض القديم والحدوث نقيض القدمة حدث الشيء يحدث حدوثا وحداثة
وأحدوثة فهو محدث وحديث وكذلك استحدثه الحدوث كون الشيء لم يكن وأحدثه هللا على
غير ها واستحدثت خب ار أي وجدت خب ار جديدا وأخذ األمر بحدثانه أي بأوله وابتدائه" ، 3كما
جاء أيضا في القاموس المحيط للغة معنى للحداثة فهي تعني "حدث حدوثا وحداثه نقيض
4
"قدم" – في معجم مقاييس اللغة الحاء والدال والثاء أصل واحد وهو كون الشيء لم يكن"
-2إصطالحا:
تعددت تعاريف مصطلح الحداثة وتباينت بسبب ارتباطها بالواقع الخاص وكل ما يحمله
من اتجاهات ،لذا فإنه من الصعب تحديد مفهوم ثابت متفق عليه لهذا المصطلح فهي تعرف
"() Modernismبأنها حركة الفكر الكاثوليكي لتأويل تعاليم الكنيسة على ضوء المفاهيم
العلمية والفلسفية السائدة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكذلك بأنها نزعة
الهوتية تحررية (البروتيستانتية)وأيضا بأنها نزعة في فن الحديث تهدف إلى قطع الصلة
بالماضي 2".إ ْذ أن مصطلح الحداثة أو الحديث لها عمق تاريخي بعيد حيث يعرفه "هانز
روبرت ياوس مصطلح Modernبصورته الالتينية Modernusقد استخدم ألول مرة في
أواخر القرن الخامس لتمييز الحاضر الذي أصبح مسيحيا على المستوى الرسمي عن
الماضي الروماني الوثني ويعبر مصطلح Modernعن الوعي بحقبة تتصل بالماضي ويعد
نتيجة لالنتقال من القديم إلى الجديد ،كما يقصر بعض الكتاب مفهوم الحداثةModernity
على عصر النهضة إال أن ذلك يعد تحديدا ضيقا من الناحية التاريخية3".ألن هناك من يرى
أن الحداثة " كلفظ...فلم يأخذ معناه وداللته إال في القرن التاسع عشر حيث ارتبط بأعمال
الشاعر بودلير...)1867-1821(Charle Boudelaireوتعود كلمة حدبث الفرنسية في
أصولها الالتينية إلى كلمة ""Modernusالتي ظهرت في القرن الخامس الميالدي وهي
مرحلة االنتقال من التاريخ الروماني القديم إلى التاريخ المسيحي ،وتفيد كلمة حديث الالتينية:
الحاضر واآلني والحالي وجذورها الهندوأروبي يفيد :القياس أو المعيار الذي يقاس به الشيء
-1الزواوي بغورة ،مابعد الحداثة والتنوير ،موقف األنطولوجية التاريخية ،دراسات نقدية دار الطليعة للطباعة والنشر
والتوزيع ،بيروت،لبنان،ط،1،2009ص.41،42
-2المرجع نفسه،ص.42
-3جون بوديار ،نقال عن فارس المسرحي ،الحداثة في فكر محمد أركون ،منشورات االختالف ،
الجزائر،ط،1،2006ص.22
-4محمد محمود يسيين ،أحمد طه نور،أعداء الحداثة ،دار الوعي ،السعودية،ط،1،1434ص.26
51
يولد الحاضر منها إنها ما يعطي الحاضر طابعه كحاضر ويجعله يحقق األبدية والخلود في
إطار التاريخ 1".وهذا بالضبط ما يجعل مفهوم الحداثة يتحدد ويتغير فال يمكن استق ارره في
معنى محدد "فالمفهوم يعبر دائما ومن خالل مضامين مختلفة عن وعي عصر ما يحدد
2
نفسه بعالقاته بماضي العصور القديمة ويفهم ذاته كنتيجة انتقال من القديم إلى الحديث".
أي أن الحداثة ال تلتزم بالزمان الخاص والمكان وال تخضع لتفسير ثابت ،وهذا ما يقره
الجابري حين يقول " ليست هناك حداثة مطلقة كلية وعالمية وإنما هناك حداثات تختلف من
وقت آلخر ومن مكان آلخر ومن تجربة ألخرى الحداثة في أوربا غيرها في الصين غيرها
في اليابان.. .فالحداثة ليست من أجل ذاتها بل هي دوما من أجل غيرها من أجل عموم
الثقافات التي تنبثق منها الحداثة 3".ومن هذا يتبين أن مفهوم الحداثة يتميز بتميز المراحل
التاريخية ويختلف من فترة ألخرى ما يصعب من محاولة إعطائه معنى ثابت ومحدد ألنه
معنى متغير بتغير األحداث ،فهو كما يرى "هبرماس قطيعة زمنية متكررة إلنتاج نسق جديد
بمعرفته ووجوده وقيمته وبشرطيه اإلنساني والعقلي4".وبتفاعل الحداثة مع الفترة الزمنية
المختلفة يتحدد مفهومها في كل مرة عندما تتكرر وتختلف الظروف واألحداث ،فهي ال تملك
داللة ثابتة تحددها ،بل هي نتاج يعبر عن مفهوم فكري خاص ويمثل صيرورة المجتمع
وتطوره وانتقاله من حالة إلى أخرى وفق تفاعل الظروف كلها وتالحمها في ظل هذه الحركة
التي شكلت القطيعة والتقدم بين التاريخ والمستقبل.
-1اإلصالح الديني:
لقد عرفت أوروبا تحوال تاريخيا واسعا خاصة أثناء القرون الوسطى وما ولده المخاض
الذي شكلته األحداث آنذاك ،حيث عاشت أوربا ولعصور عديدة تحت سلطة الكنيسة التي
سيطرت تماما على المجتمع وجعلته خاضعا لها وقيدت الفكر وضربت عليه الذلة والهوان
واستبعدت العقل عن الواقع واستبدلت االجتهاد في البحث واالكتشاف باالجتهاد في اليقين
بالخرافات التي نسجتها وباركتها وجعلت منها إجابات قطعية لمختلف األسئلة الفكرية
والسياسية والعلمية ونبهت من مخالفتها .واستمر هذا الوضع إلى غاية نهاية القرن الخامس
عشر وبداية القرن السادس عشر مع اإلرهاصات األولى التي تمثلت في عصر النهضة
كإعالن لنهاية الميتافيزيقا وبداية إرادة اإلنسان ال تحكمه أساطير الكنيسة الكاثوليكية ،وهو
ما عرف باإلصالح الديني إذ هذا االتجاه قد زعزع المجتمع المسيحي في أوربا وهز كيانه
كله اتجاه موقفه من سلطة الكنيسة ،وما ميزها لقرون غابرة أغلقت األفق عن العقل ّ
وغيبته
ونصبت رجاالتها في مقاليد الحكم لردع الفكر ووضع حدود لحرية المعرفة وإخضاع كل
المجاالت في المجتمع ألفكار الكنيسة وتعاليمها الخرافية وكان كل من مارتن لوثر وكالفن
من أبرز زعماء هذا االتجاه ،ثم سرعان ما امتد إلى األطر المعرفية كالثقافية والسياسية
والفكرية واالجتماعية واالقتصادية والفنية واألدبية
"وفي داخل هذه الفلسفة الدينية تم إغالق أبواب العلم والعقل والبحث والمعرفة أمام
الباحثين والمفكرين فال يجوز البحث إال في المجال الذي يحظى برضا اآلباء ويتماشى مع
تحركها
ميز سلطة الكنيسة لعقود زمنية طويلة وما جعل منها أداة ّ تقاليد الكنيسة" .هذا ما ّ
1
أن هذا
بكل تناقضها من أجل بقاء اإلمبراطور والبابا واستمرارهما ،والمؤسف ّ
أيادي اجتمعت ّ
الر ّب في
تبنته بزعمها ّأنها تمتلك إرادة ّ
ّبرر للكنيسة الكاثوليكية القمع والقتل واإلقصاء الذي ّ
األرض وأحكامها اإللهية ال مفر منها ،ومقابل هذا ظهرت من داخل الكنيسة "البروتيستانتية"
تمردها على الكنيسة الكاثوليكية ،فكما سبق ذكره كان
حركة مناهضة لهذه التصرفات أعلنت ّ
-1محمد محمود سيد أحمد ،أعداء الحداثة مراجعات العقل الغربي في تأزيم فكر الحداثة ،دار الوعي للنشر والتوزيع ،
الرياض ،ط1434 ،1هـ ،ص.38
53
للديانة راجعا بها إلى بولس
مجددا ّ
أحد زعماء هذه الحركة " مارتن لوثر الذي اعتبر نفسه ّ
الرسول اّلذي أعلن عن التّبرير من خالل النعمة واإليمان...وبالتالي فإن الوظيفة األولىّ
(الوساطة بين اإلله وعباده)اّلتي أخذتها الكنيسة الكاثوليكية على عاتقها تصبح منعدمة ،ومن
هنا تحقق عدالة هللا بتضحية المسيح وهذا التفسير يشكل أساس مارتن لوثر 1".ويعتبر هذا
مباشر لسلطة الكنيسة ،وبذلك استطاعت البروتستانتية من وضع حد لغرور
ا وقوفا وتصديا
الرب والعباد .وبهذا نستطيع القول
الكاثوليكية ونزعت عنها رداء التأليه والوساطة الزائفة بين ّ
أن كل من مارتن لوثر وتوماس دكان كانا من رواد هذا االتجاه اللذين تمكنا من طرح " بذور
النزعة الفردانية التي ستكون واحدة من خاصيات الثقافة الحداثية فقد ّ
توهم الفرد نتيجة لذلك
المقدس وبدا العلم أداة قوية التي يستخدمها
أنه قادر على تغيير كل شيء وليس فقط الكتاب ّ
الفرد في تفسيره للنصوص وفهمه لألشياء وهو ما قاد في النهاية إلى نشوء حركة علموية
تحاول أن تأخذ مكان الدين والميتافيزيقا في تفسير الوجود والكينونة 2".لقد تبلور اتجاه كل
من مارتن لوثر وتوماس دكان في الحركة البروتستانتية داخل الكنيسة الكاثوليكية بالتمرد
المقدس
ّ على سلطتها وعلى ما جاءت به بإلغاء الوساطة وتجاوزها ،واستلم الجميع الكتاب
كل
الرب مباشرة ،واسترجعت سلطة المسيح بالرجوع لألصول األولى للمسيحية ونبذ ّلمعرفة ّ
الرب والعباد ،وبعدما
توسطوا بين ّ
األفكار التي لحقت بالكنيسة الكاثوليكية من رجالها الذين ّ
تحقق هذا أدرك الجميع ّأنهم أمام نوعين مختلفين من التعاليم الدينية :تعاليم احتواها الكتاب
الدين ،وتجلى للعامة الفرق بينهما ،فتشكلت رؤية الكهان ورجال ّ
المقدس ،وتعاليم طرحها ّّ
جديدة لإلنجيل وتمكن المجتمع من نزع تلك القيود ،وكانت بداية ظهور الحرّية الفردية
وظهور النزعة اإلنسانية التي جعلت اإلنسان محور العملية تدور حوله مختلف المعارف،
ورفض فكرة إقصائه التي أفرزتها الدغمائية .فأصبح "اإلنسان هو محور هذه الحركة ومن
كل سلطة مرجعية حتّى مسألة اإليمان اعتبرت مسألةخاللها زاد الوعي باستقاللية العقل إزاء ّ
لكل ضمير فرد ولقد رفعت هذه الحركة من قدر التراث الوثني القديم واعتبرت فردية تعود ّ
تم استعادة الفكر اإلغريقي
ّ وبهذا 3
العصر القديم هو العصر ال ّذهبي ولألبد من العودة إليه".
مما أوقد الرفض للفريق النهضوي فقام باسترجاع دور اإلنسان وقيمته حسب ما أقرته
أن
كتب السفسطائيين األولى والتي أوضحها بروتاجوراس في شعارهم "من كتابه عن الحقيقة ّ
اإلنسان مقياس األشياء جميعها فهو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس ال وجود ما ال يوجد
الدينية في
منها ".هذا فعال ما دعا إليه لوثر في الكنيسة بطرحه لمبدأ الحرّية الفردية و ّ
1
االعتقاد واإليمان وفي قراءة الكتاب المقدس وفهمه وتفسيره دون حرج أو خوف ،وهذا ما
سينعكس على مختلف المجاالت االجتماعية األخرى برؤية جديدة وفكر جديد ّ
فضل اإلنسان
عم سواه وأخضع إلرادته كل ما حوله ،وتجاوز التقليدي الذي حكم عليه وأسره وقيده ،وأسس
بكل حرّية وبهذا
لبداية جديدة مختلفة تماما عن الماضي تسّلم فيها زمام األمور لإلنسان ّ
حوالت االجتماعية الجديدة واتّحدت مع أهداف البرجوازية فقد
"توافقت حركة اإلصالح مع التّ ّ
وجدت هذه الطبقة في اإلصالح ما يدفعها للتّرحيب به ولكن كان هذا الداّفع في الحقيقة عن
السلطة البابوية
تمردوا على ّغير قصد من زعماء حركة اإلصالح فقد أقاموا لهم بعد أن ّ
القديمة سلطة جديدة عارضوا بها النظرة الكونية الجديدة وسائر العلوم التي تتّبع من الكتب
النهضة غير مرغوب فيها وتعاليمها منبوذة ملقاة، المقدسة ".فأصبحت الكنيسة في عصر ّ
2
مر
التمرد عليها جس ار ثقافيا ليتجاوز الفكر األوروبي كل ما جاءت به الكنيسة على ّ
وشيد ّّ
العصور وينتقل فوقه إلى عمق التاريخ باالهتمام بالرصيد اإلغريقي الوثني القديم وخاصة في
مجال اللغة واألدب والفن كونه فك ار له نزعة إنسانية يتوج اإلنسان ويتيح له الحرية المطلقة
على غرار ما جاءت به الكنيسة ،وهذا التّيار الفكري الجديد الذي ّ
تبنته البروتستانتية بزعامة
لوثر ودكان هو من عزز هذه الثقة لإلنسان في إمكانية تحقيق التطور واالزدهار وإمكانية
- 1مصطفى النشار ،تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ،دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط،1
،2007ص.325
-2محمد محمود سيد أحمد،مرجع سابق ذكره،ص.45
55
بناء حضارة راقية ،وبالتالي كان هذا التيار البروتستانتي الجديد بداية انتقال من التفكير
الديني إلى التفكير العلمي الذي أسس للفردانية واإلنسانية وأعطى الحرية المطلقة لإلنسان.
-2النزعة العلمية:
إذا أردنا أن نحدد بداية انطالق العلوم الحديثة فيمكننا القول أنها تجلت في عصر
فجر فيه العلماء والمفكرون ثورة عالمية واسعة مست تدريجيا معظم المجاالت
النهضة الذي ّ
كالفيزياء والفلك رفقة غاليليو وكوبرنيكوس ..إلخ الذين مهدوا لنظريات تفسير الطبيعة
واكتشاف أسرار الكون ومن أهمها" نظرية مركزية الشمس التي ّ
قدمها كوبرنيكوس فيما بعد
- 1فارح مسرحي ،الحداثة في فكر محمد أركون ،رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الفلسفة ،تحت إشراف األستاذ
غيوه ،السنة الجامعية ،2003-2002جامعة الجزائر،ص.08،09
-2المرجع نفسه،ص.09
56
المهم موازين الفكر األوربي وغير موقف اإلنسان من الكنيسة
ّ العامل هذا قلب 1
الكنيسة".
خاصة ومن الدين عامة ،وفي المقابل أيضا استطاع أن يغير رؤية اإلنسان للعالم والطبيعة
ّ
وأقنعه باإليمان بذاته والوثوق في قدراته وإمكاناته العقلية في معرفة الحقائق واكتشافها ووضع
تفسر الغموض واألسرار بعيدا عن التفسيرات الالهوتية التي راحت
قوانين الطبيعة التي ّ
الصحة ،وطبعا هذا لم يرق
الكنيسة منذ القدم تنسبها لغيبيات خرافية ال أساس لها من ّ
للكنيسة وخاصة بعد تشويه صورتها في المجتمع األوربي بسبب القمع والقتل والتنكيل
واإلقصاء ومحاكم التفتيش التي أنشأتها ضد العلماء والمفكرين الذين واجهوا الكنيسة بحقائق
عقلية حظيت قبوال واسعا ،وفي صراعها األخير تداركت الكنيسة موقفها من نظريات أرسطو
تقد مها في مدارسها السكوالئية الالهوتية ومارست من جديد ما
التي رفضتها قديما وأصبحت ّ
ضد العلماء والمفكرين ،فأعادت تنظيم محاكم التفتيش للوقوف في وجه الثورة عليها
تجيده ّ
وردع الحركات الفكرية التي نادت بالحريات الفردية وتحريم االنتاجات الفكرية وقتل العلماء
التحرر
ّ وسجنهم ،وكان العالم كله يعلم أن هذا لن يجدي نفعا أمام رغبة الفكر الجامحة في
وتوسعت رقعة المطالب في
والبحث ،فانتشرت تلك االنتاجات الفكرية انتشار النار في الهشيم ّ
العالم المنددة بالحرّيات واستعمال العقل ورضخ العالم بالنظريات الجديدة التي أرست أسس
السياسة واألدب واستبعدت الدين من دائرة النقاش
حضارة متعددة المجاالت :كالفن والفلسفة و ّ
الفكري والسياسي واالجتماعي ،ونتيجة لذلك ظهر في ّ
الساحة الفكرية األوربية اتجاهان مثّال
عاملين أساسيين لبداية عصر األنوار في القرن السابع عشر وهما :االتجاه العقالني في
فرنسا بريادة روني ديكارت واالتجاه التجريبي في انجلت ار بزعامة فرنسيس بيكون.
-1المرجع نفسه،ص.09
2د .الزواوي بغورة ،الحاضر بديل عن الحداثة وبعد الحداثة وما بعد الحداثة ،ص.237
57
مؤسس المنهج التجريبي في انجلت ار وهو منهج علمي يعتمد على الشرح المادي للطبيعة
ّ
بهدف الوصول إلى اليقين العلمي الذي استعمل فيه األروجانون ،كان يهدف من خالله إلى
السيطرة عليها من خالل االستقراء والتجربة العلمية
إيضاح عالقة اإلنسان بالطبيعة وكيفية ّ
وإخضاعها للمالحظة الدقيقة ،ولفظ األرجانون يعني األداة أو اآللة نفسها بوصفها منطقا
للتفكير العلمي وقد استخدم بيكون هذا اللفظ ليعارض منهج أرسطو الذي كان يعرف باالسم
نفسه األروجانون ،إال ّأنه كان يعتمد على األشياء القبلية واالستنباط " .فالحكم على قضية
ما...بالصدق ّإنما يكون عن طريق تطابق هذه القضية مع العيان أي ّ
أن معيار الحقيقة عند
(االختباريين)يكون عن طريق المطابقة مع الواقع ويبدو هذا المعيار واضحا في قضايا العلوم
الطبيعية وكذلك في حياتنا اليومية 1".والطبيعة في نظر بيكون هي مصدر المعرفة األصلية
تغير
على غرار المعرفة الترندستالية الميتافيزيقية المتعالية عن الطبيعة ،وبالتالي نستنتج ّ
وتحولها إلى دراسة واقعية عند
ّ النظرة التي تناولت المعرفة ومصادرها من قبل عند أرسطو
بيكون ولهذا " لقد سعى فرنسيس بيكون إلى تخليص الفكر البشري من التقاليد األفالطونية
أن المنطق األرسطي عقيم وغير مفيد واألرسطية بالتنظير للمنهج التجريبي ،حيث رأى ّ
للكشف عن الحقيقة ألنه يجبرنا على التسليم بنتيجته وال يكشف شيئا جديدا 2".وبهذا النوع
قدم بيكون حاف از قويا للفكر
عوض األروجانون األرسطي القديم ّ
الجديد من األروجانون الذي ّ
اإلنساني بالوثوق في قدراته العقلية وإمكانياته الفكرية في إخضاع الطبيعة و ّ
التحرر منها
تتأسس على المالحظة
بمنهج استقرائي يجعل اإلنسان قوة عقلية فعالة بالدراسة العلمية التي ّ
والتجريب وليس فقط التجريد لعناصر الطبيعة بهدف إحداث قطيعة نهائية مع النظام
المعرفي الالهوتي القديم والنهوض من جديد بفكر يستمد أدواته من العلم الستنتاج المعارف
بالتحرر من براثيم الكنيسة وفتح أفق واسع أمام العقل
ّ يتم هذا إال
طبيعة ،وال ّ
وتفسير ال ّ
المتكرر حين يقول ":المعرفة قوة" وبالتالي
ّ اإلنساني ،ويظهر هذا جليا في تعبير بيكون
أن"بيكون أول من حاول وضع صورة كاملة للمنهج االستقرائي القائم على
نتبين ّ
نستطيع أن ّ
امتد إلى "هيوم " ()1776-1711وجون لوك( -1732 ّ المالحظة والتجريب والذي
)1804وجون ستيوارت()1873-1803وغيرهم .كما بين بيكون أخطاء الفكر في العصرين
-1عيسى عبد هللا ،في نظرية المعرفة ،أكاديمية الفكر الجماهيري ،بنغازي،ليبيا،دط،2011،ص.118
-2المسرحي،المرجع السابق،ص.11
58
وبين أسبابها داعيا إلى ضرورة االحتراس من الوقوع فيها وهو ما أسماه
القديم والوسيط ّ
باألوهام واألصنام 1".ولقد أجمع الكل أن بيكون أول من مهد لالجتهاد الفكري في البحث
باستعمال التّجربة والمالحظة بدال من األحكام الالهوتية ،و دعا إلى تحرير العقل في هذا
االجتهاد ليعرض بداية جديدة تمنح لإلنسان دو ار أساسيا في حياته عامة ويستعيد بها مكانته
المهمة في التحديد والتقرير بكل حرية .
ب-عقالنية ديكارت:
أما في فرنسا فقد تمثل التيار اآلخر في عقالنية الفيلسوف الفرنسي روني
ديكارت( )1650-1596الذي لم يبتعد عن بيكون وعن سابقيه من فالسفة عصر النهضة
،فكان هدفهم واحدا:استرجاع مكانة اإلنسان الحاكم المسيطر على الطبيعة وتحرير العقل من
أن
التعاليم الكهنوتية السكوالئية التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية في مدارسها ،وهذا يعني ّ
ديكارت هو اآلخر أعلن القطيعة مع الكنيسة واالنفتاح على المعارف واألفكار الجديدة التي
وقدم إجابته في
لحقت بالفلسفة والعلوم" إذ جعل السؤال المعرفي كيف أعرف؟ محو ار للفلسفة ّ
مقال "الطريقة"بوضعه لقواعد المنهج العقالني الذي سار عليه العديد من الفالسفة فيما بعد
أمثال "مالبرانش"(1715-1638م)ليبتنز(1716-1646م)سبينوزا(1777-1732م)وغيرهم
ميزت تلك المرحلة التي
ممن اعتنق الديكارتية وعمل على نشرها ".فظهرت نخبة فكرية ّ
2
-1المسرحي،مرجع نفسه،ص.11
-2المسرحي،المرجع السابق،ص.71
-3د.قاسم شعيب ،فتنة الحداثة ،صورة اإلسالم لدى الوضعيين العرب ،المركز الثقافي العربي ،دار البيضاء ،المغرب
،ط،1،2013ص.11
59
المتمثلة في البداهة والتجزئة والتركيب واإلحصاء وهي نفسها الطريقة التي وضعها بيكون،
وإن اختلفت في المصدر والمنهج لكن اتّفقت في توفير الحرّية ومرجعية العقل في تحديد
مصيره بنفسه ومشاركته في البناء الحضاري ،هذا التيار الفكري العقالني تتجلى لمساته في
العديد من األعمال التي لحقت به عند مفكري عصر التنوير في القرن التاسع عشر لبناء
آخر يتجاوز هذا الطرح.
فإن عصر النهضةكما اعتبرت كل المحاوالت السابقة تمهيدا لمراحل الحقة جديدة ّ
كان مقدمة لعصر األنوار في القرن الثامن عشر بعد االكتشافات التي ّ
تمت فيه وبعد ظهور
االتجاهين الفكريين:العقلي في فرنسا والتجريبي في انجلت ار" ،لقد أصبح المناخ الفكري الغربي
بعد التغيرات التي حدثت في عصر النهضة في حالة من القبلية للتحوالت المعرفية التي
الصلة واضحة بين عصر جرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ومن هنا تبدو ّ
تحول على إثر االنقالبات العلمية عن علم الالهوت الذي
النهضة وعصر التنوير فلقد حدث ّ
أصبح في دائرة شك بعد أن كان موطن اليقين تاركا المكانة لسلطة العقل من أجل ذلك
ار العتماد العقل
أطلق على هذه الفترة مسمى عصر العقل1".فاعتُبرت فلسفة التنوير استمر ا
وسيلة في الدراسة العلمية واعتماده أيضا حاكما مطلقا على جميع الظواهر الكونية واستمرت
القطيعة مع الفكر الديني الالهوتي والفكر األرسطي ليضع في المقابل البديل العقلي الحر
وحث العقل في البناء الحضاري برفع التقديس األعمى لتعاليم الكنيسة وأراء الكتاب ّ
المقدس ّ
على البحث في قوانين الطبيعة ولقد وضع ايمانويل كانط تعريفا لمفهوم التنوير من خالل
قوله " التنوير هو خروج اإلنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه وهذا القصور هو
عجزه على استخدام عقله إال بتوجيهه من إنسان ألخر ويجلب اإلنسان على نفسه ذنب هذا
القصور عندما ال يكون السبب فيه هو االفتقار إلى العقل بل إلى العزم والشجاعة اللذين
يحفزانه على استخدام بغير توجيهه من إنسان أخر لتكن لديك الشجاعة الستخدام عقلك ذلك
هو شعار التنوير 2".ومعنى هذا أن اإلنسان ينبغي عليه أن يتحّلى بالشجاعة في اتخاذ
1المسرحي،المرجع السابق،ص.13
-2محمد محمود سيد أحمد ،مرجع سابق،ص.54
61
ثالثا -الحداثة في السياق العربي اإلسالمي
خضعت البلدان اإلسالمية العربية للحكم العثماني الذي دامت سيطرته ثالث قرون منذ
مطلع القرن السادس عشر حيث " كان الوضع العربي إبان تلك الحقبة الطويلة نسبيا في
مستوى متدن من الحركة الثقافية والنهوض الفكري وذلك لسيادة النزعة التتريكية ولفقدان
الدور القيادي العربي لقيادة الدولة والمجتمع مما أثر في البناء العقلي العربي حيث كثرة
الخرافات واألساطير وغاب المنهج العقلي وساهم هذا الوضع في تسطيح العقل العربي على
مستوى التفكير والتعامل مع الظواهر الطبيعية نتيجة االنغالق على الذات والوقوف سلبيا
تجاه األخذ في التطور الفكري والثقافي خاصة أثناء التطور العلمي والفكري في أوربا في
القرنين السابع عشر والثامن عشر 1".الذي عرف تطورها وازدهارها منحى تصاعديا في شتى
المجاالت،فبلغ ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر ،م ّكنها من تحقيق حركة علمية
وفكرية وأدبية وثقافية وسياسية وعسكرية واقتصادية باهرة ،تمثل هذا التطور جليا في الثورة
سهل على أوربا
الصناعية في انجلت ار والثورة السياسية واالجتماعية في فرنسا ،األمر الذي ّ
السيطرة على العالم وامتالك النفوذ والقيادة التي سمحت لها بتصدر العالم والريادة وفرض
توسعها االستعماري على دول العالم العربي اإلسالمي التي كانت تحت وطأة الجهل والتأخر
ّ
بسبب" الحكم العثماني واالستعمار الخارجي شمل الجوانب الدينية أيضا بل إن إضعاف
الوازع الديني هو هدف تلك الهجمات التي ترغب من خالله إبقاء جو الجهل والتخلف سائد
في العالم العربي لكي تتحقق السيطرة عليه 2".ونطام الحكم العثماني لم يختلف عن
االستعمار الخارجي ،حيث سعى آنذاك للسيطرة على الدول الخاضعة له وإبقاء الوضع فيها
على ما هو عليه ،وفي ذلك انتهج الحكم العثماني سياسة االستعمار تماما كمنع التفتح على
الذات وعلى اآلخر وبالتالي فرض االنغالق على الذات والجهل الذي ينتج االغتراب الفكري
وتعمدت اإلمبراطورية اإلبقاء على هذا الوضع بطرق شتى
ّ والركود والرضوخ لألمر الواقع.
-1عزمي زكريا أبو العز ،الفكر العربي الحديث والمعاصر ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة
،عمان،األردن،ط،1،2012ص25
-2المرجع نفسه،ص.26
62
كمنع دخول المطبعة للبلدان العربية اإلسالمية التابعة لسلطته بحجة المحافظة على الهوية
الدينية اإلسالمية والمحافظة على القرآن خوفا حسب زعمهم من تحريفه.أما هدفهم كان
واضحا تجلى في الحفاظ على مصالح اإلمبراطورية العثمانية في تلك البلدان وضمان
أي تأثير يمكنه إيقاظ
وتجنب ّ
استمرار حكمها ونفوذها وال يتأتى ذلك إال بإبقاء الجهل والركود ّ
المجتمعات العربية اإلسالمية من سباتها كوصول انتاجات الفكر الغربي عبر وسائل اإلعالم
سيهدد الوجود التركي ومصالحه في
ّ آنذاك كالجريدة والمؤلفات األدبية والفكرية األمر الذي
تقبل
البلدان العربية اإلسالمية فالمجتمع الذي يق أر ال يمكن إخضاعه ألي سلطة وال يمكنه ّ
قوته لبلوغ حريته وتحقيق طموحه المعرفي والفكري ،وقد اثر
الظلم والخضوع ،وسيسعى بكل ّ
هذا الوضع على سياسة اإلمبراطورية وظهرت بوادر المرض عليها ،وهذا ما يراه ابن خلدون
عندما قال "الظلم سبب خراب العمران" وهذا تماما ما حدث ،فلقد عرفت هذه اإلمبراطورية
تقهق ار وتدهو ار خطي ار بسبب سلطة حكامها المستبدين الذين أكثروا في البالد الفساد" فضعفت
أهمها
قوتها وتزعزعت مكانتها في األقطار المفتوحة وتقلص نفوذها وذلك ألسباب كثيرة ّ
ضعف شخصية السالطين الذين انهمكوا في متع الدنيا الشخصية وتركوا أمور الدولة
وقضاياها بأيدي حكام ضعاف همهم األساسي األعمال االنتقامية وفقدان األمن –ثالثا
المنافسة الحادة بين األسر الحاكمة على المناصب العليا في اإلمبراطورية والصراع العدائي
والدموي بين أبناء العائلة المالكة نفسها حيث أقدم الكثير منهم على اعتقال إخوتهم
واضطهادهم وقتلهم 1".ونتيجة لذلك حاولت السلطة المركزية العثمانية تدارك هذا التدهور
الذي أصابها وخاصة بعد التراجع الكبير الذي شهده الجيش العثماني وبعد تأثر الدولة
العثمانية بتسيير قادة الجيش االنكشاري الذي فككوا صفوفه فسعت هذه السلطة المركزية
إلعادة ترتيب اإلدارة العسكرية وهذا بتأسيس جيش نظامي جديد وفق معايير الجيوش
األوربية ".أي تبعا لنزعاتهم السياسية وأغراضهم الشخصية جرائم االغتياالت التعسفية
واالغتياالت السياسية حيث بلغ عدد السالطين العثمانيين الذين قتلوا بأيدي الجيوش
االنكشارية تسعة باإلضافة إلى عشرات الوزراء ورجاالت الدولة الذين القوا المصير
نفسه2".ولم تكتف اإلمبراطورية باإلصالحات العسكرية وإنما اإلصالحات مست الجهاز
-1منذر معاليقي ،معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية ،دار اقرأ ،بيروت لبنان ،دس،دط،ص.32
- 2منذر المعاليقي ،المرجع السابق،ص.32
63
الديني الذي تواطأ سابقا مع أفعال الجيش االنكشاري بمباركتها وتبريرها بالغطاء الديني
وتوظيف النصوص القرآنية في ذلك ،ويبدو أن هذا الوضع كان شائعا في كل العالم أين
يلجآ السالطين واألمراء والحكام لرجال الدين من أجل مباركة أفعالهم كمحاولة إليجاد سالم
نفسي أمام بشاعة أفعالهم ،وهذا بالضبط ما دفع إلصالح هذا الجهاز الديني داخل
اإلمبراطورية العثمانية .كما شمل اإلصالح ميادين أخرى عديدة كالسياسة واالقتصاد واإلدارة
أن كل هذا لم يكن كافيا للحفاظ على قوة وهيبة اإلمبراطورية نظ ار لظهور حركة
والعدالة إال ّ
إصالحية تنويرية تحمل سمات الثقافة الغربية ،ونظ ار لتوسع الطبع والنشر في بالد الشام
كان له األثر في إنتاج يقظة فكرية ووعيا ثقافيا لدى الشعوب العربية اإلسالمية ،ما دفعهم
للتفكير في التحرر من سلطة اإلمبراطورية ،ولكن ما كان ينتظر الشعوب العربية ليس
باألمر الهين فقد خرجت من حكم اإلمبراطورية العثمانية لتواجه استعما ار اخرا،فمعظم الدول
العربية اإلسالمية لم تسلم من سيطرة االستعمار الغربي بعد سقوط الخالفة العثمانية نتجة
ضعف جيشها وقلة إمكاناتها العسكرية.
-1حملة نابوليون:
لم تكن حملة نابوليون الفرنسية ()1801-1789على الواليات العثمانية للقتال وحمل
السالح فحسب بل كانت ترمي ألبعد من ذلك إذ أنها جندت إرادة قوية لمحو مقاومات
الشعوب العربية اإلسالمية وطمسها ونسخ صورة الغرب الزاخرة في تصور هذه الشعوب ،لذا
يمكننا أن نميز مظهرين؟؟ لهذه الحملة إذ " اختلفت طبيعتها عن باقي الحمالت العسكرية
األخرى التي حصلت في الشرق ،فقد اختلط في هذه الحملة وامتزج الطابع العسكري مع
الطابع العلمي 1".لذا تعتبر الحملة الفرنسية في اتصالها األول بالعالم العربي اإلسالمي لحظة
اكتشاف متبادل رسمت تناقضا كبي ار بين عالمين مختلفين :عالم غربي يحمل حضارة متطورة
تعج باأللوان الرفاهية وأذواقها ،وعالم عربي إسالمي يقبع في غياهب الجهل مستسلم لنوم
عميق يرى مرور األيام باللونين األبيض واألسود،فهي حملة 'فتحت أبواب العالم العربي
على الحضارة الغربية الحديثة بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم
وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها ورافق نابوليون بونابارت في حملته هذه فريق من
-1زكي ميالد ،عصر النهضة كيف انبثق؟ولماذا أخفق؟المركز الثقافي العربي ،ط،1،2016ص.18
64
العلماء الفرنسيين في الرياضيات والهندسة والجغرافيا وجلب معه مطبعتين إحداهما فرنسية
واألخرى عربية 1".وفي لحظة التماس هذه أطبقت الدهشة على العقول المتحجرة في تلك
البالد التي أضناها االستعمار وأدركت شعوبها عمق االختالف وارتسم واقعها في خيالها بكل
تفاصيله من بأس وجهل وتخلف ،وفي المقابل أسر هذه الشعوب طموح جامح نحو الحضارة
الغربية المنجذبة اليهافي مختلف المجاالت الفكرية واألدبية والثقافية ،ولقد كانت الصدمة
قوية على الشعوب العربية بعد اتصالها بالغرب "فاإلنسان العربي وجد نفسه وسط عالم يتقدم
بخطى سريعة وكانت الصدمة الحضارية التي أفقدته الوعي لبعض الوقت نتيجة اللقاء
المباشر بينه وبين هذا التقدم الغربي في خضم الغزو االستعماري الغربي لبعض البلدان
العربية اإلسالمية في القرن الماضي كانت الصدمة هي دافعه المباشر إلعادة التفكير في
حاضره ومستقبله من منظورين :منظور هذه الحضارة الغازية بكل ما كشفت عنه من تقدم
علمي وتكنولوجي وسياسي يعتمد على التخطيط والتنفيذ المتقن ومنظور الحفاظ على الهوية
العربية اإلسالمية" 2فلم يكن على حملة نابوليون األمر عسي ار واألكيد أن مهمته كانت ناجحة
إلى حد بعيد ،فاستسالم الشعوب العربية المسلمة لم يكن بوضع السالح وتسليم مفاتيح البالد
فحسب ،بل باستالم مظاهر الحضارة الغربية بكل حماس ودون تردد لتنهض من سباتها
العميق بفعل تلك األحداث ،وتجد نفسها أمام ألوان من الفنون واألفكار والعلوم التي لم
تستطع اإلقالع عنها"فالصدمة بطبيعتها تتسبب في انعدام التوازن واختالط األمور واختالل
الموازين وكثي ار ما تكون المنعطفات التاريخية نتيجة لها حيث توقظ األمم من طول السبات
وتزيل األوهام العالقة في األذهان ولها تبعاتها المحمودة والمذمومة" . 3وهذا فعال ما حدث
للمجتمعات العربية اإلسالمية آنذاك إذ أنها تفطنت لواقعها المزري وحاولت استدراك ما فاتها
عّلها تحظى بنصيب مما توصل إليه غيرها ،متيقنة أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا هي ببناء
عالقة وطيدة بالغرب المتطور واستثمارها في االستفادة من االنتاجات األوربية التي شملت
مختلف الميادين "وبتأثير الطابع العلمي لهذه الحملة كان لها وقع الصدمة والصدمة ليس
على مصر فحسب وإنما على المنطقة العربية برمتها ،الصدمة التي وصفت تارة بصدمة
1المرجع السايق،ص.20
- 2محمد الفقيه،قراءات في خطاب النهضة واشكاالت وتساؤالت ،مركز التأصيل للدراسات والبحوث ،ص.09،10
-3المرجع السابق ،ص.09
65
الحضارة وتارة بصدمة النهضة ...ومن هذا االنطباع تبلورت األطروحة التي ترى أن عصر
النهضة في المجال العربي الحديث انبثق بتأثير هذه الحملة التي جعلت العالم العربي ينتبه
إلى عالقاته بالعالم الحديث ويدرك حاجاته إلى العلوم والمعارف والمكتشفات الحديثة ويبدل
من نظرته إلى ذاته ومن رؤيته إلى العالم 1".وهنا اعترت الشعوب العربية اإلسالمية رغبة
ملحة دفعتها للتفكير في تغيير وضعها ومسايرة قطار الحضارة الغربية ،وعلم رواد النهضة
العربية اإلسالمية آنذاك أن هذا لن يتحقق إال باالحتكاك المباشر بها والتواصل المستمر
معها واألخذ منها وبناء جسور الصداقة معها ،وبهذا يمكن تحقيق ما حققته الحضارة الغربية
من رقي شمل مختلف الميادين العلمية واألدبية والفكرية والسياسية والفنية ،ولقد لقيت هذه
كبير من الحملة الفرنسية" بقيادة نابوليون بونابارت التي فتحت الباب على
ا الرغبة ترحابا
مصراعيه أمام بروز تحوالت بنيوية وجوهرية في الفكر والثقافة العربية ...فضال عن
االتجاهات الفكرية الحديثة التي نشأت في أوساط المفكرين العرب 2".ألن هذا الغزو الفكري
نقل للعالم العربي صورة الحضارة الغربية وأتاح كل الفرص التي حملت آمال الشعوب
وطموحاتهم المتأثرة بها وبرر وجوده في مصر بتخليصها من المماليك وبطشهم إ ْذ "ادعت
هذه الحملة أنها أتت إلى مصر من أجل انقاد مصر من مظالم المماليك وخالصها من
سياساتهم المتخلفة لكن الواقع المادي والحقائق التاريخية أثبتت خطر هذه المزاعم ...إنها
حملة استعمارية كسائر الحمالت والغزوات العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية في القرون
الوسطى 3".فكانت حقيقة الحملة التي قادها نابوليون استعمارية تبحث عن النفوذ والتوسع
والوقوف في طريق انجلت ار في وجودها بالمنطقة الشرقية وإزاحتها من المنطقة لتتربع هي
الوحيدة على العرش وتفرض سطوتها على العالم كله هذا ما يفسر تسرع نابوليون الحتالل
مصر وخالله "رافق بونابارت في حملته هذه فريق من العلماء الفرنسيين في الرياضيات
والهندسة والطب والجغرافيا وجلب معه مطبعتين ...وأنشأ الدواوين وغرضه تعويد أعيان
مصر على نظم المجالس الشورية وأساليب الحكم كما أسس مجمعا علميا على غرار المجمع
الفرنسي للدراسة والبحث في موضوعات الطبيعة والصناعة والتاريخ ...وأنشأ مرصدا ومتحفا
لم تدم الحملة التي شنها نابوليون على مصر طويال بل انسحبت تجر أذناب الهزيمة
لتعلن مصر تحقيق استقاللها من االستعمار الفرنسي ،وتولى محمد علي قيادتها حيث
استطاع "بذكائه وشجاعته أن يدخل قلوب المصريين ويستحوذ على علمائها وأعيانها الذين
نادوا به في االجتماع الكبير المنعقد في القاهرة في أيار ()1805واليا زعيما على مصر
لقد أبدى محمد علي انشغاله باإلصالح اإلداري والعسكري وعلم " أنه ال يمكن للعالم
اإلسالمي أن يمتلك القوة الالزمة ألي وجود تاريخي فاعل دون التسلح بأسلحة العصر وأول
هذه األسلحة هو بناء الدولة العصرية القادرة على تحقيق النهضة المنشودة فال تقد دون
تنظيمات . 2".وبداية قام محمد علي بإصالح اإلدارة من خالل تقسيم مصر لدوائر عديدة
تحت رئاسته وإدارته هو فبذلك كانت إدارته مركزية لشؤون البالد بسيطرته على جميع
الدوائر فجميع الق اررات التي يشرعها هو ق اررات فردية ينفذها رؤساء الدوار دون الرجوع إليهم
أو األخذ برأيهم بهدف إخضاع كل الدوائر والرؤساء له ليفرض محمد علي سلطته على
الجميع ويتضح جليا من هذا صورة الحكم االستبدادي الذي وضعه محمد علي بإخضاع
الجميع لسلطته والسيطرة على مقاليد الحكم .أما بخصوص المؤسسة العسكرية فلقد أبدى
اهتماما بالغا بتحسين وضع الجيش وبناء مؤسسة عسكرية حديثة "فشيد أول مدرسة إعدادية
في "أسوان" عام ()1815إلعداد وتجهيز جيش مصري متدرب على أحدث األنظمة واآلالت
العسكرية 3".وظهر هذا االهتمام لمحمد علي بالمؤسسة العسكرية حين قام ببناء مدرسة
مهمتها إعداد الجند وفق المعايير األوربية الغربية الحديثة وإنشاء مدرسة للمدفعية تعلم فيها
الهندسة ،كما قام محمد علي ببناء أسطول حربي يتمكن من خالله بناء حصن منيع يرد به
أما في الميدان التعليمي والثقافي فلم يدخر محمد علي جهدا من خالل "سن قانون نشر العلم
بين المصريين كافة وجعله مجانيا في المدارس والمؤسسات التعليمية سواء في االبتدائية أو
الثانوية أو العليا من دون تمييز بين فقير وغني أو كادح وإقطاعي وإضافة إلى ما كانت
تنفقه حكومته على طالبها من أموال وما قدمته لهم من عناية في شؤونهم الخاصة
لقد أثمرت سياسة محمد علي في النهوض بالثقافة والفكر في مصر والتي تبنى فيها
االتصال بالغرب مباشرة عن طريق إرسال البعثات إلى أوربا لكي تحتك بالجامعات والمعاهد
هناك ،وتعود لمصر مرة أخرى من أجل التعليم والتكوين فيها ونقل صورة أوضح عن
الحضارة األوربية ،ولقد وصلت تلك البعثات إلى أوربا عبر دفعات تضم عددا من الطالب
والدارسين الذين أصابهم عند نزولهم في موانئ أوربا ما أصاب المجتمعات العربية لحظة
التقائها بالحضارة الغربية أثناء الحملة الفرنسية ،وكان من بين هؤالء الذين فتنوا بالواقع
الغربي مجموعة من رواد النهضة مثلوا الفكر العربي اإلسالمي لوقت طويل بداية برفاعة
الطهطاوي وخير الدين التونسي كرواد للمذهب الليبيرالي في مصر ثم جمال الدين األفغاني
ومحمد عبده كرواد لالتجاه اإلصالحي الديني ،وبمجرد ذكر التيارين السابقين يتبادر للمتلقي
كانت في طليعة البعثات تلك التي وجهها محمد علي إليطاليا بهدف دراسة فنون العلوم
العسكرية والهندسة وبعثات أخرى قصدت فرنسا من أجل دراسة مختلف العلوم هناك .ولقد
كانت هذه البعثات أحد أهم العوامل التي ساهمت في التعرف على الحضارة الغربية من
71
خالل مالمستها والتردد على مقاعد الجامعات والمعاهد هناك ومن خالل معايشة التفاعل
الحاصل فيها والوقوف على مختلف الحيثيات التي دفعت بوتيرة التقدم الحضاري هناك وكان
من بين هؤالء النخبة التي اتصلت بهذا الواقع مباشرة رفاعة الطهطاوي والذي أصبح فيما
بعد أحد أهم رواد النهضة العربية اإلسالمية في مصر ( )1873-1801فهو" أول شخصية
معروفة دافعت عن التيار العلماني في العالم العربي وقد سافر مع أول بعثة دراسية أرسلها
محمد علي باشا إلى فرنسا كإمام جماعة لكنه واصل بجد واجتهاد دراسته هناك واستطاع أن
يتقن اللغة الفرنسية ،تأثر الطهطاوي كثي ار بعصر التنوير في فرنسا وبدأ يدرس بعض
المفاهيم من قبيل ضرورة مشاركة الشعب في الحكم...وتغيير القوانين في ضوء تغيير
الظروف الزمانية والمكانية والتربية على أن حب الوطن أساس الفضائل السياسية 1".إذ أن
اجتهد الطهطاوي كثي ار في طريقه الذي اختاره من أجل النهوض بالواقع العربي اإلسالمي
من 2خالل مالزمة المعاهد األوربية والنهل من مشاربها الفكرية والعلمية المختلفة التي استفاد
منها كثي ار وفتحت له أفقا واسعا يشبع فيه كل شغفه العلمي فأصبحت لديه " نظرة واعية
مدركة لمعايير األخذ والرفض دفعته إلى محاولة فهمها فهما معرفيا أمكنه من تقديم صياغة
حضارية ألسلوب التعامل يتفق مع إسالمه الذي يعتز به والذي آل على نفسه أال يستحسن
إال ما لم يخالفه»ومن المعلوم أني ال أستحسن إال من يخالف نص الشريعة اإلسالمية على
صاحبها أفضل الصالة وأشرف التحية "".فلقد ظهرت على الطهطاوي أثناء تواجده بفرنسا
واتصاله بالحضارة الغربية أنه قد تأثر كثي ار بأدوات الحضارة الغربية هناك ومظاهرها رغم
انتمائه اإلسالمي محاوال خلق توافق بين عقيدته وتراثه اإلسالمي العربي والرصيد الغربي
األوربي ولقد اكتسب كفاءات مهمة أثناء رحلته إلى فرنسا مكنته من نقلها وإسقاطها على
الواقع اإلسالمي العربي فدعا إلى " االنفتاح على أوربا في علوم التمدن المدني فكتب يقول
"إن مخالطة األعراب السيما إن كانوا من أولي األلباب تجلب لألوطان المنافع العمومية
والبالد االفرنجية مشحونة بأنواع المعارف واآلداب التي ال ينكر إنسان أنها تجلب األنس
وتزين العمران فهم يعرفون التوفير وتدبير المصاريف حتى أنهم دونوه وجعلوه علما 3".وهذا
-1حبيب هللا بابائي ،رضا خراساني ،الحضارة والحداثة في الفكر العربي المعاصر ،ص.165
-2عصام السيد محمود ،منهج رفاعة الطهطاوي ومدرسته في االصالح بين األصول االسالمية و األفكار العلمانية ،مكتبة
دار الحكمة مصر ،دط-دس،ص.1،2
-3محمد ،عمارة ،شخصيات لها تاريخ ،دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة ،ط،1،2008ص.154
72
فعال ما يدل على تأثر الطهطاوي بالحضارة الغربية ومظاهرها فلقد اهتم بمالحظة كل ما
تقدمه التصورات الفرنسية في مختلف المجاالت وظهر أيضا تأثره بنظرية فصل السلطات
لمونتسكيو وبنظرية روسو في العقد االجتماعي ،كما ال يخفي إعجابه بكل االنجازات
والفتوحات التي حققها المفكرون واألدباء والفالسفة األوربيين ،غير أن الطهطاوي كان
حريصا على أن "ال تتعارض أفكاره الجديدة مع مبادئ الدين ،من هنا فإن ما يميز نهجه
الفكري هو سعيه للتوفيق بين حب وإيمان المسلم وكنتيجة لما شاهده في حياة األوربيين كان
يرى أن الحل الوحيد لمصر للخروج من جميع مشكالتها الداخلية والخارجية هو االقتباس من
الحضارة الغربية" 1باالغتراف من أفكارها ومما وصلت إليه الثورة الفرنسية التي نادت
بالمبادئ الثالثة الحرية والمساواة واإلخاء للتأسيس للديمقراطية استطاعت تحقيق التطور
والرقي ،غير أن الطهطاوي يؤكد على أن هذا ال يتم إال بوضع إطار دستوري مثلما فعل
األوربيون إ ْذ به يمكن تحقيق دولة مدنية جديدة يسودها األمن المدني واالستقرار السياسي
واالجتماعي والتقدم االقتصادي .وهنا تظهر لمسات نظرية جون جاك روسو في العقد
االجتماعي التي اعجب بها وتبناها رفاعة الطهطاوي في التأسيس لمشروعه النهضوي في
مصر منطلقا في ذلك من وضع أربع عوامل مهمة هي بمثابة دعائم أساسية لبناء النهضة
العربية اإلسالمية وهي :العدالة والحرية والتربية والمواطنة.
لقد أعطى الطهطاوي أهمية بالغة لهذا العامل حيث جعله نقطة االنطالق رئيسية لقيام
النهضة إ ْذ" نبه أمته إلى مكانة الحرية في التمدن والعمران وإلى مميزات النظم الدستورية
المقيدة سلطات حكومتها بالقانون ...ألن الحرية[كما قال ] هي الوسيلة العظمى في اسعاد
أهالي المماليك...فإذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كان واسطة عظمى في
راحة األهالي وإسعادهم في بالدهم وكانت سببا في حثهم ألوطانهم2".ومن خالل اعتماد
الطهطاوي لمبدأ الحرية ودراسته لها ولطبيعتها قام بتقسيمها لخمسة أقسام هي" :الحرية
الطبيعية وهي التي خلقت مع االنسان[...ومنها]الحرية السلوكية التي هي حسن السلوك
-1حبيب هللا بابائي ،رضا خواساني ،الحضارة والحداثة في الفكر العربي المعاصر ،مرجع سابق ،ص.166
-2محمد عمارة ،شخصيات لها تاريخ ،المرجع السابق ،ص.154
73
ومكارم األخالق[...ومنها]الحرية الدينية وهي حرية العقيدة والرأي والمذهب [ومنها]الحرية
السياسية أي الدولية وهي تأمين الدولة لكل أحد أهاليها على أمالكه الشرعية المرعية واحراء
حريته الطبيعية 1".والمالحظ أن رفاعة الطهطاوي ركز كثي ار على مبدأ الحرية وخصها
باهتمام كبير في إطار حدود الشرع طبعا وخاصة الحرية السياسية التي أكد عليها كونها
العامل الحساس الذي تبنى عليه النهضة وهي الكافل األمثل لحقوق الجماعات واألفراد على
حد السواء من خالل تفعيل مبدأ المساواة بين الرئيس والمرؤوس وبين كافة الشعب األمر
الذي سيرسي العدالة االجتماعية في الدولة وسيحقق الديمقراطية التي حققتها الثورة الفرنسية
بالتركيز على الحرية والسلم والتعايش ،وهذا المناخ العام هو الذي يهيئ األجواء للعقل والفكر
لكي ينتج ويبدع في مختلف المجاالت االقتصادية والسياسية واالجتماعية والثقافية واألدبية
ويؤكد الطهطاوي أن هذه األدوات ال تتعارض مع الدين بل أصر وألح على "االستفادة من
ثورة أوربا في التشريع والتقنين وأن ال يصدنا عن هذه االستفادة وهو الذين يتوهمون تعارض
هذه الثورة التشريعية مع أصول شريعتنا اإلسالمية فعند الطهطاوي أن أوربا أخذت الكثير من
الشرق اإلسالمي ...ذلك» أن الذي جاء به اإلسالم من األصول واألحكام هو الذي مدن
بالد الدنيا على اإلطالق « ومن ثم فإن العالقة وثيقة بين ثورة أوربا التشريعية وبين األصول
واألحكام التي استقرت في شريعتنا اإلسالمية ...لكنه في الوقت ذاته يدعو أن نكون نحن
من نستفيد من هذه الثورة التشريعية حتى نميز ما هو مفيد وضروري ومناسب لنهجنا
الحضاري2".وأكد الطهطاوي أن الكثير من التصورات الغربية ال تتعارض مع الدين
اإلسالمي ،رأى أن الكثير منها نجد أصوله في تراثنا اإلسالمي ،فإنه قام بوضع مقاربة بين
التراث الغربي األوربي والتراث العربي اإلسالمي ،ولم يتردد في إسقاط النماذج الغربية على
المجتمع العربي فما نادت به الثورة الفرنسية من عدالة وحرية واخاء ومساواة ال يتعارض
نهائيا مع الدين بل وموجودة وحث عليها النص القرآني والسنة النبوية كقوله تعالى في األمر
اع ِدُلوا ُه َو أ ْق َر ُب للت َقوى ﴿3 ﴾.يَا َد ُ
او ُد إ ِ َّنا ِ
بالعدل﴿ ال َي ْج ِرَمّن ُك ْم َش ُ
نآن َق ْو ٍم أَ ْن ال تَ ْعدُلوا ْ
-1عمارة محمد ،رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث ،دار الشروق القاهرة مصر،ط،3،2007ص.265
- 2د .عمارة محمد ،رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث ،دار الشروق القاهرة
مصر،ط،3،2007ص.250،251
3ـ سورة المائدة ،آية .8
74
ق َو ََل تَتَّ ِب ِع ْال َه َوى﴾1وفي الحرية قوله تعالى
اس ِب ْال َح ِّ ِ
ض َفا ْح ُك ْم َبيْنَ ال َّن ِ َجع َ ْلنَاكَ َخ ِلي َفة فِي ْ َ
اْل ْر ِ
هم ِب ُم َس ْي ِطر ﴾ 3وما جاء أيضا في َ ﴿ :من شَاءَ َفليُؤْ ِمن َو َمن شَاءَ َفليَكف ْر﴾ ﴿ َل ْس َت َع ْلي ْ
2 ْ ُْ ْ
حديث الرسول صلى هللا عليه وسلم َ »:ل َف ْرقَ بَ ْينَ عَ َربي َوَل َأ ْعجمي َوَل أ ْب َ
يض وَل أ ْس َود
الم ْش ِط« 5ومن خالل الجملة الشهيرة للخليفة عمر ُ ِ
نان أس
ْ كَ ية اسَل ب ِالتقوى »4« .الناس سو ِ
َ ُ َ
إ ِّ
ابن الخطاب رضي هللا عنه »:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح اررا « .وغيرها
من النصوص القرآنية والنبوية وحتى من الصحابة التي دعت وأمرت بهذه المبادئ وسعت
لترسينها في المجتمع العربي اإلسالمي األول ،ولقد سار على نهجهم التابعين إال أنها
ُه ِمشت وأ ُِولت ألغراض إيديولوجية في مراحل تاريخية معينة بهدف رعاية المصالح
وروجت لنصوص لم تنقل أبدا عن الرسول صلى هللا عليه وسلم ولم ترد عنه،والمناصب ّ
وبمثل تلك األساليب تأصل القمع والظلم واالستبداد في المجتمعات العربية اإلسالمية وغيبت
الحرية والعدالة والمساواة وسيج العقل العربي اإلسالمي -كما يرى محمد أركون -
بالدغمائية وجعلته منحصر على ذاته وعطل أداؤه وبهذا تم تغييبه وصرفه عن التطور
والرقي واإلبداع وهذا ما انتبه له الطهطاوي حين نادى للوقوف في وجه االستبداد الذي شوه
التاريخ العربي اإلسالمي لقرون وحث على ترسيخ "نمط الديمقراطية الليبيرالية سبيال لتنظيم
المجتمع المصري خاصة والشرقي بوجه عام...ويهاجم الطهطاوي مذهب الذين يريدون أن
يكون الفكر السياسي وممارسته حك ار لطبقة أو فئة من الناس دون أبناء الشعب ...ويدعوا
إلى تعليم مبادئ السياسة لكل أبناء الشعب في المدن والقرى6".ومنه نستنتج أن الطهطاوي
تصور جديدا للحكم ودعا لترك التصورات القديمة له التي جسدت الطبقية والنظرة
ا قدم
األحادية وأكد على ضرورة اجتثاث جذور هذه األنظمة من المجتمعات العربية اإلسالمية
واستبدالها بأنظمة حديثة تعطي الحق للمواطن في ممارسة السلطة أو اعتالء مناصب
سامية ،كما يسمح للشعوب باختيار رؤسائها وعزلهم بكل حرية حين يستبدون عليهم "فإن
لقد تبنى الطهطاوي شعار المواطنة ودعا لحب األوطان وجعله من صميم اإليمان حتى
يتمكن العالم العربي اإلسالمي من تجسيد األخوة والثقافة والتعايش والتسامح وتقبل اآلخر
على اختالف عقيدته الدينية ليكون الوالء للوطن وحده .
