Amt AlDobameen Book

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 308

‫أمــة الــدوباميـن‬

‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفهرس‬

‫مقدمة املرتمجة ‪13.......................................................‬‬


‫املـقــدمــة ‪15...........................................................‬‬
‫اجلزء األول‪ :‬السعي وراء ال ّلذة ‪19.................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬أدوات عاداتنا الرسية‪20..................................‬‬
‫اجلانب املظلم للرأساملية ‪33........................................‬‬
‫اإلنرتنت والعدوى االجتامعية‪43............................... :‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬اهلروب من األمل ‪53.......................................‬‬
‫نقص العناية بالذات أم املرض النفيس؟‪67..........................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬توازن األمل – اللذة ‪73...................................‬‬
‫الدوبامني ‪74......................................................‬‬
‫اللذة واألمل متجاوران‪78.......................................... :‬‬
‫التحمل (التكيف العصبي) ‪82.....................................‬‬
‫الناس‪ ،‬األماكن‪ ،‬األشياء‪88........................................‬‬

‫‪5‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫التوازن ما هو إال جماز‪96...........................................‬‬


‫اجلزء الثاين‪ :‬جهاد النفس (إلزام الذات) ‪101...................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬صيام الدوبامني‪102......................................‬‬
‫البيانات ‪103......................................................‬‬
‫األهداف ‪105......................................................‬‬
‫املشاكل ‪106.......................................................‬‬
‫االمتناع ‪108.......................................................‬‬
‫اليقظة ‪114........................................................‬‬
‫البصرية ‪118.......................................................‬‬
‫اخلطوات التالية‪120................................................‬‬
‫التجربة‪121........................................................‬‬
‫الفصل اخلامس‪ :‬املكان‪ ،‬الزمان‪ ،‬املعني ‪125..............................‬‬
‫جهاد النفس املادي (الفضاء) ‪131..................................‬‬
‫جهاد النفس الزمني‪142............................................‬‬
‫جهاد النفس الفئوي‪154.......................................... :‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬امليزان املكسور ‪165....................................‬‬
‫األدوية الستعادة مستوى التوازن‪176...............................‬‬
‫اجلزء الثالث‪ :‬السعي وراء األمل ‪187..........................‬‬
‫‪6‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل السابع‪ :‬الضغط عىل جانب األمل‪ :‬حتفيز األمل ‪188..................‬‬


‫علم اهلرمونات ‪199.............................................‬‬
‫ماذا عن التامرين الرياضية؟ ‪202....................................‬‬
‫األمل لعالج األمل‪206............................................... :‬‬
‫إدمان األمل ‪216....................................................‬‬
‫إدمان العمل‪225...................................................‬‬
‫احلكم عىل األمل ‪227................................................‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬الصدق الصارم‪229......................................‬‬
‫الوعي ‪236........................................................‬‬
‫الصدق يعزز محيمية الروابط اإلنسانية‪244......................... :‬‬
‫السري الذاتية الصادقة ختلق املساءلة‪249............................ .‬‬
‫قول احلقيقة معدي‪ ..‬وكذلك الكذب‪257......................... .‬‬
‫قول احلقيقة كوقاية‪262........................................... :‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬الدعم االجتامعي للعار‪273..............................‬‬
‫العار املدمر ‪275...................................................‬‬
‫مدمنو الكحول املجهولون‪ :‬نموذج للدعم االجتامعي للعار ‪284.....‬‬
‫الدعم االجتامعي للعار واألبوة‪295............................... .‬‬

‫‪7‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫خامتة‪ :‬دروس يف التوازن‪303............................................‬‬


‫دروس التوازن‪307............................................... :‬‬
‫مالحظة املؤلفة ‪308.....................................................‬‬
‫املؤلفة يف سطور ‪309....................................................‬‬

‫‪8‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫إىل ماري‪ ،‬جيمس‪ ،‬إليزابيث‪ ،‬بيرت‪ ،‬والصغري لوكاس‬

‫‪11‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪12‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫مقدمة املرتمجة‬

‫متــر املجتمعــات اإلنســانية احلديثــة بمرحلــة ســيولة عبثيــة قــام برصدهــا‬


‫عــامل االجتــاع زيغمونــت باومــان منــذ عــام ‪ 2000‬يف كتابــه احلداثــة الســائلة‪،‬‬
‫وهــي مرحلــة يمكــن وصفهــا بخــروج املجتمعــات مــن املرحلــة الصلبــة أي‬
‫مرحلــة اإلنتــاج والتطــور املفــروض بوســاطة النظــام والســلطة‪ ،‬إىل الســيولة‬
‫التــي ترتاجــع فيهــا أدوار الســلطة والنظــام أمــام االقتصــاد احلر واالســتهالك‬
‫واالشــباع الفــوري واملؤقــت للرغبــات‪ ،‬إذ يمكــن القــول أن الطبيبة النفســية‬
‫ومؤلفــة أمــة الدوبامــن آنــا ليمبكــي‪ ،‬انطلقــت مــن حيــث أنتهــى باومــان‪،‬‬
‫مــن خــال رصــد وتفنيــد وتشــخيص األزمــات واالضطرابــات التــي يمــر‬
‫هبــا االنســان املعــارص‪.‬‬

‫تتنــاول ليمبكــي يف كتــاب أمــة الدوبامــن قضيــة حموريــة وإشــكالية‬


‫وهــي االســتهالك القهــري املفــرط املســبب لإلدمــان بكافــة أنواعــه‪ ،‬ســواء‬
‫اإلدمــان عــى تعاطــي املخــدرات أو اإلدمــان عــى ســلوكيات وترصفــات‬
‫ـرح بصــورة مركــزة جتمــع فيهــا بــن‬
‫قــد ال نشــعر هبــا‪ ،‬واســتطاعت أن تـ ّ‬
‫علــم األعصــاب احلديــث والطــب النفــي يف اطــار رسدي لقصــص واقعيــة‬
‫لبعــض مرضاهــا‪ ،‬هــذا باإلضافــة إىل اســتخدامها الســتعارات توضيحيــة‪،‬‬
‫جتعــل القــارئ قــادر ًا عــى فهــم الكيفيــة التــي يعمــل هبــا نظامنــا العصبــي قــي‬

‫‪13‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اســتقبال اخليــارات االســتهالكية التــي ال تنتهــي‪ ،‬مل تكــن آنــا ليمبكــي الطبيبة‬
‫النفســية املرموقــة بعيــدة عــن عــامل االســتهالك القهــري املفــرط‪ ،‬حيــث‬
‫اســتعرضت ســلوكها االدمــاين بمنتهــى الشــفافية املهنيــة لتقــدم رســالتها يف‬
‫الكتــاب وهــي أننــا مجيعـ ًا غــر حمصنــن ضــد االســتهالك القهــري املفــرط مــا‬
‫دمنــا بــر‪ ،‬ويمكــن القــول أن هــذه ســابقة أن يقــدم معالــج أو طبيــب نفــي‬
‫جتربتــه اخلاصــة عــى العلــن‪ ،‬حيــث كانــت تؤكــد يف فصــول كتاهبــا عــى أمهية‬
‫الصــدق الصــارم والدعــم االجتامعــي للعــار‪ ،‬كأســاليب أساســية لتحقيــق‬
‫التعــايف والشــفاء مــن أي ســلوك ادمــاين‪.‬‬

‫لقــد قــدم الكتــاب منهجـ ًا عالجيـ ًا متكامـ ً‬


‫ا قائـ ًا عــى جماهــدة النفــس‬
‫لتحقيــق التــوازن والتخلــص مــن االســتهالك القهــري املفــرط بطــرق‬
‫متنوعــة ســواء بالتدخــل العالجــي أو باألســطورة والرمــز أو باملعتقــدات‬
‫الدينيــة‪ ،‬ممــا جيعــل حمتــوى الكتــاب قابـ ً‬
‫ا للتطبيــق ســواء مــن قبــل املعاجلــن‬
‫أو األطبــاء أو الدارســن واملهتمــن بالتخلــص مــن أي ســلوك ادمــاين‪.‬‬

‫وأخــر ًا أمتنــى أن أكــون قــد وفقــت يف ترمجــة الكتــاب مــن اللغــة‬


‫اإلنجليزيــة وتقديمــه كإضافــة ثريــة للمكتبــة العربيــة‪.‬‬

‫علياء العمري‬

‫‪14‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املـقــدمــة‬

‫املشكلة‬

‫الشعور بالرضا‬

‫الشعور بالرضا‪ ،‬كل األموال‬

‫يف العامل أنفقت عىل الشعور اجليد‬

‫«ليفون هيلم»‬

‫يــدور هــذا الكتــاب حــول اللــذة‪ ،‬وهــو يف نفــس الوقــت كتــاب عــن‬
‫األمل‪ ،‬واألهــم مــن ذلــك أنــه يتنــاول العالقــة التــي تــدور حــول األمل واللــذة‬
‫والكيفيــة التــي يمكــن لنــا أن نفهــم هبــا كيــف أصبحــت هــذه العالقــة حمورية‬
‫للحيــاة اجليــدة؟‬

‫ملاذا؟‬

‫ألننــا حولنــا العــامل مــن فضــاء النــدرة إىل فضــاء الوفــرة اهلائلــة مــن‬

‫‪15‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الطعــام‪ ،‬واألخبــار‪ ،‬والتســوق‪ ،‬واملخــدرات‪ ،‬واملســكنات‪ ،‬واليوتيــوب‪،‬‬


‫واالنســتغرام‪ ،‬والفيــس بــوك‪ ،‬وتويــر‪ ،‬والرســائل النصيــة‪ .‬هنــاك طفــرة‬
‫متنوعــة مــن املحفــزات التــي تســتثري نظــام املكافــآت يف الدمــاغ‪ ،‬وهــي‬
‫تعمــل بشــكل مثــر للدهشــة‪ ،‬فاهلواتــف الذكيــة بمثابــة حقنــة حتــت اجللــد‬
‫تضــخ الدوبامــن الرقمــي عــى مــدى ‪ 7/24‬جليــل مرتبــط بشــبكة بــث‬
‫هوائيــة (‪ ،)wireless‬ويف حــال مل حتصــل عــى حقنتــك املناســبة يف خضــم‬
‫هــذه احلفلــة‪ ،‬فتأكــد مــن أنــك ســوف حتصــل عليهــا قريبـ ًا مــن خــال مواقــع‬
‫شــبكة اإلنرتنــت التــي تتصفحهــا‪.‬‬

‫يعــول العلــاء عــى الدوبامــن باعتبــاره عملــة عامليــة لقيــاس ميــول‬


‫الفــرد وقابليتــه إلدمــان أي خــرة‪ ،‬فكلــا زاد إنتــاج الدوبامــن يف مســار‬
‫املكافــآت يف الدمــاغ كانــت التجربــة أكثــر إدمانًــا‪ ،‬ويمكــن القــول‪ :‬إن‬
‫اكتشــاف الدوبامــن يف مســارات الدمــاغ يعــد أحــد أكثــر االكتشــافات‬
‫خصوصــا أن‬
‫ً‬ ‫املؤثــرة واهلامــة يف جمــال علــم األعصــاب يف القــرن املــايض‪،‬‬
‫الدمــاغ يقــوم بمعاجلــة اللــذة واألمل بنفــس املــكان‪ ،‬هــذا باإلضافــة إىل أن ك ً‬
‫ال‬
‫منهــا يعمــل بشــكل معاكــس لتحقيــق التــوازن‪.‬‬

‫لقــد جربنــا مجي ًعــا تلــك اللحظــة التــي نتــوق فيهــا إىل قطعــة ثانيــة مــن‬
‫الشــوكوالتة‪ ،‬أو الرغبــة يف املحافظــة عــى اســتمرارية املتعــة التــي حققناهــا‬
‫مــن قــراءة كتــاب جيــد‪ ،‬أو مشــاهدة فيلــم ممتــع أو لعبــة فيديــو محاســية‪ ،‬تلــك‬
‫اللحظــات التــي نشــعر فيهــا باخلــواء بعــد انتهــاء الســعادة املحققــة‪ ،‬فهــي‬

‫‪16‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫متثــل حلظــة تــوازن اللــذة يف الدمــاغ التــي عــادة مــا متيــل إىل األمل(‪ ،)1‬حمدثــة‬
‫ذلــك اخلــواء والفــراغ الــذي يدعونــا إىل احلصــول عــى املزيــد مــن اللــذة‪.‬‬

‫هيــدف هــذا الكتــاب إىل فــك برجمــة علــم أعصــاب املكافــآت واملنــح‬
‫الدماغيــة التــي متكننــا مــن إجيــاد التــوازن بــن اللــذة واألمل‪ ،‬إال أن علــم‬
‫األعصــاب وحــده ال يكفــي‪ ،‬فنحــن حمتاجــون إىل التجــارب اإلنســانية‬
‫احليــة‪ ،‬والواقعيــة جــد ًا‪ ،‬تلــك التــي نســتطيع أن نتعلــم منهــا كيفيــة التغلــب‬
‫عــى االســتهالك القهــري املفــرط‪ ،‬ولــن يتســنى لنــا ذلــك إال بواســطة أكثــر‬
‫األشــخاص عرضــ ًة لــه‪ ،‬ومعانــا ًة منــه‪ ،‬وهــم األشــخاص املدمنــون‪.‬‬

‫إن هــذا الكتــاب يرتكــز عــى قصــص حقيقيــة لبعــض املــرىض الذيــن‬
‫وقعــوا فريســة لإلدمــان‪ ،‬إال أهنــم متكنــوا مــن اخلــروج مــن دائرتــه‪ ،‬لقــد‬
‫ســمحوا يل أن أقــدم قصصهــم لتســتفيدوا مــن حكمتهــم‪ ،‬كــا اســتفدت أنــا‪.‬‬
‫مــن املحتمــل أن جتــدوا بعــض هــذه القصــص صادمــة‪ ،‬ولكــن بالنســبة يل‬
‫كطبيبــة نفســية‪ ،‬أعتربهــا إصــدارات متطرفــة ملــا نحــن قــادرون عــى فعلــه‬
‫ومل نفعلــه‪ .‬وأستشــهد هنــا بمقولــة الفيلســوف الثيولوجــي كينــت دانينغتــون‬
‫«إن األشــخاص الذيــن يعانــون مــن اإلدمــان الشــديد يمكــن اعتبارهــم‬

‫((( عندمــا يميــل تــوازن اللــذة واألمل إىل جانــب األمل بعــد جتربــة املتعــة‪ ،‬فــإن هــذا األمل يتــم‬
‫اختبــاره شــخص ًيا عــى أنــه عــدد مــن األشــياء املختلفــة‪ ،‬هــو شــعور ذايت بعــدم االرتيــاح‪،‬‬
‫والقلــق‪ ،‬ورسعــة االنفعــال‪ ،‬وعــدم الســعادة والرغبــة يف إعــادة خلــق الشــعور باملتعــة‪ .‬وأن نكــون‬
‫منهمكــن بالقضــاء عــى جتربــة األمل التــي نشــعر هبــا يف أعقــاب ذلــك ‪.‬إنــه انعــكايس للغايــة‪ ،‬ويف‬
‫نفــس الوقــت ُيعــد خف ًيــا وغــر مــدرك‪ ،‬فــا نشــعر بــه هــو االشــتهاء‪ ،‬ومــا ندركــه فقــط هــو رغبتنــا‬
‫يف احلصــول عــى قطعــة شــوكوالتة أخــرى (املرتمجــة)‬

‫‪17‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف مصــاف األنبيــاء(‪ )1‬املعارصيــن الذيــن نتجاهلهــم إىل يــوم فنائنــا؛ ألهنــم‬
‫قــادرون عــى جعلنــا نــدرك مــن نكــون؟ ومــا هــي حقيقتنــا؟»‬

‫ســواء كان األمــر متعلقـ ًا باســتهالك الســكر‪ ،‬أو التســوق‪ ،‬أو اختــاس‬
‫النظــر‪ ،‬أو التدخــن اإللكــروين‪ ،‬أو وســائل التواصــل االجتامعــي‪ ،‬أو حتــى‬
‫مطالعــة صحيفــة الواشــنطن بوســت‪ ،‬فجميعنــا ننخــرط يف ســلوكيات نتمنى‬
‫أال نقــدم عليهــا‪ ،‬أو نتأســف عــى فعلهــا‪ .‬وهــذا الكتــاب يقــدم حلــوال عملية‬
‫لكيفيــة إدارة االســتهالك القهــري املفــرط‪ ،‬يف عــامل أصبــح االســتهالك هــو‬
‫الدافــع الــذي حيــارص حياتنــا‪ .‬اخلالصــة‪ :‬أن رس احلصــول عــى التــوازن‬
‫ـت‬
‫ينطــوي عــى اجلمــع بــن علــم الرغبــة وحكمــة التعــايف‪ .‬وهــو مــا حرصـ ُ‬
‫عــى تقديمــه يف هــذا الكتــاب‪.‬‬

‫((( قــدم دانينغتــون يف كتابــه »‪ «Addiction and Virtue, 2011‬هــذه العبــارة حيــث يزعــم فيهــا‬
‫أن املدمنــن أنبيــاء‪ ،‬يف إشــارة إىل انتقــاد الكنيســة للمدمنــن عــى أهنــم مذنبــون‪ ،‬وأن اإلدمــان‬
‫خطيئــة‪ ،‬ويزعــم دانينغتــون أن رحلــة اإلدمــان والتعــايف منــه جتربــة تعــود بالنفــع عــى البرشيــة؛ ملــا‬
‫تقدمــه مــن فهــم عميــق لفلســفة اإلدمــان عــى املســتوى اإلنســاين (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجلزء األول‬

‫السعي وراء ال ّلذة‬

‫‪19‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الفصل األول‬
‫أدوات عاداتنا الرسية‬

‫ذهبــت إللقــاء التحيــة عــى جاكــوب يف غرفــة االنتظــار‪ .‬كان االنطبــاع‬


‫املبدئــي عنــه أنــه شــخص لطيــف‪ .‬يف أوائــل الســتينات مــن عمــره‪ ،‬ومتوســط‬
‫الــوزن‪ ،‬وحيمــل وجهــه مالمــح رقيقــة‪ ،‬ويتمتــع بقــدر مــن الوســامة‪ ،‬يبــدو‬
‫أنــه يتقــدم يف العمــر بشــكل جيــد‪ ،‬كان حينهــا يرتــدي الــزي الرســمي‬
‫وقميصــا حتت ًيــا غــر رســمي‬
‫ً‬ ‫ملوظفــي وادي الســليكون ذا اللــون الكاكــي‪،‬‬
‫بــأزرار‪ .‬مل ِ‬
‫تــش مالحمــه بــأي يشء غــر عــادي‪ ،‬أو مــا يمكــن اعتبــاره أنــه‬
‫أرسارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫شــخصية حتمــل‬

‫بينــا تبعنــي جاكــوب عــر متاهــة املمــرات القصــرة املتجهــة نحــو‬


‫مكتبــي‪ ،‬كنــت أشــعر بالقلــق الــذي يعرتيــه كاألمــواج املتالطمــة خلــف‬
‫ظهــري‪ .‬عــادت ذاكــريت إىل الوقــت الــذي كنــت أشــعر فيــه بالتوتــر‬
‫حينــا كنــت أمــي أمــام املــرىض‪ ،‬ونحــن متوجهــون إىل مكتبــي‪ ،‬وكانــت‬
‫تــدور هــذه األســئلة يف خميلتــي‪ ،‬هــل أمــي برسعــة كبــرة؟ هــل أردايف‬
‫تتأرجحــان؟ هــل تبــدو مؤخــريت مضحكــة؟ أعــرف بأننــي النســخة املقاتلــة‬
‫مــن ذايت الســابقة‪ ،‬أكثــر رواقيــة‪ ،‬وربــا أكثــر ال مبــاالة‪ .‬هــل كنــت حينهــا‬
‫طبيبــة أفضــل عندمــا كنــت أعــرف أقــل وأشــعر أكثــر؟‬

‫‪20‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫وصلنــا إىل مكتبــي وأغلقــت البــاب خلفــه‪ .‬بلطــف‪ ،‬عرضــت عليه أحد‬
‫الكرســيني املتشــاهبني‪ ،‬املتســاويني يف االرتفــاع‪ ،‬بمســافة قدمــن‪ ،‬ومب َّطنــن‬
‫باللــون األخــر‪ ،‬مــن تلــك الكــرايس املخصصــة للجلســات العالجيــة‪،‬‬
‫جلــس ومــن ثــم جلســت أنــا‪ ،‬وبــدأت عينــاه تتجــوالن يف مكتبــي‪.‬‬

‫تبلــغ مســاحة مكتبــي عــرة يف أربعــة عــر قد ًمــا‪ ،‬وبــه نافذتــان‪،‬‬


‫وطاولــة مكتــب وجهــاز كمبيوتــر‪ ،‬وخزانــة جانبيــة مغطــاة بالكتــب‪،‬‬
‫وطاولــة منخفضــة بــن الكــرايس‪ .‬املكتــب واخلزانــة اجلانبيــة والطاولــة‬
‫املنخفضــة ُصنعــت مــن اخلشــب البنــي املائــل للحمــرة املتناســقة األلــوان‪.‬‬
‫طاولــة املكتــب بســيطة‪ ،‬وهــي كانــت لرئيــس القســم الســابق‪ ،‬واســتلمته من‬
‫بعــده‪ .‬وكانــت متصدعــة يف املنتصــف مــن الداخــل‪ ،‬بصــورة غــر ظاهــرة‪،‬‬
‫ويمكــن اعتبــار هــذا التصــدع اســتعارة مناســبة للعمــل الــذي أقــوم بــه‪.‬‬

‫يوجــد عــى ســطح املكتــب عــرة أكــوام منفصلــة مــن الــورق حماذيــة‬
‫لبعضهــا بعضـ ًا مثــل األكورديــون‪ .‬قيــل يل‪ :‬إن هــذا يضفــي مظهـ ًـرا يــدل عــى‬
‫الكفــاءة والتنظيــم‪ ،‬ديكــور احلائــط خليــط من الشــهادات املطلوبــة‪ ،‬معظمها‬
‫دون إطــار‪ .‬أنــا كســولة جــدً ا‪ .‬ويوجــد رســم لقــط وجدتــه يف قاممــة جــاريت‪،‬‬
‫وكنــت قــد أخذتــه حتــى أســتفيد مــن اإلطــار‪ ،‬ولكنــي احتفظــت بــه مــن‬
‫أجــل القــط‪ .‬نســيج متعــدد األلــوان ألطفــال يلعبــون حــول الباغــودات(‪،)1‬‬
‫تعــود للفــرة التــي كنــت أقــوم فيهــا بتدريــس اللغــة اإلنجليزيــة يف الصــن‬
‫يف العرشينــات مــن عمــري‪ .‬يوجــد يف النســيج بقعــة قهــوة‪ ،‬لكنهــا ال تظهــر‬

‫((( مبنــى دينــي عــى هيئــة بــرج لــه طوابــق متعــددة‪ ،‬متــارس فيــه الطقــوس البوذيــة‪ ،‬وهــو يعــد مــن‬
‫أشــكال العــارة الســائدة يف رشق آســيا (املرتمجة)‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بوضــوح‪ ،‬إال إذا كنــت تعــرف مــا تبحــث عنــه‪ ،‬فهــي حتمــل غمــوض اختبــار‬
‫رورشــاخ‪.‬‬

‫عــى احلائــط جمموعــة كبــرة مــن التحــف واهلدايــا الصغــرة املتنوعــة‪،‬‬


‫معظمهــا هدايــا مــن املــرىض والطــاب‪ .‬هنــاك كتــب‪ ،‬قصائــد‪ ،‬مقــاالت‪،‬‬
‫أعــال فنيــة‪ ،‬بطاقــات بريديــة‪ ،‬بطاقــات أعيــاد‪ ،‬رســائل‪ ،‬رســوم متحركــة‪.‬‬
‫أعطــاين أحــد املــرىض ‪-‬وهــو فنــان وموســيقي موهــوب‪ -‬صــورة‬
‫فوتوغرافيــة التقطهــا جلــر البوابــة الذهبيــة مغطــاة بمالحظاتــه املوســيقية‬
‫املرســومة باليــد‪ .‬مل يعــد لديــه ميــول انتحاريــة عندمــا فعــل ذلــك‪ ،‬لكنهــا‬
‫صــورة حزينــة‪ ،‬كلهــا رماديــة وســوداء‪ .‬مريضــة أخــرى ‪-‬وهــي امــرأة مجيلــة‬
‫وشــابة إال أهنــا تشــعر باحلــرج مــن جتاعيــد وجههــا التــي ال يالحظهــا أحــد‬
‫ســواها وال يســتطيع البوتكــس التخفيــف منهــا‪ -‬أعطتنــي إبريــق مــاء مــن‬
‫الطــن كبــر ًا بــا يكفــي خلدمــة عــرة أشــخاص‪.‬‬

‫عــى يســار جهــاز الكمبيوتــر‪ ،‬أحتفــظ بنســخة صغــرة مــن ســوداوية‬


‫آلربخــت دورر‪ ،‬جتســد اللوحــة «ميالنخوليــا»‪ ،‬امــرأة جتلــس عــى مقعــد‬
‫حماطــة بــأدوات الصناعــة املهملــة والزمــن‪ :‬فرجــار‪ ،‬ميــزان‪ ،‬ســاعة رمليــة‪،‬‬
‫مطرقــة‪ .‬يظهــر بــروز أضــاع كلبهــا اجلائــع مــن شــدة اهلــزال‪ ،‬ينتظــر عب ًثــا‬
‫وبصــر أن توقــظ نفســها‪.‬‬

‫عــى يمــن جهــاز الكمبيوتــر‪ ،‬لــدي مــاك مــن الطــن يبلــغ طوهلــا مخس‬
‫بوصــات بأجنحــة مصنوعــة مــن األســاك‪ ،‬متتــد ذراعاهــا نحــو الســاء‪،‬‬
‫نُقشــت كلمــة الشــجاعة عنــد قدميهــا‪ .‬إهنــا هديــة مــن زميلــة كانــت تقــوم‬
‫بتنظيــف مكتبهــا‪ ،‬بقايــا مــاك‪ ،‬ســوف آخــذه‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫أنــا ممتنــة هلــذه الغرفــة‪ .‬هنــا أشــعر بانقطاعــي عــن الزمــن‪ ،‬فأنــا موجــودة‬
‫يف عــامل مــن األرسار واألحــام‪ .‬ولكــن هــذا الفضــاء غالبـ ًا مــا يشــوبه احلــزن‬
‫والشــوق‪ .‬عندمــا خيــرج مرضــاي مــن حتــت رعايتــي‪ ،‬متنعنــي احلــدود املهنيــة‬
‫مــن االتصــال هبــم‪ .‬بقــدر مــا تكــون عالقاتنــا حقيقيــة داخــل مكتبــي‪ ،‬فإنــه ال‬
‫يكتــب هلــا أن توجــد خــارج هــذا الفضــاء املؤطــر‪ .‬يف حــال قابلــت مرضــاي‬
‫يف الســوق‪ ،‬فأنــا أتــردد حتــى يف قــول مرح ًبــا لئــا أعلــن نفــي إنســانًا لــه‬
‫احتياجــات خاصــة بــه‪ ،‬وهــذا مــا يثــر انزعاجــي‪.‬‬

‫منــذ ســنوات‪ ،‬عندمــا كنــت أتــدرب كطبيبــة مقيمــة يف الطــب النفــي‪،‬‬


‫صادفــت مــرف العــاج النفــي خــارج مكتبــه ألول مــرة‪ ،‬وهــو خيــرج‬
‫مــن متجــر مرتد ًيــا معطف ـ ًا واقي ـ ًا مــن املطــر وقبعــة عــى طــراز فيلــم إنديانــا‬
‫جونــز‪ .‬لقــد بــدا وكأنــه خــرج للتــو مــن غــاف كتالــوج جــي بيرتمــان‪.‬‬

‫كانــت التجربــة متناقضــة‪ .‬لقــد شــاركته العديــد مــن التفاصيــل احلميمة‬


‫عــن حيــايت اخلاصــة يف الســابق‪ ،‬وقــد نصحنــي كــا لــو كان ينصــح أحــد‬
‫مرضــاه‪ .‬مل أتوقــع أنــه حمــب للقبعــات‪ .‬بالنســبة يل‪ ،‬كنــت منهمكــة بمظهــره‬
‫اخلارجــي الــذي يتعــارض مــع تصــوري ملظهــره املثــايل‪ ،‬ولكــن األهــم مــن‬
‫ذلــك كلــه‪ ،‬أنــه جعلنــي أدرك مــدى االنزعــاج الــذي قــد يشــعر بــه مرضــاي‬
‫عنــد رؤيتــي خــارج مكتبــي‪.‬‬

‫ـدأت‪« :‬بــاذا يمكننــي مســاعدتك؟» أو بطريقــة‬


‫ـت إىل جاكــوب وبـ ُ‬
‫التفـ ُّ‬
‫أخــرى طورهتــا مــع الوقــت‪« :‬أخــرين ملــاذا أنــت هنــا؟»‪« ،‬مــا الــذي جــاء‬
‫بــك اليــوم؟» أو حتــى «ابــدأ مــن البدايــة‪ ،‬أينــا كان ذلــك مناســب ًا لــك»‪.‬‬
‫نظــر إ ّيل جاكــوب‪ .‬ثــم قــال بلكنــة أوروبيــة رشقيــة ثقيلــة‪« :‬كنــت آمــل أن‬

‫‪23‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫تكــوين رج ـاً»‪ .‬علمــت حينهــا أننــا ســنتحدث عــن اجلنــس‪« .‬ملــاذا؟» وأنــا‬
‫أســأل‪ ،‬متظاهــرة باجلهــل‪« .‬ألنــه قــد يكــون مــن الصعــب عليــك كامــرأة‪ ،‬أن‬
‫تســتمعي ملشــاكيل»‪« .‬يمكننــي أن أؤكــد لــك أننــي ســمعت كل يشء تقريبــا‬
‫«لــدي‬
‫ّ‬ ‫يمكــن ســاعه»‪« .‬إذن كــا تريــن» تلعثــم‪ ،‬وهــو ينظــر إ ّيل بخجــل‪:‬‬
‫إدمــان عــى اجلنــس»‪ .‬أومــأت بــرأيس وكنــت ســاكنة يف مقعــدي‪« :‬تابــع‪.»...‬‬

‫كل مريــض عبــارة عــن طــرد غــر مفتــوح‪ ،‬روايــة غــر مقــروءة‪ ،‬أرض‬
‫غــر مستكشــفة‪ .‬وصــف يل أحــد املــرىض ذات مــرة كيــف يكــون شــعور‬
‫الشــخص حــن يتســلق الصخــور‪ ،‬عندمــا يكــون يف مواجهــة احلائــط‪ ،‬ال‬
‫يوجــد يشء ســوى صخــور ال حــدود هلــا يف مواجهــة قــرار حمــدود وهــو‬
‫التفكــر يف اخلطــوة التاليــة‪ ،‬يف املــكان الــذي ســيضع فيــه كل يــد وكل قدم‪ .‬ال‬
‫ختتلــف ممارســة العــاج النفــي عــن تســلق الصخــور‪ .‬أغــوص يف القصــة‪،‬‬
‫ويف الــرد وإعــادة الروايــة‪ ،‬ويســقط الباقــي بعيــد ًا‪ ،‬لقــد ســمعت العديــد‬
‫مــن الروايــات املختلفــة والصادمــة يف رسد املعانــاة اإلنســانية‪ ،‬لكــن قصــة‬
‫جاكــوب صدمتنــي‪ .‬أكثــر مــا أزعجنــي هــو مــا تعنيــه قصــة جاكــوب ضمن ًيــا‬
‫عــن العــامل الــذي نعيــش فيــه اآلن‪ ،‬العــامل الــذي ســوف نرتكــه ألطفالنــا‪.‬‬