فيم يخص أعمال الطهطاوي في الميدان التربوي والتعليمي فقد اعتبر أن التربية واألخالق
هي أساس النهضة والتقدم الحضاري وهي التي تساهم في غرس روح المواطنة في األجيال
الصاعدة وتنمي عاطفة الفرد اتجاه وطنه واتجاه غيره " فالطهطاوي كان داعية إلى تعميم
التعليم باعتباره ضرورة إنسانية كالخبز والماء !وإلى تأسيس التمدن والتقدم على التربية التي
تنمي الجسد والروح واألخالق على السواء "فاألمة التي تتقدم فيها التربية بحسب مقتضيات
أحوالها يتقدم فيها أيضا التقدم والتمدن ...بخالف األمة القاصرة التربية فإن تمدنها يتأخر
بقدر تأخر تربيتها...فالتربية هي أساس االنتفاع بأبناء الوطن...والتعليم األولي ضروري
لسائر الناس...والتعليم العالي في تمدين جمهور األمة وترقيتها في الحضارة والعمران3".فكل
المعطيات العلمية والمعرفية والتربوية واالنفتاح على اآلخر والبحث في مختلف المجاالت
-1حمد الغزالي ،أزمة الشورى في المجتمعات العربية اإلسالمية ،مؤسسة عالم األفكار ،المحمدية،ط،1،2006ص.71
-2محمد عمارة ،شخصيات لها تاريخ ،المرجع سابق،ص.157
-3المرجع نفسه،ص.160
76
الفكرية والفلسفية على اختالف مناهجها وطبيعتها ومصادرها هي التي ستقود األمة العربية
اإلسالمية لنهضة قوية ،ورؤية الطهطاوي لم تكن من فراغ أومن طرح مجرد بل كانت
وتردد كثير على مختلف ميادين
جسدها المفكر من خالل رحلة طويلة ّ
خالصة تجربة عميقة ّ
الحضارة ا لغربية بها ومن خالل اجتهاد كبير في مالحظة وتحليل الواقع الغربي ليتمكن في
األخير من بلورة طرح يتوافق وما يتميز به المجتمع العربي اإلسالمي وليس هذا فقط بل
وأيضا تمكن الطهطاوي من اكتشاف اللمسة اإلسالمية في الحضارة الغربية ونقلها لبالده
لمواجهة واقعه بها حتى يرفع الحرج عنه ويزيل التردد في اإلقدام على الفكر الغربي األوربي.
أما خير الدين التونسي فقد شخص المستوى الحضاري الراقي والتطور المرموق الذين كان
العالم اإلسالمي العربي عليه يوم كانت أوربا غارقة في ظلمات القرون الوسطى ولقد حز في
نفسه التدهور الذي آلت إليه الحضارة اإلسالمية خاصة في المجال السياسي وهذا ما أرقه
كثي ار وجعله يصب اهتمامه على " كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث
دون أن يتخلوا عن دينهم 1".منهمكا في عمله كان جل اهتمامه يتمحور في كيفية النهوض
باألمة اإلسالمية العربية واألخذ بيدها نحو التطور متأث ار بتواجده في فرنسا ومعايشته
للحضارة بها ووقوفه على مختلف المظاهر الحضارية التي ميزت الواقع األوربي وفي المقابل
عندما كان يلتفت للواقع العربي اإلسالمي يرى االختالف العميق الذي يستوقفه في كل حين
ليتأسف عليه جراء التخلف والتراجع الذي ارتسم به الواقع العربي اإلسالمي" وهنا استطاع
التونسي أن يقارن أوضاع بالده وما كانت عليه فرنسا من تقدم لذلك عقد العزم على تحديث
بالده والنهوض بها على غرار النموذج الفرنسي داعيا إلى االستفادة من ثقافة الغرب
ونهضته كما فعل(الطهطاوي)في مصر وقد دون (خير الدين التونسي)أفكاره اإلصالحية في
كتابه الشهير(أقوم المسالك في معرفة أقوال الممالك)الذي جمع مادته أثناء إقامته في
أوربا2".بداية خير الدين لم تختلف عمن سبقوه في هذا الصدد،اذ انطلق ببحثه عن الطريقة
المثلى والمخرج األنسب الذي يتبناه المجتمع العربي اإلسالمي للخروج من وضعه المزري
-1ألبرت حوراني ،الفكر العربي في عصر النهضة ،نوفل دمغة الناشر هاشيت أنطوان ،بيروت لبنان ط،1
،1997ص.104
-2عزمي زكريا أبو العز ،الفكر العربي الحديث والمعاصر ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ،عمان،ط،1،2012
ص.34
77
وواقعه المتردي إلى التقدم واالزدهار ومن ظالم الجهل إلى نور العلم والفكر ،فاإلشكال الذي
تردد في ذهن خير الدين هو نفسه الذي راود الطهطاوي لفترة كبيرة من الزمن عن طبيعة
التقدم واالزدهار األوربي وطبيعة التخلف والركود اإلسالمي العربي .هذا االستفسار الذي بنى
عليه خير الدين إصالحاته الالحقة كلها تماما مثل الطهطاوي الذي كانت إجاباته عن هذا
اإلشكال هي جوهر الفكر اإلصالحي الذي أسس للنهضة العربية اإلسالمية حيث رأى خير
الدين"أن السبيل الوحيد في عصر الحاضر لتقوية الدولة اإلسالمية إنما هو في اقتباس
األفكار والمؤسسات عن أوربا وإقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفا للشريعة بل
منسجما مع روحها1".وغير متباين معها بل يتفق مع ما تدعو إليه من عدالة ومساواة وإخاء
وطلب للعلم ،فالعلم ال ينحصر في انتماء عرقي أوديني أو جنسي وهو شامل لكل البشرية،
وما دام ال يخالف الشرع فيمكن للمسلمين االنفتاح على غيرهم واألخذ منهم ومما وصلوا إليه
في مختلف المجاالت لالستفادة منهم ومن انتاجاتهم الفكرية وهذا ما دعت إليه اآلية الكريمة
حث علىفي قوله تعالى ﴿ ِا ْق َ ْأر ِبا ْس ِم َرّب َك﴾ ويدخل أيضا في مجال الدين اإلسالمي الذي ّ
2
طلب العلم أينما وجد .ولقد عكس موقف خير الدين هذا إعجابه الكبير بما توصل إليه
الغرب ،وما تبلورت فيهمن فتوحات علمية واقتصادية وسياسية وفكرية وتربوية ،األمر الذي
توج أوربا في صدارة األمم ولقد استلهم منها خير الدين شغف أهلها للحرية والتغيير والتقدم
وأراد أن يجسد رؤيته على الواقع العربي اإلسالمي من خالل عدة إصالحات أهمها:
لقد اعتبر خير الدين أن أحسن انطالقة لإلصالح تكون بإصالح الوضع السياسي
إلعجابه البالغ بالتنظيمات السياسية التي عايشها أثناء تواجده بفرنسا والتي رأى أنها الحل
األمثل للخروج بالواقع العربي اإلسالمي من التخلف والركود،كما اعتبر السياسة هي اإلطار
الصحيح الذي يضمن انسجام جميع العوامل المساهمة في النهضة ألن التنظيمات السياسية
هي " السبب في تقدم األوربيين في المعارف ...وهذه التنظيمات البد أن تكون مؤسسة على
د .ألبرت حوراني ،الفكر العربي في عصر النهضة ،نوفل دمغة الناشر هاشيت أنطوان ،بيروت لبنان ط،1
،1997ص-1.98
-2سورة العلق،االية()1
78
العدل والحرية ...ولذلك أدان التونسي االستبداد بالسلطة وحكم الفرد ودعا إلى إحياء
هيئة» أهل الحل والعقد « اإلسالمية]9[...تكون المجالس النيابية باالنتخاب العام...وألح
على ضرورة تقييد جهاز الدولة بالقوانين سواء منها تلك التي تنظم عالقة الرعية بالدولة أو
العالقة بين المواطنين1".فقد أثرت مخالطته للفكر األوربي الميال للحرية السياسية التي
تكتنف فضاءه العام فلم يرد أن يترك تلك األجواء الدافئة دون أن ينقل صورتها إلى تونس
وإلى كل البالد العربية اإلسالمية حتى تتمكن من إرساء نظام سياسي مبني على الحريات
وقمع االستبداد وإزاحة العقلية التي راجت في تاريخ العالم اإلسالمي العربي التي تسند فيها
السلطة لحاكم وال تنتزع منه مهما فعل ولهذا " طالب بأن تكون مباشرة الحكم التنفيذي من
اختصاص الوزراء ال الحاكم األعلى 2".ليضع حدودا لسلطة الحاكم ويطرح رؤية جديدة
للدولة الحديثة دولة مؤسسات وليس دولة أفراد وهذا ال يتحقق إال بإرساء تنظيمات سياسية
ت رنو إلى "تحقيق العمران للبالد وأساس هذا العمران هو العدل أي الحرية السياسية للمواطنين
...كما أن اتساع نطاق المعارف في المجتمع إنما يرجع كذلك إلى اتساع نطاق الحرية
...وإذا كانت الحرية الشخصية ضرورية ليتصرف االنسان في ذاته وكسبه وهو آمن على
نفسه وعرضه وماله مطمئن إلى تساوي الرعية في توجيه سياسة الدولة كي تأتي على وفق
المصلحة العامة للمجموع 3".هنا تتجلى بوضوح مبادئ الثورة الفرنسية التي قامت عليها
والمبادئ الليبيرالية التي تهدف لتحقيق المصالح العامة والتي تأثر بها خير الدين وبتنظيماتها
وبدستورها ،ولقد دعا إليها خير الدين وأكد على أن يتم ذلك بأيدي النخبة التي تضعها
الشعوب وهي نفسها ذلك التصور الذي نجده عند أفالطون في تأسيس الجمهورية التي
تحكمها النخبة أي الفالسفة ،ويذهب التونسي في إصالحه السياسي إلى أبعد من ذلك عندما
طالب بتأسيس المجلس الشوري المنتخب الذي يرأسه الكفاءات العلمية وذوي الخبرة الكبيرة
وطالب أيضا بفصل السلطات الثالث التشريعية والتنفيذية والقضائية ونبه إلى فتح الباب أمام
المشاركين في العملية السياسية ودعا إليها علماء الدين لتوضيح الحدود الدينية أمام الدستور
الجديد لتكيفها وفق العقيدة إضافة للفصل في قضايا لم ترد في النصوص القرآنية صراحة
-5اإلصالحات االقتصادية:
الزال خير الدين يؤكد أن الحضارة الغربية وما حققته من تطور وازدهار اقتصادي ما هو
في الحقيقة سوى نتيجة للنظام السياسي فلقد وحد خير الدين "الحرية السياسية بالحرية
االقتصادية ...كما ارتبط نمو المعارف بنمو الصنائع األمر الذي يثمره زيادة األنشطة الحرة
في الميادين االقتصادية ،فالرخاء ال يتحقق بالخصوبة وتوافر اإلمكانات المادية وحدها وإنما
الحرية االقتصادية التي تجعل أرباب النشاط االقتصادي واالستثمار المالي آمنين على
ثرواتهم وأموالهم 2".ألن األنظمة السياسية التي تبنى على إرساء العدالة االجتماعية تنشأ من
خالل المساواة والحرية ،فهذه األنظمة هي التي ترعى هذا الفضاء اآلمن المستقر وتحميه،
ومنه ينبثق اإلنتاج االقتصادي ويزدهر ويعم على غرار كل المجاالت األخرى الفكرية
والتربوية والثقافية .
فيه لقد ظهر دعاة اإلصالح في الوطن العربي اإلسالمي نتيجة لتردي األوضاع
مقابل التحضر الغربي من أجل النهوض باألمة وتغيير أحوالها وكان أحد أعالم هذا
اإلصالح زعيم الفكر اإلسالمي جمال الدين األفغاني ()1879-1839الذي ذكره مالك بن
نبي في مقولته الشهيرة" ولكن شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها وسرعان ما انبلج الفجر
في األفق الذي يدعوا فيه المؤذن إلى الفالح كل صباح ففي هدأة الليل وفي سبات األمة
اإلسالمية العميق انبعث من بالد األفغان صوت ينادي بفجر جديد صوت ينادي حيا على
الفالح فكان رجعه في كل مكان إنه صوت (جمال الدين األفغاني) موقظ هذه األمة إلى
-1ملك بن نبي ،شروط النهضة ،دار الوعي للنشر والتوزيع ،الجزائر ،ط،11،2012ص.23
-2محمد أمان الصافي ،تأثير فكر األفغاني في فلسفة إقبال ،الفاروق الحديث للطباعة والنشر ،القاهرة
،ط،1،1995ص.26
-3صالح الشقير ،الحضور الفلسفي في الفكر العربي الحديث ،ملخص ،ص ،12مجلة جامعة دمشق،ج،26العدد
األول+الثاني2010،
82
اإلسالم بالحضارة األخرى 1.كما حث على التخلص من األفكار الزائفة التي غيرت المفهوم
الحضاري لإلسالم إلى مجرد طقوس وشعائر تقام ،ودعا إلى نبذ التقليد األعمى وفتح باب
االجتهاد من أجل االنفتاح على الحضارات األخرى الجتناب االنغالق على الذات الذي أدى
باألمة اإلسالمية إلى الركود والتخلف والتقليد األعمى" كان األفغاني يكره التقليد وينفر منه
إتباعهم لنظريات غيرهم دون تمحيص أو تدقيق فكان ...يأخذ وينعي على المقلدين
باألحسن من األقوال قول بعض العلماء من المتأخرين من أن باب االجتهاد من عند أهل
السنة مسدود لتعذر الوفاء بشروطه الصعبة التي وضعوها وقيدوه بها بحيث يكاد يستحيل
توافرها في فرد واحد من أفراد األمة عند سماعه لمثل هذه األقوال يشتد غضبه ويقول» ما
معنى باب االجتهاد مسدود وبأي نص سد؟« األمر الذي دفع باألفغاني لمناشدة المسلمين
وخصوصا الفقهاء والعلماء بإعادة النظر في االجتهاد الذي أعاق العقل اإلسالمي وأسره
وجعله منغلقا على ذاته مصابا بالجمود الفكري والتعصب واالستبداد والتفرقة ،وطالب جمال
الدين بتجديد المناهج التربوية في المدارس والمعاهد وفي المقدمة جامعة األزهر وبهذا يقوم
األفغاني بوضع العقل كأساس لفهم النصوص وتفسيرها وفق الظروف والمعطيات
الراهنة".وهذا الموقف لجمال الدين األفغاني نابع من إيمانه القوي بالعقل الذي وضع هللا
وأبدعه في االنسان وسخر له تلك القدرات الفكرية والعقلية واإلمكانات الهائلة التي ال توجد
في غيره من الكائنات وهذا هو المعنى الحقيقي لثورة جمال الدين األفغاني العقلية والعلمية
األصلية التي ثارها على الجمود والخمول والتقليد وعلى الذبول والفتور 2".والدين اإلسالمي
ال يعارض العقل بل يدعو الستعماله في كشف قوانين الطبيعة ومعرفة الغموض الذي يعتري
الكون كما يدعو الستعمال العقل أيضا في تفسير الدين والنصوص القرآنية التي تقدم
مصالح العباد ،ويمكن فهمه حسب السياق التاريخي واالجتماعي بفضل االجتهاد لذلك
نستطيع الجزم أن جمال الدين األفغاني أراد بتصوره أن " يدعو إلى التجديد في الدين
وتطهيره من البدع وفهمه فهما صحيحا يتالءم مع روح العصر وذلك ألهمية تأثيره العميق
في الفرد والمجتمع وكانت دعوته اإلصالحية تقوم على الدين والعقل معا ومن هنا كانت
-1محمد عمارة ،الوسيط في المذاهب والمصطلحات االسالمية ،نهضة مصر للنشر والطباعة والتوزيع،القاهرة
،دط،2000،ص.186
-2د :محمد أمان الصافي ،المرجع السابق ،ص.65
83
لدعوته أبلغ األثر وأكبره في نهضة الشعوب اإلسالمية1".فالرؤية التي تبناها األفغاني تمثلت
في إعادة فهم الدين فهما صحيحا بإقناع الشعوب اإلسالمية باإليمان الصحيح وتطبيق
التعاليم الشرعية باالهتمام ومالزمة القرآن والسنة لتحقيق التقدم والحضارة واالزدهار وتقوية
األمة اإلسالمية "فاألفغاني يعتقد أن الدولة األوربية لم تكن بالفطرة أقوى من الدولة
اإلسالمية وأن الفكرة السائدة عن تفوق انجلت ار على غيرها لم تكن سوى وهم ووهم خطير من
شأنه ككل وهم أن يجعل الناس جبناء فيجر عليهم ما يخشون وقوعه 2".فهو يؤكد أن أوربا
حققت الحضارة والتقدم بواسطة العلم والمعرفة وفي المقابل الشعوب اإلسالمية لم تستطع
تحقيق ذلك بسبب السياج المغلق الذي فرضته الشعوب اإلسالمية على نفسها وعدم
االحتكاك باآلخر خوفا من التحريم الناتج عن قصور في فهم الدين وعدم المحاولة في ذلك
وفي هذا الشأن يقول أن " الذين يحرمون العلم والمعرفة معتقدين بذلك أنهم يصونون الدين
اإلسالمي هم في الواقع أعداء ذلك الدين ،إن الدين اإلسالمي هو أقرب األديان إلى العلم
3
والمعرفة وليس هناك أي تعارض بين الدين والعلم والمعرفة وبين أسس العقيدة اإلسالمية".
يدعوا إليه وإلى طلب العلم ومعرفة خبايا الكون ﴿ُق ْل أي أن القرآن ال يعارض البحث بل
ف َب َدأَ
اْل َخْل َق4 "﴾.كما يحث جمال الدين األفغاني من جهة ظروا َك ْي َ سيروا في األَْر ِ
ض َف ْان ُ ُ
أخرى على الحرية الفردية والحرية الجماعية من خالل تحرير األمة من التصورات التقليدية
التي أسرت وأعاقت الحضارة اإلسالمية بواسطة فكرة القضاء والقدر التي لم يحسن فهمها،
فأخضعت العقل العربي لسياسة األمر الواقع وتركته منزوع اإلرادة أعزل يحيا االغتراب عن
ذاته وعن اآلخر وغيبته تماما عن واقعه وعن وجوده وماضيه ،وإيمانا منه بفكرة القضاء
والقدر استسلم بمحض إرادته لالستعمار واالستبداد الذي خرب العمران وأعاق التطور ،ومن
أجل هذا أكد األفغاني على تحرير إرادة األمة اإلسالمية وتأصيلها على رفض العبودية بكل
أشكالها والسعي إلى الوقوف في وجهها ألنها هي العامل الرئيسي لتأخر النهضة اإلسالمية
وهي سبب ابتعاد األمة عن دينها وعقيدتها اإلسالمية وجعلها حبيسة التقليد األعمى والجهل
تحن ألي ابتكار أو بحث بسبب الحكم القائم على التصور
والركود ال تقدم أي إبداع وال ّ
-1محمد عمارة ،جمال الدين األفغاني موقظ الشرق وفيلسوف االسالم ،المرجع السابق ،ص.173،174
-2محمد ،أمان الصافي ،المرجع السابق،ص.42
-3المرجع نفسه ،ص.41
85
التنظيم السياسي للعالم اإلسالمي لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته ما أصاب مجتمعه
من عفونة وفساد 1".ناهيك عم تركه لألمة اإلسالمية من " انجازاته الفكرية والسياسية
...ففيها ربى نخبة من العقول التي جددت فكر اإلسالم وحياة المسلمين وفي مقدمتهم
األستاذ اإلمام الشيخ محمد عبده...وشرح من كتب الفلسفة والكالم والمنطق وأعاد للحياة
الفكرية قسمة العقائدية اإلسالمية التي غابت منذ عصر التراجع الحضاري للمسلمين ونشأت
على يديه مدرسة في الصحافة األهلية الحرة غير حكومية...وتيار شعبي لمعارضة االستبداد
الداخلي وللثورة على النفوذ األجنبي االقتصادي والسياسي والعسكري كما عرفت البالد على
2
يديه طالئع التنظيمات السياسية واإلصالحية".
كنتيجة لما سبق نستطيع أن نلتمس صورة وملمحا عن الرؤية اإلصالحية للمفكر الكبير
جمال الدين األفغاني التي تعددت جوانبها في المجتمع اإلسالمي ،إال أن اللب الذي أسس
النهضة واطلع إليها مفكرنا وأقرها في الرجوع إلى الكتاب القرآني والسنة النبوية الشريفة
واستعمال العقل في تفسير تعاليم الشرع وإبعاد التصورات الخاطئة التي علقت بالمجتمع
اإلسالمي كما وضح أيضا عنصر الحرية التي نادى بها واعتبرها عامال مهما لتحقيق
النهضة .
ب-محمد عبده
لقد شهدت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بروز أحد أعالم اإلصالح
اإلسالمي الحديث وأحد أهم دعاة التجديد والتنوير وهو الشيخ محمد عبده(1849م1266-م)
إ ْذ يعتبر من أكبر رواد الحركة الفكرية اإلسالمية التي سعت إلى التحرر من جميع أنواع
االستعمار،ففي أعماله إيقاظ العقل العربي اإلسالمي وتحريره حتى يقوده للعلم والمعرفة
ونفض غبار الجهل والتخلف من أجل النهوض والتقدم واسترجاع أنفاس األمة العربية
اإلسالمية لبعثها من جديد ،منطلقا من فكرة أساسية تتبلور فيها مختلف الرؤى والتصورات
والتي علل من خاللها الشيخ محمد عبده مظاهر الواقع اإلسالمي العربي من جهل وتخلف
-1ملك بن نبي ،وجهة العالم االسالمي ،ج،1ت :عبد الصبور شهين ،دار الوعي للنشر والتوزيع ،الجزائر
،ط،1،2013ص.51،52
-2محمد عمارة ،جمال الدين األفغاني موقظ الشرق وفيلسوف االسالم ،المرجع السابق ،ص.174،175
86
واستعمار وردها إلى ابتعاد المسلمين عن اإلسالم الحقيقي األمر الذي جعل محمد عبده "
شديد الحسم والوضوح أن اإلسالم هو "السبيل لإلصالح" وهو الحل لمشكالت كل العصور
في كل المجتمعات وفي مواجهة التيارات الفكرية الغربية والمتغربة التي بشرت بالنموذج
الغربي العلماني سبيال للنهضة وقف اإلمام محمد عبده مدافعا عن" الحل اإلسالمي" الذي
هو الطريق الطبيعي لتقدم المجتمعات اإلسالمية 1".فال يمكن تحقيق النهضة إال بالعودة إلى
القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإزالة الشوائب التي علقت بالعقيدة من خرافات عكست
وجها غير صحيح عن اإلسالم ،وبما أن اإلمام محمد عبده كان طالبا في األزهر متمي از
بمعرفة كبيرة لتعاليم العقيدة اإلسالمية ومطلعا على ثقافة الغرب األوربي وملما بجوانبها
الفكرية وانتاجاتها المختلفة ،فقد بدأ الشيخ محمد عبده في إصالحاته بجامعة األزهر كونها
كانت تشكل قبلة المسلمين ومرجعهم العلمي فطالب جامعة األزهر بإعادة النظر في المناهج
التربوية والعلمية وضرورة إدخال مواد أخرى كالفلسفة واللغات األجنبية والتاريخ في التعليم
في األزهر ألنه كان يقتصر على العلوم الدينية القديمة والتفسيرات التقليدية الجافة الجامدة
فدعا لتغيير أسلوب الشرح باعتماد العقل ومسايرة العصر والواقع "فعلى المسلمين اليوم في
نظر محمد عبده أن يقوموا بما كان عليهم القيام به دوما :إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقا
لمتطلبات الحياة الحديثة ولبلوغ هذه الغاية البد من االهتداء ...مبدأ المصلحة ...ومبدأ
التلفيق 2".ألن محمد عبده كان يقيم وزنا للمصلحة في تأويل وتوظيف النص القرآني كما
كان دوما وقفا بالمرصاد للتقليد األعمى الذي كان يمقته ويرفضه عندما يجده في فكر أو
تصور .وبهذا نجد أن اإلمام محمد عبده تعددت جبهاته التي كان يواجهها واختلفت ،فمن
مطالبة األزهر بتغيير المناهج العلمية والتربوية والدعوة للمصالحة بين العقيدة والعلم إلى
التحرر من الدغمائية واستثمار التطور الحضاري األوربي في بناء وعي األمة وتحريرها من
االستعمار وتخليص العقل من أسره في التقليد واألساطير" .وفهم الدين على طريقة سلف
األمة قبل ظهور الخالفة والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها األولى واعتبار الدين من
ضمن موازين العقل البشري 3".باإلضافة البعث االجتهاد الفقهي الذي صد بابه منذ زمن
لقد أكد اإلمام محمد عبده أن اإلصالح السياسي البد أن يستمد من الواقع اإلسالمي لكي
يتوافق القانون الوضعي مع مبادئ الدين والعادات والثقافة ولقد دعا محمد عبده لتغيير
األوضاع السياسية واالجتماعية السائدة في األوطان اإلسالمية العربية والثورة عليها ألن
"القوانين المزروعة في غير أرضها ال تؤدي الثمرة نفسه ال بل تفسده...فالقوانين المستوردة
من أوربا ليست على اإلطالق قوانين حقيقية إذ ال أحد يفهمها وإذا ال يمكنه أن يحترمها أو
يخضع لها" 1وفي هذا المفهوم يستمر اإلمام محمد عبده قائال ":المجتمع الذي يتجاوز
الحدود التي تعينها له شرائعه ينهار غير أن» الشرائع تتغير بتغير األحوال « وهي لكي
تكون فعالة يجب أن تتصل على نحو ما بمقاييس البلد المطبقة فيه وظروفه وإال عجزت عن
القيام بمهمتها الجوهرية وهي توجيه أعمال االنسان وتكوين عاداته ،على أن تكون شرائع
أصال 2".فلقد بين الشيخ محمد عبده أن القوانين والنظم المستوردة من الخارج ال يمكن أن
تنجح ومصيرها الفشل فالمجتمع له خصائصه التي تميزه عن غيره ومفاهيم تتوافق مع فكره
وعاداته وثقافته ،وفي المقابل يضع الشيخ عبده المقابل الذي يمكنه أن يصلح كنظام
للمجتمع واألمة اإلسالمية وهو النظام الشرعي اإلسالمي المستمد من القرآن العظيم والسنة
النبوية الشريفة غير أن هذه النظم اإلسالمية ينبغي أن تكون قابلة للتغير والتطور وفق ما
يناسب المصالح االجتماعية ووفق متطلبات العصر حيث أنه يرى الشريعة حتى ولو كانت
إالهية فإنها من اختصاص الفقهاء أي تفسر وتأول حسب رؤية الفقهاء وتصورهم وبالتالي
سوى الدليل يبقى النص خاضعا لالجتهاد العقلي "فاإلسالم ال يعتمد على شيء
العقلي...والمرء ال يكون مؤمنا إال إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به فمن ربي على
التسليم بغير عقل والعمل – ولو صالحا – بغير فقه فهو غير مؤمن ألنه ليس القصد من
اإليمان أن يدل اإلنسان للخير كما يدل الحيوان ،بل القصد أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه
92
مدخل:
اقترحنا في هذا الفصل دراسة مفصلة لتفكيك أهم الركائز المنهجية التي انتهجها
المفكر محمد أركون في مشروعه من أجل قراءة جديدة للتراث اإلسالمي العربي ،تقدمنا بداية
بطرح دوافع المفكرين العرب المسلمين على غرار محمد أركون من وضع دراسة نقدية عميقة
على الواقع العربي اإلسالمي كرد على ما تم تقديمه من طرف المستشرقين ،وانطلقنا في هذا
الصدد من تحديد كل من مفهومي العقل اإلسالمي واالستشراق وأسباب ظهوره وأهدافه
السياسية واالقتصادية واالستعمارية والدينية والعلمية ،كما تطرقنا للقراءة النقدية لالستشراق
لمحمد أركون ،ومن أجل الوصول لعمق المشروع األركوني تناولنا معالم منهجية محمد
أركون التي اعتمدها في مشروعه على التراث العربي اإلسالمي بداية باأللسنة التي اعتبرها
محمد أركون عنص ار مهما يوفر دراسة منهجية وصحيحة للنصوص التاريخية والدينية كما
رأينا أنه من الضروري مواصلة العمل بكل ثبات من أجل تقديم اهم أسس المنهج العلمي في
البحث بتبيان أهمية النزعة االنسية والدور الذي لعبته في الغرب من أجل تحقيق الحداثة
والتطور واالزدهار ،لذا وقف مفكرنا طويال عندها حتى يبين أهميتها البالغة لتحقيق الحداثة.
وفي األخير تطرقت لعنصر مهم في مشروع محمد أركون وهو التاريخانية التي يرى
أنها عمل دقيق على التراث العربي اإلسالمي يتمكن به الباحث من الوصول إلى نتائج
صحيحة وحقائق منطقية من خالل التأويل األنتروبولوجي .
93
المبحث األول:
نشأ في الفكر اإلسالمي التفكير العقالني مع الفرق اإلسالمية وكان رائد الفكر العقالني
شيوخ فرقة المعتزلة ،الذين فكروا في على حسب ما يرى مؤرخو الفكر اإلسالمي
اإلشكاليات التي واجهت األمة اإلسالمية في الفترة المتقدمة من صدر اإلسالم كاإلمامة و
اآليات المتشابهات ومرتكب الكبيرة تفكي ار عقالنيا الفتا على خالف الفرق األخرى ،وجعلوا
العقل سبيال لمعرفة هللا ومصد ار من مصادر التشريع اإلسالمي" ،وهذه األنماط والتقاليد التي
تنشأ في سياق الممارسة االجتماعية التي تصبح بعد ترسيخها القواعد الموجهة للعقل وإن
،حيث تواصل األمر يكن بصورة مضمرة وهي التي يعمل عالم المنطق على تقنيتها".
( )2
كذلك مع االشاعرة وحتى الفقهاء المسلمين الذين استندوا على االستدالل العقلي والتوفيق بين
العقل والنقل (القياس ،االستحسان ،المصالح المرسلة ) وذلك في الفترة الالحقة خاصة مع
حركة الترجمة وتطور علم الكالم اإلسالمي حجاجه وردوده على علم الكالم المسيحي
–-1زكي نجيب محمود :تجديد الفكر العربي ،دار الشروق القاهرة ط ، 9ص . 310
-2النجار عبد المجيد – خالفة االنسان بين الوحي والعقل – دار العرب االسالمي بيروت – ط – 3ص.37
95
ودخول المنطق األرسطي إلى ساحة الثقافة العربية ونشوء الفلسفة مع الكندي و الفارابي وابن
سينا .
-1دالالت المفهوم لدى أركون:
يقصد محمد أركون بالعقل اإلسالمي ليس فقط العقل العربي بل كذلك العقل األعجمي،
أي كل عقل اشتغل على الظاهرة اإلسالمية باللغة العربية أو غيرها ،أي أنه ال يحصر
العقل اإلسالمي بقومية محددة ،حيث أن الكثير من رواد الفكر والفقه اإلسالمي كانوا من
العجم حيث يقول "فضلت استعمال مفهوم العقل اإلسالمي على العقل العربي ويصعب عليه
قبول ما أورده عابد الحابري لتبرير اختياره لمفهوم العقل العربي ( ،)1وهذا ما يجعل مشروع
محمد أركون في نقد العقل اإلسالمي والحفر في آليات اشتغاله يتسم بالشمولية والعمق في
التحليل بما يتجاوز كل قومية وانغالق عقدي أو إثني أو لغوي ،أي وفق منظور جامع لكل
انتاجات الحضارة اإلسالمية على مختلف مشاربها و اتجاهاتها.
يبرر محمد أركون اختياره لمفهوم العقل اإلسالمي عوضا عن مفهوم العقل العربي في
"أن العقل اإلسالمي يتقيد بالوحي أو المعطى المنزل (....أي) أن دور العقل ينحصر في
خ دمة الوحي أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد ثم االستنتاج واالستنباط
منه فالعقل تابع ليس متبوع اللهم إال بالقدر الذي يسمح به اجتهاده المصيب لفهم وتفهيم
الوحي"(. )2
العقل يشتغل في إطار النص الديني المقدس دون الخروج عنه بغية الوصول إلفهام
عامة الناس بكافة مستويات الفهم لديهم ألن الدين مدار حياتهم وهو مصدر اإلرشادات
الدنيوية واألخروية وهذا ينطبق كذلك على الديانات التوحيدية األخرى كاليهودية والمسيحية
التي تشتغل داخل النص المقدس وال تحيد عنه ،وبالتالي جعل العقل رهينة هذا النص
المقدس وتكبيل قدراته في النظر والتأويل والحرية ،حيث ال يتعدى دوره الشرح والتفسير "هذا
المعطى وهذا الوحي النهائي واألخير يقول كل شيء عن العالم واإلنسان والتاريخ والعالم
اآلخر والمعنى الكلي والنهائي لألشياء وكل ما سيكتشفه العقل الحقا لن صحيحا أو صالحا
-1محمد أركون – أي ن هو الفكر اإلسالمي المعاصر؟ :من فيصل التفرقة إلى فصل المقال ت :هاشم صالح – دار الساقي
بيروتلبنان – ط – 1996 – 2ص .XIV
-1محمد أركون – الفكر االسالمي نقد واجتهاد – ت :هاشم صالح – دار الساقي بيرت لبنان – ط 2012 – 6ص .13
-2محمد أركون – أين هو الفكر اإلسالمي المعاصر؟ :من فيصل التفرقة إلى فيصل المقال – مصدر سابق – صXIV
-3المصدر نفسه – صXIV
-4اركون محمد :االسالم والحداثة ،كيف نتحدث عن االسالم اليوم ،ضمن كتاب :الحداثة في المجتمع العربي القيم ،الفكر
،الفن ،بدايات ،دمشق ،سوريا ،ب ط ،2008 ،ص40
97
العربية ،وهو هنا يخالف محمد عابد الجابري في دور اللغة العربية في البناء النسقي للعقل.
فالعمل الذي يريد القيام به أركون في نقده للعقل اإلسالمي هو الكشف عن المعوقات التي
تعطل جهوده في البحث والنظر واالجتهاد ،حيث يقوم هنا بــ" إعادة تقييم نقدي شامل لكل
الموروث اإلسالمي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم ولكن لكي ال يخيفك المشروع سوف أقول
بأني أميز بين ثالثة أو أربع مراحل أساسية :مرحلة القرآن والتشكيل األولي للفكر اإلسالمي،
مرحلة العصر الكالسيكي أي عصر العقالنية واالزدهار العلمي والحضاري ،مرحلة العصر
،وهذا ال يتم إال من خالل ممارسة الحفر والتفكيك السكوالستيكي التكراري واالجتراري
( )1
والتأويل في طبقات العقل اإلسالمي وإعادة النظر في البداهات والمسلمات التي بني عليها
هذا العقل ،وهو هنا يقر بصعوبة المهمة في ظل الجو السائد حاليا في المجتمعات العربية
المحافظة والمكبلة لكل جهد إبداعي.
هنا يعمد إلى مقارنة ما حدث في تاريخ األوربي الغربي خالل القرون الوسطى من
سيطرة للكنيسة على الفكر والحياة وانتشار الفكر الدوغمائي المدرسي ،وبروز تيار اإلصالح
الديني مع البروتستنانية التي حررت العقل وساهمت في جهود النهضة الفكرية وتيار التنوير
والحداثة الحقا ،مقارنة ذلك مع المرحلة المنيرة في الفكر اإلسالمي والتي بدأت مع المعتزلة
مرو ار بابن رشد وأبو حيان التوحيدي وابن مسكويه وابن خلدون ،حيث يقول" :رحت أفكر
بمشروع أكثر طموحا واتساعا مشروع يهدف إلى نقد العقل اإلسالمي كله ،من المعلوم أن
علم أصول الدين وعلم أصول الفقه في التراث العربي اإلسالمي مرتبطان ببعضهما البعض
بشكل ال ينفصم ومعلوم أيضا أن الثاني يعتمد على صالحيات مبادئ األول ومسلماته
تركيباته العقائدية ،والواقع أن في هذين العلمين اإلسالميين المحصنين ينحصر الحقل
المعرفي ومجريات التقنية الخاصة بالعقل الخاضع لما يدعوه المسلمون وجميع أهل الكتاب
بالتنزيل أو الوحي ونقصد هنا بالعقل العقل الديني بالطبع وبالتالي العقل اإلسالمي كما
العقل اليهودي أو العقل المسيحي .)2(.وهو يشير إلى العقل المسيحي أو اليهودي في
كتاباته ليبين أن مشروعه النقدي يعمل على تحرير العقل من كل المحددات الدينية أو
-1محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم االسالم اليوم؟ هاشم صالح – دار الطليعة للنشر والتوزيع
بيروت – د ط – ص 283
-2محمد أركون – نحو نقد العقل االسالمي – ت هاشم صالح – دار الطليعة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت ط– 1
– 2009ص .74
98
االثنية ،أي القبض على العقل وهو يشتغل تاريخيا وبكل حرية وهو ملكة تخص جميع الناس
باختالف أعراقهم ولغاتهم ،ألن يشتغل داخل ثقافة معينة ،وإن ما كان يهدف إليه أركون هو
"تحرير العقل اإلسالمي والرجوع به عن طريق التحليل العلمي إلى أحواله األولى أي النص
القرآني حيث استطاع أن يطبق عليه أحدث المناهج الفكرية فأضاءه بشكل غير مسبوق
وانكشفت عندئذ عظمة القرآن وعبقريته وتاريخيته الجزئية في آن واحد"( ،)1خاصة وأن القرآن
لم يحرم اإلنسان من تفعيل قدراته العقلية في النظر والتحليل والتدبر واالستنتاج ،فهو حافل
ب اآليات التي تدعو إلى ذلك ("أفال يتدبرون" "أفال يعقلون "أفال يبصرون " " إن في ذلك
آليات لقوم يتفكرون") .2من هذا المنطلق نجد أركون يؤكد على "الجدلية القائمة بين دراسة
موضوع اإلسالم ومشروع نقد العقل اإلسالمي...دراسة نقدية تفكيكية تروم أوال تحليل أنظمة
المعرفة ونقد أسس التفكير وآلياته وكشف عن أدوات إنتاج الداللة وقواعد تشكيل الخطاب".
()3
)-1محمد أركون – تحريم الوعي االسالمي نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة – ت :هاشم صالح – دار
الطليعة للطباعة والنشر – بيروت لبنان – ط – 2011 – 1ص 15
-2قوله تعالى( :أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .محمد ،24:وقوله تعالى (إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون )
(الرعد )3:وقوله كذلك (أفال يبصرون( ))السجدة.)27:
-3على حرب – نقد النص والحقيقة – المركز الثقافي العربي – د ط – – 1993ص .61
-4محمد أركون – الفكر األصولي وإستحالة التأصيل – ت :هاشم صالح – دار الساقي بيروت لبنان – ط 2002 – 2ص
.7
99
نفسه حيث ال يخرج عن السياقات الدوغمائية التي حددت مجال اشتغاله مسبقا ،أي "عقل
خادم للوحي وال يجرؤا أبدا على مبادرة السؤال أو تأويل ال يسمح به الوحي المحيط بكل
شيء"(.)1
يعمد أركون إلى دراسة رسالة الشافعي دراسة معمقة لموضوعاتها وآليات اشتغالها وتشمل
كذلك الظروف التاريخية التي كتبت فيها ،حيث " يكفي أن نلقي نظرة على عناوين الفصول
المتضمنة في الفهرس لكي نكتشف أنها تعالج جميعها موضوعا أساسيا ومركزيا واحدا هو
أسس السيادة العليا أو المشروعية العليا في اإلسالم (.......حيث) تصبح بواسطتها حقيقة
ما أو حكم قانوني ما ليس فقط ملزما أو إجباريا للبشر وإنما ال غنى عنه من أجل السير
على طريق الهدى والنجاة (الشريعة)"(.)2
الشريعة وفق هذا التحليل األركوني وإن كانت تعود في أحكامها إلى النص القرآني أو
الحديث النبوي ،أحكام مستنبطة في األخير من طرف عقل بشري يخضع في ذلك إلى
الظروف التاريخية والسياسية والبيئية والثقافية المحيطة به ،وهذه الشريعة هي ما يؤسس
للهوية التي يظل العقل اإلسالمي محصو ار في إطارها ال يستطيع الفكاك منها وبالتالي ال
يستطيع االشتغال على مساحات ظلت داخل ما يسميه الالمفكر فيه أو الممنوع التفكير فيه،
ألنه عقل يخشى النقد والتمحيص ألنه قد تم توجيهه مسبقا وتم وسمه بالمطلقية ،وقد تم
تجاهل نسبيته وتاريخيته.بالتالي حريته في االشتغال والبحث واقتصاره على النصوص
الجاهزة ،لقد بات "ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية ( )Corps pusناجزة ومغلقة
على ذاتها نقصد بذلك القرآن والحديث وهو موجه نحو القبض على المشروعية العليا
المطلقة "( ،)3أي عقل يشتغل داخل ما يسميه أركون السياجات الدوغمائية التي تكبل العقل
وتمنعه من االجتهاد ،التأويل ،النقد واإلبداع ،وتجعله بالتالي منغلقا على نفسه ال يخرج عن
إطار ما يسميه الهوية أو المقدس ،هذه السياجات تشجع العقل على االجترار والمعرفة
الجاهزة التي يسمج بها النص الديني ،وهو بالتالي ما يؤسس من جهة أخرى لمناطق
-1محمد أركون – أين هو الفكر االسالمي المعاصر؟ -ت :هاشم صالح – دار الساقي بيروت لبنان – ط 1955 – 1ص
.2
-2محمد أركون – تاريخية الفكر العربي االسالمي – مرجع سابق ذكره – ص 68
-3محمد أركون –المصدر نفسه – ص69
100
ومساحات الممنوع التفكير فيها وآلية الالمفكر فيه في العقل اإلسالمي ولفترة زمنية طويلة.
أي منذ المرحلة التنوير التي شهدها العقل اإلسالمي في القرون األولى.
يدعو أركون إلى اعتماد المناهج العلمية المعاصرة في نقد العقل اإلسالمي وهذه
المناهج قائمة على مقاربات متعددة تراعي الجوانب التاريخية والنفسية واالجتماعية
واألنثروبولوجيا واللغوية للوعي اإلنساني "إن اإلنسان ال تحركه فقط الحوافز المادية
واالقتصادية وإنما تسيره أيضا الصور الخيالية واألفالم الوردية فكثي ار ما يتهيج الناس وتخرج
الجم اهير إلى الشارع لمجرد أن شخصا قد ضرب على وتر المخيال الجماعي....والمخيال
اإلسالمي الذي حركه الخميني بشكل هائل هو من هذا النوع ولهذا فللمخيال تاريخ يضرب
بجذوره في أعماق التاريخ اإلسالمي"(.)1
يؤكد أركون هنا يلتقي في تأكيده على أهمية المخيال مع رواد أهم النظريات
المعاصرة في علم االجتماع واالنتروبولوجيا "أمثال "بورديو" وجورج باالندي وكاستر ياديس
وجورج دوبي اهتموا كثي ار بالعالم الرمزي ودوره في بلورة الوعي الجماعي وتحريك المسار
التاريخي "فالبنية الفوقية" لم تعد نتيجة ميكانيكية "للبنية التحتية" بل أصبحت تمتلك استقاللية
نسبية بل وأصبحت أحيانا تشكل قوة مادية ودافعة لمختلف األحداث التاريخية وفي هذا
السياق – والقول ألركون – أن " العقل هو ملكة من جملة ملكات أخرى يستخدمها الفكر"
()2
يرى محمد أركون أن مفهوم العقل يشمل كذلك وآليات اشتغاله تشمل كذلك ملكات الذاكرة
والخيال وفي هذا الصدد يقول أركون "فالعقل بحاجة إلى الذاكرة كما أنه بحاجة إلى المخيال
وال يستطيع االنفصال عنه أو عن التصورات التي يمكن للخيال أن يقدمها للعقل من أجل
تقوية عمله وترطيب أجوائه إذن يوجد أمامنا في الوقت ذاته مجال مفتوح لدراسته بنية الروح
البشرية وبطريقة نفسانية أي دراسة اشتغال الروح البشرية وآلياتها في اللحظة التي ينتج فيها
المبدع أعماله سواء أكان هذا المبدع فيلسوفا أم أدبيا أم فنانا ( ،)3هنا يجب أن نفرق بين
مفهوم المخيال والخيال "وإن كانتا تنتميان إلى نفس الجذر اللغوي فالمخيالImaginaire
-1محمد الشبة :مفهومالمخيال عند محمد أركون ،منشورات اإلختالف ،الجزائر ،ط ،2014، 1ص .30
-2محمد الشبة :مرجع سابق ذكره – ص .33 – 32
-3محمد أركون :الفكر االسالمي نقد واجتهاد – ت :هاشم صالح – دار الساقي – ط – 2012 – 6ص 232
101
يتشكل تاريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن ويمكن استغالله سياسيا وإيديولوجيا في
اللحظات التاريخية العصيبة فهو يضرب بجذوره في أعماق الالوعي عبر تشكله خالل
مختلف المراحل التاريخية ،هكذا نتحدث مثال عن مخيال إسالمي ضد الغرب أو مخيال
غربي ضد اإلسالم (. )1
يستند مجمد أركون ف ي تحديده لمفهوم المخيال لدى فرويد رائد مدرسة التحليل من خالل
مفهوم الالوعي لديه الذي يؤطر الكثير من أشكال الوعي الجمعي والسلوكات البشرية،
ويشير هنا إلى استغالل الحركات اإلسالمية السياسية لهذا المعطى في السيطرة على
السلوك الجمعي للجماهير" ،ومن ثم نرى أركون يؤكد على ضرورة طرح اإلشكالية النفسية
واللغوية واألنثرويولوجية الخاصة بالمخيال اإلسالمي كما تبلوره الحركات األصولية التي
شكلت خطاباتها المتراكمة طبقات هائلة وجد متماسكة ال سبيل إلى تفكيكها والحفر في
أعماقها إال بالتسلح باألدوات المعرفية والمنهجية التي تمدنا بها العلوم اإلنسانية المعاصرة"
()2
.فتاريخية التاريخ اإلسالمي لدى أركون هي التي دفعته إلى االهتمام بدور المخيال في
اآلليات اشتغال العقل اإلسالمي وفي دائرة الثقافة اإلسالمية ،وفصله عن الجانب األسطوري
في هذه الثقافة الذي يقدس النص ويجعل من العقل تابعا له متعاليا عن التاريخ وعن
السياقات االنتروبولوجية والنفسية واأليديولوجية التي تنتجه .
-3نقد العقل الكالسيكي:
يعتبر محمد أركون العقل الكالسيكي هو ذلك العقل الفقهي الذي أسس له الشافعي ،من
خالل رسالته التي وضعت أركان أصول الفقه ،لذلك يعمد إلى تفكيك هذا العقل من خالل
نقد آليات اشتغاله ،اشتغال هذا العقل السكوالئي الذي عمل على ترسيخ فكرة "السيادة العليا
"ووضع سياجات دوغمائية تمنع من التفكير والمحرم التفكير فيه ،وتبرير الوضع القائم ،مما
ساهم في االستالب الفردي والجماعي ،لقد شهد العصر اإلسالمي ومنذ القرن الخامس
هجري تضييقا على العقل في ممارسة النقد واالجتهاد والتفكير.
-1محمد أركون :تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ،مصدر سابق ،ص 66
103
اإلسالمية حيث شهدت ذلك اللقاء الفكري بين الفكر اإلسالمي والفكر اليوناني من خالل
حركة الترجمة والتي ازدهرت خاصة في عهد الخليفة المأمون ،والتي وضعت في يدي
المفكرين المسلمين النصوص الكبرى المؤسسة للفكر اليوناني العقالني ،ترافق ذلك خاصة
مع نهضة فكرية واقتصادية في عاصمتي الحاضرة اإلسالمية بغداد في الشرق وقرطبة في
الغرب ،برز من خاللها مفكرين عقالنيين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والتوحيدي
وابن مسكويه ،وقد واجهوا تنافسا بل صراع ومن الكندي مع االتجاه الفقهي الديني ،أو ما
يسميه أركون العقل التكراري الذي يكتفي بكتب الحديث واألصول وكتب التفسير .ولعل نكبة
ابن رشد وصراعه المرير مع الفقهاء لخير دليل على ذلك ،لقد كان ذلك بمثابة النكسة التي
أصابت العقل اإلسالمي العقالني ،بعد مرحلة تميزت باإلبداع والنقاشات والمناظرات العلمية
واالنفتاح على الثقافات األخرى ،لقد سيطر العقل الفقهي التكراري في النهاية على الحياة
الفكرية في الحضارة اإلسالمية ومنذ القرن الخامس عشر عقل يحارب كل حرية وإبداع عقلي
منغلق على ذاته وعلى تراثه يعيد إنتاج نفسه "،وبالتالي فال عجب في أننا نتخبط اليوم في
ظالم بهيم أو عجز رهيب فنحن مضطرون لالشتغال على جهتين دفعة واحدة جبهة إحياء
الصلة بالتراث الفلسفي العقالني ....وجهة استدراك التأخر المريع بالقياس إلى الحضارة
األوربية (مسافة التفاوت التاريخي تتراوح بين ثالثة مائة وأربعمائة سنة"(.)1
يذهب محمد أركون إلى دارسة العقل اإلسالمي الكالسيكي أو الفقهي دارسة تحليلية
L’hisotrité de la تركز على تاريخيته ،حيث يقول "ولهذا السبب تحدثت عن تاريخية
raisonأق صد بالطابع المتغير والمتحول للعقل وبالتالي المتغير للعقالنية المنتجة عن
طريق هذا العقل هذا هو في نهاية المطاف نقدي للعقل اإلسالمي( ،)2فمفهوم أركون للعقل
هو تلك الملكة الغير متعالية على التاريخ واشتراطاته والغير مطلقة حيث ال تستند إلى أية
مرجعية مقدسة ،فالعقل التاريخي ال يشتغل تحت غطاء المطلق والثابت بل النسبي والمتغير،
بل آليات خاضعة للتفكيك والنقد والحفر ألن العقل في النهاية ظاهرة بشرية نسبية ال تخرج
عن نطاق الظروف الثقافية والتاريخية واالجتماعية واالقتصادية لمرحلة ما من مراحل تطور
العقل" ،فالعقل ليس شيئا مجردا قابعا في الهواء وإنما هو شيء محسوس ومؤطر بشكل
الحداثة خطاب إنساني بالدرجة األولى وال تختص بعرق معين ،وهنا يعود إلى اللحظة
الحداثية المبكرة والتدشينية في الفكر اإلسالمي اإلنساني مع ابن مسكويه والجاحظ والتوحيدي
وابن رشد ،والذين تمكنوا من تأسيس التفكير التنويري الحداثي من خالل صهرهم مختلف
االختالفات والثقافات في عصرهم في نطاق ايبستمي التفكير اإلسالمي .ورغم أن هذه
الموجة لم تستمر نظ ار النتصار االتجاه الفقهي المتزمت على االتجاه العقالني الحر ،فإن
اللحظة األوربية أعادت إحياء هذه اللحظة اإلنسانية والحداثية ،وهو منهجيات العقل الجديد
الذي يريد أن ينبثق ولكي نعرف مدى مصداقية هذا العقل من خالل تطبيقه على تراث آخر
غير التراث األوربي .إن العقل ما يدعونا محمد أركون لالستفادة منها ،ويرى أركون "أن
ساحة الفكر اإلسالمي مالئمة جدا لكي نطبق عليها الذي نحلم بظهوره هو عقل تعددي
متعدد األقطاب متحرك ،مقارن ،انتهاكي ،ثوري ،تفكيكي ،تركيبي ،تأملي ذو خيال واسع،
شمولي إنه يهدف إلى مصاحبة أخطار العولمة ووعودها في كل السياقات الثقافية الحية
()2
حاليا (أي في كل الثقافات البشرية المعاصرة)
العقل االستطالعي هو عقل منبثق ،يستقرء ويستكشف الذات اإلسالمية من خالل
لينزع عنها هالة الغور في المساحات المسكوت عنها والمناطق المحرمة حف ار وتفكيكا
التقديس والحجب ،التي تضمن للعقل الكالسيكي السلطة والمشروعية والتأثير المخدر في
المخيال الجماعي ،وبالتالي ترسيخ الجمود واإلقصاء والتعصب الفكري الذي ميز الثقافة
-1محمد أركون :نحو نقد العقل االسالمي –مصدر سابق ذكره – ص 33
-2محمد أركون :الفكر األصولي واستحالة التأصيل – مصدر سابق ذكره – ص ص 329 – 328
106
اإلسالمية منذ القرن الخامس هجري ،وهو في ذلك يعمل ناقدا في االتجاهين ،للذات
معتمدا في ذلك التعدد والتنوع والثراء
ً الالسامية من جهة وللذات الغربية من جهة أخرى
المنهجي والمعرفي الذي توفره له المناهج األلسنية واألنثروبولوجية والنفسية والفلسفية
المعاصرة ،فالفكر االستطالعي المستقبلي المنبثق الحر يمارس النقد المزدوج للعقل الالهوتي
اإلسالمي وللعقل الحداثي واالستشراقي الغربي ويهدف إلى تفكيك كل السياجات الدوغمائية
التي تكبل العقل وتمنعه من االشتغال بحرية ،إنه "يكافح على جميع الجبهات وإنه ال ينحاز
للغرب أو الشرق ....بل إ نه ينتمي إلى مذهب االتهام الفلسفي المنهجي البناء هذا المذهب
الذي يشك في كل ما ينطق به العقل ويحاول تأسيسه كمذهب ال مذهب سواه أو بعده
يفرضه اإلنسان بالقوة على اإلنسان(.)1
العقل في منظور محمد أركون ظاهرة إنسانية ال تنحاز إلى جهة جغرافية كالغرب أو
الشرق وال ينتمي إلى طائفة دينية أو عرقية ،بل يعمل من خالل إستراتيجية الشك المنهجي
(الغزالي وديكارت)في كل المسلمات والمقدسات و المبادئ القبلية واألفكار الشمولية واألحكام
اإلطالقية التي عملت على تحنيط العقل كصنم غير قابل للنقد والتفكيك ،رسخت ثقافة
التقديس الممنوع التفكير فيه
أركون وهو يقوم بخلع القداسة على النصوص المؤسسة للتراث اإلسالمي تلك
النصوص التي تعطي مصداقية للسلطة القائمة وتبرير سلوكها ،يخلع ذلك وبجرأة في طرح
األسئلة والتحليل والنقد "يتحسر على التقليد اإلنساني الوسيط التي كانت تسود فيه حرية
التفكير ويذهب إلى إعادة االعتبار لبعض المواقف التراثية كنظرية القرآن الكريم لدى
المعتزلة"( ،)2ويذهب إلى أن التراث اإلسالمي المستنير قد شهد علمانية ,أي الفصل بين ما
هو روحي وما هو زمني ،و أن السلطة الدينية والزمنية كانت ممثلة في الخليفة وليس اإلمام،
وذلك منذ بواكيره األولى ،إلى عصر النبوة ودولة المدينة "حيث يلتبس الديني بالسياسي.
ويحلل المثلث األنثروبولوجي (العقل -المجتمع -السلطة/السيادة العليا) كما صاغه أركون،
جيدا -يؤكد أركون -يجب إدخال هذه العالقة بكيفية واضحة....وأنه لفهم هذه العالقة ً
العامل التاريخي في الحسبان ،والعمل على توضيح الفرق بين اإلمام والخليفة والسلطان،
محمد الراحل المفكر عند الديني النص قراءة خليقي: المجيد -1عبد
أركونhttp://maaber.50megs.com/issue_july13/spotlights3.htm:
-2محمد أركون :الفكر األصولي واستحالة التأصيل -مرجع سابق ذكره – ص92.
-3محمد أركون :المرجع نفسه ،ص .14
108
على هذا االنقالب المعرفي أن يصل إلى ممارسات الالهوتيين كما إلى ممارسات فالسفة
الدين لكي يؤثر عليهم أيضا(.)1
خالصة:
يعمل محمد أركون في مشروعه لنقد العقل اإلسالمي من خالل التفكيك والتأويل
آلليات اشتغاله ،والحفر في طبقات العقل اإلسالمي للكشف عن إستراتيجيته المعرفية
والفقهية ،وذلك بإعادة النظر في البداهات والمسلمات التي بني عليها هذا العقل ،هذا النقد
سيتسم بالشمولية والعمق في التحليل بما يتجاوز كل قومية أو انغالق عقدي أو إثني أو
لغوي ،لذلك يعمد محمد أركون إلى اجتراح مفهوم العقل االستطالعي المنبثق الذي يوظف
مختلف المناهج التاريخية ،االنتربولوجية ،النفسية ،اللغوية والفلسفية المعاصرة .وهو ما يسميه
باإلسالمي ات التطبيقية الساعية لفهم النصوص الدينية والتحرر من السياجات الدوغمائية التي
منعت العقل من ارتياد مناطق ظلت بعيدة عن االستكناه المعرفي والفكري واقتحام مساحات
ظلت محرم التفكير فيها ألزمنة عديدة.
يرى محمد أركون إذا أردنا إحياء علوم المسلمين وإحداث نهضة جدية في الفكر
اإلسالمي يجب إ حداث قطيعة مع األطروحات الكالسيكية للعقل اإلسالمي التي تضع
سياجات دوغمائية وتضفي هالة من التقديس على النص وعلى العقل -نتاج هذا النص -
نفسه ،وتتعالى على التاريخ والواقع ،أساسها العقل الفقهي الذي يسعي لتبرير الواقع القائم بل
واإلبقاء عليه للحفاظ على منافع أيديولوجية واجتماعية ،لذلك يعمد إلى اجتراح مفهوم العقل
االستطالعي المنبثق الذي يوظف مختلف المناهج التاريخية واالنتربولوجية والنفسية واللغوية
والفلسفية المعاصرة كالحفر والتفكيك ،ما يسميه باإلسالميات التطبيقية لفهم النصوص الدينية
والتحرر من القداسة التي حرمت العقل من ارتياد مناطق ظلت بعيدة عن االستكناه المعرفي
والفكري واقتحام مساحات ظلت محرم التفكير فيها.
بداية يجب تحديد اتجاه وتصور االستشراق على أنه دراسة اهتمت بالشرق وبعلومه،
خاصة الحضارة اإلسالمية من طرف مفكرين ليسوا من الشرق إنما هم مفكرون ومؤلفون من
الغرب عمدوا لدراستها بنية مبيته ترمي لتحقيق أهداف معينة .هذا ما لفت انتباه المفكرين
والعلماء المسلمين إلى أن عمل المستشرقين لم يكن علما جادا ولم يرقى لدراسة نقدية عميقة
لإلسالم والتراث اإلسالمي بل على العكس تماما كانت دراسات المستشرقين سطحية وتخفي
خبثا ومك ار وتآم ار واضحا عكس ما كانت تبديه وتزعمه من خالل اشتغالهم وانشغالهم
ولوازمهم لواقع الشرق والتراث اإلسالمي هذا ما دفع الباحثون والمفكرون المسلمون لمحاولة
بحث ومعرفة مصطلح االستشراق والوقوف على األدوات والمناهج التي وصفوها في تلك
البحوث والدراسات ،ألن االستشراق "في دراسته لإلسالم ليس علما بأي مقياس علمي وإنما
معينة عن اإلسالم
هو عبارة عن "إيديولوجية" خاصة يراد من خاللها ترويج تصورات ّ
بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق أو مرتكزة على أوهام أو
افتراءات".1
االستشراق لغويا "قد تكون كلمة منحوتة من مادة شرق التي لها أصل في اللغة حيث
2
يقال شرقت الشمس شرقا وشروقا إذا طلعت و شرق المكان شرقا إذا أشرقت عليه الشمس"
غير أنه يجب أن نتفطن "أن الكلمة التي نبحث عن مفهومها اللغوي لم ترد في المعاجم
العربية المختلفة" ،غير أن هذا ال يمنع الباحث من الوصول الى معناها الحقيقي استنادا
1أحمد عبد الرحيم السايح ،االستشراق في ميزان نقد الفكر االسالمي ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة،ط ،1996 -1ص
15
2المعجم الوسيط ،ج ،1ص ،480ط ،1972مجمع اللغة العربية ()Harcoun
110
إلى قواعد الصرف وعلم االشتقاق حيث يبدو أن معنى ( استشرق) أدخل نفسه في أهل
الشرق وصار منهم" ،1ما يدل على أن مصطلح االستشراق" ليست عربية أصلية بل هي
مولدة عصرية أكدت على ذلك بعض المصادر اللغوية الحديثة ...وكما هي مولدة عصرية
orientaliste في اللغة العربية فهي كذلك في اللغة األجنبية فقد ظهرت كلمة مستشرق
في إنجلت ار سنة 1779م وكلمة orientalisteفي فرنسا سنة 1799ثم أدرجت كلمة
االستشراق في قاموس األكاديمية الفرنسية DicoleFacademie Françaiseعام
2
1938م "
أ -اصطالحا:
أما اصطالحا فكلمة"مستشرق لها معنى عام و معنى خاص وفي معناها العام تطلق
على عالم غريب يشتغل بدراسة الشرق كله أقصاه ووسطه وأدناه في لغاته و آدابه و
المعنى الخاص فيراد به الذي يعنى بالدراسات الغربية المتعلقة حضارته و أديانه – أما
بالشرق اإلسالمي في لغاته و آدابه و تاريخه و عقائده و تشريعاته و حضارته بوجه عام و
هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي اإلسالمي عندما يطلق لفظ
استشراق و مستشرق".3
هناك تعريف آخر لالستشراق وهو" طلب معرفة ودراسة اللغات واآلداب الشرقية ويطلق لفظ
المستشرق على الدارس للغات الشرق وفنونه وحضاراته وعليه فاالستشراق دراسة يقوم بها
غير الشرقيين لتراث الشرق". 4
هناك تعريف آخر لالستشراق والذي اقترحه أحمد عبد الحميد غراب ورأى أن فيه
شمولية ودقة عن أي تعريف آخر يقول فيه "إن االستشراق دراسات أكاديمية يقوم بها
عقيدة وثقافة وشريعة، غربيون من أهل الكتاب لإلسالم والمسلمين من شتى الجوانب
1د :أحمد سيمايلوفيتش ،فلسفة االستشراق و اثرها في األدب العريب المعاصر ،دار الفكر العربي ،القاهرة،1998 ،دط،
ص22-21
2عبد المنعم فؤاد ،من افتراءات المستشرقين على اصول العقيدة في االسالم ،مكتبة العبيكان ،ط ،2001 ،1ص.16-15
3عبد المنعم فؤاد ،مرجع سابق ،ص .16
4سعد المرصفي ،المستشرقون و السنة ،مؤسسة الريّان ،بيروت لبننا ،دط،د س ،ص.09
111
وتاريخا وتنظيما ...بهدف تشويه اإلسالم وتشكيك المسلمين فيه وفرض التبعية للغرب عليهم
ومحاولة تبريرها عن طريق نظريات ّتدعي العلمية والموضوعية". 1
هناك عدة تعاريف ترى بأن االستشراق فكر غربي في نظرته وتعريفه لألسماء واألحداث
وكيفية التعامل معها وهذا ما ذكره بعض المفكرين على أن "االستشراق عبارة عن دراسة
أكاديمية يقوم بها الغربيون في الدول االستعمارية للشرق بشتى جوانبه التاريخية والثقافية
وأديانه ولغاته ونظمه االجتماعية والسياسية وثرواته وإمكاناته من منطلق التفوق العنصري
والثقافي على الشرق وبهدف السيطرة عليه لمصلحة الغرب وتبرير هذه السيطرة بدراسات
وبحوث ونظريات تتظاهر بالعلمية والموضوعية". 2
أما إذا أردنا تحديد مفهوم المستشرق فيعرفه أنور عبد المالك في دراسته فيقول" :إنني
أعني بالمستشرق أولئك الذين يدرسون الشرق األدنى إذ أن فكر الهند والصين هو بالتأكيد
فكر ذو أهمية رئيسية لمعرفة سبل الذهن ...لكنه ليس على اي صلة هذا من حيث التعريف
العام للمستشرق".3
-2نشأة االستشراق:
لقد ِاعتبر األوروبيون المسيحيون منذ العصور الوسطى المسلمين أعداء لهم .وزاد على
هذا انتشار اإلسالم وتوسعه على حساب المسيحية حتى في أوروبا نفسها ما تسبب في
وقوع خالف حضاري كبير بين الشرق المسلم مع شمال إفريقيا وبين أوربا المسيحية وأثار
مخاوف رجال الدين المسحيين وبالتالي دفعهم هذا إلى محاولة دراسة اإلسالم والحضارة
اإلسالمي ة لمواجهة هذا التوسع ومحاولة الحد من تقدمه بواسطة التنقيب عن الثار المادية
والمعنوية التي احتوتها الحضارة اإلسالمية ومعرفة معاني ودالالت خطابها الفكري وكشف
الغموض الذي اعترى الدين اإلسالمي منذ عصور بسبب التبجيل والتقديس إال أن هذه
الدراسة لم يكن الغرض منها نبيل بل كانت من أجل إيجاد طرح يتمكن من خالله المفكرون
األوروبيون ورجال الدين المسيحيين من مجابهة ازدهار اإلسالم والحضارة اإلسالمية .ألن
ما يؤكد ويبرهن هذا القول -أحمد الشرباصي الذي يرى أن بداية فترة االستشراق "بدأ تقريبا
في القرن الثالث عشر ميالدي حيث انبثق من الحروب الصليبية التي لم تكن سوى نقطة
2
التحول في تاريخ الشرق"
أما االسكندراني رأى في تحديد زمن االستشراق أن بدايته كانت في "القرن العاشر
ميالدي حينما أدرك الغرب تلك المعجزة الحضارية التي شادها العرب فاندفعوا إليها ليتعلموها
ويتسلحوا بها ويستفيدوا منها فأخذوا يدرسون لغتها وآدابها ويترجمون كتبها وينقلون علومها
الى بالدهم وكان من بدأ بذلك رجال الدين ثم تالهم غيرهم من أبناء جلدتهم" .3وهذا تماما ما
حدث في العصر الوسيط حيث عمد "الغربيون بترجمة مؤلفات علمية من العربية الى
الالتينية وابتداء من القرن السادس عشر بدأ الفكر الغربي يزدهر ويتسع ويصبح أكثر
إشعاعا وعلى النقيض من ذلك كان الفكر العربي اإلسالمي قد بدأ بالتراجع واالنحصار
4
ليصبح فك ار تابعا"
إال أن البعض يرى أن البداية األولية والفعلية لفكر االستشراق تزامن "بصدور قرار
مجمع فيينا الكنسي في عام 1312بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من
الجامعات األوروبية ،ويقول الدكتور( حمدي زقزوق) على أن هناك استشراق رسمي يدل
على أن هناك استشراق غير رسمي قبل هذا التاريخ هو على حد تعبير الدكتور (محمد
1أحمد سمايلوفيتش ،فلسفة االستشراق وأثرها في األدب العربي المعاصر ،دار الفكر العربي ،القاهرة مصر ،د ط،
،1995ص54
2المرجع نفسه ،ص .55
3المرجع نفسه ،ص .55
تونس ،عنوان محمد أركون و مواقفه من االستشراق -االستشراق و عوائقه المعرفية.
ّ 4رمضان بن رمضان ،باحث من
113
البهي) بمثابة محاوالت فردية ويكاد المؤرخون يجمعون على أن القرن الثالث عشر بداية
رسمية ثم انتشر بصفة جدية بعد فترة ما يسمى في التاريخ األوروبي عهد اإلصالح
1
الديني".
من خالل كل ما سبق يمكننا القول أنه ال يوجد اتفاق بين الباحثين على فترة معينة
ٍ
تحديد زمني بإجماع كل األطراف لبداية االستشراق وأنه من الصعب أن نكون دقيقين في
للبداية الحقيقية له بوضع تاريخ معين للحظة األولى التي تجلى فيها ألن هناك من رأى أن
االستشراق انبثق في القرن العاشر الميالدي بعد تطور الحضارة األندلسية اإلسالمية وقيام
المفكرين بعملية ترجمة العلوم من اللغة العربية إلى اللغة الالتينية في القرن السادس عشر
ومنهم من رأى أن االستشراق رافق الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر الميالدي.
ومنهم من يؤرخ لبدء وجود االستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فينا الكنسي
عام1312بتأسيس عدد من كراسي األستاذية في العربية واليونانية والعبرية.
- 3دوافع االستشراق:
لنقل أن هناك العديد من األسباب التي أدت إلى ظهور االستشراق منها عوامل
سياسية واقتصادية واستعمارية ودينية وعلمية نقدم منها ثالثة دوافع هي:
بما أن معظم المستشرقين كانوا رهبانا وقساوسة وبما أن المسيحية في أوربا خاصة
اعتبرت اإلسالم عدوها اللدود منذ العصور الوسطى .فإن الهدف من تردد المستشرقين
المستمر على بلدان المسلمين وأمصارهم وانشغالهم في كنائسهم ومعاهدهم ومدارسهم بدراسة
الفكر اإلسالمي وكتب المسلمين كان التبشير والتنصير للديانة النصرانية ال غير التي لم
تستطع الوقوف في وجه المد اإلسالمي الرهيب والعجيب خاصة بعد ما شهدته الحضارة
اإلسالمية في األندلس من ازدهار علمي وتطور فكري برز في مختلف المجاالت وبدت
أوطان المسلمين أنذاك تحتل الريادة العلمية التي استقطبت طالب العلم والمفكرين ما حز
هذا الحقد كان واضحا وصريحا بالنظر للخلفية الدينية االنتقامية للمسيحيين من خالل
حروب االسترداد أو الحروب الصليبية السترداد القدس واألراضي المقدسة التي استولى
عليها المسلمين واالنتقام منهم بعد االضطهاد الذي لحق باألقباط في عهد الحاكم بأمر هللا
وهدم كنيسة القيامة التي تعتبر أقدس المواقع المسيحية إ ْذ كانت هذه المواجهات عبارة عن
سلسلة من الصراعات العسكرية ذات طابع ديني واكتشف من خاللها الصليبيين تلك
الحضارة الزاهرة وهذا التطور الزاخر بالفنون والعلوم وانبهروا بمبانيها وعمرانها ووقفوا على
براعة وقوة محاربيها واندهشوا من توسع مواطنهم اإلسالمية وانتشار دينهم .وطبعا ترك ذلك
أث ار عميقا في نفوس الصليبيين ونقلوا كل ما رأوه في تقاريرهم ومراسالتهم وأخبارهم .فبدى
1د،عبد الرحيم السايح ،االستشراق في ميزان نقد الفكر اإلسالمي -الدار المصرية اللبنانية القاهرة ،ط1996 ،1
115
تأثرهم واضحا بهذا الدين الذي جذب األوروبيين إليه مرة أخرى .وبطبيعة الحال لم يقف
رجال الدين المسيحي مكتوفي األيدي بل خططوا للوقوف في وجه هذا الخطر القادم من
الشرق واستنتجوا أن الحروب العسكرية لن تجدي نفعا فقرروا أن يتعلموا لغة أعدائهم كأداة
ليتمكنوا من خاللها اكتشاف خبايا هذا الدين وهذه الحضارة وعمدوا إلى دراسة التراث
اإلسالمي من خالل التردد على البلدان اإلسالمية والتنقل بين المكتبات اإلسالمية وترجمة
الكتب والمخطوطات القيمة والعلوم .ونرجع لنقول أن هذا التحول نحو الساحة الفكرية
اإلسالمية يعتبر استشراق له أهداف غير شريفة تمثلت في محاولة االلتفاف حول المسائل
الفقهية والتأويالت النصية وإ عطائها تصور ذاتي سطحي بهدف تحريف المفاهيم الدينية
وإضعافها وإ عطاء تفسيرات خاطئة تمكنهم من رسم صورة سلبية عن اإلسالم وبالتالي
تمكنهم من وقف هذا االنتشار الرهيب لإلسالم في أوطانهم.
من هذا يتبين لنا "أن الدوافع الدينية بكل ما فيها من القوة واالندفاع كانت إحدى
األسباب الرئيسية لتعلم اللغات الشرقية عامة ولغة اإلسالم خاصة وظلت هذه اللغة بيت
القصيد في نشاط الرهبان ألسباب الدفاع والهجوم واالحتالل واالستغالل والحرب والسالم
والتبشير واالستعمار ومحاولة تعميد أهل القرآن و إذا فالسبب الرئيسي المباشر الذي دعا
األوروبيين إلى االستشراق هو سبب ديني بالدرجة األولى" . 1وبالتالي نستنتج أن االستشراق
كان غايته األساسية رسم صورة مشوهة وغير مناسبة لإلسالم والوقوف في وجهه من خالل
تعاليمه مركزين على الغموض والتقديس الذي احتواه "ولقد تعاون المستشرقون النصارى مع
المستشرقين اليهود في دراساتهم حول الكتاب المقدس (أي العهدين الجديد والقديم) ثم في
دراسات حول اإلسالم والمسلمين لكي يتعرفوا سويا على ثغرات يمكن من خاللها بث الفرقة
والفتنة بين المسلمين وتشكيكهم في دينهم تمهيدا لردتهم عنه"2لقد انعكست مواقفهم وأهدافهم
الخبيثة المضمرة على قراءاتهم لإلسالم المجحفة من خالل أحكامهم الذاتية التي أخدت طابع
أيديولوجي ومن خالل إثارة البلبلة والجداالت الفارغة التي لم تؤسس لمفهوم صحيح وال
لتبرير مقنع حتى داخل جدران مدارسهم.
1أحمد سمايلوفيتش ،فلسفة االستشراق واثرها في األدب العربي المعاصر -دار الفكر العريب ،القاهرة ،مصر ،د ط،
،1995ص .54
د .عبد المنعم فقؤ ،من افتراءات المستشرقين على أصول العقيدة في اإلسالم ،مكتبة العبيكان ،ط ،2001 ،1ص2.23
116
الدوافع االستعمارية لالستشراق: ب-
إن كابوس التوسع اإلسالمي الحق رجال الدين المسيحي في أحالمهم ونغص
عيشهم فلم يجدوا له حال سوى التصدي له بكل ما أوتوا من قوة فتعمدوا دراسة الحضارة
اإلسالمية لتشويهها وتحريفها وبالتالي يتمكنوا من إعطاء تبرير مقنع يردون به على شعوبهم
وعلى أتباعهم بإجابات غير صحيحة عن اإلسالم وغير منطقية تحمل صورة عتيمة عنه
تمهد لحروب مشروعة عليه تستبيح من خاللها أوربا المسيحية أراضي وبلدان المسلمين
بمباركة الكنيسة .هذه العملية الفكرية التي حدثت آنذاك كان هدفها استعماري الذي يمكننا
القول أن لالستشراق دافع استعماري تبنى في المرحلة األولى الدراسة والبحث من اجل إيجاد
لغة يتفق من خاللها الجميع على محاربة هذا الدين ومن اجل تبرير االقتتال باسم الدين"،وقد
نهج المستشرقون في األقطار المختلفة (المبدأ الميكيافيلي) الذي يقول الغاية تبرر الوسيلة،
فالهدف األول التي سعت إليه منذ بداية اتجاهات نحو االستعمار األقطار الضعيفة هو
اكتشاف البالد العربية اإلسالمية وبسط سيطرتها االستعمارية عليها وهذا هدف أساسي
1
خدمهم فيه المستشرقون".
ومنه نستنتج أن االستشراق أداة استعملها رجال الدين المسيحي ليشفوا غليلهم ويذهبوا
غيضهم من بطش وسطوة المسلمين على األراضي المقدسة بواسطة إعالن حرب مشروعة
بمباركة دينية الستعادة مقدساتهم وأراضيهم من المسلمين".فقد كان استشراق المبشرين عامال
هاما لدراسة الطبيعة التي يحتاج االستعمار لمعرفتها عن الوطن العربي هذا ،من جانب ومن
جانب آخر فقد جلب المبشرون من المستشرقين أخالق الغرب ثقافته وحضارته وكان
التصاقهم بالشعب العربي آو بطوائف منه قد فتح األذهان على الغرب مما جعل لوجودهم
بين العرب أث ار في تغلغل الثقافة الغربية وانتشارها وهي من العوامل المساعدة على دخول
2
الغرب كله إلينا بعدئذ".
1سعدون الساموك ،االستشراق و مناهجه في الدراسات االسالمية -دار المناهج للنشر و التوزيع ،عمان ،ط 2010 ،1ص
.14
2سعدون الساموك ،مرجع سابق ذكره ،ص.18
117
إن العارف بالواقع األوروبي عموما يعلم جيدا طبيعته المادية التي تَُب َرُر فيها الوسائل
بالغايات وإعجاب الغربيين بالحضارة اإلسالمية ومواردها وكنوزها زاد من أطماعهم في
استمالكها فلم يكتفوا كما زعموا بداية بالتعايش والتبادل الفكري والعلمي .فالتطور الصناعي
الذي عرفته أوروبا جعلها تبحث عن موارد ومواد أولية وأسواقا تسوق فيه منتوجها وتوسع فيه
أعمالها وتجارتها .وولد في عمق المجتمع األوروبي رغبة ملحة في نقل تلك الخيرات إليهم
واالستحواذ عليها من أجل تحريك مصانعهم .دون أن ينسوا هدفهم األسمى أال وهو الهيمنة
على البلدان اإلسالمية وكنوزهم ويمكن القول أن هذا دفع فعال لالستشراق خاصة أن عالقة
الغرب األوربي بالشرق المسلم عرفت تبادال تجاريا كبي ار تاله استعمار استباح الغرب من
خالله ثروات وخيرات الشعوب اإلسالمية .فالغرب "أدرك أنه لكي يتسرب إلى مصادر القوة
في الشرق ويمزقها يجب عليه أن يتسلح بالقوة االقتصادية ولذلك تشبث بهذا المحور وجعله
هدفه األسمى وسخر كل شيء في سبيله فطلب التجارة الرابحة وهو أقوى المشجعات البشرية
على النشاط والعمل كان له أثره الطبيعي في ميول األمة ومجهوداتها الفكرية".1
لم يخف الغربيون أبدا نواياهم من التردد على العالم اإلسالمي وقراءة تراثه كما لم
يكن على المسلمين مكلفا معرفة ذلك لكن ما سعى إليه األوروبيون كان في نظرهم مشروعا
نظ ار لكون األراضي المفتوحة مكسب ديني عتيق وما تحمله وتحتويه تلك األوطان من حقهم
وزاد على ذلك حاجتهم الملحة لموارد يستطيعون بواسطتها تحقيق النهضة التي يحلمون بها
فأسسوا لعالقات مع العالم اإلسالمي ظاهرها ودي تمثل في التبادل التجاري وحركية
اقتصادية مزدوجة المنفعة وباطنها عدائي تمثل في مهب واستغالل خيراته أي عالقات
اقتصادية يتم من خاللها التزود بالمواد األولية الخام التي تحتاجها أوروبا من اجل تحريك
عجلة االقتصاد وفي المقابل يحصل المسلمين على المنتوجات األوروبية .هذه الصفقة التي
أبرمت جعلت العالم اإلسالمي لحد اللحظة يعاني من تبعية اقتصادية وثقافية وسياسية كون
المسلمين أصبحوا مجتمعات استهالكية ال تنتج وال تبحث.
بما أن محمد أركون اعتمد في دراساته كلها منطلق النقد العلمي فقد انشغل بموضوع
االستشراق مثله مثل باقي الدراسات بمبدأ نقدي علمي أيضا إ ْذ تناوله بدراسة عيوب
االستشراق وأخطائه غير أن أركون من جهة أخرى أظهر أعمال المستشرقين وبحوثهم على
أنها أعمال لها أهمية كبيرة في دراسة التراث اإلسالمي ما عكس الجانب االيجابي لهذا الفكر
حيث دعا أركون لجمع كل هذه األعمال ودراستها كونها انجازات كبيرة ينبغي االهتمام بها
فيرى أن"اإلسالميات الكالسيكية هي المعرفة الغربية المنجزة حول اإلسالم قبل 1950وهذه
المعرفة لعبت دو ار إيجابيا ال يمكن إهماله فيما يدعوه المسلمون بالنهضة وإسهامها األكثر
ديمومة واألقل إثارة للنقاش هو نشر عدد معتبر من النصوص الكبرى المنسية خالل قرون
حتى من قبل التراث اإلسالمي نفسه".1
ينتقد أركون من جهة أخرى المفكرين المسلمين على جمودهم الفكري وعلى عدم
انشغالهم بتراثهم بطريقة علمية نقدية يستطيعون من خاللها الوصول لمعرفة أصول أعمالهم
التاريخية ودراسة نصوصهم الدينية دراسة تعتمد على المناهج العلمية الحديثة وفي المقابل
يشيد بمجهودات المستشرقين على أنها مشاريع كبيرة كما يراها أنها "مشروع سوف يدشن عما
قريب الموسوعة الكبرى للقرآن الكريم ....إنها تغني مشروعا ضخما يساهم فيه كبار
االختصاصيين في الدراسات العربية اإلسالمية سواء كانوا مستعربين أجانب أم من أصول
عربية أو إسالمية و سوف تضم هذه الموسوعة جميع المعارف المتضمنة في القرآن الكريم
من خالل القراءات العديدة ألركون يظهر لنا موقفه من المستشرقين حيث فضل لو
أن هذه الدراسات االستشراقية األكاديمية اهتم بها المسلمون أنفسهم كونهم هم المعنيون بذلك
ألنها تمثل جزءا كبي ار من تراثهم المعنوي وفي المقابل يرى أركون أن ما قام به هؤالء
المفكرون األوروبيون أعطى صورة واضحة عن الفارق الكبير في المستوى والمنهج بين
الفكر اإلسالمي وبين الفكر االستشراقي إذ رأى أن كتابات المسلمين وبحوثهم خاوية من
الروح النقدية وظلت مغموسة في التقديس والتفسيرات الالهوتية التي غيبت اإلنسان.وعكس
ذلك تماما فدراسة المستشرقين لهذا التراث تميزت بتطبيقهم المنهج التاريخي وأدواته
ومصطلحاته عليه حيث استطاعوا أن يزيحوا بواسطته الغموض الذي اعتراه منذ البداية وان
ينيروا جانبا كبي ار منه ظل مظلما لفترة طويلة .كما حث أركون المسلمين على بذل المجهود
من أجل دراسة وقراءة تراثهم قراءة نقدية مثلما فعله الغربيون والكف عن االنتقادات العاطفية
االنفعالية غير المؤسسة نهائيا ودعاهم ألن يتحلوا بالجرأة ليتمكنوا من مقارعة المستشرقين
بتناول التاريخ اإلسالمي بدراسة علمية تعتمد على المناهج التاريخية الحديثة .وفي هذا يقول
أركون "ال يحق للعرب المسلمين ان يهاجموا المستشرقين إال إذا ّ
قدموا عن تراثهم دراسات
علمية بالمستوى نفسه الذي يقدمه كبار المستشرقين فالمسألة ليست مسألة عواطف
وانفعاالت ذاتية وشعارات إيديولوجية أو تبجيلية وإنما هي مسألة بحث علمي أو إرتفاع
الى مستوى البحث العلمي وغير ذلك فهو ضجيج وعجيج". 2
قد يظن القارئ لموقف أركون من المستشرقين من الوهلة األولى من خالل ما تم تقديمه
سابقا أنه معجب بهم وبأعمالهم كلها بينما إذا تعمقنا أكثر في طرحه يتبين لنا أنه لم يقتنع
كليا بما قدمه كل المستشرقون كنتائج دراسية واعتبر أن معظم الدراسات االستشراقية سطحية
اقتصرت على ترجمة لغوية للنصوص الدينية ولم تكن هي أيضا في مستوى المناهج
التاريخي وفي المقابل ال يخفي أركون إعجابه ببعض المستشرقين بعد تناولهم لنصوص
1.306 محمد أركون -قضايا في نقد العقلف الديني -مرجع سابق -ص
2.307 محمد أركون -قضايا في نقد العقل الديني ،مرجع سابق ،ص
120
ظلت لمدة طويلة حبيسة الغموض ما سمي (بالمسكوت عنه) أو (الالمفكر فيه) .حيث دعا
كل المفكرين المسلمين الى مثل هذه الدراسة وتطبيقها في أعمالهم كلها كمنهج علمي نقدي
شجاع ال يعترف بالمطلق خالي من الذاتية واإليديولوجيات .وأركون ال يعترف لهؤالء
المستشرقين بهذا الدور فحسب بل أيضا دعا المفكرين المسلمين لذلك إ ْذ يقول"ولكن لنكن
متواضعين في ذات الوقت ولنعترف بمكتسبات العلم االستشراقي وانجازاته فالعدل
واالنصاف يفرض علينا ذلك ولذا فإني أحيي بكل اعتراف بالجميل جهود ومكتسبات رواد
االستشراق من أمثال يوليوس فيلهاوزينق وهوبيرغريم وتيودور نولدك و فريديريك شوالي
وقون ج بغستراسير وأوبريتزل و إ .غولد زهير وتور أندري وأ.غيوم و أ .جيفري و م
1
برافمان"
يستثني أركون من نقده للمفكرين الغربيين الذين تناولوا التراث اإلسالمي مجموعة من
الباحثين هم من ذكرهم سابقا وحتى تالميذهم فيقول "الذين واصلوا على نفس الدرب من
أمثال رودي باريت ورجيسبالشير وهاريس بيركالند وربيل ووليام مونتغمري واط وجون
2
بيرتون وجون وانزبروغ وأ.تويوروبان"
يستدل أركون في ذلك لنصوص قيمة في التراث اإلسالمي البن رشد وابن خلدون كانت
مهمشة وكادت أن تندثر لوال انتباه المستشرقين لها إ ْذ يرجع لهم الفضل في إظهارها وإحيائها
ويقدم أركون"األمثلة الناصعة على أهمية البحث االستشراقي في إعادة بعث نصوص جد
مهمة من التراث اإلسالمي كتاب "فصل المقال" البن رشد الذي طواه النسيان ولم يعتن أحد
من المسلمين بتحقيقه وإعادة نشره إلى أن جاء المستشرق " "MJ Mollerالذي نشره ألول
مرة في عام 1859م معتمدا على مخطوط واحد ثم أعاد تحقيق األستاذ ف .حوراني بعد قرن
من الطبعة األولى 1959وما قيلت عن مؤلفات ابن رشد يقال عن مؤلفات ابن خلدون
وغيرهما من أعمدة التراث العربي اإلسالمي والسيما المفكرين المغضوب عليهم من قبل
3
السلطان أو من قبل فقهائه".
3فارح المسرحي ،من االسالميات الكالسيكية الى االسالميات التطبيقية ،قراءة في نقد أركون لالستشراق.
121
بما أن أركون مفكر نقدي عارف بأصول المناهج التاريخية الحديثة وأدواتها
ومصطلحاتها ومطلع على خلفيات ومبادئ الفكر االستشراقي الغربي الحقيقية فإن قراءته
لهؤالء المفكرين لم تقتصر على التفاعل معهم إلضفاء شرعية عليهم واالعتراف بمجهوداتهم
في التراث اإلسالمي بل عكس ذلك فقد تج أر على مواجهة معظمهم بالقصور والذاتية
بواسطة اس لوبه النقدي الذي يستمد مشروعيته من المناهج التاريخية الحديثة التي تعتمد على
الدراسة الموضوعية والقراءة العلمية
يؤكد أركون ويصر على ضرورة استخدام مناهج العلوم اإلنسانية لدراسة التراث
اإلسالمي وتوظيف أحدث ما توصلت إليه مناهج العلوم في الغرب .لكن المشكل ليس
بالتحديد في هذه النقطة المشكل يكمن في الموقف من االستشراق أي من الدراسات
التاريخية النقدية التي قام بها الغربيون للتراث اإلسالمي إ ْذ وبنفس االتجاه درس أركون
االستشراق دون تسامح ودون تساهل بكل موضوعية بواسطة نفس األدوات التي اعتمدتها
المدارس والمعاهد األوروبية التي نقل منها المستشرقون مفاهيمهم ومبادئهم وبالتالي فأركون
عارف بخبايا هذا الفكر وله تصور عميق عن أبعاده وإمكانياته حيث الحظ من خالل
دراسته لالستشراق أنه اقتصر في دراسته للتاريخ على منهج فقه اللغة أي الفيلولوجية تلك
الدراسة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر قائمة على أساس مقارنة النصوص ومقارنة
االديان دون االعتماد على المناهج العلمية الجديدة التي حققها العلم الحديث في دراسة
التاريخ .بعد هذا النقد الالذع الذي وجهه أركون لالستشراق يرجع مرة أخرى لدعوة المفكرين
الغربيين لتجاوز تلك الدراسات التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب ومسك أدوات العلوم
اإلنسانية الحديثة حيث يقول" :أن معظم إنتاج الفكر التاريخي العالمي يرتكز على دراسة
التراث الغربي سواء كان مسيحيا أو معلمنا أقصد بذلك أود أن يصبح االستشراق جزءا ال
يتج أز من البحث العلمي المعاصر وأن يلحق بركب التجديد المنهجي والمفهومي الذي حصل
ربع القرن الماضي فال يعقل أن يظل منغلقا على نفسه راضيا بمنهجية القرن التاسع عشر
122
ورافضا لالنفتاح على الثورة المنهجية واالبيستيمولوجية التي شهدتها العلوم اإلنسانية منذ
1
الستينات و حتى اليوم".
يرمي أركون االستشراق عرض الحائط بعدما حكم على دراسته بالسطحية في التناول
ألنها قائمة على أساس االختيار واالختصار فالمستشرقون لم يهتموا إال بالنصوص الكبرى
لإلسالم حيث ترجموها كما هي للغات األوروبية دون تحليل ودون تفكيك حتى تتجلى بكل
حقيقتها ومعانيها ودالالتها رافضين التدخل فيما ال يعنيهم بحجة الحيادية.هذا ما يظهر من
خالل عدد المصنفات التي اعتمدوها في بحوثهم في علوم القرءان فلقد كانت" محدودة جدا
وهي في معظمها كتب جامعة ال تتحرر الصحة والنقد والرواية السليمة وهكذا نجد نولدك
وبيل وبالشير وبرتون في مجال جمع القرآن الكريم ال يتجاوزون كتب المصاحف البن أبي
داود واإلتقان للسيوطي والفهرست إلبن النديم في حين ال نجد عندهم إعتمادا يذكر على
الروايات الصحيحة الواردة في كتب الصحاح والسنن أو في مقدمات المفسرين' القرآنية
(مقدمة ابن عطية ،مقدمة ابن جزي ،مقدمة القرطبي وغيرها ...ومن جهة أخرى يالحظ أن
المصنفات المعتمدة لدى المستشرقين المعاصرين هي نفسها التي كان يعتمدونها أسالفهم
من المستشرقين القدامى".2
التناول الكالسيكي في االستشراق للتراث اإلسالمي الذي تحدث عنه أركون يتضح من
خالل اقتصار دراسات المستشرقين على الت ارث المكتوب والنصوص الكبرى والخطابات
الرسمية فقط متجاهلين التراث الشفوي وإسالم الشعوب كالبربر واألفارقة فهذه الدراسات كأنها
لم تقدم أي جديد للقارئ العربي خاصة بل قدمت معلومات محدودة عن اإلسالم فقط إلى
الجمهور الغربي فأركون يرى أنها مجرد ترجمة لنصوصنا القديمة والمعاصرة "،يتمثل في
مسألة المنهج بمعنى أن مناهج المستشرقين متأخرة أو متخلفة إذا ما قورنت بمناهج العلوم
اإلنسانية واالجتماعية في صورتها المعاصرة إذ ال يزال االستشراق يعتمد على المناهج
1محمد أركون ،قضايا في نقد العقل الديني ،مصدر سابق ،ص .130
2حسن عزوزي،آليات المنهج االستشراقي في الدراسات اإلسالمية ،مطبعة أنفوبرانت ،فاس المغرب ،2007،د ط ،ص.20
123
المتطورة في القرن التاسع عشر في ظل ازدهار الفلسفة الوضعية السيما المنهج الفللوجي
(فقه اللغة) والتاريخ التقليدي السردي".1
لقد أعطى أركون عناصر أخر ال تقل أهمية عن كل العناصر المشكلة للتراث
اإلسالمي وأهملها االستشراق أال وهي المخيال واألسطورة اللذان لهما دور مهم في تأسيس
األحداث التاريخية وفي المقابل اهتم االستشراق بالحدث التاريخي ما يبرز تأثره بالمنهجية
الوضعية التي تعتمد على رد الدالالت والقضايا إلى المنطق البحت ورفض التفسيرات
الميتافيزيقية"،أحد األبعاد األساسية التي يتكون منها الشخص البشري والثقافة البشرية على
العموم باإلضافة طبعا إلى البعد العقالني واالقتصادي والحسابي". 2
هذا ما رفضه المنهج الوضعي المادي في القرن التاسع عشر ولم يأخذ بعين االعتبار
إ ْذ أن"البعد الخيالي واألسطوري لإلنسان ولذلك مرجا اعتبرت الدين والبعد الديني شيئا
متجاو از ينتمي إلى العالم القديم أما العلم المعاصر فهو يعيد االعتبار إلى األسطورة
ويعتبرها إحدى طرق" إنتاج المعرفة ...فهي تكشف إلى حد كبير عن العادات والتقاليد
3
واألخالقيات السائدة فيه".
يعتبر أركون أن األسطورة كظاهرة انتروبولوجية تجتمع فيها التقاليد والقيم والعادات
وفي هذا يقول" :فاألسطورة هي إحدى الطرق إلنتاج المعرفة واألساطير المنشرة لدى شعب
من الشعوب تعلمنا الكثير عن أخالقه وعاداته وحساسيته والمعرفة األسطورية ليست خاصة
بالمسلمين أو بالثقافة اإلسالمية وإنما هي ظاهرة انثروبولوجية أي تشمل جميع الثقافات
وجميع الشعوب" ،4ألن األسطورة تعتبر هي لب التاريخ والطاقة التي تحركه وتجعله يتفاعل
بشكل كامل مع كل عناصره .ويلفت النظر أركون هنا لما ارتكبه الماركسيون الماديون
الذين ركزوا في دراساتهم على الجانب المادي االقتصادي وجعلوه دافعا قويا حسب رأيهم
لحركة التاريخ وتحديد اتجاهه وتأسيس وتكوين الفكر اإلنساني "فالبنية الفوقية" لم تعد نتيجة
على الرغم من أن أركون تقدم بنقد الذع للمنهج االستشراقي في دراسة التراث اإلسالمي
إال أن رد المستشرقين عليه كان قويا جدا حيث يروا أن"مشروع أركون النقدي دعوة إلى
االجتهاد والتجديد ولكن ليس في الفكر اإلسالمي كما ّيدعي بل في الفكر االستشراقي فهو
يقوم بدور االستشراق من الداخل إلثبات ما أثبته المستشرقون من الخارج" ،3نفس ما فهمه
العديد من المفكرين الذين الحظوا ازدواجية في التصور لدى أركون تحمل تناقضا خطي ار
و أروا بأن أركون يعكس صورة غير مناسبة عن اإلسالم فهو "يوهم القارئ بأنه يخالفهم
مجرد وهم وتضليل وتغليط ألن أركون كثير المدح مخالفة جذرية منهجا وتطبيقا وهذا ّ
للمستشرقين وااللتزام بمنهجهم واالعتماد على تراثهم أما انتقاداته فبعضها انتقادات مشبوهة
4
ماكرة تتعلق بحثهم أكثر على التركيز على طرق هدم اإلسالم وإثارة الشبهات حوله".
1كيحل مصطفى ،األنسنة والتأويل في فكر محمد أركون ،منشورات اإلختالف ،الجزائر ،د ط ،2013 ،ص .55
2المرجع نفسه ،نفس الصفحة.
127
سواء بإخضاعه لقوى خارجية للطبيعة البشرية ...وتمثل األنسنة قطيعة حاسمة مع كل
نظرة الهوتية قروسطية صادرت كيان اإلنسان باسم األيمان وتمثل في الوقت نفسه تأسيسا
لرؤية جديدة تحل اإلنسان محل المركز من الوجود ...وبهذا فاألنسنة تتمفصل مع العقالنية
والعلمانية والتاريخية فهذه العناصر تشكل جوهر اإلنسية" 1أكد نتشه هذا الرأي بتصوره
اإللحادي مستهزئاً بمواقف الميتافيزيقيين والالهوتيين باعترافه بقتل اإلله كناية عن استرجاع
االنسان لدوره في كشف قوانين الطبيعة بدل االعتقاد بالعناية الربانية .وهذا أيضا ما دعا إليه
كارل ماركس بحكمه على اإلله بالخرافة .أيمانا منهما بأن االنسان لم يتحمل مسؤولياته في
فهم الكون وأرجع هويته للعالم الميتافيزيقي وعليه أن يسترجعها حتى يسترجع وجوده من
جديد ويعود من غربته عن ذاته ليصبح اله كونه.
بينما المس مصطفى حسيبة هذا المفهوم فيرى أنها "حركة فلسفية تدعوا إلى إعادة
الكرامة إلى القيمة اإلنسانية كانت ترجع التفكير العقالني وأكدت على تفوق اإلنسان بذاته
وليس عن طريق القوى التي ال تخضع إلى منطق العقل .2".بالتالي فإن األنسنة تضع
اإلنسان في إطار اهتمامها أما مراد وهبة فيراها"أسلوب في التفكير يدور على إمكان تحكم
اإلنسان في الكون ورفض المدهنات الدينية وإنكار التفاعل والخداع ومن شأن هذا أن يصبح
اإلنسان تشبيها باآللهة". 3
يفصل أركون في شرحه بين اإلنسانية واألنسنة فيرى في هذا المضمون أن "الفرق
بين األنسنة والنزعة اإلنسانية ألن األولى تركز النظر في االجتهادات الفكرية لتعقل الوضع
البشري وفتح آفاق' جديدة لمعنى مساعي البشرية إلنتاج التاريخ مع الوعي .أن التاريخ
صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقذة من
4
الضالل".
1زرفة بلقواس ،محمد أركون ،رؤيا في مسارات األنسنة ،مجلة التغيير االجتماعي ،العدد الرابع ،جامعة بسكرة ،محمد
خيضر.
2مصطفى حسيبة ،المعجم الفلسفي ،دار أسامة للنشر و التوزيع ،األردن ،عمان ،2009 ،ص .104
3مراد وهبة ،المعجم الفلسفي ،دار قباء للطباعة الحديثة للطباعة و النشر،مصر ،د ط ،2007 ،ص .105
زكي ميالد ،ص84
128
من هذا نفهم أن األنسنة ترجع في أصلها للغة الالتينية وجاءت كترجمة للمصطلح الفرنسي
« » Humanismeوهي ترتبط بالتاريخ والعقل والعلمنة وتمهد لنظرة وفكر جديد يتبنى فيه
االنسان توجهاته وفرضياته وأحكامه في دراسة العلل الطبيعية الفيزيائية والعلمية واالجتماعية
والتاريخية للظواهر الكونية المختلفة بعيدا عن التصور الغيبي في تحديد األسباب واستخالص
النتائج بهذا يصبح اإلنسان محو ار أساسيا للكون .
لقد ظهرت النزعة اإلنسية منذ بداية الفلسفة اليونانية وبالتحديد مع السفسطائيين إ ْذ
انكبوا في دراستهم على العقل اإلنساني فاعتقدوا أنه مقياس كل شيء الخير والشر ,الصحيح
والخطأ ولعل بروتاجوراس هو من األوائل الذين أسسوا لفكرة االنسان الرئيس أو اإلنسان
المعيار عند السفسطائيين منتقلين بذلك من السياق الطبيعي إلى السياق اإلنساني حيث يرى
بروتاجوراس في كتابه "عن الحقيقة أن االنسان مقياس األشياء جميعها فهو مقياس وجود ما
1
يوجد منها ومقياس ال وجود ما ال يوجد منها".
أما في العصر الحديث فقد ظهر تصور جديد وضع اإلنسان والقيمة اإلنسانية في
أولويات كل شيء .يثق فيه وفي إمكانياته وقدراته على صنع التقدم الحضاري .ظهر هذا
التصور أثناء النهضة األوربية خاصة في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر .في
رؤية جديدة أعادت المفكرين األوروبيين إلى النصوص اليونانية القديمة التي أ ِ
ُهملت العقل
اإلنساني إبان العصور الوسطى الساخطة على الفلسفة والثقافة المفعمة والفكر الالهوتي .هذا
التحول الجديد هو ما أطلق عليه بالنزعة اإلنسانية "والتي جاءت كرد فعل عنيف أمام سطوة
وقوة وهيمنة وجبروت الالهوت وتشكلت هذه النزعة على أساس إحالل مركزية الالهوت
وهذه كانت فلسفة عصر النهضة – في القرن السادس عشر الذي اندفع فيه األوروبيون
1مصطفى النشار ،تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي -دار قباء الحديثة للطباعة و النشر و التوزيع ،القاهرة ط،2
،2007ص .352
129
بحماس كبير نحو االقتالع من القيود واألغالل التي حاصرتهم وضيقت عليهم في ظل
هيمنة ومركزية الالهوت لذلك فقد حملت هذه النزعة معها موقفا عدائيا اتجاه الدين...
1
سعيا نحو التحرر والتمرد على الوضعيات السابقة ومن ذهنية التحريم والتكفير"
رواد هذا التصور يتوجهون أوالً إلى نكران كل مطلق ديني قطعي أتت به الكنيسة
ورِد كل هذه التعاليم الالهوتية المفروضة قه اًر من
الكاثوليكية خاصة في العصور الوسطى َ
السماء ورفض هيمنة الدراسات الميتافيزيقية على الدراسات اإلنسانية وفصل اإلنسان تماما
عن التبريرات الماوارئيات األحادية .ومن ثم االنتقال إلى تقديم مفهوم الفردية الذي يهدف إلى
تأسيس عالقة جديدة ومهمة بين االنسان وكونه أو عالمه حتى يصبح اإلنسان مرك از كونيا
ومعيا ار معرفيا حقيقيا .وأي معرفة ال تعتمد عليه أوال ترفع من شأنه ال جدوى منها وال لزوم
لها وأي معطى ال يخضع لدراسة إنسانية ال يمكن الوثوق فيه من أجل أن يصبح اإلنسان
هو محور كل التصورات واألطروحات التي حدثت والتي ستحدث مستقبالً ويصبح معيار
العقل في المعرفة وبناء األحكام هو األساس .على هذا النحو انطلقت تلك الحركة اإلنسانية
القوية فاتحة المجال واسعا ألهمية وألسبقية كبيرة للعقل على النص الديني عكس اتجاه رجال
الدين في العصور ا لوسطى في تقديسهم للنصوص وتسليمهم للموروث الديني على حساب
العقل .وبهذا التوجه يمكن التخلص من وساطة الكنيسة في وصول العقل للنص وتتم المعرفة
مباشرة من االنسان إلى هللا حيث يسترد العقل اإلنساني دوره ويعود من غربته عن ذاته.
بهذا"حدث انتصا ار للعقل الفلسفي والتنويري على العقل الالهوتي والنبوي وهذا االنتصار
الذي حصل ...كانت ثمرته "تحريم الروح واستقاللية الذات البشرية" ومعنى استقالل الذات
وسيدة مريدة وفاعلة وهذا هو مبدأ
تعامل اإلنسان تعامل اإلنسان مع نفسه كذات واعية ّ
الذاتية أما تحريم العقل والروح فقد عني احتالل العقل اإلنساني أي العقالني مكانة جديدة
بوصفه الحاكم األول والمرجع األخير في كل ما يختص بمعارف االنسان وأعماله ومساعيه
2
ومجمل عالقته بالطبيعة والعالم".
لقد حقق علماء ومفكري عصر النهضة األوروبية النضج العلمي المتطور والمزدهر
والخالص من جميع التصورات التقليدية وتبنوا التحول من مركزية الالهوت إلى مركزية العقل
الناقد المستقل من جميع القيود القديمة والمتحرر من أسر األفكار الميتافيزيقية .هذا االنتقال
في هذه الرؤية اإلنسانية يتضح بشكل جلي االهتمام الكبير باإلنسان ومرجعيته بتنصيبه
منطلقا رئيسيا لكل اإلشكاليات والتعقيدات واألسئلة الكونية وهو المؤشر المطلق لمختلف
األحكام العامة والخاصة .غير أن هذه المبالغة في تبجيل العقل ذكرتنا فيما حصل مع رجال
الدين من تقديس للنصوص أدى إلى أسر العقل وتقييده .وكأن ما حدث بين العقل والدين
هو تبادل للمواقع فقط على حساب الفكر فكالهما سعى الحتالل الساحة الفكرية بتغييب
اآلخر ,وهذا فعال ما تم مع االتجاه األنسني الذي غيب تماما الجانب الروحي والجوانب
األخرى ونسي أن العقل هو أيضا غير مطلق وخاضع هو أيضا لتغيرات السياقات
االجتماعية والثقافية والسياسية هذا ما تناوله فالسفة ما بعد الحداثة في مالحظاتهم عن هذا
االتجاه الذي أله العقل رغم خضوعه للتفكيك والنقد.
1عبد اإلله يلقزيز ،العرب والحداثة ،دراسة في مقالة الحديثين ،مركز دراسة الوحدة العربية ،بيروت ،ط،2007 ،1ص.62
132
و"مسكويه" من خالل دراسة ودمج التراث العربي اإلسالمي بالفلسفة اليونانية جدير
باالعتراف والتقدير وينبع من منبع األنسنة والعقالنية التي سادت أنذك .بهذا يقدم أركون
تصو ار لما حصل في التراث اإلسالمي الذي أبدى تقدما واضحا في التوجه العقلي عن الفكر
األوربي من خالل التناول العقلي قبل حوالي ستة قرون.في جواب صريح على المستشرقين
الذين حكموا على الفكر العربي برفض أو التأخر في أنسنة المعارف وذهبوا إلى أنها نزعة
ظهرت في القرن السادس عشر في ايطاليا ثم أوربا.
يتضح لنا أن العامل االقتصادي أدى لظهور اتجاه فكري جديد تمثل في النزعة
اإلنسية بعد التعامل المباشر من خالل التجارة مع كل التنوع الفكري والثقافي الذي كان سائد
في تلك الفترة.