‫بــدأ جاكــوب حيكــي مــن ذاكــرة الطفولــة‪ ،‬انطلــق بــدون مقدمــات‪،‬‬


‫ســيفخر فرويــد بذلــك لــو كان عــى قيــد احليــاة‪.‬‬

‫«أول مــرة مارســت العــادة الرسيــة عندمــا كان عمــري عامــن أو ثالثة»‬
‫قــال ذلــك والذكــرى حيــة بالنســبة لــه‪ ،‬أســتطيع رؤيتهــا عــى وجهه‪.‬‬

‫« أنــا عــى ســطح القمــر» ثــم أكمــل «ولكــن ليــس القمــر احلقيقــي‪ .‬كان‬

‫‪24‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫هنــاك شــخص مثــل اإللــه‪ ..‬لقــد حصلــت عــى جتربــة جنســية ال أعــرف‬
‫ماهيتهــا‪.»...‬‬

‫لقــد اعتــرت القمــر معنــى لــيء يمثــل اهلاويــة‪ ،‬الالمســتقر‪ ،‬الالمــكان‬


‫ويف كل مــكان يف نفــس الوقــت‪ .‬ولكــن مــاذا عــن اإللــه؟ ألســنا مجي ًعــا نتــوق‬
‫إىل يشء يتجــاوز أنفســنا؟‬

‫تلميــذا يف املدرســة‪ ،‬كان حا ًملــا‪ :‬أزرار غــر‬


‫ً‬ ‫حــن كان جاكــوب‬
‫متناســقة‪ ،‬طباشــر عــى يــده وعــى أكاممــه‪ ،‬األول يف النظــر خــارج النافــذة‬
‫أثنــاء الــدرس‪ ،‬واألخــر يف مغــادرة الفصــل هنايــة اليــوم‪ .‬لقــد مــارس العــادة‬
‫الرسيــة بانتظــام يف عمــر الثامنــة‪ .‬أحيانــ ًا وحــده‪ ،‬وأحيانــ ًا مــع صديقــه‬
‫املقــرب‪ .‬مل يتعلــا حينهــا الشــعور باخلجــل والعــار‪.‬‬

‫بعــد املناولــة األوىل(‪ ،)1‬اختلــف األمــر عليــه‪ ،‬حيــث أدرك حينهــا بــأن‬
‫العــادة الرسيــة تعــد «خطيئــة مهلكــة» ومنــذ ذلــك الوقــت‪ ،‬أصبــح يامرســها‬
‫وحــده‪ ،‬وأصبــح يــزور الكنيســة الكاثوليكيــة املحليــة لعائلتــه كل يــوم مجعــة‬
‫ليعــرف للقــس‪.‬‬

‫هامسا للقس من خالل شيش نافذة االعرتاف‪:‬‬


‫ً‬
‫« لقد مارست العادة الرسية»‪.‬‬

‫القس يسأل‪ »:‬كم مرة؟»‬

‫((( طقــس احتفــايل كاثوليكــي لــدى الديانة املســيح ّية‪ ،‬يقــام هــذا االحتفــال يف الكنائــس‬
‫الكاثوليكيــة‪ ،‬وهــو قائــم عىل‪ ‬مناولة األطفــال بعــد أن يتمــوا الثامنــة مــن العمــر‪ .‬وهــي تعنــي‬
‫تنــاول القربــان املقــدس (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫« كل يوم»‪.‬‬

‫صمت القس ثم أجاب «ال تفعلها مرة أخرى»‪.‬‬

‫توقــف جاكــوب عــن الــكالم ونظــر إ ّيل‪ .‬تشــاركنا ابتســامة خمتــرة‬


‫تعــر عــن الفهــم‪ .‬ففــي حــال نجحــت هــذه التحذيــرات املبــارشة يف حــل‬
‫املشــكلة‪ ،‬حت ـ ًا لــن يكــون لـ ّ‬
‫ـدي عمــل أقــوم بــه‪.‬‬

‫إرصارا عــى الطاعــة‪ ،‬عــى أن يكــون‬


‫ً‬ ‫كان الولــد جاكــوب حيمــل‬
‫ـخصا جيــدً ا؛ لذلــك أغلــق قبضتــه ومل يلمــس نفســه‪ ،‬ولكــن حالــه مل يكــن‬
‫شـ ً‬
‫يســتمر أكثــر مــن يومــن أو ثالثــة أيــام؟‬

‫يذكر جاكوب‪« :‬ذلك كان بداية حيايت املزدوجة»‪.‬‬

‫أنــا معتــادة عــى مصطلــح «حيــاة مزدوجــة» كــا يعتــاد طبيــب القلــب‬
‫عــى تعبــر النوبــة القلبيــة‪ ،‬وكــا تعنــي املرحلــة الرابعــة مــن املــرض لطبيــب‬
‫األورام‪ ،‬ومــا يشــر لــه معــدل الســكر الرتاكمــي يف الــدم لطبيــب الغــدد‪.‬‬
‫فهــذا املصطلــح يف الطــب النفــي يشــر إىل االرتبــاط الــري للشــخص‬
‫املدمــن باملخــدرات أو الكحــول‪ ،‬أو أي ســلوكيات قهريــة يمكــن إخفاؤهــا‬
‫عــن األنظــار‪ ،‬حتــى إنــه يف بعــض احلــاالت تكــون خفيــة عــن الشــخص‬
‫نفســه‪.‬‬

‫أثنــاء فــرة املراهقــة‪ ،‬كان يعــود جاكــوب مــن املدرســة‪ ،‬ثــم يصعــد‬
‫إىل العليــة‪ ،‬ويــارس العــادة الرسيــة وهــو يطالــع رســ ًا لآلهلــة اليونانيــة‬
‫أفروديــت التــي نســخها مــن كتــاب مــدريس وقــام بإخفائهــا بــن األلــواح‬

‫‪26‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اخلشــبية لألرضيــة‪ .‬حيــث ينظــر إىل هــذه الفــرة مــن حياتــه عــى أهنــا متثــل‬
‫وقــت الــراءة‪.‬‬

‫انتقــل جاكــوب بعمــر الثامنــة عــرة مــع أختــه الكــرى‪ ،‬إىل املدينــة‬
‫لدراســة الفيزيــاء واهلندســة يف اجلامعــة‪ .‬كانــت أختــه تتغيــب عــن املنــزل‬
‫يف ســاعات النهــار بســبب عملهــا‪ ،‬وهــذه كانــت أول مــرة يف حياتــه يكــون‬
‫باملنــزل وحــده لســاعات طويلــة‪ .‬كان يشــعر بالوحــدة‪.‬‬

‫« لذلك قررت أن أصنع آلة‪.»...‬‬

‫« آلة؟» سألته وأنا أعدل جلستي لتبدو مستقيمة‪.‬‬

‫« آلة ملامرسة العادة الرسية»‪.‬‬

‫ترددت‪ « .‬فهمت‪ .‬كيف تعمل؟»‬

‫« قمــت بتوصيــل ســلك معــدين بمشــغل األســطوانات‪ .‬والطــرف‬


‫اآلخــر أوصلتــه بصفيحــة معدنيــة مفتوحــة‪ ،‬وقمــت بتبطينهــا بقــاش ناعم»‪.‬‬

‫قام برسم صورة توضيحية‪ ،‬لرييني‪.‬‬

‫« أضــع قطعــة القــاش والفتحــة املعدنيــة حــول قضيبــي «كان ينطــق‬


‫كلمــة قضيــب ‪Penis‬كأهنــا كلمتــن‪ ،‬مثــل قلــم ‪ Pen‬أداة الكتابــة‪ ،‬وينطــق‬
‫‪ ness‬مثــل نطــق ‪ Loch Ness Monster‬وحــش بحــرة لــوخ نيــس‪.‬‬

‫كان لــدي دافــع للضحــك‪ ،‬لكــن بعــد حلظــة مــن التفكــر أدركــت‬
‫أن هــذا الدافــع خيفــي وراءه شــيئ ًا آخــر‪ :‬كنــت خائفــة‪ .‬خائفــة مــن كــوين‬

‫‪27‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫غــر قــادرة عــى مســاعدته بعــد أن دعوتــه لكشــف نفســه يل‪ ،‬وأفصــح عــن‬
‫مشــكلته‪.‬‬

‫«يف حــال اشــتغل مشــغل األســطوانات بشــكل دائــري»‪ ،‬يذكــر‪:‬‬


‫«الصفيحــة املعدنيــة املبطنــة تتحــرك فــوق وحتــت‪ .‬أقــوم بضبــط رسعــة‬
‫مشــغل األســطوانات‪ .‬لــدي ثــاث رسعــات خمتلفــة‪ .‬يف هــذه احلالــة‪،‬‬
‫أصــل إىل حافــة النشــوة‪ ...‬عــدة مــرات دون ختطــي النشــوة أو اخلــروج مــن‬
‫دائرهتــا‪ .‬لقــد تعلمــت أيضـ ًا تدخــن ســيجارة يف نفــس الوقــت ممــا يســاعدين‬
‫عــى جتــاوز الوصــول للحافــة‪ ،‬للنشــوة؛ لذلــك أســتخدم هــذه احليلــة»‪.‬‬

‫مــن خــال طريقــة الضبــط الدقيــق‪ ،‬اســتطاع جاكــوب املحافظــة عــى‬


‫مرحلــة مــا قبــل الوصــول للنشــوة لعــدة ســاعات‪ .‬قــال‪ « :‬هــذا» وهــو يومــئ‬
‫برأســه «إدمــاين جــدً ا»‪.‬‬

‫كان جاكــوب يــارس العــادة الرسيــة لســاعات طويلــة يف النهــار‬


‫مســتخدم ًا آلتــه‪ .‬كانــت اللــذة بالنســبة لــه ال مثيــل هلــا‪ .‬أقســم أن يتوقــف‪،‬‬
‫قــام بإخفــاء اآللــة يف مــكان مرتفــع داخــل خزانــة املالبــس‪ ،‬وأحيانــا أخــرى‬
‫يقــوم بتفكيكهــا ورمــي أجزائهــا‪ .‬ولكــن هــذا ال يــدوم ســوى يــوم أو يومني‪،‬‬
‫ومــن ثــم يقــوم بتجميــع أجزائهــا مــن اخلزانــة أو ســلة املهمــات‪ ،‬وإعــادة‬
‫تركيبهــا والبــدء مــن جديــد‪.‬‬

‫ربــا تشــعر باالشــمئزاز مــن آلــة جاكــوب ملامرســة العــادة الرسيــة‪ ،‬كــا‬
‫شــعرت عندمــا ســمعت عنهــا ألول مــرة‪ .‬ربــا تعتــره نو ًعــا مــن االنحــراف‬
‫الشــديد الــذي يتجــاوز خربتــك اليوميــة‪ ،‬ال أمهيــة لــه أو ال صلــة لــه‬

‫‪28‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بحياتــك‪ .‬لكــن إذا فعلنــا ذلــك ‪-‬أنــت وأنــا‪ -‬فإننــا نفقــد فرصــة لتقديــر‬
‫يشء مهــم حــول الطريقــة التــي نعيــش هبــا اآلن‪ ،‬فنحــن مجيعــ ًا ‪-‬بطريقــة‬
‫مــا‪ -‬منهمكــون يف آالت العــادة الرسيــة اخلاصــة بنــا‪.‬‬

‫يف حــوايل األربعــن مــن عمــري‪ ،‬كنــت قــد طــورت ارتباطــ ًا غــر‬
‫صحــي مــع الروايــات الرومانســية‪ .‬كانــت السلســة القصصيــة املعنونــة‬
‫بالشــفق ‪ ،Twilight‬وهــي فانتازيــا رومانســية تــدور حــول مصــايص دمــاء‬
‫مــن املراهقــن‪ .‬اعتربهتــا بوابتــي املخــدرة‪ .‬كنــت أشــعر بخجــل شــديد حــن‬
‫أقرؤهــا‪ ،‬ناهيــك عــن االعــراف بأننــي كنــت مفتونــة هبــا‪.‬‬

‫كانــت روايــات «الشــفق» جتمــع مــا بــن قصــة احلــب‪ ،‬واإلثــارة‪،‬‬


‫واخليــال‪ ،‬كانــت بمثابــة اهلــروب املثــايل يل وأنــا اقــرب مــن منتصــف العمــر‪،‬‬
‫اللجــوء إىل ركــن واالنطــواء للقــراءة‪ .‬مل أكــن وحــدي‪ .‬املاليــن مــن النســاء‬
‫ممــن هــن يف ســني يقــرأن هــذه الروايــات ومعجبــات هبــا‪ ،‬مل يكــن هنــاك يشء‬
‫غــر معتــاد يف حــد ذاتــه يف حــال متــت رؤيتــي وأنــا أقــرأ كتاب ـ ًا‪ .‬لقــد كنــت‬
‫قارئــة طــوال حيــايت‪ .‬مــا كان خمتلفـ ًا هــو مــا حــدث بعــد ذلــك‪ .‬هــو يشء ال‬
‫أســتطيع أن أبــرره وأفــره عــى أنــه ميــول مــن املــايض أو بســبب ظــروف‬
‫احليــاة‪.‬‬

‫عندمــا انتهيــت مــن قــراءة سلســلة» الشــفق» قمــت باجتيــاح كل قصــة‬


‫رومانســية يمكننــي احلصــول عليهــا ملصــايص الدمــاء‪ ،‬ثــم انتقلــت إىل‬
‫املســتذئبني‪ ،‬واجلنيــات‪ ،‬والســحرة‪ ،‬وحمــري األرواح‪ ،‬واملســافرين عــر‬
‫الزمــن‪ ،‬والعرافــن‪ ،‬و ُقــراء العقــول‪ ،‬وحامــي النــار‪ ،‬و ُقــراء الطالــع‪ ،‬وعــال‬
‫األحجــار الكريمــة‪ ...‬فهمــت الفكــرة؟ يف مرحلــة مــا‪ ،‬قصــص احلــب‬

‫‪29‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫النمطيــة مل تعــد ترضينــي؛ لذلــك بحثــت بشــكل متزايــد عــن رســومات‬


‫غرافيــك تتميــز باإلثــارة الكالســيكية لقصــة لقــاء شــاب بفتــاة‪.‬‬

‫تذكــرت حينهــا أننــي ُصدمــت مــن مــدى ســهولة العثــور عــى مشــاهد‬
‫جنســية مصــورة عــى أرفــف قســم الروايــات اخلياليــة‪ ،‬يف مكتبــة احلــي‬
‫الــذي أقطنــه‪ .‬كنــت قلقــة بشــأن أطفــايل مــن أن يتمكنــوا مــن الوصــول إىل‬
‫هــذه الكتــب‪ .‬إن مــا أعتــره مميــز ًا لنشــأيت يف الغــرب األوســط هــو صعوبــة‬
‫احلصــول عــى هــذه الكتــب يف املكتبــة املحليــة‪ ،‬فالنشــأة هنــاك حمافظــة‪،‬‬
‫أتذكــر‪ :‬هــل أنــت هنــاك؟ يــا اهلل‪،‬إنــه أنــا‪ ،‬مارغريــت‪.‬‬

‫تصاعــدت األمــور بالنســبة يل‪ ،‬بعــد أن حصلــت عــى جهــاز الكينــدل‬


‫‪ ،kindle‬إذ كان ذلــك بنــا ًء عــى إحلــاح مــن صديقــي البــارع يف جمــال‬
‫التكنولوجيــا‪ ،‬مل يعــد هنــاك املزيــد مــن االنتظــار لتســليم شــحنات الكتــب‬
‫مــن مكتبــة وأخــرى‪ ،‬أو إخفــاء مــا أقــوم بقراءتــه خلــف املجــات الطبيــة‪،‬‬
‫خصوصــا حــن يكــون زوجــي وأطفــايل حــويل‪ .‬اآلن بضغطــة بســيطة‬
‫وســحبة عــى جهــاز القــارئ‪ ،‬أســتطيع أن أحصــل عــى مــا أريــد مــن كتــب‬
‫وبشــكل رسيــع‪ ،‬مــن أي مــكان‪ ،‬يف أي وقــت‪ :‬عــى القطــار‪ ،‬عــى الطائــرة‪،‬‬
‫أو يف أثنــاء انتظــار دوري لقــص شــعري‪ ،‬كنــت أقــرأ بسالســة روايــة محــى‬
‫الظــام ‪ Darkfever‬لكاريــن مــاري مونينــغ كــا لــو كنــت أقــرأ اجلريمــة‬
‫والعقــاب لديستوفســكي‪.‬‬

‫أصبحــت يف وقــت قصــر أقــرأ بصــورة متواصلــة‪ ،‬وكنــت حينهــا هنمــة‬


‫لقــراءة الروايــات ذات املضامــن اإليروتيكيــة املثــرة‪ ،‬بمجــرد انتهائــي مــن‬
‫كتــاب إلكــروين‪ ،‬أنتقــل إىل التــايل‪ :‬القــراءة بــدالً مــن النشــاط االجتامعــي‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫والقــراءة بــدالً مــن الطهــي‪ ،‬والقــراءة بــدالً مــن النــوم‪ ،‬والقــراءة بــدالً مــن‬
‫االهتــام بزوجــي وأوالدي‪ .‬ذات مــرة‪ ،‬أحــرت القــارئ ‪ kindle‬للعمــل‬
‫وكنــت أقــرأ بــن املــرىض‪ ،‬إننــي أشــعر باخلجــل مــن االعــراف بذلــك‪.‬‬

‫أيضــا‪ .‬كان موقــع‬


‫كنــت أبحــث عــن اخليــارات األرخــص واملجانيــة ً‬
‫األمــازون يعمــل كأي مــروج جيــد للمخــدرات‪ ،‬يف تقديمــه للعينــات‬
‫املجانيــة للقــراء‪ .‬ذات مــرة وجــدت كتا ًبــا بجــودة حقيقيــة ولكــن رسعــان‬
‫رخيصــا‪ ،‬فهــي يف الغالــب مريعــة‪ ،‬حيــث تعتمــد عــى حبكــة‬
‫ً‬ ‫مــا أصبــح‬
‫مبتذلــة وشــخصيات ال تتمتــع بحيويــة‪ ،‬مليئــة باألخطــاء املطبعيــة والنحوية‪.‬‬
‫وبالرغــم مــن ذلــك قرأهتــا‪ ،‬ألننــي كنــت أبحــث بشــكل مســتمر ومطــرد عن‬
‫نــوع حمــدد مــن اخلــرات‪ ،‬مل أعــد أهتــم بكيفيــة حصــويل عليهــا وال بجودهتــا‪،‬‬
‫املهــم أن أحصــل عليهــا‪ ،‬كنــت أرغــب يف االنغــاس يف تلــك اللحظــة مــن‬
‫التوتــر اجلنــي املتصاعــد الــذي مــا يلبــث وأن ينتهــي بعــد أن يتم لقــاء البطل‬
‫والبطلــة‪ .‬مل أعــد أهتــم بالصياغــة‪ ،‬واألســلوب‪ ،‬واملشــهد‪ ،‬أو الشــخصية‪.‬‬
‫كل مــا هيمنــي هــو احلصــول عــى متعتــي‪ ،‬إذ إن هــذه الكتــب كُتبــت وفق ـ ًا‬
‫لصيغــة معينــة‪ ،‬صممــت بشــكل جيعلنــي متعلقــة هبــا‪ .‬كل فصــل منهــا ينتهــي‬
‫بمالحظــة للتشــويق وملتابعــة القــراءة‪ ،‬فالفصــول نفســها تــم بناؤهــا عــى‬
‫أســاس االجتــاه التصاعــدي نحــو الــذروة‪ .‬أصبحــت أرسع يف قــراءة اجلــزء‬
‫األول مــن الكتــاب حتــى أصــل إىل مشــهد الــذروة ومــن ثــم أفقــد رغبتــي‬
‫يف إكــال القــراءة‪ .‬أنــا اآلن‪ ،‬لألســف أمتلــك املعرفــة والدرايــة الواســعة‪ ،‬يف‬
‫حــال فتحــت أي روايــة رومانســية يمكننــي الوصــول إىل مشــاهد الــذروة‬
‫بعــد االطــاع الرسيــع عــى ثالثــة أرباعهــا تقريب ـ ًا‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بعــد عــام تقري ًبــا مــن هــويس اجلديــد بالرومانســية‪ ،‬وجــدت نفــي‬
‫صباحــا يف أحــد ليــايل األســبوع‪ ،‬أقــرأ روايــة‬
‫ً‬ ‫مســتيقظة للســاعة الثانيــة‬
‫مخســون ظ ـ ً‬
‫ا مــن الرمــادي ‪ .fifty shades of grey‬لقــد كنــت مفتونــة هبــا‪،‬‬
‫وبــررت ولعــي بأهنــا النســخة احلديثــة لروايــة كربيــاء وحتامــل ‪pride and‬‬
‫‪ - prejudice‬إىل أن وصلــت لصفحــة «ســدادة املؤخــرة» (‪،)Butt Plugs‬‬
‫يف ذلــك الوقــت‪ ،‬اســتوعبت ببصــريت أن القــراءة عــن األلعــاب اجلنســية‬
‫الســادومازوخية يف الســاعات األوىل مــن الصبــاح مل تكــن مــا أتــوق إليــه‬
‫لقضــاء وقتــي‪.‬‬

‫ُيعـ ّـرف اإلدمــان عــى نطــاق واســع بأنــه االســتهالك املســتمر والقهــري‬
‫ملــادة أو ســلوك (قــار‪ ،‬ألعــاب‪ ،‬جنــس) بالرغــم مــن رضره عــى النفــس ‪/‬‬
‫أو اآلخريــن‪.‬‬

‫مــا حــدث يل يعــد تافه ـ ًا مقارنــة بحيــاة مــن عانــوا مــن إدمــان شــديد‪،‬‬
‫لكنــه يناقــش إشــكالية ارتفــاع معــدل االســتهالك القهــري املفــرط التــي‬
‫نواجههــا مجيعـ ًا اليــوم‪ .‬حتــى عندمــا تكــون حياتنــا جيــدة‪ .‬لـ ّ‬
‫ـدي زوج طيــب‬
‫وحمــب‪ ،‬وأطفــال رائعــون‪ ،‬وعمــل ذو هــدف‪ ،‬وحريــة‪ ،‬واســتقاللية‪ ،‬وثــروة‬
‫معقولــة‪ - ،‬ال أعــاين مــن صدمــة‪ ،‬أو تفــكك اجتامعــي‪ ،‬أو فقــر‪ ،‬أو بطالــة‪،‬‬
‫أو أي عوامــل خطــر لإلدمــان‪ ،‬لكــن مــع ذلــك كنــت أنحــدر بصــورة قهريــة‬
‫مفرطــة‪ ،‬أكثــر فأكثــر إىل عــامل مــن اخليــال‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجلانب املظلم للرأساملية‬

‫يف ســن الثالثــة والعرشيــن‪ ،‬التقــى جاكــوب بزوجتــه‪ ،‬بعــد أن تزوجــا‬


‫والــدي زوجتــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫انتقــا للســكن يف شــقة مكونــة مــن ثــاث غــرف مــع‬
‫وتــرك آلتــه خلفــه إىل األبــد‪ ،‬كــا كان يأمــل‪ .‬قــام هــو وزوجتــه بالتســجيل‬
‫للحصــول عــى شــقة خاصــة هبــا يف نظــام اإلســكان احلكومــي‪ ،‬لكــن قيــل‬
‫هلــا بــأن قائمــة االنتظــار قــد تطــول إىل مخســة وعرشيــن عا ًمــا‪ .‬إذ كان ذلــك‬
‫النمــوذج املعتــاد يف دول أوروبــا الرشقيــة يف الثامنينيــات امليالديــة‪ ،‬لذلــك‬
‫قــررا كســب أمــوال إضافيــة بــدالً مــن أن يستســلام للعيــش لعقــود مــع‬
‫الوالديــن يف شــقتهم‪ ،‬وليتمكــن الزوجــان مــن رشاء ســكن خــاص هبــم يف‬
‫أقــرب وقــت؛ بــدآ العمــل اإلضــايف يف جمــال جتــارة الكومبيوتــر واســترياد‬
‫آالت مــن تايــوان‪ ،‬منضمــن إىل اقتصــاد الســوق الســوداء املنتعــش‪ .‬ازدهــر‬
‫عملهــا‪ ،‬ورسعــان مــا أصبحــا أغنيــاء بــا يتفــق مــع املعايــر املحليــة آنــذاك‪.‬‬
‫ومتكنــا مــن امتــاك منــزل وقطعــة أرض‪ ،‬وأنجبــا طفلــن‪ ،‬ابنًــا وابنــة‪.‬‬

‫حصــل جاكــوب عــى عــرض عمــل كعــامل يف أملانيــا‪ ،‬ممــا جعــل‬


‫مســتقبل األرسة مضمو ًنــا عــى املســتوى االقتصــادي وعــى مســتوى املكانــة‬
‫االجتامعيــة‪ .‬لقــد انتهــزا فرصــة االنتقــال إىل الغــرب‪ ،‬ملواصلــة مســرة‬
‫جاكــوب املهنيــة‪ ،‬وليســتفيد أطفاهلــم مــن كل الفــرص املمكنــة‪ ،‬التــي‬
‫توفرهــا دول أوروبــا الغربيــة‪ .‬قدمــت هــذه النقلــة فرصـ ًا جيــدة‪ ،‬بــل ليســت‬
‫كلهــا جيــدة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«بمجــرد انتقالنــا إىل أملانيــا‪ ،‬اكتشــفت املــواد اإلباحيــة‪ ،‬ودور الســينام‬


‫اإلباحيــة‪ ،‬والعــروض احليــة‪ ،‬فاملدينــة التــي أعيــش فيهــا معروفــة بذلــك‪ ،‬ومل‬
‫أمتكــن مــن املقاومــة‪ ،‬ولكــن حاولــت‪ ،‬لقــد متكنــت مــن املقاومــة ملــدة عــر‬
‫ســنوات‪ ،‬فأنــا أعمــل كعــامل‪ ،‬وأعمــل بجــد‪ ،‬ولكــن يف عــام ‪ ،1995‬كل يشء‬
‫تغــر»‪.‬‬

‫سألته‪ ،‬يف حني أين كنت قد مخنت اإلجابة‪ « :‬ما الذي تغري؟»‬

‫« اإلنرتنــت‪ .‬كنــت أبلــغ مــن العمــر اثنــن وأربعــن عامــ ًا‪ ،‬وحــايل‬
‫جيــدة‪ ،‬ولكــن مــع اإلنرتنــت‪ ،‬بــدأت حيــايت باالهنيــار‪ .‬يف عــام ‪ ،1999‬كنــت‬
‫أقيــم يف نفــس غرفــة الفنــدق التــي أقمــت فيهــا ربــا مخســن مــرة مــن قبــل‬
‫بســبب العمــل‪ .‬لــدي مؤمتــر كبــر‪ ،‬وكان عــي تقديــم حمــارضة كبــرة يف‬
‫اليــوم التــايل‪ ،‬ولكنــي بقيــت مســتيق ًظا ملشــاهدة األفــام اإلباحيــة‪ ،‬بــدال‬
‫مــن التحضــر ملحــاور حمــارضيت‪ ،‬حــرت املؤمتــر دون نــوم ودون حديــث‪،‬‬
‫ألقيــت خطابـ ًا ســيئ ًا للغايــة‪ .‬كنــت عــى وشــك أن أفقــد وظيفتــي»‪ .‬نظــر إىل‬
‫األســفل وهــز رأســه متذكـ ًـرا‪ .‬قــال‪« :‬بعــد ذلــك بــدأت طقــوس جديــدة‪ ،‬يف‬
‫كل مــرة أذهــب فيهــا إىل الفنــدق‪ ،‬أضــع مالحظــات الصقــة يف كل مــكان يف‬
‫الغرفــة‪ -‬عــى مــرآة احلــام‪ ،‬والتلفزيــون‪ ،‬وجهــاز التحكــم عــن بعــد‪ -‬أقــول‪:‬‬
‫« ال تفعــل ذلــك‪ .‬وكنــت ال أســتطيع االســتمرار ليــوم واحــد»‪.‬‬

‫لقــد أدهشــني وجــه الشــبه مــا بــن غــرف الفنــدق وصناديــق ســكينر‬

‫‪34‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫احلديثــة(‪ :)1‬رسيــر‪ ،‬تلفزيــون‪ ،‬مينــي بــار‪ ،‬ال يشء ســوى الضغــط عــى‬
‫الرافعــة مــن أجــل احلصــول عــى املخــدر‪.‬‬

‫نظر إىل األسفل مرة أخرى وعم الصمت الطويل‪ ،‬أعطيته الوقت‪.‬‬

‫«فكــرت يف ذلــك الوقــت وألول مــرة يف إهنــاء حيــايت‪ ،‬أعتقــد أن العــامل‬


‫لــن يفتقــدين‪ ،‬وقــد يكــون أفضــل بــدوين‪ ،‬ذهبــت إىل الرشفــة ونظــرت إىل‬
‫األســفل‪ .‬أربعــة طوابــق‪ ...‬ســيكون ذلــك كاف ًيــا»‪.‬‬

‫_____________‬

‫تُعــد ســهولة احلصــول عــى املخــدر هــي أحــد أكــر عوامــل اخلطــورة‬
‫لإلدمــان‪ .‬فعندمــا يكــون احلصــول عــى أي عقــار ســهل‪ ،‬فمــن املرجــح أن‬
‫نجربــه‪ .‬وأثنــاء جتربتــه‪ ،‬مــن املرجــح أن ندمنــه‪ .‬إن وبــاء املــواد األفيونيــة‬
‫احلــايل يف الواليــات املتحــدة هــو مثــال مأســاوي ومقنــع عــى هــذه احلقيقــة‪.‬‬
‫لقــد أدى تضاعــف وصفــات األدويــة األفيونيــة بمقــدار أربــع مــرات‬
‫(فايكوديــن‪ ،‬اوكســيكونتني‪ ،‬دوروجيســيك‪ ،‬فينتانيــل) يف الواليــات‬
‫املتحــدة مــا بــن عــام ‪ 1999‬وعــام ‪ - ،2012‬وبمشــاركة عمليــة التوزيــع‬
‫الواســعة هلــذه املــواد األفيونيــة يف كل ركــن مــن أركان أمريــكا‪ - ،‬إىل ارتفــاع‬
‫معــدالت إدمــان املــواد األفيونيــة والوفيــات املرتبطــة هبــا‪.‬‬