ج -العامل الثقافي:
كما لعب االحتكاك الثقافي دور مهم في إبراز تلك النزعة اإلنسية من خالل التعارف
والتبادل والتأثر والتأثير ومن خالل اكتشاف التراث اليوناني خاصة"،المجال الثقافي مكن
تقدم الفلسفة والعلوم اليونانية من تدعيم الفلسفة المعلمنة في القرن الرابع هجري /العاشر
ميالدي".2
لذا فإن قبول التعدد واالتفاق عليه واالعتراف باالختالف باحترام كل التصورات سمة
اتسمت بها المناهج اإلنسانية التي جسمت االنفتاح على مختلف الثقافات والمذاهب واألديان
بعد ما جعلت كل البحوث الفكرية خاضعة لفرضيات العقل وحده وإسناد كل األسئلة
والتعقيدات الكونية له كمنطلق فعلي لخوض مغامرة االستكشاف العلمي والتاريخي واألدبي
وإخضاع أيضا اإلجابات والتفسيرات لمنطق العقل اإلنساني ولقد وجد أثر تلك النزعة في
1محمد أركون ،األنسنة واإلسالم مدخل تاريخي نقدي ،ت :محمود غرب ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بيروت لبنان ،ط،1
،2010ص .37
2محمد أركون ،المرجع نقسه ،ص.37
134
التراث العربي اإلسالمي من خالل التوحيدي ومسكويه في القرن الرابع هجري عندما تميزت
هذه الفترة "بنماذج تحتذي إنها تكشف بوضوح وصرامة نقدية ويقين متقد عن اهتمامات
الجيل الالحق للفارابي وابن سينا وقد أعلن التوحيدي بوضوح ...تمرده الفكري ونقده القاطع
وذلك من دون أن يتخلى عن بعده الروحي .ومن أجل ذلك كان التوحيدي يريد تعطيل
الشعائر الدينية من أجل خلق فضاء مناسب للتعميق الروحي" .1.ألن التوحيدي اشترط في
تحقيق التقدم والتطور واإلبداع عامل توظيف العقل في ذلك دون أي تخوف من التنوع
والمصادر واالنفتاح الشامل على التباين الحاصل في مختلف الحركات الفكرية والدينية
ورموزها واالستفادة من نتاجاتها ونتاجات العصور السابقة والحاضرة في مختلف المجاالت.
هذا نفسه ما ذهب إليه موسكويه "فقد كان صديق التوحيدي وكافال لجبرته ومحاورته إذ أنه
يعكس الصفاء والتربية الدؤوبة المتأنية المتزنة للحكيم الفيلسوف الناهل من الثقافة اإليرانية
2
والمنفتح على تاريخ كوني لثقافات وشعوب مختلفة".
يعرض محمد أركون هنا مثالين لرؤية عربية إسالمية جسدت األنسنة .وهو إ ْذ يقدمهما
فهو يلفت النظر إلى إمكانية إحياء هذه النزعة في الفكر العربي اإلسالمي من أجل وضع
دافع قوي لالنطالق في دراسة جريئة .هذا التصور الذي ظهر منذ القرن الرابع
ألسباب عديدة "هناك سببان للهجري/الحادي عشر الميالد في الواقع اإلسالمي أهمل
يدعوان عن التجربة اإلنسية من أجل موضعة اإلسالم في التاريخ بشكل أفضل .األول هو
أن هذه التجربة كانت قد نسيت وأهملت من قبل المفكر العربي اإلسالمي نفسه منذ أن كان
السني في القرن الخامس الهجري /الحادي عشر ميالدي ...إنها
حصل رد فعلي الفعل ّ
ليست منسية فقط وإنها هي منكرة ومرفوضة بشكل مزدوج من قبل اإلستشراق الذي يرفض
أن يخلع على اإلسالم تاللك التجربة الشهيرة ...كما أنها مرفوضة من قبل التيار األصولي
اإلسالمي المعاصر الذي يريد التشديد على األصل اإللهي ..أما السبب الثاني فهو فلسفي
مرة أخرى يرجع أركون إللقاء الالئمة على العقل اإلسالمي في تهميش األنسنة باعتماده
على األحكام المقدسة وينتقد الفكر اإلستشراقي الذي استبعد دور االنسان في الساحة الفكرية
اإلسالمية كما انتقد التطور التكنولوجي المادي الذي غيب النزعة اإلنسية وسيطر على
العقل التواصلي حسب رأي هابرماس.
سعى أركون مجتهدا من أجل إثبات السبق في تناول الفكر العربي اإلسالمي النزعة
اإلنسية منذ عصور قبل النهضة األوربية ألن الثقافة اإلسالمية كانت تهدف إلى االنفتاح
واالستفادة من مختلف األفكار واستثمارها بالعقل لتحقيق اإلبداع.
غير أن أركون يرى أن هذه النزعة اإلنسية في الفكر اإلسالمي سرعان ما تالشت
واضمحلت ابتداء من القرن الخامس الهجري .بعد أن "فرضت اللغة العربية والتعاليم
اإلسالمية نفسها فيها آخر مصي ار مختلفا جدا عن ذلك الذي شهدته بدءا من القرن الخامس
الهجري /العاشر ميالدي حيث ابتدأ االنحطاط وذيول االتجاهات اإلنسانية والعقالنية ...التي
كانت بالكاد قد ابتدأت تؤكد نفسها أقول راحت تدوي وتموت شيئا فشيئا ،والسبب هوأنها
2
حوربت من قبل قوى اجتماعية داخلية وخارجية".
دعوة يرى من خاللها أركون ضرورة استفاقة المفكرين المسلمين والعرب من سباتهم
موجها لهم الخطاب بالرجوع في البحث عن أسباب هذا التراجع الفكري ومراجعة جميع العلل
االجتماعية والثقافية واالقتصادية التي أدت لهذا التعثر المخيف "فهذه التحريات هي وحدها
القادرة على الكشف عن األسباب الدنيوية العريضة ...لتهميش النظام المعرفي الذي بلوره
جيل مسكويه ودافع عنه إنها هي وحدها التي تكشف لنا عن سبب انهيار هذا النظام أو
تصفيته أو نسيانه في الساحة العربية ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا ...ولئن جاز
سوسيولوجيا الفشل في هذه ينبغي أن ندرس المجريات التي تمت من خاللها تفكك عملية
أركون ال يعتقد حسب رأيه بأن التفكير الديني الالهوتي هو وحده سبب االنغالق على
الثقافات األخرى وليس وحده من حكم على العقل بالدغمائية بل اجتماع كل تلك العوامل
الذاتية والفكرية والمادية هو من سمح لأليديولوجية الميتافيزيقية بتمثيل الفكر محل النزعة
االعقالنية واإلنسية.
يواصل أركون في تبرير تراجع النزعة اإلنسية في الفكر العربي اإلسالمي بطرحه
لعدة عوائق حالت دون استمرارها في منهجه ومن بينها:
-األرثودوكسية :استحدث محمد أركون هذا المصطلح لتماثل دور الكهنة في الكنيسة
بدور رجال الدين في اإلسالم وهو يراها أنها":هيئة من الفقهاء تسيطر على األرثودوكسية
وتشرف على تطبيق القانون الديني وذلك بالتعاون مع سلطة الدولة فجماعة العلماء من كبار
رجال الدين قد أدوا في اإلسالم الكالسيكي كما في األنظمة السياسية المعاصرة دو ار مشابها
في نواح كثيرة لدور الكهنة في الكنيسة المسيحية قبل أن يحصل الفصل بين الكنيسة
والدولة فشخصيات من مثل المفتي والقاضي واإلمام يشكلون هيئة دينية ومدنية في آن
2
معا".
أركون منذ الوهلة األولى انطلق في دراسة العقل اإلسالمي -متأث ار بما ما وصل
إليه المفكرون األوربيون في دراسة نصوصهم وتاريخهم في تلك الفترة -ومعجبا بأدواتهم
التي استعملوها في بحوثهم رأى في الموروث اإلسالمي أتذك ما أروا هم عن موروثهم
واتخذ أحكامهم معيا ار للحكم على العقل اإلسالمي العربي ليستنتج أن العقل اإلسالمي
العربي ظل غارقا في نوم عميق وذلك بسبب رجال الدين الذين فرضوا الصمت أمام
2محممد أركون ،الفكر اإلسالمي ،نقد واجتهاد ،مرجع سابق ،ص .136
137
النصوص المقدسة ووقفوا في وجه البحث العقلي والدراسة اإلنسانية وحرموا اآلخر وكل ما
يأتي منه ونصبوا أنفسهم الناطق الرسمي والوحيد باسم الرب وجعلوا من أنفسهم وسيط بين
العقل وهللا مثلهم في هذا مثل الكهنة في الكنيسة األرثودوكسية الذين عمدوا لرفض األنسنة
والعقالنية وحاربوا كل من حاول فهم الغموض وأراد رفع القداسة على النصوص المقدسة.
نفس ما نجده تماما من تعصب فكري وانغالق في الرؤية في التيارات الفكرية والسياسية
كالشيوعية والعلمانية .فكانت كلها تتبنى الخالص وترفض كل من يعارضها وتصفه
بالرجعي.
ما دفع أركون لإلصرار على دعوة المفكرين العرب إلى إعادة تناول موروثهم العربي
اإلسالمي بتصور نقدي وتحليل عقلي محض يأخذ كل المعطيات بنحو تفكيكي تستوي فيه
مختلف التعاليم الدينية المطروحة وتتيح بكل قناعة الفرصة للباحث لالستفزاز النص بأسئلة
العقل حتى يستل الحقائق منه دون رهبة ودون ندم وخاصة في تناول (الالمفكر فيه)الذي
بقى لفترة طويلة حبيس الخوف والتبجيل.
السياج الدوغمائي :في تصور أركون الدوغمائية أعاقت بشكل مباشر النزعة اإلنسانية
وتوجهاتها حيث أنتج العقل المنغلق ,المقيد كل تأخر فكري وتخلف علمي وتفكك اجتماعي
وفي هذا يتصور أركون أن الدوغمائية لها" انعكاسات واقعية أو تطبيقية على حياة اإلنسان
وإنجازاته وتقدمه وتحرره أو تأخره وفشله وضعفه وانحالل قيمه ومذاهبه ونظمه ومساعيه
الهادفة إلى تحقيق السعادة والنجاة وسائر المطامح وإن الصعوبة الكبرى التي تواجهنا هنا
تكمن في كيفية تحريم العقل النقدي من القيود االبستيمية واإلبستيمولوجية التي فرضها العقل
الدوغمائي على جميع الممارسات الفكرية والثقافية".1
يسترسل أركون في نقده للعقل الدوغمائي فيراه أنه ال يقبل أي طرح أو بحث نقدي ألنه
محاط بسياج مغلق وحبيس أفكار منغلقة على ذاتها .عقل أحادي متعالي نرجسي ال يؤمن
باآلخر وال يتقبل التنوع والتبأين بل يرى نفسه مركز لكل التصورات وهو"يحذف من دائرة
بحوثه مسألة المحتويات والمضامين لمصلحة األشكال والوظائف واآلليات وطرق
1محمد أركون ،قضايا في نقد العقل الديني ،كيف نفهم اإلسالم اليوم ،ت :هاشم صالح ،دار الطليعة للطباعة و النشر ،
بيروت ص .6
138
االشتغال ...فالعقلية الدوغمائية تركز أساسا على ثنائية ضدية حادة هي :نظام من األيمان
أو العقائد /ونظام من األيمان واالعتقاد بكلمة أخرى أكثر وضوحا فإن العقلية الدوغمائية
ترتبط بشدة وبصرامة ولمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة
مجموعة أخرى وتعتبرها الغية ال معنى لها ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه
1
أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن واألجيال على هيئة ال مفكر فيه".
إن الدغمائية تصور أحادي متعالي ال يعترف إطالقا بالدراسة النقدية وال يتقبلها نهائيا
مهما كانت البراهين العلمية وبقي هذا العقل على العموم يؤمن بمركز يته وقداسة أفكاره
مرسخا بذلك جملة من المعتقدات والتصورات المبهمة التي دخلت في دائرة (الالمفكر
فيه).منغلقا على ذاته طيلة عصور على غرار العقل العربي اإلسالمي بل وأكثر من ذلك
الزالت لحد اآلن الساحة العربية اإلسالمية خاضعة له .
يقدم أركون تفسير( المفكر فيه) و( الالمفكر فيه) يعني "هو كل ما أتيح للفكر العربي
اإلسالمي – أن يفكر فيه خالل تاريخه الطويل ( المفكر فيه) وكل ما لم يتح له أن يفكر
فيه( الالمفكر فيه) فهو يرى أن ما لم يفكر فيه الفكر اإلسالمي أهم واجل شأنا مما كان قد
فكر فيه ومهمته اليوم كمجدد للفكر اإلسالمي أن يفتتح تلك القارة الواسعة من الالمفكر فيه
والتي بقيت مغلقة زمنا طويال...وذلك ألسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها".2
لهذا يرى أركون أنه ينبغي علينا أوال البحث عن المفكر فيه في النصوص الدينية ثم بعد ذلك
نتطرق (لالمفكر فيه).
ألنهما حسب أركون مفهومان مترابطان متالزمان ومتكامالن"وهكذا نجد أنفسنا أمام تشكيل
جبار لممكن التفكير فيه من نوع أسطوري –ديني منضغط في تسلسل زمني( 324-1ه/
936-622م) ضيق ومنفتح في آن معا على قبل /وبعد من األبدية يبدوا هذا الممكن
1محمد أركون ،الفكر اإلسالمي ،قراءة ،علمية ،مرجع سابق ،ص 6-5
2محمد أركون ،الفكر اإلسالمي قراءة علمية ،ص.18
139
التفكير فيه ( )pensableقاسيا إكراهيا وبالتالي مرتبطا بال مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر
أهمية كما توغلنا في زمن األرثودوكسية".1
يهدف تحرير وانفتاح العقل العربي اإلسالمي إلى تمكينه من دراسة (الالمفكر فيه) إ ْذ
ال ينبغي الفصل بين (المفكر فيه) و(الالمفكر فيه) بل بالعكس ينبغي اعتبارهما مفهومان
متالزمان ومترابطان ألن البحث في (الالمفكر فيه) يستدعى دراسة المسائل والتعقيدات التي
أدت للوصول للدغمائية األرثودوكسية بواسطة العقل النقدي للتراث اإلسالمي ولهذا وجب
العمل على "تعرية الوظائف األيديولوجية والتالعبات المعنوية واالنقطاعات الثقافية
والتناقضات العقلية التي تساهم في نزع الشرعية عما كان متصو ار ومعاشا طيلة قرون وقرون
بمثابة أنه التعبير الموثوق عن اإلرادة اإللهية المتجلية في الوحي ...يعني أن نخترق أو
ننتهك ( )transgresserالمحرمات والممنوعات السائدة أمس واليوم ونتهم الرقابة
االجتماعية التي تريد أن تبقى في دائرة المستحيل التفكير فيه ) (impensableكل األسئلة
لتي كانت قد طرحت في المرحلة األولية والبدائية لإلسالم".2
أركون يريد قراءة نقدية جديدة للتراث اإلسالمي وإعادة بناء ألسسه العلمية
واالجتماعية والتاريخية بواسطة المناهج والوسائل الحديثة المتمثلة في االجتماعية والعلوم
اإلنسانية.
أركون بعد دراسة عميقة للفكر اإلسالمي يقر باحتالل النزعة اإلنسانية موقع مهما
عبر تاريخه كما يريد من خالل رأيه إبراز نضج الفكر اإلسالمي في مرحلة معينة بتناول
عقلي بمختلف القضايا والمعطيات وهنا يقدم أركون بشكل فلسفي نزعتين نزعة علمانية
ونزعة دينية خاضعة لرجال الدين وال أساس لها من الواقع ألنها تمثل سلطة ميتافيزيقية
محصورة في تصور مقدس ال يتيح المجال لقراءة نقدية للنصوص الدينية هذه النزعة الدينية
تجسدت في الديانات كلها سواء كانت إسالمية أو يهودية أو مسيحية من خالل تقديس
يرى أركون أن فهما تقليديا للدين ساهم في تثبيط العقل من خالل تقييد اإلنسان
بمختلف أطيافه وطبقاته من مفكرين وعلماء بأحكام الدين وبتسييج العقل بمجموعة من
العقائد وفرض الوالء والطاعة المطلقة للتعاليم اإللهية وبالتالي أخر وأعاق ووقف في وجه
النزعة اإلنسية كمنهج نقدي عقلي خوفا من التعرض إلعادة النظر في المنتوج الديني
وتصحيحه"،.ولقد ظل هذا النظام الديني مهيمنا على عقول البشر حتى ظهور الحداثة
الفكرية وسالحها المفضل النقد التاريخي للنصوص كل النصوص بما فيها النصوص
المقدسة ...ماذا تقصد بأنها خاضعة للتاريخية؟ نقصد بأنها خاضعة لضرورات الحياة
السياسية واالجتماعية والثقافية وأنها متغيرة بتغيرها".2
لقد برر أركون هذا االتجاه العقلي النقدي في الفكر اإلسالمي بضعف صمود النص
الديني أمام التغيرات التي حصلت وهشاشة تلك األحكام الفقهية والفتاوي أمام السيرورة
االجتماعية واالقتصادية والتاريخية عبر الزمن وتغير تلك األحكام بتغير الظروف
االجتماعية واالقتصادية والتاريخية مثلما تقره القاعدة الفقهية "تتغير األحكام مع تغير الزمان
"ما جعل أركون يطرح مفهوم التاريخية لدراسة الموروث اإلسالمي بتناول عقلي انسي
خالص.
حسب رأي أركون التراث الديني أو المقدس "اإلسالمي( كالتراثيين المسيحي أو
اليهودي) يتمتع بامتياز خاص هو :ممارسة األستاذية العقائدية على كل مسألة أو مشكلة
1محمد أركون ،نزعة األنسنة في الفكر العربي المعاصر ،جيل مسكويه و التوحيدي ،ت :هاشم صالح ،دار الساقي ،بيروت
لبنان ،ط ،2006 ،1ص 17
2محمد أركون ،المصدر نفسه ،ص.17
141
تنبثق في التاريخ البشري وهم يعتقدون أن التراث الديني يمتلك وحده المبادئ والمنهجية"
الصحيحة" التي تمكنه من تقديم أجوبة منسجمة مع مجمل القيم والعقائد اإلنسانية ...يدعي
في الوقت ذاته سيطرته على كل الميادين العلمية ...وهنا في هذه النقطة بالذات يتولد
الصراع المحتوم بين الفقهاء الذين يمارسون هذه األستاذية العقائدية وبين كبار
1
االختصاصيين في المجاالت العلمية".
يدافع أركون بكل قوة عن موقفه في النزعة اإلنسية ويدعوا العقل اإلسالمي الستخدام
المناهج الحديثة واستثمارها في إعادة بناء الفكر على أسس عقلية لتحقيق األهداف المرجوة
وال يتأتى هذا إال بتحرير العقل من الدين ووضع الموروث الديني على طاولة التشريح بنقد
عقلي سليم حتى يتمكن من التعافي من قيود الدوغمائية ويتمكن من تحقيق النهضة "،تعاني
من إشكالية ثبات الحقيقة ثم إحاطة اإلله بها ثم قدرة اإلنسان الوصول إليها من هذا الطريق
فاإلله يخاطب االنسان من طريق الوحي ومن خالل قراءة الوحي يستكشف اإلنسان الحقيقة
ومجرد اعتقاد اإلنسان أن الحقيقة موجودة في النص –ولو كان كالما إلهيا – يفقد االنسان
2
جزءا مما يسميه أركون " المسؤولية الفكرية''.
بما أن الدراسة النقدية تطلبت الحرية والجرأة من الباحث فإن األنسنة مكنت العقل عموما
ماديا ال ديني أكدت من
أدبيا ً
فلسفيا ً
ً مذهبا
ً أساسا
ً من هذا التصور حيث أنها اتجاه َمَث َل
خالله على فردية االنسان ضد الدين الذي غيب وأسر لفترة طويلة العقل اإلنساني كما
دعت إلى تحرير االنسان من أغالل وقيود العصور الوسطى وسيطرة الكنيسة عليه
واستبعدت الوقوف بين العقل وأدواته وبين النص وما تضمنه .فالنزعة اإلنسية ليست نسقا
فلسفيا معينا وجامدا وال هي تعاليم مغلقة على ذاتها بل جدال مستمر عرف عدة تصورات
قبل القرون الوسطى على اعتبارها حق مشروع في الفكر اإلنساني منذ قديم الزمان ولكن
تعددت أشكال التعبير عليها فقط .وبالعودة إلى ما أراده أركون من الثقافة العربية اإلسالمية
هو إسقاط هذا المفهوم عليها بممارسة النقد العقلي بهدف نزع القداسة على التاريخ اإلسالمي
حيث رأى أن التعاليم في الفكر اإلسالمي ينبغي اعتبارها غير مطلقة وعليه يمكن تحرير
يدعو أركون إلعادة بناء التاريخ اإلسالمي بنزعة إنسية من خالل البحث في أسباب
تغييب هذا التصور في تاريخ الثقافة العربية اإلسالمية والرجوع للنقطة التي عرفت تراجع
العقل اإلسالمي بعد االزدهار الفكري الذي عرفه ومن خالل معرفة تلك العوامل يمكن وضع
أرضية جديدة انطالقا من تصور عقلي يحتوي تلك المعارف والقيم ويقدم إجابات مقنعة
تمكننا من العودة مرة أخرى للنزعة اإلنسية ألن تلك الفترة الكالسيكية أظهرت احتراما كبي ار
للذات اإلنسانية التي كانت تصبوا لتحقيق االزدهار والتطور وفك أغالل الدوغمائية المنغلقة
بسالح العقالنية المستنيرة فهي" نظرية ترفض كل أشكال االغتراب واالضطهاد وتطالب
1
باحترام الكرامة اإلنسانية وحق األشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها".
تتفق تلك الرؤية مع ما نادى إليه كانط في اعتقاده أن االنسان هو موضوع وفاعل (الذات)
وهي نفسها لها دخل بالمعرفة والعمل الفكري هو نتاج تفاعل واحتكاك مع اآلخر ألن بنية
الفكر معدة من أجل أن تستوعب في داخلها جميع المعارف .والنزعة اإلنسية في الثقافة
العربيى اإلسالمية مست جميع المجاالت"فالعصر الكالسيكي كان قد شهد النزعة اإلنسانية
1زرقة بلقواس ،محمد أركون،رؤية في مسارات األنسنة ،مجلة التغيير االجتماعي ،جامعة بسكرة ،محمد خيضر ،العدد
الرابع.
143
نظريا وعمليا واتخذت لديه من الناحية األسلوبية صيغة األدب بالمعنى الواسع للكلمة وليس
بالمعنى إجمالي أو الفني وقد اعتنى األدب بالعناصر والمعطيات الفلسفية بمعنى أن كتب
األدب الكالسيكية كانت تحتوي على البيان األسلوبي واألفكار الفلسفية في آن معا".1
ألن الثقافة العربية اإلسالمية شهدت في العصر الكالسيكي جداال فكريا وعلميا ثريا
وعرفت التحاق علماء ومفكرين من ذوي الثقافات واألصول الحضارية المتنوعة باإلسالم
وحضارته .هذا كله استطاع أن يجعل في تلك الفترة محافل الخلفاء ملتقيات للفكر وعرض
لكل ما استجد على الحياة العلمية والفكرية بين النخبة الفكرية في هذه المجتمعات .إ ْذ أن
تركيزهم في ذلك العصر لم يكن حول النصوص الدينية فقط بل كان أيضا حول االنسان
الذي تمكن من البحث العلمي وتقديم الدالالت وتفسير التعاليم بإرادة حرة صنعت اإلبداع
والتطور بكل وعي ومسؤولية وفي هذا تبنى المفكرين في هذا العصر النزعة اإلنسية التي
آمنت باهلل وآمنت بإرادة االنسان المتمردة والمتحررة من القيود .وجمعت العمل بالعلم كما
جاء في رأي التوحيدي.
في هذا الصدد يقول أركون" :لقد سبقنا أبو حيان التوحيدي إلى مثل هذه اإلشارات
ضد الممارسات االعتباطية للعقل واإلعراض عن والتنبيهات وأظهر دور التمرد العقلي ّ
قوانين البحث العلمي ...رحم هللا أبو حيان الذي علمني القيمة الفكرية للتمرد العقلي إذا ما
ضاق المجال أمام الممارسة الهادئة "والمنهاجية" للعقل وهو الذي قال وك ّرر "إن اإلنسان
أشكل عليه اإلنسان" لقد ناضل أبو حيان وهوجم وظلم وعاند وثابر وصبر ...لكي ال يستعبد
اإلنسان لعنف اإلنسان".2
يرى أركون أن أبو حيان التوحيدي كان واحدا من هؤالء الذين اجتذبهم هذا الجدال
الفكري والعلمي الجريء والثري ولقد ترك للفكر والثقافة واألدب والعلم تراثا يفتخر به التراث
العربي اإلسالمي إلى اليوم .عكس بطرحه بشكل واضح النزعة اإلنسية التي نصبوا نحن
إليها والتي حملها عصر النهضة كجنين بدت مالمحه بشكل أفضل وتام في عصر األنوار
هذه النزعة التي اهتمت أكثر باإلنسان وبالتبادل الثقافي وبالجدال الفكري واستبعاد العنف
1محمد أركون ،نزعة األنسنة في الفكر العربي ،مرجع سابق -ص .14
2محمد أركون ،قضايا من نقد العقل الديني ،ص .10
144
ورفضه وهي نزعة واقعية ليست نزعة إنسية شكالنية "،ال عالقة لها بالواقع فهذه اإلنسية ال
تقيم أية مقارنة بين تعاليم الفلسفة اإلنسية النبيلة والسامية وبين الممارسات السياسية التي
تجري على ارض الواقع ...هذه اإلنسية شكالنية ويحق لفوكو وغيره أن يدينوها خصوصا
بعد كل ما حصل أثناء المرحلة اإلستعمارية وأثناء الحربين العالميتين األولى والثانية من
مجازر لإلنسان يشيب لها الولدان".1
انطالقا من هذا فإن أركون يقترح دراسة سوسيولوجية للبحث في أسباب الرئيسية وراء
تراجع النزعة اإلنسية لذا بداية "ينبغي أن نطرح مشكلة االنحطاط -أو الجمود -ال يقرره
شخص واحد ...االنحطاط يقرره تيار تاريخي أو بنية اجتماعية بأسرها فإذا ما جمدت بنية
المجتمع أو تكلست أو تراجعت تكلس الفكر فيه وتراجع .وإذا ما ازدهر هذا الفكر وتألق
المجتمع هو الذي يحسم األمور وليس الفرد األطر االجتماعية ،للمعرفة هي التي تستقبل
الفكر الفلسفي أوال تستقبله هي التي تتيح له أن يزدهر أو تضيق عليه الخناق".2
ألن أركون يرى أن هذه النظم احتواها الفكر العربي اإلسالمي وتبناها في مرحلة معينة من
تطوره إال أنه تراجعت واضمحلت بداخله تلك الشعلة اإلنسية واتجه لرؤية دينية منغلقة تماما
على ذاتها وعلى اآلخر تترجم ذلك بصراع الهوية والحفاظ على الموروث الديني" .وعندما
يخشى المجتمع على نفسه ويشعر بأنه مهدد باألخطار فإنه ال يعود يفكر بشكل عقالني
هادئ وإنما يصبح مياال إلى الفكر األيديولوجي الذي يجيش الجماهير من أجل الكفاح أو
الجهاد ومواجهة األخطار".3
هذا ما يجعل الفكر الدوغمائي يسيطر بدال من الفكر التنوري العقالني المبني على النقد
التاريخي ،فالمجتمع هوالذي يلعب الدور لكي يحمي العقل حتى يستطيع أن ينمو ويزدهر،
وإذا حدث العكس فيصبح الفكر األرثودوكسي الدوغمائي هو دائما المسيطر على الوعي
والفكر االجتماعي.
1محمد أركون ،الفكر اإلسالمي نقد و اجتهاد ،مرجع سابق ،ص .256
2محمد أركون ،قضايا في نقد العقل الديني ،ص .301
3المرجع نفسه ،ص .301
145
إن محمد أركون يرى أن استبعاد العقل وخضوع النصوص الدينية للتأويالت الفكرية
من طرف المتسابقين على السلطة ثبط امتداد وتطور النزعة اإلنسية في القرن الرابع الهجري
وأدى هذا إلى الدوغمائية المنغلقة التي أنتجت المذاهب الفقهية التي تلقت تعاليمها من الفكر
التقليدي .تماما ما حدث مع رجال الدين في الكنيسة حيث أنتجت (المدارس السكوستيكية)
في العصور الوسطى .يعتبر هذا التوجه في الفكر اإلسالمي نقطة تحول سلبية غربت
العقل عنه وعمقت البعد بينه وبين النزعة اإلنسية وعليه البد من وضع استفسار شامل
لمعرفة العلل التي أوقفت مسار الفكر في تلك الفترة التاريخية.
يذهب أركون إلى أبعد من ذلك عندما يرى أن ما كتب في الفكر اإلسالمي الكالسيكي
أعمق بكثير مما كتب في الفكر اإلسالمي المعاصــر .ويتساءل عن ما هي العوامل التي
ساعدت على ظهور األنسنة في العصر الكالسيكي اإلسالمي؟ ولماذا تراجعت ولم تكتمل
سيرورتها فيه؟ واألهم من ذلك كيف يمكن بعث هذه النزعة من جديد في الفكر العربي
اإلسالمي المعاصر؟
أركون يطرح هذه األسئلة وفي نفس الوقت يدعــو إلى التحرير الفكري من خالل طرح
مشكلة المقدس وتحديد العالقة بين الحقيقة والوحي واللغة والتاريخ وغرضه من كل ذلك هو
التحرر من الالهوت القروسطي ،وتوليد الهوت جديد ليبرالي إنساني ،يستبعد المسلمات
الدوغمائية ويؤسس للقيم الفلسفية النقدية المناهضة للمطلق والمقدس ،ورد االعتبار للعقل في
صياغة األسئلة بعيدا عن كل سبق ديني .ألنه يرى أن ارتباط اإلسالم بالسياسة وارتباط
المفكرين بالسياسيين في العصر الحديث لم يسمح باستعادة الرصيد العقلي الفلسفي وبالتالي
لم يسمح باستعادة النزعة اإلنسية ألن هؤالء المفكرين وقعوا في فخ التعالي والتقديس للتراث
والذي أدى لمشكل الهوية التي تقف في وجه الدراسة النقدية وفي وجه االنفتاح والتبادل" .وإذا
كان هذا السبب السياسي في هيمنة هذا السياج في الفكر اإلسالمي المعاصر فإن سببه
األساسي يتمثل في ثالث قوى مشكلة لنظام العمل التاريخي لهذه المجتمعات بالذات وهي
هللا والسلطة والجنس وهي قوى تنتج من تفاعلها نوعا ما من "الربوبية األرثودوكسية" وهو ما
146
يجعل العقل اإلسالمي المعاصر يبني تصو ار عموديا للكون عمادة مفهوم السلطة وممارستها
الصاعدة نحو هللا مرو ار برئيس العائلة فرئيس األمة".1
يركز أركون على الرجوع للتجربة اإلسالمية التي حدثت في القرن الرابع للهجرى من
أجل إعادة االنطالق بنفس التصور الذي انطلق منه روادها أمثال التوحيدي الذي يقول عنه
أركون" أحلم شخصيا بمن ينهض بتأليف كتاب كبير يسترجع على ضوء التاريخ الثقافي
والسياسي واالجتماعي "لإلسالم" تلك الصرخة المؤثرة التي أطلقها أبو حيان في الهوامل
2
والشوامل قائال "إن اإلنسان أشكل عليه اإلنسان".
األكيد مما تم طرحه أن أركون يهدف برأيه إلى إحياء النزعة اإلنسية في الفكر العربي
اإلسالمي ويسعى إلى اعتبارها منهج دراسي غير غريب على الفكر اإلسالمي من خالل
تقديمه لما وصل إليه المفكريين في تلك المرحلة أمثال مسكويه والتوحيدي وتحديد ما وصلوا
إليه أنذاك نقطة بداية جديدة إلعادة تشغيل جهاز العقل اإلسالمي ببرنامج عقالني نقدي
بهدف التأسيس للنزعة اإلنسية في الفكر العربي اإلسالمي من أجل أن يتحرر من التقديس
ومن أجل أيضا االعتماد عليها لفتح أفق واسع جديد بتصور بناء قائم على التعدد واالختالف
واجتماع كل األذواق واأللوان من مختلف األجناس واألعراق و األديان على طاولة الفكر
اإلسالمي العربي .حتى يتمكن المفكر اإلسالمي العربي من مواجهة وتجاوز االنسداد الذي
حصل في اإلسالم بسبب(الدوغمائية)التي حصرت الفكر في دائرة(الالمفكر فيه)والحقائق
المطلقة .هذا التصور الذي جعل الت ارث اإلسالمي خارج عن التاريخ وال يخضع لقوانينه
وبالتالي يقف جانبا ليترك حركة النهضة تمر دون محاولة منه لركوبها ودون التفكير حتى
في مرافقتها والسير في االتجاه الذي تمكن الغرب من خالله الوصول ألبعد محطة حيث يرى
في هذا الصدد "إن الهدف األول من كل معاركي من أجل األنسنة إذن هو وضع الفكر
الغسالمي في أزمة فكرية روحية هذا الفكر الذي تصادره وتحتجز أيديولوجية المعركة وتكبله
مؤسساته الميثيلوجية القصصية التاريخية منذ 661ه .كما تقوم بذلك شر ذمة من المنافحين
1مختار الفجاري ،نقد العقل اإلسالمي عند محمد أركون ،مرجع سابق ،ص .158
2المرجع نفسه ،ص .160 ،159
147
الجدد néo-apologétesأو باألحرى زمرة من أشباه علماء الالهوت صنعتهم وسائل
1
اإلعالم".
لقد اعتمد أركون على أدوات عمل جديدة تعتبر من أحدث المناهج في علم النفس
وعلم التاريخ واأللسنيات واألنتربولوجيا من أجل دراسة نقدية عميقة وتصور شامل يحتوى كل
الثقافات واألديان تتبناها النزعة الكونية من خالل "العقلي االستطالعي" La Raison
"Engendreألنه يوافق تماما هذا التقاطع والتباين والتماثل في الرؤى ويمكنه قراءة
النصوص والتاريخ قراءة صريحة وجريئة دون خوف ودون حرج وبكل حرية حتى تلك
المفاهيم ..التي استبعدت والتي اجتنبت منذ القدم في إطار التعايش السلمي" ،ال تقوم على
األوامر والنواهي التي تتضمنها القواعد األخالقية بقدر ما تقوم على االحترام والتقدير للذات
واألم أي لإلنسانية التي تجعل أفق الكائنات اإلنسانية بكل فروقاتها واختالفاتها وتمايزاتها
كونيا".2
بمعنى آخر نقول إن مسألة األنسنة عند أركون في جوهرها تطرح عالقة اإلنسان
بالنص ،خاصة النـص المقدس ،أي تطرح مسألة أسبقية اإلنسان على النص أو أسبقية
النص على اإلنسان ،وهل اإلنسان هو الذي يعطي مفهوم النــص وينتج دالالته ،أم أن
النــص هــو الذي يحدد معنى اإلنسان ويضع هويته ففي مرحلة ما قبل عصر النهضة
واإلصالح الديني بالنسبة للفكر الغربي ،ومرحلة ما قبل القرن الرابع الهجري بالنسبة للفكر
العربي اإلسالمي كانت النصوص المقدسة هي التي تصنع ماهية اإلنسان وتحدد له ما
يفعلــه وما ال يفعله بمعنى أن اإلنسان يستمع للنص بكل خضوع ووالء ويطيع تعاليمه
ويجتنب نواهيه دون تفكير أو تردد وال يستطيع أن يضع مسافة نقدية بين النص وبين العقل،
فالنص هو محور الكون ،وهو نقطة البداية والنهاية غير أن نزعة األنسنة تجعل االنسان هو
محور االهتمام وتدعوه للتحرير الذات اإلنسانية من الرؤية الالهوتية ووضع االنسان في
مركز الوجـود ،وذلك من خالل جع ــل العقل اإلنساني في مرتبة الحاكم األول وصاحب
1محمد أركون ،األنسنة اإلسالم ،مدخل تاريخي نقدي ،محمود غرب ،دار الطليعة للطباعة و النشر ،بيروت لبنان،ط،1
ص2010-45
عبد العزيز بومسهولي ،مبادئ فلسفة التعايش ،إفريقيا الشروق المغرب ،د ط 2013 ،ص2.12
148
السلطـة في كل ما يتعلق بمعارفه وإنجازاته.هذا ما يفرض في الفكر تحديد عالقة بين الذات
والموضوع ويؤسس لتفاعل ايجابي مع كل األجناس والطوائف والمذاهب واألديان .هذا
التفاعل يجسد التوافق وقبول االختالف والتعايش مع اآلخر هذا ما يعتبره أركون أساس فهم
المعطيات الكونية .
أخي ار يبدو أن مشروع محمد أركون وكأنه تتمة للمشـروع الغربي من خالل إسقاطه
على الفكر اإلسالمي .فما يفعله بخصوص التراث اإلسالمي يشبه جدا ما فعله علماء أوروبا
ومفكروها بالمسيحية .وهو يرى أن هذا النقد العلمي سوف يطبق على التراث اإلسالمي
عاج ـال أم آجال .فسبيل النهضة يمر عبر هذا المنهج النقدي العقلي المتحرر ولن يعجب هذا
النقد التقليدين في المجتمع اإلسالمي مثلما حدث عند المسيحيين األوروبيين فأزمة الفكر
اإلسالمي المندهش تشبه في مالمحها أزمة الوعي األوربي مـع الحداثــة في بدايتها .ويرى
أركون أن األنسنة ستتمكن من تحقيق أهدافها على العقل اإلسالمي كما سبق وأن تمكنت
من العقل المسيحي ،وتخضـعه لمفاهيمـها ومناهجهـا وأدواتها في البحث والتحري ،وهكذا فإن
أركون من خالل مشروع نقده للعقل اإلسالمي يضعنا أمام الحركة النقدية الحديثة المباشرة
وهي الحركة التي تتجه إلى نقد األسس المكونــة لهـذا العقــل وإعادة تأويل مسلماته وفرضياته
تأويال جديدا سيكش ــف عن ترابطه وتفاعلـه مع الحقيقة والتاريخ .
149
ثانيا :األلسنية ودورها في تفكيك العقل اإلسالمي:
األلسنية من أهم المنابع التي قامت عليها الفرضيات النقدية المعاصرة ونظرية
األدب في عالم ملئ باألطروحات الفكرية المتعددة .وال يمكن الوقوف على أسس بحث متينة
في أي مجال وخاصة األدبي بدون معرفة مبادئ األلسنية وخاصة إذا تعلق األمر بالنص
المقدس أو البحث في اإلرث اإلسالمي رغبة في تحقيق الدقة والعمل بمنهجية للوصول إلى
نتائج مستقرة في هذا مجال .ألن اللغة تتميز في خصائصها من مجتمع آلخر ومن فترة
زمنية ألخرى وفي أسلوبها ونظامها وتركيبها على غرار اللغة التي شكلت النص القرآني ما
جعل محمد أركون يدعو الباحثين في النصوص اإلسالمية االهتمام بالمصطلحات الواردة
فيه ومعانيها" لكون الحركات اإلسالمية الصاعدة حاليا يستغل إلى أقصى حد كل الدالالت
الحافة والمحيطة ذات المضمون التبشيري والدنيوي والتقديسي للغة العربية ومفرداتها
وصياغتها التعبيرية وأما الفكر النقدي فعلى العكس يصاب بالشلل جراء هذه "القيم" المعنوية
والداللية والبالغية والتقديسية" ،1لهذا يحث أركون الباحثين من مفكرين وأدباء وفالسفة
ومؤرخين "أن يقوموا باالشتغال البطيء والصعب على المفاهيم والمصطلحات داخل اللغة
151
يضيف أيضا أركون لمواصلة بحثه اعتماد علم اآلثار (األركيولوجيا) لكشف أسرار
وغالبا ما يكون لها ما يميزها في تلك الفترة كاآلالت البسيطة
ً الحضارة اإلسالمية القديمة
والمعقدة والقصور والمنازل القديمة والمقابر ويرى أركون أن علم اآلثار له أهمية كبيرة لمعرفة
أحداث التاريخ اإلسالمي ودراسته للوصول للحقيقة الفعلية بعيدا عن تأثير األيديولوجيات
واألساطير في طرح الوقائع ما يؤكد القطيعة التي نادى بها مع النصوص الجاهزة والموروث
كحقيقة مطلقة .
أركون بهذا الطرح يذهب إلى نفس ما جاء به دريدا وهيدغر والحوليات الفرنسية في
دراسة شاملة دون حواجز للتاريخ باجتماع كل العلوم لتفسيره .فهو يدعو لدراسة التاريخ
اإلسالمي أوال بالتسليم بنسبية المحتوى الفكري له وعدم األخذ بما جاء به على أنه حقيقة
مطلقة وإعادة تصور كل الظروف التي أسست لتاريخ العقل اإلسالمي باستعمال كل األدوات
العلمية على اختالف ميادينها االجتماعية واالقتصادية والقانونية واللغوية .ثم تفكيك التعاليم
المقدسة أيضا بواسطة أدوات البحث في اللغة واألدلة والرموز وإعادة بناء النص القرآني
وقراءته قراءة علمية صحيحة .
بما أن أركون يعتقد بعدم وجود المطلق والمقدس فإنه يرى أن المفاهيم والتعابير تتغير
بتغير الزمن وما ظهر باألمس ليس كما يبدو اليوم ألن الدالالت التي تفسر الخطاب
خاضعة للمجتمع في فترة معينة تحت ظروف أيضا معينة يمكنها أن تترادف بشكل جديد
ط ذلك المفهوم الذي رسخ في ذهن المجتمع ليرسم محله مفهوم مغاير تماما له ويمكنه فتُ ٍ
سق ُ
اجه بالرفض بأحكام متبأينة تماما من بيئة ألخرى ومن عصر آلخر
أن يظفر بالقبول أو يو َ
بل وأبعد من ذلك حتى داخل المجتمع الواحد فتتعدد اللغات واللهجات وتتنوع الصيغ
والتعابير اللغوية فتصبح كل ما يميز الفكر والتواصل وما يربط بين الفكر واللغة .
من هنا يظهر اعتماد أركون على ما جاء به المستشرقون في فقه اللغة(الفيولوجية) والهدف
منه »تطبيق المنهجية اللغوية التاريخية الفيلولوجية الموروثة عن القرن التاسع عشر على
نصوص التراث العربي اإلسالمي من اجل تحقيق بشكل علمي تاريخي موثوق هذا من
152
جهة ومن جهة أخرى فقد ميزت منهجيته ( القول ألركون) عن منهجية العلوم السياسية التي
1
كانت في عز الصعود آنذاك".
-1القراءة األلسنية عند محمد أركون :
تعني إحدى الطرائق التي افترضها أركون لقراءة وتأويل اإلرث اإلسالمي فهو يرى
"بأنها علم يعنى بدراسة العالمات ويعتبر تعريف مونانا نموذجا على تلك التعريفات فهو
يعرفه بأنه '' العلم الذي يدرس كل انساق ( أو أنظمة العالمات) أو(الرموز) يتواصل الناس
بفضلها فيما بينهم ".2
يؤكد دي سوسير أن السيميائية لها ارتباط وثيق مع علم النفس وعلم االجتماع "فان تطور
هذا العلم قد أظهرت عالقته بمجاالت كثيرة كالسينما والمسرح واإلشهار ...وان ظل مجاله
األبرز هواللغة باعتبارها النموذج السيميائي األكمل وعد ذلك فرعا من اللسانيات" 3ألن
اعتماد أركون على الطريق السيميائي هو هز للمطلق الذي فرضه العقل الالهوتي
األرثودوكسي وفي هذا الصدد يقول" إن التحليل األلسني أو السيميائي الداللي يساعدنا على
إقامة مسافة بيننا وبين العقائد األيمانية الموروثة ( كما أن ) التحليل األلسني يقوم بعملية
تجسيد أولي لكل أحكام الثيولوجية المسبقة الموروثة عن العصور الوسطى هذه األحكام التي
تحول بيننا وبين رؤية النص كما هو". 4
لتتم تلك الدراسة الموضوعية التي تفسر الحقائق بعيدا عن المعتقدات التي سادت وبعيدا
عن الخوف من تناول النص المقدس وليتم أيضا كسر تلك الحواجز التي فرضتها الدوغمائية
على الفكر اإلسالمي يجب إعطاء أهمية للمنهج السيميائي لتفسير المعنى واالهتمام بالداللة
اللغوية للوقوف على شرح أعمق ،يقول(" :فعلم السيمياء )La sémiotiqueيطمح إلى
االستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بينها وبين المواد المقروءة األولية ثم كل المواد الثانية
أو الثانوية التي أنتجه التراث في أن معا (كيف تقوم العالمات ( ) les signes
المستخدمة في النصوص بالداللة وتوليد المعنى؟ما اآلليات األلسنية أو اللغوية المستخدمة
من اجل إنتاج هذا المعنى المحدد وليس أي معنى آخر غيره؟ لمن ينبثق هذا المعنى
153
وضمن أي شروط؟" 1وبسبب ما تعرض له محمد أركون من انتقادات طالته بسب موقفه من
تعرية النص من القداسة يبين هدفه من دراسة النص القرآني.فيقول":ال تهدف هذه األسئلة
إلى نزع صفة الوحي على النصوص وال إلى إلغاء شحنتها التقديسية وال إلى إزالة اثر
معناها الروحية بالنسبة للمؤمنين على العكس أنها تهتم بهذه األشياء والسمات وبوظائف
المعنى بصفتها أساليب لتوليد الداللة ال تزال تنتظر تحديد مكانتها المعرفية ضمن مقاربة
2
شاملة تهتم بكل ما يعنى ويدل ( أو بكل ما ينتج المعنى والداللة"
لقد غير االهتمام بالسياق الداخلي والخارجي للنص المقدس مجرى الدراسات التقليدية
التي لم تكن تهتم بجدية بدراسة اللغة التي شكلت تلك النصوص المقدسة من حيث الدالالت
المستهدفة بمنهجية تضفي الموضوعية على البحث والدقة في االستنتاجات ألن لغة النص
المقدس هي جزء من المعنى العام للمفهوم .ولدراسة أعمق يجب اعتماد المنهج (السيميائي)
لفك الرموز وفهم اإلشارات واإليحاءات التي يحتويها النص القرآني .ومن هنا يتضح لنا إن
النص المقدس له لغة واللغة لها معنى ينبغي علينا أن نتوصل لفهمه وال يتأتى هذا إال
باستعمال أدوات علمية وموضوعية يتم من خاللها قراءة النصوص القرآنية بشكل صحيح
خاصة وأن النصوص المقدسة ليست كلها طرحا واضحا وصريحا فقد يحتاج أغلبها لتأويل
في المعنى فهي تحمل المجاز والكناية والتشبيه والسرد .وتماما عكس تلك التأويالت التقليدية
التي تناولت النص وقدمت شرحا أبعد ما يكون عن الحقيقة يجب تناول النص بتحديد
شكلين منه الشكل األول هو النص الديني المقدس والثاني هو الشكل الثانوي .أما النص
المقدس فهو كلمة هللا أي النص األساسي الذي صدر من عند هللا في اللحظة األولى ويتم
البحث فيه من خالل معرفة الظروف والعوامل واللحظة التي ظهر فيها والتي يعتبره
التقليديون على أنه اللغة األصلية للنص وهي ما كانت عادةً المرجع الحقيقي و ُ
المطلق
للنص .وأما النص الثانوي فهو تلك القراءات والشروحات التي لحقت بالنص المقدس بعد
محاوالت النقل والتفسير.
هذين النوعين من النصوص المقدسة يمكن التمييز بينهما بواسطة التحليل
السيميائي الذي يتخذ المقارنة اللغوية سبيل لدارسة لغة النص بالتركيز على الرصيد الشفوي
1.112 محمد أركون –القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص
محمد أركون –المرجع نفسه – ص – 115ارجع إلى الهامش2
محمد أركون – المرجع نفسه – ص 3.115
محمد أركون – المرجع نفسه – ص 4.116
156
السيميولوجية هي علم العالمات أو الرموز أو اإلشارات اللغوية طبيعية أو اصطناعية،
ويعني هذا أن هذه العالمات يضعها اإلنسان بواسطة اختراعها واالتفاق على دالالتها
ومقاصدها ومعانيها .ويهدف أركون من خالل هذه الدراسة إلى":الكشف عن أنماط
األساليب التعبيرية (أو اللغوية) المستخدمة في القران من اجل بلورة إشكالية مشتركة تنطبق
األساسية دراسة جميع مجتمعات الكتاب المقدس...عندما تنظر عن كثب إلى البنية
ألسلوب التعبير المستخدم في القران فإننا نكتشف أن صحة الكتاب المقدس ذات قاعدة
لغوية أساسا ال ريب في أن المؤمن يتصور هذه الصحة وكأنها نقل حصل بالفعل بواسطة
1
وسائل وأساليب التوصيل السماوي أو اإللهي"
ما انفك أركون ببحثه النقدي يعيب على النص المقدس طابعه القصصي الخيالي
الخرافي غير الصريح الذي يطغى عليه المجاز .كما استبعد نتائج (الثيولوجية) في فهم قراءة
الخطاب الديني ألنها تحصر أفق التناول الحر بوضع حدود للباحث في النص المقدس
بشماعة (الال مفكر فيه ).
لذا يطرح أركون طريقة جديدة لقراءة النص القرآني باستعمال األدوات اللغوية
السيميائية والنقدية ألنها تهتم بالفصل بين النص األول األصلي الذي نتج في اللحظة
األولى (لحظة االنبثاق)وبين النص الثانوي الذي لحق بالنص األول بعد محاوالت التفسير
والتأويل التي تبعته والتي أسست لتشكيل التراث الديني"،فالتحليل السيميائي يجبر الدارس
على ممارسة تمرين التقشف والنقاء العقلي والفكري ال بد منه بمثل ذلك فضيلة ثمينة جدا
وخصوصا أن األمر يتعلق بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال
عديدة الحساسية والمخيال والجماعيين والفرديين وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية اتجاه
النصوص أو بيننا وبين النصوص "المقدسة" دون إطالق أي حكم من األحكام الثيولوجية
أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين ....وهذا الذي لم يفهمه أبدا النقد
التاريخي اإلستشراقي أو المنهجية اإلستشراقية المرتكزة على القران والحديث" 2.وبما أن اللغة
في دالالتها ومعانيها تلعب دور مهم ومرتبط بالفكر بشكل كبير فاللغة تؤثر في الفكر وهذا
ما نالحظه في النص القرآني الذي أدى دو ار كبي ار في تحديد المفهوم ومنحه صبغة فكرية ما
محمد أركون -القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني -ص 1001
محمد أركون -الفكر اإلسالمي -قراءة علمية –ص 2.32
157
ورط العقل اإلسالمي في األحادية المتعالية وما حصر الفكر اإلسالمي في ساحة الدوغمائية
المنغلقة على نفسها ولم يقتصر هذا على العقل اإلسالمي فقط بل وأيضا برز في العالم
األوروبي خاصة في العصر الحديث.
تركيز أركون على الطرح السيميائي اللساني يهدف إلى إنتاج مفهوم جديد للنص
القرآني فهو يعتقد أن الخطاب الديني يمكن أن تتعدد دالالته وتختلف باختالف الظروف
من خالل ممارسة الشعائر والطقوس ويمكن للنص أن يحمل عدة معاني ودالالت ألنه يعتمد
لغة المجازية التي تفتح النص على معاني مختلفة وتأويالت متعددة تتجدد بتغير الظروف
وتتفاعل بتفاعل المعطيات ألن النص القرآني يتسم باستم اررية الطرح (الديمومة)فلغته تصلح
لكل زمان فهو يتمظهر في كل مرة بمظهر جديد ويقدم طرحا جديدا بتفاعله مع األحداث
والمستجدات وال يمكن أن تكتفي لغته بمفهوم وحيد وكلما تتعين وتتخصص الظروف المؤثرة
في اللغة يتغير ويتعين المعنى والمفهوم حسبها وبهذا يرفض أركون شروحات التي قدمها
رواد (اإللهيات) التقليديين وفي المقابل يقترح لغة جديدة للقرآن باعتماد األلسنية اعتبا ار بدور
الدالالت القرآنية الكبير في تفسير اللغة مرك از على االهتمام مبدئيا بالرابطة الموجودة بين
اللغة والفكر إذ تبين من خالل دراسة الفكر اإلسالمي تأثره الكبير في التفسير باأليديولوجيات
وتبأينت الشروحات بعد تغير الظروف أو تطور األحداث رغم أن لغته بقت ثابتة" ،إن الديني
ينبثق ويتطور وينتقل إلى الناس ويعاد تنشيطه عن طريق الذاكرة الشفهية أو الكتابية أو
االثنين معا ولذا فينبغي ان نبتدئ باستكشاف التغييرات (أو التجليات) اللغوية والسيميائية –
الداللية – االشارية -الحركية لهذه الذاكرة لكي نتوصل إلى السالالت المؤمنة التي تشكل
التراثات الحية" .1
بهدف إضفاء الدقة والموضوعية ومن أجل الوصول لنتائج ثابتة يرى أركون أنه علينا
مراجعة الرابطة بين الفكر واللغة هذه العالقة التي تميزت في اتصالها المستمر بتأثر وتأثير
متبادل ما يفرض دراسة النص الديني عامة باعتماد األلسنية التي تختص بالبحث في هذا
الخطاب ألن "القراءة األلسنية قيمة ال تضاهى من حيث التقشف والدقة والصرامة فهي
1.112
محمد أركون -القران من التفسير الموروث إلى الخطاب الديني ص
352 محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص - 34
159
هجري /العاشر ميالدي ،إن كلية النص المثبت على هذا النحو كانت قد عوملت بصفتها
1
كتابا واحدا أو عمال متكامال "
بعد اعتماد محمد أركون األلسنية كمنهج للدراسة والبحث في النص الديني وبالخصوص
النص القرآني ليس غريب عليه أن يعتبره ساحة فكرية (مدونة) تتماثل مع كل المعطيات
العلمية والفكرية الموجودة وبالتالي يطبق عليه ما طبق على غيره من باقي العلوم واألفكار
التي كونت الفكر الحديث فمن الناحية اللغوية يرى أركون أن النص الديني يشبه النص
األدبي في تركيبه وشكله لذا ال مانع من تناوله مثلما يتم مع النص األدبي وبذلك يصبح
القرآن مجال بحث لغوي كغيره من البحوث األدبية ويمكن لأللسنية بتقديم الفرضيات على
األحكام المقدسة بكل حرية والوصول إلى نتائج دقيقة وموضوعية .
إذ يؤكد أركون أن القرآن "عبارة عن مدونة متجانسة وليست عبارة عن مدونة عينة (أو
متخذة كعينة) ومقتطعة اعتباطيا بواسطة قواعد مسبقة في بحث كل العبارات التي يحتويها
كانت قد أنتجت في نفس الوضعية العامة للكالم" ،2ألن القرآن إجماال أومن خالل شكل
خطابه العام يتماثل من حيث الضمائر التي تأخذ حي از مهما في لغته .هذه اللغة التي
بدورها تمثل جزءا كبي ار من الساحة الفكرية(مدونة) للقرآن .يقول أركون" :فتجانسية المدونة
النصية القرآنية ترتكز على شبكة معجمية لغوية واسعة وعلى نموذج قصصي أو تمثيلي
واحد ال يتغير".3
وبما أن النصوص المقدسة تميزت بدقة االتساق واالنتظام العام -بعيدا عن الشكل -يرى
أركون أن علم أسباب النزول لم يفي الغرض المطلوب منه في البحث عن التفسير العميق
للنصوص القرآنية وفهمها فهما صحيحا ومعرفة الحكمة من أحكامها ولم يساعد القارئ على
معرفة أسباب النزول الحقيقية وبالتالي لم يوفق كليا في فهم النصوص القرآنية فهما مناسبا
لما تصبوا إليه بسبب تنوع الطرح في السور واآليات وتعدد القضايا الفقهية التي حملتها تلك
النصوص متمكنة في نفس الوقت من الحفاظ على اتزان منظومتها التعبيرية القصصية
وهندسة بنائها واحترام العالئق بين دوالها بمدلوالتها.
1.114 محمد أركون -القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني -ص-113
محمد أركون – المرجع نفسه –ص 2.115
محمد أركون -امرجع نفسه – ص 3.115
160
يحدد أركون الدور المهم للحالة العامة للكالم وخصائص النصوص القرآنية
لتحقيق معرفة مستقرة وعميقة بعيدة عن النتائج التقليدية في تفسير النصوص التي وصل
إليها علم أسباب النزول ألنه لم يستطع تقديم معرفة صحيحة للظروف العامة التي أسست
للنص فأركون يرى "أن هذه األسباب ال تشمل جميع الظروف المتعلقة بالوضعية العامة
للخطاب بل هي بعيدة جدا عن ذلك في الواقع .إن أسباب النزول ليست إال ذريعة أو نعت
إنها عبارة عن أسباب خارجية ونوع من القصة الصغيرة المرافقة لكل أية ،1".كما يلفت
أركون االنتباه للذاتية التي لوثت النقل والتفسير القرآني من خالل بلورة المفهوم في سياق
خاص والتي عمد الفقهاء إليها خالفا تماما للمعنى الحقيقي للنصوص القرآنية مبتعدين عن
دراسة الظروف العامة للخطاب وقت النزول وأسباب النزول" .ولهذا السبب بان ما يدعى
بأسباب النزول المستخدمة عموما كبرهان تاريخي على السياقات التي أوحيت فيها اآليات
تبدو لنا مضللة أو خادعا كليا .لماذا؟ ألنها تنتمي إلى السياقات الجديدة المبلورة من اجل
2
تلبية حاجات الذاكرة الجماعية (المدعوة بالتراث الحي لكل فرقة إسالمية"
السياقات التي وضعت المفهوم في بوتقة االختالفات يرى أركون أنها تولدت نتيجة تعدد
واختالف ِ
الف َرق والمفكرين والفقهاء الذين آمنوا بفكرة الفرقة الناجية استنادا للحديث الشريف
(ستفترق أمتي على ثالث وسبعين فرقة كلها في النار إال واحدة) فكل واحد منهم كان يرى
أنه على حق ويحكم على من يخالفه بالكفر وهذا ما تسبب في انشغال الساحة العربية
اإلسالمية بتبرير المواقف وتفسير النصوص بما يناسب أيديولوجيات وسياسيات خاصة على
حساب المعنى السامي للنصوص القرآنية" ،فكل فرقة بما فيها الفرقة األلسنية األرثودوكسية
تعمل بالطبع من اجل نيل لقب الفرقة األرثودوكسية أو الطائفة المهدية الصحيحة والقويمة
وهذا هو الشرط المنهجي لكي نكشف كيف أن ( هللا) و(الوحي) و(الرسول) و(النبي)
و(القران) و(السنة) و( الشريعة) راحت تتوجد كقوة متماسكة حية جوهرانية أو كسيادات عليا
3
إلزامية ونهائية "
161
يطرح أركون مفهوم الظرف العام للخطاب الديني الذي يريد من خالله إعادة بناء أحداث
النص القرآني منذ البداية بمعنى آخر البحث في الظروف التي أسست وتزامنت مع نزول
النص حيث يرى أن أسباب النزول والتبريرات والتعليالت وما إلى ذلك مما تم تداوله باعتماد
المنهج التقليدي ناقصة وأضاعت الكثير من الجزئيات المهمة التي ضاع بسببها المعنى
الحقيقي للخطاب الديني كما قدم الفقهاء مفهوما غير دقيق أو بعيد جدا عن الحقائق متأثرين
بأوضاع غريبة ومختلفة عن الواقع اإلسالمي بهدف فرض أحكام معينة وتبرير مواقف
خاصة لذا يميز أركون بين المصحف وبين الخطاب القرآني فالمصحف يراه أركون (مدونة)
أي ساحة تم تشكيلها وغلقها نهائيا أي ما انزل على النبي محمد(ص) شفويا من الوحي َب ْي َد
أن الخطاب القرآني هو مجموعة النصوص المقدسة التي رافقت وتبعت المصحف فيما بعد
على يد الرواة والنقال والفقهاء واختلفت عنه وأسست للفكر اإلسالمي جديد مغاير تماما
للنص األول إال أن المفكرين لم يتمكنوا من تناوله خوفا من قداسته واعتقادا منهم بمطلقية
الحقائق الدينية .والتسليم لألحكام بمجرد االستشهاد بأية أو حديث نبوي.
يطرح من جديد أركون مسألة الشك في الموروث الديني الذي اعتبره نقاش ديني ضعيف
غير مكتمل تميز في مرحلة معينة بالقصور الفكري والتبعية األيديولوجية والسياسية التي
أثرت على الخطاب والمفهوم الديني وقدمت شرحا مختلفا تماما عن النص األصلي بهدف
إطالق األحكام وتبرير المواقف.
يريد أركون من خالل هذا االعتراف بوقوع تحريف للنص القرآني في فترة معينة وتبناه
الفكر اإلسالمي من دون دراسة علمية ألسباب وظروف نزول النصوص القرآنية األصلية.
ويعني أركون بالمدونة المقفلة" :إنها محصورة أو مغلقة أو ناجزة إنها حاليا محدودة أو
محصورة بعدد معين من العبارات أو اآليات التي تشكلها كما إنها ناجزة أو مكتملة من حيث
صيغة التعبير أو صيغة المضمون (نقصد بذلك أنماط التمفصل ما بين الدال والمدلول أو
الداالت أو المدلوالت) إن مفهوم االنجاز أو اإلكمال أو التمام هذا يجنبنا من االكتفاء بالقراءة
الفيلولوجية التي تبحث عن المصادر السابقة المؤثرة في النص عن غموضه وتناقضاته
ونواقصه األسلوبية".1
1.115 محمد أركون – القرام من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص
162
لكي ال يمكننا تناول لغته بالحذف منها أو اإلضافة إليها كما يقصد تجاوز القراءة الحرفية
فأركون في رأيه (المدونة) "مفتوحة أو منفتحة على الرغم من محدوديتها أو اكتمالها ،اقصد
هنا إنها منفتحة على السياقات أكثر تنوعا التي تنطوي عليها كل قراءة أو تفرضها بمعنى
آخر أن النص القرآني يقول شيئا ما ويؤمن التواصل أو التوصيل ويحفز على الفكر أيا يكن
1
الوضع العام للخطاب هذا الوضع الذي يتموضع القارئ داخله"
أي أن هذه (المدونة) غير منتهية التشكيل تماما كما يظهر بل هي متاحة على مختلف
القراءات واألساليب حيث يقول أركون" :عندما افترضنا بان القران هو مجموعة عبارات أو
منطوقات لغوية فإننا لفتنا االنتباه إلى انه كان وال يزال كالما شفهيا قبل أن يكون نصا
مكتوبا ولكن الكالم المتلفظ به من قبل النبي (ص) ليست له نفس المكانة اللغوية كذلك الذي
2
يردده المؤمن في صيغة صوتية وكتابية مثبتة بكل صرامة".
لقد ذهب أركون بطرحه هذا لنقطة خطيرة شملت مصداقية وصحة النصوص القرآنية
المكتوبة الحالية وعدم مطابقتها لما أنزل شفويا على الرسول(ص) بواسطة الوحي من عند
هللا إ ْذ ومن خالل تمييزه بين القرآن والنص المقدس أي بين الوحي المنزل وبين ما دونه ونقله
الرواة والصحابة على لسان النبي محمد (ص) يجعل ما بين أيدينا اليوم(المصحف)المكتوب
محل ريبة ويرى أركون أنه قد تم تعديله بعد وفاة الرسول(ص)باإلضافة أو الحذف من طرف
النقال والمفسرين حتى يخدم مآربهم وخير دليل على ذلك هو قوله في وصف المصحف
الحالي( :ليست له نفس المكانة اللغوية).
من خالل تأمل أركون في النص القرآني استنتج ما يميزه من جهة مفهوم اآليات الذي
ال يمكن أن يتجلى إطالقا فيها إال بعد فهم شامل وكامل للقرآن .هذا ما يدل حسب رأيه على
"إن مجمل المنطوقات أو العبارات اللغوية المدعوة آيات تشكل سلسلة من النصوص القصيرة
المفتوحة على النص الكلي الشامل المكون من كل المنطوقات المسجلة في المدونة أو
المكانة اللغوية واألدبية للنص الكلي ال يمكن أن يحدد إال بعد القيام بسلسلة من التحريات
واالستكشافات للنصوص القصيرة ( أي اآليات) والنصوص المتوسطة ( أي السور) وهكذا
163
ينبغي علينا أن نقيس درجة االستقاللية الذاتية ودرجة االنغالق وانفتاح كل واحد من هذه
النصوص". 1
نستطيع بالتالي أن نرى ماذا يريد أن يطرح محمد أركون مما سبق حيث يحث
الباحث في النصوص القرآنية على الفصل بين المصحف وبين الخطاب القرآني ألن
المصحف هو(المدونة الرسمية)ألنه المرجع األعلى وأُعتُِب َر كذلك ألنه نتاج مجموعة من
األحكام الصادرة من طرف السلطة العليا بمباركة من الفقهاء وأنه (المدونة المغلقة) ألنه
خطاب إال هي كامل انتهى إعداده وتشكيله وال يمكن بأي حال من األحوال تعديله.
1.116محمد أركون –القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص
-2أركون محمد ،القرآن من التفسير الموروثإلى تحليل الخطاب الديني ،مصدر سابق ،ص .120-
164
بالمنطوقة األولى ومفس ار بمساعدة المبادئ التي تمارس عملها بشكل عفوي في البروتوكول
الشعائري .وقد ظلت هذه المبادئ مقدسة ،وال يمكن مسها حتى يمنا هذا .فهي تحصر كل
إعادة قراءة للفاتحة ،ضمن حدود لم يستطع حتى تدخل الفلسفة العربية اإلسالمية في العصر
الكالسيكي أن يتجاوزها".1
-ثالثا البروتوكول األلسني النقدي
بداية يحلل أركون البيان اللغوي لسورة الفاتحة فيدرس األسماء والعالئق واإليقاع
والضمائر والنظم وكل البنية اللغوية األلسنية لسورة الفاتحة أين يتطرق لبداية سورة الفاتحة
حيث بدأت ب "ال" هذه الصيغة لها أهمية لغوية كبيرة في البناء العام للخطاب القرآني
"فالحمد أو ال-حمد باألحرى ينبغي أن نسجل هنا قائلين بان فطنة المفسرين الكالسيكيين
كانت قد لمحت وأدركت األهمية المعنوية لهذا االستخدام وقالوا بان أداة التعريف لها قيمة
التعميم في الزمان والمكان وقيمة الحمد يقول الرازي "الفائدة الثانية انه تعالى لم يقل أحمد هللا
ولكن قال ( الحمد هلل) وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه احدهما انه لو قال أفاد ذلك .كون ذلك
القائل قاد ار على حمده أما لما قال ( الحمد له) فقد أفاد ذلك انه كان محمودا قبل حمد
الحامدين وقبل شكر الشاكرين....فهو تعالى محمود من األزل إلى األبد بحمده القديم وكالمه
2
القديم"
لتوضيح أهمية أداة التعريف التي استعملها القرآن في سورة الفاتحة يقول أركون "إن أداة
التعريف ال وظيفة التصنيف في التراكيب اللغوية التالية :الصراط المستقيم ،الذين أنعمت
عليهم =( ،المنعم عليهم) ،المغضوب عليهم ،الضالين ،فهذه التراكيب هي عبارة عن مفاهيم
أو أصناف أشخاص محددين بدقة من قبل المتكلم وقابلين للتحديد من قبل المخاطب عندما
يصبح بدوره قائال أو متكلما" .3الجرأة في مواجهة النص القرآني التي اكتسبها أركون من
تطبعه بالفكر الغربي خاصة من علماء ما بعد الحداثة في دراسة نصوصهم المقدسة جعله
يرى أنه يمكن أن يتم تطبيق ذلك على النص القرآني على فيمكن تفكيك بيانه وتناول لغته
دون أي حرج ودون أي قداسة .
-1أركون محمد ،القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ،مصدر سابق ،ص 320 .120-
محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 2.127
1.130 محمد أركون –القارن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص
166
يبين أركون أن كل األسماء الواردة في سورة الفاتحة سواء كانت فاعل أو مفعول به أو
مصدر أوصفات سبقها تعريف ب" ال" أوب "كلمة" داللة على أن الموضوع معرفة بالنسبة
للمتكلم أو قابل للمعرفة كما أن هناك داللة أخرى رافقت األسماء تقريبا كلها فأتت مسبوقة
بلفظ الجاللة "هللا"ما يعطي مركزية لهذا الفظ .ويرى أركون أن البناء اللغوي للقرآن هو نفسه
الذي تم تداوله عند النزول الذي تميز بالبساطة والسهولة فيصل للمتلقي بكل يسر"المفاهيم
األصلية هي تلك التي إذا ما اختزلت إلى جذرها المعنوي تفلت من التمفصالت المنطقية
والصرفية التي تدخلها التحديدات التقنية إلى الكلمات أو المفاهيم المشتقة وبالتالي فان هذه
المفاهيم األصلية تحيلنا إلى كونية اللغة في تمفصلها المعنوي "الطبيعي" إنها تقدم معيا ار
1
صلبا من اجل تحديد ثيولوجيا للخطاب القرآني والخطابات بشكل عام"
يبين أركون قائال" :أنه يبدو من السهل أكثر أن نقبض على هذا التدخل في عملية
التحويل إلى اسم أي اللجوء إلى كلمات مزدوجة ( كالمصادر التي قد تكون أسماء فاعل أو
مفعول به) وهذه المصادر تمارس فعلها نحويا كأسماء في الوقت الذي تعبر فيه عن عملية
فعل".2
البيانات النحوية:
يعتمد أركون فيها على العالقة النقدية بتفكيك سورة الفاتحة تفكيكا منتظما حتى نتمكن من
التميز بسهولة بين القراءات في نص السورة فيرتب أركون بين وحدات القراءة القاعدة األربع
والفظات األربع والسبع لفظات إخبارية وذلك طبقا للترتيب اآلتي" :يمكن أن نميز بيم أربع
وحدات للقراءة القاعدية ثم سبع فظات إخبارية ذلك طبقا للتوزيع التالي.
–ص1.133 محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني
محمد أركون – المرجع نفسه –ص 2.133
المبارك حاميدي -مرجع سابق ذكره .ص 3.260
168
ثالثا - :التاريخية وميالد العقل اإلسالمي:
التاريخية دراسات تناولت دقة أو دالئل تواجد أشخاص أو وقوع أحداث معينة،
بمعنى آخر التأكد من اعتبار هؤالء األشخاص أو األحداث جزًء واقعيا من التاريخ ال كأجزاء
من خرافة أو أسطورة أو خيال أدبي وهي ترتكز على الحقائق المجردة حول التاريخ كالدقة
التاريخية وموثوقية المصادر وواقعية الحدث .وهي من المصطلحات التي أنتجتها الفلسفة
الحديثة وتجّلت الحاجة إليها بفعل التطور الذي عرفته العلوم اإلنسانية ،واستفحال نـزعة
الحداثة ثم ما بعد الحداثة وهي مصطلح أُشتُق من التاريخ الذي يراه محمد عبد الرحمن ابن
خلدون بحث في الوقائع والحوادث الماضية "وهو خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو
169
عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتآنس والعصبيات
وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من املك والدول ومراتبها
وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والضائع وسائر ما يحدث
في ذلك العمران بطبيعته من األحوال«1وتجاوز أركون وظيفة التاريخ التي اقتصرت على
سرد التاريخ اإلسالمي إلى تحليله ودراسته وفهم األدوات التي ساهمت في تدوين المعلومات
وما أحاط بها في تلك الفترة من ظروف ومعتقدات أثرت في الخطاب والنقل والتاريخية عند
أركون أن حدثا ما قد حصل بالفعل وليس مجرد تصور ذهني كما هي الحال في األساطير،
أو القصص الخيالية ،أو التركيبات األيديولوجية انطالقا من السيرة النبوية وأخبار الصحابة
ووصوال إلى المدونات التاريخية .ولم يكن أركون من خالل هذه الدراسة النقدية يسعى لجمع
اكبر قدر من األحداث بل كان يركز على "المبادئ المعرفية التي توجه بنيتها وتشكيلتها
ونمط العقل الذي يخلع الصالحية على معناها ودالالتها لنركز اهتمامنا أوال على خطاب
السيرة النبوية كما وصلتنا عن ابن إسحاق عاش ما بين عامي 151-985م .والذي
كان يتمترس أو يختبئ وراء المشروعيات والسيادات المأذونة التي تقف فوقه وتتجاوزه ولهذا
السبب فهو يستخدم في مستهل كل رواية من رواياته عبارات من نوع زعموا فيما ذكر لي-
القصاص والواعظ كما
فيما بلغني وقد وقع تحت تأثير الحكايات الشعبية المنقولة عن طريق ّ
2
وقع تحت تأثير الحكايات التبجيلية التقديسية التضخيمية واالستشهادات الشعرية"
لقد سلك أركون في دراسة التراث اإلسالمي طريقة نقدية تقوم على إعطاء الجانب
العقلي دور كبير في تناول األحداث وخاصة مجال العلوم اإلنسانية والعلوم االجتماعية.
1د :محمد جميل صليبا-المعجم الفلسفي ج-1دار الكتاب اللبناني-لبنان بيروت-دط-1982-ص .227
د :محمد أركون-نحو انقد العقل اإلسالمي-ت :هاشم صالح-دار الطليعة للنشر و الطبع-بيروت-ط-2009-1ص-112
2.113
170
التحليلية وهكذا نطبق التحليل األلسني والتحليل السيميائي الداللي والتحليل التاريخي والتحليل
االجتماعي أو السوسيولوجي والتحليل األنتربولوجي والتحليل الفلسفي وعلى هذا النحو نحرر
المجال أو نفسح المجال لوالدة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية ولكم من دون أن نعزلها
1
أبدا عن الظواهر األخرى المشكلة للواقع االجتماعي التاريخي الكلي"
-1مفهوم التاريخية عند أركون:
استمر أركون في تحليله للمراحل التاريخية للعقل اإلسالمي الذي أبدى نضجا كبي ار في
مرحلة معينة في الحفاظ على النص الديني والسني وتناوله لمصادر التشريع اإلسالمي
وأحداث أسست لتاريخه .لكنه يرى أن هذا العقل اكتفى بالرواية والنقل فيما بعد لينسحب
بشكل مفاجئ في وقت عرف فيه الغرب نهضة غريبة فككت مختلف جوانب المجتمع
األوربي ووضعتها تحت اختبار العقل والمنطق بما في ذلك النص الديني وتعاليم الكنيسة
وهذا ما أسس لتطور فكري سليم أنتجه أيمانهم بمنطق البحث العقلي وبتعرية كل المقدسات
الغامضة" .مسألة التاريخية اتخذت مكانة مركزية بالنسبة للفكر الحديث بدءا من القرن
الثامن عشر وهي تميل في آن معا إلى الممارسة التوسيعية للتاريخ النقدي بصفته علما
شامال دخل العلوم االجتماعية ثم بدأ تأثير هذا العلم على البحث الفلسفي ونقصد بذلك
تأثيره على فيكو وعلى هيردير ودلتي وهيدغر وجان بول سارتر وريمون أرون وبول
ريكور" ،2وان مصطلح التاريخية ظهر في الساحة األوربية "حسب قاموس الروس الكبير
للغة الفرنسية في مجلة نقد critiqueوذلك في 6نيسان .1872أما روبير فانه ال يذكر
أن األمر تعلق في الحقيقة بصياغة علمية مستخدمة خصوصا من قبل فالسفة الوجود
كما يبين أن للتحدث عن االمتياز الخاص الذي يمتلكه االنسان في إنتاج سلسلة من
األحداث والمؤسسات واألشياء الثقافية التي تشكل بمجموعها مصير البشرية".3
أسئلة محمد أركون من خالل نهجه النقدي سلطت الضوء على موضوع خطير ،واجه
العقل العربي بشكل ملح هو هذا التصادم بين المبادئ وبين التطور الفكري الجديد .الذي
محمد أركون-القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني -ق:هاشم صالح دار الطليعة للطباعة و النشر
بيروت-ط-2012-3ص 1 .70
2محمد أركون – القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني-ت :هاشم صالح دار الطليعة للطباعة و النشر-
بيروت ط-2012-3ص 48 -47
محمد أركون الفكر اإلسالمي قراءة علمية-ت :هاشم صالح -المركز الثقافي العربي -دار البيضاء-ط—1996 – 2ص
3 116
171
استفز القيم بشكل مباشر وأدى إلى انهيارها تماما أمام هذا التسارع في اإلنتاج الفكري الغزير
وفرضه أسلوب التوافق الفكري رغم التباين في األصول والمذاهب والطرح وحتى في ِ والمتنوع
الدين ،ويجزم أركون أن المبادئ ليس لها قيمة في األساس ألنها قامت على قاعدة هشة ،إذ
تستمد قيمتها من فكر محدود بالبعد الزمكاني تحمل شوائب خرافية وأوهام عكس األيمان فهو
يقين راسخ يسعى لهداية اإلنسان.وهذا ما يذهب إليه على حرب في كتابه نقد النص في
قوله" :إن رهان أركون األساسي فيما يبذله من جهود فكرية متواصلة هو إدخال التاريخية
إلى ساحة الفكر العربي اإلسالمي بكل مراحله وأطواره وبمختلف نصوصه وخطاباته بما في
ذلك النص القرآني نفسه ...والتاريخية يعني أن لألحداث والممارسات والخطابات أصلها
الواقعي وحيثياتها الزمانية والمكانية وشروطها المادية والدنيوية كما تعني خضوع البنى
1
والمؤسسات والمفاهيم للتطور والتغيير أي قابليتها للتحويل والصرف وإعادة التوظيف".
فكل واقعة تاريخية لها واقع زماني ومكاني مرتبطة به ومشروطة كذلك بالعوامل السياسية
واالقتصادية واالجتماعية التي تؤثر فيها بالضرورة وتساهم بالتالي في تأسيسها .وبالنسبة
ألركون النقد التاريخي للنص القرآني ال يمكن تجاوزه وأي حكم ديني صادر عن النص
المقدس يخضع ألسئلة العقل من أجل فهمه والتحقق من صدقه بإخضاعه للظروف
واألسباب التي أنتجته واالمتداد الزماني والمكاني للمجتمع والحدث .الحدث الواقعي من
ناحية الزمن سابق للنص والنص خاضع للواقع.
أركون -متأث ار بما فعله الغربيون بنصوصهم المقدسة الموجودة في اإلنجيل– طبق
على القرآن هذا النقد التاريخي الجريء من أجل دراسة ترتكز على المقارنة العلمية والبحث
في كل جوانب النص القرآني نازعا بذلك كل القداسة والهيمنة التي رافقته في الخطاب
والنقل" .المؤسس الحقيقي للنقد التاريخي للنصوص المقدسة في دراسته التاريخية للعهد القديم
حيث بين أن هذا النص ال يحتوي على مادة معرفية تخضع لمحاكاة التصديق أو الرفض
الواقعيين بل هو يحتوي على خطاب أخالقي مناقبي أسطوري ....أي التاريخي اللغوي
1محمد أركون-القران من التفسيرالموروثإلى تحليل الخطاب الديني -ت :هاشم صالح-دار الطليعة للطباعة و النشر-بيروت
ط -2012 3ص .48-47
172
المضبوط ففرق بين الحقيقة كما يراها الدين وتراثه وبين معنى النص ومضمونه كما تشير
إليه دالئل الواقع".1
انتقد أركون المفكرين العرب المعاصرين بسبب عزوفهم عن السير في هذا االتجاه في
دراساتهم وأبحاثهم وإهمالهم للتاريخية وعدم تطبيقها على إرثهم العميق ما تسبب في تأخر
نهضتهم متخبطين في صراع الهوية مرة والعقيدة مرة أخرى .وبرفضهم لدراسة ماضيهم بشكل
التي تدور حوله وأصابه جمود صحيح انسحب العقل اإلسالمي من الساحة الفكرية
وتعصب لمعطياته ورفض تام لكل ما يختلف معه ما جعله في مواجهة واقع خطير أدى إلى
سقوطه بشكل عنيف في صراع مع الذات ومع األخر .وهذا العقل الدوغمائي la raison
dogmatiqueأصبح هو الغالب حيث أصبح" العقل الذي يسيطر على خطاب المؤمن
األرثودوكسي غريب كليا وراديكاليا عن المعرفة التاريخية النقدية واأللسنة االجتماعية
األنتربولوجية هذا ما يعني أن العقل األصولي الذي يسيطر على أغلبية المسلمين اليوم بعيدا
كل البعد عن أنوار المعرفة الحديثة "2يعني هذا أن التركيز على التاريخية كعلم يهدم كل
الحدود بين العلوم والمذاهب واالتجاهات التي ميزت الدراسات الكالسيكية من أجل تحقيق
قراءة أشمل وأوسع للبحث عن الحقيقة والستنباط األجوبة برفع الغموض الذي ساد األحداث
في الطرح وبعده في النقل ويضع العقل في مواجهة مع الخوف من األحكام األولية وجميع
التأويالت التي لم تبحث في تفاصيل النصوص بعقل ناقد غير منحاز ودون استعمال
عتمد في مختلف العلوم الحديثة وبالتالي تتم دراسة الموضوع
ألدوات العلم الحديث التي تُ َ
وتفكيكه من الواقع المناسب الذي شمل كل الظروف واألسباب المحيطة بالنص والسنة
والحدث كأساس النطالق التاريخ وتطوره ومنه تكون االستنتاجات علمية وواقعية تعبر عن
تمهد لنا الطريق حقائق صريحة واضحة ومادية تسمح للمفهوم بالتجلي وتستطيع أن
للنهضة .وهي شرط ضروري وحتمي للحداثة .ويدعو أركون الباحثين والمفكرين العرب
للتركيز واالهتمام بالنقد التاريخي العقلي إ ْذ يرى أنهم ليس لديهم إرادة قوية لهذا العمل ولم
يتمكنوا من مسك المناهج واألدوات الحديثة الالئقة التي سبقهم فيها المفكرون والفالسفة
األوربيون في تعاملهم مع تراثهم وتعاليمهم المقدسة فالمفكرون العرب المعاصرون "لم
1 عزيز العظمة – العلمانية من منظور مختلف –مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت ط -1996 -1ص .32
محمد أركون-نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية -دار السافي بيروتط-2018-3ص 2.195
173
يخاطروا أبدا بدراسة نقدية للدين على طريقة ماركس فيبر أوتروليتش"Troelscht " E
ولم يقوموا بصراع ضد الكهنوت على طريقة فولتير " "Voltaireوال في تفسير األفكار
الجامدة Dogmeوالوعي الخاطئ على طريقة " مونتيني" .Montaineولم يدخلوا في
صراع دائم وذي داللة أو أهمية تذكر من أجل تعرية األصول اآلنية والمرحلية والدنيوية
للشريعة وال بإنجاز ثيولوجيا إسالمية مالئمة للروح العلمية الجديدة" .1ومن هنا فان التناول
العلمي التاريخي للنصوص المقدسة لم يتم بعد في الثقافة العربية اإلسالمية وما أنجز منه
فقير ال يفي بالغرض ولم يحقق مراميه بعد ،سواء كان ذلك للنص المقدس أو للتاريخ
والتراث اإلسالمي ويفسر أركون ذلك بأن" التكلم على التاريخية بشكل واع ومعقول في مجال
إسالمي ما أمر ضروري من وجه نظر ذاتية ( وجهة نظر الباحث) لكنه خطر من وجهة
نظر موضوعية بل انه مستحيل .إن النقد التاريخي المطبق على القرآن والحديث والفقه
والذي طبق سابقا على الشعر الجاهلي والخالفة قد أثار وال يزال يثير حتى اآلن ردود فعل
2
عنيفة من قبل المجتمع الذي يشعر بأنه مهدد في حقائقه المطلقة وقيمه المحورية".
فضل محمد أركون النمط النقدي العلمي في دراسة العلوم اإلنسانية داعيا إلى ترك
الدراسة الالهوتية واأليديولوجية للتاريخ متأث ار بتطبعه بالمناهج الغربية الحديثة عوض
المناهج القديمة الكالسيكية التقليدية بهدف كشف اُل ِ
لبس على األفكار باستعمال منهجية
التفكيك وهذا النوع من الدراسات بدأهما أركون معتمدا على مدرسة الحوليات الفرنسية
إضافة إلى مفكرين وفالسفة آخرين أمثال" دريدا" و" هيدغر" ،و" دوبي" و" لوسيان فيفر""
فوكو ميشال" وغيرهم أن هذه الرسالة وغيرها اعتمدها أركون "من اجل إزاحة الركام واكتشاف
الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو للواقع التاريخي .يعني التفكيك أيضا تعرية آليات
الفكر الذي ولد النظريات المختلفة والتشكيالت األيديولوجية المتنوعة والتركيبة الخيالية
عنها وتبيان منشئها وكل ذلك من اجل نزع البداهة والمعرفية واألنظمة اإليمانية
3
وتاريخيتها وبالتالي نسبيتها".
1محمد أركون-تاريخية افكر العربي اإلسالمي-المركز الثقافي العربي -دار البيضاء المغرب -ط .237-1998-3
2محمد أركون -الفكر اإلسالمي قراء علمية -المركز الثقافي العربي-دار البيضاء المغربة – طذ– 1998 -3ص .10
محمد أركون -الفكر اإلسالمي قراءة علمية -المركز الثقافي العربي -دار البيضاء المغرب – ط 1998-3ص 3.10
174
ناقش أركون تلك النزعة الربانية المعظمة للروآيات الموروثة .ورأى أنه ال وجود للحقيقة
الخالصة الموجودة في ذاتها وبذاتها ويجب إخضاع التراث للشك ألنه نتاج تاريخي مادي
مقرون بغيره مشروط بالواقع وحيثياته وهو عنصر مساهم وشريك وليس محور رئيسي مطلق
له أسبابه التي يمكن استنباطها من الرجوع للواقع ودراسته دراسة عقلية حديثة بعيدا عن
الغرور باعتقاد المطلق كوجود ثابت وال يمكن بأي حال من األحوال رفض اآلخر بتلك
النظرة األُحادية للفكر االرتودوكسي األبائي المبني على احتكار الحقيقة والذي ادعى امتالك
الخالص.
ولعل من أخطر القضايا في التاريخ اإلسالمي هي التي أثيرت في الجدل الالهوتي عند
المعتزلة في العصرين األموي والعباسي وهي ال تزال نقطة هامة في الجدال حول كيفية قراءة
النص الديني وإشكالية خلق القرآن ولقد غلبت آنذاك على المعتزلة النزعة العقلية فاعتمدوا
على العقل في التأسيس لعقائدهم وقدموه على النقل ورفضوا األحاديث التي ال يقرها العقل -
في بالغوا قد فإنهم لذلك معرفة هللا بالعقل بوجوب وقالوا زعمهم،- حسب
استخدام العقل وجعلوه حاكماً على النص ،بعكس أهل السنة الذين استخدموا العقل وسيلة
لفهم النص .
اقترب أركون تماما من هذا المفهوم في حكمه على النص القرآني والسني وأبعد من
ذلك حيث أكد أن الخطاب اإلسالمي خطاب غيبي مترفع خارج عن التاريخ ( ميتاتاريخي)
يكتفي بالسرد القصصي األسطوري لألحداث الدينية ويقتصر على النقل السلبي للروآيات
خضع الموروث لتأثير األيديولوجيات فتعددت القراءات واختلفت وضاعت الحقيقة بينوهذا ي ِ
ُ
هذا وذاك .ويرى أركون أنه كان على العقل اإلسالمي التأثير في الواقع بواسطة التاريخية
والدراسة العق لية لهذه األحداث الدينية بالرجوع ألسباب النزول في النصوص القرآنية وكل ما
احتوته وظروف الحديث في السنة وهذا ما دفع أركون باستخدام مصطلح ( الحدث القرآني)
يقول" :ينبغي أن يعلم القارئ أن اإلسالم ليس كيانا أبديا أو أزليا ال يتأثر بأي شيء وبؤثر
في كل شيء كما يتوهم جمهور المسلمين هذا التصور المثالي جدا وغير تاريخي لألمور
إنهم يتوهمون إن اإلسالم المثالي هذا يتولد عن النصوص التأسيسية ( القران والحديث)
175
ويطبع كل المجتمعات التي انتشر فيها بطابعه ويعبر العصور دون أن يط أر عليه أي تعديل
1
أو تبديل".
مما سبق تتضح حالة الفكر اإلسالمي المؤسفة المنغلق في بوتقة القوالب المعدة والمهيأة
والتقليدية المستسلم لنظام الطبيعة مهمال دور العقل رغم أن له داللة قوية فهو يعبر عن
النظام والتنظيم وبالخصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية ،حيث دعا القرآن لالعتبار
والتأمل بغية بلوغ الهداية والفضيلة والمعرفة والحق ،ولم ينكر القرآن النظر العقلي كوسيلة
لأليمان ،بل إن القرآن قد دعا إلى التبصر في العالم والمخلوقات ولفت األنظار والحواس
إلى دالئل قدرة هللا ،وجعل من هذه البراهين مجاال واسعا لالستدالل عليه كقوله تعالى":أفال
ف ُرِف َع ْت وإلى الجبال كيف نصبت َوإلى ِ
الس َماء َك ْي َ
ِ ِين ُ
ظ ُرونَ إلى اإلِب ِل َك ْي َ
ف ُخلَق ْت َوإلى َ
ف ُس ِط َح ْت".صدق هللا العظيم وبهذا تتضح الحاجة الملحة للخطاب العلمي األ َْر ِ
ض َك ْي َ
الحديث وضرورة القطيعة مع التأويالت الالهوتية الخاصة بين األديان التوحيدية الثالث"،فال
يمكننا تحقيق أ ي تقدم في مسالة تاريخية القران اال بتفكيك مفهوم الدوغمائية واالنتقال من
2
مرحلة الفكر األسطوري إلى مرحلة الفكر التاريخي الواقعي".
العقل اإلسالمي بمختلف توجهاته يسعى إلى ترسيخ وتأسيس" نفس األفق الديني أو
الرمزي ويستخدم ذات وسائل النقل واستغالل النصوص أو تفسيرها .ولكنه ينتج( أو يولد)
دالالت ومعاني متالئمة ومتوافقة مع المصالح المباشرة لكل فئة تناضل من اجل بقائها
علي قيد الحياة أومن اجل مد سلطتها وهيمنتها ،هكذا نجد الدالالت المتولدة تصبح محفوظة
وراسخة في الذاكرة عن طريق الجماعة أو الفئة المعينة ...التي تحسم وجود المجتمع بكليته
3
وتحدد له وجهته"
وألن أغلب المسلمين باختالف مدارسهم يتناولون موروثهم الديني بالتسليم المطلق رغم
تأثير السياسة والمذاهب فيه فإن أركون يدعو إلقصاء هذه األيديولوجيات واإللهيات عن
كتاب التاريخ ليسمح هذا بتدوينه بكل موضوعية ويفسح المجال أمام المؤرخ لقراءته بكل
1
سورة النجم -اآلية رقم 4
2 محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – مرجع سابق – ص .186
178
خاطر أركون بطرح جريء ألح من خالله على قراءة النص القرآني وشرحه قراءة
وشرحا أدبيا وفق مناهج النقد األدبي الحديث .هذا طبعا لم يعجب الكثيرين -وهذا مشروع
في الساحة العلمية -مثل اإلسالميين والجابري .حيث أن قضية الدعوة للبحث في النص
القرآني بهذه الطريقة لم يتج أر عليها أي مسلم من قبل رغم التباين الكبير الذي ميز الفكر
اإلسالمي في المذاهب والطوائف .إال أن أركون تردده كان واضح من خالل تحديده لهدفه
من هذه الدراسة ردا على منتقديه قائال " :فأنا إذا بلورت المصطلح على هذا النحو لم أكن
أهدف إلى الدفاع عن البعد الديني لهذا الخطاب أو نفي هذا البعد عنه لم أكن أهدف إلى
خلع التقديس عليه أو نزع التقديس عنه ،وإنما كنت أهدف إلى وصف األمور كما هي...
من تطبيق المنهجية الجديدة على القران إلى التركيز في أن معا على البعد اللغوي
والسيميائي والسوسيولوجي والنفسي واألنتربولوجي لهذا الخطاب"1.
وبعد النقد الذي طاله بسبب فكرته عن تطبيق النقد األدبي على النص القرآني
واستف اززه للمجتمع العربي اإلسالمي في النصوص والحديث أراد أركون تحاشي الوقوع في
المحظور بتداركه لهذا الموقف الذي يعلله بأن هناك عائق حال بين النص القرآني وفهمه
خاصة ألنه يفرق بين ما أنزل على الرسول(ص)شخصيا فهذا مقدس ال يمكن استهدافه
بتلك المفاهيم الوضعية وبين النصوص الحالية التي نقلها الحفاظ والرواة .لكن في الوقت
الذي أراد أركون استدراك أرائه ومغازلة نقاده باحتواء تلك المواقف زاد من مسافة التباعد بينه
وبينهم بتفسير نهجه في دراسة وتفسير القرآن والسنة باستعمال أدوات العلم الحديث تماما
كما تدرس وتفسر قوانين الطبيعة كالفيزياء والبيولوجية والعلوم اإلنسانية باستعمال العقل في
منهج البحث في القرآن وتعريته من قداسته .بتجاوز األساطير حسب زعمه بدراسة أدبية
للنص القرآني ألن له تركيبته الثقافية التي تشكلت فيه فهو يعبر عن واقع مادي .ورأى بأنه
ينبغي اعتبار القرآن كحدث واقعي مثل الفيزياء وليس ككالم منزل من السماء .يرى أركون
هذه الطريقة وحدها هي التي ستسمح بفهم اآليات القرآنية .وهي التي سترفع االلتباس في
األحكام والشرح جراء التأثر باالختالف في المذاهب واألفكار خاصة عند تناول الموروث
الديني والتسليم بكل ما جاء به دون دراسة عقلية "،فبعض المخطوطات قد أتلفت كمصحف
179
ابن مسعود مثال وذلك الن عملية الجمع تمت في ظروف حامية من الصراع السياسي على
السلطة والمشروعية".1
يطرح أركون مجددا مصطلح القطيعة مع التفكير الالهوتي الذي سيطر لفترة كبيرة
على العقل البشري خاصة بعد تزاوجه بالسلطة حيث أصبحت تصدر أحكام بالتجريم
والتحليل والتحريم بمباركة من رجال الدين الذين دفعهم الوالء للحكام ببيع ذممهم بل وأبعد
من ذلك فمثال ذهبت الكنيسة الكاثوليكية ببيع صكوك الغفران مقابل مبالغ مادية وتختلف
تلك المبالغ حسب الذنوب وكأن الكنيسة تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء وطبعا استندت
الكنيسة في هذا على عدة نصوص إلهية .هذا ما أسقطه كليا وبصورة واضحة أركون على
الواقع العربي اإلسالمي في تحليله لمقوماته الفكرية واالجتماعية المستمدة جذورها من القرآن
حيث حكم عليه بالمنغلق وعلى أنه فاقد لروحيته .والرتباط القرآن بالتاريخ فهو خاضع له
خاصة أنه يعبر عن أحداث االنسان ال أحداث اآللهة" ،ال نستطيع أن نستوعب القطيعات
التي تحصل في مجرى التاريخ أو التصفيات التي يقوم بها من حين لحين عندما يحتفظ
بأحداث معينة ويحذف م ا عداها وكذلك األمر فيما يخص ظاهرة النسيان فالتاريخ ال يسجل
كل شيء وإنما ينسى أو يتناسى بعض األشياء...الخ كمعطيات ناتجة عن الصيرورات
االجتماعية والتاريخية ما دمنا سجناء هذا التصور الخطي المستقيم عن حركة التاريخ ولكننا
نعلم انه لكي نفهم التاريخ كليته فانه ينبغي أن يهتم باألشياء السلبية كما باألشياء االيجابية
،باألشياء المحذوفة كما باألشياء المثبتة ،وبالتالي ينبغي أن ندرس القطيعة أو التصفية
والحذف والنسيان بصفتها ظواهر معينة تحصل في التاريخ ".2
إال أن القطيعة التي يريدها أركون ليست القطيعة الكلية مع كل النصوص الدينية بل
مع بعضها فقط تلك التي تنفي جميع التصورات األخرى وترى في كل اختالف جرم ينبغي
أن يدان يعني القطيعة مع كل األحكام األحادية وبكل تأكيد المس في موقفه هذا تفكير
الجابري الذي يعترف بالتراث كجزء ال يمكن االستغناء عليه .وبهذه القطيعة يمكن للفكر أن
يؤسس ويمهد لنا الطريق نحو الحداثة "،لكن مفهوم أركون للتحديث يتضمن مسلمة ضمنية
مفادها أن بين الحاضر والماضي صلة حتمية ال فكاك منها وال اختيار لنا فيها وكل محاولة
180
للقطع مع التراث قطعا نهائيا هي محاولة تتنكب الشروط التاريخية الضرورية للتقدم
والتحديث باعتبار التراث مستم ار فينا بشكل من األشكال".1
يجادل أركون ضد أساليب القراءة التقليدية للنصوص الدينية التي تعتمد على تقديس
صاحب النص والتسليم بكل ما جاء ويرى أركون أنه قد تعمل الخبرات وتحيزات الناقل
بمثابة شروحات نهائية للنص .ولمحاولة الوصول لتفس ير أكثر وثوقا للنص ينبغي ممارسة
التفكيك للنصوص المقدسة وقراءتها بعيدا عن مصدرها وبهذا يرجع المفهوم الصحيح للتعاليم
والمراد منها يتحقق كون ما وصل إليه العقل اإلسالمي ذاتي ال يخدم الهدف االسمي بل
يوظفه لغايات محسوسة بعيدة كل البعد عن سمو طرحها الرباني .لذا علينا أن نبني نهضة
على ركائز علمية حديثة تنسجم مع ما وصل إليه العلم الحديث حتى ال تكون في مواجهته
ثانية مع أسس تتقبل اآلخر وتذهب بالبحث الجديد ألبعد الحدود في دراسة التاريخ اإلسالمي
دراسة ستجد نفسها استم ار ار لما حملته منذ نقطة البداية" ،صورة تاريخية عن مرحلة اإلسالم
األولي وتشكل المصحف ودولة المدنية والخالفة(...كما فعل المؤرخون الغربيون بالنسبة
للمسيحية األولى وشخصية يسوع والتشكل التاريخي لألناجيل) كما ينبغي دراسة سيرة النبي
وشخصية الصحابة األساسيين على ضوء علم التاريخ الحديث وذلك لفرز العناصر التاريخية
فيها/عن العناصر التبجيلية التضخمية ،هذه الصورة التاريخية إذا ما تمت سوف تدخل في
صراع مع الصورة التسليمية أو التقديسية التي كرستها القرون وهذا الصراع الخالق بين كلتا
الرؤيتين للتاريخ ،أي الرؤية الواقعية التاريخية والرؤيا التاريخية الموروثة هو الذي سيولد
البد يل الجديد ..فالبديل ليس جاهزا ،البديل يتولد من خالل العمل من خالل الصراع ،من
خالل التفاعل مع ما هو موجود".2
لقد ساد الثقافة األوربية في فترة الحداثة وما بعدها هذا التحرر من التبعية الروحية
للتاريخ المترفع عن واقع الفكر اإلنساني كما عرفت تلك الفترة التخلص نهائيا من الشعور
بالعبء الخرافي وشهدت تمرد عنيف على كل من يمثل المحاكم الربانية وأسندت كل
المعطيات التاريخية للعمل العلمي الموضوعي وأصبح دخول الحداثة مشروط بإحداث
1امباركحاميدي-التراث و اشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي -مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت ط2017 – 1
– ص 232-231
محمد أركون – قصايا في نقد العقل الديني -ص 2.293
181
أن ال وجود للمطلق في التاريخ وكل الحقائق
القطيعة مع القناعات التاريخية التقليدية واعتبار ْ
نسبية .واألسباب والظروف واالمتداد الزماني والمكاني جزء ال يتج أز من هذا الحدث التاريخي
ويمكن وضعه بكل حرية تحت طائلة الدراسة العقلية دون تسليم مسبق ودون تصديق خالص
وال حرج أبدا في ذلك ما دام أن الهدف هو البحث عن الحقيقة"،بأن كل شيء أوكل حقيقة
تتطور مع التاريخ وهي تهتم أيضا بدراسة األشياء واألحداث وذلك من خالل ارتباطها
بالظروف التاريخية ".1
والحقيقة أن سيرورة التاريخ تُِق ُر بتباين األحداث والمقام واألفكار وتؤكد نسبية
األحكام فمثال غالبا ما تكون الحقيقة خالف لما بدت عليه للوهلة األولى أو ينبغي تفكيكها
وتحليلها لكشفها .كما أن الحدث التاريخي في الحقيقة ال يستحق تلك المكانة األحادية
المتعالية التي وضعه فيها العقل المستسلم للمسلمات الخاضع للقوالب الجاهزة فمبادئ
الحداثة ترتكز على"أن كل الوحدات االجتماعية البشرية (أوكل المجتمعات) أيا يكون حجمها
تبدو خاضعة آلليات التحول والتغير والتطور ،ويكون هذا التطور إما باتجاه الدمج والتعقيد
والمزيد من القوة والميل إلى الهيمنة وإما باتجاه التفكك والضعف المتزايد الذي يحصل إلى
مرحلة التالشي الكامل وكل ما يحصل في الوحدات االجتماعية هو نتيجة اللعبة المستمرة
للقوى الخارجية والداخلية فهذه القوى هي التي تؤثر في المجتمع وهي التي تحسم مسألة
اإلرادات والمبادرات والتصورات الخاصة بالوكالء االجتماعيين الذين يدعون أيضا بالفاعلين
أو الممثلين االجتماعيين".2
بالتسليم بدور التأثر والتأثير في مركبات المجتمع المختلفة يتضح جليا أهمية دارسة
المخيال االجتماعي " "Imaginaireالذي استطاع في كل فترة أن يحول المحسوس إلى
معقول مشكال بذلك وفي مختلف العصور نقطة انطالق األحداث التاريخية "لكون العقل ال
يمارس فعله أبدا بشكل مستقل على عكس ما أوهمنا بذلك تاريخ طويل من الفلسفة والالهوت
في الغرب األوربي كما في اإلسالم .العقل يمارس فعله ودوره دائما على عالقة مع الخيال
والمتخيل" "Imaginaireوقد الحظنا منذ فترة قريبة فقط أن المؤرخين المحدثين (كجورج
1محمد أركون – علمنة و الدين :السالم المسيحية و الغرب –سلسلة بحوث اجتماعية -دار الساقي-ت :هاشم صالح-ط-1
-1990ص26
محمد أركون -قضايا في نقد العقل الديني -مرجع سابق 2.133-132
183
البحث وتحقيق النصوص الذي يتبعه فيما بعد -وكما حدث لإلنجيل والتوراة -إعادة قراءة
سيميائية ألسنية للنص القرآني" ،1ومعنى هذا أن أركون يشكك في مدى صحة الوثائق
المنقولة إلينا حول كيفية تشكل المصحف( القران الكريم) ،ألنه يعتبر أن المصحف المتداول
لنا اليوم مصحف من نتاج التاريخ وليس هذا فحسب بل التشكيك حتى في رواية
الصحابة(رض) فيما يخص تشكيل المصحف فهو يرى "إن سيادة التراث الكتابي المقدس
وهيبته مشروطة بمدى قيمة كل شهادة من الشهادات التي وصلتنا ألن جيل الصحابة وحده
الذي رأى وسمع وشهد الظروف األولى والكلمات األولى التي نقلت فيما بعد كل ناقل على
هيئة القران والحديث والسيرة وانه لمن الصعب تاريخيا أن لم يكن من المستحيل التأكيد بان
كل ناقل قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله على الرغم من هذه الحقيقة فالنظرية
التيولوجية المزعومة قد فرضت بالقوة أن كل الصحابة معصومون في شهاداتهم وروآياتهم"2
ولقد انتقلت صيرورة المناهج النقدية للدراسة التاريخية عند أركون للعقل العربي اإلسالمي
المَنزل
إلى أبعد من هذا الحد في مالمستها لقداسة النص القرآني والسني بعد تمييز النص ُ
الم ْنقول ألن استالم وتسليم النصوص اعتمد في نظره على طريقة الحفظ واإللقاء الشفوي
عن َ
ما يعني أن أركون وضع الصحابة الذين ُكلِفوا بجمع القرآن والحديث محل ريب وبالتالي
فرواياتهم معظمها يعتريها االلتباس بإضافتهم آليات وإهمالهم ألخرى في القرآن ،أما بالنسبة
للحديث فيستدل من درجة صحة الحديث ألن االختالف عليها كان منذ البداية .هذا من جهة
ومن جهة أخرى أثار أركون حالة العقل العربي في ضعف اإلنتاج الفكري وتسليمهم
بالموروث القرآني والسني دون تأمل ودون استدالل لكشف الحقائق ونزع اللبس عنه .يفسر
أركون ذلك قائال" :في الواقع إن األحاديث النبوية واالمامية هي في األصل إنتاج جماعي
فردي وهي تعكس بعض المجريات البطيئة من لغوية وثقافية ونفسية –سوسيولوجية وهذه
المجريات جميعها أدت إلى تشكيل الروح اإلسالمية العامة أو العقلية اإلسالمية بالمعنى
األنتربولوجي". 3
184
لقد استمر أركون في السير في اتجاهه النقدي التاريخي الجريء باقتراح تدوين جديد
للحديث وعمال جديدا عليه لتقييم صحته وإثباته وأنكر عمل الرواة والمهتمين بتدوين األحكام
والسيرة وربط الخطاب الديني بالتفكير األيديولوجي والتبعية السياسية لتحقيق غآيات خاصة.
يرى أركون أن هذا الفكر حمل في طياته الوالء للسلطة من خالل تمييع األحكام وتحويلها
عن مجراها الحقيقي وسعى في الحفاظ على مكانته التي حققها بفرض هذا الواقع العقيم على
العقل العربي اإلسالمي وتعاطى معه بكثير من الخطاب األسطوري بدل تناول السيرة
بمقاييس علمية موضوعية ودراستها دراسة شاملة لمختلف جوانبها التي أحاطت بها .كما أن
أركون لم يكتفي بما طرحه عن السيرة والتراث الديني وتفسير األحداث التاريخية بل ذهب
للنص القرآني المق دس على خطى الفالسفة والباحثين الغربيين وبكل ثقة عمياء أراد أن يفعل
بالنص القرآني تماما مثلما فعلوا هم بكنيستهم وبذلك يتأكد وبكل وضوح موقفه الغريب
بتقديمه النص القرآني مثل النصوص األدبية بهدف تعريته من قدسيته التي حملها منذ نزوله
ما يعرف بأرخنة النص إال أن هذا الطرح ال يقبله الجابري فهو يقر بالتاريخية لكن ال
يسقطها على القرآن فيقول ":ال يستقيم مثال بأنه من الممكن افتراض أن تكون هناك خالفات
جوهرية بين النص كما جمع ورسم زمن عثمان وبين القرآن كما تلقاه الناس زمن النبي،
ذلك أن المسلمين والصحابة أنفسهم اختلفوا وتنازعوا وقامت بينهم حروب ...ومع ذلك لم
يهتم أيا منهم كطرف ما بالمس بالقران كنص وكان هناك من خصوم كمعاوية (الذي كان
من كتاب الوحي) قاتلوه يوم صفين وهم يخاطبونه وقومه األمويين قائلين :قاتلناكم على
تنزيله واليوم نقاتلكم على تأويله ،....وإذا فالخالف والن ازع زمن عثمان ومعاوية كان حول
"التأويل" ولم يكن يمس في شيء التنزيل (النص) ،...وإذا فليس هناك مجال لممارسة النقد
التاريخي حول صحة النص القرآني".1
كان الجابري صريحا مع نفسه ومع غيره خاصة .كما كان موقفه موافقا بشكل كبير مع
بيئته حيث سلم بإمكانية دراسة العناصر الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين
ونادى بدراسة العقل السياسي واألخالقي للواقع العربي اإلسالمي لكن امتنع -عكس أركون-
1محمد عابد الجابري – في قضايا الفكر و الدين –مجلة مقدمات http.awraq-com.MAKTOOB Blog.com
185
عن الخوض في قدسية النص القرآني ألنه حسب رأيه القرآن محفوظ من عند هللا كما أن
التواتر اللفظي لم يميزه.
-3القراءة التأويلية األنتربولوجية عند أركون:
اهتم أركون من خالل منهجه العقلي بفرض أدوات العلم الحديث كما أكد استقراء
التاريخ بواسطة كل العلوم الحديثة دون استثناء بما في ذلك علم االنسان ()Anthorpology
لدراسة القرآن والسنة بداية بفهم تصرفات العقل العربي اإلسالمي المعاصر وتفسير بنائه
لفكره وأدائه في كل مرحلة من مراحل التاريخ وتأثير اللغة على الحياة االجتماعية للفكر
العربي اإلسالمي .والتحقيق باألدلة المادية في إثبات أو رفض الموروث الديني .ويعرف
أركون االنثروبولوجيا :هي"مذهب في معرفة االنسان مؤلف بشكل تنظيمي واألنتربولوجيا
يمكن النظر إليها من الناحية الفيزيولوجية ومن الناحية العلمية ) (pragmatiqueفمعرفة
االنسان الفيسيولوجية تتناول البحث فيما صنعته الطبيعة باإلنسان ومن الناحية العلمية
(البراجماتية) تتناول البحث فيما صنعه االنسان بنفسه في نفسه كائئا ح ار أو ما يقدر أن
يفعل أو ما ينبغي ان يفعله في نفسه ...واألنتربولوجيا عند " كنت" علم يتناول مزيجا من
علم النفس وعلم الطباع ) )caractérologieوعلم الجناس والشعوب ". 1
من أجل تبرير ما قدمه أركون يرى أن العقل البشري ال يمكن بأي حال تحديده بالمطلق
في النص القرآني الذي حسب زعمه يمنع الخوض في مسائل عديدة ومهمة ونهي بشكل
وقاس أركون مساحة (الال مفكر فيه)في الفكر العربي مباشر عن مجرد التفكير فيها
اإلسالمي واستنتج أنها شاسعة تستدعي استعمال كل األدوات والوسائل العلمية الحديثة
لتفكيك تاريخ الفكر العربي اإلسالمي وبما أن األنتربولوجيا علم مرتبط بمختلف العلوم
اعتبرها هي المنقذ الوحيد لتسليط الضوء على ما أهمله النص الديني حسب رأيه.