‫أصــدرت فرقــة عمــل عينتهــا رابطــة املــدارس وبرامــج الصحــة العامــة‬


‫تقريــرا يف ‪ 1‬نوفمــر ‪ ،2019‬كان مفــاده أهنــا خلصــت إىل أن‬
‫ً‬ ‫(‪)ASPPH‬‬

‫((( صنــدوق ســكينر يعــر عــن البيئــة التــي يتــم جتهيزهــا لفئــران املختــرات‪ ،‬الضــوء والطعــام‪،‬‬
‫ونــوع النشــاط‪ ،‬للقيــام بتجربــة مــا‪ ،‬وغال ًبــا ملالحظــة ســلوكها (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«التوســع اهلائــل يف اإلمــداد القــوي (عــايل الفاعليــة وطويــل األمــد) للمــواد‬


‫األفيونيــة التــي تــرف بوصفــة طبيــة‪ ،‬قــد أدى إىل زيــادة متصاعــدة يف‬
‫االعتــاد عــى املــواد األفيونيــة املوصوفــة‪ ،‬وحتــول العديــد مــن النــاس إىل‬
‫اســتهالك املــواد األفيونيــة غــر املرشوعــة‪ ،‬بــا يف ذلــك الفينتانيــل ونظائرهــا‪،‬‬
‫والتــي أدت بالتــايل إىل زيــادة ( ُأ ِّســ َّيه)(‪ )1‬يف اجلرعــات الزائــدة»‪ .‬وذكــر‬
‫أيضــا أن اضطــراب اســتخدام املــواد األفيونيــة «ناتــج عــن التعــرض‬
‫التقريــر ً‬
‫املتكــرر الســتهالك هــذه املــواد»‪.‬‬

‫وباملثــل‪ ،‬فــإن تقليــل املعــروض مــن املــواد املســببة لإلدمــان يقلــل‬


‫مــن التعــرض هلــا ومــن خطــر اإلدمــان واألرضار ذات الصلــة‪ .‬وكان املثــال‬
‫احلــي عــى ذلــك مــن القــرن املــايض‪ ،‬وهــو قــرار حظــر إنتــاج واســترياد ونقل‬
‫وبيــع املرشوبــات الكحوليــة يف الواليــات املتحــدة منــذ عــام ‪ 1920‬إىل عــام‬
‫‪ 1933‬وكان ذلــك بموجــب قــرار دســتوري عــى مســتوى البــاد؛ إذ أدى‬
‫احلظــر إىل انخفــاض حــاد يف أعــداد األمريكيــن الذيــن يتعاطــون الكحــول‬
‫السـكْر العــام وأمــراض الكبــد‬
‫ويدمنــون عليــه‪ .‬فلقــد انخفضــت معــدالت ُ‬
‫املرتبطــة بالكحــول بمقــدار النصــف خــال تلــك الفــرة التــي تغيــب فيهــا‬
‫أي تدابــر عالجيــة جديــدة لعــاج اإلدمــان‪.‬‬

‫بالطبــع كانــت هنــاك عواقــب غــر مقصــودة هلــذا القــرار‪ ،‬مثــل ازدهــار‬
‫ســوق ســوداء كبــرة تديرهــا العصابــات اإلجراميــة‪ .‬لكــن التأثــر اإلجيــايب‬
‫للحظــر عــى اســتهالك الكحــول ومــا يرتبــط بــه مــن مضاعفــات مرضيــة‬

‫((( الزيــادة األســية أو النمــو األيس تعبــر ريــايض يشــر إىل زيــادة تســتند إىل معــدل تغــر‬
‫مضاعــف ثابــت عــى زيــادات زمنيــة متســاوية (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫مل يكــن معرتف ـ ًا بــه عــى نطــاق واســع‪ .‬اســتمرت آثــار انخفــاض اســتهالك‬
‫الكحــول الناجتــة عــن احلظــر خــال اخلمســينيات مــن القــرن املــايض‪.‬‬
‫ولكــن عــى مــدى الثالثــن ســنة الالحقــة‪ ،‬زاد االســتهالك بصــورة طرديــة‬
‫عندمــا أصبــح الكحــول متاح ـ ًا مــرة أخــرى‪.‬‬

‫لقــد زادت نســبة األمريكيــن الذيــن يرشبــون الكحــول بنحــو ‪% 50‬‬


‫يف تســعينيات القــرن املــايض‪ .‬بينــا ارتفعــت خماطــر تنــاول املرشوبــات‬
‫الكحوليــة بنســبة ‪ .% 15‬بــن عــام ‪ 2002‬و‪ ،2013‬ارتفــع معــدل اإلدمــان‬
‫الكحــويل املشــخص بنســبة ‪ % 50‬لــدى البالغــن مــن كبــار الســن (فــوق‬
‫ســن اخلامســة والســتني)‪ ،‬و‪ % 84‬مــن النســاء‪ ،‬ومهــا يشــكالن جمموعتــن‬
‫ديموغرافيتــن كانتــا يف الســابق مــن املحصنــن نســب ًيا جتــاه هــذه املشــكلة‪.‬‬

‫مــن املؤكــد أن ارتفــاع اســتهالك الكحــول بســبب ســهولة احلصــول‬


‫عليــه ال ُيعــد عامــل اخلطــورة الوحيــد املــؤدي إىل اإلدمــان‪ .‬حيــث يرتفــع‬
‫خطــر اإلدمــان إذا مــا كان أحــد الوالديــن البيولوجيــن أو اجلــد قــد عانــى‬
‫مــن اإلدمــان‪ ،‬حتــى يف حــال متــت تربيتنــا بعيــدً ا عــن بيئــة املدمــن‪ .‬كــا ُيعــد‬
‫أيضــا‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن العالقــة بينهــا غــر‬
‫املــرض النفــي عامــل خطــر ً‬
‫واضحــة‪ :‬هــل املــرض النفــي يــؤدي إىل تعاطــي املخــدرات‪ ،‬أو هــل تعاطي‬
‫املخــدرات يســبب أو يكشــف املــرض النفــي‪ ،‬أم أنــه يف مــكان مــا بينهــا؟‬

‫تســهم الصدمــات واالضطرابــات االجتامعيــة والفقــر يف زيــادة خماطــر‬


‫اإلدمــان‪ ،‬حيــث تصبــح املخــدرات وســيلة للتأقلــم ومــن ثــم تــؤدي إىل‬
‫تغــرات جينيــة ‪ -‬تغيــرات وراثيــة يف خيــوط احلمــض النــووي خــارج‬

‫‪37‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫األزواج القاعديــة املوروثــة ‪ -‬تؤثــر عــى التعبــر اجلينــي يف كل مــن األفــراد‬


‫وذريتهم‪.‬‬

‫عــى الرغــم مــن عوامــل اخلطــورة هــذه‪ ،‬إال أن ســهولة الوصــول‬


‫إىل املــواد املســببة لإلدمــان قــد تكــون أهــم عوامــل اخلطــر التــي يواجههــا‬
‫األفــراد املعــارصون‪ .‬فلقــد خلــق العــرض طل ًبــا دائ ـ ًا‪ ،‬بــا أننــا مجي ًعــا نقــع‬
‫فريســة لدوامــة اإلفــراط القهــري‪.‬‬

‫يقــود اقتصــاد مــن الدوبامــن‪ ،‬أو مــا أطلــق عليــه املــؤرخ ديفيــد‬
‫كورترايــت «الرأســالية احلوفيــة‪ »1‬هــذا التغيــر بمســاعدة التحــول‬
‫التكنولوجــي الــذي ال يســهل الوصــول للمــواد املســببة لإلدمــان فحســب‪،‬‬
‫ولكــن يســهم يف زيــادة أعــداد املخــدرات بأنواعهــا املختلفــة ودرجــة‬
‫فاعليتهــا املتنوعــة‪.‬‬

‫فعــى ســبيل املثــال‪ ،‬أتاحــت آلــة لــف الســجائر التــي تــم اخرتاعهــا‬
‫عــام ‪ 1880‬إمكانيــة االنتقــال مــن أربــع ســجائر ملفوفــة يف الدقيقــة إىل عــدد‬
‫مذهــل يبلــغ ‪ .20000‬واليــوم تُبــاع ‪ 6.5‬تريليونــات ســيجارة ســنو ًيا حــول‬
‫العــامل‪ ،‬أي مــا ُيقــارب ‪ 18‬مليــار ســيجارة يوم ًيــا‪ ،‬ممــا يــؤدي إىل وفــاة مــا‬
‫يقــارب ‪ 6‬ماليــن يف مجيــع أنحــاء العــامل‪.‬‬

‫((( مصطلــح جيمــع مــا بــن مــا هــو بيولوجــي واقتصــادي‪ ،‬فالنظــام احلــويف يف الدمــاغ هــو‬
‫املســؤول عــن اســتجاباتنا الســلوكية والعاطفيــة‪ ،‬خاصــة تلــك املتعلقــة بالســلوكيات التــي‬
‫نحتاجهــا للبقــاء مثــل التغذيــة والتكاثــر ورعايــة الصغــار‪ ،‬واالســتجابة للقتــال أو اهلــروب‪ ،‬أو‬
‫مــا يســمى بعمليــة الكــر والفــر‪ ،‬ولقــد ابتكــر املصطلــح ديفيــد كورترايــت يف كتابــة عــر االدمــان‬
‫معــر ًا عــن الشــبكة املتناميــة مــن األعــال التنافســية التــي تســتهدف مســارات الدمــاغ املســؤولة‬
‫عــن الشــعور والتحفيــز والذاكــرة طويلــة املــدى‪ .‬متمثلــة يف تطويــر حبــوب األمل مــن ‪ ،‬ويف الربغر‬
‫مــن ماكدونالــدز ‪ ،‬ويف ألعــاب الفيديواملطــورة‪ .‬تســتفيد مجيعهــا مــن املســعى القديــم الكتشــاف‬
‫متــع جديــدة ومعتــادة وصقلهــا واعــادة تقديمهــا ‪ (.‬املرتمجــة)‬

‫‪38‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اكتشــف األملــاين فريدريــك رستورنــر أثنــاء عملــه كصيــدالين حتــت‬


‫التدريــب يف عــام ‪ 1805‬املورفــن املســكن لــأمل ‪ -‬وهــو قلويــد أفيــوين أقــوى‬
‫بعــر مــرات مــن األفيــون الــذي ســبقه‪ .‬ويف عــام ‪ 1853‬اخــرع الطبيــب‬
‫اإلســكتلندي ألكســندر وود احلقنــة حتــت اجللــد‪ .‬إذ أســهم كل مــن هذيــن‬
‫االخرتاعــن يف كتابــة مئــات التقاريــر يف املجــات الطبيــة يف أواخــر القــرن‬
‫التاســع عــر عــن حــاالت إدمــان املورفــن العالجــي املنشــأ (بوصفــة‬
‫طبيــة)‪.‬‬

‫كــا ابتكــر الكيميائيــون مرك ًبــا جديــدً ا‪ ،‬أطلقــوا عليــه اســم «اهلريويــن»‪،‬‬
‫املشــتق مــن كلمــة (‪ ،)heroisch‬وهــي مفــردة أملانيــة تعنــي «شــجاع»‪ ،‬وكان‬
‫ذلــك يف حماولــة للعثــور عــى مســكن لــأمل أفيــوين املفعــول‪ ،‬عــى أن يكــون‬
‫أقــل إدما ًنــا؛ ليحــل حمــل املورفــن‪ .‬ولكــن تبــن أن اهلريويــن أقــوى بمرتــن‬
‫إىل مخــس مــرات مــن املورفــن؛ ممــا أفســح املجــال هلــوس املخــدرات يف‬
‫أوائــل القــرن العرشيــن‪.‬‬

‫أمــا اليــوم فتتوفــر املســتحرضات الصيدالنيــة الفعالــة مــن العقاقــر‬


‫األفيونيــة كاألوكســيكودون‪ ،‬واهليدروكــودون‪ ،‬واهليدرومورفــون‪ ،‬يف كل‬
‫شــكل يمكــن ختيلــه‪ :‬احلبــوب‪ ،‬واحلقــن‪ ،‬واللصقــات‪ ،‬وبخــاخ األنــف‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2014‬دخــل مريــض يف منتصــف العمــر إىل مكتبــي وهــو‬


‫يمــص مصاصــة فنتانيــل محــراء زاهيــة‪ .‬حيــث ُيعــد الفنتانيــل مــادة أفيونيــة‬
‫اصطناعيــة‪ ،‬أقــوى بخمســن إىل مائــة مــرة مــن املورفــن‪.‬‬

‫وبعيــد ًا عــن العقاقــر األفيونيــة‪ ،‬فــإن العديــد مــن املخــدرات األخــرى‬

‫‪39‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أكثــر فاعليــة اليــوم ممــا كانــت عليــه يف املــايض‪ .‬الســجائر اإللكرتونيــة‬


‫‪-‬إحــدى أنظمــة توصيــل النيكوتــن‪ -‬األنيقــة والرائعــة وعديمــة الرائحــة‬
‫والقابلــة إلعــادة الشــحن فهــي تقــود إىل مســتويات أعــى مــن النيكوتــن يف‬
‫الــدم خــال فــرات اســتهالك أقــر مــن الســجائر التقليديــة‪ .‬كــا أهنــا تــأيت‬
‫يف هيئــة نكهــات متنوعــة‪ ،‬لتكــون مصممــة جلــذب املراهقــن‪.‬‬

‫احلشــيش اليــوم أقــوى بخمــس إىل عــر مــرات مــن احلشــيش يف‬
‫الســتينيات‪ ،‬وهــو متوفــر يف البســكويت‪ ،‬والكعــك‪ ،‬وكعــك الشــوكوالتة‪،‬‬
‫وحلــوى الدببــة العلكيــة‪ ،‬والتــوت‪ ،‬و الفطائــر‪ ،‬وأقــراص املــص‪ ،‬والزيوت‪،‬‬
‫والعطريــات‪ ،‬والصبغــات‪ ،‬والشــاي‪ ...‬فالقائمــة تطــول ويصعــب حرصهــا‪.‬‬

‫إن الطعــام يتــم التالعــب بــه مــن قبــل الفنيــن يف مجيــع أنحــاء العــامل‪.‬‬
‫لقــد أدت أمتتــة خطــوط إنتــاج رقائــق البطاطــس املقــي يف أعقــاب احلــرب‬
‫العامليــة األوىل‪ ،‬إىل إنتــاج رقائــق البطاطــس املعبــأة يف أكيــاس‪ .‬يف عــام ‪2014‬‬
‫ا مــن البطاطــس للفــرد‪ ،‬منهــا ‪ 33.5‬رطـ ً‬
‫ا‬ ‫اســتهلك األمريكيــون ‪ 112.1‬رطـ ً‬
‫ا مــن البطاطــس‬‫مــن البطاطــس الطازجــة‪ ،‬يف حــن متــت معاجلــة ‪ 78.5‬رطـ ً‬
‫املتبقيــة‪ .‬كــا تُضــاف كميــات وفــرة مــن الســكر وامللــح والدهــون إىل الكثــر‬
‫مــن األطعمــة التــي نتناوهلــا‪ ،‬باإلضافــة إىل آالف النكهــات االصطناعيــة‬
‫إلرضــاء شــهيتنا احلديثــة ألشــياء مثــل آيــس كريــم مــع اخلبــز الفرنــي‬
‫املحمــص‪ ،‬وحســاء الطامطــم التايلنــدي بجــوز اهلنــد‪.‬‬

‫أصبــح تعــدد األدويــة ‪ -‬أي اســتخدام عقاقــر متعــددة يف وقــت‬


‫واحــد‪ ،‬تقريب ـ ًا ‪ -‬هــو املعيــار‪ ،‬كمحصلــة لزيــادة إمكانيــة فــرص الوصــول‬
‫هلــا وفاعليتهــا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫وجــد مريــي «ماكــس» أنــه مــن األســهل أن يرســم جــدول زمنــي‬


‫يوضــح فيــه دورة تعاطيــه املخــدرات‪ ،‬بــدالً مــن أن يرشحــه يل‪ .‬كــا تــرون يف‬
‫الرســم التوضيحــي (رقــم ‪ ،)1‬لقــد بــدأ يف ســن الســابعة عــرة بالكحــول‪،‬‬
‫والســجائر‪ ،‬وتدخــن احلشــيش مــن نــوع «مــاري جــن»‪ ،‬حــن وصــل‬
‫إىل ســن الثامنــة عــرة كان يستنشــق الكوكايــن‪ ،‬انتقــل يف ســن التاســعة‬
‫عــرة إىل األوكســيكونتني والزاناكــس‪ .‬يف عمــر العرشيــن اســتخدم عقــار‬
‫البريكويســبت‪ ،‬وفينتانيــل‪ ،‬وكيتامــن وإل إس دي‪ ،‬و يب يس يب‪ ،‬ودي‬
‫إكــس إم‪ ،‬وانحــدر يف النهايــة مســتخدم ًا األوبانــا‪ ،‬وهــو أفيــون مــن الدرجــة‬
‫الصيدالنيــة (عالجــي)‪ ،‬ومــن ثــم قــاده ذلــك إىل اهلريويــن‪ ،‬إىل أن وصــل‬
‫يل وهــو يف ســن الثالثــن‪ .‬إمجــاالً‪ ،‬تنــاول «ماكــس» يف فــرة تقــارب العــر‬
‫ســنوات‪ ،‬أربعــة عــر دوا ًء خمتلف ـ ًا‪.‬‬

‫اجلدول الزمني الستخدام املخدرات‬

‫يقــدم العــامل اليــوم جمموعــة متكاملــة مــن املخــدرات الرقميــة التــي مل‬
‫تكــن معهــودة مــن قبــل‪ ،‬وحتــى يف حــال كانــت معهــودة مــن قبــل فإهنــا‬
‫اآلن متاحــة يف املنصــات الرقميــة‪ ،‬األمــر الــذي أدى إىل توفرهــا بشــكل كبــر‬

‫‪41‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وازديــاد فعاليتهــا‪ .‬إذ تشــمل عــى ســبيل املثــال ال احلــر املــواد اإلباحيــة يف‬
‫شــبكة اإلنرتنــت‪ ،‬واملقامــرة‪ ،‬وألعــاب الفيديــو‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬فــإن التكنولوجيــا نفســها تســبب اإلدمــان بأضوائها‬


‫الوامضــة‪ ،‬وضجيجهــا املوســيقي‪ ،‬فهــي ال قــاع هلــا وال يمكــن التنبــؤ‬
‫بنهايتهــا‪ ،‬مقدمــة الوعــد بــأن املزيــد مــن املشــاركة واالرتبــاط هبــا‪ ،‬يقــود‬
‫إىل احلصــول عــى املزيــد مــن املكافــآت التــي ال تنتهــي‪ .‬يمكــن القــول‪ :‬إن‬
‫ظهــور القــارئ اإللكــروين ســاعد عــى تقدمــي الشــخيص مــن الروايــات‬
‫الرومانســية الرديئــة ملصــايص الدمــاء إىل مــا يمكــن اعتبــاره مــواد إباحيــة‪،‬‬
‫املســموح هبــا اجتامعي ـ ًا للســيدات‪.‬‬

‫لقــد أصبــح فعــل االســتهالك خمــدر ًا‪ ،‬لقــد وقــع مريــي « تــي» ‪-‬وهو‬
‫مهاجــر فيتنامــي‪ -‬يف دائــرة إدمــان البحــث عــن ســلع والــراء اإللكــروين‪،‬‬
‫تبــدأ النشــوة عنــد اختــاذه قــرار الــراء ومــاذا يشــري؟ ثــم تســتمر برتقــب‬
‫موعــد تســليم الشــحنة‪ ،‬وتبلــغ أوج ذروهتــا يف اللحظــة التــي يتــم فيهــا فتــح‬
‫طــرد املشــريات‪.‬‬

‫لســوء احلــظ‪ ،‬مل يــدم هــذا االنتشــاء طويـ ً‬


‫ا بعــد الوقــت الــذي اســتغرقه‬
‫يف متزيــق الرشيــط الالصــق لرشكــة األمــازون ورؤيــة مــا بداخل الطــرد‪ .‬كان‬
‫لديــه غرفــة ممتلئــة بالســلع االســتهالكية الرخيصــة‪ ،‬وكان مديو ًنــا بعــرات‬
‫اآلالف مــن الــدوالرات‪ .‬حتــى ذلــك احلــن‪ ،‬مل يســتطع التوقــف‪ .‬وحتــى‬
‫يســتطيع احلفــاظ عــى اســتمرارية هــذه الــدورة‪ ،‬جلــأ إىل طلــب ســلع أرخص‬
‫‪-‬سالســل مفاتيــح‪ ،‬أكــواب‪ ،‬نظــارات شمســية بالســتيكية‪ -‬وإعادهتــا فــور‬
‫وصوهلــا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اإلنرتنت والعدوى االجتامعية‪:‬‬

‫قــرر جاكــوب عــدم إهنــاء حياتــه يف ذلــك اليــوم يف الفنــدق‪ .‬يف األســبوع‬
‫التــايل تــم تشــخيص زوجتــه برسطــان الدمــاغ‪ .‬وعــادا إىل وطنهــا‪ ،‬وقــى‬
‫هنــاك ثــاث ســنوات متتاليــة يعتنــي هبــا إىل أن توفيــت‪ .‬يف عــام ‪ 2001‬وهــو‬
‫يف ســن التاســعة واألربعــن عــاود االتصــال بحبيبتــه الســابقة أيــام املدرســة‬
‫ـت بإخبارهــا عــن مشــكلتي قبــل الــزواج‪،‬‬
‫الثانويــة‪ ،‬ومــن ثــم تزوجــا‪« ،‬رغبـ ُ‬
‫ولكــن ربــا ســوف أقلــل مــن نفــي حــن أخربهــا»‪.‬‬

‫اشــرى جاكــوب وزوجتــه اجلديــدة منــزالً يف ســياتل‪ ،‬وانتقــل إىل‬


‫وظيفــة عــامل يف وادي الســليكون‪ .‬كلــا قــى وقتـ ًا أطول يف وادي الســليكون‬
‫وبعيــد ًا عــن زوجتــه‪ ،‬عــاد إىل األنــاط القديمــة مــن املــواد اإلباحيــة وممارســة‬
‫العــادة الرسيــة بصــورة قهريــة مفرطــة‪.‬‬

‫«عندمــا نكــون مع ـ ًا ال أقــوم بــأي أنــاط إباحيــة‪ ،‬ولكــن عندمــا أكــون‬


‫ـافرا وزوجتــي ليســت معــي‪ ،‬أقــوم بذلــك»‪.‬‬
‫هنــا يف وادي الســليكون أو مسـ ً‬

‫صمــت جاكــوب‪ .‬إذ إن مــا ســوف يــأيت الحقــ ًا مــن بــوح كان مــن‬
‫الصعــب أن يتحــدث عنــه‪.‬‬

‫«أحيا ًنــا عندمــا ألعــب بالشــحنات الكهربائيــة‪ ،‬يف عمــي‪ ،‬أســتطيع أن‬
‫أشــعر بــيء يف يــدي‪ ،‬أنــا فضــويل‪ .‬وبــدأت أتســاءل عــا هــو إحســايس إذ‬
‫مــا ملســت الشــحنات الكهربائيــة قضيبــي‪ .‬لذلــك بــدأت يف ذلــك احلــن‬

‫‪43‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بالبحــث يف شــبكة اإلنرتنــت‪ ،‬واكتشــفت فئــة اجتامعيــة كاملــة‪ ،‬مــن األفــراد‬


‫الذيــن يســتخدمون التحفيــز الكهربائــي»‪.‬‬

‫«أقــوم بتوصيــل األقطــاب الكهربائيــة واألســاك إىل جهــاز االســترييو‬


‫حمــاوالً اســتخدام اجلهــد الكهربائــي (الفولــت) مــن تــردد التيــار يف جهــاز‬
‫االســترييو‪ .‬وبــدالً مــن األســاك البســيطة أقــوم بتوصيــل األقطــاب‬
‫الكهربائيــة املغلفــة بالقطــن يف مــاء مالــح‪ .‬فكلــا ارتفــع مســتوى الصــوت‬
‫يف جهــاز االســريو‪ ،‬زاد التيــار‪ ،‬وكلــا انخفــض الصــوت‪ ،‬ال أشــعر بــيء‪،‬‬
‫ويف حــال ارتفــاع الصــوت يكــون ذلــك مؤمل ـ ًا‪ .‬ولكــن فيــا بينهــا‪ ،‬أحصــل‬
‫عــى إحســاس النشــوة»‪.‬‬

‫« عيناي تتسعان‪ .‬ال أستطيع أن أمنع ذلك»‪.‬‬

‫وتابــع «هــذا خطــر جــد ًا»‪« .‬لقــد أدركــت أنــه يف حــال انقطــاع التيــار‬
‫الكهربائــي‪ ،‬قــد يــؤدي ذلــك إىل زيــادة الفولــت‪ ،‬ومــن ثــم يمكــن يل أن‬
‫أتــأذى‪ .‬لقــد مــات أشــخاص كانــوا يقومــون هبــذا الســلوك‪ .‬تعلمــت أنــه‬
‫بإمــكاين أن أشــري مــن شــبكة اإلنرتنــت حقيبــة طبيــة مثــل‪ ،...‬تلــك‬
‫اآلالت التــي تعالــج األمل‪.»...‬‬

‫« تقصد وحدة حتفيز عصبي(‪)1‬؟‬

‫« نعــم وحــدة حتفيــز عصبــي بمبلغ ســتامئة دوالر‪ ،‬أو أن أصنــع خاصتي‬

‫((( التحفيــز الكهربائــي للعصــب عــر اجللــد هــو هنــج عالجــي شــائع االســتخدام‬
‫للتخفيــف مــن األمل احلــاد واملزمــن للعضــات‪ ،‬ويســتخدم عــى نطــاق واســع يف العــاج‬
‫الطبيعــي (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بعرشيــن دوالرا‪ .‬اشــريت اخلامــات واملــواد‪ ،‬وقمــت بصناعــة اآللــة‪ ،‬وهــي‬


‫تعمــل‪ ،‬تعمــل بشــكل جيــد» ثــم توقــف عــن احلديــث‪« ،‬ولكــن االكتشــاف‬
‫احلقيقــي‪ .‬هــو أننــي أســتطيع برجمتهــا وأن أبتكــر طرقــا لتخصيــص األنشــطة‬
‫ومزامنــة املوســيقى مــع اإلحســاس»‪.‬‬

‫« ما أنواع األنشطة؟»‬

‫«عــادة رسيــة‪ ،‬جنــس فمــوي‪ ،‬أيــ ًا كان‪ .‬وبعــد ذلــك مل أتوقــف عنــد‬
‫أنشــطتي‪ ،‬ولكــن متكنــت مــن اكتشــاف إجــراءات وأنشــطة اآلخريــن‪ .‬أتصل‬
‫باإلنرتنــت وأقــوم بتحميــل أنشــطة اآلخريــن‪ ،‬وأشــاركهم أنشــطتي‪ .‬بعــض‬
‫األشــخاص يكتبــون برامــج ملزامنتهــا مــع مقاطــع الفيديــو اإلباحيــة‪ ،‬حتــى‬
‫تشــعر بــا تشــاهده‪ ،‬مثــل الواقــع االفــرايض متام ـ ًا‪ .‬اللــذة تــأيت بالطبــع مــن‬
‫اإلحســاس‪ ،‬ولكــن أيض ـ ًا مــن بنــاء اآللــة‪ ،‬وتوقــع مــا تقــوم بــه‪ ،‬وجتربتهــا‬
‫وحتســينها‪ ،‬ومشــاركتها مــع اآلخريــن»‪.‬‬

‫ابتســم‪ ،‬وهــو يتذكــر‪ ،‬قبــل أن يصفــر وجهــه‪ ،‬متوقعــ ًا مــا ســيحدث‬


‫بعــد ذلــك‪ .‬حمدقـ ًا يف وجهــي يتفحصنــي‪ ،‬أســتطيع أن أقــول‪ :‬إنــه كان يقيــس‬
‫مــدى قــدريت عــى حتمــل القــادم‪ ،‬اســتعدت ذايت وأومــأت بــرأيس لــه لكــي‬
‫يســتمر‪.‬‬

‫«لقــد أصبحــت األمــور أكثــر ســو ًءا‪ .‬هنــاك غــرف دردشــة حيــث‬
‫يمكنــك مشــاهدة النــاس يمتعــون أنفســهم‪ ،‬عــى اهلــواء مبــارشة‪ .‬إنــه جمــاين‬
‫للمشــاهدة‪ ،‬واختيــاري فيــا خيتــص بــراء القســائم‪ .‬أعطــي القســائم لــأداء‬
‫اجليــد (التصويــت)‪ .‬أقــوم بتصويــر نفــي وأضعهــا عــى اإلنرتنــت‪ .‬فقــط‬

‫‪45‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أعضائــي اخلاصــة‪ .‬ال يوجــد جــزء آخــر منــي‪ .‬إنــه ألمــر مبهــج يف البدايــة‪،‬‬
‫أيضــا‪ ،‬ألن املشــاهدة‬
‫وجــود غربــاء يراقبوننــي‪ .‬لكننــي أشــعر بالذنــب ً‬
‫ســتعطي اآلخريــن فكــرة عــا أقــوم بــه‪ ،‬وقــد يدمنــون عــى هــذا الســلوك»‬

‫_________________________________‬

‫يف عــام ‪ ،2018‬أدليــت بشــهاديت كخبــرة طبيــة يف قضيــة رجــل دهــس‬


‫مراهقــن بشــاحنته‪ ،‬فقتــل كليهــا‪ .‬كان ذلــك أثنــاء قيادتــه لســيارته حتــت‬
‫تأثــر املخــدرات‪ .‬وكجــزء مــن هــذا التقــايض‪ ،‬قضيــت وق ًتــا يف التحــدث إىل‬
‫املحقــق فينــس داتــو‪ ،‬حمقــق اجلريمــة الرئيــس يف مقاطعــة بــارس‪ ،‬كاليفورنيا‪،‬‬
‫حيــث جــرت املحاكمــة‪.‬‬

‫بدافــع الفضــول بشــأن عملــه‪ ،‬ســألته عــن أي تغيــرات يف األنــاط‬


‫التــي رآهــا عــى مــدار العرشيــن عا ًمــا املاضيــة‪ .‬أخــرين عــن احلالــة املأســاوية‬
‫لطفــل يبلــغ مــن العمــر ســتة أعــوام قــام باللــواط مــع أخيــه األصغــر البالــغ‬
‫مــن العمــر أربــع ســنوات‪ .‬قــال‪« :‬يف العــادة‪ ،‬عندمــا نتلقــى هــذه املكاملــات‪،‬‬
‫شــخصا بال ًغــا يــيء إىل الطفــل ويســتغله جنســي ًا‪ ،‬ثــم يعيــد‬
‫ً‬ ‫فذلــك ألن‬
‫متثيلــه عــى طفــل آخــر‪ ،‬كشــقيقه األصغــر مثـاً‪ .‬لكننــا أجرينــا حتقي ًقــا شــام ً‬
‫ال‬
‫ومل يكــن هنــاك دليــل عــى تعــرض األخ األكــر لإلســاءة»‪.‬‬

‫كثــرا‪ ،‬لذلــك كان الطفــان نو ًعــا‬


‫ً‬ ‫كان الوالــدان مطلقــن ويعمــان‬
‫مــا يربيــا أنفســهام‪ ،‬لكــن مل يكــن هنــاك أي اعتــداء جنــي نشــط‪« .‬مــا ظهــر‬
‫يف النهايــة يف هــذه احلالــة هــو أن األخ األكــر كان يشــاهد الرســوم املتحركــة‬

‫‪46‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عــى اإلنرتنــت‪ ،‬وعثــر عــى بعــض الرســوم املتحركــة اليابانيــة التــي تعــرض‬
‫مجيــع أنــواع األفعــال اجلنســية‪ .‬كان لــدى الطفــل جهــازه اللوحــي اخلــاص‬
‫بــه ‪ ،iPad‬ومل يكــن خيضــع ألي رقابــة أبويــة‪ ،‬وبعــد مشــاهدة جمموعــة مــن‬
‫هــذه الرســوم املتحركــة‪ ،‬قــرر أن جيرهبــا عــى أخيــه الصغــر‪ .‬هــذا النــوع مــن‬
‫األشــياء اآلن‪ ،‬مل أره مــن قبــل‪ ،‬طيلــة أكثــر مــن عرشيــن عا ًمــا مــن عمــي يف‬
‫حقــل الرشطــة»‪.‬‬

‫يشــجع اإلنرتنــت عــى االســتهالك القهــري املفــرط ليــس فقــط مــن‬


‫خــال زيــادة اإلمكانيــة يف الوصــول إىل املخــدرات وتوفري العقاقــر القديمة‬
‫أيضــا مــن خــال اقــراح ســلوكيات ربــا مل حتــدث لنــا‬
‫واجلديــدة‪ ،‬ولكــن ً‬
‫عــى اإلطــاق أو مل نســمع هبــا مــن قبــل‪ .‬ال تنتــر مقاطــع الفيديــو برسعــة‪.‬‬
‫ولكنهــا حرف ًيــا معديــة تنتــر كالوبــاء‪ ،‬ومــن هنــا جــاء انتشــار مــا يطلــق‬
‫عليــه ميــم(‪.)1‬‬

‫ُيعــد البــر حيوانــات اجتامعيــة‪ .‬عندمــا نــرى اآلخريــن يترصفــون‬


‫بطريقــة معينــة عــر اإلنرتنــت‪ ،‬تبــدو هــذه الســلوكيات «طبيعيــة»؛ ألن‬
‫اآلخريــن يفعلوهنــا‪« .‬تويــر» هــو اســم مناســب ملنصــة رســائل وســائل‬
‫التواصــل االجتامعــي التــي يفضلهــا النقــاد والرؤســاء عــى ٍ‬
‫حــد ســواء‪.‬‬
‫جناحــا أثنــاء الطــران حتــى‬
‫ً‬ ‫نحــن مثــل أرساب الطيــور‪ .‬مل يكــد أحدنــا يرفــع‬
‫يرتفــع الــرب بأكملــه يف اهلــواء‪.‬‬

‫((( مصطلــح يســتخدم لوصــف شــعار أو فكــرة تنتــر برسعــة مــن شــخص إىل آخــر مــن خــال‬
‫اإلنرتنــت‪ ،‬تشــمل االيــاءات أو العبــارات البســيطة‪ .‬صــاغ كلمــة ميم العــامل ريتشــارد دوكنــز يف‬
‫كتابــه ‪ 1976‬اجلــن األنــاين‪ ،‬بأهنــا حماولــة لــرح طريقــة نــر املعلومــات الثقافيــة‪ ،‬تــأيت ميــم‬
‫اإلنرتنــت عــى شــكل صورة‪ ،‬رابط تشــعبي‪ ،‬فيديو‪ ،‬صور‪ ،‬موقع‪ ،‬أو هاشــتاج (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫نظــر جاكــوب إىل األســفل حمدق ـ ًا يف يديــه‪ ،‬مل يســتطع أن يضــع عينيــه‬
‫يف عينــي‪ « .‬لقــد قابلــت ســيدة يف غرفــة الدردشــة‪ ،‬وهــي حتــب أن تكــون‬
‫مســيطرة عــى الرجــال‪ .‬أخربهتــا عــن اآللــة الكهربائيــة‪ ،‬ثــم علمتهــا كيفيــة‬
‫التحكــم الكهربائــي عــن بعــد‪ :‬الــردد‪ ،‬واحلجــم‪ ،‬وبنيــة النبضــات‪ .‬هــي‬
‫حتــب أن جتعلنــي أصــل إىل حافــة النشــوة‪ ،‬ثــم ال تســمح يل بتجاوزهــا‪.‬‬
‫تفعــل هــذا عــرات املــرات‪ ،‬ويشــاهدها اآلخــرون ويدلــون بتعليقــات‪.‬‬
‫توطــدت عالقــة صداقتــي مــع هــذه الســيدة‪ .‬هــي ال ترغــب يف إظهــار‬
‫وجههــا يل‪ .‬لكننــي رأيتهــا ذات مــرة‪ ،‬عــن طريــق الصدفــة‪ ،‬حــن ســقطت‬
‫كامريهتــا للحظــة» ســألتُه‪« :‬كــم كان عمرهــا؟» «يف األربعينيــات مــن عمرهــا‬
‫عــى مــا أعتقــد» أردت أن أســأل كيــف تبــدو؟ ولكنــي أحجمــت عــن ذلــك‪،‬‬
‫فلــم أســمح وقتهــا لفضــويل الشــديد أن يلهــو هنــا‪ ،‬بــدال مــن الرتكيــز عــى‬
‫احتياجاتــه العالجيــة‪.‬‬

‫قــال جاكــوب‪« :‬اكتشــفت زوجتــي كل هــذا وقالــت إهنــا ســترتكني‪.‬‬


‫وعدهُتــا بالتوقــف‪ .‬أخــرت صديقتــي عــر اإلنرتنــت أننــي ســأقلع عــن‬
‫ُ‬
‫هــذا‪ .‬صديقتــي غاضبــة جــدا‪ .‬زوجتــي غاضبــة جــدا‪ .‬وأنــا أكــره نفــي‬
‫بعــد ذلــك‪ .‬أتوقــف لفــرة‪ .‬ربــا شــهر‪ .‬ولكــن بعــد ذلــك أبــدأ مــرة أخــرى‪.‬‬
‫أنــا وجهــازي فقــط‪ ،‬وليــس غــرف الدردشــة‪ .‬كنــت أكــذب عــى زوجتــي‪،‬‬
‫لكنهــا اكتشــفت يف النهايــة‪ .‬معاجلهــا يقــرح عليهــا هجــري؛ لــذا تركتنــي‬
‫زوجتــي‪ .‬لقــد انتقلــت إىل منزلنــا يف ســياتل‪ ،‬وأنــا اآلن وحــدي»‪ .‬قــال‬
‫وهــو هيــز رأســه «احلقيقــة دائــا أقــل‪ ،‬إهنــا ليســت جيــدة كــا أختيــل‪ ،‬أقــول‬
‫لنفــي يف كل مــرة هــي املــرة األخــرة‪ ،‬وأقــوم بتدمــر اآللــة ورميهــا بعيــدً ا‪،‬‬
‫لكــن يف الســاعة الرابعــة صبــاح اليــوم التــايل‪ ،‬آخذهــا مــن القاممــة وأعيــد‬
‫‪48‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تركيبهــا مــرة أخــرى»‪ .‬نظــر جاكــوب إ ّيل بعينــن متوســلتني‪« .‬أريــد التوقــف‪.‬‬
‫أرغــب يف ذلــك‪ .‬ال أريــد أن أمــوت مدمنًــا»‪ .‬لســت متأكــدة مــاذا أقــول‪.‬‬
‫أختيلــه ملتصقـ ًا بأعضائــه التناســلية عــر اإلنرتنــت يف غرفــة مليئــة بالغربــاء‪.‬‬
‫أشــعر بالرعــب والرمحــة وإحســاس غامــض ومقلــق‪ ،‬إنــه كان مــن املمكــن‬
‫أن أكــون أنــا‪.‬‬

‫_________________________________‬

‫كثــرا عــن جاكــوب‪ ،‬مجيعنــا قــد نواجــه خطــر اســتثارة‬


‫ً‬ ‫ال نختلــف‬
‫أنفســنا حتــى املــوت‪ .‬حيــث ُينســب ســبعون باملائــة مــن الوفيــات العامليــة‬
‫إىل عوامــل اخلطــر الســلوكية القابلــة للتعديــل مثــل التدخــن وقلــة النشــاط‬
‫البــدين والنظــام الغذائــي‪ .‬إذ تتمثــل املخاطــر العامليــة الرئيســة املؤديــة إىل‬
‫الوفيــات يف ارتفــاع ضغــط الــدم (‪ ،)٪ 13‬واســتخدام التبــغ (‪ ،)٪ 9‬وارتفاع‬
‫نســبة الســكر يف الــدم (‪ ،)٪ 6‬واخلمــول البــدين (‪ ،)٪ 6‬والســمنة (‪ .)٪ 5‬يف‬
‫عــام ‪ 2013‬كان مــا يقــدر بنحــو ‪ 2.1‬مليــار بالــغ يعانــون مــن زيــادة الــوزن‪،‬‬
‫مقارنــة بـــ ‪ 857‬مليونًــا يف عــام ‪ .1980‬يف حــن يوجــد اآلن عــدد أكــر مــن‬
‫األشــخاص يف مجيــع أنحــاء العــامل‪ ،‬ممــن يعانــون مــن الســمنة مقارنــة بنقــص‬
‫الــوزن‪ ،‬باســتثناء أجــزاء مــن أفريقيــا وجنــوب الصحــراء الكــرى وآســيا‪.‬‬

‫تأخــذ معــدالت اإلدمــان يف االرتفــاع يف مجيــع أنحــاء العــامل‪ .‬وتتمثــل‬


‫املخاطــر العامليــة الرئيســة للوفيــات يف أن العــبء املــريض الناجــم عــن‬
‫إدمــان الكحــول واملخــدرات غــر املرشوعــة يصــل إىل مــا نســبته ‪ % 1.5‬عــى‬

‫‪49‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مســتوى العــامل‪ ،‬وترتكــز أكثــر مــن نســبة ‪ % 5‬يف الواليــات املتحــدة‪ .‬يف حــن‬
‫تســتبعد هــذه البيانــات اســتهالك التبــغ‪.‬‬

‫خيتلــف اختيــار املخــدر مــن بلــد إىل آخــر‪ .‬إذ هتيمــن املخــدرات غــر‬
‫املرشوعــة عــى الواليــات املتحــدة‪ ،‬وهييمــن إدمــان الكحــول عــى روســيا‬
‫وأوروبــا الرشقيــة‪ .‬لقــد ارتفعــت معــدالت الوفيــات العامليــة النامجــة عــن‬
‫اإلدمــان مــن خمتلــف الفئــات العمريــة بــن عامــي ‪ 1990‬و ‪ ،2017‬حيــث‬
‫حتــدث أكثــر مــن نصــف الوفيــات بــن األشــخاص الذيــن تقــل أعامرهــم‬
‫عــن مخســن عا ًمــا‪.‬‬

‫ُيعــد الفقــراء ومــن هــم أقــل حظ ـ ًا يف التعليــم‪ ،‬ممــن يعيشــون يف دول‬


‫غنيــة‪ ،‬األكثــر عرضــة ملشــكلة االســتهالك القهــري املفــرط‪ .‬وذلــك بســبب‬
‫ســهولة الوصــول إىل أنــواع املخــدرات األكثــر حداثــة والتــي متنــح مكافــآت‬
‫عاليــة وتتســم برسعــة فاعليتهــا‪ ،‬يف حــن يفتقــرون يف نفــس الوقــت إىل‬
‫احلصــول عــى عمــل هــادف‪ ،‬وســكن آمــن‪ ،‬وتعليــم جيــد‪ ،‬ورعايــة صحيــة‬
‫ميســورة التكلفــة واملســاواة بــن األعــراق والطبقــات أمــام القانــون‪.‬‬

‫ختلــق هــذه األمــور عوامــل خطــورة ترتبــط باإلدمــان‪ .‬فلقــد أظهــر‬


‫اخلبــران االقتصاديــان يف جامعــة برينســتون‪ ،‬آن كيــس وأنجــوس ديتــون‪،‬‬
‫أن األمريكيــن البيــض يف منتصــف العمــر احلاصلــن عــى شــهادة جامعيــة‬
‫يموتــون يف ســن أصغــر مــن آبائهــم وأجدادهــم وأجــداد أجدادهــم‪ .‬وتُعــد‬
‫األســباب الثالثــة الرئيســة املؤديــة للوفــاة يف هــذه املجموعــة هــي اجلرعــات‬
‫الزائــدة مــن املخــدرات‪ ،‬وأمــراض الكبــد املرتبطــة بالكحــول‪ ،‬وحــاالت‬

‫‪50‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫االنتحــار‪ .‬وقــد أطلــق كيــس وديتــون عــى هــذه الظاهــرة مصطلــح «مــوت‬
‫اليــأس»‪.‬‬

‫ال خياطــر االســتهالك القهــري املفرط بزوالنا فحســب‪ ،‬بل هيــدد كوكبنا‬
‫أيضــا‪ .‬تتضــاءل املــوارد الطبيعيــة يف العــامل برسعــة‪ .‬يقــدر االقتصاديــون أنــه‬
‫ً‬
‫يف عــام ‪ ،2040‬ســيكون رأس املــال الطبيعــي للعــامل (األرايض‪ ،‬والغابــات‪،‬‬
‫ومصايــد األســاك‪ ،‬والوقــود) أقــل بنســبة ‪ % 21‬يف البلــدان ذات الدخــل‬
‫املرتفــع و‪ % 17‬يف البلــدان الفقــرة عــا هــو عليــه اليــوم‪ .‬ويف الوقــت نفســه‬
‫ســتنمو انبعاثــات الكربــون بنســبة ‪ % 7‬يف البلــــدان ذات الدخــل املرتفــع‪،‬‬
‫و‪ % 44‬يف بقيــة العــامل‪ .‬إذن نحــن نلتهــم أنفســنا‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪52‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل الثاين‬
‫اهلروب من األمل‬

‫قابلــت ديفيــد يف عــام ‪ .2018‬وهــو شــخص عــادي جــد ًا إذ ال يوجــد‬


‫مــا يميــزه مــن الناحيــة اجلســدية‪ :‬أبيــض‪ ،‬متوســط القامــة‪ ،‬بشــعر بنــي‪ .‬يبــدو‬
‫أصغــر ســن ًا مــن اخلمــس والثالثــن ســنة املدونــة يف امللــف الطبــي‪ .‬يف تلــك‬
‫األثنــاء كنــت أفكــر بينــي وبــن نفــي أنــه قــد يكــون مــن نوعيــة املــرىض‬
‫العابريــن الذيــن يأتــون لزيــارة واحــدة أو زيارتــن يف أفضــل األحــوال‪ ،‬إذ‬
‫لــن أراه بعــد ذلــك‪.‬‬

‫ولكننــي تعلمــت أن قــواي عــى التكهــن باألمــور ال يمكــن االعتــاد‬


‫عليهــا فهــي خمادعــة‪ .‬فهنــاك مــرىض كنــت مقتنعــة متا ًمــا بــأين قــادرة عــى‬
‫مســاعدهتم إال أنــه مــع الوقــت اكتشــفت أهنــم مســتعصون‪ ،‬وعــى النقيــض‪،‬‬
‫ميؤوســا منهــم وكانــوا مرنــن بشــكل مدهــش؛ لذلــك‬
‫ً‬ ‫آخــرون اعتربهتــم‬
‫اآلن‪ ،‬عنــد رؤيــة مــرىض جــدد‪ ،‬أحــاول هتدئــة هــذا الصــوت املشــكك‬
‫وأتذك��ر أن اجلمي��ع لدهي��م فرص��ة للتع��ايف‪.‬‬

‫سألته « أخربين ما الذي أتى بك إىل هنا؟‬

‫بــدأت مشــاكل ديفيــد يف الكليــة‪ ،‬بشــكل أكثــر دقــة يف اليــوم الــذي‬

‫‪53‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫توجــه فيــه إىل خدمــات الصحــة العقليــة للطــاب‪ .‬حيــث كان حينهــا يبلــغ‬
‫مــن العمــر عرشيــن عا ًمــا‪ ،‬وهــو طالــب يف الســنة الثانيــة اجلامعيــة‪ ،‬يف‬
‫شــال واليــة نيويــورك‪ ،‬باح ًثــا عــن املســاعدة للتغلــب عــى القلــق وضعــف‬
‫التحصيــل الــدرايس‪.‬‬

‫كان قلقــه نا ًجتــا عــن التفاعــل مــع الغربــاء‪ ،‬أو أي شــخص ال يعرفــه‬
‫جيــدً ا‪ .‬إذ حيمــر وجهــه ‪ ،‬ويتصبــب صدره وظهــره عر ًقا‪ ،‬وتضطــرب أفكاره‪.‬‬
‫لقــد حــاول االبتعــاد عــن املحــارضات واملــواد التــي تتطلــب التحــدث أمــام‬
‫اآلخريــن‪ .‬حيــث انســحب مــن احللقة الدراســية ملــادة اخلطابــة واالتصاالت‬
‫مرتــن‪ ،‬وهــي تُعــد متطل ًبــا دراس ـ ًيا البــد مــن اجتيــازه‪ ،‬ويف النهايــة اســتوىف‬
‫املتطلبـ�ات مـ�ن خـلال أخـ�ذ فصـ�ل مـ�واز يف كليـ�ة املجتمـ�ع‪.‬‬

‫سألته «ما الذي كنت ختاف منه؟»‬

‫«كنــت خائفــ ًا مــن الفشــل‪ .‬كنــت أخشــى مــن عــدم املعرفــة‪ ،‬بــأن‬
‫أنكشــف للجميــع بــأين ال أعــرف‪ .‬كنــت أخشــى مــن طلــب املســاعدة»‪.‬‬

‫بعــد حصولــه عــى موعــد للتقييــم‪ ،‬أجــرى اختبــار ًا مدتــه مخــس‬


‫وأربعــون دقيقــة‪ ،‬قــام بحلــه بقلــم الرصــاص مســتغرق ًا يف إكاملــه أقــل مــن‬
‫مخ��س دقائ��ق‪ ،‬ت��م تش��خيص إصابت��ه باضط��راب نق��ص االنتب��اه (‪)ADD‬‬
‫واضط��راب القل��ق الع��ام (‪ . )GAD‬أوىص األخصائــي النفــي الــذي‬
‫أجــرى االختبــار بمتابعتــه مــع طبيــب نفــي لوصــف دواء مضــاد للقلــق‪،‬‬
‫وقــال ديفيــد‪« :‬منبــه الضطــراب نقــص االنتبــاه»‪ ،‬يف حــن مل يعــرض عليــه‬
‫األخصائــي النفــي بدائــل عالجيــة أخــرى كجلســات العــاج النفــي أو‬
‫غــره مـ�ن التعديـلات السـ�لوكية‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ذهــب ديفيــد لرؤيــة طبيــب نفــي‪ ،‬وصــف لــه باكســيل‪ ،‬وهــو مثبــط‬
‫انتقائــي المتصــاص الســروتونني لعــاج االكتئــاب والقلــق‪ ،‬وأديــرال‪،‬‬
‫وهــو منبــه لعــاج اضطــراب نقــص االنتبــاه‪.‬‬

‫«إذن كيف سارت األمور بالنسبة لك ‪ -‬األدوية‪ ،‬أعني؟»‬

‫«ســاعد باكســيل يف هتدئــة القلــق قليـ ً‬


‫ا يف البدايــة‪ .‬لقــد قلــل مــن نوبات‬
‫عالجــا بمعنــى الكلمــة‪ .‬فقــد انتهــى يب األمــر‬
‫ً‬ ‫التعــرق الســيئة‪ ،‬لكنــه مل يكــن‬
‫إىل تغيــر ختصــي مــن هندســة الكمبيوتــر إىل علــوم الكمبيوتــر‪ ،‬معتقــدً ا‬
‫أن ذل��ك سيس��اعد‪ .‬ع�لى اعتب��ار أن عل��وم الكمبيوت��ر تتطل��ب تفاع�لا أق��ل‪.‬‬
‫لكــن ألننــي مل أمتكــن مــن التحــدث والقــول‪ :‬إننــي ال أعــرف‪ ،‬فقد فشــلت يف‬
‫االمتحــان‪ .‬ثــم فشــلت يف املــرة التاليــة‪ .‬ثــم انســحبت مــن الفصــل الــدرايس‬
‫حتــى ال أتلقــى رضبــة موجعــة يف معــديل الــدرايس‪ .‬يف النهايــة‪ ،‬خرجــت مــن‬
‫كليــة اهلندســة‪ ،‬وكان ذلــك حمز ًنــا ح ًقــا؛ ألنــه كان مــا أحببتــه وأردت ح ًقــا‬
‫القيــام بــه‪ .‬ختصصــت يف التاريــخ؛ حيــث كانــت الفصــول أصغــر‪ ،‬تقريب ـ ًا‬
‫ـخصا فقــط‪ ،‬ويمكننــي أن أكــون أقــل تفاعليــة دون أن يطلــب‬
‫عرشيــن شـ ً‬
‫منــي أحــد ذلــك‪ .‬يمكنني أخــذ الكتــاب األزرق إىل املنــزل والعمــل بنفيس»‪.‬‬

‫سألته‪« :‬وماذا عن األديرال؟‬

‫«كنــت آخــذ عــرة مليغرامــات أول يشء كل صبــاح قبــل الصــف‪.‬‬


‫لقــد ســاعدين يف احلصــول عــى هــذا الرتكيــز العميــق‪ .‬لكــن بالنظــر إىل‬
‫الــوراء‪ ،‬أعتقــد أنــه كان لــدي عــادات دراســية ســيئة‪ .‬ســاعدين أديــرال‬
‫أيضــا يف املامطلــة والتســويف‪ .‬يف حــال‬
‫يف تعديــل ذلــك‪ ،‬لكنــه ســاعدين ً‬

‫‪55‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫كان هنــاك اختبــار ومل أبــدأ يف الدراســة‪ ،‬كنــت أتنــاول أديــرال عــى مــدار‬
‫الســاعة‪ ،‬طــوال النهــار والليــل‪ ،‬حتــى أســتعد لالمتحــان‪ .‬ثــم وصلــت إىل‬
‫حي��ث ال يمكنن��ي الدراس��ة بدوهن��ا‪ .‬ث��م ب��دأت أحت��اج إىل املزي��د‪».‬‬

‫«هل كان من الصعب احلصول عىل املزيد؟»‬

‫قــال «ليــس ح ًقــا»‪« .‬كنــت أعــرف دائـ ًـا متــى حيــن موعــد إعــادة رصف‬
‫العــاج‪ .‬حينهــا أتصــل بالطبيــب النفــي قبــل أيــام قليلــة‪ ،‬يــوم أو يومــن‬
‫فقــط‪ ،‬حتــى ال يشــتبهوا يف تــريف‪ .‬يف الواقــع‪ ،‬يكــون العــاج نفــد قبــل‬
‫عــرة أيــام‪ ،‬ولكــن إذا اتصلــت قبــل بضعــة أيــام‪ ،‬فســيتم إعــادة الــرف‬
‫أيضــا أنــه مــن األفضــل التحــدث إىل مســاعد‬
‫يف ذلــك الوقــت‪ .‬تعلمــت ً‬
‫الطبيــب‪ ،‬يف الغالــب مســاعدي األطبــاء يقومــون بإعــادة الــرف دون‬
‫طــرح الكثــر مــن األســئلة‪ .‬يف بعــض األحيــان أختلــق األعــذار‪ ،‬مثــل‬
‫القــول‪ :‬إن هنــاك مشــكلة يف نظــام طلــب إعــادة الــرف بواســطة الربيــد‪.‬‬
‫مضط��را إىل ذل��ك‪».‬‬
‫ً‬ ‫لك��ن يف معظ��م األوق��ات مل أك��ن‬

‫«يبدو يف احلقيقة أن احلبوب مل تتمكن من مساعدتك»‪.‬‬

‫صمــت ديفيــد لربهــة‪ ،‬ثــم أجــاب‪« :‬يف النهايــة‪ ،‬كانــت هــذه احلبــوب‬
‫تواســيني بعــض الــيء‪ .‬كان تنــاول احلبــوب أســهل مــن الشــعور بــاألمل»‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2016‬قدمــت حمــارضة عــن مشــاكل املخــدرات والكحــول‬


‫ألعضــاء هيئــة التدريــس واملوظفــن يف عيــادة الصحــة النفســية للطــاب‬
‫بجامعــة ســتانفورد‪ .‬لقــد مــرت عــدة أشــهر منــذ أن ذهبــت إىل هــذا اجلــزء‬
‫مــن احلــرم اجلامعــي‪ .‬وصلــت مبكــر ًا‪ ،‬وبينــا كنــت أنتظــر يف الردهــة األمامية‬

‫‪56‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ملقابلــة الشــخص املنســق لدعــويت‪ ،‬لفــت انتباهــي وجــود حامــل معلــق عــى‬
‫احلائــط ألربــع كتيبــات إمجــاالً‪ ،‬كل منهــا يتنــاول موضــوع الســعادة ولكــن‬
‫مــع اختــاف بســيط عــن اآلخــر‪ ،‬حيــث تشــر كلمــة ســعادة يف العناويــن‬
‫إىل التــايل‪ :‬عــادة الســعادة‪ ،‬النــوم طريقــك إىل الســعادة‪ ،‬الســعادة يف متنــاول‬
‫اليــد‪ 7 ،‬أيــام لتكــون أكثــر ســعادة‪ .‬يوجــد داخــل كل كتيــب وصفــات‬
‫لتحقيــق الســعادة‪« :‬ضــع قائمــة بـــ ‪ 50‬شــي ًئا جتعلــك ســعيدً ا»‪« ،‬انظــر إىل‬
‫نفســك يف املــرآة (و) ضــع قائمــة باألشــياء التــي حتبهــا يف دفــر يومياتــك»‪ ،‬و‬
‫«قــم بإنتــاج تيــار مــن املشــاعر اإلجيابيــة»‪.‬‬

‫«حســن‬
‫ولعــل أكثــر الرســائل التــي تنطــوي عليهــا هــذه الكتيبــات‪ِّ :‬‬
‫توقيتــك‪ ،‬وتنــوع يف اســراتيجيات الســعادة‪ .‬مــا تقــوم بــه مــن أفعــال جتعلــك‬
‫تشــعر بالســعادة ال بــد أن تكــون متعمــدة وتكــون مدروســة‪ ،‬متــى؟ وكــم‬
‫مــرة؟ ال بــد مــن التجريــب‪ ،‬هــل األعــال اللطيفــة والصاحلــة التــي تقــوم هبــا‬
‫جتــاه اآلخريــن تشــعرك بالســعادة يف حــال كانــت أكثــر مــن عمــل يف اليــوم؟‬
‫أو هــل ُيعــد فعــل عمــل واحــد كل يــوم هــو أكثــر فعاليــة بالنســبة لــك؟»‪.‬‬

‫توضــح هــذه الكتيبــات كيــف أصبــح الســعي وراء الســعادة الشــخصية‬


‫مبــدأ حدي ًثــا‪ ،‬ممــا أدى إىل اســتبعاد التعريفــات األخــرى لـــ «احليــاة اجليــدة»‪.‬‬
‫حتــى األعــال اللطيفــة جتــاه اآلخريــن يتــم تأطريهــا عــى أهنــا اســراتيجية‬
‫للســعادة الشــخصية‪ .‬إن اإليثــار الــذي مل يعــد جمــرد خــر يف حــد ذاتــه‪،‬‬
‫أصبــح وســيلة لـــ «رفاهيتنــا»‪.‬‬

‫تنبــأ فيليــب ريــف‪ ،‬وهــو عــامل النفــس وفيلســوف يف منتصــف القــرن‬


‫العرشيــن‪ ،‬هبــذا االجتــاه يف كتابــه انتصــار العــاج‪ :‬اســتخدامات اإليــان‬

‫‪57‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بعــد فرويــد‪« :‬ولــد اإلنســان املتديــن ليتــم ختليصــه وإنقــاذه‪ ،‬يف حــن ولــد‬
‫اإلنســان النفــي ليتــم إســعاده»‪.‬‬

‫إن الرســائل التــي حتثنــا عــى الســعي وراء الســعادة ال تقتــر عــى جمــال‬
‫أيضــا عــى الهــوت الوعــي‬
‫علــم النفــس‪ .‬حيــث يشــجع الديــن احلديــث ً‬
‫الـ�ذايت والتعبـير عـ�ن الـ�ذات وحتقيـ�ق الـ�ذات باعتبارهـ�ا اخلـير األسـ�مى‪.‬‬

‫يصــف الكاتــب والباحــث الالهــويت روس دوثــات يف كتابــه «الديــن‬


‫الســيئ»‪ ،‬الهــوت عرصنــا اجلديــد «اهلل يف الداخــل» بأنــه «إيــان عاملــي‬
‫ومريــح‪ ،‬ويعــد بــكل امللــذات اخلارقــة‪ ...‬بــدون أي أمل‪ ...‬وحــدة الوجــود‬
‫شــخصا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫الصــويف‪ ،‬حيــث يكــون اهلل جتربــة وليــس‬

‫إنــه ملــن املدهــش أن كتــب الــراث الدينــي حتــوي القليــل مــن املواعــظ‬
‫األخالقيــة‪ ،‬فهنــاك دعــوات متكــررة إىل «التعاطــف» و«اللطــف»‪ ،‬ولكــن‬
‫القليــل مــن اإلرشــادات لألشــخاص الذيــن يواجهــون معضــات فعليــة‬
‫ـعورا جيــدً ا‪،‬‬
‫وأزماــت وجودي��ة‪ .‬وغال ًب��ا م�اـ يص��ل التوجيــه إىل «إذا كان شـ ً‬
‫افعــل ذلــك»‪ .‬أي اســتفت قلبــك‪.‬‬

‫تــم إحضــار مريــي كيفــن‪ ،‬لرؤيتــي مــن قبــل والديــه يف عــام ‪.2018‬‬
‫كان حينهــا يبلــغ مــن العمــر تســعة عــر عا ًمــا‪ ،‬كانــت خماوفهــا كــا يــي‪ :‬لــن‬
‫يواظــب عــى حضــور املدرســة‪ ،‬وال يمكنــه االحتفــاظ بوظيفــة‪ ،‬ولــن يتبــع‬
‫أ ًيـ�ا مـ�ن قواعـ�د األرسة‪.‬‬

‫مل يكــن والــداه مثاليــن مثــل أغلبنــا‪ ،‬لكنهــا كانــا حيــاوالن جاهديــن‬
‫مســاعدته‪ .‬مل يكــن هنــاك إثبــات عــى ســوء املعاملــة أو اإلمهــال‪ .‬كانــت‬