فاألنتربولوجيا "تبين لنا كيف تقوم التراثيات الخطية ببتر نفسها عن طريق ضغوط االنتقاء
والحذف التي تمليها األرثودوكسيات الدينية أو الفلسفية أو األدبية"2
1عبد الرحمن بدوي-موسوعة الفلسفة –ج -1المؤسسة العربية للدراسة و النشر-بيروت ط -1984-1ص .231
محمد أركون /معارك من اجل األنسنة في السياقات اإلسالمية –ت :هاشم صالح-دار الساقي بيروت ط-2001-1ص
2 .314
186
بما أن علم دراسة االنسان () Anthorpologyعلم قائم على تطبيق كل الميادين
العلمية على اختالفها في دراسة الظواهر اإلنسانية بما في ذلك التاريخية فإنه يثبت بشكل
موضوعي وواقعي كل ما هو مقبول من طرف العقل رغم التباين في المبدأ معه ويجعل
الباحث في التاريخ الديني خاصة له دراية كاملة بقوانين التأريخ ويمكنه من رسم صورة
تاريخية عن الثقافات القديمة ،ومعرفة عالقات التماس والتضاد مع الدين أو نقاط االلتقاء
واالختالف مع األديان ،وخاصة ما يتعلق بالدين اإلسالمي ويتيح له رؤية أبعد بكل حرية
ويزيح من العقل اإلسالمي مفهوم المطلق ويشكك في كل المعطيات التاريخية بهدف تنقيته
من الشوائب واستخالص الحقيقة كما هي .وبالتالي تكسر تلك األغالل المقيدة للعقل
اإلسالمي وترفع الحواجز عنه لتمكنه من الخروج من دائرة (الدوغمائية)".فهي ال تتم فقط
بالوقائع واألسماء واألحداث التي تحصل في وضح النهار وإنما تهتم أيضا بالجوانب
الغامضة والمخفية من التاريخ المقارن لألديان والثقافات والحضارات ،إنها تهتم بالوظائف
الرمزية وعمليات اإلبداع المجازي واألسطرة والمخاتلة واألدلجة والتقديس والتعالي....وكل
اآلليات المرتبطة بالخيال والمتخيل أكثر مما هي مرتبطة بالعقل أو بالفاعلية العقالنية"1
بالفعل ومن دون أدنى شك احتاج العالم لعلم يشمل دراسة االنسان بشكل كامل تتقاطع فيه
كل العلوم ويبحث في الحقيقة ويمارس النقد لتفكيكها ,علم يمكنه أن يتخلص من التبعية
التاريخانية واأليديولوجية والسياسية بنفي جميع األحكام والقوانين الموروثة وإعادة بنائها
وصياغتها.
يؤكد محمد أركون حاجة البحث في العقل العربي اإلسالمي االنثروبولوجيا بسبب
قصوره ألنه لم يكن باستطاعته فهم قراءاته لقلة وعيه وسلطة التفسير الموروث عليه ,لذا
وجب وضع أطر تحكيمية خالصة يكتسبها الباحث مثل (المثلثات األنتربولوجية)
،Anthropological triangleكمثلث (العنف والتحريم والحقيقة) أو(الوحي والتاريخ
والحقيقة) أو( اللغة والتاريخ والفكر). 2
يبرر أركون اعتماده على هذا األسلوب بقلقه وخوفه على ومن الواقع العقل العربي
اإلسالمي بسب طغيان األنظمة المعرفية المبنية على األيمان والنظرة األحادية .إن هذه
189
وألن الحقيقة التي يمتلكها (المخيال االجتماعي) دائما ما تتعرض للعنف سواء من طرف
الكفار إذا كانت الجماعة دينية أومن طرف أعداء الوطن إذا كانت الجماعة سياسية وال ينفي
أركون أن كل ال تعاليم الدينية في مختلف األديان إدانتها للعنف ورفضها له لكنها في المقابل
تباركه وتدعو إليه .فالعنف متجذر فيها .
في األخير يمكن وبكل وضوح تفسير موقف أركون من النص القرآني والحديث
والتاريخ اإلسالمي بالدراسة األنتربولوجية من أجل قراءة أشمل ومن أجل أيضا تصحيح
جميع الـتأويالت التي رافقت الحدث التاريخي منذ البداية وفتح أفق أوسع لهذه العملية وبكل
جرأة ودون أي حواجز أو خوف .تماما كالدراسة التي تمت في العلوم اإلنسانية والعلوم
االجتماعية .وعلى خطى الباحثين األوروبيين أراد أركون تطبيق أعمالهم على اإلنجيل
وكتبهم المقدسة وإسقاطها على النصوص الدينية اإلسالمية بتوظيف األدوات العلمية الحديثة
عليها.
190
الفصل الثالث
191
مدخل:
اعتمدت دراسة محمد أركون للفكر اإلسالمي على منهج نقدي تحليلي فكك بواسطته
كل جوانبه إذ يؤكد أن حالة الدهشة الحضارية واالنسداد المستمر بين العمق والحاضر أدت
إلى ضياع وافتقاد المنهجية في الوعي والتطلع المتحرر وفي هذا الباب نتناول جرأة محمد
أركون عندما قدم البديل العلماني كأداة فعالة حسبه لتحقيق الحداثة التي جاءت بها بواخر
البعثات العلمية إليه والمستشرقين وتركته مندهشا ومتطلعا أللوان الحداثة ووسائلها وسنتطرق
بالتفصيل في هذا الفصل لهذه الحالة وما قدمه محمد أركون كأدوات حديثة للخروج منها
ولتجاوز آثارها تمثلت في اإلسالميات التطبيقية وهي منهج يرى أركون أنه سيخفف الضغط
واالكراه الديني وسيقف في وجه القداسة ويعريها وسيعيد النظر في الحقائق المطلقة وسيعيد
تصور األحداث كما سنتناول في هذا الفصل أهم األدوات المعرفية الحديثة التي يريد مفكرنا
محمد أركون إتباعها إلعادة بناء التراث الذي ال يجد حرجا أركون في حكمه عليه عندما أقر
باحتوائه للفكر العلماني منذ البداية من خالل سرد شواهد على ذلك سنذكرها بالتفصيل هي
أيضا وسنقف عند التراث خصوصا بعدما أكد مفكرنا على أن البداية ينبغي أن تكون من
الرجوع لنقطة التجلي التي عرفها العقل اإلسالمي والتي يحددها برسالة الشافعي التي تناولت
التأصيل للفقه اإلسالمي وحملت السنة النبوية واجماع األئمة إذ يؤكد محمد أركون هنا أنه
البد أن تتم دراسة حديثة بوسائل علم حديثة لهذه البداية ونستمر بواسطتها وبواسطة تلك
األدوات الحفر عميقا في التراث حتى نستطيع تصحيح مسار العقل اإلسالمي ووضعه على
السكة الصحيحة ليتمكن من اللحاق بركب الحضارة ويحقق الحداثة التي يصبوا لها .وفي
هذا الصدد نركز في هذا الفصل على تلك األدوات المعرفية ونذكرها بالتحديد والشرح حتى
يتمكن المتلقي من وضع صورة شاملة لهذا الموضوع وننهي هذا الفصل في األخير بدراسة
أهم فكرة تعتبر الرئيسية في فكر محمد أركون وهي حقوق االنسان ونبذ العنف واالرهاب
الحاصل في العالم ألن هذا يعتبر مبدأ رئيسيا للعلمانية وهي تسعى في الواقع لتحقيقه وال
يمكنها أبدا االستمرار دونه وقدمنا أهم مظاهرها وتناولت نقدا موضوعيا شمل مظاهر
العلمانية في الواقع اإلسالمي العربي وهذا ما تعمقنا فيه في هذا الفصل.
192
المبحث األول
193
-1مفهوم العلمانية لدى أركون
يعتبرمحمد أركون أحد أهم المنظرين للفكر العلماني الغربي وأحد أبرز المفكرين
المسلمين والعرب الذين حملوا على عاتقهم عبء التبشير له في الدول اإلسالمية العربية إذ
يؤكد أركون ارتباط سيادة الفكر العلمي وتحقق الحداثة في أوربا مع عصر التنوير الذي قام
بعد تحرير اإلنسان من سلطة الدين وتقديم العقل في مختلف المجاالت الفكرية والثقافية
والعلمية والسياسية وبعد إرساء قواعد الفكر العلماني كاالحترام وضمان الحريات والحقوق
ومتط لبات العيش المشترك واستقاللية السلطة السياسية واستقاللية مختلف الخيارات الروحانية
والدينية التي ال تخضع لها السياسة وليس للسياسة أيضا سلطة عليها .لذلك فمحمد أركون
يجزم أن العلمانية شرط ضروري لتحقيق الحداثة في الدول اإلسالمية العربية ألنها أداة فعالة
الجتثاث الفكر الالهوتي األورتدكسي من المجتمعات العربية وعزله عن السلطة من أجل
بناء مجتمع مدني حر .وهي الوسيلة الوحيدة لتحقيق النهضة العربية اإلسالمية كونها اإلطار
السياسي المناسب الذي يوفر المناخ المساعد لبلورة مفاهيم معرفية وعلمية في هذه البلدان
العربية اإلسالمية.والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هو مفهوم هذا اإلطار وما هي شروطه
التي وضعها محمد أركون لتحقيق الحداثة ؟
ينطلق محمد أركون في تقديمه مفهوم للعلمانية عند قوله ":حسب اإلتيمولوجيا (علم
أصول الكلمات) فإن كلمة Laicosاليونانية تعني الشعب ككل ماعدا رجال الدين أي بعيدا
عن تدخلهم في حياته،في التينية القرن الثالث عشر نجد أن Laicusتعني الحياة المدنية أو
النظامية كما كانوا يقولون في ذلك الحين ، 1".فيميز هذا التفسير بين أسلوبين للعيش أسلوب
يمثل رغبة الشعوب في وضع المنهج الذي تريده بكل حرية في إطار الدولة المدنية النظامية
أما األسلوب الثاني فيمثل سلطة رجال الدين أو الكهنوت –الكنيسة -الذين مارسوا سطوتهم
بكل قوة في مختلف المجاالت الدينية واالقتصادية والسياسية ولفترة طويلة تمكنوا فيها من
السيطرة على كل المجتمعات وخاصة العامة الذين انساقوا دون تردد لتعاليم الالهوت فشجع
هذا رجال الدين على األخذ بزمام األمور في مقاليد الحكم وفي االستحواذ على المعرفة
وجعلها مفاهيم مطلقة ال يمكن مناقشتها وال يسمح بنقدها أو حتى التفكير في ذلك بعدما
لغويا "تعود كلمة علمانية والتي هي ترجمة غير كافية للكلمة الفرنسية Laiciteإلى
أصل الهوتي قبل أن تلبس دالالت جديدة ذلك أن التقليد الكنسي عودنا على التمييز بين ما
هو رسمي الئكي بين أسقف مرسوم اإلكليروسي وأسقف علماني ،2".وهذا يدل على امتداد
هذا المفهوم عبر تاريخ الفكر الغربي األوربي الذي يصل إلى الفترة التي عرفت تصادم
المفكرين والعلماء مع رجال الدين والمواجهة بينهما التي ولدت التمييز بين السلطة الروحية
والسلطة الزمنية وتمثل فيها المشهد الذي صور انتقال السلطة من الكنيسة إلى سيادة العقل
على يد رجال الفكر والعلماء .
يحث أركون صراحة ودون أي إحراج المجتمعات العربية اإلسالمية على انتهاج
النهج العل ماني فهو يراهاإحدى المكتسبات البشرية وهي في تصوره" مفيدة جدا عندما نفهمها
جيدا ونستطيع أن نتمثلها ونهضمها ونسيطر على تعاليمها وما تتيح لنا أن نفعله 3".ومن هنا
نتساءل عن كيفية تصور محمد أركون للعلمانية وما هو موقفه منها وخاصة نتساءل عن
الطريقة التي قدمها محمد أركون للمجتمعات العربية اإلسالمية حتى يتمكن من وضع مفهوم
تستسيغه هذه المجتمعات بعيدا عن األحكام القبلية التي سبقت مفهوم العلمانية وبعد ذلك
كيفية تجسيدها في المجتمعات العربية اإلسالمية بكل استعداد لها؟.
نستطيع القول أن ما يريده محمد أركون بعد تحديده لمفهوم العلمانية بهذا الشكل هو
أساسا إرادة المعرفة والتعقل بمعنى آخر أنه يريد أن ينتقل الطرح الفكري إجماال من الجانب
المظلم المنغلق والعنيف إلى الطرح الموضوعي الحر في المعرفة والعلم والتحرر من أي
-1محمد أركون ،تاريخية الفكر اَلسالمي ،مرجع سابق،ص.276
-2غير موجود
199
شكل من أشكال العنف والقهر والتسلط عليه ونبذ كل االكراهات الدينية واللغوية والفكرية
والسياسية وتجاوز كل العوائق التي تقف ضد وضع معرفة تكتنفها العلمنة والموضوعية في
المجتمعات العربية واإلسالمية من أجل الوقوف على مواضع الضعف وفهمها وإعادة بناء
المعرفة الصحيحة من جديد وهنا يرى أركون أن العلمنة "تواجه مسؤوليتين أو تحديدين
اثنين ،أوال :كيف نعرف الواقع بشكل مطابق وصحيح أي كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة
تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة (بغض النظر عن اختالفاتها) نحو
التوصل إلى الحقيقة ؟ هنا تكمن المهمة والمسؤولية المفتوحة أو المنفتحة باستمرار إنها عمل
ال ينتهي وال يغلق وهذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية
وحتى الدينية ( أي يتجاوز حتى الخصوصية الدينية التي ولد فيها...وهنا تكمن العلمنة أساسا
وتفرض نفسها بشكل واعي متساوي وإجباري على الجميع دون استثناء1".ويتناول هذا الجزء
من العمل مبدئيا دراسة األرضية وتهيئتها الحتضان التغير المتوقع ويتم هذا بإدراك جميع
عناصر الواقع والتشكيال ت البدائية التي ساهمت في تشكيل الفكر فيه والبد لهذه الدراسة أن
تتوافق مع هذا الواقع وتتواصل معه وتتقبل كل اختالفاته العميقة حتى تتمكن الشعوب
العربية واإلسالمية من االطمئنان لهذا التغير وتستعد له بكل اقبال ودون تردد وأما
"المسؤولية الثانية فتخص مناقشة أخرى أكثر شيوعا وألفة ...بمعنى أنه بعدما نتوصل إلى
معرفة ما بالواقع فإنه ينبغي أن نجد صيغة أو وسيلة مالئمة لتوصيلها إلى اآلخر دون أن
ولكي تمتد العملية وتستمر في إرساء دعائم العلمانية ينبغي أن 2
نشترط حريته أو تقيدها".
يتواصل العمل في هذا الجزء على إيجاد نمط مناسب للفهم والمعرفة ينسجم مع الواقع الذي
تم دراسته في المرحلة السابقة وهذا ال يتم إال بعنصرين أساسين هما :الحرية والجرأة من أجل
إلغاء كل األفكار التقليدية ومواجهتها بالواقع الجديد بطريقة موضوعية وعقلية كما يؤكد
محمد أركون على أن "العلمنة تتركز فقط في اإللحاح على حاجة الفهم والنقد داخل توتر
عام في اإلنسان وبمواجهة "ضابط" ماهو موجود دائما وضروري أن يوجد سواء كنا نعيش
في مجتمع الدولة –الكنيسة -أو في مجتمع الدولة القومية الحديثة 3".وفي نظر أركون أن
اهرة نقدية بالدرجة األولى من أجل الوصول إلى المعرفة العلمية والتحكم فيها وتبدأ من
التمييز بين تاريخ الفكر الكالسيكي وتاريخ أنظمة الفكر الذي يعمل في إطار أركيولوجيا
والحقائق ألنها غير منغلقة على المعنى والتأمل في أسباب تكوين األصول والمفاهيم
المعرفة والواقع المعاش ألن هذه الدراسة تستطيع أن تحدث القطيعة االبستيمولوجية مع كل
األفكار والرؤى الدوغمائية التي ال تعتقد إال باالتجاه األحادي المنغلق على البديهيات
واألحكام واألفكار المطلقة كما يمكن لهذا العمل أن يتيح المجال لالنفتاح والتعدد ويسمح
بالمالحظات والتناول الفلسفي والعلمي الذي يستطيع هو اآلخر أن يفرق بين الخرافي
والتاريخي ألن أركون يريد "تأسيس مجال معرفيجديد للعلمانية وإخراجها من بوتقة الالمفكر
فيه ألنه متيقن بأن العلمانية جزء ال يتج أز من الحداثة وعلى تعبير كمال عبد اللطيف »لقد
فتحت أسئلة محمد أركون المجال الجديد للتفكير في العلمانية من أكثر من زاوية وبأكثر من
صيغة وهي في نظرنا تقدم فتحا فلسفيا هاما يساهم في التأصيل الفلسفي الخالق
والمبتكر1".ونفس الغاية والهدف نستشفه من دعوة أركون إلعادة صياغة مفهوم العلمانية
عندما أراد أن يبين ويوضح المعنى الراقي لهذا المفهوم الذي يتجاوز التعريف القاصر لها
الذ ي اختصر المفهوم في تصور النزاع بين الدين والسلطة ونادى بالفصل بينهما بل بالعكس
-1بشير ربوح ،بويش محرز ،اإلشكاليات التاريخية واْلفاق المعرفية ،مرجع سابق،ص7
201
تماما فأركون لم يقف عند هذا الطرح بل رفضه ودعا لتجنبه ورأى أن العلمانية ال ترفض
الدين وال تعزله بل هي منهج يتناول الدين والدنيا على السواء وال يمكن أن تقف ضد
أحدهما ،بل العلمانية جاءت لخدمة الدين وحمايته من االستعمال واالكراه الفكري من طرف
المتدينين الذين مارسوا السياسة أو من خالل توظيف النصوص الدينية من طرف السياسيين
الذين استعملوا رجال الدين لمباركة سلطتهم وضمان استمرارها فالنصوص الدينية استعملت
ووظفت من الطرفين ويكمن عمل العلمانية هنا عندما تتدخل للفصل بين هذا التوظيف وهذا
الخلط ليس من أجل الفصل ولكن لتبقي كل سلطة في مجالها ولتضع حدودا تالمس
السادتين دون السماح بالتجاوز غير المشروع واالستعماالت الذاتية للدين ومن أجل هذا "إن
اإلسالم في حد ذاته ليس مغلقا في وجه العلمنة ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة
فإن عليهم أن يتخلصوا من االكراهات والقيود النفسية واللغوية واإليديولوجيات التي تضغط
عليهم وتثقل كاهلهم ليس فقط بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي وعليهم لكي يتوصلوا
إلى ذلك أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر اإلسالمي في القرون الهجرية األربعة
األولى 1".فلقد كانت هناك في تلك الفترة حركة تسمى حركة المعتزلة مثلت التيار العقالني
والتفكير العقلي الذي تبنى الحداثة آنذاك واستعملوا العقل من أجل فهم النص الديني وتناولوا
مسألة خلق القرآن وكانت هذه المسائل في تلك المرحلة حساسة وتتطلب جرأة وشجاعة
لتناولها ومناقشتها وعلى الرغم من ذلك فلقد تمكنت هذه الحركة من فرض تصورها وأعطت
صورة مقبولة عن العلمانية لذا فأركون يحث على الرجوع لتلك الفترة أي القرون األربعة
الهجرية األولى التي برزت فيها هذه النزعة التي أعجب بها فهو يريد أن نعتبر منها وننتهج
الطريق الذي تبنته ويريد معرفة أسباب ظهور هذه الرؤية في المجتمع العربي اإلسالمي
ومعرفة أيضا أسباب توقف العمل على ذلك الشكل المتميز.
يقدم محمد أركون نوعين من العلمانية هما العلمانية االيديولوجية النضالية والعلمانية
المنفتحة.
تبلور هذا النوع من العلمانية في عصر النهضة ومثل موقف العقل من الدين آنذاك يسميه
أركون "العلمانية المناضلة Laïcisme Militantوالوضعية التي تعتبر بدءا من عصر
النهضة الموقف الذي يتوافق مع العقل المستقل ويرى أوغست كونت أنه ينبغي اعتبار
المرحلة (التيولوجية أو الالهوتية )من حياة البشرية بحكم الماضية والمتجاوزة وبحسب هذه
الرؤية الخطية المستقيمة لتقدم الروح فإننا قد وصلنا إلى مرحلة إيجابية محسوسة من المعرفة
وهذه المرحلة تحذف كليا الموقف الديني وتعتبره شيئا قديما باليا1".فالعلمانية المناضلة لها
تصور مغاير تماما عن العلمانية المنفتحة وال تشبهها فهي كما يرى عبد الوهاب المسيري
"رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد عالقة الدين
والمطلقات والماورائيات (الميتافزيقية) بكل مجاالت الحياة ،وهي رؤية عقالنية مادية ،تدور
في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى مركز الكون ،غير مفارق أو متجاوز
مكون أساساً من مادة واحدة ،ليس لها أية قداسة وال تحوي أية أسرار،
له ،وأن العالم بأسره ّ
وفي حالة حركة دائمة ال غاية لها وال هدف ،وال تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو
2
المطلقات أو الثوابت ،هذه المادة تشكل كالً من اإلنسان والطبيعة".
يرى أركون أن هذا التصور له عالقة تاريخية بالتاريخ األوربي وبالتحديد في عصر
النهضة Renaissanceتلك المرحلة من التاريخ األوربي التي شهدت صراعا حادا بين
رجال الكهنوت الذين نثلوا سلطة الكنيسة وبين النخبة من رجال العلم والفالسفة وتميزت تلك
الفترة باقتتال دموي كبير انتهى بفصل سلطة الكنيسة عن السياسة بل وأيضا عزل الدين عن
الشؤون االجتماعية والدنيوية حيث يرى محمد أركون أن الرؤية النضالية راودت كثي ار الفكر
يعرفها أركون على أنها نمط من الفكر "المنفتح والممارس بصفته موقفا نقديا اتجاه
كل فعل من أفعال المعرفة وبصفته البحث األكثر حيادية واألقل تلوينا من الناحية
االيديولوجية من أجل احترام حرية اآلخر وخياراته هو أحد المكتسبات الكبرى للروح البشرية
وهذه هي العلمنة الحقيقية ،1".إنه نمط يختلف تماما عن العلمانية النضالية فهذا الصنف
من العلمانية يمنح للتصور الديني والروحي مكانته ويتجنب أيضا المواجهات مع رجال
الدين ،فالعلمانية المنفتحة تقف في وسط طرفي النقيض وتتبنى موقفا تجاه الدين تتخطى به
الرؤية الكالسيكية وال تقف عندها نهائيا بل أكثر من ذلك فموقفها يحتوى التعددية الدينية
والثقافية والفكرية وتدعوا هذا التنوع لالنسجام من أجل التعايش السلمي وتحقيق االحترام
المتبادل كما أن العلمانية المنفتحة ال تعزل البعد الروحي والماورائي لإلنسان فالعلمانية
المنفتحة هي العلمانية الجزئية حيث عرفها المسيري عبد الوهاب فقال" :فهي ال تتسم
بالشمول وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن السياسة وربما االقتصاد وما هو
يعبر عنه بعبارة فصل الدين عن الدولة ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت بشأن
المجاالت األخرى من الحياة ،كما أنها ال تنكر وجود مطلقات وكليات أخالقية وإنسانية وربما
دينية أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقا 2".فالعلمانية المنفتحة ال تنكر الدين وال تعزله عن
الحياة االجتماعية بل بالعكس فهي تحميه وتحرره من االكراهات والتوظيف غير الصحيح له
من طرف السلطة السياسية أو السلطة الدينية فالعلمانية المنفتحة هي الوسيلة الوحيدة كما
يرى محمد أركون إلبطال المشروعية" ،ولذا ينبغي سحب البساط من تحت أقدام الحركات
األصولية ،والتمييز بين المستوى الروحي والمتعالي للدين /وبين المستوى االيديولوجي
السائد حاليا ولكن الناس البسطاء ال يستطيعون القيام بهذا التمييز فينخدعون باألقوال
-1محمدأركون،الفكراَلسالمينقدواجتهاد،مرجعسابق،ص.63
207
بالشؤون الروحية ومنع كل تداخل بينهما حتى ال يوظف أحدهما اآلخر من أجل فرض
السلطة في شؤون السياسة وفي المقابل تم الحفاظ على مكانة الدين لتجنب التصادم
والمواجهة الدموية التي أثرت على المجتمع في مختلف المجاالت االقتصادية والفكرية
والثقافية والسيكولوجية ومنه فإن إجراء البورجوازية عاد بنتائج إيجابية وفعالة على المجتمع
األوربي وساعد بشكل مباشر في المضي قدما نحو الحداثة بعدما انتهج العلمنة من خالل
التصور العقالني الحر الذي سار فيه .وانطالقا من إعجابه بهذه التجربة أراد أركون أن
يستثمرها في المجتمعات العربية اإلسالمية من خالل وضع مقاربة بينها وبين التراث الديني،
لكن ورغم إعجاب أركون بالتجربة الفرنسية إال أنه انتقدها ورأى أن هذه العلمانية المناضلة
وقعت في نفس ما وقع فيه الدين بعد أن أغلق على الحريات وقيدها فلقد أصبحت هي
األخرى منهج يفرض سطوته على الفكر ويحد من حريته مثلما فعلت الكنيسة من قبل ولهذا
يحذر أركون من الوقوع في هذا المشكل فيقول " :ينبغي أن نحتاط جيدا فالعلمنة ال ينبغي
هي األخرى أن تصبح عقيدة إيديولوجية تضبط األمور وتحد من حرية التفكير كما فعلت
األديان سابقا ،والعلمانية النضالية Laïcisme Militantالمعادية للكهنوت في الغرب ربما
كانت قد مشت في هذا االتجاه 1".هذا يعني أن العلمانية في فرنسا وقعت في نفس المشكل
الذي أرق من قبل الفكر األوربي مع الكنيسة وظلمها ويرجع أركون هذا للتعصب الذي وقعت
تسع فعليا لحل
فيه العلمانية المناضلة ضد الدين ووقوفها ضده في موقف معادي له ولم َ
مشاكل الدين بطريقة عقلية بل انتهجت في ذلك القوة والعنف والتسلط وولد هذا بطبيعة
الحال عنفا مضادا وبالتالي لم تكن التجربة العلمانية الفرنسية أحسن حال من سلطة الكنيسة
ودوغمائية الفكر الالهوتي ورجال الدين فما لبثت أوربا تنفك منها حتى دخلت في دوغمائية
العلمنة العقلية ورجاالتها وبمعنى آخر فلقد خرجت أوربا من تقديس النص الديني ليواجهوا
تقديس ال عقل ألنهم اعتقدوا أن العقل وحده هو من باستطاعته تجاوز كل العوائق وحل كل
المشاكل دون االعتماد على أي عامل آخر فهو وحده يمكنه إدراك المطلق ومعرفة قوانين
الطبيعة والسيطرة عليها .ويوضح أركون في هذا الصدد أن العلمانية الفرنسية لم تختلف
تماما عن الفكر األورتودكسي بل وكانت منغلقة على نفسها أيضا أمام الدين خاصة وحتى
-1المرجع نفسه،ص.208
-2كحيل مصطفى ،اْلنسنة والدين في فكر محمد أركون ،منشورات اَلختالف،الجزائر ،دط،2013ص.225
-3نفس المرجع ،نفس الصفحة،ص.225
211
أركون يعتقد أن العلمانية التي يصبو لها هو تختلف عن العلمانية األوربية وال تشبهها وبما
أنه يجزم بأن العلمانية مطلب ضروري لتحقيق الحداثة فإن أركون يقترح تصو ار جديد لها
سواء في المجتمعات الغربية أو المجتمعات اإلسالمية فهو يعتقد أنها أوال مكتب بشري يسعى
إلرساء العقالنية والحرية والعدالة والمساواة وتحمي الضعفاء وتضع مكانة للمقصيين دون
استثناء وتعترف بطموحات الغير وتثمن جهود العلماء والمفكرين دون الرجوع للخلفيات
الفكرية أو الدينية أو العرقية التي تدفعهم .
-5النموذج التركي للعلمانية:
لقد انتقد أركون كثي ار الفكر الفرنسي الذي عكس آراء المتزمتين للعلمانية العقلية الذين
اتخذوا من منابرهم مجالس للتشهير بالدين ومن خطاباتهم المتطرفة مواضيع لنفث أحقادهم
عليه وتحالفوا ضده من أجل عزله وإبطال دوره في المجتمع في الوقت الذي عرف فيه العالم
تطو ار علميا في مختلف العلوم الذي كان باإلمكان أن يلعب هذا دو ار مهما في
تفسيروتوضيح الغموض الذي اعترى النصوص الدينية ورافقها لمدة طويلة ولقد ذهب أركون
في هذا النقد إلى حد التمييز بين العلمانية النضالية االيديولوجية التي عرفت صراعا طويال
مع الدين وهي من تبنت الفكر المتعصب فيما بعد وهذا النوع من العلمانية غير المرغوب
فيه عند أركون ويطرح هو نوع محمود أال وهو العلمانية المنفتحة التي تتموقع في الوسط بين
الد ين والسياسة وتحاول م ار ار التوفيق بينهما وتضع لهما حدودا ال ينبغي تجاوزها حتى تتمكن
من حماية الدين من التوظيف غير المشروع في السياسة لتحافظ على استمرارها وبقائها .
ثم ينتقل أركون بعد ذلك ليقدم نموذجا آخر للعلمانية تمثل في التجربة التركية العلمانية التي
تزعمها كمال أتاتورك التي يعتقد أركون أنها مثلت التجربة العلمانية الوحيدة في اإلسالم وال
تشبهها أي تجربة علمانية أخرى في الدول العربية اإلسالمية ألنها أقدمت على إحداث
القطيعة الجذرية مع كل التراث والتقاليد التي عرفتها تركيا غير أن هذا التغيير جاء بطريقة
عنيفة وصادمة،األمر الذي يعرض هذه التجربة ألحكام هي األخرى قاسية حيث اتهمت هذه
التجربة بأنها اتخذت موقفا راديكاليا ايديولوجيا ذات البعد الواحد مثلها مثل التجربة الفرنسية
مع الكنيسة ورجال الدين في غرب أوربا .وبالرجوع ألسباب وصول العلمانية لتركيا مع
مصطفى كمال أتاتورك يتضح جليا أنه تأثر بالتجربة العلمانية الفرنسية أثناء تواجده بها
212
حيث تلقى دراسته األكاديمية العسكرية بمدينة تولوزالفرنسية ويبدو أنه تأثر كثي ار بالفلسفة
الوضعية السائدة في تلك الفترة والبد من اإلشارة إلى أن أتاتورك كان كبقية المثقفين الذين
عاصرهم أو الذين سبقوه قد "عاشوا صدمة فكرية بين عامي( )1880و( )1940نتيجة
دراستهم في المدارس والجامعات األوربية وهذه الصدمة تمت السيطرة عليها (أو عدم
السيطرة)بدرجات متفاوتة في المرحلة التالية من عمرهم فالمجتمع اإلسالمي الذي ولدوا فيه
(سواء في تركيا أو غيرها كان خاضعا لمجموعة من المحرمات الدينية والشعوذية السحرية
كما كان خاضعا لتفاوتات اجتماعية صارخة ولممارسات سياسية تعسفية غير محتملة سواء
أكان مصدرها الداخل أم االستعمار هذا وباإلضافة إلى التأخر الثقافي المروع .1 ".ولقد
ساهمت هذه العوامل بشكل كبير في التأثير الفكري والنفسي على مواقف النخبة في الدول
العربية اإلسالمية بعد إدراكهم للهوة الكبيرة التي تفصل بين العالمين األوربي والعالم العربي
اإلسالمي وعرفوا ما مثلته دول أوربا من حضارة وألوان وما كان يتمتع به رواد الفكر آنذاك
فيها من ظروف وامتيازات حيث تميزت " بالحريات التي رسخها النظام الجمهوري بعد الثورة
والمفعم بالحيوية االقتصادية واالبداعية والثقافية واتساع النظرة التاريخية وإرادة المعرفة
والسيطرة ثم الرفاهية البادية والنظافة السائدة في الشوارع أو األماكن العامة أو في البيوت ثم
استصالح األرض جيدا وثراء المدن ،2".وبطبيعة الحال حصلت الدهشة عند المثقفين
العرب المسلمين أمام هذه المظاهر الصادمة إال أن ردة فعلهم اختلفت من مفكر آلخر
"فكلهم عبر بأسلوبه الخاص وعن طريق الكتابة أو الممارسة عن مأساة تاريخية مأساة
التفاوت الفظيع بين عالمين مختلفين والتزال هذه المأساة تتعقد وتستمر على صعيد بشري
متعاظم ومتفاقم 3".فردة فعل مصطفى كمال كانت عنيفة فبعد رجوعه من فرنسا متأث ار بما
عاشه بها وتربعه على الحكم في تركيا لم يعجبه الواقع الذي وجده فيها ولم يتقبل نهائيا
الوضعية االجتماعية التي كانت في تركيا والحظ التأخر والتدهور الذي رسم سمات المجتمع
اإلسالمي بها فقرر أن يحدث تغيي ار جذريا في تركيا وكان هذا اإلجراء عنيفا وصادما حيث
قام بتأسيس جمهورية تركية على الطريقة الفرنسية وألغى الخالفة في السياسة وباشر في
-1عبد اإلله بلقزيز ،الدولة والدين في اَلجتماع العربي اإلسالمي ،منتدى المعارف ،بيروت لبنان ،ط،2،2017ص.32
-2محمد أركون ،تاريخية الفكر العربي اَلسالمي ،ص.278
-3محمد أركون ،الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد،ص.272
215
والطائفية للمجتمع المدني التركي . 1".لذا فهذه العلمانية علمانية لها طابع ايديولوجي نضالية
ليست منفتحة ألنها علمانية تقصي اآلخر منغلقة على ذاتها تماما كالعلمانية الفرنسية" .فهي
تظ ل أحادية الجانب وعمياء أو متعامية عن المشاكل الواقعية والحقيقية للمجتمع التركي
ولهذا السبب نالحظ عودة اإليديولوجيات الدينية والطائفية والعرقية إلى سطح األحداث من
جديد في السنوات األخيرة ، 2".وال يمكن اعتقاد أن أركون يتوجس هذا الرجوع وهو ليس ضد
عودة الدين وكل ما يرفضه هو الطابع الديني المؤدلج الذي يسعى أركون لتجنبه ألنه يعتقد
أننا سنكون أمام ايديولوجية أخرى ال تقل خطورة عن اإليديولوجية السابقة وبهذا يعتقد أركون
أننا لن نستطيع الخروج من نفق اإليديولوجيات المتعصبة وبالعودة للتجربة التركية فإن أركون
قد انتهى من حكمه عليها بالفشل بعدما ثبت أنها لم تحترم مبادئ العلمانية الصحيحة التي
تمثلت في الحرية والعدالة والمساواة والعقالنية وهذا هو لبها فمصطفى كمال أتاتورك ظن أن
هذه العلمانية التي استوردها من الغرب ستمكنه من اجتثاث الدين اإلسالمي ورموزه من
المجتمع التركي واعتقد أن هذا العمل هو الذي سيخلص تركيا من مشاكلها التي تعيش فيها
من تخلف وتأخر وتدهور وظن أن الحل الوحيد لذلك يكمن في استعمال منهج علماني
يقصي به الدين ويرسي حضارة أوربا فيها ولقد غفل أتاتورك عن أن هذا الجانب الروحي
برموزه مثل عمق المجتمع التركي وال يمكن بأي حال من األحوال استبعاده عنه ولم يستطع
المجتمع التركي االستمرار من دونه وهذا ما أدى لفشل التجربة التركية في اعتقاد أركون
"فنقل هذه التجربة العظمى إلى بلد آخر مختلف تماما عن فرنسا بلد ذي تارخية ومرجعيات
يبق
ثقافية مختلفة تماما قد ولد احتجاجات كبيرة وردود فعل هائجة ، ".فالمجتمع التركي لم َ
3
مكتوف األيدي أمام التجربة العلمانية النضالية فلقد ولدت له عنف مضاد وتعصب آخر
خاصة من طرف الحركات الدينية التي ظهرت من جديد وتشكلت ضمن أحزاب واندمجت
في العملية السياسية وتمكنت من الوصول للحكم بواسطة االنتخابات التي أعطت لها
المشروعية من طرف الشعب بواسطة تزكيتها باألغلبية الساحقة وكانت هذه صفعة قوية
أعطاها المجتمع التركي في وجه العلمانين وغرورهم .
-1محمدأركون،الفكراَلسالمينقدواجتهاد،ص.272
-2المرجع نفسه ،ص.272
-3محمد أركون ،الفكر اَلسالمي نقد واجتهاد،ص.272
216
في النهاية يمكن القول أن الحركة اإلسالمية المتمثلة في حزب التنمية والعدالة في
تركيا قد سارت في االتجاه الصحيح بعدما فهمت الدرس جيدا بعد انهيار العلماناوية وليس
العلمانية في تركيا إذ أنها حافظت على علمانية الدولة والمجتمع وعندما نقول العلمانية هنا
ِ
تقص الرموز الدينية ولم تقف موقف العداء ضد الدين بل فإننا نقصد العلمانية التي لم
بالعكس قد حافظت عليه ألنه أحد مكونات الشعب التركي وبالتالي قدمت علمانية منفتحة
ومتفتحة على مختلف االتجاهات الدينية والفكرية والعرقية والطائفية والسياسية .فهذه هي
العلمانية التي أعجب بها مفكرنا محمد أركون وهذا هو المنهج الذي ألهم به وأجتهد بكل قوة
ليبينه في وسط المجتمع الغربي وعند الشعوب العربية اإلسالمية .
ال يمكننا إدراك تصور أركون للعلمانية وتاريخها في اإلسالم دون فهم لإلطار
التاريخي والثقافي العام ولمفهوم اإلسالم السياسي ودون تناول لكل ما يشمله هذا األخير من
آراء تتعلق بموقف اإلسالم من العلم ،والملفت لالنتباه هنا أن أهداف محمد أركون من هذا
هو سعيه لتبيان أصل وتطور هذا المفهوم في اإلسالم عبر مختلف العصور خاصة بعد
موقف اإلسالم السياسي من الفصل بين الديني والسياسي حيث رفض هذا الفصل لذا فلقد
اجتهد أركون بكل قوة في تقديم األدلة الدامغة على هذه الرؤية وهذا التصور الذي تبلور في
المنهج اإلسالمي السياسي منذ بداية الدولة اإلسالمية ولعل هذا ما يحيلنا مباشرة للتساؤل
عن أصل ونشأة الدولة في التاريخ اإلسالمي فهل كان ذلك له إطار روحي ديني أم أن
أصل الدولة في اإلسالم يرتسم بالسمات المدنية الزمنية؟
يؤكد محمد أركون أن الدولة في اإلسالم أصلها زمني مدني ولقد تجلت فيها منذ بدايتها
وأثناء تطورها عدة محطات مهمة وأحداث كبيرة ووقائع ومواجهات يمكننا وصفها اليوم
بالعلمانية حتى وإن لم ُي ْنتََبه لها من قبل عززت كلها تأصيل الدولة في نشأتها للطابع المدني
الزمني ولعل أحسن مثال عليها ما حدث مباشرة بعد وفاة الرسول صل هللا عليه وسلم في
أحداث سقيفة بني سعد وما حصل من مواجهات دموية بين معاوية وعلي بن أبي طالب وما
وقع أيضا من صراع بين المذاهب السنية والشيعية والخوارج لذا فالمفكر أركون ال يعترف
217
نهائيا بالتصور الذي يرى أن اإلسالم فصل بين الدين والسياسة وهو يرى أن المجتمع
اإلسالمي ساده الفكر العلماني في مختلف مراحل تطوره و" أنه تنقصنا في الواقع المراجع
التاريخية الالزمة لكي نعرف كيف كانت مشكلة العلمنة قد طرحت نفسها داخل هذه
المجتمعات اإلسالمية...ذلك أن اإلسالم لم يعرف أبدا في تاريخه تفكي ار فلسفيا يطرح مسألة
العلمنة كما نفهمها اليوم ،هذا ال يعني بطبيعة الحال أن العلمنة لم تعش حياتيا أو لم تعرف
بيئات إسالمية.1".
سننطلق مع مفكرنا أركون في طرحه وإب ارزه لمظاهر العلمانية في اإلسالم من تحديده
لمحطتين أساسيتين مرت بهما بعثة الرسول صل هللا عليه وسلم فالمحطة األولى يرى أركون
أن هذه "التجربة التي يمكن تسميتها" بتجربة مكة والمدينة" انطوت على معطيات من نوع
ديني ومعطيات من نوع دنيوي خاصة بأعمال قائد لجماعة محددة في مجتمع محدد .2".فلقد
اتسمت دعوته في مكة بالطابع الروحي الخالص من خالل الحث على عبادة هللا وحده
والنهي عن عبادة األوثا ن ،أما المحطة الثانية فكانت حين هاجر الرسول صل هللا عليه وسلم
إلى يثرب وسماها المدينة وفي ذلك إشارة واضحة على معنى معين يحيلنا بشكل مباشر
لتفسير العديد من األحداث التي تخص العالقة بين الدين والسياسة وأسباب تشكلها في
اإلسالم وبداية البد من ذكر نقطة مهمة جدا وهي أنه "تطلعنا ثالث حقائق رئيسية ،أن
النصوص الدينية لم ترسم شكال للنظام السياسي وال حددت آليات عمل االجتماع السياسي
للمسلمين وأن المرجع الوحيد الذي في حوزتنا للتعرف على كيفية تكوين المجال السياسي هو
التجربة النبوية في " الدولة " المدنية وتجربة الخالفة الراشدة في ما بعد ،ثم أن الدولة التي
جرت إقامتها على عهد النبي (ص)والخلفاء لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي
تفهم من عبارة الدولة الدينية 3".ألن النصوص القرآنية لم تقدم أي تفسير للشكل الذي يكون
عليه النظام وال نجد أيضا فيها ما يحدد طبيعة العالقة بين الرئيس والمرؤوس ونفس الشيء
بالنسبة للسنة النبوية لم تقدم هي األخرى في هذا الشأن أي شرح لهذا الموضوع و " ليس من
قبيل الصدفة تجاهل القرآن لها فهذا التجاهل نابع من االختيار األول للدين أي للروح
-1برهان غليون ،نقد السياسة الدولة والدين ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء المغرب ،ط.4،2007
-2عبد اإلله بلقزيز ،الدولة والدين في اَلجتماع العربي اَلسالمي ،منتدى المعارف ،بيروت ،ط،2،2017ص.64
-3عبد اإلله بلقزيز ،اإلسالم والسياسة ،مرجع سابق،ص.41
-4المرجع نفسه ،ص.42
219
واالجتهاد وما تتطلبه ضرورة المصلحة وبناء على ترتيب األولويات التي توضع في عين
االعتبار عند تحديد المواقف وحسم األمور وحتى لو اعتبرنا تلك الممارسات السياسية للنبي
(ص)نابعة من حكومة قائمة فهي في الواقع تمثلت في "حكومة احتكام وليست حكومة حكم
بمعنى أنه لم يكن يلزم الناس االتجاه إليه –أو إلى غيره – للفصل في الخصومات أو
المنازعات وهو كان يقوم بذلك إذا رفعت إليه شكوى أو خصومة ولم يكن في عهد النبي
(ص) فرض للضرائب (على التجارة أو الدخل أو الميراث)وال خراج(ضرائب األرض) وال
مكوس(ضرائب نقل البضائع) ولم تفرض كل هذه اإلجراءات إال في مراحل الحقة أي عندما
تأسست الدولة اإلسالمية تدريجيا في عصر الخالفة الراشدة مستفيدة من نظم الفرس ومصر
والبيزنطيين وغيرها من البلدان التي تم فتحها .1".ما يثبت أن النبي (ص) لم يسع أبدا للحكم
أو للرئاسة بل كان شغله الشاغل والمهم هو إرساء مبادئ العدالة واألخالق الفاضلة والقيم
العليا واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الهداية للناس ولم يحرض صحابته على
تأسيس دولة كما يرى البعض وحتى النصوص القرآنية لم تأمر "المسلمين بدولة وال أثار
حماسهم بالحديث عن منافعها وخيراتها ولكن وعدهم بالجنة والرضى اإللهي والمغفرة ولم
يطلب منهم أن يحكموا اآلخرين وينتزعوا منهم أراضيهم وأقواتهم ويبيدوا نسلهم...ولكن طلب
منهم الرحمة وتبليغ الرسالة والمعاملة الحسنة والتقوى والعدل واإلحسان والصدقة ...ولم
يعلمهم علوم السياسة والحرب ...ولكنه علمهم المبادئ التي تتجاوز مسألة تكوين الدولة
ذاتها وتمثل الشرط األول لوجودها مبادئ الحياة الجماعية والعمل الجماعي والتعامل المادي
والتضامن الروحي 2".وعليه فالمبادئ والقيم هي ما يمثل لب العقيدة الصحيحة خالفا تماما
لما تؤمن به االتجاهات اإلسالمية التي وضعت الدولة أساس إلقامة الدين ووضعت الدولة
فرض من فرائض العقيدة اإلسالمية وبترسيخ هذه القيم النبيلة في المجتمع المسلم سيتمكن
من تأسيس دولته بكل حرية بما يتوافق مع مصلحته وحاجاته فقد "كانت الدولة عبر التاريخ
اإلسالمي متأثرة باإلسالم...في ممارستها والقانون يسنه البشر في ضوء القيم اإلسالمية كما
يفهمونها ومع ذلك ظلت الدولة اإلسالمية ال بمعنى قوانينها ومسالكها وتراتيبها حية وإنما هي
-1نبيل دباش ،العلمانية والسلطة نقد خطاب النخبة العربية ،منشورات اَلختالف ،الجزائر ،ط،2017، 1ص.197
-2برهان غليون ،نقد السياسة الدولة والدين ،مرجع سابق،ص.55
220
اجتهاد بشري قد يوافقه اجتهاد ويخالفه آخر تمارس قدر من الحياد .1".وبالتالي فليس الدافع
الديني هو الذي يضع أليات السلطة ويستثنى من هذا بعض التوجيهات التي جاءت في
نصوص قطعية كقانون األسرة والميراث وعدا ذلك فكل الممارسات السياسية منوطة بالعقل
واالجتهاد يحددها البشر وفق ضرورة المصلحة ومبدأ األولويات ألن المصلحة مرجعيتها
شرعية وفق القاعدة األصولية التي تصرح " أينما كانت المصلحة فثم شرع هللا" ومنه فال
حرج في أن نأخذ "بمبادئ الدين في العمل السياسي [ وهذا] أمر مشروع وقد يكون ضروريا
ألخلقة الحياة السياسية التي تجردت من األخالق وإلعادة ضخ مبادئ الفضيلة والخير
والتضامن وحرمة الكرامة اإلنسانية والعدل والصدقة واألمانة وغيرها من المبادئ في نسيج
العمل السياسي وفي عالقة السياسة بالناس .2".وهذا ال يعني أن الدين والدولة سواء بل
يفسر استعمال السياسة للدين فصل ايجابي بين الروحي والزمني وهذا الفصل يخدم الدين
وحاجيات الدولة والشعب وهذا ليس مستحدثا بل تم الفصل بينهما من طرف النبي (ص)في
عدة أحداث تشهد وتؤكد هذا نذكر منها :
الشاهد األول:
الصحيفة:
أثناء هجرة النبي(ص ) من مكة إلى المدينة وبعد وصوله إليها أول ما فعله آنذاك
"سن دستو ار اسمه "الصحيفة" هذه "الصحيفة"...تضمنت جملة مواثيق بين المهاجرين
واألنصار بمختلف قبائلهم الذين اعتبرتهم أمة والقبائل اليهودية من سكان المدينة الذين
اعتبرتهم كذلك أمة أي يشكلون أمة من دون الناس وهنا الحديث ليس عن أمة الدين وإنما
عن أمة سياسية ...وهنا التمايز بين الديني والسياسي...فالمسلمون أمة عقيدة واليهود أمة
عقيدة وهم من بقية سكان المدينة يشكالن جمعا يمثل أمة من دون الناس وهي أمة مفتوحة
لمن لم يلتحق بأرضها كما هي مفتوحة لألجيال القادمة وهذا مفهوم األمة السياسي.3".
والمثير لالهتمام أن النبي(ص) في الصحيفة لم يميز بين مسلم ويهودي وال بين القبائل
-1د:راشد الغنوشي ،الدين والدولة في الوطن العربي ،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،ط،1،2013ص.105
-2عبد اإلله بلقزيز ،الدولةوالدين،مرجع سابق،ص.125
-3د :راشد الغنوشي ،مرجع نفسه،ص.104
221
األخرى التي مثلت المجتمع في المدينة آنذاك ألن الصحيفة حملت طابع مدني مرجعياتها
العالقات المدنية وليس المرجعيات الدينية .وبالتالي أصبحت المدينة دولة مواطنين تعامل
فيها النبي(ص) مع مختلف الجماعات بواسطة عقد اجتماعي الذي يعتبر أكبر دليل على
وجود الممارسة "العلمانية" في المجتمع اإلسالمي األول ويعتبر أيضا تبرير قاطع للممارسات
السياسية للنبي(ص)التي تبنى فيها احتواء االختالف الطائفي والعقائدي والجنسي والثقافي
بكل ما يحمله من تباين في دولة قدمت يديها للجميع دون استثناء مقابل الوالء لها وليس
للدين ومنحت األمان للجميع والحرية في ممارسة العقائد األخرى ،هنا يتضح جليا فصل
الروحي عن الزمني والتمييز بينهما بائن ولقد " ظل هذا التمايز واضحا في سلوك النبي
(ص) حتى اختلط األم ر أحيانا بين ماهو ديني سبيله التقيد واإللزام وما هو سياسي وهو
مجال االجتهاد ،أحيانا كان األمر يختلط على الصحابة فيسألون النبي(ص) هل هذا وحي
ملزم أو هو رأي ومشورة ...وعندئذ قد يختلفون معه في الرأي ففي أكثر من مرة خالف
األصحاب الرسول (ص) باعتباره رئيسا للدولة ...ويأتي صحابي يقول له وهللا أن الموقف
اآلخر أفضل وبالفعل يتنازل النبي(ص) عن رأيه ويأخذ برأي هذا الصحابي .1".بالرغم من
أهمية الموقف حيث حدث ذلك أثناء غزوة بدر بين الرسول محمد صل هللا عليه وسلم
و"الحباب بن منذر" وهو صحابي من األنصاروكان ذو رأي ومشورة حيث أخذ النبي محمد
(ص) برأيه أثناء التخطيط لمعركة بدر فبعدما نزل الرسول محمد صل هللا عليه وسلم
والمسلمون عند أدنى ماء من مياه بدر قال "الحباب بن المنذر" » :يا رسول هللا ،أرأيت هذا
أنزله هللا ليس لنا أن نتقدمه وال نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب المنزل؟ أ منزالً
والمكيدة؟« ،قال» :بل هو الرأي والحرب والمكيدة« ،قال» :يا رسول هللا فإن هذا ليس
بمنزل ،فانهض يا رسول هللا بالجيش حتى تأتي أبعد ماء من القوم فننزله ونردم ما وراءه
ماء ثم نقاتل القوم ،فنشرب وال يشربون« ،فأخذ
حوضا فنملؤه ً
ً من اآلبار ،ثم نبني عليه
الرسول محم د (ص) برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه ،ثم صنعوا
الحياض وردموا ما عداها من اآلبار.فكانت هذه الحادثة لحظة مهمة في تاريخ الدولة في
اإلسالم حيث أظهرت ممارسة فعلية للمجال الزمني على حساب الروحي وينبغي هنا األخذ
يبقى هذا االجتهاد مختزال رغم ما تقدمنا به من شواهد ودالئل على حقيقة وجود
ممارسات من طرف الرسول (ص) أحيانا روحية دينية محضة وأحيانا أخرى بشرية خاضعة
الجتهاد العقل مثلت بوضوح العلمانية في المجتمع المسلم منذ البداية وإن لم يتم التصريح
بها ووضع مفهومها فكانت العلمانية واقع موجود في كل ممارسات المجتمع اإلسالمي
لتفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي أي بين الوحي المنزل من عند هللا وبين أعمال
السياسة التي خضعت لميزان العقل والشورى والمصلحة ويرى مفكرنا أن هذه الممارسات هي
التي حملت بذور العلمانية الحقيقية آنذاك التي ال تشبه إطالقا علمانية الغرب أو علمانية
بعض المسلمين الذين تأثروا بشكل مباشر بالفكر الغربي وميوله فحملوا بين ثناياهم دسائس
العلمنة المتزمتة ونقلوها كما هي ألوطانهم ولعل هذا سبق ذكره في طرحنا للعلمانية في
المجتمعات اإلسالمية العربية كمصر وتونس والجزائر والترك وسوريا أما العلمانية التي
ارتسمت في المجتمع المسلم األول بزعامة النبي(ص) مختلفة عنها تماما ولقد حث الرسول
(ص) بشكل واضح على إعمال العقل واالجتهاد في حل شؤون المسلمين وخاصة في بعض
المسائل التي لم يتقد النص فيها بحل أو لم يتم استيعابها والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا
لم يتم طرح اشكالية الفصل بين الدين والسياسة من قبل؟ والجواب هو أن ذلك راجع إلى أن
"اإلسالم الديني كان هو الذي أسس بنفسه للحيز المدني وأكد وشرع له منذ أن جعل الرسالة
المحمدية خاتمة النبوة وكل وحي في العالم وأعطى العقل بدءا من ذاك الوقت الدور الوحيد
في تسيير المجتمع والتاريخ حتى قيام الساعة2".فللعقل اإلنساني قدرة عظيمة في فهم وتفسير
وتأويل النصوص بشكل صحيح ليوجه أفعاله وفقها من خالل الرجوع للحظة التي تشكل فيها
تلك النصوص ودراستها من مختلف جوانبها الثقافية واالجتماعية والعقل اإلنساني بإمكانه
فهم رسالة الوحي بالرغم من أن الوحي مطلق إال أن تفسيره في إطاره التاريخي والثقافي
واالجتماعي يختلف عن المفهوم الذي يكتفي بالتشكيالت الجاهزة والتأويالت الالهوتية
المغلقة.
-1المرجع نفسه ،ص.110
-2برهان غليون ،نقد السياسة الدولة والدين ،مرجع سابق،ص.341
224
هذا هو المنهج الذي أصر عليه محمد أركون الذي تمثل في التاريخية وحث عليها
ودعا إلعماله ا وممارستها في فهم وتفسير النصوص الدينية واألدبية تفسي ار صحيحا يتحقق
بعد بناء عقلي لمختلف الحيثيات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل
األحداث والنصوص األدبية والدينية كما تضع هذه الدراسة في عين االعتبار مركز هذه
األحداث وهو اإلنسان الفاعل الذي لعب دو ار كبي ار في تشكيل األحداث ويعد من أهم أسباب
اإلنتاج األدبي في التاريخ فهو كما قال تعالى "إن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم .1".إذ أن هللا خلق اإلنسان ومنحه اإلرادة الحرة والعقل السليم ليحدد مكانته في
وجوده وليتمكن من فرض ذاته على األحداث ويصبح فاعال فيها ومسؤوال عن ما يصدر منه
وبالتالي يستطيع تشكيل التاريخ ويساهم فيه فاإلنسان يتفاعل مع التاريخ بشكل مباشر يتأثر
به ويؤثر فيه جدير بالذكر هنا أن نتوقف عند ما جاء في القرآن الكريم من أنواع اآليات
التي تضمنها فهناك آيات محكمات وأخرى متشابهات وفي هذا الفصل دليل واضح على
إرادة هللا التي تحث على تفعيل العقل في تأويل وفهم المتشابهات انطالقا من سياقها الفكري
والثقافي واالجتماعي والتاريخي وكذلك حسب ما تقتضي المصلحة وهذا أيضا ما يعترف به
االتجاه األصولي نفسه – الحكم يدور مع العلة – هذا المفهوم يتناغم مع السياسة التي
تسعى لوضع نظم وأحكام بواسطة االجتهاد والعقل وفق ما تتطلبه المصالح وبالتالي فمرجعية
هذا الطرح الزمني ديني وبالعودة أكثر للبحث في هذا الموضوع نكتشف أن هناك موضوعا
مهما جدا يستدعي االنتباه والتمعن في أسبابه وهو عدم تفسير الرسول(ص) للقرآن كله فلقد
ك ان باستطاعة الرسول(ص)تفسيره بما أنه كان نبي والوحي كان يخصه هو إال أن النبي
محمد (ص) لم يفعل ذلك ألن لو فعل ذلك ألصبح القرآن أحادي المعنى ولتعطل العقل
عنده وبذلك يتوقف دور اإلنسان في صناعة التاريخ والوجود ،وفي هذا إشارة من هللا لإلنسان
بالبحث والعمل المعرفي حتى يتواصل اإلنسان مع النص القرآني في كل زمان وفي كل
مكان دون أن يدفع هذا إلى التصادم والمواجهة وهذا أيضا ما يضفي صفة الديمومة على
القرآن فهو صالح لكل زمان ومكان ومفتوح غير مغلق وهذا ما يؤكد عالمية الرسالة
اإلسالمية.وبالتالي فالفصل بين الزمني والروحي هو ممارسة علمانية تحدد وجودها في
-1سورة الرعد،آية.11
225
اإلسالم منذ البداية في اللبنات األولى للدولة في اإلسالم على يد الرسول محمد (ص) وإن
لم يتم ذكر ذلك أو تحديد هذا المصطلح آنذاك غير أن األعمال التي عكست هذا المفهوم
كثيرة واألحداث التي تشكلت في تلك المرحلة والتي ساهمت في تشكيل التاريخ اإلسالمي
عكست رؤية علمانية وحملت بذورها منذ البداية مع الرسول محمد (ص).
الشاهد الثاني:
-أحداث السقيفة:
يعتبر ما وقع في سقيفة بني سعد حدث مهم عكس تموضع العلمانية في نشأة الدولة
اإلسالمية غير أنه سبقه حدث أهم بكثير مما جاء بعده وهو ما يعرف في كتب السنن وعند
الرواة بيوم الرزية وترجم بوضوح اختالف الصحابة وتباين مواقفهم أثناء مرض الرسول (ص)
الذي توفي بعده وصور هذا الحدث مشهد صادم حيث "يروي ابن سعد عن ابن عباس أنه
قال »:يوم الخميس وما يوم الخميس .قد اشتد برسول هللا(ص)وجع في ذلك اليوم فقال
ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا ال تضلوا بعده أبدا ،قال بعض من كان عنده »:إن
نبي هللا ليهجر...فكان رد عمر ابن الخطاب "عندكم القرآن وحسبنا كتاب هللا " فوقع اختالف
بين أهل البيت فمنهم من كان يقول قربوا يكتب لكم رسول هللا ومنهم من كان يقول برأيكم
حسبكم القرآن وبعد كثرة اللغط واالختالف وغموا رسول هللا قال "قوموا عني" " .1قدم هذا
الحدث فكرة واضحة عن بداية الخالف بين الصحابة ومثل هذا التصادم نقطة فاصلة في
تاريخ المجتمع اإلسالمي بين ما تقدم من أحداث وما جاء بعد ذلك من نتائج لهذا االختالف
لغاية مقتل عثمان بن عفان وفي اللحظة التي انتقل فيها رسول هللا صل هللا عليه وسلم إلى
الرفيق األعلى وبينما كان أهل بيت النبي منشغلين بتحضير دفن الرسول(ص) اجتمع جمع
من األوس والخزرج في سقيفة بني سعد من أجل النظر في استخالف خليفة لرسول هللا
(ص)بعد وفاته ولقد اختلف القوم حينها قبل دفن الرسول (ص) عن من هو األحق بالخالفة
فلقد "اجتمع قادة األوس والخزرج في سقيفة بني سعادة الختيار خليفة رسول هللا(ص) من
بينهم وقد سارعوا على هذا االجتماع ليختاروا من أرادوا في غياب المهاجرين المنشغلين
بموت رسول هللا(ص) من خالل اقتحام السقيفة ،تنبه أو بكر الصديق وعمر بن الخطاب
-8العلمنة والعقالنية:
يجمع الجميع على أن ما وصلت إليه العلوم اإلنسانية واالجتماعية حاليا من مناهج وأدوات
علمية حديثة ساهم بشكل فعال في إعادة بلورة التصورات التقليدية وتصحيحها وتقديم إجابات
وتبريرات جريئة و مقنعة عن العديد من القضايا الغامضة واألحداث المهمة المشكلة للتاريخ
التي اعتبرت لوقت بعيد كحقائق مطلقة وأحكام مقدسة ال يجوز التفكير فيها واستسلمت لها
العقول لفترة طويلة بعد أن انفرد التفكير الالهوتي بالكالم عن معتقدات المجتمع وتفسر ما
جاءت به األحداث واألديان تفسي ار بعيدا عن العقل والحقيقة وجعل منه وسيلة لخدمة السلطة
ولفرض ايديولوجيات معينة وللحفاظ على استقرار الحكم في يد الدين فعزلت العقل وأغلقت
عليه بقيود القداسة وكبلته ،هذا ما حدث للفكرالغربي والفكر اإلسالمي،مما دفع محمد أركون
لوضع مشروعه الحداثي العلماني من أجل تطبيق مناهج العلم الحديثة على التصورات
اإلسالمية التقليدية حتى نتمكن من فك قيود التفكير الديني على العقل فأركون يرى أن الفكر
العربي اإلسالمي "سيطرت عليه مسلمات اإليمان اإلسالمي،لقد ركز عمله على تحرير هذا
233
الفكر من كل ما يحول بينه وبين التجدد...وهنا تكمن نقطة البداية في منهج مفكرنا .1".فما
قدمه النص المقدس في رأي محمد أركون من قواعد وتشريعات وتوجيهات تناوله رجال الدين
بواسطة عقل أورتودوكسي اعتبر إلى حد بعيد أحكامه مطلقة ثابتة لم يسمح أبدا بتناولها
أودراستها أو حتى التفكير فيها وفسر الحقائق واألحداث بشكل منفرد رافضا أي شكل من
أشكال التبادل الفكري والثقافي وبالتالي تمكن من فرض إطار منغلق واستطاع هذا الفكر أن
يتمسك بسيرورة التاريخ وحركيته وتحديد المفاهيم األساسية عن العالم واإلنسان وفق اتجاهه
الدوغمائي حتى أصبح اإلنسان غير فعال في تشكيل التاريخ كونه أصبح متلقيا عاج از بعقل
مستسلم لألقدار واألحكام الدينية منغلقا ومكبال بأغالل الفكر الدوغمائي ،جديربالذكر أن
المشكل هنا ليس في النصوص الدينية وإنما في التفسيرات والتأويالت التي لحقت بها والتي
اكتفت ب تقديم تفسير واحد واقتصرت دراستها للنص الديني على وضع شروحات منفردة وكثي ار
ما كانت تتعارض مع النصوص القرآنية وال تتوافق معها فالقرآن في حد ذاته حث اإلنسان
على تحمل مسؤوليته في التعامل مع الواقع وبالتالي في تغيير األحداث وتشكيلها ومنه شجع
بشكل مباشر اإلنسان على صناعة واقعه وتاريخه بنفسه يقول هللا تعالى " إن هللا ال يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .2".قدمت هذه السورة معنى واضح وجلي لإلنسان من أجل أخذ
زمام األمور في تغيير الواقع الذي يعيشه ومن أجل المساهمة في تشكيل األحداث والتاريخ.
عكس ما ولده الفكر الالهوتي من استسالم وعجز بعدما عزل اإلنسان عن العقل وإنتاجاته
وجمد حركته واستطاع أن يجعل "المعرفة بهذا المعنى هي مجرد استنباط لغوي من
النصوص أو عمل معنوي سيمانتي وليس عبارة عن استكشاف حر للواقع يؤدي إلى التجديد
المعنوي و المفهومي في كل المجاالت ،لقد رسخ األصوليون هذه النظرية عن طريق تشكيل
علم األصول الذي ولد التماسك التيولوجي وكل البناء األخالقي والتشريعي ...راحت تزايد
من سماكة السياج الدوغمائي وتقوي من انغالقه عن ذاته ،3".تلك هي النتيجة التي آل إليها
العقل وأصبح فيها بال قدرة أسير المعطيات القبلية والتي لم يشارك في وضعها ولم يسمح له
بمناقشتها أو رفضها بل خضع اإلنسان داخل إطارها لمسلمات وحقائق فرضت عليه قص ار
-1د:نايلة أبي ناذر – التراث والمنهج بين أركون والجابري ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،لبنان ،ط،1،2008ص.121
-2سورة الرعد ،آية.11
-3محمد أركون ،الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد،مرجع سابق،ص.07
234
فكبلت حركته وأوقفت إبداعه وثبطت إنتاجه الفكري في حدود رسمها الفكر األورتودوكسي
مسبقا .غير أن هذا ال يتفق أبدا مع ما جاءت به العلمنة بل وترفضه تماما وتضعه جانبا
وتستخلفه باتجاه ال يؤمن بالمطلق وال باألحكام المقدسة وينطلق من مبدأ ثابت في اكتشاف
الحقائق وتفسيرها وهو مبدأ النسبية التي تخضع كل ما جاءت به النصوص الدينية
واألحداث السابقة للشك والنقد اإلبستيمولوجي ليتمكن العقل به من إحداث القطيعة مع الفكر
التقليدي واال نطالق لخوض غمار المعرفة العقلية الحديثة والبحث العلمي السليم لذا فمحمد
أركون يحث المسلمين ألخذ زمام األمور في االجتهاد من أجل فك قيود الفكر الكالسيكي
المنغلق وكسر الحواجز التي أعاقت العقل اإلسالمي لوقت طويل حتى يتمكن من اإلنتاج
الفكري واإلبداع الذي يمكن العقل من االستمرار في حركته وتطوير واقعه الذي سيجعله
يكتب تاريخه من جديد بشكل علمي مستندا في هذا على البحوث والمناهج العلمية الحديثة
التي تمكنت سابقا من زحزحة التصورات الدوغمائية في أوربا واستطاعت أن تقدم حقائق
وتأويالت وتفسيرات مبنية على المعرفة العلمية الحقيقية وليس على األساطير التي تولدت
من الفكر الالهوتي وهذا نفسه ما تم في تاريخ العقل العربي اإلسالمي الذي البد له أن يقوم
من جديد حسب أركون بواسطة إحداث القطيعة اإلبستيمولوجية مع المفاهيم الكالسيكية
الالهوتية أوال ثم تبنى اإلسالميات التطبيقية كمنهج قائم بذاته من أجل عقلنة الفكر
اإلسالمي وإرساء الحرية والحداثة في المجتمعات المسلمة لتتمكن من دراسة التراث
اإلسالمي دراسة عميقة بواسطة اإلسالميات التطبيقية وما تحويه من أدوات بحث في
مختلف المجاالت العلمية " فاإلطار المعرفي الذي يتشبث به الباحثون في الفكر اإلسالمي
والدارسين للمجتمعات المنعوتة باإلسالمية ال يزال مرتبطا باإلطار المعرفي اإلسالمي
الموروث أكبر مما هو مرتبط بما كنت قد دعوته بالعقل االستطالعي أو
المستقبلي» « Raisin Emargentوأقصد به العقل الجديد الذي يطمح إلى التعرف
على ما منع التفكير فيه...لكن تبقى مشروعية أنواع السلطة وقداسة أنواع الحاكمية مؤثرة في
المخيال الديني والسياسي تأثي ار ميثولوجيا تقديسيا تأليهيا مهما كانت الظروف التاريخية
واألثر الثقافية والبيئات االجتماعية واألوضاع االقتصادية .1".هذا التناقض هو ما فسر
نستنتج أن العلمانية تستند على العقل وتبدأ من التعقلن في تصورها حين تتقدم من أجل
طرح مفاهيمها التي تعتمدها في فهم قوانين الطبيعة وتفسيرها بعيدا عن التفسيرات الخرافية
236
والحقائق المطلقة والمقدسة بعد إخضاع تلك الحقائق والمسلمات لمبدأ النسبية ولعمل العقل
بكل حرية كما تشجع العلمانية المفكرين والباحثين على التحلي بالجرأة أمام أحكام الواقع وعند
طرح اإلشكاليات الحالية وبالخصوص ما تعلق منها بالتراث والعلمنة كما دعا محمد أركون
لالهتمام بالجانب التعليمي التربوي ألنه اللبنة األولى التي تقوم عليها المجتمعات اإلسالمية
لذا ينبغي االنطالق منها بإرساء مشروع حداثي عقالني حر.
يشترط محمد أركون لتحقيق الحداثة العلمانية ويرى أن تحقيق العلمانية يتطلب دعائم
أهمها احترام حقوق اإلنسان خاصة أمام األحكام الكالسيكية والمفاهيم الدينية لذا فهو يعرف
العلمانية على أنها " موقف أمام الروح والمعرفة ومن هنا فالعلمنة (إذ تؤخذ كمصدر للحرية
الفكرية و كف ضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة
العليا والمشروعية) هي عبارة عن شيء ينبغي الشروع به داخل المجتمعات الغربية األوربية
المعاصرة أيضا 1".ويرى أركون أنه ال يمكننا أبدا تحقيق حقوق اإلنسان والحرية في إطار
العقل الديني الالهوتي الدوغمائيوهو يجزم أن نقطة االنطالق لتحقيق تلك المبادئ تكمن في
توقف العقل الديني على التمييز بين المؤمن واإلنسان الكافر ألن كل واحد منهما يتمتع
بنفس الحقوق ونفس الحريات فمسألة الحق والحرية في العلمانية غير مشروطة بأي انتماء
عرقي أو جنسي أو عقائدي أو لغوي "فالفلسفة العلمانية الحديثة لم تعد تميز بين المواطنين
طبقا ألصولهم العرقية أو الدينية أو الطائفية وذلك على عكس الالهوت الديني القديم سواء
أكان إسالميا أم مسيحيا أم يهوديا نقول ذلك ونحن نعلم أن الفقهاء يميزون المؤمن الحر
الخاضع لمعايير االعتقاد األورتودكسي والذي يتمتع بحماية الشرع والقانون بشكل كامل
...وبين العبد غير المسلم وبين مجمل غير المؤمنين باإلسالم والذي تنبغي محاربتهم حتى
يعتنقون اإلسالم بشكل ال مرجوع عنه ،2".ولقد تم تجاوز هذه الرؤية المنغلقة من قبل في
القرنين السابع والثامن عشر الميالدي في أوربا مع ظهور فالسفة األنوار حيث كانت هذه
"الحركة تهدف إلى تحرير اإلنسان من التقديس األعمى والتعظيم الخاضع للنصوص
لقد أصبحت إشكالية حقوق اإلنسان مطلب ضروري في كافة بلدان العالم حتى تتمكن
من احترام كرامة اإلنسان وحريته وإرساء العدالة وتحقيق المساواة بين البشر ولكي تستطيع
تبني مبدأ الحرية والتسامح ووضع إطار مناسب يسمح باإلخاء وبالتعايش السلمي" .بهذا
المعنى فإن األمر المطلق "يغدو المبدأ األخير لحقوق اإلنسان "إنه المبدأ الذي يؤسس
لوجوب احترام اإلنسانية في ذاتها باعتبارها قاعدة للكونية التي تضمن انفتاح اإلنسان على
أخريته انفتاحا يؤطر االحترام ...ففي انتهاك هذه القاعدة انتهاك لإلنسانية...ومن ثم فتكريس
القاعدة الكونية للحق هو تقديس للحياة ولكرامة اإلنسان وإقرار بحقوق اآلخرين وحرياتهم.3".
وإذا كان هذا ما ترمي إليه الحداثة والعلمانية فكيف يرى محمد أركون إشكالية حقوق اإلنسان
في المجتمعات الغربية؟ أو ما هي رؤية محمد أركون لمسألة حقوق اإلنسان حاليا وبشكل
عام؟
أوال ينتقد أركون البلدان الغربية في تصورها لمسألة حقوق اإلنسان وحريته وطريقة
تفاعلها معها ،ألنه يعتقد أن هذه البلدان سيست مسألة حرية وحقوق اإلنسان ووظفتها
األمر الذي يعكس فراغ مسألة حقوق اإلنسان في المجتمعات الغربية من روحها ومن
أهدافها التي تسعى إليها وهذا ما جعلها تحيد عن مسارها الذي رسمته منذ البداية ولقد انتقد
بشدة محمد أركون االنتقائية في التعامل مع مسألة حقوق اإلنسان واعتبر هذا انتهاكا واضحا
لمبادئ التعايش والحريات وكرامة اإلنسان حيث يقول" :إن العقل ليشعر بالعجز والوعي
بالذهول أمام اإلهانات التي ال تحتمل والتي تصيب الشعب الفلسطيني ويشعر المرء بالشيء
نفسه أمام المصائب والويالت التي يتعرض لها الشعب العراقي وأمام السجن الجماعي الذي
يتعرض له الشعب الليبي وأمام الجنون الذي يدمر الشعب الجزائري وأمام االحتقار الذي
يتعرض له الشعب السوداني واألفغاني وأمام سحق الشعب الكردي وأمام المحن التي يتعرض
لها الشعب اإلندونيسي وأمام التالعبات الشيعية المفروضة على الشعب اإليراني العظيم.1".
والشواهد على االنتقائية في تبني حقوق اإلنسان وتمثيلها عديدة وكثيرة فمفكرنا يرى أن هذه
المبادئ أصبحت شعارات فارغة تخدم أطراف معينة على حساب أطراف أخرى من أجل
تبرير مواقف وأفعال أمام المجتمع العالمي حتى تتمكن من تحقيق أغراض ذاتية لذا أصبح
اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان " شعائري بدون أثر فعلي على األرض كما يتلو المؤمنون
نصوصهم المقدسة فال حل وال خالص ،ينبغي أن يقولوا أن هذا اإلعالن قابل للتعميم
الكوني وليس كونيا منذ اآلن لماذا؟ ألنه بكل بساطة غير مطبق إال في الدول المتقدمة وبقية
الدول ال تستطيع تطبيقه ،2".لقد تعدى األمر ذلك وأصبح الوضع أكثر خطورة عندما تبنت
الدول الغربية شعارات حقوق اإلنسان ودافعت عنها وفي المقابل سكتت عن انتهاكات القوى
عما يحصل في الدول العربية واإلسالمية أو في بعض الدول
العظمى وغضت الطرف ّ
-1محمد أركون ،الفكر اَلسالمي واستحالة التأصيل،ص.234
-2محمد أركون ،نحو نقد العقل اإلسالمي،مرجع سابق ،ص.186
239
المتخلفة وقدمت باسم تلك المبادئ والشعارات تبريرات لالنتهاكات التي قامت بها الدول
الغربية القوية كما ال يمكن أن ننسى ما يحدث في تلك الدول الغربية التي تبنت حقوق
اإلنسان من تمييز عنصري اتجاه الجاليات المغتربة بها وباألخص الجالية اإلسالمية
المتواجدة بالدول الغربية " على الرغم من أن الدستور الوطني الفرنسي الصادر عام 1901م
في ظل ال جنرال ديغول فإننا نجد العبارة التالية في ديباجته أو مقدمته "،إن فرنسا هي عبارة
عن جمهورية واحدة موحدة ال تتج أز وعلمانية وديمقراطية واجتماعية وهي تضمن لجميع
مواطنيها المساواة فيما بينهم أما القانون بدون أي تمييز من حيث األصل أو العرق أو الدين
إنها تحترم كل العقائد اإليمانية أيا تكن .1".ومن التناقض أن هذا اإلعالن حصل في نفس
الوقت الذي كانت فرنسا تحتل فيه الجزائر وتقتل فيه األطفال والنساء والشيوخ دون رحمة
وبدون مراعاة لحقوق الشعب الجزائري في بالده فهل يمكننا أن نصدق شعارات الحرية
والمساواة واإلخاء واحترام اإلنسان التي تتغنى بها الدولة الفرنسية هذا ما يعكس موقف محمد
أركون من مسألة حقوق اإلنسان ويراها أنها ظاهرة عالمية في شكلها بينما الواقع يثبت
العكس.
يستمر أركون في نقده أيضا لمشكلة حقوق اإلنسان في المجتمعات العربية اإلسالمية
وينطلق من التطرق لطريقة تشكيل األنظمة السياسية في هذه المجتمعات وعن الكيفية يرى
أركون أنها هي من تقف في وجه تحقيق أدنى الحقوق في تلك البلدان وال تعترف نهائيا بها
كما أن " اإلعالن اإلسالمي لحقوق اإلنسان يقدم نفسه كإعالن كوني أو عالمي وليس
كإعالن محلي أو إسالمي فقط إنه معلن "على وجه العالم وانطالقا من قائمة منظمة عالمية
كبرى وعليا هي اليونيسكو وهذه المنظمة مرتبطة هي األخرى أيضا بقوانين أساسية محددة
ودقيقة لطريقة االشتغال الكونية منذ1945م 2".ومن هذا فإن محمد أركون يرى أن" :هنا
تكمن المشكلة بالضبط مع اإلعالن اإلسالمي لحقوق اإلنسان فعندما نق أر ديباجته ماذا
نالحظ؟ نالحظ أن كل حيثيات اإلعالن وكل مفرداته وأحكامه ومحور رؤيته وتنفيذه الفعلي
ما يرمي إليه محمد أركون بتبني العلمنة في المجتمعات اإلسالمية هو إشراك
المسلمين في الحضارة الغربية وحث العالم المسلم على السعي من أجل اللحاق بركب
الحداثة وهذا ال يتم إال بإرساء حقوق اإلنسان والحريات حتى تتمكن هذه الشعوب من تحقيق
كرامتها وقيم تها وهذا يتحقق بعد "توفير أماكن الحوار والتبادالت والمناقشات لكي نجعل أكبر
عدد ممكن من المواطنين يتأقلمون ويتألفون مع أفاق المعنى والجدة للممارسات الثقافية
والتفاعلية اإلبداعية ،1".فمحمد أركون يرى أن هذا ما يمكن من تأسيس قواعد إنسية تحترم
الحرية واإلنسان وتنبذ العنف واإلرهاب واإلكراه وهو نفسه ما تدعوا إليه العلمانية الحقيقية.
243
-1في مفهوم الحداثة لدى أركون:
يستهل محمد أركون مشروعه بالتركيز على الخطاب اإلسالمي ،إ ْذ قام بإخضاعه
لدراس ة تحليلية عميقة بواسطة النهج النقدي من أجل وضع مجال معين يتم فيه تحديد كافة
النقائص بالبحث في أصول المشكلة وتفكيك العقل اإلسالمي ويظهر هذا بعدما وضع محمد
أركون فكرة اخضاع العقل اإلسالمي للتاريخية واستبعاد التشكيالت الموضوعة والجاهزة
وجميع الموروثات السطحية التي شكلت سلطة وأعاقت العقل وكبلته ،ولقد حث محمد أركون
جميع المفكرين المسلمين بضرورة اتباع هذا المنهج الحديث فالعقل "العربي اإلسالمي يبقى
سجين المناخ العقلي القروسطي على الرغم من أهميته وعظمته وإنه ليس هو الحل وإنما
الوسيلة التي إذا ما عرفنا كيف نستخدمها ونطورها ونتجاوزها استطعنا أن نصل إلى الحل
...فالعقل اإلسالمي موجود في النصوص والعقول وبإمكاننا أن نقبض عليه وبالتالي دراسته
فإن دراسته دراسة نقدية تاريخية – ال تجريدية تأملية أمر ممكن بل إن نقد العقل اإلسالمي
بهذا المعنى يشكل الخطوة األولى التي ال بد منها لكي يدخل المسلمون الحداثة ،لكي
يسيطرون على الحداثة" .1ويحدد محمد أركون مفهوم العقل اإلسالمي قائال" :وعندما أقول
العقل اإلسالمي أقصد العقل العربي والعقل التركي والعقل االيراني والباكستاني واألفغاني
...إلخ أقصد كل عالم االسالم .2".فالمعنى من هذا أن محمد أركون عندما يتطرق لمفهوم
العقل اإلسالمي ال يختصه في العقل العربي وحده ،وإنما يقصد به كل األعراق واألجناس
الذين شملتهم الظاهرة اإلسالمية ألنه كان يهدف إلى دراسة الظاهرة الدينية في شكلها العام
كما ينبه أركون لما علق بفكرته عن نقد العقل العربي التي يرى أنه لم يكن الغرض من كلمة
هذا كان من أجل الرد على من رموه بإثارة البلبلة والفتنة وعلى من انتقدوه في نهجه
هذا ،فلقد فند تماما ما جاؤوا به ليبرهنوا أن محمد أركون أراد التشكيك في العقيدة وقال أن
هذه الدراسة التحليلية والعميقة للعقل اإلسالمي تقدم للدين خدمة جليلة بإزالة اللبس الذي
علق به وتسترجع المفاهيم الصحيحة للنصوص من خالل استخدام المنهجية األركيولوجية
أي عملية الحفر والتنقيب التي يقوم بها علماء اآلثار في أبحاثهم واستعمال التفكيك على
المفاهيم والدالالت وهو منهج استوحاه محمد أركون من هيدغر ودريدا وميشال فوكو ،ويرى
أن هذا المنهج النقدي للعقل اإلسالمي ال " يعني التخلي عن العقل وإنما تصحيح مساره
وتوسيعه وجعله أكثر انسانية وأقل أنانية وهكذا كان في بداية التنوير ،بالطبع هناك بعض
العدميين في الساحة األوربية الذين يريدون تدمير العقل كرد على كل ما حصل ولكن هذا
ليس موقعنا ،2 ".فهو يريد تجاوز المواجهة مع خصومه ونقاده ووضع اتجاهه ،أما الفكر
اإلسالمي والغربي وتقديم طرحه النقدي بتأسيس منطلق للعقل اإلسالمي وبدايته حتى يتشكل
االطار الزمني للعقل اإلسالمي الذي سيخضعه أركون للدراسة النقدية كونه لم يتم أبدا
اخضاعه لها وبتحديد المنطلق يريد اركون العودة من جديد لألصول األولى التي تشكل فيها
العقل اإلسالمي ويقول" :إننا ال نهدف ...إلى الشروع في وصف دقيق مقتص للبسيكولوجيا
المحددة في القرآن أو في الحديث النبوي أو في النصوص الكبرى للفقهاء التيولوجيون أو
نصوص الفالسفة أو المتصوفة أو األدباء بقدر ما نهدف إلى فهم السلوك والعقلية الحالية
للمسلمين ،من الواضح أننا سوف نكون مضطرين كلما دعت الحاجة إلى ذلك إننا نريد هنا
إلقاء نظرة تاريخية ونقدية على مالمح الوعي اإلسالمي تشمل كل المسار الذي قطعه هذا
-1المرجع نفسه،ص.274
-2المرجع السابق ،ص.321
245
الوعي على مدى قرون لكن بدال أن نبتدئ بدراسة هذا المسار من نقطة األصل ونستمر
ذلك تارخيا حتى اللحظة الحاضرة فسوف نفعل العكس سوف نبتدئ من اللحظة الحاضرة
ونرجع إلى الوراء. 1".
يذهب محمد أركون ليبرر اختيار هذا المنهج العكسي في بحثه وتحليله بقوله" :وذلك
لكي ننقض فكرة االستم اررية الخاطئة التي تقول باستم اررية منتظمة وثابتة لهذا الوعي
ومنتشرة في كل األوساط االجتماعية الثقافية منذ أن ظهر القرآن .2".إ ْذ من خالل هذا
المنهج العكسي يمكننا الغوص في عمق التصورات بواسطة النقد والتفكيك الذي يتناول
المبادئ األساسية والمنطلقات األولى التي شكلت وأسست لمفهوم العقل اإلسالمي وباستبعاد
المناهج الكالسيكية التي اكتفت بالنقل الحرفي دون تحليل وتمحيص ودون استعمال العقل
التحليلي والنقدي في ذلك وهو إ ْذ يقول هذا فإنه يريد تجديد القراءة التأويلية وتحديثها
وعصرنتها قراءة تختلف نهائيا مع القراءات السابقة قراءة تاريخية للعقل العربي اإلسالمي
وهنا يرى علي حرب " :هذا من جعل مشروعه يمتاز عن المشاريع األخرى لكونه مشروعا
جذريا يطالب النقد والتفكيك األصول والفروع والمرحلة التأسيسية3 ".لتقديم عقل نقدي يحرر
الفكر اإلسالمي من السياج المعرفي الذي ظهر ووضع أحكاما سطحية جامدة كقوالب جاهزة
ال تسمح بالتناول أو البحث أو التحليل ولهذا أكد محمد أركون "على تفكيك كتابة التاريخية
لتبيان خضوعها اإلبستمولوجي للمسلمات المعرفية نفسها الشغالة التي وضعها المؤرخون
المسلمون وأصبحت المصادر األساسية للمؤرخين المعاصرين (أقصد أن المؤرخين
المعاصرين ال يستطيعون كتابة التاريخ إال إذا اعتمدوا على المعلومات الواردة في تلك
المصادر والمراجع الكالسيكية )وال تزال تلك المسلمات المعرفية الضمنية تؤثر تأثي ار كبي ار
على كتابة المسلمين اليوم ...دون أن يميزوا بين ما فرضه العقل الدوغمائي على تصوراتهم
للماضي البعيد القريب/بين ما يفتحه الخطاب القرآني من آفاق عديدة متجددة للتفكير
والتأويل والمعاني االجمالية واالبداعات الرمزية .4 ".فاألفكار التي كانت مطلقة وكانت
معنى هذا أن أركون يدعو لوضع دراسة للتراث بطريقة منهجية تمكن من تخطي
العوالق التقليدية العتيقة وتمحو القيود التي رسمت للعقل أمام توجهه وتقدمه .ولكي نكون
منصفين في حكمنا على الطرح الذي وضعه أركون يجب علينا أن نشيد بالشجاعة التي
ميزت عمله على التراث والعقل اإلسالميين إ ْذ تظهر جرأته في المنهج الذي اقترحه في
استجواب المراحل األولى التي تأسس فيها الفكر اإلسالمي الذي فكك بواسطته وحفر من
خالله ونقب به عن واقعية األصول األولى بواسطة أدوات معرفية حديثة ومنهج الدراسة
الذي يعتمد في العلوم اإلنسانية واالجتماعية فلقد كان عمل أركون هو"مشروع نقدي
لإلسالميات الكالسيكية في تصورها ألصل ثابت وجوهر متغير للدين ومن جهة أخرى لنقد
األطروحات االستشراقية التي تنطلق من التصور الجوهراني الالتاريخي لإلسالم وهو كذلك
247
نقد جذري للعقل الالهوتي عند أهل الكتاب .1".والشيء المالحظ أن محمد أركون في نقده
للعقل اإلسالمي التقليدي لم يقص العقل االستشراقي منه الذي تجاهل في أعماله على العقل
اإلسالمي والتراث العديد من العوامل التاريخية واالجتماعية ولم يستعمل أدوات البحث
دور مهما في مكونات العقل اإلسالمي أال وهو دور
الحديثة فيها ولم يقدم في أبحاثه أيضا ا
المخيال في تشكيله ،ولذلك أركون يحث على دراسة المخيال ألن العقل اإلسالمي أتى
مرتبطا بثنائية العقل والمخيال ما أدى إلى اختالط المفهوم الخرافي بالمفهوم التاريخي ،ولم
يكن ممكنا الفصل بينهما إضافة إلى التعالي على الواقع اإلسالمي ،األمر الذي دفع بمحمد
أركون إلى االنطالق في نقده من عدة أوجه كنقد العقل الفقهي والعقل التفسيري والعقل
التاريخي ،إ ْذ يبحث في المجال الفقهي عن القواعد األساسية التي يحملها النص المقدس من
أجل تفسير الحكم الشرعي وتبريره وبهذا سيصبح تناول النصوص القرآنية والموروثات الدينية
خاضعة لدراسة علمية حديثة دون حرج أو خوف بعدما كانت حك ار على الفقهاء الذين
اعتبروا أنفسهم مخوليين من عند هللا للقيام بهذه المهمة وظلوا مطوال يعتقدون أنهم الوحيدون
القادرون على استنباط األحكام الشرعية وفهم مقاصدها وفهم النصوص القرآنية وشرحها
بطريقة صحيحة مثل – القوانين الفقهية البن الجزي -وأصول الفقه في كتاب األم للشافعي
التي مثلت مرجعا الزال لحد اآلن يستند إليه المسلمين في معرفة األحكام والقواعد الفقهية بل
وأبعد من ذلك فلقد أصبحت هي األخرى مقدسة مثل النصوص القرآنية ،وهذا ما جعل
الفقهاء أهل الحل والعقد والفتوى واحتكار الحقيقة وهذا أيضا ما نالحظه في كتاب ابن
الجوزية "إعالم الموقعين من رب العالمين" إ ْذ بمجرد قراءة العنوان يتبادر لك أن المعنيين
بالموقعين هم من اسند لهم من رب العالمين فهم النص وشرحه وتفسيره وهذه الرؤية التي
تحمل التعالي والقداسة واالستحواذ لإليمان الحقيقي والحقيقة المطلقة الزالت تسيطر على
العقل اإلسالمي .ولهذا فإن "هذه الموضوعات المحرمة تحتاج اليوم إلى أكثر من
البيداغوجية الصابرة من أجل فتح العقليات (أو إطالق سراح العقليات ...المغلقة منذ زمن
طويل ينبغي أن يبتدئ بفتح ورشة كبيرة عن الدراسات القرآنية [...و]لقد لعب القرآن الدور
الحاسم الذي نعرفه في توسيع وانتشار ماال نزال نمارسه اآلن تحت اسم العلوم الدينية
1ولد أباه السيد ،أعالم الفكر العربي ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،بيروت ،لبنان،ط،1،1995ص.131
248
بصفتها مضادة للعلوم العقلية .1".وهذا ألن قراءة النصوص القرآنية واستيعابها ومعرفة
مقاصدها ظلت والزالت أسيرة في يد العلماء المفسرين والفقهاء التقليديين الذين ساهموا بشكل
كبير في تأصيل التعارض والتباين بين العقيدة والعلم خاصة العلوم اإلنسانية واالجتماعية،
أن على المسلمين رفض هذا التفكير األرثودوكسي المعتمد من طرف ويرى محمد أركون ّ
فقهاء الالهوت وتبني مناهج العلم الحديثة لتصحيح المفاهيم والتأويالت القديمة وتحرير
العقل من الدوغمائية التي أحاطت به ومنعته من االحتكاك باآلخر وبتحرير العقل واستحداث
أدوات البحث العلمية الجديدة في الدراسة وتعرية النصوص الدينية من القداسة والتشكيك في
األحكام المطلقة تتجلى الرؤية الصحيحة وينكشف المفهوم الحقيقي وتتضح األسس األولى
التي شكلت العقل اإلسالمي.
يجعلنا محمد أركون بهذا أمام حقيقة يراها هو مؤلمة واستنتاج يعتبره مؤسف وهو :أن
العقل أتى في المرتبة الثالثة بعد النص القرآني والسنة النبوية وبالتالي فإن العقل سيكون
أداؤه مصبوغ بتصور ديني مسبق يضعه في إطار محدود ويسيج عليه بسياج ،وال يستطيع
أن يتقدم أو يتحرك ويصبح مقتنعا باألفكار الالهوتية التي تسيره نحو االعتصام بالمشروعية
اإللهية العليا المطلقة فتؤول به إلى العقل الفقهي المرتبط بالنص في المقررات البديهية أوفي
المعارف التي استنتجت ،وهذا العقل الفقهي هدفه األسمى هو الوصول إلى اليقين القطعي
والتمسك به دون إ يجاد آلية فعالة تبحث في أصول الفقه الحقيقي التي أساسها اجتهادات
ومضامين عديدة كالعرف والتقاليد ،لكن الفقهاء وضعوا عليها رداء القداسة واكسبوها شرعية
دينية فأصبحت تلك االستنتاجات بمثابة نصوص قرآنية ال تعارض وال تناقش" .وهكذا يولد
الخطاب األصولي فالفقهاء والمفسرون هم الذين يحددون األصول بواسطة التقنيات الشكالنية
الستنباط أصوال إلهية على القانون (أو الشريعة)والواقع أن هذه مشكلة من األعراف المحلية
التي خلع عليها ،رداء التقديس وهذه األصولية تولد النزعة التمامية :أي المحافظة على نزاهة
الوحي وكليانيته هذا الوحي الذي يعتقد بأنه تلقى ونقل ودون مع مراعاة كل متطلبات الصحة
في مدونه رسمية مغلقة (توراة ،انجيل ،قرآن)وبفضل هذه المدونة أو المصحف الذي يقع في
هذا هو المفهوم الذي يعبر عنه محمد أركون بالمسكوت عنه أو الممنوع التفكير فيه
أي ما ال يسمح باالجتهاد ودراسته أو حتى التفكير فيه ".وهنا تبرز إحدى أهم خصائص
العقل اإلسالمي والعقل الديني بصورة عامة "فالعقل الذي يشتغل داخل إطار المعرفة الجاهزة
ويستخرج كل المعرفة الصحيحة استنادا إلى معيار النصية للكتابات المقدسة وبذلك فالعقل
الديني بطبيعته تابع أي أنه يأتي في الدرجة الثانية بعد النص ومهمته هي توليد النصوص
من نصوص سابقة وذلك ما يؤكده أركون بقوله "فهو عقل خادم للوحي وال يجرؤ أبدا على
مبادرة السؤال أو التأويل ال يسمح به الوحي المبين .3".وبهذا يسجن العقل وتجمد حركته
وتضيق عليه مساحة نشاطه وتعدم حريته ويقتصر أداؤه في الوحي وفي مجال معين محدود
ال يسمح فيه باالستنتاج واالستدالل والتحليل ومن هذا التصور "قد نكون المسنا الخاصية
الثانية للعقل اإلسالمي وهي أنه عقل دوغمائي Raison Dogmatiqueيركز على ثنائية
حادة متمثلة في نظام من العقائد واإليمان يقابله نظام من الالعقائد والالإيمان ،فالعقل
الدوغمائي يرتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة
أما المستوى األول :فيتمثل في اللغة التي ومن خالل تحليل أركون لرسالة الشافعي ينتقده
كبير في رفض التاريخية جراء العالقة المباشرة التي وضعها بين اللغة
ا ويرى أنه مثل عامال
والحقيقة دون إدخال األحداث التاريخية ودورها ،والمستنتج من رسالة الشافعي أن مضمونها
ال يحتوي التاريخية ،فالتاريخ في تصور الشافعي خاضع للوحي إ ْذ فضل اللغة العربية على
سائر اللغات األخرى ألنها اللغة التي أنزل بها الوحي اإللهي وهذا التمييز حسب أركون لم
"يتم على أساس معرفي بل تم على أساس التمركز العرقي كما أن الشعور بالحرج المعرفي
دفع الشافعي إلى االستنجاد بالقرآن»فإن قال قائل ما الحجة في أن كتاب هللا محض بلسان
العرب()...الحجة في كتاب هللا ،3".إن هذا التفسير يؤكد في نظر أركون على أن الشافعي
في الرسالة حفز بشكل مباشر على التصور الذي يميل إلى االنغالق على الذات الذي ال
يفسح المجال لالنفتاح على اآلخر إذ أن مجمل التعليالت والتفسيرات فيه تعكس مركزية
الذات والجنس والعرق ألن هذا الفكر الدوغمائي سيكون ولفترة طويلة "مساهما في سجن
المستوى الثاني يتمثل في السنة النبوية أي الحديث ولقد قام الشافعي بتقديم أدلة على أن
السيادة العليا للسنة النبوية الشريفة (الحديث)كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع
اإلسالمي ودليله في ذلك مأخوذ من القرآن العظيم لتبرير فكرته من أجل السيطرة على
عقول المسلمين وإخضاعهم للسنة ومثل هذه األدلة التي قدمت كقوله تعالى" :وما كان
لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى هللا ورسوله أم ار أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي هللا
ورسوله فقد ضل ضالال مبينا ،2".وقوله تعالى أيضا " :وما ينطق عن الهوى إن هو إال
وحي يوحى.3".
يرى أركون أنه بهذا قدس الحديث وأصبح مثل النص القرآني أي أن كل ما صدر
عن النبي صلى هللا عليه وسلم هو من الوحي وله نفس المنزلة مع القرآن معنى هذا أن
"العالقة التي تربط بين هللا والرسول تصبح في جهة التعالي ألن هللا بذاته يتكلم ويتدخل في
التاريخ بواسطة رسوله الذي يتخذ ق ارراته بنوع من المعصومية التامة(العصمة) ويسير على
طريق الهدى ،وأما االنسان العادي فيمكنه االلتحاق بهذه العالقة أو المعادلة "هللا الرسول"
عندما يصبح " رفيقا لألنبياء والصحابة واألولياء " إن السنة التي خلع عليها التعالي
يرى محمد أركون أن الشافعي بهذا التأسيس للعقل اإلسالمي وضع مقدمة خاطئة له
دفعت لمزيد من التقديس ووسعت كثي ار ساحة الالمفكر من خالل تقديس الحديث واعتباره
وحي إالهي ويرى أركون أن هذا أيضا ساهم بشكل كبير في فرض االنغالق والتقوقع على
الذات وبالتالي ألغى التاريخية لوجود أحكام قطعية غير قابلة للنقاش وترفض التفسيرات
األخرى وال تسمح بالتناول أو حتى التشكيك فيها رغم أن الرسول صلى هللا عليه وسلم حسب
محمد أركون كان يتصرف في أحيان كثيرة كبشر لذا فال يمكن اعتبار كل ما جاء به الرسول
صلى هللا عليه وسلم وحي وهذا ما قرره الوحي على الرسول صلى هللا عليه وسلم نفسه
وحى إَلي﴾" .2ومعنى هذا أن هللا لم يجرد الرسول ِ
عندما قالُ﴿" :ق ْل إنما َأنا َب َشر م ْثَل ُك ْم ُي َ
صلى هللا عليه وسلم من انسانيته ولم يؤلهه وهذا تماما حسب أركون اللبس الذي وقع فيه
الشافعي الذي ضر بالعقل اإلسالمي وجمد حركته واعتبر فيما بعد مقياس يقاس به التقارب
والتقابل في المفاهيم من أجل التأويل أو التفسير وبهذا "نالحظ أن العقل المستخدم هنا في
رسالة الشافعي هو من نوع خاص إنه عقل ديني...وهذا العقل الديني معياري بمعنى يحدد
ما هو الحق وما هو الباطل وما هو الخير وما هو الشر ولذا يسهل على جمهور المؤمنين
فهمه واستيعابه...بشكل يقينا متماسكا إكراهيا بالنسبة للفكر ومطمئنا لسكون النفس ومغذيا
للقلب ومنظما لشؤون المجتمع...وهكذا ينتج هذا العقل الديني "العلم" ليس بالمعنى الحديث
للكلمة وإنما بمعنى التعرف على الشيء بشكل عفوي واالنتساب المباشر بالقلب والعاطفة إلى
الحقائق البديهية األبدية الخالدة تماما كاهلل مؤلفها وصانعها" .3ومن هنا أخضع هذا العقل
كافة األدبيات اإلسالمية وارتفع عن الجميع ولم يتمكن منه أحد وسيطر بالوحي على حركة
التاريخ وخرج عن المفهوم التاريخي وسياقه وهذه الرؤية هي التي ثبطت العقل اإلسالمي
ووقفت بينه وبين تقدمه وإبداعه.
لقد رأى أركون أن النص الديني يمارس ضغطا رهيبا على حرية العقل ألنه يطمح
دائما بشغف لتجاوز الحدود واألطر النصية عندما يقدم تفكي ار أو تفسي ار أو يحاول أن يبرهن
على األحكام وهذا لم يكن ممكنا أبدا ،وبذلك حبس التفكير األرثودوكسي العقل اإلسالمي،
ومن هنا يحث محمد أركون المفكرين المسلمين إلى مراجعة النصوص القرآنية بشكل مختلف
جديد وتقديم تفسير وشرح وتأويل برؤية جديدة مختلفة أيضا بواسطة فظ أقفال الوحي وفتح
المجال واسعا للعقل وتحريره من السياج الدوغمائي وانتهاج أدوات البحث والدراسة الحديثة
كالحفر والتنقيب والتفكيك وممارسة ذلك على المفاهيم واألحكام والمعاني اللغوية ألنها نتاج
إنساني يمكن إخضاعه لدراسة حديثة.
نستنتج من كل هذا أن محمد أركون ركز مباشرة ودون حرج أو تردد على خلع القداسة
من التراث األول والمنطلق الذي أسس للعقل اإلسالمي وهذا ال يتحقق إال بإحداث القطيعة
من األفكار الكالسيكية وإخضاع كل الرصيد االجتماعي والسياسي والتاريخي والديني
والفكري وكل ما يحمله من سياقات مختلفة ومتعددة لدراسة بمناهج العلم الحديثة التي
اعتمدت في الدراسات الحديثة للعلوم اإلنسانية .وهو ما دعاه لوضع منهجه الخاص والذي
سماه اإلسالمي ات التطبيقية ،فماذا يعني بها وعلى ما تقوم إستراتيجيته في نقد العقل
اإلسالمي.
لقد قام مشروع أركون في دراسة التراث اإلسالمي على أساس منهج اإلسالميات
التطبيقية ولقد استوحى محمد أركون "هذه التسمية من كتاب صغير لروجيه باستيد بعنوان:
األنتروبولوجية التطبيقية .1".ويمثل هذا الكتاب معرفة نظرية للتطبيق يعتمد على العديد من
العلوم المختلفة من أجل تحقيق أهداف علمية دقيقة وهذا بالضبط ما أراده محمد أركون ،فقد
بنى مشروعه لدراسة التراث اإلسالمي عامة والقرآني خاصة على هذه القاعدة التي اعتمد من
خاللها على مجموعة مختلفة من العلوم المعاصرة ،فهذا المشروع مؤسس على أسس معرفية
مختلفة يهدف لتفكيك وتحليل الخطاب الديني والتراث التاريخي ومن ثم إعادة بنائه وفق
تصور أنتربو-سوسيولوجي ألسني الجتثاث حالة الخمول من واقع التراث العربي اإلسالمي
الذي غرسه فيه الفكر الالهوتي األرثودوكسي حتى يستطيع أركون أن يمنح هذا الواقع رؤية
جديدة مسايرة لضرورات العصر ومتطلباته وإدماج التراث اإلسالمي في عجلة للسيرورة
التاريخية ونقله من المرحلة السكوالئية إلى المرحلة المعرفية .ومن هذا التقديم يتبادر في
أذهاننا اإلشكال اآلتي ما هي غاية وأعمال اإلسالميات التطبيقية ؟وما هي أسسها؟.
يرى محمد أركون أن التراث اإلسالمي يشهد واقعا مختلفا عن الفكر األوربي المتطور
ما يعرف باإلسالميات التقليدية التك اررية واإلجت اررية التي اعتمدت على االجتهاد الكالسيكي
القديم منذ البداية والزال هذا الوضع قائما لحد الساعة ،واإلسالميات التطبيقية منهج قائم من
أجل تصحيح هذا الوضع،بمعنى أن العقل اإلسالمي عموما يعيش في حالة مزرية تتطلب
اعتماد طريق جديد مختلف ليؤمن لمرحلة انتقالية مغايرة لما قبلها فاإلسالميات التطبيقية
جاءت في خضم المعاناة االجتماعية العربية اإلسالمية وفي المقابل جاءت في خضم
التطورات المعرفية والفكرية الحاصلة واألدوات العلمية الحديثة من أجل قراءة التراث
اإلسالمي والنصوص اإلسالمية من قرآن وسنة نبوية وفهمها "لقد استرد االسالم كدين
وكتراث فكري حيوية مطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات اإلسالمية إنه يلعب دو ار من
الطراز األول في عملية إنجاز اإليديولوجيات الرسمية والحفاظ على التوازنات النفسية
واالجتماعية وإلهام المواهب الفردية ،من هنا نجد أن الحاجة إلى فهم أفضل للمحتوى
الهدف من هذا االتجاه توفير أدوات بحث جديدة من أجل مراجعة وفهم التراث
اإلسالمي الذي يعني الرسالة اإلسالمية فهما مساي ار لروح العصر ومستجداته ليتمكن من
كشف الغموض الذي الزال يعترى عدة زوايا في الساحة اإلسالمية ويزيح اللبس الذي رافق
التراث لعصور طويلة أثناء القراءة والتأويل سواء من طرف العامة أو من طرف المفكرين
المسلمين ألن األبحاث اإلسالمية مازال وضعها "يستمر في االرتكاز وإلى حد كبير على
المسلمات المعرفية – إبستيدي –القرون الوسطى وذلك ألنه يخلط بين األسطوري والتاريخي
ثم يقوم بعملية تكريس دوغمائية للقيم األخالقية والدينية وتأكيد تيولوجي لتفوقية المؤمن على
غير المؤمن والمسلم على غير المسلم وتقديس اللغة ثم التركيز على قدسية المعنى المرسل
من قبل هللا ووحدانياته(معنويا)هذا المعنى الموضح والمحفوظ والمنقول عن طريق الفقهاء
باإلضافة إلى عقل أبدي فوق تاريخي...ومجهز بأساس أنتولوجي يتجاوز كل تارخية.3".
فلقد كان عجز الفكر العربي اإلسالمي نتيجة للرؤية الضيقة التي اقتصرت على اعتقاد
المسلمات مسائل قطعية مطلقة ال تسمح بأي نقاش أو دراسة ،لذلك ابتعد التصور العربي
اإلسالمي تماما عن البحث العلمي المتطور واستمر في االبتعاد وتوسعت الهوة أكثر بينه
وبين الحداثة وتحصيل المستجدات في العلوم المختلفة لهذا كله أصبح من الضروري اعتماد
مناهج جديدة ترافق التراث اإلسالمي كله لنقله من هذا الواقع لعالم جديد مليء باألفكار
هذا ما جاء به محمد أركون كمشروع جديد من أجل التحرر من التصور الثيولوجي،
وحث أيضا جميع المفكرين والعلماء على اعتماد هذه الرؤية وعلى التحلي بالشجاعة
لالندماج في دراسة الحالة الفكرية السائدة في المجتمعات اإلسالمية ،وهذه هي الرسالة التي
يريد محمد أركون تحقيقها بواسطة اإلسالميات التطبيقية باالنطالق من الواقع الحال للمجتمع
اإلسالمي والظروف التي يعاني منها األمر الذي سيساعد أكثر في تقديم حلول فعلية تتوافق
بشكل تام مع متطلبات واحتياجات هذا الواقع وهذا يمكن أن يتحقق بالحفر في عمق
المجتمع اإلسالمي وبإعادة النظر في التراث الديني الذي يعتبر أساس العقل اإلسالمي حيث
يرى محمد أركون أن" :من وجهة نظر ابستيمولوجية (معرفية)فإن اإلسالميات التطبيقية تعلم
بأن ليس هناك من خطاب ومنهج بريء إنها ترجح في كل مساراتها وخططها فقد
الخطاب(أي خطاب)وذلك بالمعنى الذي حدده لوى ماران...كما أنها ترجح تعددية المناهج
الفاحصة من أجل تجنب أي اختزال للمادة المدروسة...وهي دراسة الالمفكر فيه في ضمن
الفكر اإلسالمي .2".هذا يعني أنه يجب أن يتم تسليط الضوء مباشرة على التراث التاريخي
والفقهي والتأويالت والتفسيرات بقراءة جديدة مبنية على قواعد ابستمية بأدوات ومنهجية
حديثة.
أما عن طبيعة اإلسالميات التطبيقية فهي تستند على مجاالت متعددة "وهذا ناتج عن
اهتماماتها المعاصرة (فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر ومخاطره)
يتضح اهتمام محمد أركون بهذا الجانب لماله من دور مهم يلعبه في دراسة وتفسير
اللحظة اللغوية التي تأسس فيها النص القرآني والنصوص التاريخية ،فالبحث األلسني
باستطاعته تفكيك األبعاد والمستويات الداللية المختلفة كالتعبيرات المباشرة الصريحة
والمجازية والتشبيهية والقراءات المستترة وراء البنى اللغوية وذلك من أجل التخلص من
التفاسير التقليدية والتأويالت العتيقة السطحية الشكلية من أجل الوقوف في وجه المؤسسات
-1فارح المسرحي،ص.69
262
األرثودوكسية التي أ نهت تشكيل النص ووضعته في قوالب جاهزة وحرمت مناقشتها لضمان
استمرار سلطتهم في تأويل النصوص من أجل ضمان مصالحهم اإليديولوجية
والسوسيولوجية ،لذلك أصر محمد أركون على استبدالها بقراءة جديدة حديثة وفسح المجال
واسع ا للدراسة األلسنيةالتي تعتمد البحث في عمق النص والداللة التي تحفه وفي هذا المفهوم
يقول هاشم صالح :أركون " قد حررنا – ولو للحظة – من الهيبة الساحقة للنص هذه الهيبة
التي تحجب عنا حقيقة مادية اللغوية (أي حقيقة كونه مكتوبا بحروف لغة بشرية معينة
وطبقا لقواعد نحوها وصرفها – هي هنا اللغة العربية التحليل األلسني أو السميائي يساعدنا
على إقامة مسافة بيننا وبين العقائد االيمانية الموروثة منذ نعومة أظافرنا دون أن يعني ذلك
القضاء على االيمان على االطالق (فااليمان يبقى ولكنه ايمان ما بعد التحريرال ما قبله)...
التحليل األلسني يقوم بعملية تحييد أولي لكل األحكام1".ويعني بهذا " األحكام التي تحول
بيننا وبين رؤية النص كما هو وهكذا نجد أن التحليل األلسني –أو اللغوي – له مرتبة
األولوية وبخاصة عندما يتعلق األمر بالنصوص القديمة التي غاصت لحظة نشأتها في
أعماق الزمن حتى لكأنها أصبحت فوق التاريخ فوق الزمن. 2 ".