‫‪58‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املشــكلة أهنــا بديــا غــر قادريــن عــى فــرض أي قيــود عليــه‪ .‬لقــد كانــا قلقــن‬
‫مــن أهنــا مــن خــال مطالبتــه بااللتــزام‪ ،‬قــد «يضغطــان عليــه» أو «يصيبانــه‬
‫بصدمــة»‪.‬‬

‫ُيعــد تصــور األطفــال عــى أهنــم ضعفــاء نفسـ ًيا مــن املفاهيــم اجلوهريــة‬
‫احلديثــة نســب ًيا‪ .‬إذ كان ُيعــد األطفــال يف العصــور القديمة‪ ،‬بالغــن مصغرين‪،‬‬
‫مكتمــي التكويــن منــذ الــوالدة‪ .‬وهــذا يف معظم احلضــارات الغربيــة‪ ،‬إذ كان‬
‫ُينظــر إىل األطفــال عــى أهنــم أرشار بالفطــرة‪.‬‬

‫كانــت مهمــة اآلبــاء ومقدمــي الرعايــة هــي فــرض االنضبــاط الشــديد‬


‫مــن أجــل تنشــئتهم وجتهيزهــم للعيــش يف العــامل االجتامعي‪ .‬كان مــن املقبول‬
‫متا ًمــا اســتخدام العقــاب البــدين وتكتيــكات اخلــوف للســيطرة عــى األطفــال‬
‫وجعلهـ�م أكثـ�ر تأدبـ� ًا‪ .‬وهـ�ذا يف الغالـ�ب مل يعـ�د ممكنـ� ًا يف وقتنـ�ا احلـ�ارض‪.‬‬

‫اليــوم‪ ،‬يشــعر الكثــر مــن اآلبــاء بالرعــب مــن فعــل أو قــول يشء مــن‬
‫شــأنه أن يــرك ندبــة عاطفيــة يف نفــوس أطفاهلــم‪ ،‬ممــا هييئهــم تربوي ـ ًا بأهنــم‬
‫سيتســببون يف املعانــاة العاطفيــة وحتــى املــرض العقــي يف وقــت الحــق مــن‬
‫احلي��اة إذا م��ا اجته��وا إىل أس��اليب الرتبي��ة القديم��ة‪.‬‬

‫يعــود تأســيس هــذه الفكــرة إىل فرويــد‪ ،‬مــن خــال مســامهته الرائــدة‬
‫يف التحليــل النفــي عــى اعتبــار أن جتــارب الطفولــة املبكــرة‪ ،‬حتــى تلــك‬
‫التــي تــم نســياهنا منــذ فــرة طويلــة أو خــارج اإلدراك الواعــي‪ ،‬يمكــن أن‬
‫دائــا‪ .‬لســوء احلــظ‪ ،‬فــإن رؤيــة فرويــد القائلــة بــأن‬
‫رضرا نفســ ًيا ً‬
‫تســبب ً‬
‫صدمــة الطفولــة املبكــرة يمكــن أن تؤثــر عــى نفســية األفــراد وتصيبهــم‬

‫‪59‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫باعتــال نفــي حتــى بعــد بلوغهــم‪ ،‬قــد حتولــت إىل قناعــة بــأن أي جتربــة‬
‫مليئـ�ة بالتحديـ�ات هتيئنـ�ا ألريكـ�ة العـلاج النفـسي‪.‬‬

‫إن جهودنــا إلبعــاد أطفالنــا عــن التجــارب النفســية املزعجــة ال تتــم يف‬
‫أيضــا‪ .‬عــى مســتوى املدرســة االبتدائيــة‪،‬‬
‫املنــزل فحســب‪ ،‬بــل يف املدرســة ً‬
‫يتلقــى كل طفــل مــا يعــادل جائــزة «نجمــة األســبوع»‪ ،‬ليــس ألي إنجــاز‬
‫معــن ولكــن برتتيــب أبجــدي‪ .‬يتــم تعليــم كل طفــل أن يكــون حــذر ًا‬
‫�اـ لس��لوكيات املتنمري��ن حتـ�ى يكونــوا متعاطفــن مــع الضحايــا‬‫ومتيقظ ً‬
‫ودعــاة حــق بــدالً مــن أن يكونــوا جمــرد مشــاهدين‪.‬‬

‫عــى املســتوى اجلامعــي‪ ،‬يتحــدث أعضــاء هيئــة التدريــس والطــاب‬


‫عــن املحفــزات واملســاحات اآلمنــة(‪ .)1‬لقــد طــورت إرشــادات علــم نفــس‬
‫النم��و والتعاطـ�ف النظ�اـم التعليم��ي والتنشــئة االجتامعيــة‪ ،‬إذ ُيعــد تطــور ًا‬
‫إجيابيــا للحيــاة احلديثــة‪.‬‬

‫جيــب أن نعــرف بقيمــة كل شــخص بعيــد ًا عــا يقدمــه مــن إنجــازات‪،‬‬


‫وأن نوقــف الوحشــية اجلســدية والعاطفيــة يف فنــاء املدرســة ويف كل مــكان‬
‫آخــر‪ ،‬وإنشــاء مســاحات آمنــة للتفكــر والتعلــم واملناقشــة‪.‬‬

‫لكنــي أشــعر بالقلــق ألننــا أفرطنــا يف محايــة األطفــال‪ ،‬اإلفــراط يف‬


‫التعقيــم والنظافــة‪ ،‬لئــا يمرضــوا‪ ،‬والتعامــل مــع مرحلــة الطفولــة كأهنــا‬
‫مرحلــة مرضيــة أكثــر مــن كوهنــا مرحلــة نامئيــة‪ ،‬نــريب أطفالنــا فيــا يمكــن‬

‫((( مــكان أو بيئــة يمكــن أن يشــعر فيهــا شــخص أو فئــة مــن النــاس بالثقــة يف أهنــم لــن يتعرضــوا‬
‫للتمييــز أو النقــد أو املضايقــة أو أي أذى عاطفــي أو جســدي آخــر (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تشــبيهه بخليــة مبطنــة‪ ،‬ونحــاول بشــتى الوســائل محايتهــم مــن أي أذى‬


‫حمتمــل‪ ،‬كل هــذا‪ ،‬دون جتهيزهــم بــاألدوات التــي ســيواجهون العــامل هبــا‪،‬‬
‫مــن خــال محايــة أطفالنــا مــن الشــدائد‪ ،‬هــل جعلناهــم خيافــون بشــدة‬
‫منهــا؟ مــن خــال تعزيــز احرتامهــم لذاهتــم بالثنــاء الزائــف وعــدم وجــود‬
‫ا وأكثــر اســتحقا ًقا‪،‬‬
‫عواقــب يف العــامل احلقيقــي‪ ،‬هــل جعلناهــم أقــل حتم ـ ً‬
‫وجهـ ًـا بعيــوب شــخصيتهم؟ مــن خــال االستســام لــكل رغباهتــم‪ ،‬هــل‬
‫شــجعنا عــر ًا جديــدً ا مــن اللــذة؟‬

‫شــاركني كيفــن فلســفة حياتــه يف إحــدى جلســاتنا‪ .‬جيــب أن أعــرف‬


‫أننــي شــعرت بالرعــب منهــا‪ ،‬ذكــر يل‪« :‬أفعــل مــا أريــد‪ ،‬وقتــا أريــد‪ .‬إذا‬
‫أردت أن أبقــى يف رسيــري‪ ،‬ســأبقى يف رسيــري‪ .‬إذا كنــت أرغــب يف ممارســة‬
‫ألعــاب الفيديــو‪ ،‬فأنــا ألعــب ألعــاب الفيديــو‪ .‬إذا كنــت أريــد استنشــاق‬
‫الكوكايــن‪ ،‬أقــوم بإرســال رســالة نصيــة إىل املــوزع اخلــاص يب‪ ،‬ويوصلــه يل‪،‬‬
‫وأقــوم بشــمه‪ .‬إذا كنــت أرغــب يف ممارســة اجلنــس‪ ،‬فأنــا أتصــل باإلنرتنــت‬
‫ش�خـصا وأقابلــه وأماــرس اجلن��س»‪ .‬ســألته بتعجــب‪« :‬كيــف تقــوم‬ ‫ً‬ ‫وأجــد‬
‫بــكل ذلــك ومــا أثــره عليــك‪ ،‬كيفــن؟ «ليــس جيــدً ا»‪ .‬لوهلــة بــدا عليــه‬
‫اخلج��ل‪.‬‬

‫عــى مــدى العقــود الثالثــة املاضيــة‪ ،‬رأيــت أعــدا ًدا متزايــدة مــن املــرىض‬
‫مثــل ديفيــد وكيفــن الذيــن يبــدو أهنــم يتمتعــون بــكل ميــزة يف احليــاة‪ :‬أرس‬
‫داعمــة‪ ،‬وتعليــم جيــد‪ ،‬واســتقرار مــايل‪ ،‬وصحــة جيــدة‪ .‬ومــع ذلــك يعانــون‬
‫مــن القلــق واالكتئــاب‪ ،‬وأمل جســدي‪ .‬ال يقتــر األمــر عــى أهنــم ال يعملــون‬
‫وف ًقــا إلمكاناهتــم‪ ،‬بــل هــم بالــكاد قــادرون عــى النهــوض مــن الفــراش يف‬
‫الصبـ�اح‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ويف نفــس الصــدد‪ ،‬يمكــن القــول‪ :‬إن ممارســة الطــب قــد تغــرت‬
‫ٍ‬
‫خ�اـل م��ن األمل‪ .‬قبــل القــرن العرشيــن‪ ،‬اعتقــد األطبــاء‬ ‫بسـ�بب ســعينا إىل عـ�امل‬
‫أن درجــة معينــة مــن األمل تُعــد جيــدة وصحيــة‪ .‬حيــث كان كبــار اجلراحــن‬
‫يف القــرن التاســع عــر مرتدديــن يف تبنــي التخديــر العــام أثنــاء اجلراحــة؛‬
‫ألهنــم اعتقــدوا أن األمل يعــزز املناعــة واســتجابة القلــب واألوعيــة الدمويــة‬
‫ويــرع عمليــة الشــفاء‪ .‬عــى الرغــم مــن عــدم وجــود دليــل موثــق ومعروف‬
‫ُيظهــر أن األمل يف الواقــع ُيــرع مــن إصــاح األنســجة‪ ،‬إال أن هنــاك براهــن‬
‫مســتجدة تشــر إىل أن تنــاول املــواد األفيونيــة أثنــاء اجلراحــة يبطــئ عمليــة‬
‫الشـ�فاء‪.‬‬

‫يذكــر أحــد أهــم أطبــاء القــرن الســابع عــر تومــاس ســيدهنام‪« :‬إننــي‬
‫أالحــظ مــا يبذلــه األطبــاء‪ ...‬مــن جهــود متعمــدة للســيطرة عــى مجيــع اآلالم‬
‫وااللتهابــات‪ ..‬وأرى مــن غــر أدنــى شــك بأنــه يمكــن اعتبــار درجــة معتدلة‬
‫مــن هــذه اآلالم اجلســدية‪ ،‬أداة تســتخدمها الطبيعــة يف أغــراض حكيمــة»‪.‬‬

‫وعــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬مــا يتــم توقعــه مــن األطبــاء يف العــر‬
‫احلديــث هــو ختليــص البرشيــة مــن كل اآلالم‪ ،‬لئــا يفشــلوا يف أداء مهمتهــم‬
‫ودورهــم األســاس كمعاجلــن يتمتعــون بقــدر كبــر مــن التعاطــف والرمحــة‬
‫ملســاعدة مرضاهــم عــى الشــفاء؛ لذلــك ُيعــد األمل اليــوم‪ ،‬بــأي شــكل مــن‬
‫األشــكال أمــر ًا خطــر ًا‪ ،‬ليــس فقــط ألنــه مــؤمل‪ ،‬ولكــن ً‬
‫أيضــا ألنــه ُيعتقــد أنــه‬
‫يؤجــج الدمــاغ ويــؤدي إىل تفاقــم اآلالم يف املســتقبل مــن خــال تــرك جــرح‬
‫عصبـ�ي ال يمكـ�ن شـ�فاؤه أبـ�د ًا‪.‬‬

‫إن النقلــة النوعيــة حــول األمل متــت ترمجتهــا إىل االنفتــاح اهلائــل‬

‫‪62‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الســتهالك وصفــات طبيــة هائلــة مــن تلــك األقــراص التــي جتعلنــا بحــال‬
‫أفضــل‪ .‬اليــوم‪ ،‬أكثــر مــن واحــد مــن كل أربعــة أمريكيــن بالغــن ‪-‬وأكثــر‬
‫مــن واحــد مــن كل عرشيــن طفـ ًـا أمريك ًيــا‪ -‬يأخــذون عقـ ً‬
‫ـارا نفسـ ًيا بشــكل‬
‫يومــي‪.‬‬

‫تزاي��د اس�تـخدام مضـ�ادات االكتئ�اـب مث��ل باكسـ�يل وبـ�روزاك‬


‫وسيليكســا يف دول مــن مجيــع أنحــاء العــامل‪ ،‬وتتصــدر الواليــات املتحــدة‬
‫القائمــة‪ .‬فهنــاك أكثــر مــن واحــد بــن كل عــرة أمريكيني أي (‪ 110‬شــخص‬
‫لــكل ‪ )1000‬يأخــذ مضــادات االكتئــاب‪ ،‬تليهــا أيســلندا (‪،)1000/106‬‬
‫أســراليا (‪ ،)1000/89‬كنــدا (‪ ،)1000/86‬دانــارك (‪ ،)1000/85‬الســويد‬
‫(‪ )1000/79‬والربتغــال (‪ .)1000/78‬مــن بــن مخســة وعرشيــن دولــة‪،‬‬
‫كانــت كوريــا اجلنوبيــة األخــرة (‪.)1000/13‬‬

‫لقــد ارتفــع اســتخدام مضــادات االكتئــاب يف أملانيــا بنســبة ‪ 46‬يف املائــة‬


‫يف أربــع ســنوات فقــط‪ ،‬و‪ % 20‬يف إســبانيا والربتغــال خــال نفــس الفــرة‪.‬‬
‫وعــى الرغــم مــن عــدم توفــر البيانــات اخلاصــة بالــدول اآلســيوية األخــرى‪،‬‬
‫بــا يف ذلــك الصــن‪ ،‬يمكننــا أن نســتنتج ارتفــاع معــدالت االســتخدام‬
‫املتزايــد ملضــادات االكتئــاب مــن خــال النظــر يف اجتاهــات املبيعــات‪ .‬حيــث‬
‫أنــه يف الصــن‪ ،‬وصلــت مبيعات مضــادات االكتئــاب إىل ‪ 2.61‬مليــار دوالر‬
‫يف عــام ‪ ،2011‬بزيــادة قدرهــا ‪ % 19.5‬ع��ن الع��ام الس��ابق‪.‬‬

‫تضاعفــت وصفــات املنبهــات (أديــرال‪ ،‬ريتالــن) يف الواليــات املتحدة‬


‫بــن عامــي ‪ 2006‬و‪ ،2016‬بــا يف ذلــك األطفــال الذيــن تقــل أعامرهــم عــن‬

‫‪63‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مخــس ســنوات‪ .‬يف عــام ‪ ،2011‬تــم وصــف منبــه لثلثــي األطفــال األمريكيــن‬
‫املصابــن باضطــراب نقــص االنتبــاه مــع فــرط النش��اط‪.‬‬

‫فالوصفــات الطبيــة لألدويــة املهدئــة التــي تســبب اإلدمــان مثــل‬


‫البنزوديازيبينــات (زاناكــس‪ ،‬كلونوبــن‪ ،‬فاليــوم)‪ ،‬آخــذة يف االرتفــاع‪ ،‬ربــا‬
‫يكــون ســبب ذلــك االرتفــاع لتحقيــق القليــل مــن التــوازن وللتعويــض عــن‬
‫كل تلــك املنبهــات التــي نتناوهلــا‪ .‬بــن األعــوام ‪ 1996‬و ‪ 2013‬يف الواليــات‬
‫املتحــدة زاد عــدد البالغــن الذيــن رصفــت هلــم وصفــات طبيــة مــن‬
‫البنزوديازيبــن بنســبة ‪ ،% 67‬مــن ‪ 8.1‬ماليــن إىل ‪ 13.5‬ملي��ون ش��خص‪.‬‬
‫يف عــام ‪ 2012‬تــم وصــف عــدد ٍ‬
‫كاف مــن املــواد األفيونيــة لــكل أمريكــي‬
‫للحصــول عــى عبــوة مــن احلبــوب (املســكنات)‪ ،‬كــا قتلــت اجلرعــات‬
‫الزائــدة مــن املــواد األفيونيــة عــد ًدا مــن األمريكيــن أكثــر مــن طلقــات‬
‫البنــادق أو حــوادث الســيارات‪ .‬فهــل مــن املســتغرب إذن أن ديفيــد افــرض‬
‫أنــه جيــب أن خيــدر نفســه بتنــاول احلبــوب؟‬

‫إىل جان��ب مــا تــم عرضــه مــن األمثلــة املتطرفــة عــى اهلــروب مــن األمل‪،‬‬
‫يمكــن القــول أننــا فقدنــا القــدرة عــى حتمــل حتــى أشــكال بســيطة مــن‬
‫االنزعــاج واآلالم‪ .‬نحــن نســعى باســتمرار إىل تشــتيت انتباهنــا عــن اللحظــة‬
‫احلاليــة مــن أجــل احلصــول عــى الرتفيــه‪.‬‬

‫يذكــر الــدوس هكســي يف روايتــه «عــامل جديــد شــجاع»‪« :‬إن تطويــر‬


‫صناعــة واســعة مــن وســائل االتصــال اجلامهرييــة‪ ،‬مل يكــن هدفهــا االهتــام‬
‫بصــورة أساســية بــا هــو صــواب أو خطــأ‪ ،‬ولكــن بتقديــم مــا ليــس لــه‬

‫‪64‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عالقــة بالواقــع‪ ...،‬تقريبــا فشــلت يف مراعــاة رغبــة اإلنســان الــا حمــدودة‬


‫يف التشــتت»‪.‬‬

‫عــى نفــس املنــوال‪ ،‬كتــب نيــل بوســتامن‪ ،‬مؤلــف الكتــاب الكالســيكي‬


‫يف ثامنيناــت الق�رـن املاــيض «إمت��اع أنفس�نـا ح��د املــوت»‪ ،‬مــا يــي‪« :‬مل يعــد‬
‫األمريكيــون يتحدثــون مــع بعضهــم بعضـ ًا‪ ،‬بــل يســتمتعون ببعضهــم بعض ًا‪.‬‬
‫إهنــم ال يتبادلــون األفــكار‪ ،‬هــم يتبادلــون الصــور‪ .‬ال يناقشــون القضايــا‪ .‬بــل‬
‫يتناقش��ون ح��ول املظه��ر اجلي��د واملش��اهري واإلعالن��ات التجاري��ة»‪.‬‬

‫جــاءت مريضتــي صــويف‪ ،‬وهــي طالبــة جامعيــة يف جامعــة ســتانفورد‬


‫مــن كوريــا اجلنوبيــة‪ ،‬لطلــب املســاعدة بســبب االكتئــاب والقلــق‪ .‬مــن‬
‫بــن العديــد مــن األشــياء التــي حتدثنــا عنهــا‪ ،‬أخربتنــي أهنــا تقــي معظــم‬
‫ســاعات اســتيقاظها متصلــة بوســائل التواصــل االجتامعــي‪ ،‬كاليوتيــوب‬
‫واالنســتغرام واالســتامع إىل البودكاســت وقوائــم التشــغيل‪ .‬يف جلســة معهــا‬
‫اقرتحــت عليهــا أن حتــاول املــي إىل الفصــل دون االســتامع إىل أي يشء‬
‫وتــرك أفكارهــا تطفــو عــى الســطح‪.‬‬

‫نظــرت إ ّيل وهــي مرتابــة وخائفــة‪ .‬وســألت وهــي مندهشــة‪« :‬ملــاذا‬


‫قــد أفعــل ذلــك؟»‪« ،‬حس ـنًا‪ »،‬لقــد غامــرت هنــا وقلــت هلــا‪« :‬إهنــا طريقــة‬
‫للتعــرف عــى نفســك‪ .‬بــرك جتربتــك تنكشــف لــك دون حماولــة الســيطرة‬
‫عليهــا أو اهلــروب منهــا‪ .‬كل تلــك األجهــزة التــي تشــتت انتباهــك قد تســهم‬
‫يف اكتئابــك وقلقــك‪ .‬فتجنــب نفســك طــوال الوقــت أمــر مرهــق للغايــة‪.‬‬
‫أتســاءل عــا إذا كانــت جتربــة نفســك بطريقــة خمتلفــة قــد متنحــك إمكانيــة‬
‫الوصــول إىل أفــكار ومشــاعر جديــدة‪ ،‬وتســاعدك عــى الشــعور بمزيــد‬

‫‪65‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن االرتبــاط مــع نفســك واآلخريــن والعــامل»‪ .‬فكــرت يف ذلــك للحظــة‪.‬‬


‫وقال�تـ‪« :‬لكن��ه مم��ل للغايــة»‪ .‬قلــت «نعــم‪ ،‬هــذا صحيــح»‪« .‬امللــل ليــس ممـ ًـا‬
‫أيضــا‪ .‬إنــه جيربنــا عــى مواجهــة أســئلة أكــر‬
‫فقــط‪ .‬يمكــن أن يكــون مرع ًبــا ً‬
‫أيضــا فرصــة لالكتشــاف واالخرتاع‪.‬‬
‫عــن املعنــى والغــرض‪ .‬لكــن امللــل هــو ً‬
‫إنــه خيلــق املســاحة الالزمــة لتشــكيل فكــرة جديــدة‪ ،‬والتــي بدوهنــا ســنبقى‬
‫نتفاعــل إىل مــا ال هنايــة مــع املحفــزات مــن حولنــا‪ ،‬بــدالً من الســاح ألنفســنا‬
‫بــأن نكــون ضمــن جتربتنــا احليــة‪ ،‬واخلاصــة»‪.‬‬

‫يف األســبوع التــايل‪ ،‬جربــت صــويف املــي إىل الفصــل دون اتصاهلــا‬
‫ب��أي م��ن وس��ائل التواص��ل االجتامع��ي أو مش��غالت التس��لية‪ .‬قالــت‪« :‬كان‬
‫األمــر صع ًبــا يف البدايــة»‪« .‬ولكــن بعــد ذلــك اعتــدت عــى ذلــك وأعجبنــي‬
‫نو ًع�اـ م��ا‪ .‬فلق�دـ ب��دأت يف مالحظ��ة األش��جار ‪».‬‬

‫‪66‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫نقص العناية بالذات أم املرض النفيس؟‬

‫نعــود إىل ديفيــد‪ ،‬الــذي كان‪ ،‬عــى حــد قولــه‪ ،‬يتعاطــى «أديــرال عــى‬
‫مــدار الســاعة»‪ .‬عــاد للعيــش مــع والديــه بعــد خترجــه مــن الكليــة عــام‬
‫‪ ،2005‬لقـ�د فكـ�ر يف الذهـ�اب إىل كليـ�ة احلقـ�وق‪ ،‬وأجـ�رى اختبـ�ارات ‪LSAT‬‬
‫التــي تؤهــل للتخصــص‪ ،‬ومتكــن مــن اجتيازهــا بشــكل جيــد‪ ،‬ولكــن عندمــا‬
‫جــاء وقــت التقديــم‪ ،‬مل يعــد يشــعر بأنــه يرغــب يف ذلــك‪.‬‬

‫«جلســت يف الغالــب عــى األريكــة وكنــت أعــاين مــن الغضــب املرتاكــم‬


‫واالس��تياء جت��اه نف�سي وجت��اه الع��امل « م��ا ال��ذي كنـ�ت غاض ًب�اـ منه؟» «شــعرت‬
‫وكأننــي أضعــت تعليمــي اجلامعــي‪ .‬مل أدرس مــا أريــد ح ًقــا أن أدرســه‪.‬‬
‫كانــت صديقتــي مــا تــزال يف اجلامعــة‪ ...‬وهــي بحــال جيــدة‪ ،‬تقــوم بدراســة‬
‫املاجس��تري‪ .‬وأن��ا كن��ت يف منته��ى التخب��ط والتي��ه‪ ،‬يف املن��زل ال أفع��ل ش��ي ًئا»‪.‬‬

‫بعـ�د ختـ�رج صديقـ�ة ديفيـ�د‪ ،‬حصلـ�ت عـلى وظيفـ�ة يف بالـ�و ألتـ�و‬


‫لألمــن الســيرباين‪ .‬تبعهــا إىل هنــاك‪ ،‬ويف عــام ‪ 2008‬تزوجــا‪ .‬حصــل ديفيــد‬
‫عــى وظيفــة يف رشكــة تقنيــة ناشــئة‪ ،‬حيــث تفاعــل مــع املهندســن الشــباب‬
‫واألذكياــء الذي��ن كان��وا كرم��اء بوقته��م‪ .‬عــاد إىل الربجمــة وتعلــم كل األشــياء‬
‫التــي كان ينــوي دراســتها يف الكليــة لكنــه كان خائ ًفــا جــدً ا مــن متابعتهــا يف‬
‫غرفــة مليئــة بالطــاب‪ .‬متــت ترقيتــه إىل مطــور برجميــات‪ ،‬كان يعمــل ملــدة‬
‫مخــس عــرة ســاعة يف اليــوم‪ ،‬ويركــض ثالثــن ميـ ً‬
‫ا يف األســبوع يف أوقــات‬
‫فراغ��ه‪ .‬قــال‪« :‬ولكــن لتحقيــق كل ذلــك‪ ،‬كنــت أتنــاول املزيــد مــن األديرال‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ليــس فقــط يف الصبــاح‪ ،‬ولكــن طــوال اليــوم‪ .‬كنــت أســتيقظ يف الصبــاح‪،‬‬


‫وأخــذ أديــرال‪ .‬وحــن أعــود إىل املنــزل‪ ،‬وأتنــاول العشــاء‪ ،‬أتنــاول املزيــد‬
‫مــن األديــرال‪ .‬أصبحــت احلبــوب هــي روتينــي الطبيعــي‪ .‬كنــت أرشب‬
‫كميــات كبــرة مــن الكافيــن‪ .‬ويف هنايــة اليــوم‪ ،‬لي ـاً‪ ،‬وحــن أكــون حمتاج ـ ًا‬
‫للراحــة والنــوم‪ ،‬كنــت أقــول لنفــي‪ ،‬حسـنًا‪ ،‬مــاذا أفعــل اآلن؟ لــذا عــدت‬
‫إىل الطبيبــة النفســية وحثثتهــا عــى إعطائــي عقــار أمبيــان‪ .‬تظاهــرت كــا لــو‬
‫أننــي ال أعــرف مــا هــو أمبيــان‪ ،‬لكــن يف احلقيقــة والــديت أخــذت أمبيــان‬
‫أيضــا وصفــة‬
‫أيضــا‪ .‬لقــد طلبــت منهــا ً‬
‫لفــرة طويلــة‪ ،‬اثنــان مــن أعاممــي ً‬
‫حمـ�دودة مـ�ن أتيفـ�ان للقلـ�ق‪ ،‬أتناوهلـ�ا قبـ�ل العـ�روض التقديميـ�ة يف العمـ�ل»‪.‬‬

‫«مــن عــام ‪ 2008‬إىل عــام ‪ ،2018‬كنــت أتنــاول مــا يصــل إىل ثالثــن‬
‫ملليغرا ًمــا مــن أديــرال يوم ًيــا‪ ،‬ومخســن ملليغرا ًمــا مــن أمبيــان يوم ًيــا‪ ،‬وثالثــة‬
‫ـدي قلقـ ًا واضطــراب‬
‫إىل ســتة ملليغــرام مــن أتيفــان يوم ًيــا‪ .‬كنــت أعتقــد أن لـ ّ‬
‫فــرط احلركــة ونقــص االنتبــاه وأحتــاج إليهــم للعمــل»‪.‬‬

‫يعــزو ديفيــد التعــب وعــدم االنتبــاه إىل املــرض النفــي بــدالً مــن‬
‫احلرمــان مــن النــوم واإلفــراط يف التنبيــه‪ ،‬وهــو منطــق اســتخدمه لتربيــر‬
‫اســتمرار اســتخدام احلبــوب‪ .‬لقــد رأيــت مفارقــة مشــاهبة يف العديــد مــن‬
‫مرضــاي عــى مــر الســنني‪ :‬فهــم يســتخدمون األدويــة‪ ،‬املوصوفــة أو غــر‬
‫ذلــك‪ ،‬للتعويــض عــن النقــص األســايس يف االهتــام بالــذات‪ ،‬ثــم ينســبونه‬
‫إىل املــرض النفــي‪ ،‬وبالتــايل يســتلزمون احلاجــة للمزيــد مــن األدويــة‪.‬‬
‫ومــن ثــم تصبــح الســموم فيتامينــات‪ .‬قلــت مازحــة‪« :‬كنــت حتصــل عــى‬
‫فيتامينــات أ‪ :‬أديــرال‪ ،‬وأمبيــان‪ ،‬وأتيفــان»‪ .‬ابتســم‪« .‬أعتقــد يمكنــك قــول‬

‫‪68‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ذل��ك»‪« .‬هــل كانــت زوجتــك أو أي شــخص آخــر عــى علــم بــا كان‬
‫حيــدث معــك؟» «ال‪ .‬مل يعــرف أحــد‪ .‬ومل تتمكــن زوجتــي مــن اكتشــاف‬
‫مــا كنــت أقــوم بــه‪ .‬يف بعــض األحيــان كنــت أرشب الكحــول عندمــا نفــاذ‬
‫األمبيــان‪ ،‬أو أغضــب وأرصخ عليهــا يف حــال تناولــت الكثــر مــن األديــرال‬
‫لكــن بخ�لاف ذلـ�ك‪ ،‬أخفي��ت األمــر جيدــً ا «إذن ماــذا حدــث؟» «أنــا تعبــت‬
‫ـارا‪ .‬بــدأت أفكــر‬ ‫مــن ذلــك‪ .‬تعبــت مــن أخــذ املنبهــات واملثبطــات ليـ ً‬
‫ا وهنـ ً‬
‫ـااًل‪ ،‬وســيكون اآلخــرون‬ ‫يف إهنــاء حيــايت‪ .‬اعتقــدت أننــي ســأكون أفضــل حـ ً‬
‫ا لذلــك علمــت أننــي بحاجــة إىل‬ ‫ـااًل‪ .‬لكــن زوجتــي كانــت حامـ ً‬ ‫أفضــل حـ ً‬
‫إجــراء تغيــر‪ .‬أخربهتــا أننــي بحاجــة للمســاعدة‪ .‬طلبــت منهــا أن تأخــذين إىل‬
‫املستشـ�فى»‪ .‬كيـ�ف كانـ�ت رد فعلهـ�ا؟»‬