ألن محمد أركون رغب في تموضع نقدي بإنشاء مسافة بين الدال والمدلول ليتمكن
من الوقوف فيها بين النص األصلي المؤسس والنصوص التي رافقت النصوص األصلية
التي جاءت كنتيجة لتفسيرات وتأويالت لها ،ألن الدال والمدلول اشتركا لوقت طويل في
القداسة والتعالي على التاريخ ما استحال على المفكرين إخضاع العالقة بينهما للدراسة
النقدية وبهذا التصور الخاطئ تأسس العقل اإلسالمي ،ولذلك اهتم محمد أركون بهذه الدراسة
اللغوية األلسنية لتمكنه من تعرية النصوص الدينية من القداسة والتعالي واخضاعها للتحليل
والتفكيك اللغوي وفي هذا الصدد يؤكد محمد أركون أن التحليل السميائي "يمثل المرحلة
األولى التي البد منها قبل أن ننخرط في أي تفسير لكن نبلور القانون أو لكي نبلور
الهوتادوغمائيا سوف يدعم فيها بعد من قبل أي نظام سياسي راسخ...التحليل السيميائي (أو
العالماتي الداللي) ينبغي أن يخص باألولوية وبخاصة عندما يتعلق األمر بالنصوص
بهذا المفهوم يتبين أن محمد أركون أخضع دون تردد النص القرآني والنص الديني
عموما للدراسة النقدية التحليلية األدبية تماما مثلما يفعل بالنصوص األدبية والنصوص
التاريخية ،ألنه يريد تحرير العقل اإلسالمي من أحادية المفهوم والمعنى الخاص بالنص
1محمد أركون ،القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ،ص.34،35
-2محمد أركون ،الفكر االسالمي قراءة علمية ،ص.230
-3المرجع نفسه ،نفس الصفحة.
264
القرآني الذي احتكره الالهوت األرثودوكسي لخمة ايديولوجيات خاصة ومنعوا أي محاوالت
أخرى للوصول إليه بفرض التزامات تصعب على أي راغب في العمل على المفهوم الديني
تناوله بل وكانوا محل أحكام بالكفر والتبديع لمجرد إبداء رأي أو إظهار موقف يخالف تلك
التأويالت الالهوتية ألنهم كانوا ولفترة طويلة يحتكرون مهمة التفسير بما يناسب مصالحهم
والجانب الشفهي لم يطرح أبدا ألنه لم ينسجم مع رغباتهم وسيعارض تورطهم في تأويالت
اعتباطية ،لذا فأركون يفرق بين لحظتين في تاريخ النص القرآني هما:
أوال :اللحظة الشفوية وتمثلت في فترة ما قبل جمع المصحف ،ولحظة الكتابة وهي
الفترة التي شهدت جمع المصحف بأمر من الخليفة عثمان بن عفان .ولهذا ركز محمد
أركون في مشروعه النقدي على الدراسة والتحليل األلسني واعتبرها نقطة انطالق أساسية
لبداية العمل قبل أي محاولة للتفسير أو التأويل للنص القرآني حتى نتمكن من رفع القداسة
على كل التفسيرات والحقائق الالهوتية المنغلقة وهذا يستدعي "العودة إلى هذه المادة
األولية(النصوص األولية)في جذرها األولي وعناصره التكوينية والعوامل المتحكمة الخاصة
بها؟ نالحظ أن هذه العودة إلى األصل الزمة التراث الذي يتكرر باستمرار لكن العودة التي
نقصدها مختلفة :إنها العودة إلى العصر األسطوري المؤسس...إن علم الدالالت (أو علم
السمياء)La Semiotiqueيطمح إلى االستعادة النقدية التي تتخذ المسافة بينها وبين المادة
المقروءة ثم كل المواد الثانوية التي أنتجها التراث في آن معا،كيف تقوم العالمات( Les
)Signesالمستخدمة في النصوص بالداللة وتوليد المعنى؟".1
لقد عمد أركون لكل هذا الشرح التفصيلي ألهدافه من هذا المشروع حتى يتفادى
معارضة الفقهاء لدراسته النقدية فيرى " ال نهدف...إلى نزع صفة الوحي على النصوص وال
إلى إلغاء شحنتها التقديسية وال إلى إزالة أثار معناها الروحية بالنسبة للمؤمنين على العكس،
إنها تهتم بهذه األشياء والسمات وبوظائف المعنى بصفتها أساليب لتوليد الداللة .2".ألن
النصوص تفسر في نسقها العام وليس في نسقها الخاص وعندما يفهم الكل يتضح الجزء
ونتمكن من تقديم فهم حقيقي صحيح للمعاني والدالالت ،لذا وجب تركيب كل المعاني
غير أن محمد أركون حث على توفر عاملين مهمين فيمن يريد االختصاص بهذه لمعرفة
فيقول" :أوال ما يجب على القارئ أن يتزود به من تكوين علمي واإلحاطة باألرضية
المفهومية الخاصة باللسانيات والسميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد
االبستيمولوجي وثانيا أن يتدرب القارئ على التمييز بين االحتجاج واالدراك والتأويل والتفسير
الذي يتم في اإلطار المعرفي العقائدي الدوغمائي وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني".1
من هذا نستنتج أن هناك نوعين من النصوص ،أوال :النص األصلي أي المؤسس
للظاهرة اإلسالمية (الدال)والنص الفرعي (المدلول)وهو النص الشارح للنص الدال األصلي
،وهما يختلفان ويمكن تمييزهما ألن النص المدلول المفسر تعددت اتجاهات واختلفت
باختالف سياقاته واختالف بناء أحكامه الشرعية ،وهذا ما تناولناه سابقا عندما تطرقنا لتعدد
القراءا ت واختالفها لنجد العديد أيضا من التأويالت التي ظهرت في أشكال متنوعة كالتأويل
السني والشيعي واالسماعيلي واإلباضي واألشعري والمعتزلي بل وأبعد من هذا فهناك تباين
في داخل االتجاه الواحد أيضا كاالختالف الموجود في المذهب السني األشعري والسلفية
ويحاول دائما محمد أركون أن يقدم تبريرات لتوضيح أهدافه من هذا التناول فيقول" :فتحليل
الخطاب الديني أو تفكيكه يتم ال لتقديم معانيه »الصحيحة « وإبطال التفاسير الموروثة بل
إلبراز الصفات اللسانية اللغوية وآالت العرض واالستدالل واالقناع والتبليغ والمقاصد
المعنوية الخاصة بما أسمته الخطاب النبوي".2" "Le Discours Prophétique
-1محمد أركون ،القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ،ص.5
-2المرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
266
المقاربة التحليلية األلسنية هي التي نتمكن بواسطتها من التمييز بين الدال والمدلول
أي بين النص األصلي األول والنصوص التي تشكلت بعده ،وبالتالي نستطيع أن نكتشف ما
هو كتابي مدون وما هو شفهي غير مكتوب وغير مدون ،كما تمكننا هذه الدراسة من
مراجعة المفاهيم والمفردات الموروثة التي أصلها العقل الالهوتي وجعلها مسلمات وحقائق
مطلقة ال يسمح بمناقشتها وال تفسيرها وجعلها في مجال الممنوع التفكير فيه ،ومحمد أركون
ال يستثني أي نص أو مصطلح من الدراسة النقدية ألن اللغة هي رموز وجب فك شفرتها
واستنطاقها الكتشاف معانيها الحقيقية.
لقد علم محمد أركون أن الجوانب االجتماعية والسياسية والثقافية لعبت دو ار كبي ار
ومهما في تشكيل وبلورة التراث اإلسالمي والنص القرآني ،لذا استند في مشروعه النقدي على
المنهجيات التاريخية واألنتروبولوجية والسوسيولوجية وذلك بواسطة الرجوع إلى األحداث
االجتماعية والسياسية والثقافية التي رافقت النص وساعدت في تأسيسه ،ونحن هنا إذ نركز
على النص القرآني فألنه يشكل حدثا معقدا تأسس من خالل تجليات تاريخية مختلفة
تستدعي توظيف الدراسة التحليلية التاريخية التي تقدم قراءة وفهما موضوعيا للنص القرآني
وللحادثة الدينية وال تسمح بالتوظيف والذاتية وتتمكن من إخضاع المفاهيم واألحكام والحقائق
لدراستها ألن العقل الالهوتي رفع الظاهرة الدينية والقرآنية عن التاريخ رغم أن النص القرآني
انبثق نتيجة ألحداث ما يسمى بأسباب النزول ،أي أن هناك نسق وظروف معينة ساهمت
في ظهور وتأسيس الحدث التاريخي .حيث استوحى محمد أركون هذه الطريقة من مدرسة
الحوليات الفرنسية والمنهجية األركيولوجية الحفرية لميشال فوكو حيث يفرق فوكو بين تاريخ
األفكار وتاريخ األنساق ف" تاريخ األفكار ""Histoire Des Ideésوهو سرد األفكار بعيدا
عن مشروطياتها االجتماعية والسياسية والثقافية وتاريخ نسقات الفكر" Histoire Des
"Systémes De Penséeوهو الربط بين المقدمات والمقوالت والمبادئ والمناهج التي
يعتمد عليها جميع المفكرين والباحثين في انتاجهم وهكذا نالحظ ...أن مدرسة الحوليات
267
تقطع مع التاريخ الوقائعي الحدثي لصالح المدة الطويلة كما أنها تصور يقيم " قطيعة حاسمة
مع السمات االتصالية والجوهرانية التي طبعت التاريخ الكالسيكي بخلفياته الميتافيزيقية إنه
يقيض كل العصور التي تحيل إليها أوهام الثبات والكرامة وسيادة الذات الواعية .1".ألن
محمد أركون يعتقد أن كل األحداث التاريخية لها أنساق ساهمت في تأسيسها األمر الذي
يدفعنا لدراستها هي األخرى وعدم تجنبها والبحث عنها ،وهذه مهمة المجال الحفري
األركيولوجي التي سيساهم بشكل فعال في اكتشاف واستظهار المغيب والغامض في مراحل
التاريخ اإلسالمي ويقول أركون » " :إن إعادة كتابة التاريخ التي ندعو إليها تهدف إلى إثارة
كل المسائل التي تحاشاها المؤرخون الرسميون وطمسوها أو شوهوها أو حذفوها أو لم ينتبهوا
إليها قط وذلك بسبب مشكلة المستحيل التفكير فيه المفروض إجباريا في كل ثقافة وفي كل
مرحلة من مراحل تطورها []...إنها القراءة السلبية للتاريخ هي األمر الوحيد الممكن
اليوم « وعلى هذا النحو يكون الدارس أمام مفهوم جديد للحقيقة في التاريخ حقيقة نسبية
تتغير بتغير زاوية نظر البحث. 2".
هذا ما دفع بأركون من أجل استغالل األركيولوجية وما تقدمه في البحث في طبقات
ومستويات التراث اإلسالمي ،ووضع لذلك العمل نقطة بداية تمثلت في الظرف التأسيسي
االول الذي امتد عبر القرون الهجرية الثالثة ،ويبرر أركون هذه الخطوة المهمة حيث يقول "
إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات (أو األساليب) التي تعبر عنها كانت
بالطبع قد تغ يرت كل لحظة من هذه اللحظات ،إن الصعوبة األساسية بالنسبة لنا اليوم تتركز
في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق – بدء من المعارف المجتمعة في اإلتقان – الطبقات
الرسوبية للخيال اإلسالمي المتشكل خالل القرون الهجرية األربعة األولى من أجل أن نصل
إلى زمن الوحي .3".فمحمد أركون وضع منطلقا رئيسيا للبحث تمثل في تشكيل تصور
تاريخي للقرآن يتفاعل معه بشكل كامل كحدث يتضمنه ويحتويه في محيط زمكاني تاريخي،
أي أن النص القرآني نزل بداية في سياق وفي لحظة معينة يسميها محمد أركون باللحظة
-6المقاربة األنتروبولوجية:
لم يكتف محمد أركون بالدراسة التاريخية في مشروعه النقدي فلقد استند أيضا على التحليل
األنثروبولوجي ألنه علم مبني" على النموذج الديكارتي الذي يدعو للمعادلة التالية ":أن تفهم
أو أن تعرف = أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه ،لكن من أجل أن تسيطر عليه فإنه
ينبغي البدء بالمعرفة أوال ،ولكنك لن تستطيع أن تعرف (أو تفهم شيء) إال بشرط أساسي:
هو أن تتحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة .1".ألن هذا المنهج العلمي أساسه إلغاء
الرؤية الفردية األحادية والتفتح على جميع االختصاصات من أجل دراسة وتفسير أي ظاهرة
سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو دينية ألنها تهتم باستيعاب العلل التي زحزحت التاريخ
،فإصرار محمد أركون على اعتماد التحليل األنتربولوجي من أجل دراسة التراث
اإلسالمي ،ألن هذا المنهج باستطاعته أن "يخرج العقل من التفكير" داخل السياج الدوغمائي
المغلق" إلى التفكير على مستوى أوسع بكثير...كما أن العلم األنتروبولوجي يعلمنا كيفية
التعامل مع الثقافات األخرى بروح منفتحة ومتفهمة وضرورة تفضيل المعنى على القوة أو
السلطة ثم تفضيل السلم على العنف والمعرفة المنيرة على الجهل المؤسس أو
المؤسساتي «[...فهو]يمارس عمله كنقد تفكيكي وعلى صعيد معرفي لجميع الثقافات البشرية
.......................................................-1
2د :امباركحاميدي،المرجع السابق،ص.245
-3المرجع نفسه،ص.39
-4محمد أركون ،الفكر األصولي واستحالة التأصيل،ص.11
270
االنجازات العلمية والفكرية كما ينبههم قائال" :وإذا استمر الفكر وهو يكتفي بترديد ما تسمح
اللغة والنصوص العقائدية والرامزات الثقافية واجماع األمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه فإنه
يتضخم ويثقل ويتراكم ويسيطر على العقل عندئذ مالم يفكر فيه بتلك اللعنة وفي تلك الدائرة
المعرفية وتلك الحقبة التاريخية 1".يعني هذا أن محمد أركون أراد من المفكرين المسلمين
وضع حد للمعرف التقليدية وتركها وزحزحت المفاهيم واستجالئها بواسطة تطبيق هذه المناهج
العلمية الحديثة وبالخصوص المنهج األنتروبولوجي.
-7التحليل السوسيولوجي:
حتى يخلص أركون لدراسة شاملة في مشروعه على التراث اإلسالمي استعان أيضا
منطلقا من فكرة المسلمين عن الدين وكيف يرونه من خالل بالمنهج السوسيولوجي
خطاباتهم التي يحددون فيها موقع الدين من المجتمع ،فيعتبرون االسالم متعالي عن التاريخ
–ميتا تاريخيا -طوباويا وهذا ما ينكره محمد أركون نهائيا بسبب تغير المفهوم التقليدي عن
الدين ،فهو عند أركون ظاهرة كونية "يعني أنه ال يوجد مجتمع بشري من دون دين أومن
دون ظاهرة أومن دون تقديس ولكن هذه الظاهرة تتخذ أشكاال شتى بحسب نوعية كل مجتمع
ولذلك توجد أديان عديدة في البشرية ال دين واحد ولكنها جميعها تعبر في العمق عن حاجة
واحدة .2".وباعتقاد هذا فإن الدين يصبح خاضعا للتحليل والدراسة والمالحظة بواسطة
المناهج واألدوات العلمية الحديثة والتي تمثل السوسيولوجيا جانب مهم منها ألن الظاهرة
الدينية تتفاعل مع األنساق والظروف المالزمة له في إطار زماني ومكاني معين يختلف من
حين آلخرويترتب عنه اختالف وتغير في المفهوم وليس في الجوهر ولهذا فهذا المنهج
السوسيولوجي ضروري لسببين أوال من أجل دراسة الظاهرة الدينية واإلسالمية وثانيا من أجل
تخطي االعتقاد السائد عند المفكرين المسلمين "بتعالي اإلسالم على األمور الدنيوية
والتاريخية ()...ألن الدين القويم يؤثرعلى المجتمع ويسيره ويوجهه ولكن العكس ال
يصح « فواقع الظاهرة الدينية في المجتمع يؤكد "أن الدين إنما هو ظاهرة من ظواهر الحياة
لقد وضع محمد أركون اإلسالميات التطبيقية من أجل قراءة التراث اإلسالمي هذا
المنهج الجديد عنده يشمل مجاالت مختلفة للدراسة كالتحليل التاريخي واألنتروبولوجيا
آخر يراه أركون ضروري للدراسة هو التيولوجيا
والسوسيولوجيا واأللسنية ،كما يضيف جانبا ا
االيمانية ألن "تحليل المستوى التيولوجي يعتبر أم ار ال مفر منه ينبغي على الخطاب
التيولوجي أن يتمثل كل المستويات التحليلية المذكورة وبدون هذا االنفتاح يبقى الخطاب
التيولوجي عبارة عن تبجيل دفاعا ألمة منغلقة على قناعتها ويقينها" .2األمر الذي يفرض
تحرير النص الديني من السياج الدوغمائي ومن أسر الفكر الالهوتي األورثودوكسي أي
علماء الدين والفقهاء والمفسرين التقليديين بواسطة تطبيق مناهج العلوم االجتماعية واإلنسانية
لقراءة جديدة للنصوص التاريخية والدينية وفي هذا يقول أركون "ال أستبعد التيولوجيا من حقل
التفحص والدراسة الخاصة باإلنسان والمجتمع ولكن ينبغي على التيولوجيا أن تخضع للقواعد
والمناهج المشتركة المطبقة على كل عملية معرفية ولكي تحقق ذلك ينبغي عليها أن تستعيد
من جديد دراسة كل مسألة الوحي استنادا على معطيات جديدة .3".لذا يجب على الباحثين
التحلي باإلرادة والجرأة من أجل تفكيك األفكار التيولوجية المنزوية وراء األفكار والبناءات
اللغوية للخطاب الديني ومن أجل إزاحة الغموض الذي فرضته الدوغمائية التيولوجية المعتقدة
-1محمد أركون،الفكر اإلسالمي نقد و اجتهاد تر هاشم صالخ دار الساقي بيروت ط . 2012 . 2ص 14-13
-2محمد أركون،نقد العقل الديني ،ص.281
273
سيكون المؤسس األولي لبداية الدراسة وبالتالي لولوج عالم الحداثة والتطور األخالقي
والسياسي والثقافي والسياسي واالجتماعي .
نستنتج من هذا أن محمد أركون ارتكز بشكل كامل وشامل في مشروعه على التراث
اإلسالمي واإلسالميات التطبيقية التي استوحاها من دراسة وبحث طويل وصل به المطاف
إلى مشروع ّبين يتناول الظواهر التاريخية بإشراك كل المعارف واألدوات العلمية الحديثة في
مختلف المجاالت المعاصرة كاأللسنية واألنتروبولوجية والتاريخية والسوسيولوجية من أجل
الغوص في أعماق التاريخ وتفكيك مستوياته وتحليل كل معانيه واعادة تركيبه بما يتماشى
والحداثة .
عرف مصطلح التراث تباينا كبي ار في تحديد مفهومه منذ القدم من شخص آلخر
بسبب اختالف مواضيعه الخاصة به وبسبب اختالف رؤية الناس له وموقفهم منه وخاصة
إذا وقفنا على هذا المصطلح في علم التجذير "االيتيمولوجي" الذييكشف لنا تعقد واستحالة
إ يجاد مفهوم شامل متفق يحدد لنا مفهوم التراث عكس ما يظهر مبدئيا من وضوح معناه
وسهولة تعريفه بسبب تداوله المتكرر لدى عامة الناس فنجد كلمة تراث في اللغة العربية" من
مادة (و -ر -ث) وتجعله المعاجم القديمة مرادفا ل "اإلرث" و"الورث" و" الميراث" على ما
يرثه اإل نسان من والديه من مال أو حسب...وقد وردت مرة واحدة في سياق قوله تعالى»كال
ضون على طعام المسكين ،وتأكلون التراث أكال لما وتحبون بل ال تكرمون اليتيم وال تحا ّ
محمد عابد الجابر ّي في كتابه التّراث والحداثة ،حيث
ّ هذا إلى انتبه ولقد .1
المال حبا جما«
أن المجال اّلذي يتناوله التراث وما يرافقه في الخطاب العربي القديم كان منذ القدم
اعتقد ّ
ّ
أقل النسب .ولقد اهتمت به المراجع والمؤلفات المهمة في "الفقه المال ويليه بمستوى ّ
-1د :محمد عابد الجابري ،التراث والحداثة ،دراسات ومناقشات ،مركز دراسات ،الوحدة العربية ،بيروت
،لبنان،ط.1،1991
274
اإلسالمي حيث ُعني الفقهاء عناية كبيرة بطريقة توزيع تركة الميت على ورثته حسب ما قرره
القرآن ...أما لفظ تراث فال نكاد نعثر على أثر له في خطابهم .1".فلقد أتى معنى التراث في
وراث َوَورث الوراث ُة
أن التراث أصُلهاألصفهاني "المفردات في غريب القرآن" ّ الراغب
كتاب ّ
ّ
عن الميت فينعت المنتقل وس ّمي بذلك الك ِ واإلرث تحول ِ
ُ سبة من أحد آلخر بغير عقدُ ، َ
سبة الموروثة بميراث وإرث .ويقال ورث ماال عن أحد وورثت أحدا وقال تعالى "وورث ِ
الك َ
سليمان دواد" أي :في الملك والنبوة ،وليس المراد وراثة المال وقال تعالى أيضا في سورة
ُم ِه الثلُ ُث" وفي سورة البقر اآلية "233وعلى الوراث
ِ ِ ِ
النساء " َفإن ل ْم َي ُكن ل ُه َوَلد َوَوِرثَ ُه أََب َواهُ َفأل ّ
مثل ذلك " ،وقال في سورة النساء اآلية"12وإن كان رجل يورث كاللة" "وقال أيضا في سورة
الحقيقية هي أن يحصل لإلنسان فإن الوراثة
آخرين" ّ اها َق ْو ًما َ الدخان اآليةِ َ 28
ّ "ك َذل َكَ أ َْوَرْثَن َ
شيء ال يكون عليه فيه تبعة وال عليه محاسبة.
غير أنه في المجال المعرفي في الثقافة العربية اإلسالمية "مثل األدب وعلم الكالم
والفلسفة فال تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص بل ال نكاد نعثر لها على ذكر...أما
شؤون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تماما عن المجال التداولي ،أو الحقل الداللي لكلمة
"تراث" ومرادفاتها ...فعندما يتحدث الكندي...ال يستعمل العبارة الشائعة لدينا اليوم عبارة
(تراث األقدمين)بل يستعمل تعابير أخرى مثل» ما أفادونا من ثمارفكرهم « " .2وهذا تركيب
ليعبر به عن إرث األسالف اّلذين
الكندي ّ
ّ لفظي استعمله أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق
صناعي وعلمي.سبقونا وما تركوه لنا من رصيد ّ
ومن هذا نكتشف أن األصل المعجمي لكلمة تراث ال يخرج عن مفهومين اثنين مفهوم المال
ّ
وما ينجر عنه ومفهوم الحكمة والعلم وهذا المفهوم األخير ليس متوات ار في المعاجم القديمة
أن لفظ تراث المنقلب عن وراث موصول في وجهه يدل على ّ
تواتر المفهوم األول ،مما ّ
المادي أكثر من اتّصاله باإلرث الرمزي المجرد وبهذا نستنتج "كال من
ّ المعجمي باإلرث
ّ
-1فارح المسرحي،الحداثة في فكر محمد أركون ،رسالة مقدمة لنيل درجة الماجيستير في الفلسفة السنة الجامعية -2002
.2003
-2محمد عابد الجابري،التراث والحداثة ،مرجع سابق،ص.23
-3محمد عابد الجابري ،التراث والحداثة ،مرجع سابق،ص.23
276
بمعنى أن مفهوم التّراث كما يظهرفي الفكر العربي المعاصر مفهوم ذو خاصية روحية
ّ
وعمق فكري متغير بتغير الزمان والمراحل والحاالت والرؤى ،وهذا ما شبع مجاله المعجمي
ونوعه .وبالتالي يمكننا تقديم معنى التراث الذي "يشير اليوم إلى ما هو مشترك بين العرب
أي التركة الفكرية والروحية التي تجمع بينهم...فإن التراث قد أصبح بالنسبة للوعي العربي
المعاصر عنوانا على حضور األب في االبن حضور السلف في الخلف حضور الماضي
في الحاضر...ومن هنا ينظر إلى التراث ال على أنه بقايا ثقافة الماضي بل على أنه " تمام
هذه الثقافة وكليتها :إنه العقيدة والشريعة واللغة واألدب والعقل والذهنية ...وبعبارة أخرى إنه
في آن واحد :المعرفي وااليديولوجي وأساسها العقلي وبطانتها الوجدانية في الثقافة العربية
اإلسالمية.1".
أن
المصطلحي المتفق عليهما يقوداننا إلى خالصة وهي ّ
المفهوم اإليتيمولوجي المعجمي و
ّ ّ ّ
الدالالت ما تعدد وذلك راجع إلى طبيعة موضوعه وخصائص التّراثله من المعاني ومن ّ
السالف واستلمه الالّحق من جهة التّسليم
ألنه تركة وإرث تركه ّالناس منهّ ،
مكوناته ومواقف ّ
ّ
خاصة ،جعلت ّ واالسترسال وهو ما أكسب مفهوم التّراث اهتماما كبي ار عند المعاصرين
تناولهملهمحل اختالف كبير باختالف التصورات وبتباين األفكار واألهداف وهم يدرسون
تتقوم به ثقافاتهم.
مادية وفي نفس الوقت مخّلفا رمزّيا ّ
التّراث على أنه تركة ّ
من بين أهم األعمال التي التزم محمد أركون بدراستها في مشروعه من خالل
اإلسالميات التطبيقية هو بلورة تصور دقيق للتراث العربي اإلسالمي الذي ال يمكن حسب
رأيه بأي حال من األحوال تحديده بعيدا عن الحداثة وكل ما تتضمنه من تغيرات واختالفات
في التصورات الفكرية والعلمية التي حاول أركون استثمارها في أعماله على التراث العربي
اإلسالمي وخاصة ما جاءت به منهجية الحوليات الفرنسية وما وصل إليه كل من فوكو
وهيدغر ونيتشه وما قدمته العلوم المختلفة من أدوات بحث ودراسة حديثة فاستوحى من هذا
كله دراسة تنطلق من المقاربة التحليلية األنثروبولوجية ألنه رأى أن التراث هو عبارة عن أي
-1المرجع نفسه،ص.24
277
نص تاريخي مكتوب سواء كان أدبي أوديني أو فلسفي أو فني غير أن محمد أركون يؤكد
كثي ار على النص القرآني الذي مثل نقطة تأسيسية للعقل والتراث اإلسالمي فمادام النص
الديني إ جراء خطابي فهو خاضع للتأويل والتفكيك بواسطة تطبيق المناهج واألدوات الحديثة
عليه عكس تماما ما ألفت الدراسات اإلسالمية الكالسيكية عليه -اإلسالميين واالستشراقيين
– الذين حجروا العقل اإلسالمي وحرموه من محاولة الدراسة العلمية االبستيمولوجية
للنصوص الدينية ،أما عند محمد أركون فالتراث لديه مستويات عديدة فالمستوى األول وهو
التراث اإلسالمي المقدس والمستوى الثاني وهو المتمثل في العادات والتقاليد أما المستوى
الثالث فهو الذي يتمثل في التراث اإلسالمي الكلي أو السنة اإلسالمية الشاملة ولفهم كل هذه
المستويات وتناولها تقدم محمد أركون متأث ار بما تم طرحه مما وصلت إليه العلوم اإلنسانية
والعلوم االجتماعية وأدوات العلم المعاصر بمقاربة علمية معاصرة بهدف وضع مفهوم جديد
للتراث ومن بين هذه المقاربات مقاربتان؛ أوال المقاربة الداللية التي تقدم المعنى على أنه
طرح متغير غير ثا بت يتأثر بالتحول الذي يحتويه لذا فهو خاضع لتأويالت وقراءات خاصة،
وثانيا المقاربة السوسيوتاريخية التي تطمح لتحديث السياق اإليديولوجي وبهاتين المقاربتين
سيتمكن محمد أركون -حسبه -من تقديم معنى جديد متفاعل ومنفتح وسيتمكن أيضا من
تحرير الفكر اإلسالمي من اجترار المفاهيم واألفكار القديمة .ألن التراث هو مجموعة من
الفترات والمراحل والعصور المتعاقبة وهو " كما يقول "جورج بالندي" يشبه إلى حد ما تاريخ
الكرة األرضية الذي ينتج طبقات جيولوجية متراصة فوق بعضها بعضا صحيح أن تاريخ
البشر يتحرك بسرعة ()...ولكنه يولد هذا اآلخر أيضا طبقات سميكة وينبغي أن تكتشفها
العلوم االجتماعية .1".التي تستطيع دون شك تحديد وإيجاد الحقائق بتجاوز الطبقات
السطحية والحفر في عمقها بالرجوع ألصل النص الزمني بواسطة المنهج األركيولوجي
الحفري التفكيكيليتمكن الباحث من مواجهة اللحظة التدشينية التي انبثق فيها النص القرآني
فمحمد أركون يعتقد بوجود "مستويات وطبقات متراتبة بعضها فوق بعض من التراث التي
يعتبر أركون أن أحسن وسيلة لذلك هي الحفر والتفكيك من أجل اختراق الطبقات
المتراصة والمتعاقبة واكتشاف اللحظة التأسيسية األولى للنصوص الدينية وتجاوز التأثيرات
الفكرية واالكراهات اللغوية والمسلمات والتقديس الذي فرض على النصوص التفسيرية
والتأويالت الدينية ،وهذا ما يهدف إليه محمد أركون من خالل المنهج الحفري التفكيكي الذي
يأمل بواسطته استرجاع زمن التجلي التأسيسي للقرآن والحديث النبوي ألنه هو المنطلق
الفعلي لصناعة فكر حداثي يتمكن من فهم الفكر العربي اإلسالمي التقليدي وتقديمه بوجه
جديد يختلف تماما على ما تم وضعه بالدراسات اإلسالمية الكالسيكية من تفسيرات
وتأويالت بل يرفضها أركون ويحدث معها قطيعة نقدية ويدعوا لتجاوزها وتركها ألنها أوقفت
حركة العقل اإلسالمي بتصوراتها التي احتكرت بواسطتها الحقائق وحكمت عليها بالجمود
والتعالي ولم تسمح بدراستها وتفسيرها أو مراجعتها فالتراث عند محمد أركون إنتاج بشري
نسبي غير ثابت خاضع لمختلف النعرات والنزعات والتصورات مثله مثل باقي التراثات ومنه
فهو خاضع كغيره للدراسة التاريخية وغير مقدس ألن التراث عند محمد أركون يتمثل في كل
النصوص المكتوبة سواء كانت تاري خية أو أدبية أو فنية أو حتى دينية وال مجال الستثناء
النصوص القرآنية والنبوية من هذا التمثيل و -حسب رأيه -يعتقد أن النص القرآني شهد
فترتين ؛ أوال الفترة الشفوية التي تمثلت في المرحلة التأسيسية والفترة الثانية هي مرحلة
التدوين ليضع محمد أركون مسافة زمنية بين المرحلتين أدت لغموض المفهوم وغياب
المعنى الحقيقي ،تلك هي المسافة التي تحدث عنها محمد أركون ووضعها لكي يتمكن من
الوقوف فيها وقفة نقدية وفي هذا يقول محمد أركون" :إن االنتقال من مرحلة الخطاب
الشفهي إلى مرحلة الخطاب المدون والمكتوب لم يؤخذ بعين االعتبار حتى اآلن ال من قبل
المفسرين المسلمين المهتمين بأسباب النزول والفاسخ والمفسوخ من أجل بلورة األحكام الفقهية
،وال من قبل المستشرقين الذين يتبعون المنهجية الفونولوجية الوضعية والتاريخية .فالخطاب
الشفهي تلفظ به النبي (ص)طيلة عشرين سنة وفي ظروف متغيرة ومختلفة وأمام جمهور
المستوى األول :في نظر محمد أركون مفهوم التراث أوسع وأشمل مما تم حصره في
الممارسة اإلسالمي ة من خالل النص القرآني والسني فقط بل سبق ذلك أحداث تم تهميشها
ورميها والتخلص منها ووضعها في ما اعتبر(الجاهلية وعصر الظلمات) أما التراث في
اعتقاد التقليديين هو بداية الوحي اإللهي وما سبقه من إرهاصات مهدت له تراث متعالي
مقدس ال يقبل التبدل وهنا يشمل هذا المستوى» التراث الجاهلي والتراث اإلسالمي «الذي
يتفرع هو اآلخر لقسمين "هذا يعني أنه يوجد في كل مكان من المجتمعات العربية
واإلسالمية تراثان مختلفان من حيث مكانتهما األنثروبولوجية ،هناك التراث األول الذي
احتقره اإلسالم بشدة ودعاه ب"الجاهلية" في الواقع هو عبارة عن الفكر المتوحش (بمعنى
ليفي ستراوس)والثقافة المتوحشة والممارسة المتوحشة للمجتمع العربي وخصوصا المجتمع
البدوي الذي ال يعرف الكتابة وال السلطة المركزية وال القانون المشترك وال اللغة الواحدة.1".
أما فيما يخص القسم الثاني من هذا المستوى التراثي "وهو التراث اإلسالمي الذي افتتحه
القرآن ودولة المدنية التي أسسها محمد (ص) فهو يستند على الكتابة بالمعنى المزدوج للكلمة
:أي أوال الكتابة بمعنى الكتابات المقدسة وثانيا الكتابة بمعنى التثبيت الخطي والحرفي للكالم
الشفهي هذا التثبيت الذي يؤدي إلى تشكيل األرشيف وانتصار الخط العقلي والكتابي إنه
يستند أيضا على القانون المجموع في المصحف وعلى اللغة العربية الرسمية والثقافة
الحضارية العالمية التي تنتجها وتسيطر عليها النخبة المرتبطة باستراتيجيات سلطة
الدولة .2".إ ْذ يصر محمد أركون على توسيع نطاق البحث وعدم حصر التراث اإلسالمي في
بداية كتابة الرسالة القرآنية وما جاء بعدها من نقل وتدوين ألنه قد تم إقصاء جزء مهم منه
تمثل في القراءات الشفهية بطريقة معتمدة ومقصودة من أجل أن يخدم هذا اإلجراء فكرة
التعالي والتقديس من خالل إضفاء التأليه على التراث اإلسالمي المشكل نهائيا الذي ال يقبل
النقاش في أحكامه وال التغيير في آرائه حتى يستطيع خدمة إيديولوجيات ومصالح ذاتية
المستوى الثاني :يرى محمد أركون أن األحداث التاريخية التي جاءت بعد وفاة النبي
محمد(ص)تناقض كليا التصور األحادي للتراث اإلسالمي الذي طرحته اإلسالميات
الكالسيكية ألن أحداث ما بعد النبي (ص) تؤكد على وجود بدايات أخرى عديدة أسست
لتراثات أخرى مختلفة بلورها تفاعل جديد مع القرآن والسنة وتجربة المدنية التي احتوت
التباين العرقي والثقافة السائدة في شبه الجزيرة العربية والبلدان المجاورة وهذا هو المستوى
التراثي الثاني الذي مثل»التراث الشامل « وهو عند محمد أركون " المعنى الشامل والكامل
والتعددي [للقرآن ] :أي بكل خطوطه واتجاهاته وليس فقط من خالل خط واحد يبتر ما
عداه " .1وهو تراث عبرت عنه فيما بعد األورتودوكسيات الثالثة الكبرى السنية والشيعية
والخوارج والتي تجلت نتيجة التباين اإليديولوجي والعرقي والمعروف عن هذه الفرق تشبثها
بأفكارها وإقصائها للحركات والمذاهب األخرى ولقد أهملت الدراسات اإلسالمية الكالسيكية
-1د :مبارك الحاميدي ،التراث وإشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي ،مرجع سابق.
282
هذا الجانب المهم من التراث العربي اإلسالمي الذي تم في فترة مابين القرن الثالث عشر
حتى القرن التاسع وبالتالي أهملت مرحلة زمنية كبيرة من مراحل التراث اإلسالمي لهذا
يرفض محمد أركون إقصاء ما يمثل عنده مكونات التراث اإلسالمي األساسية ويدعوا لضم
واحتواء كل ما عبر عن الفكر اإلسالمي دون بتر "وهو ما يعني تجاوز حالة التشظي التي
تمت بالتدرج منذ عصر التأسيس والعمل على إعادة توحيد التراث اإلسالمي والوعي به
ليصبح شامال لجميع مكوناته المذهبية والفقهية (سنة ،شيعة ،خوارج ،متصوفة...وغيرها
مستوعبا لكل تياراته الكالمية والفلسفية استبعدت أو همشت بسبب التوظيف االيديولوجي
واستراتيجيات السلطة واالعتقاد األورتودوكسي بأن دين هللا الصحيح ال يمكن أن ينتج إال
تراث واحد مطابقا له .1".هذا ما كان محمد أركون يلمح له كثي ار في خطاباته ويدعوه
باستمرار عندما ينطلق في وصف الحالة اإلسالمية ودراسة أسباب األزمة الفكرية اإلسالمية
بالدوغمائية التي أعجزت العقل اإلسالمي ووصل إليها الفكر اإلسالمي بواسطة اعتقادات
المذاهب واالتجاهات التي بلورت التراث اإلسالمي في هذا التصور المنغلق ووقفت في وجه
المحاوالت التي أرادت االجتهاد في التأويل والتفسير بطريقة حديثة.
المستوى الثالث :يحاول محمد أركون أن يقرب التراث الديني اإلسالمي من التراث اإلغريقي
من أجل تبرير ميله للمناهج الغربية التي سعى بواسطتها في البحث في التراث اإلسالمي
الذي هو "جزء من التراث اإلغريقي – السامي وليس من أي تراث معرفي آخر بهذا المعنى
فإن اإلسالم ينتمي إلى الغرب ال إلى الشرق على عكس ما يتوهم الكثيرون فال عالقة للدين
اإلسالمي بأديان الشرق األقصى كالهندوسية والبوذية مثال هذا في حين أن عالقته أكثر
واضحة بأديان الكتاب أي " باليهودية والمسيحية " وال يكتفي أركون باالستناد إلى تحليل
العناصر العقائدية الرمزية...بل يضيف إليها العامل الجغرافي ،يقول أركون في صيغة
استفهامية إنكارية» هل فلسطين وسوريا وتركيا وتونس والجزائر والمغرب ،شرق؟ الشرق
يبتدئ بعد أفغانستان مباشرة وليس قبله .2".لذا فأركون يعتقد بانتماء التراث اإلسالمي للتراث
اإلغريقي اليوناني حيث يرى أن اإلسالم جزء من الغرب وليس من الشرق وهذا ما يفسر
-1المرجع نفسه،ص.106،107
-2امباركحاميدي،مرجع سابق،ص.107
283
توافق الدين اإلسالمي مع الديانات السماوية األخرى والعالقة التي تربط هذه األديان مع
بعضها وهذا ما يوحي بوجود روابط تاريخية حقيقية في األصول األولى ما يترتب عنه
إمكانية تطبيق نفس المناهج التي تمت على المسيحية والتراث المسيحي على الدين
اإلسالمي والتراث اإلسالمي ويفسر محمد أركون هذا بقوله " إن القطيعة التي حصلت داخل
اإلسالم ذاته ثم بين اإلسالم وبين أوربا الحديثة فيما بعد هي التي حجبت عنا رؤية تلك
االستم اررية الروحية والفكرية العميقة للفضاء اإلغريقي السامي وهي التي حجبت عنا وحدته
وتشابك عالقته الوثيقة.1".
القطيعة هنا يريد بها محمد أركون إثبات وجود وتأثير الفكر األرتودوكسي الالهوتي الذي
أسر العقل اإلسالمي وأغلق عليه في سياج ال يسمح له بالتفاعل واالنسجام مع الحضارات
األخرى وهو المسؤول عن الوقوف بين التراث الديني اإلسالمي وبين التفكير األوربي الغربي
لذا فهو بذلك يحمل مسؤولية التخلف واالنغالق على الذات للفكر الالهوتي .
المستوى الرابع :وهو» التراث الحي « الذي ينشأ من شعور األجيال المسلمة وتعاقبها
باالنتماء والتبعية لمجتمعاتها اإلسالمية بصورة مستمرة بما يتفق مع نسقها وطبيعتها .فهو
يشمل كل ما أ نتج من تعابير حية وعادات وتقاليد توارثت بأساليب مختلفة شفهية وكتابية
نتيجة التفاعل مع النصوص المنتهية التشكيل كالقرآن وكتب الحديث وكتب الفقه والتفسير
أي" هو الوعي المتشكل ببطئ على مدى أجيال المسلمين المتعاقبة وذلك بفعل المدونات
الرسمية المغلقة كالمصحف وكتب الحديث النبوي والتفاسير ...وغيرها .هذا الوعي الذي
يجعل المؤمن يشعر كلما تال آية أو حديثا ، ...معاص ار لجميع المسلمين األحياء وكذلك لكل
األجيال التي نقلت هذا التراث وعاشته منذ تأسيسه ...ويحدث ذلك التواصل دون شعور
بالتمييز بين استم اررية االعتقاد من جهة والقطيعة اإلبستيمولوجية والمعنوية الحاصلة حتما
كلما تغيرت الشروط التاريخية للجماعة المؤمنة .2".غير أن محمد أركون يلح على إحداث
القطيعة اإلبستيمولوجية مع هذا المستوى الذي يوسع من دائرة االنغالق الفكري ويمنع
ومن أجل هذا كله يلح محمد أركون على إعادة تقييم الشكل والمضمون للتراث اإلسالمي
ألن كل المضامين المعرفية والمفاهيم األساسية التي أسست له أصبحت معروفة بفضل
الدراسة العلمية التي تضفي المصداقية على التراث وتخلصه من الشوائب الخرافية التي
علقت به على مدار العصور الغابرة وهذا ال يتم إال بتجاوز األسلوب الذي اعتمدته
اإلسالميات الكالسيكية وتجاوز الالهوت األرتودوكسي والحقائق المطلقة وبالتحلي بشجاعة
كبيرة دون تردد لتناول التراث اإلسالمي كله بالمنهج النقدي بما فيه النصوص الدينية
المقدسة التي ألفت العزلة وهذا أيضا يتم بواسطة اعتماد مناهج البحث والتحليل الحديثة
التي تعتمدها العلوم االجتماعية والعلوم اإلنسانية واستعمال أدوات العلوم المعاصرة
كاألركيولوجيا واألنتروبولوجيا والسيوسيولوجيا واأللسنية إ ْذ يؤكد أركون" :أن العولمة كمرحلة
تاريخية جديدة من مراحل الفكر تفتح ألول مرة المجال من أجل المقارنة بين أنظمة الحقيقة
التي سيطرت على البشر عبر التاريخ وهي إذ تفعل ذلك تخضع كل نظام إلى منهجية الحفر
األركيولوجي العميق من أجل الكشف عن البنايات التحتية المدفونة التي أثبتت عليها
الحقائق السط حية الظاهرة وهذه المرة ال يمكن استثناء أي نظام من أنظمة الحقيقة بحجة أنه
إلهي منزل وغيره بشري زائل أو دنيوي عرضي..ال..فجميع التراثات الدينية سوف تخضع
لمنهجية النقد التاريخي ...وإذا كان هناك نظام للحقيقة فسيجبر ال محالة عن أن يحدد بيانه
وبراهينه وتأصيله.1".
نستنتج مما سبق الجرأة التي تحلى بها محمد أركون في مشروعه الذي أطلقه على
دراسة التراث اإلسالمي بواسطة منهجية اإلسالميات التطبيقية وما احتوته تلك المناهج من
أدوات علمية معاصرة وإتّباع لمناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية الحديثة دون تردد أو خوف
والسير قدما ف ي ذلك بخطى ثابتة ترتكز على قواعد معرفية دقيقة وتستنتج الحقائق الصحيحة
بكل موضوعية وهذا ال يتم طبعا إال إذا تفتحت المجتمعات العربية اإلسالمية على مختلف
286
الخاتمة
خاتمة:
يفسر محمد أركون عدم تفاعل العقل اإلسالمي والعربي مع ما نقلته األديان السماوية
ومع ما قدمته الحداثة إلى عدم انتباهه للمعارف التي وصل اليها ،ألن التفكير الالهوتي في
مختلف المجتمعات لم يسمح بذلك وخاصة ما تعلق بدراسة التراث الديني وبالتحديد التراث
اإلسالمي والقرآني ،إذ يؤكد محمد أركون أن الحرية الفكرية قد تجلت في القرون الهجرية
الثالث األولى حيث تكون الفكر اإلسالمي من خالل التعددية الفكرية التي تمثلت في ظهور
المذاهب والفرق واختالفها والصراع الذي ميزها رغم أنها تمكنت من التعايش وااللتزام
287
باالحترام والمناقشة دون عنف إال أنها انطلقت كلها من مسلمات فكرية واحدة على الرغم من
تباينها.
لذا يرى محمد أركون أن العقل اإلسالمي عقل تاريخي له بداية تمثلت في رسالة
الشافعي التي وضعت األحكام الشرعية واألصول الدينية التي قام عليها الفقه فيما بعد
والزالت تلك األحكام واألصول لحد الساعة وحدها من تقدم التفاسير والتأويالت للنصوص
واألحداث ،لذا فلقد اشتغل العقل اإلسالمي حسب أركون لغاية هذه اللحظة في إطار المعرفة
الجاهزة األمر الذي يدفعنا للتفكير في التاريخ اإلسالمي والعربي كما قام بذلك تماما الفكر
الغربي في أوربا بعد عصر األنوار في القرن18بعد تحرير العقل من قيود المدارس
السكوالئية التي فرضتها الكنيسة ،لتقف على جميع انتاجات العقل كما يفعل الفقهاء في
الفكر اإلسالمي حتى تضع حدودا ال يمكنه تجاوزها ،وهذا حسب محمد أركون ينتمى
للممارسة السياسية من خالل استعمال هذا العقل الديني في التوجيه والتسيير ولكن بعد
عصر األنوار أصبح الفكر متحر ار تماما منها واستطاع قراءة التراث الديني والتفكر فيه.
هنا يطرح علينا محمد أركون مفهوم جديد هو الظاهرة الدينية حيث يرى أن الدين
اإلسالمي حدث تاريخي ال يمكن للعقل اإلسالمي العربي دراسته أو تقديمه في المدارس
والمؤسسات األكاديمية التعليمية المختلفة بما فيها التعليم العالي من دون وصول هذا العقل
للعلمانية التي لها تاريخ بعيد كعامل مؤثر ومتفاعل معه في مختلف مراحله لذا ال يمكن
االستغناء عنها واستبعادها دون معرفة ألصولها ومرجعياتها عبر العصور ،وحسب محمد
أركون لقد تجلت العلمانية بوضوح كبير من خالل الصراع القديم بين الفكر والدين ،الذي
يمثل لديه الفكر الدوغمائي الذي استمد قوته من الكتب وركبها تركيبا لتصبح بنية مغلقة
وواجه العقل بالرفض واالقصاء والعلمانية حسب اركون غير غريبة على المجتمعات
اإلسالمية والعربية خاصة وليست أيضا غريبة على المجتمعات الغربية ألنها هي من مثلت
الطرف الفكري في الصراع مع الدين منذ القدم وعند المسلمين والعرب تجلت في طرح
المعتزلة من قبل وظهرت أيضا في استخدام الدين لخدمة السلطة الحاكمة ما يفسر علمنة
الدين في تلك المراحل ولقد غرقت الدولة األموية أيضا في األفكار التي سيطرت على الدين
لذا فهو يرفض نهائيا فكرة اإلسالم دين ودولة أو دين ودنيا فالدولة في اإلسالم كما في
288
المسيحية ظاهرة دنيوية قبل أن تكون ظاهرة دينية وفكرة الدين دولة مثلت لوقت طويل
االكراهات التي سيطرت على العقل وحكمته واغلقت عليه نهائيا وحسب محمد أركون أن
تاريخ العلمانية في كل المجتمعات عموما وعند المسلمين والعرب بالخصوص مدرج بالدماء
منذ القدم و استمر ينزف من مرحلة ألخرى ليبين أن العقل واجهته آلة ايديولوجية عنيفة
قمعت حركته وأسرته لوقت طويل حتى بلغ مرحلة اليأس والتسليم وولد أزمة فكرية لحقت بها
محاوالت مستميتة في الفكر اإلسالمي والعربي لمالمسة العصر والتناغم معه ومسايرته إال
أنها اكتفت باالعتماد على ذلك في مشاكل التنمية والتحديث المادي لتندمج هذه المجتمعات
شيئا فشيئا في العلمانية ألنها واقع فرض نفسه منذ البداية وهذا ما يتضح في ظهور
الحركات الفكرية فيها وتعددها واختالفها فحتى الحركة األصولية في نظر محمد أركون مثلت
العلمانية بلغة دينية ألنها ال تجيد غيرها األمر الذي حول الدين ألفكار سياسية تتبناها
السلطة أحيانا والمعارضة أحيانا أخرى أو كالهما معا وبذلك فقد الدين ذلك البعد المتعالي
وهنا محمد أركون ال يقف ضد الدين بل يقف ضد استعمال الدين ألهداف خاصة ،وعليه
فالمسلمون عليهم أن يتخلصوا من قيود الدين القديمة ومن أجل ذلك يرى محمد أركون أن
العلمانية هي التي ستتحقق كمنهج ونظام بعد تحرير العقل وضمان الحقوق والقيم اإلنسانية
والتي ستمكن فيما بعد من تحقيق الحداثة المنشودة التي ستستمر بدورها في زعزعة الفكر
بطريقة متواصلة ألنها مشروع ليس له نهاية بل يتوسع ويكبر كلما تطور ألن الحداثة مفهوم
يعني تحديث المعارف وتجديدها والتفاعل المستمر مع مختلف عناصرها في مختلف
المجاالت والميادين ولقد وقف محمد أركون مباشرة أمام الذات اإلسالمية والعربية وخاصة
بالبحث في أسباب التراجع واألزمة الفكرية كما وقف على تردد العقل اإلسالمي والعربي أمام
الحداثة بسبب الموقف األصولي المتعلق باألفكار القومية ومسائل الهوية الذي همش وأقصى
العمل التاريخي واالجتماعي والنفسي والفنولوجي وحتى استطاع إبعاد التساؤل الفلسفي من
الدراسات اإلسالمية الذي يعتبره محمد أركون سببا مباش ار في توقف العقل اإلسالمي العربي
ودهشته ويقدم مفكرنا الحل الناجع لتجاوز هذا الوضع وهو العلمانية التي ستتمكن حسب رأيه
من بلوغ الحداثة ولقد احتلت العلمانية مكانة مركزية في مشروع محمد أركون في دراسة
العقل اإلسالمي من خالل النهج الذي قدمه المتمثل في اإلسالميات التطبيقية التي رأى أنها
289
ستقف أوال عند لحظة التجلي أو االكتشاف وستزيل الغموض على أسباب النزول والنصوص
الدينية وتناول العقل اإلسالمي انطالقا من بدايته ثم تحديد الروابط التي تأسست بعد تلك
اللحظة بين الدين والسياسة والدنيا ثم دراسة كل العوائق والقيود التي تولدت عبر كل المراحل
ولقد اجتهد محمد أركون كثي ار ولمدة طويلة في وضع مشروعه على العقل اإلسالمي الذي
يبين فيه ضرورة تطبيقه لتحقيق ونشر الحداثة في المجتمعات اإلسالمية والعربية إال أن
أعماله لم تلقى االهتمام المناسب والكافي عند المثقفين المسلمين مثلما حضيت به في الفكر
الغربي األوربي بل وأكثر من ذلك فلقد لقت أفكاره استنكار وانتقادا الذعا وخاصة من
األصوليين اإلسالميين بسبب أفكاره الجريئة لتناول المسكوت عنه أو الال مفكر فيه في الفكر
اإلسالمي وبسبب أيضا اعتماده على العلمانية التي وضعها كشرط أساسي للحداثة والتي
ترتسم مالمحها في موقف احرج الفكر األصولي واستفزه وهو فصل الدين عن الدولة ولقد
اتضحت معالم الحداثة من قبل في المجتمعات الغربية عند مفكري األنوار كأولوية الذات
التي حاولت استرداد دور االنسان في اكتشاف الحقائق واستبعاد المعطيات الدينية والعقائد
والسلطات كما تجلت في استعمال العقل الذي استطاع تفسير الغموض وتقديم اإلجابات التي
ترتبط باإلنسان ووجوده بعيدا عن األساطير والخرافات أما في المجال السياسي فلقد بدت
مظاهر الحداثة بداية بعد نزع القداسة عنها وفي الدولة الديموقراطية التي أتاحت الحرية
للجميع في اختيار الحكام والتي قامت على فصل الدين على الدولة ،أما في المجال
االقتصادي فلقد ظهرت الحداثة في تطور إنتاجية العمل اإلنساني وتحكمه في قوى الطبيعة
واإلنتاج ،أما على المستويين االجتماعي واألخالقي فلقد عبرت الحداثة عن قيم منفتحة
متفاعلة قائمة على التعددية الفكرية وقابلة للتغيير ومعيارية غير مطلقة ،ولقد درس محمد
أركون في مقابل هذا الطرح العلماني الحداثي الفكر اإلسالمي العربي وخاصة بعد تلك
المحاوالت المترددة بعد االستقالل فرأى أنها لم ترقى لمستوى الحداثة الحقيقية التي تشمل كل
المظاهر والمفاهيم التي سبق تقديمها بل اقتصرت على تحديث الجانب المادي الذي ظهر
في استوراد واستقدام المنتجات التقنية ولم تهتم فعليا باالستفادة وباستثمار المعطيات الذهنية
والفكرية التي قدمتها الحداثة في الغرب األوربي ليعود مرة أخرى أركون ليلح ويصر على نقد
العقل اإلسالمي العربي بكل ما يحمله من نصوص مقدسة وتراث ديني مزدحم وتحريره من
290
جميع االكراهات والقيود والغاء كل االحكام المطلقة والمسلمات والقوالب الجاهزة المنتهية
التشكيل وفي المقابل تقبل النقد والتفسير ومن أجل كل هذا يضع محمد أركون العلمانية
كمطلب ضروري ليتمكن الفكر اإلسالمي من تخليص نفسه من األسر بعد فرض احترام
حقوق االنسان وإرساء الحريات الفردية لتتمكن العلمانية من االنتشار في المجتمعات
اإلسالمية لتأخذ زعامة الفكر لتقوده لمسايرة ركب الحداثة كما ال يقف مشروع محمد أركون
عند العلمانية كأساس لتحقيق الحداثة وضرورة توطينها في المجتمعات اإلسالمية والعربية بل
يلح أيضا على احترام حقوق االنسان كشرط لتحقيق العلمانية والتي تصبح هي األخرى فيما
بعد شرط ضروري للحداثة .
فهرس املحتويات
-االهداء
-كلمة الشكر
291
-مقدمة ..............................................................................أ
الفصل األول:
-المبحث األول:
-المبحث الثاني:
الفصل الثاني:
-المبحث األول:
-المبحث الثاني:
الفصل الثالث:
-المبحث األول:
292
-األبعاد النظرية واإلجرائية للعلمانية في تصورات أركون180.............................
-المبحث الثاني:
* خاتمة 277..........................................................................
293