‫أخذتنــي إىل غرفــة الطــوارئ‪ ،‬وعندمــا ظهــرت احلقيقــة وانجلــت‪،‬‬


‫ُصدمـ�ت»‪« .‬م��ا ال��ذي صدمه�اـ؟» «احلبــوب‪ .‬كل احلبــوب التــي كنــت‬
‫أتناوهل�اـ‪ .‬خم��زوين الضخ��م‪ .‬وإج�اـديت إلخفــاء ذلكــ عنهاــ»‪ .‬تــم إدخــال‬
‫ديفيــد إىل جنــاح الطــب النفــي الداخــي وتــم تشــخيص إدمانــه للمنشــطات‬
‫واملهدئــات‪ .‬مكــث يف املستشــفى حتــى انتهــى مــن األعــراض االنســحابية‬
‫لــكل مــن أديــرال وأمبيــان وأتيفــان‪ ،‬ومل تعــد األفــكار االنتحاريــة تســيطر‬
‫عليــه‪ .‬اســتغرق األمــر أســبوعني‪ .‬ثــم تــم إخراجــه إىل املنــزل لزوجتــه‬
‫احلامــل‪.‬‬

‫مجيعنــا هنــرب مــن األمل‪ .‬بعضنــا يأخــذ حبوبـ ًا‪ .‬بعضنــا يســكن األريكــة‬
‫املنزليــة إم��ا مغرق�� ًا يف مش��اهدة نيتفليكــس‪ ،‬أو يقــرأ الروايــات الكالســيكية‪.‬‬
‫ســنفعل أي يشء تقري ًبــا إلهلــاء أنفســنا عــن أنفســنا‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬يبــدو أن كل‬
‫ه��ذه املح��اوالت لع��زل أنفس��نا ع��ن األمل ق��د فاقم��ت آالمن��ا‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وف ًقــا لتقريــر الســعادة العاملــي‪ ،‬الــذي يصنــف ‪ 156‬دولــة مــن خــال‬
‫مــدى ســعادة مواطنيهــا عــن طريــق تقييمهــم ومعرفــة تصوراهتــم عــن‬
‫الســعادة‪ ،‬أفــاد األشــخاص الذيــن يعيشــون يف الواليــات املتحــدة بأهنــم‬
‫أقــل ســعادة يف عــام ‪ 2018‬ممــا كانــوا عليــه يف عــام ‪.2008‬‬

‫البلــدان األخــرى التــي لدهيــا نفــس مقاييــس الثــروة والدعــم‬


‫انخفاضــا مماثـ ًـا يف درجــات‬
‫ً‬ ‫االجتامعــي‪ ،‬ومتوســط​​العمــر املتوقــع‪ ،‬شــهدت‬
‫الســعادة املبلــغ عنهــا ذات ًيــا‪ ،‬بــا يف ذلــك بلجيــكا وكنــدا والدنــارك وفرنســا‬
‫واليابـ�ان ونيوزيلنـ�دا وإيطاليـ�ا‪.‬‬

‫أجــرى الباحثــون مقابــات مــع مــا يقــرب مــن ‪ 150000‬شــخص يف‬


‫ٍ‬
‫ســت وعرشيــن دولــة؛ لتحديــد مــدى انتشــار اضطــراب القلــق العــام‪،‬‬
‫و ُيعـ َّـرف بأنــه قلــق مفــرط‪ ،‬ال يمكــن الســيطرة عليــه‪ ،‬يؤثــر ســل ًبا عــى حيــاة‬
‫األفــراد‪ .‬ووجــدوا أن البلــدان الغنيــة لدهيــا معــدالت قلــق أعــى مــن الــدول‬
‫ـارا ورضر ًا‬
‫الفقــرة‪ .‬كتــب الباحثــون‪ُ « :‬يعــد القلــق‪ ،‬واالضطــراب أكثــر انتشـ ً‬
‫يف البلــدان ذات الدخــل املرتفــع مــن البلــدان منخفضــة الدخــل أو متوســطة‬
‫الدخــل»‪.‬‬

‫ارتفعــت أعــداد حــاالت االكتئــاب اجلديــدة يف مجيــع أنحــاء العــامل‬


‫ورصــدت أعــى الزيــادات يف‬
‫بنســبة ‪ % 50‬بــن األعــوام ‪ 1990‬و‪ُ .2017‬‬
‫احلــاالت اجلديــدة يف املناطــق ذات أعــى مــؤرش اجتامعــي ديموغــرايف أي‬
‫ذات دخــل مرتفــع‪ ،‬خاصــة يف أمريــكا الشــالية‪.‬‬

‫إن األمل اجلســدي آخــذ يف االزديــاد‪ .‬عــى مــدار مســريت املهنيــة‪ ،‬رأيــت‬

‫‪70‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املزيــد مــن املــرىض‪ ،‬بــا يف ذلــك الشــباب األصحاء‪ ،‬يعانــون من آالم اجلســم‬
‫بالكامــل عــى الرغــم مــن عــدم وجــود أي مــرض أو إصابــة يف األنســجة‪.‬‬
‫ن ََمــت أعــداد وأنــواع مــن متالزمــات األمل اجلســدي غــر املــررة‪ :‬متالزمــة‬
‫األمل الناحــي املركــب‪ ،‬واألمل العضــي املزمــن‪ ،‬والتهــاب املثانــة اخلــايل‪،‬‬
‫ومتالزم��ة األمل الليف��ي العض�لي‪ ،‬ومتالزم��ة آالم احل��وض‪ ،‬وم��ا إىل ذل��ك‪.‬‬

‫عندمــا طــرح الباحثــون الســؤال التــايل عــى أشــخاص يف ثالثــن دولــة‬


‫حــول العــامل ‪« -‬خــال األســابيع األربعــة املاضيــة‪ ،‬كــم مــرة عانيــت مــن‬
‫نــادرا؛ أحيانــا؛ غال ًبــا؛ أو يف كثــر مــن األحيــان؟‬
‫ً‬ ‫آالم جســدية؟ مطلقــا؛‬
‫«وجــدوا أن األمريكيــن أبلغــوا عــن أمل أكثــر مــن أي بلــد آخــر‪ .‬ذكــر ‪% 34‬‬
‫ـرا» أو « أغلــب األحيــان»‪ ،‬مقارنــة‬
‫مــن األمريكيــن أهنــم شــعروا بــاألمل «كثـ ً‬
‫بـــ ‪ % 19‬مــن األشــخاص الذيــن يعيشــون يف الصــن‪ ،‬و ‪ % 18‬من األشــخاص‬
‫الذيــن يعيشــون يف اليابــان‪ ،‬و ‪ % 13‬مــن األشــخاص الذيــن يعيشــون يف‬
‫ســويرسا‪ ،‬و ‪ % 11‬مـ�ن األشـ�خاص الذيـ�ن يعيشـ�ون يف جنـ�وب أفريقيـ�ا‪.‬‬

‫الســؤال هــو‪ :‬ملــاذا‪ ،‬يف زمــن غــر مســبوق مــن الوفــرة‪ ،‬عــى مســتوى‬
‫الثــروة واحلريــة والتقــدم التكنولوجــي والتقــدم الطبــي‪ ،‬نبــدو أكثــر تعاســة‬
‫وأ ًملــا‪ ،‬أكثــر مــن أي وقــت مــى؟ قــد يكــون الســبب يف أننــا مجي ًعــا بائســن‬
‫للغاي��ة؛ ألنن��ا نعم��ل بج��د لتجن��ب أن نك��ون بائس�ين‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪72‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل الثالث‬
‫توازن األمل – اللذة‬

‫أدى التقــدم يف علــم األعصــاب خــال اخلمســن إىل املائــة عــام‬


‫املاضيــة‪ ،‬بــا يف ذلــك التطــورات يف الكيميــاء احليويــة وتقنيــات التصويــر‬
‫الطبــي اجلديــدة وظهــور علــم األحيــاء احلاســويب‪ ،‬إىل إلقــاء الضــوء عــى‬
‫عمليــات املكاف��أة األساســية يف أدمغتنــا‪ .‬وذلــك مــن خــال تقديــم فهــم‬
‫أفضــل لآلليــات التــي حتكــم األمل واللــذة‪ ،‬حيــث يمكننــا اكتســاب نظــرة‬
‫ثاقبــة جديــدة عــن ملــاذا وكيــف تــؤدي اللــذة املفرطــة إىل األمل؟‬

‫‪73‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الدوبامني‬

‫تدعــى اخلاليــا الوظيفيــة الرئيســة للدمــاغ باخلاليــا العصبيــة‪ .‬تتصــل‬


‫بعضــا يف نقــاط االشــتباك العصبــي عــر اإلشــارات‬
‫هــذه اخلاليــا مــع بعضهــا ً‬
‫الكهربائيـ�ة والناقـلات العصبيـ�ة‪.‬‬

‫يمكــن تشــبيه الناقــات العصبيــة بكــرات البيســبول‪ .‬والالعــب الــذي‬


‫يقــوم بقــذف الكــرة هــو العصبــون قبــل املشــبكي‪ .‬أمــا متلقــي الكــرة عــى‬
‫الطــرف اآلخــر هــو العصبــون بعــد املشــبكي‪ .‬والفضــاء بــن الرامــي واملتلقي‬
‫هــو عبــارة عــن شــق متشــابك‪ .‬متا ًمــا كــا تُلقــى الكــرة بــن الرامــي واملتلقــي‪،‬‬
‫تقطــع الناقــات العصبيــة املســافة بــن اخلاليــا العصبيــة‪ :‬هنــاك ناقــات‬
‫كيميائيــة تنظ��م اإلش��ارات الكهربائي��ة يف الدمــاغ‪ .‬كــا أن هنــاك الكثــر مــن‬
‫الناقــات العصبيــة اهلامــة ولكننــا ســوف نركــز هنــا عــى الدوبامني‪(.‬رســم‬
‫رقــم ‪)2‬‬

‫‪74‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تــم التعــرف عــى الدوبامــن ألول مــرة عــى أنــه ناقــل عصبــي يف‬
‫الدمــاغ البــري يف عــام ‪ 1957‬مــن قبــل عاملــن يعمــان بشــكل مســتقل‪:‬‬
‫أرفيــد كارلســون وفريقــه يف لونــد‪ ،‬يف الســويد‪ ،‬وكاثلــن مونتاجــو‪ ،‬ومقرهــا‬
‫خــارج لنــدن‪ .‬وقــد شــق كارلســون طريقــه للفــوز بجائــزة نوبــل يف علــم‬
‫وظائ��ف األعض��اء و الط��ب‪.‬‬

‫فالدوبامــن ليــس الناقــل العصبــي الوحيــد الــذي يســهم يف عمليــة‬


‫املكافــأة يف الدمــاغ‪ ،‬لكــن يتفــق معظــم علــاء األعصــاب عــى أنــه مــن بــن‬
‫دورا أكــر يف الدافــع للحصــول عــى‬
‫أهــم الناقــات‪ .‬قــد يلعــب الدوبامــن ً‬
‫املكافــأة أكثــر مــن لــذة املكافــأة نفســها‪.‬‬

‫الرغبــة ‪ wanting‬أكثــر مــن احلــب ‪ .liking‬إن الفئــران املعدلــة وراثيــا‬


‫غــر القــادرة عــى إنتــاج الدوبامــن لــن تبحــث عــن الطعــام‪ ،‬وســوف‬
‫متــوت جوعــا حتــى عندمــا يوضــع الطعــام عــى بعــد بوصــات مــن أفواههــا‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬إذا تــم وضــع الطعــام مبــارشة يف أفواههــم‪ ،‬فســوف يمضغــون‬
‫الطعـ�ام ويأكلونـ�ه‪ ،‬ويسـ�تمتعون بـ�ه‪.‬‬

‫وبغــض النظــر عــن النقاشــات حــول الفــروق بــن الدافــع واللــذة‪،‬‬


‫ُيســتخدم الدوبامــن لقيــاس مــدى احتامليــة اإلدمــان ألي ســلوك أو عقــار‪.‬‬
‫فكلــا زادت كميــة الدوبامــن التــي يطلقهــا العقــار أو املخــدر يف مســار‬
‫املكافــأة يف الدمــاغ (دائــرة دماغيــة تربــط املنطقــة الســقيفية البطنيــة‪ ،‬والنــواة‬
‫املتكئــة‪ ،‬وقــرة الفــص اجلبهــي) (رســم رقــم ‪ ،)3‬وكلــا ارتفعــت رسعــة‬

‫‪75‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫إطــاق الدوبامــن‪ ،‬زاد اإلدمــان عــى املخــدر‪.‬‬

‫هذا ال يعني أن املواد عالية الدوبامني حتتوي حرف ًيا عىل الدوبامني بل‬
‫باألحرى هي تؤدي إىل حتفيز إطالق الدوبامني يف مسار املكافأة يف دماغنا‪.‬‬
‫بالنسبة للفأر املوجود يف صندوق خمترب‪ ،‬تزيد الشوكوالتة من إنتاجه األسايس‬
‫من الدوبامني يف الدماغ بنسبة ‪ ،٪ 55‬واجلنس بنسبة ‪ ،٪ 100‬والنيكوتني‬
‫بنسبة ‪ ،٪ 150‬والكوكايني بنسبة ‪(.٪ 225‬رسم رقم ‪)4‬‬

‫‪76‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املكافآت ومعدل اطالق الدوبامني‬

‫شوكوالتة‬
‫اجلنس‬
‫النيكوتني‬
‫الكوكايني‬
‫االمفيتامينات‬

‫األمفيتامــن هــو املكــون النشــط يف خمــدرات الشــوارع مثــل «الســبيد» و‬


‫«ااآليــس» و«الشــبو» وكذلــك يف األدويــة مثــل أديــرال التــي تســتخدم‬
‫لعــاج نقــص االنتبــاه‪ ،‬وهــو يزيــد مــن إفــراز الدوبامــن بنســبة ‪.1000٪‬‬
‫وهبــذا يمكــن اعتبــار أن تدخــن الـــأمفيتامني بالغليــون‪ ،‬يســاوي احلصــول‬
‫عــى الشــعور بالنشــوة اجلنســية عــر مــرات‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اللذة واألمل متجاوران‪:‬‬

‫باإلضافــة إىل اكتشــاف الدوبامــن‪ ،‬حــدد علــاء األعصــاب أن اللــذة‬


‫واألمل تتــم معاجلتهــا يف مناطــق متداخلــة يف الدمــاغ‪ ،‬ويعمــان عــر آليــة‬
‫عمليــة اخلصــم املضــاد‪ .‬يمكــن القــول بطريقــة أخــرى‪ ،‬أن اللــذة واألمل‬
‫يعمــان كامليــزان‪ ،‬يمكــن لكــم أن تتخيلــوا أن أدمغتنــا حتتــوي عــى ميــزان‬
‫مــع نقطــة ارتــكاز يف املركــز‪.‬‬

‫عندمــا ال يكــون هنــاك يشء عــى امليــزان‪ ،‬يكــون مســطح املســتوى‪،‬‬


‫ويف حــال شعــرنا باللــذة‪ ،‬يتــم إطــاق الدوبامــن يف مســار املكافــأة اخلــاص‬
‫بنــا ويميــل التــوازن إىل جانــب اللــذة‪ .‬كلــا زاد ميــل امليــزان لدينــا‪ ،‬وزادت‬
‫رسعــة ميلــه‪ ،‬زادت اللــذة التــي نشــعر هبــا‪( .‬رســم رقــم ‪)6‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫‪78‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ولكــن مــا ُيعــد مهـ ًا يف مســألة امليــزان أنــه يريــد أن يظــل مســتو ًيا‪ ،‬أي يف‬
‫حالــة تــوازن‪ .‬ال يريــد أن يميــل لفــرة طويلــة إىل جانــب أو آخــر‪ .‬وبالتــايل‪،‬‬
‫يف كل مــرة يتجــه فيهــا امليــزان نحــو اللــذة‪ ،‬تبــدأ آليــات التنظيــم الــذايت‬
‫القويــة يف العمــل إلعــادة املســتوى مــرة أخــرى‪ .‬ال تتطلــب آليــات التنظيــم‬
‫الــذايت هــذه التفكــر الواعــي أو التــرف املبنــي عــى اإلرادة‪ .‬بــل حتــدث‬
‫فق��ط ك��رد فع��ل انع�كـايس‪ .‬أم َيــل إىل ختيــل هــذا النظــام الــذايت التنظيــم مثــل‬
‫كائنــات الغريملــن(‪ )1‬اخلياليــة حيــث يقفــز القليــل مــن الغريملــن عــى‬
‫جانــب األمل مــن امليــزان ملواجهــة الثقــل عــى جانــب اللــذة‪ .‬يمثــل الغريملــن‬
‫عمــل التــوازن التــي تفــر بأهنــا ميــل أي نظــام حــي للحفــاظ عــى التــوازن‬
‫الفس��يولوجي‪( .‬رســم رقــم ‪)7‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫يف حــال كان امليــزان يف املســتوى (مشــبع)‪ ،‬يلجــأ إىل االســتمرار يف‬

‫((( فيلــم أمريكــي أنتــج عــام ‪ ،)gremlins( 1984‬يــدور حــول كائنــات خياليــة تدعــى غريملينــز‪،‬‬
‫وهــو مــن أفــام الرعــب الكوميديــة (املرتمجــة)‬

‫‪79‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مواصل��ة املي��ل إىل كمي��ة معاكس��ة ومتس��اوية إىل جه��ة األمل‪( .‬رســم رقــم ‪)8‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫يف الســبعينيات أطلــق عــامل العلــوم االجتامعيــة ريتشــارد ســولومون‬


‫وجــون كوربيــت عــى هــذه العالقــة التبادليــة بــن اللــذة واألمل نظريــة عمليــة‬
‫اخلص��م‪ ،‬بمعن��ى أن‪« :‬أي انحـ�راف مط��ول أو متك��رر ع��ن املتعــة أو احليــاد‬
‫العاطفــي‪ ...‬هلــا تكلفــة‪ « .‬هــذه التكلفــة هــي «رد فعــل الحــق» عكــس قيمــة‬
‫التحفيـ�ز‪ .‬أو كـما يقـ�ول املثـ�ل القديـ�م‪ ،‬مـ�ا يصعـ�د جيـ�ب أن هيبـ�ط‪.‬‬

‫كــا اتضــح‪ ،‬فــإن العديــد مــن العمليــات الفســيولوجية يف اجلســم‬


‫حتكمهــا أنظمــة ذاتيــة التنظيــم مماثلــة‪ .‬عــي ســبيل املثــال‪ ،‬أظهــر يوهــان‬
‫فولفجانــغ فــون غوتــه وإيوالــد هريينــغ وآخــرون كيــف خيضــع إدراك اللــون‬
‫لنظــام عمليــة اخلصــم‪ .‬إن النظــر عــن كثــب إىل لــون واحــد لفــرة متواصلــة‬

‫‪80‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ينتــج تلقائ ًيــا صــورة للــون «املقابــل» يف عــن املشــاهد‪ .‬حــدق يف صــورة‬
‫خــراء عــى خلفيــة بيضــاء لفــرة مــن الوقــت‪ ،‬ثــم انظــر بعيــدً ا إىل صفحــة‬
‫بيضــاء فارغــة‪ ،‬وســرى كيــف ينشــئ عقلــك صــورة الحقــة محــراء‪ .‬فــإدراك‬
‫اللــون األخــر يفســح املجــال يف التعاقــب إلدراك اللــون األمحــر‪ .‬فعنــد‬
‫االنتبــاه إىل اللــون األخــر‪ ،‬ال يمكــن االنتبــاه إىل اللــون األمحــر يف نفــس‬
‫الوقـ�ت‪ ،‬والعكـ�س صحيـ�ح‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫التحمل (التكيف العصبي)‬

‫لقــد مررنــا مجي ًعــا بالرغبــة الشــديدة يف أعقــاب اللــذة املمتعــة‪ .‬ســواء‬
‫كان األمــر يتعلــق بالوصــول إىل رشحيــة بطاطــس ثانيــة أو النقــر عــى رابــط‬
‫جولــة أخــرى مــن ألعــاب الفيديــو‪ ،‬فمــن الطبيعــي أن ترغــب يف إعــادة خلــق‬
‫تلــك املشــاعر اجليــدة أو حماولــة عــدم تركهــا تتالشــى‪ .‬لذلــك يصبــح أســهل‬
‫احللــول هــو االســتمرار يف تنــاول الطعــام أو اللعــب أو املشــاهدة أو القــراءة‪.‬‬
‫لكـ�ن هنـ�اك مشـ�كلة يف ذلـ�ك‪.‬‬

‫مــع التعــرض املتكــرر لنفــس منبــه املتعــة أو مــا يشــاهبه‪ ،‬يصبــح امليــل‬
‫املبدئــي إىل جانــب اللــذة أضعــف وأقــر‪ ،‬واالســتجابة الالحقــة جلانــب‬
‫األمل تصبــح أقــوى وأطــول‪ ،‬وهــي عمليــة يســميها العلــاء بالتكيــف‬
‫العصبــي‪ .‬وهــذا يعنــي‪ ،‬مــع التكــرار‪ ،‬أن كائنــات الغريملــن (نظــام التنظيــم‬
‫الــذايت) لدينــا تصبــح أكــر وأرسع‪ ،‬وأكثــر عــد ًدا‪ ،‬ونحــن بحاجــة إىل املزيــد‬
‫مــن املــواد واملثــرات التــي نختارهــا للحصــول عــى نفــس التأثــر ســواء‬
‫كانــت خمــدرات أو ســلوكيات‪( .‬رســم رقــم ‪)9‬‬
‫ة‬
‫شوكوالت جتماعي‬
‫صل اال‬
‫ائل التوا‬
‫القمار‬ ‫وس‬
‫الباحية‬
‫ا‬
‫التسوق‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫‪82‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫إن احلاجــة إىل املزيــد مــن مــادة مــا للشــعور باللــذة‪ ،‬أو الشــعور بلــذة‬
‫أقــل عنــد تنــاول جرعــة معينــة‪ ،‬يســمى التحمــل‪ .‬التحمــل عامــل مهــم يف‬
‫تطـ�ور اإلدماــن‪ .‬بالنســبة يل‪ ،‬كانــت قــراءة ملحمــة الشــفق للمــرة الثانيــة‬
‫ممتعةــ‪ ،‬ولكنه��ا مل تك��ن ممتع�ةـ مث��ل امل��رة األوىل يف املــرة الرابعــة التــي قرأهتــا‬
‫فيهــا (نعــم‪ ،‬قــرأت القصــة بأكملهــا أربــع مــرات)‪ ،‬تضاءلــت ســعاديت‬
‫بش��كل كب�ير‪ .‬إعــادة القــراءة مل ترتــق أبــدً ا إىل مســتوى القــراءة األوىل‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬يف كل مــرة أقرؤهــا‪ ،‬تــرك لــدي شــعور ًا أعمــق‬
‫بعــدم الرضــا بعــد القــراءة‪ ،‬ورغبــة أقــوى يف اســتعادة الشــعور الــذي كان‬
‫لــدي أثنــاء قراءهتــا يف املــرة األوىل‪ .‬عندمــا أصبحــت أكثــر احتــاالً لروايــة‬
‫الشــفق‪ ،‬اضطــررت إىل البحــث عــن أشــكال أحــدث وأكثــر فاعليــة مــن‬
‫نفــس املخــدر ملحاولــة اســتعادة ذلــك الشــعور الســابق‪( .‬رســم رقــم ‪)9‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫مــع تعاطــي املخــدرات بكثــرة لفــرات طويلــة‪ ،‬ترجــح كفــة ميــزان‬


‫األمل والل��ذة إىل جان��ب األمل تتغــر نقطــة ضبــط اللــذة مــع انخفــاض قدرتنــا‬
‫عــى الشــعور باللــذة وزيــادة ضعفنــا يف مواجهــة األمل‪ ،‬يمكــن أن نشــبه هــذا‬

‫‪83‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫خميــا يف جانــب كفــة األمل مــن امليــزان‪،‬‬


‫بكائنــات الغريملــن التــي تقيــم ً‬
‫لنتخيــل أن هنــاك حفلــة كاملــة تقــام‪ ،‬يوجــد هبــا شــاحنة طعــام تقــدم‬
‫املشــويات ومرتبــة هوائيــة للقفــز عليهــا‪( .‬رســم رقــم ‪)10‬‬

‫الدماغ غير المدمن‬

‫أصبحــت مدركَــة متا ًمــا مــدى تأثــر املــواد عاليــة اإلدمــان عــى‬
‫الدوبامــن يف مســار مكافــأة الدمــاغ‪ ،‬يف أوائــل العقــد األول مــن القــرن‬
‫احلــادي والعرشيــن‪ ،‬عندمــا بــدأت يف رؤيــة املزيــد مــن املــرىض يأتــون إىل‬
‫العي�اـدة بجرع��ة عالي��ة مــن العلـاج األفيـ�وين طويــل األم��د (أوكســيكونتني‪،‬‬
‫فايكوديـ�ن‪ ،‬مورف�ين‪ ،‬فنتانيلــ) لــأمل املزمــن‪ .‬عــى الرغــم مــن تناوهلــم‬
‫املتكــرر لألدويــة األفيونيــة واملســكنات بجرعــات عاليــة‪ ،‬إال أن آالمهــم‬
‫ازدادت ســو ًءا بمــرور الوقــت‪ .‬ملــاذا؟ ألن التعــرض للمــواد األفيونيــة‬
‫تســبب يف قيــام دماغهــم بإعــادة ضبــط تــوازن اللــذة واألمل إىل جانــب األمل‪.‬‬
‫ممــا جيعــل أملهــم األصــي أســوأ‪ ،‬وتتــم إضافــة آالم جديــدة يف أجــزاء مــن‬
‫أجســامهم كانــت خاليــة مــن األمل‪ .‬هــذه الظاهــرة‪ ،‬التــي لوحظــت عــى نطاق‬

‫‪84‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫واســع وحتققــت منهــا الدراســات والتجــارب التــي أجريت عــى احليوانات‪،‬‬


‫أصبح��ت تس��مى ف��رط األمل الناج��م ع��ن امل��واد األفيوني��ة ‪ ،Al- gesia .‬مــن‬
‫الكلمـ�ة اليونانيـ�ة ‪،algesis‬التـ�ي تعنـ�ي احلساسـ�ية لـلأمل‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬عندمــا ينخفــض تعاطــي هــؤالء املــرىض لألدويــة‬


‫األفيونيــة‪ ،‬يشــهد العديــد منهــم حتس ـنًا يف األمل‪.‬‬

‫أظهــرت عاملــة األعصــاب نــورا فولكــو وزمالؤهــا أن االســتهالك‬


‫املتكــرر وطويــل األمــد للمــواد عاليــة التحفيــز للدوبامــن يــؤدي يف النهايــة‬
‫إىل حالــة يطلــق عليهــا عجــز الدوبامــن‪.‬‬

‫فحصــت فولكــو انتقــال الدوبامــن يف أدمغــة أشــخاص منضبطــن‬


‫صحيـ ًا وال يعانــون مــن أي ميــول إدمانيــة‪ ،‬مقارنــة بأشــخاص مدمنــن عــى‬
‫جمموعــة متنوعــة مــن املخــدرات‪ ،‬بعــد أســبوعني مــن توقفهــم عــن تعاطيهــا‪.‬‬
‫كانــت صــور الدمــاغ مدهشــة‪ .‬يف صــور الدمــاغ لألفــراد األصحــاء تــيء‬
‫منطقــة عــى شــكل حبــة الــكىل يف الدمــاغ مرتبطــة باملكافــأة والتحفيــز باللون‬
‫األمحــر الســاطع‪ ،‬ممــا يشــر إىل مســتويات عاليــة مــن نشــاط الناقــل العصبــي‬
‫الدوبامــن‪ .‬أمــا يف صــور أدمغــة األشــخاص الذيــن يعانــون مــن اإلدمــان‬
‫وتوقفــوا عــن تعاطــي املخــدرات قبــل أســبوعني‪ ،‬حتتــوي نفــس املنطقــة التــي‬
‫تشــبه حبــة الــكىل يف الدمــاغ عــى القليــل مــن اللــون األمحــر أو ال حتتــوي‬
‫عــى أي مــادة محــراء‪ ،‬ممــا يشــر إىل القليــل مــن انتقــال الدوبامــن أو عــدم‬
‫وجـ�وده عـلى اإلطـلاق‪.‬‬

‫كــا كتبــت الدكتــورة فولكــو وزمالؤهــا‪« ،‬إن االنخفــاض يف‬

‫‪85‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مســتقبالت‪ D1‬و ‪ )1(D2‬لــدى متعاطــي املخــدرات‪ ،‬إىل جانــب االنخفــاض‬


‫يف إط�لاق الدوبامــن‪ ،‬ســيؤدي إىل انخفــاض حساســية دائــرة املكافــأة‬
‫للتحفيــز باملكافــآت الطبيعيــة»‪ .‬بمجــرد أن حيــدث هــذا‪ ،‬ال يشء ُيشــعر‬
‫باالرتيـ�اح بعـ�د اآلن‪.‬‬

‫بعبــارة أخــرى‪ ،‬يأخــذ الالعبــون يف فريــق الدوبامــن كراهتــم وقفازاهتم‬


‫ويعـ�ودون إىل منازهلم‪.‬‬

‫خــال العامــن اللذيــن اســتهلكت فيهــا الروايــات الرومانســية بشــكل‬


‫ـرا إىل مــكان مل أجــد فيــه كتا ًبــا يمكننــي االســتمتاع بــه‪.‬‬
‫قهــري‪ ،‬وصلــت أخـ ً‬
‫كان األمــر كــا لــو أننــي قــد أحرقــت مركــز متعــة قــراءة الروايــات اخلــاص‬
‫يب‪ ،‬وال يمك��ن لكت��اب إحيــاؤه‪ .‬املفارقــة هــي أن مذهــب املتعــة‪ ،‬أو الســعي‬
‫وراء اللــذة لذاهتــا‪ ،‬يــؤدي إىل انعــدام التلــذذ‪ ،‬وهــو عــدم القــدرة عــى التمتــع‬
‫بــأي نــوع مــن املتعــة‪ .‬لطاملــا كانــت القــراءة هــي املصــدر األســاس للمتعــة‬
‫واهلـ�روب؛ لذلـ�ك أصابتنـ�ي بصدمـ�ة وحـ�زن‪ ،‬عندمـ�ا توقفـ�ت عـ�ن العمـ�ل‬
‫وتقديــم نفــس اإلحســاس يل‪ .‬وحتــى يف تلــك األثنــاء مــن املعانــاة كان مــن‬
‫الصعــب التخــي عنهــا‪.‬‬

‫يصــف مرضــاي الذيــن يعانــون مــن اإلدمــان كيــف وصلــوا إىل‬


‫نقطــة يتوقــف فيهــا املخــدر عــن العمــل معهــم‪ .‬مل يعــد لدهيــم ارتفــاع عــى‬
‫اإلطــاق‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬إذا مل يأخــذوا خمدراهتــم‪ ،‬فإهنــم يشــعرون بالتعاســة‪.‬‬

‫((( ‪ D1‬و‪ D2‬مهـ�ا مسـ�تقبالت الدوبامـين‪ ،‬وهـ�و بروتـين يشـ�فر لـ�دى البـشر بواسـ�طة اجلـين‬
‫‪DRD2‬و ‪(DRD1‬املرتمجــة)‬

‫‪86‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األعــراض العامــة لالنســحاب مــن أي مــادة تســبب اإلدمــان هــي القلــق‬


‫والتهيــج واألرق والش��عور املس��تمر بالضي��ق‪.‬‬

‫إن التــوازن بــن اللــذة واألمل املائــل إىل جانــب األمل هــو مــا يدفــع النــاس‬
‫إىل االنتــكاس حتــى بعــد فــرات طويلــة مــن االنقطــاع عــن تنــاول املخــدر‪.‬‬
‫عندمــا يميــل توازننــا إىل جانــب األمل‪ ،‬فإننــا نتــوق إىل املخــدر ملجــرد الشــعور‬
‫بأنن�اـ طبيعي�ين (ت��وازن املس�تـوى)‪ .‬يســمي عــامل األعصــاب جــورج كــوب‬
‫هــذه الظاهــرة «الضيــق املــؤدي إىل االنتــكاس»‪ ،‬حيــث ال تكــون العــودة إىل‬
‫التعاطــي مدفوعــة بالبحــث عــن املتعــة ولكــن بالرغبــة يف ختفيــف املعانــاة‬
‫اجلســدية والنفســية م�نـ االنس�حـاب املط��ول‪ .‬هــا هــي األخبــار الســارة‪ .‬إذا‬
‫انتظرنــا طويــا بــا فيــه الكفايــة‪ ،‬فــإن أدمغتنــا (عــادة) تتكيــف مــع غيــاب‬
‫املخــدر ونســتعيد مــؤرش التــوازن لدينــا‪ :‬تــوازن مسـ ٍ‬
‫ـتو‪ .‬بمجــرد أن يصبــح‬
‫رصيدنــا مســتو ًيا‪ ،‬يمكننــا مــرة أخــرى االســتمتاع باملكافــآت اليوميــة‬
‫البســيطة‪ ،‬كالذهــاب للمــي‪ ،‬أو مشــاهدة رشوق الشــمس‪ ،‬أو االســتمتاع‬
‫بوجبـ�ة م��ع األصدقــاء‪( .‬رســم رقــم ‪)11‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫‪87‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الناس‪ ،‬األماكن‪ ،‬األشياء‬

‫ال تتــم إثــارة مســتوى تــوازن اللــذة واألمل فقــط عــن طريــق إعــادة‬
‫أيضــا مــن خــال التعــرض للمنبهــات‬
‫التعــرض للمخــدر نفســه‪ ،‬ولكــن ً‬
‫املرتبطــة بتعاطــي املخــدرات‪ .‬يف اجتامعــات مدمنــي الكحــول املجهولــن‪،‬‬
‫هنــاك عبــارة شــائعة لوصــف هــذه الظاهــرة‪ ،‬وهــي األشــخاص واألماكــن‬
‫واألشــياء‪.‬‬

‫يف عــامل علــم األعصــاب‪ ،‬تســمى هــذه الظاهــرة‪ ،‬بالتعلــم املعتمــد عــى‬
‫أيض��ا باس��م اإلرشاط الكالس��يكي (بافلوفي��ان)‪.‬‬
‫املث�يرات‪ ،‬واملع��روف ً‬
‫أثبــت إيفــان بافلــوف‪ ،‬احلائــز عــى جائــزة نوبــل يف علــم وظائــف األعضــاء‬
‫والطــب عــام ‪ ،1904‬أن لعــاب الــكالب يســيل بشــكل انعــكايس عنــد تقديــم‬
‫قطعــة حلــم مقرتنــة بصــوت اجلــرس‪ ،‬وكان مــن املالحــظ أن لعــاب الــكالب‬
‫يســيل عنــد ســاع صــوت اجلــرس‪ ،‬حتــى لــو مل يتــم تقديــم اللحــم بصــورة‬
‫متزامنــة مــع صــوت اجلــرس‪.‬‬

‫التفســر هــو أن الــكالب تعلمــت ربــط قطعــة اللحــم‪ ،‬وهــي مكافــأة‬


‫طبيعيــة‪ ،‬مــع اجلــرس‪ ،‬وهــو إشــارة مرشوطــة‪ .‬مــاذا حيــدث يف الدمــاغ؟‬

‫مــن خــال إدخــال مســبار كشــف يف دمــاغ اجلــرذ‪ ،‬متكــن علــاء‬


‫األعصــاب مــن إثبــات أن الدوبامــن يتــم إطالقــه يف الدمــاغ كاســتجابة‬
‫لإلشــارة املرشوطــة (عــى ســبيل املثــال‪ ،‬اجلــرس‪ ،‬مــرع املوســيقى‪،‬‬
‫والضــوء) قبــل تنــاول املكافأة نفســها (عىل ســبيل املثــال‪ ،‬حقــن الكوكايني)‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تفــر ارتفــاع الدوبامــن قبــل احلصــول عــى املكافــأة اســتجابة لإلشــارة‬


‫املرشوطــة للــذة املتوقعــة التــي نشــعر هبــا عندمــا نعلــم أن األشــياء اجليــدة‬
‫قادمـ�ة‪( .‬رســم رقــم ‪)12‬‬

‫يتناقــص إطــاق الدوبامــن يف الدمــاغ مبــارشة بعــد االســتجابة‬


‫املرشوطــة‪ ،‬ليــس فقــط إىل املســتويات األساســية (يمتلــك الدمــاغ مســتوى‬
‫منشــط ًا إلطــاق الدوبامــن حتــى يف حالــة عــدم وجــود مكافــآت)‪ ،‬ولكــن‬
‫أقــل مــن املســتويات األساســية‪ .‬هــذه احلالــة العابــرة لعجــز الدوبامــن‬
‫املصغــر هــي مــا يدفعنــا للبحــث عــن مكافأتنــا‪.‬‬

‫حــن تكــون مســتويات الدوبامــن دون مســتوى املعيــار األســاس تقــود‬


‫إىل عمليــة االشــتهاء والشــغف‪ .‬ويــؤدي االشــتهاء إىل النشــاط الــذي يكــون‬
‫اهلــدف منــه احلصــول عــى املخــدر‪.‬‬

‫قــال يل زميــي روب مالينــكا عــامل األعصــاب املرمــوق ذات مــرة‪« :‬إن‬
‫مقيــاس مــدى إدمــان حيــوان املختــر ينحــر يف مــدى صعوبــة هــذا احليوان‬
‫‪89‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف العمــل للحصــول عــى العقــار‪ ،‬عــن طريــق الضغــط عــى رافعــة‪ ،‬والتنقــل‬
‫يف متاهــة‪ ،‬وتســلق املنحــدر»‪ .‬لقــد وجــدت الــيء نفســه ينطبــق عــى البــر‪.‬‬
‫ناهيــك عــن الــدورة الكاملــة مــن التوقــع والشــغف التــي يمكــن أن حتــدث‬
‫خـ�ارج عتبـ�ة اإلدراك الواعـ�ي‪.‬‬

‫بمجــرد حصولنــا عــى املكافــأة املتوقعــة‪ ،‬يزيــد إطــاق الدوبامــن‬


‫يف الدمــاغ أعــى بكثــر مــن خــط األســاس النشــط‪ .‬ولكــن إذا مل تتحقــق‬
‫املكافــأة التــي توقعناهــا‪ ،‬فــإن مســتويات الدوبامــن تنخفــض إىل مــا دون‬
‫خــط األســاس املعيــاري‪ .‬وهــذا يعنــي‪ ،‬إذا حصلنــا عــى املكافــأة املتوقعــة‪،‬‬
‫فإننــا نحصــل عــى ارتفــاع أكــر‪ .‬إذا مل نحصــل عــى املكافــأة املتوقعــة‪ ،‬فإننــا‬
‫نشــهد هبو ًطــا أكــر‪( .‬رســم رقــم ‪)13‬‬

‫لقــد عانينــا مجي ًعــا مــن خيبــة األمــل التــي تتبــع رغبــات مل تتــم تلبيتهــا‪.‬‬
‫فاملكافــأة املتوقعــة التــي ال تتحقــق أســوأ مــن املكافــأة التــي مل تكــن متوقعــة‬
‫يف املق��ام األول‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫كيــف ترتجــم اإلشــارة املحفــزة(‪ )1‬عــى االشــتهاء يف ميــزان اللــذة واألمل‬


‫لدينـ�ا؟ يميـ�ل امليـ�زان إىل جانـ�ب اللـ�ذة (صعـ�ود طفيـ�ف إىل جانـ�ب اللـ�ذة‬
‫(ارتف��اع طفي��ف مـ�ن الدوبامـين حتســب ًا ملكافــأة يف املســتقبل‪ ،‬ثــم يتبعهــا‬
‫مبــارشة ميــل امليــزان إىل جانــب األمل (عجــز صغــر يف الدوبامــن) يف‬
‫أعقــاب اإلشــارة‪ .‬إذن نقــص الدوبامــن هــو الرغبــة الشــديدة‪ ،‬ويــؤدي إىل‬
‫سـ�لوك البحـ�ث عـ�ن املخـ�درات‪.‬‬

‫عــى مــدى العقــد املــايض‪ ،‬تــم إحــراز تقــدم كبــر يف فهــم الســبب‬
‫البيولوجــي للمقامــرة املرضيــة‪ ،‬ممــا أدى إىل إعــادة تصنيــف اضطرابــات‬
‫املقامــرة يف الدليــل التشــخييص واإلحصائــي لالضطرابــات النفســية‬
‫(اإلصـ�دار اخلامـ�س) عـلى أهنـ�ا اضطرابـ�ات إدمانيـ�ة‪.‬‬

‫تشــر الدراســات إىل أن إطــاق الدوبامــن كنتيجــة الرتبــاط املقامــرة‬


‫بعــدم القــدرة عــى التنبــؤ بوصــول املكافــأة‪ ،‬أكثر مــن املكافــأة النهائية نفســها‬
‫(غال ًبــا مــا تكــون ماليــة)‪ .‬يعتمــد الدافــع يف املقامــرة إىل حــد كبــر عــى عــدم‬
‫القــدرة عــى التنبـ�ؤ بحـ�دوث املكافـ�أة‪ ،‬وليـ�س عـلى املكاسـ�ب املاليـ�ة‪.‬‬

‫يف دراســة أجريــت عــام ‪ ،2010‬قــام جاكــوب لينيــت وزمــاؤه بقيــاس‬


‫إفــراز الدوبامــن لــدى جمموعتــن مــن األشــخاص يف حــال ربــح وخســارة‬
‫األمــوال‪ ،‬متثــل املجموعــة األوىل أشــخاص ًا مدمنــن عــى القــار واملجموعــة‬
‫الثانيــة أشــخاص ًا ال يعانــون مــن اإلدمــان عــى القــار‪ .‬مل تكــن هنــاك‬

‫((( مــن املحفــزات الشــائعة لالنتــكاس يف حالــة اإلدمــان‪ ،‬خــرة الرغبــة الشــديدة عــن طريــق‬
‫التعــرض لإلشــارات املرتبطــة ســاب ًقا بتعاطــي املخــدرات أو أي ســلوك إدمــاين آخــر‪ ،‬مثــل املــكان‬
‫والنــاس واألشــياء (املرتمجــة)‬

‫‪91‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اختالفــات واضحــة بــن املجموعتــن عندمــا ربحــوا املــال؛ ومــع ذلــك‪،‬‬


‫عنــد مقارنتهــم باملجموعــة الضابطــة‪ ،‬أظهــر املقامــرون زيــادة ملحوظــة‬
‫يف مســتويات الدوبامــن عندمــا خــروا املــال‪ .‬كانــت كميــة الدوبامــن‬
‫التــي تــم إطالقهــا يف مســار املكافــأة يف أعــى مســتوياهتا عندمــا كان احتــال‬
‫اخلســارة والفــوز متطاب ًقــا تقري ًبــا (‪ ،)% 50‬ممــا يمثــل احلــد األقــى مــن عــدم‬
‫اليقـين‪.‬‬

‫يســلط اضطــراب القــار الضــوء عــى التمييــز الدقيــق بــن توقــع املكافأة‬
‫(إطــاق الدوبامــن قبــل املكافــأة) واســتجابة املكافــأة (إطــاق الدوبامــن‬
‫بعــد املكافــأة أو أثنائهــا)‪ .‬أخــرين مرضــاي الذيــن يعانــون مــن إدمــان القــار‬
‫أنــه أثنــاء اللعــب‪ ،‬يريــد جــزء منهــم أن خيــر‪ .‬وكلــا خــروا‪ ،‬زادت الرغبــة‬
‫يف مواصلــة املقامــرة‪ ،‬وزادت قــوة االندفــاع عنــد الفــوز‪ ،‬وهــي ظاهــرة‬
‫توص��ف بأهن��ا «مط��اردة اخلس��ارة»‪.‬‬

‫أظــن أن شــي ًئا مشــا ًهبا حيــدث مــع تطبيقــات وســائل التواصــل‬
‫االجتامعــي‪ ،‬حيــث تكــون اســتجابة اآلخريــن متقلبــة للغايــة وغــر حمســوبة‬
‫لدرجــة أن عــدم اليقــن يف احلصــول عــى «إعجــاب» أو مــا يعادلــه‪ُ ،‬يعــد‬
‫أمـ�ر ًا معـ�زز ًا‪ ،‬مثـ�ل احلصـ�ول عـلى «اإلعجـ�اب» نفسـ�ه‪.‬‬

‫_____________‬

‫يشــفر الدمــاغ ذكريــات املكافــأة طويلــة املــدى واإلشــارات املرتبطــة‬


‫هبــا عــن طريــق تغيــر شــكل وحجــم اخلاليــا العصبيــة املنتجــة للدوبامــن‪.‬‬
‫عــى ســبيل املثــال‪ ،‬تصبــح التشــعبات‪ ،‬أي الفــروع خــارج اخلاليــا العصبيــة‪،‬‬

‫‪92‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫أطــول وأكثــر عــد ًدا‪ ،‬اســتجاب ًة ملكافــآت الدوبامــن العاليــة‪ .‬تســمى هــذه‬
‫العمليــة اللدونــة املعتمــدة عــى اخلــرة‪ .‬يمكــن أن تســتمر هــذه التغيــرات‬
‫يف الدمــاغ مــدى احليــاة وتســتمر لفــرة طويلــة حتــى يف حــال عــدم توفــر‬
‫املخــدر‪.‬‬

‫استكشــف الباحثــون آثــار التعــرض للكوكايــن عــى الفئــران‬


‫عــن طريــق حقنهــا بنفــس الكميــة مــن الكوكايــن يف أيــام متتاليــة ملــدة‬
‫أســبوع وقيــاس مقــدار الركــض كاســتجابة لــكل حقنــة‪ .‬اجلــرذ املحقــون‬
‫بالكوكايــن ســركض عــر القفــص بــدالً مــن البقــاء يف املحيــط كــا تفعــل‬
‫اجلــرذان العاديــة‪ ،‬يمكــن قيــاس مقــدار الركــض باســتخدام أشــعة الضــوء‬
‫التـ�ي تتخلـ�ل القفـ�ص‪ .‬كلـما كـسر اجلـ�رذ أشـ�عة الضـ�وء أكثـ�ر‪ ،‬زاد ركضـ�ه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متتــال مــن التعــرض للكوكايــن‪،‬‬ ‫وجــد العلــاء أنــه مــع كل يــوم‬
‫تقدمــت الفئــران مــن هرولــة نشــطة يف اليــوم األول‪ ،‬إىل نوبــة هيجــان رصيح‬
‫يف اليـ�وم األخـير‪ ،‬ممـ�ا ُيظهـ�ر حساسـ�ية تراكميـ�ة لتأثـيرات الكوكايـين‪.‬‬

‫بمجــرد توقــف الباحثــن عــن حقــن الفئــران بالكوكايــن‪ ،‬توقفــت‬


‫الفئــران عــن الركــض‪ .‬بعــد عــام واحــد ‪ -‬وهــو عمــر حقيقــي للفــأر ‪ -‬أعــاد‬
‫العلــاء حقــن الفئــران بالكوكايــن مــرة واحــدة‪ ،‬وكانــت الفئــران عــى الفــور‬
‫جتـ�ري كـما فعلـ�ت يف اليـ�وم األخـير مـ�ن التجربـ�ة األصليـ�ة‪.‬‬

‫عندمــا فحــص العلــاء أدمغــة الفئــران‪ ،‬رؤوا أن التغــرات التــي يســببها‬


‫الكوكايــن يف مســارات املكافــأة للفئــران تتامشــى مــع التحســس املســتمر‬
‫ـارا مثــل الكوكايــن يمكــن أن يغــر‬
‫للكوكايــن‪ .‬تظهــر هــذه النتائــج أن عقـ ً‬

‫‪93‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الدمــاغ إىل األبــد‪ .‬وقــد تــم عــرض نتائــج مماثلــة مــع مــواد إدمانيــة أخــرى‪،‬‬
‫مـ�ن الكحـ�ول إىل املـ�واد األفيونيـ�ة إىل احلشـ�يش‪.‬‬

‫يف عمــي اإلكلينيكــي‪ ،‬أرى األشــخاص الذيــن يعانــون مــن اإلدمــان‬


‫الشــديد يعــودون إىل االســتخدام القهــري مــع تعــرض واحــد‪ ،‬حتــى بعــد‬
‫ســنوات مــن االمتنــاع‪ .‬قــد حيــدث هــذا بســبب التحســس املســتمر للمخــدر‬
‫املختـ�ار‪ ،‬وهـ�و بمثابـ�ة األثـ�ر املرتـ�د لتعاطـ�ي املخـ�درات يف وقـ�ت سـ�ابق‪.‬‬

‫_____________‬

‫أيضــا مــن إطــاق الدوبامــن يف الدمــاغ‪ .‬تُظهــر إنــاث‬


‫يزيــد التعلــم ً‬
‫الفئــران التــي تــم إيواؤهــا ملــدة ثالثــة أشــهر يف بيئــة متنوعــة وجديــدة‬
‫تكاثــرا يف املشــابك العصبيــة الغنيــة بالدوبامــن يف مســار مكافــأة‬
‫ً‬ ‫وحمفــزة‬
‫الدمــاغ مقارنــة بالفئــران املوجــودة يف أقفــاص املختــر القياســية‪ .‬فالتغــرات‬
‫الدماغيــة التــي حتــدث اســتجابة لبيئــة حمفــزة وجديــدة مشــاهبة لتلــك التــي‬
‫تظهــر مــع العقاقــر أو املخــدرات عاليــة الدوبامــن (املســببة لإلدمــان)‪.‬‬

‫ولكــن إذا عوجلــت الفئــران نفســها مســب ًقا عــن طريــق حقنهــا بمنبــه‬
‫مثــل امليتامفيتامــن‪ ،‬وهــو عقــار شــديد اإلدمــان‪ ،‬قبل دخوهلــا البيئــة املحفزة‪،‬‬
‫فإهنــا تفشــل يف إظهــار التغــرات العصبيــة التشــابكية التــي شــوهدت ســاب ًقا‬
‫عنــد التعــرض للبيئــة املحفــزة واملتنوعــة‪ .‬حيــث تشــر هــذه النتائــج إىل أن‬
‫امليثامفيتامـين حيـ�د مـ�ن قـ�درة الفـ�أر عـلى التعلـ�م‪.‬‬

‫إليكــم بعــض األخبــار اجليــدة‪ .‬درس زميــي إيــدي ســوليفان‪ ،‬اخلبــر‬


‫العاملــي يف تأثــرات الكحــول عــى الدمــاغ‪ ،‬عمليــة التعــايف مــن اإلدمــان‬

‫‪94‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫واكتشــف أنــه عــى الرغــم مــن أن بعــض التغــرات الدماغيــة بســبب‬


‫اإلدمــان دائمــة وال رجعــة فيهــا‪ ،‬فمــن املمكــن االلتفــاف حــول هــذه املناطق‬
‫املتــررة مــن خــال إنشــاء شــبكات عصبيــة جديــدة‪ .‬هــذا يعنــي أنــه عــى‬
‫الرغــم مــن أن التغــرات التــي تطــرأ عــى الدمــاغ دائمــة‪ ،‬إال أنــه يمكننــا‬
‫إجيــاد مســارات عصبيــة متشــابكة جديــدة خللــق ســلوكيات صحيــة موائمــة‪.‬‬

‫ويف الوقــت نفســه‪ ،‬حيمــل املســتقبل إمكانــات مثــرة عــن طــرق لعكــس‬
‫نــدوب اإلدمــان يف الدمــاغ‪ .‬قام فينســينت باســكويل وزمالؤه بحقــن الفئران‬
‫بالكوكايــن‪ ،‬ممــا أظهــر التغــرات الســلوكية املتوقعــة (اجلــري املحمــوم)‪،‬‬
‫ثــم اســتخدموا علــم البرصيــات الوراثــي ‪-‬وهــي تقنيــة بيولوجيــة تتضمــن‬
‫اســتخدام الضــوء للتحكــم يف اخلاليــا العصبيــة‪ -‬لعكــس تغــرات الدمــاغ‬
‫املتشــابكة التــي يســببها الكوكايــن‪ .‬ربــا يف يــوم مــن األيــام ســيكون علــم‬
‫البرصيـ�ات الوراثـ�ي قـ�ادر ًا عـلى حمـ�و نـ�دوب اإلدمـ�ان يف الدمـ�اغ البـشري‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫التوازن ما هو إال جماز‬

‫يف احليــاة الواقعيــة‪ ،‬تعــد اللــذة واألمل أكثــر تعقيــدً ا مــن طريقــة عمــل‬
‫التوــازن‪ .‬فــا هــو ممتــع لشــخص مــا قــد ال يكــون كذلــك لشــخص آخــر‪.‬‬
‫كل شــخص لديــه «املخــدر املفضــل»‪ .‬يمكــن أن حتــدث اللــذة واألمل يف‬
‫وقــت واحــد‪ .‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يمكــن أن نشــعر باللــذة واألمل عنــد تنــاول‬
‫األطعمـ�ة الغنيـ�ة بالتوابـ�ل‪.‬‬
‫ال يبــدأ اجلميــع بتــوازن مسـ ٍ‬
‫ـتو‪ :‬أولئــك املصابــون باالكتئــاب والقلــق‬
‫واألمل املزمــن يبــدؤون بتــوازن يميــل إىل جانــب األمل‪ ،‬وهــو مــا قــد يفــر‬
‫ســبب كــون األشــخاص الذيــن يعانــون مــن اضطرابــات نفســية أكثــر‬
‫عرض��ة لإلدمــان‪ .‬إن إدراكنــا احلــي لــأمل (واللــذة) يتأثــر بشــدة باملعنــى‬
‫الـ�ذي ننسـ�به إليـ�ه‪.‬‬

‫عمــل هنــري نولــز بيتــر (‪ )1976-1904‬كطبيــب عســكري خــال‬


‫احلــرب العامليــة الثانيــة يف شــال إفريقيــا وإيطاليــا وفرنســا‪ .‬يف حــن أنــه‬
‫الحــظ وأبلــغ عــن ‪ 225‬جند ًي��ا أصيب��وا بج��روح خط�يرة يف م�سرح احل��رب‪.‬‬
‫كان بيتــر صار ًمــا يف معايــر االشــتامل يف دراســته‪ ،‬حيــث شــمل املســح‬
‫فقــط أولئــك الرجــال الذيــن «لدهيــم واحــد مــن مخســة أنــواع مــن اجلــروح‬
‫الشــديدة التــي تــم اختيارهــا كعينــة ممثلــة للمســح؛ إصابــة األنســجة الرخــوة‬
‫املحيطيــة الواســعة‪ ،‬الكــر املركــب لعظــم طويــل‪ ،‬رأس مثقــوب‪ ،‬صــدر‬
‫خمــرق‪ ،‬أو بطــن خمرتقــة‪ ...‬مــع األخــذ يف االعتبــار خلوهــم مــن املــرض‬

‫‪96‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫النفــي‪ ،‬ومل يكونــوا يف حالــة صدمــة وقــت االســتجواب«‪ .‬قــام بيتــر‬


‫باكتشــاف رائــع؛ حيــث أفــاد أن ثالثــة أربــاع هــؤالء اجلنــود الذيــن أصيبــوا‬
‫بجــروح خطــرة‪ ،‬كانــت اســتجاباهتم تشــر إىل أهنــم يشــعرون بــأمل ضئيــل أو‬
‫مل يشــعروا بــأي أمل بعــد إصابتهــم مبــارشة‪ ،‬عــى الرغــم مــن اإلصابــات التــي‬
‫هتـ�دد حياهتـ�م‪.‬‬

‫وخلــص إىل أن آالمهــم اجلســدية قــد ُخ ِففــت مــن خــال الراحــة‬


‫العاطفيــة للهــروب مــن «بيئــة شــديدة اخلطــورة‪ ،‬بيئــة مليئــة بالتعــب وعــدم‬
‫الراحــة والقلــق واخلــوف وخطــر املــوت احلقيقــي»‪ .‬لقــد منحهــم أملهــم‪ ،‬كــا‬
‫هــو احلــال‪ ،‬تذكــرة أمــان إىل املستشــفى‪.‬‬
‫عــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬ي ِ‬
‫فصــل تقريــر حالــة مــن املجلــة الطبيــة‬ ‫ُ‬
‫الربيطانيــة ُنــر يف عــام ‪ 1995‬يــدور حــول حالــة عامــل بنــاء يبلــغ مــن العمــر‬
‫تســعة وعرشيــن عا ًمــا دخــل غرفــة الطــوارئ بعــد أن داس بقدمــه عــى‬
‫مســار طولــه مخســة عــر ســنتيمرت ًا‪ ،‬والــذي كان خيــرج مــن اجلــزء العلــوي‬
‫مــن حذائــه اخلــاص بالبنــاء‪ ،‬قــد اخــرق اجللــد واللحــم والعظــام‪« .‬كانــت‬
‫أقــل حركــة للظفــر مؤملــة‪ ،‬و تــم ختديــره بالفنتانيــل وامليــدازوالم»‪ ،‬ومهــا مــن‬
‫املــواد األفيونيــة واملض��ادات القويـ�ة‪ .‬ولكــن عندمــا تــم ســحب املســار مــن‬
‫األســفل وإزالــة احلــذاء‪ ،‬أصبــح مــن الواضــح أن «املســار قــد اخــرق بــن‬
‫أصابــع القــدم‪ :‬مل تكــن هنــاك أي إصابــة يف القــدم»‪.‬‬

‫يعلمنــا العلــم أن كل لــذة هلــا ثمــن‪ ،‬واألمل الــذي يتبعهــا يــدوم لفــرة‬
‫أط��ول وأكث�رـ ح��دة م��ن الل��ذة الت��ي أدت إىل نشــأهتا‪ .‬مــع التعــرض املطــول‬
‫واملتكــرر للمنبهــات املمتعــة‪ ،‬تقــل قدرتنــا عــى حتمــل األمل‪ ،‬وتــزداد عتبــة‬

‫‪97‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫جت��ارب املتعـ�ة‪ .‬بواس��طة عملي��ة تط ّبـ�ع رسيــع ودائــم يف الذاكــرة‪ ،‬ال يمكننــا‬
‫(‪)1‬‬
‫أن ننســى دروس اللــذة واألمل حتــى عندمــا نريــد‪ :‬إال أن وشــم احلصــن‬
‫يـ�دوم مـ�دى احليـ�اة‪.‬‬

‫بقــت اآلليــة العصبيــة القديمــة الفائقــة مــن الناحيــة التطوريــة ملعاجلــة‬


‫اللــذة واألمل‪ ،‬ســليمة إىل حــد كبــر خــال التطــور وعــر األنــواع‪ .‬إهنــا مهيــأة‬
‫بشــكل مثــايل لعــامل النــدرة‪ .‬بــدون اللــذة لــن نــأكل أو نــرب أو نتكاثــر‪.‬‬
‫بــدون أمل لــن نحمــي أنفســنا مــن اإلصابــة واملــوت‪ .‬يف حــال أدمنــا عــى‬
‫تك�رـار امللذــات س��يؤدي ذل�كـ إىل رفــع نقطــة الضبــط العصبــي‪ ،‬نصبــح‬
‫مناضلـين بـلا هنايـ�ة‪ ،‬وال نشـ�عر بالرضـ�ا بـما لدينـ�ا‪ ،‬ونبحـ�ث دائـ ًما عـ�ن املزيـ�د‪.‬‬

‫وهنــا تكمــن املشــكلة‪ .‬لقــد اســتجاب البــر‪ -‬وهــم الباحثــون‬


‫األساســيون ‪ -‬بشــكل جيــد للغايــة‪ ،‬لتحــدي الســعي وراء اللــذة وجتنــب‬
‫األمل‪ .‬ونتيجــة لذلــك قمنــا بتحويــل العــامل مــن فضــاء نــدرة إىل فضــاء الوفــرة‬
‫السـ�احقة‪.‬‬

‫مل يتــم تطويــر أدمغتنــا هلــذا العــامل الوفــر‪ .‬قــال الدكتــور تــوم فينوكــن‪،‬‬
‫الــذي يــدرس مــرض الســكري يف ســياق التغذيــة املزمنــة املســتقرة‪« ،‬نحــن‬
‫صبــار يف الغابــة املطــرة»‪ .‬ومثــل نبــات الصبــار الــذي تكيــف مــع املنــاخ‬
‫اجلـ�اف‪ ،‬فإننـ�ا نغـ�رق يف الدوبامـين‪.‬‬

‫وكنتيجــة هنائيــة لــكل هــذا اإلرساف‪ ،‬أصبحنــا نحتــاج اآلن إىل املزيــد‬

‫دورا مهـ ًّا يف‬


‫كل مــن الفصــن الصدغيــن‪ .‬ويــؤدي ً‬ ‫تغضــن صغــر يف الدمــاغ‪ ،‬يســتقر أســفل ٍّ‬‫((( ُّ‬
‫تكويــن الذكريــات؛ إذ يأخــذ خرباتنــا وتفاعالتنــا‪ ،‬واض ًعــا إياهــا فيــا يشــبه القالــب‪ ،‬عــر صنــع‬
‫روابــط جديــدة بــن اخلاليــا العصبيــة‪( .‬املرتمجــة)‬

‫‪98‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫مــن املكافــأة للشــعور بالرضــا‪ ،‬وأقــل اإلصابــات واألرضار للشــعور بــاألمل‪.‬‬


‫إن إعــادة ضبــط املعيــار هــذه ال حتــدث عــى مســتوى األفــراد فقــط‪ ،‬ولكــن‬
‫عــى مســتوى األمــم أيض ـ ًا‪ .‬األمــر الــذي يدعــو إىل التســاؤل‪ :‬كيــف نعيــش‬
‫ونزدهــر يف هــذا النظــام البيئــي اجلديــد؟ كيــف نــريب أطفالنــا؟ مــا طــرق‬
‫التفكــر والتــرف اجلديــدة املطلوبــة منــا نحــن معــارصو القــرن احلــادي‬
‫والعرشيــن؟‬

‫ويف حــال رغبنــا يف تعلــم كيفيــة جتنــب االســتهالك القهــري املفــرط‪ ،‬ال‬
‫يوجــد أفضــل مــن جتــارب األشــخاص األكثــر عرضــة لــه وهــم مكافحــو‬
‫اإلدمــان‪ .‬لقــد طــور األشــخاص املصابــون باإلدمــان حكمــة تتناســب متا ًمــا‬
‫مــع العــر الــذي نعيــش فيــه اآلن‪ ،‬بالرغــم مــن نبذهــم آلالف الســنني عــر‬
‫مجيــع الثقافــات والتعامــل معهــم كمنبوذيــن وطفيليــن ومتعهديــن للفســاد‬
‫األخالقـ�ي‪.‬‬

‫وما ييل سيكون بمثابة دروس للتعايف يف عامل املكافآت املرهق‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجلزء الثاين‬

‫جهاد النفس (إلزام الذات)‬

‫‪101‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الفصل الرابع‬
‫صيام الدوبامني‬

‫بــدأت دليــا بذلــك الصــوت غــر املكــرث الــذي ُيعــد الســمة املميــزة‬
‫للمراهقــن يف أمريــكا‪« :‬أنــا هنــا ألن والــداي أجــراين عــى احلضــور‬
‫لرؤيتــك»‪.‬‬

‫قلت‪« :‬حسنًا»‪« .‬ملاذا يريد والداك منك ذلك؟»‪.‬‬

‫«يعتقــدون أننــي أدخــن الكثــر مــن احلشــيش‪ ،‬لكــن مشــكلتي‬


‫األساســية هــي القلــق‪ .‬أنــا أدخــن ألننــي قلقــة‪ ،‬وإذا كان بإمكانــك فعــل‬
‫يشء لذلــك‪ ،‬حينهــا لــن أحتــاج للحشــيش»‪.‬‬

‫لقــد متلكتنــي حلظــة مــن احلــزن العميــق يف ذلــك الوقــت‪ .‬ليــس ألننــي‬
‫مل أكــن أعــرف بــاذا أنصحهــا‪ ،‬ولكــن ألننــي كنــت أخشــى أهنــا لــن تأخــذ‬
‫بنصيحت��ي‪ .‬قلــت‪« :‬حســنًا‪ ،‬لنبــدأ مــن هنــاك»‪« .‬أخربينــي عــن قلقــك»‪،‬‬
‫كانــت فتــاة طويلــة ورشــيقة‪ ،‬طــوت ســاقيها حتتهــا‪ ،‬وبــدأت يف الــرد‪« :‬لقــد‬
‫بــدأت يف اإلعداديــة‪ ،‬وازداد األمــر ســو ًءا عــى مــر الســنني‪ .‬القلــق هــو أول‬
‫يشء أشــعر بــه عندمــا أســتيقظ يف الصبــاح‪ .‬وتدخــن احلشــيش بواســطة‬
‫القلــم الشــمعي ‪ wax pen‬هــو الــيء الوحيــد الــذي خيرجنــي مــن الرسيــر»‬

‫‪102‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫«قلــم الشــمع؟» «نعــم أنــا أدخــن احلشــيش بواســطة الســيجارة اإللكرتونيــة‬


‫اآلن‪ .‬اعتــدت ســابق ًا أن أدخــن احلشــيش كســيجار‪ ،‬أو مــن خــال الزجاجــة‬
‫املخصصــة للتدخــن‪ ،‬كنــت أدخــن «ســاتيفا» يف النهــار و«إنديــكا» قبــل‬
‫النــوم‪ .‬لكــن اآلن أنــا أركــز عــى اســتخدام مســتخلص احلشــيش بأنــواع يف‬
‫ســيجارة إلكرتونيــة خاصــة بتدخــن هــذه األنــواع‪ ،‬لكــن يف بعــض األحيــان‬
‫أســتخدم جهــاز التبخــر‪ ،‬أنــا يف الغالــب ال أســتهلك األطعمــة التــي هبــا‬
‫حشــيش‪ ،‬ولكــن أســتخدمها بعــض األحيــان حــن يكــون مــن الصعــب‬
‫تدخــن احلشــيش»‪.‬‬

‫البيانات‬

‫مــن خــال دفعهــا إىل قــول املزيــد عــن «قلــم الشــمع» اخلــاص هبــا‪،‬‬
‫كنــت أدعــو دليــا للتعمــق يف التفاصيــل الدقيقــة الســتخدامها اليومــي‪.‬‬
‫حمادثتــي معهـ�ا كانتــ موجهـ�ة مــن خــال اجتــاه عمــي قمــت بتطويــره عــى‬
‫مــر الســنني للتحــدث مــع املــرىض حــول مشــكلة االســتهالك القهــري‬
‫املفـ�رط‪.‬‬

‫يمكــن تذكــر هــذا اإلطــار بســهولة مــن خــال اســتخدام حــروف‬


‫مفـ�ردة دوبامـين ‪ ،DOPAMINE‬فهــذا االجتــاه العالجــي ال ينطبــق عــى‬
‫إدمــان العقاقــر التقليديــة فقــط‪ ،‬مثــل الكحــول والنيكوتــن‪ ،‬ولكــن يمكــن‬
‫تطبيقــه أيضـ ًا عــى أي موقــف فرعــي أو ســلوك عــايل الدوبامــن قــد يســيطر‬
‫علينــا لفــرة طويلــة جــدً ا‪ ،‬أو كنــا نتمنــى لــو كان لدينــا عالقــة أقــل إيالم ـ ًا‬

‫‪103‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫معــه‪ .‬عــى الرغــم مــن أننــي قمــت بتطويــر هــذا املنهــج يف األصــل ملامرســتي‬
‫املهنيــة‪ ،‬إال أننــي طبقتــه أيض ـ ًا عــى نفــي للتحكــم يف عــادايت االســتهالكية‬
‫املصاحبـ�ة النعـ�دام التكيـ�ف‪.‬‬

‫حـ�رف د يف ‪ DOPAMINE‬يرم��ز إىل البيان��ات (‪ .)DATA‬أبــدأ بجمــع‬


‫احلقائــق البســيطة لالســتهالك‪ .‬يف حالــة دليــا‪ ،‬استكشــفت مــا كانــت‬
‫تسـ�تخدمه عـلى مسـ�توى الكميـ�ة والتكـ�رار‪.‬‬

‫عندمــا يتعلــق األمــر بإدمــان احلشــيش‪ ،‬فــإن القائمــة املذهلــة للمنتجات‬


‫وآليــات التوصيــل التــي وصفتهــا دليــا هــي مــا تــدور حولــه حيــاة مرضــاي‬
‫وتُعــد مكونــات أساســية لروتينهــم اليومــي‪ .‬يمكــن القــول‪ :‬إنــه بحلــول‬
‫الوقــت الــذي يأتــون لرؤيتــي طلب ـ ًا للمســاعدة‪ ،‬يمتلــك الكثــر منهــم مــا‬
‫يعــادل درجــة الدكتــوراه يف اســتخدام ومعرفــة أنــواع احلشــيش يف وقتنــا‬
‫احلــارض‪.‬‬

‫عــى عكــس الســتينيات‪ ،‬عندمــا كانــت تســتخدم املخــدرات يف إطــار‬


‫االحتفــاالت والرتفيــه لعطــات هنايــة األســبوع بمعنــى أهنــا كانــت أنشــطة‬
‫ذات طابــع معيــاري‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬يبــدأ مرضــاي يف التدخــن يف اللحظــة التــي يســتيقظون فيهــا‬


‫صباح ـ ًا ويســتمرون طــوال اليــوم حتــى يذهبــوا إىل الفــراش مــرة أخــرى‪.‬‬
‫وهــذا مقلــق عــى العديــد مــن املســتويات‪ ،‬ليــس أقلهــا أن االســتخدام‬
‫اليومـ�ي مرتبـ�ط بالسـ�لوك اإلدمـ�اين‪.‬‬

‫بالنسبــة يل‪ ،‬بــدأت أشكــ يف أنن��ي كنتــ أتأرج�حـ يف منطقـ�ة اخلطـ�ر‬

‫‪104‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عندمــا بــدأت قــراءيت للروايــات الرومانســية تســتغرق ســاعات متتاليــة يف‬


‫اليــوم‪ ،‬ومــن ثـ�م أصبحـ�ت تسـ�تهلك منـ�ي أيامـ� ًا متتاليـ�ة‪.‬‬

‫األهداف‬

‫ســألت دليــا‪« :‬مــاذا يقــدم تدخــن احلشــيش لــك؟»‪« .‬كيــف يســاعدك‬


‫عــى حتســن حياتــك؟»‬

‫قالــت‪« :‬إنــه الــيء الوحيــد الــذي يســاعدين عــى التغلــب عــى القلق»‪.‬‬
‫«بدونــه ال أســتطيع أن أقــوم بــأي يشء‪ ،‬بمعنــى أننــي ســأكون عاجــزة أكثــر‬
‫مم��ا أن��ا علي��ه اآلن»‪.‬‬

‫عندمــا طلبــت مــن دليــا أن ختــرين كيــف يســاعدها احلشــيش‪ ،‬كنــت‬


‫أحتقــق مــن الكيفيــة التــي تنظــر هبــا إىل إدماهنــا عــى احلشــيش واملكاســب‬
‫التــي حيققهــا هلــا‪ ،‬ومــا الــيء اإلجيــايب الــذي حتققــه مــن تدخــن احلشــيش‬
‫وإال لــن يكــون اســتخدامه جمدي ـ ًا؟‬

‫إن حــرف الـــ ‪ O‬مــن مفــردة ‪ Dopamine‬يعنـ�ي األهـ�داف‬


‫(‪ )OBJECTIVES‬التــي حيققهــا اســتخدام احلشــيش‪ .‬حتــى الســلوك الــذي‬
‫يبــدو غــر عقــاين قــد يكــون متجــذر ًا ومــرر ًا يف منطقنــا الشــخيص‪ ،‬حيــث‬
‫يســتخدم النــاس املــواد والســلوكيات عاليــة الدوبامــن مقرتنــة بمــررات‬
‫ال تشــوهبا شــائبة‪ ،‬وأكثــر املــررات تكــرار ًا وتأثــر ًا هــي‪ :‬للحيــاة بشــكل‬
‫أفضــل‪ ،‬مثــل‪ :‬االســتمتاع‪ ،‬والتكيــف‪ ،‬والتخفيــف مــن حــدة اخلــوف‪،‬‬

‫‪105‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫والغضــب‪ ،‬والقلــق‪ ،‬واألرق‪ ،‬واالكتئــاب‪ ،‬وعــدم االنتبــاه‪ ،‬واألمل‪،‬‬


‫والرهـ�اب االجتامعـ�ي‪ .‬والقائمـ�ة تطـ�ول‪.‬‬

‫بالنســبة يل‪ ،‬لقــد اســتخدمت الروايــات الرومانســية للهــروب ممــا هــو‬


‫مــؤمل يل يف ذلــك الوقــت‪ ،‬للهــرب بعيــد ًا عــن تربيــة أطفــايل الصغــار ومــن ثــم‬
‫تربيــة املراهقــن‪ ،‬ولالبتعــاد عــن إحبــاط وظيفــة كنــت أتصــور أن مهــارايت‬
‫أيضــا أخفــف مــن حــزين لعــدم إنجــاب طفــل‬
‫فيهــا ال تتســم بالكفــاءة‪ .‬كنــت ً‬
‫آخــر‪ ،‬وهــو أمــر أردتــه ومل يرغــب فيــه زوجــي‪ ،‬ممــا خلــق تتوتــر ًا يف زواجنــا‬
‫ويف حياتنـ�ا اجلنسـ�ية مل يكـ�ن معهـ�ود ًا مـ�ن قبـ�ل‪.‬‬

‫املشاكل‬

‫ســألت‪« :‬أي ســلبيات مــن تدخــن احلشــيش؟ أو عواقــب غــر‬


‫مقصــودة؟ « قالــت دليــا‪« :‬الــيء الســيئ الوحيــد يف التدخــن هــو أن‬
‫دائــا خلفــي‪ ،‬يف حــال تركــوين وشــأين‪ ،‬فلــن تكــون هنــاك أي‬
‫والــدي ً‬
‫ّ‬
‫س�لـبيات»‪ .‬توقف��ت ملالحظ�ةـ انعكــاس أشــعة الشــمس التــي تتــأأل عــى‬
‫شــعرها‪ .‬كانــت يف خميلتــي صــورة الصحــة التــي أراهــا وأمتناهــا هلــا‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن حقيقــة أهنــا كانــت تتنــاول أكثــر مــن جــرام مــن احلشــيش يوم ًيــا‪.‬‬
‫ولكـ�ن أعتقـ�د أن الشـ�باب وصغـ�ر السـ�ن قـ�د يعوضـ�ا عـ�ن الكثـير‪.‬‬

‫حــرف ‪ P‬يف ‪ Dopamine‬يعنــي املشــاكل (‪ )PROBLEMS‬املتعلقــة‬


‫باالســتخدام‪ .‬تــؤدي املخــدرات عاليــة الدوبامــن دائـ ًـا إىل مشــاكل متعــددة‬
‫منهــا مــا هــو متعلــق بالصحــة‪ ،‬أو مشــاكل عــى مســتوى العالقــات‪ ،‬أو‬

‫‪106‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الوقــوع يف مشــاكل أخالقيــة‪ .‬إذا مل تكــن يف املســتقبل القريــب‪ ،‬فحت ًام ســيصل‬
‫هلــا مــن يعــاين مــن اإلدمــان الحقـ ًا‪ ،‬وهــذا هــو الــيء الــذي مل تتمكــن دليــا‬
‫مــن رؤيتــه‪ ،‬أو اســترشافه‪ ،‬فــكل مشــاكلها الســلبية تتمحــور حــول عالقتهــا‬
‫بوالدهيــا والــراع املتزايــد بينهــا وبينهــا‪ ،‬وهــو أمــر نموذجــي للمراهقــن‪،‬‬
‫وليــس فقــط املراهقــن‪ .‬إنــا حتــدث هــذه القطيعــة عــن الرؤيــة بوضــوح‬
‫لعــدة أســباب‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬ال يســتطيع معظمنــا رؤيــة املــدى الكامــل لعواقــب تعاطينــا‬


‫للمخــدرات يف حــن مازلنــا نتعاطــى‪ ،‬إذ حتجــب املــواد والســلوكيات عاليــة‬
‫الدوبامـين قدرتنـ�ا عـلى تقييـ�م السـ�بب والنتيجـ�ة بشـ�كل دقيـ�ق‪.‬‬

‫ذكــر يل ذات مــرة عــامل األعصــاب دانيــال فريدمــان وهــو متخصــص‬


‫يف دراســة ممارســات البحــث عــن الطعــام لنمــل احلصــاد األمحــر‪« :‬إن العــامل‬
‫غنــي حســي ًا وفقــر ســببي ًا»‪ ،‬ممــا جيعلنــي أقــف عنــد هــذه العبــارة‪ ،‬لتفســر‬
‫الســلوك اإلدمــاين‪ ،‬عــى ســبيل املثــال نحــن نعلــم أن طعــم الدونــات جيــد‬
‫يف اللحظــة اآلنيــة‪ ،‬لكننــا أقــل وع ًيــا بــأن تنــاول الدونــات كل يــوم ملــدة شــهر‬
‫يضيـ�ف مخسـ�ة أرطـ�ال إىل حميـ�ط اخلـصر لدينـ�ا‪.‬‬

‫ثان ًيــا‪ُ :‬يعــد الشــباب‪ ،‬أكثــر حصانــة مــن العواقــب الســلبية للتعاطــي‪.‬‬
‫كــا قــال يل أحــد معلمــي املدرســة الثانويــة‪« ،‬بعــض أفضــل طــايب يدخنــون‬
‫احلشــيش كل يــوم»‪.‬‬

‫ومــع تقدمنــا يف العمــر‪ ،‬تتضاعــف العواقــب غــر املقصــودة‬


‫لالســتخدام املزمــن‪ .‬معظــم مرضــاي الذيــن يأتــون طواعيــة للعــاج هــم‬

‫‪107‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف منتصــف العمــر‪ .‬إهنــم يبحثــون عنــي؛ ألهنــم وصلــوا إىل نقطــة حتــول‪،‬‬
‫حيــث تفــوق ســلبيات اســتخدامهم اجلوانــب اإلجيابيــة‪ ،‬فاجلملــة الرئيســة‬
‫التــي يعــروا هبــا عــن إدماهنــم يف اجتامعــات مدمنــي الكحــول واملخــدرات‪:‬‬
‫«لقــد ســئمت وتعبــت مــن املــرض والتعــب»‪ .‬وعــى النقيــض مــن ذلــك‪،‬‬
‫فـ�إن مرضـ�اي املراهقـين ليسـ�وا مـ�رىض وال متعبـين‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن إقنــاع املراهقــن برؤيــة بعــض اخلصوصيــات الســلبية‬


‫الســتخدامهم أثنــاء تعاطيهــم‪ ،‬حتــى لــو كان الســبب أن اآلخريــن فقــط ال‬
‫حيبونــه‪ ،‬يمكــن أن يكــون نقطــة نفــوذ إليقافهــم‪ .‬والتوقــف‪ ،‬حتــى لفــرة مــن‬
‫الوقـ�ت فقـ�ط‪ ،‬رضوري حلملهـ�م عـلى رؤيـ�ة السـ�بب احلقيقـ�ي والنتيجـ�ة‪.‬‬

‫االمتناع‬

‫قلــت لدليــا «لــدي فكــرة عــا قــد يســاعدك‪ ،‬لكنــه ســيتطلب منــك‬
‫القيــام بــيء ُيعــد صعــب جــد ًا»‪ ،‬ســألت» مــا هــو»؟ قلــت‪ « :‬أريــدك أن‬
‫اسرتســلت «‬
‫ُ‬ ‫جتــريب جتربــة» « جتربــة؟»‪ ،‬أمالــت رأســها إىل اجلانــب‪ ،‬ثــم‬
‫أريــدك أن تتوقفــي عــن اســتخدام احلشــيش ملــدة شــهر» يف تلــك األثنــاء كان‬
‫وجههاــ س��اكنا‪« ،‬دعينــي أرشح‪ .‬أوالً‪ :‬مــن غــر املرجــح أن تنجــح عالجــات‬
‫القلــق أثنــاء تدخــن هــذا القــدر مــن احلشــيش‪ .‬ثان ًيــا‪ :‬واألهــم مــن ذلــك‪،‬‬
‫هنــاك احتــال واضــح أنــه إذا توقفــت عــن التدخــن ملــدة شــهر كامــل‪ ،‬فــإن‬
‫قلقــك سيتحســن بمفــرده‪ .‬بالطبــع‪ ،‬يف البدايــة ســوف تشــعرين باالنزعــاج‬
‫واالســتياء بســبب األعــراض االنســحابية‪ ،‬ولكــن إذا متكنــت مــن اجتيــاز‬

‫‪108‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األســبوعني األولــن‪ ،‬فهنــاك فرصــة جيــدة لــك‪ ،‬بــأن تعــاودي الشــعور‬


‫بالتحســن يف األســبوعني األخرييــن»‪.‬‬

‫ظلــت هادئــة؛ لذلــك تابعــت‪ .‬رشحــت هلــا أن أي دواء حيفــز مســار‬


‫مكافأتنــا بالطريقــة التــي يفعلهــا احلشــيش ‪-‬لديــه القــدرة عــى تغيــر‬
‫مســتوى القلــق األســاس يف دماغنــا‪ .‬فاألدويــة التــي تعالــج القلــق قــد يكــون‬
‫هلــا نفــس تأثــر احلشــيش عــى األعــراض االنســحابية‪ ،‬ممــا خيفــف مــن‬
‫االنســحاب مــن جرعتنــا األخــرة ويعــوق عمليــة التعــايف‪ ،‬يصبــح احلشــيش‬
‫ســبب قلقنــا وليــس العــاج‪ .‬والطريقــة الوحيــدة ملعرفــة ذلــك عــى وجــه‬
‫اليقـين هـ�ي االمتنـ�اع عـ�ن التعاطـ�ي ملـ�دة شـ�هر‪.‬‬

‫ســألت «هــل يمكننــي التوقــف ملــدة أســبوع؟»‪ ،‬واســتدركت «لقــد‬


‫فعلــت ذلــك مــن قبــل»‪ .‬قلــت هلــا‪« :‬ســيكون األســبوع جيــدً ا‪ ،‬ولكــن مــن‬
‫واقــع خــريت‪ ،‬عــادة مــا يكــون الشــهر هــو احلــد األدنــى مــن الوقــت الــذي‬
‫يســتغرقه الدمــاغ إلعــادة ضبــط مســار املكافــأة فيــه‪ .‬يف حــال عــدم شــعورك‬
‫بتحســن بعــد أربعــة أســابيع مــن االمتنــاع‪ ،‬هنــا نســتطيع القــول إننــا حصلنــا‬
‫عــى بيانــات مفيــدة‪ ،‬بمعنــى أن احلشــيش ال ُيعــد املســؤول عــن القلــق‬
‫لديــك‪ ،‬وعلينــا التفكــر يف يشء آخــر‪ .‬إذن مــا رأيــك؟ هــل تعتقديــن أنــك‬
‫ســتكون قــادرة ومســتعدة لالمتنــاع عــن تعاطــي احلشــيش ملــدة شــهر؟»‬

‫«ممــم‪ ..‬ال أعتقــد أننــي مســتعدة ملحاولــة اإلقــاع عــن التدخــن اآلن‪،‬‬
‫لكــن ربــا يف وقــت الحــق‪ .‬بالتأكيــد لــن أدخــن هكــذا إىل األبد»‪.‬هــل‬
‫ســرغبني‪ ،‬يف اســتخدام احلشــيش بعــد عــر ســنوات مــن اآلن؟» هــزت‬
‫رأســها بقــوة وأجابــت « ال‪ ،‬مســتحيل‪ ،‬بالتأكيــد ال»‪ « .‬إذن‪ ،‬مــاذا عــن مخــس‬

‫‪109‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ســنوات مــن اآلن؟» أجابــت‪« :‬ال‪ ،‬ليــس بعــد مخــس ســنوات أيضـ ًا» «مــاذا‬
‫عــن عــام مــن اآلن؟»‬

‫توقفــت قليــ ً‬
‫ا وهــي حتبــس ضحكــة مكتومــة وقالــت‪« :‬دكتــورة‪،‬‬
‫أعتقــد أنــك نلــت منــي‪ .‬إذا كنــت ال أريــد أن أدخــن احلشــيش يف غضــون‬
‫عــام‪ ،‬فــا الضــر أن أحــاول التوقــف اآلن»‪.‬‬

‫نظرت إيل وابتسمت‪« ،‬حسنا‪ ،‬دعينا نفعل ذلك»‪.‬‬

‫عندمــا طلبــت مــن دليــا التفكــر يف ســلوكها احلــايل يف ضــوء نفســها‬


‫إحلاحــا جديدً ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫املســتقبلية‪ ،‬كنــت آمــل أن اإلقــاع عــن احلشــيش سيكتســب‬
‫يبـ�دو أنـ�ه نجـ�ح‪.‬‬

‫‪ A‬مــن ‪ Dopamine‬يعنــي االمتنــاع‪ )ABSTINENCE( ،‬ويعــد االمتنــاع‬


‫رضوريــ ًا الســتعادة التــوازن‪ ،‬الــذي مــن خاللــه يتــم حتفيــز قدرتنــا عــى‬
‫احلصــول عــى اللــذة مــن املكافــآت البســيطة واألقــل فعاليــة‪ ،‬وكذلــك رؤيــة‬
‫الســبب احلقيقــي والنتيجــة بــن وضعنــا أثنــاء تعاطــي املخــدرات وبــن مــا‬
‫نشــعر بــه يف أثنــاء االمتنــاع‪ .‬وبوضــع هــذه املســألة يف ســياق التــوازن بــن‬
‫اللــذة واألمل‪ ،‬يمكــن القــول‪ :‬إن الصيــام عــن الدوبامــن يتيــح وق ًتــا كاف ًيــا‬
‫لعمليــة التنظيــم الــذايت يف الدمــاغ كــي تقــوم بدورهــا‪ ،‬ممــا يســاعد عــى‬
‫اسـ�تعادة التـ�وازن يف املسـ�توى املطلـ�وب‪.‬‬

‫يــأيت هنــا‪ ،‬هــذا الســؤال املهــم‪ :‬مــا مــدة االمتنــاع التــي نحتاجهــا حتــى‬
‫تتحقــق الفائــدة مــن هــذا االمتنــاع عــى الدمــاغ؟‬

‫لــو عدنــا بالتفكــر إىل دراســة صــور الدمــاغ التــي أجرهتــا عاملــة‬

‫‪110‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األعصــاب نــورا فولكــو والتــي تناولتهــا ســابق ًا‪ ،‬حيــث أظهــرت أن انتقــال‬
‫الدوبامــن مــا يــزال أقــل مــن املعتــاد بعــد أســبوعني مــن اإلقــاع عــن‬
‫املخــدرات‪ .‬دراســتها تتوافــق مــع جتربتــي الرسيريــة بــأن أســبوعني مــن‬
‫االمتنــاع ال تُعــد كافيــة للتخلــص مــن عــوارض اإلدمــان االنســحابية‪ .‬ففــي‬
‫غضــون أســبوعني مــا يــزال املــرىض عــادة يعانــون مــن االنســحاب‪ .‬ومــا‬
‫يزالــون عالقــن يف مرحلــة عجــز الدوبامــن‪.‬‬

‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬غال ًبــا مــا تكــون أربعــة أســابيع كافيــة‪ .‬درس مــارك‬
‫شــوكيت وزمــاؤه جمموعــة مــن الرجــال الذيــن كانــوا يرشبــون الكحــول‬
‫أيضــا معايــر االكتئــاب الرسيــري‪ ،‬أو مــا‬
‫يوم ًيــا بكميــات كبــرة واســتوفوا ً‬
‫يسـ�مى باالضطـ�راب االكتئـ�ايب الشـ�ديد‪.‬‬

‫اشــتهر شــوكيت‪ ،‬أســتاذ علــم النفــس التجريبــي يف جامعــة واليــة‬


‫ســان دييغــو‪ ،‬بإثبــات أن األبنــاء البيولوجيــن لـــ «مدمنــي الكحــول» لدهيــم‬
‫خماطــر وراثيــة متزايــدة لإلصابــة باضطــراب تعاطــي الكحــول‪ ،‬مقارنــة بمــن‬
‫ليــس لدهيــم هــذا العــبء اجلينــي‪ .‬وكان مــن دواعــي رسوري أن أتعلــم مــن‬
‫مــارك‪ ،‬املعلــم املوهــوب‪ ،‬يف سلســلة مــن املؤمتــرات حــول اإلدمــان يف أوائــل‬
‫العقـ�د األول مـ�ن القـ�رن احلـ�ادي والعرشيـ�ن‪.‬‬

‫تــم إحالــة الرجــال املكتئبــن يف دراســة شــوكيت إىل املستشــفى لبقائهــم‬


‫فيهــا ملــدة أربعــة أســابيع‪ ،‬ومل يتلقــوا خــال تلك الفــرة أي عــاج لالكتئاب‪،‬‬
‫بخــاف إيقــاف الكحــول‪ ،‬بعــد شــهر واحــد مــن االمتنــاع عــن الــرب‪ ،‬مل‬
‫يعــد ‪ % 80‬منهـ�م يسـ�توفون معايـير التشـ�خيص باالكتئـ�اب الرسيـ�ري‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫تشــر هــذه النتيجــة إىل أنــه بالنســبة لألغلبيــة‪ ،‬فــإن االكتئــاب الرسيــري‬
‫ناتــج عــن اإلفــراط يف رشب الكحــول وليــس اضطراب ـ ًا اكتئابيــ ًا متزامنًــا‪،‬‬
‫ويمكــن تفســر ذلــك بالتــايل‪ :‬البيئــة العالجيــة لبيئــة املستشــفى‪ ،‬واهلــدوء‬
‫التلقائــي‪ ،‬والطابــع العــريض لالكتئــاب‪ ،‬الــذي يمكــن أن يــأيت ويصبــح‬
‫مســتقال عــن العوامــل اخلارجيــة‪ .‬لكــن مــا يمكــن اعتبــاره أحــد أهــم النتائــج‬
‫االســتثنائية هــي أن العالجــات األساســية لالكتئــاب‪ ،‬ســواء كانــت أدويــة‬
‫أو عالج ـ ًا إرشــادي ًا نفســي ًا‪ ،‬لدهيــا معــدل اســتجابة بنســبة ‪ % 50‬فقــط‪.‬‬

‫بطبيعــة احلــال‪ ،‬رأيــت مــرىض حيتاجــون إىل أقــل مــن أربعــة أســابيع‬
‫إلعــادة ضبــط مســار مكافأهتــم‪ ،‬وغريهــم ممــن حيتاجــون مــدة أطــول‪.‬‬
‫أولئــك الذيــن يســتخدمون عقاقــر أكثــر فاعليــة بكميــات أكــر لفــرة‬
‫أطــول ســيحتاجون عــاد ًة إىل مزيــد مــن الوقــت‪ .‬يف حــن يتمكــن الشــباب‬
‫مــن إعــادة ضبــط ســلوكهم اإلدمــاين أرسع مــن كبــار الســن‪ ،‬حيــث تكــون‬
‫أدمغتهــم أكثــر مرونــة‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬ختتلــف عــوارض االنســحاب‬
‫اجلســدي مــن خمــدر آلخــر‪ .‬يمكــن أن يكــون ذا أثــر طفيــف بالنســبة لبعــض‬
‫الســلوكيات اإلدمانيــة‪ ،‬مثــل ألعــاب الفيديــو‪ ،‬ولكنــه قــد هيــدد حيــاة‬
‫اآلخريـ�ن‪ ،‬مثـ�ل اإلدمـ�ان عـلى الكحـ�ول والبنزوديازيبينـ�ات‪.‬‬

‫وهــو مــا يقودنــا إىل حتذيــر مهــم‪ :‬ال أقــرح أبــدً ا عــى األفــراد الذيــن‬
‫قــد يتعرضــون خلطــر االنســحاب الــذي هيــدد حياهتــم أن يمتنعــوا بشــكل‬
‫مفاجــئ عــن املخــدر ويطبقــوا الصيــام عــن الدوبامــن بأنفســهم‪ ،‬كــا هــو‬
‫احلــال يف حــاالت إدمــان الكحــول الشــديد أو مســتحرضات البنزوديازيبــن‬
‫(زاناكــس‪ ،‬الفاليــوم‪ ،‬أو كلونوبــن)‪ ،‬أو ممــن يعتمــدون عــى املســتحرضات‬

‫‪112‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األفيونيــة‪ ،‬بالنســبة هلــؤالء املــرىض‪ ،‬يعــد التخفيــض التدرجيــي اخلاضــع‬


‫للمراقبــة الطبيـ�ة رضور ًيـ�ا‪.‬‬

‫يف بعــض األحيــان‪ ،‬يســأل املــرىض عــا إذا كان بإمكاهنــم اســتبدال‬
‫خمــدر بآخــر‪ :‬احلشــيش بالنيكوتــن‪ ،‬وألعــاب الفيديــو باملــواد اإلباحيــة‪.‬‬
‫ونـ�ادرا مـ�ا تكـ�ون هـ�ذه اسـتراتيجية فعالـ�ة طويلـ�ة األجـ�ل‪.‬‬

‫أي مكافــأة قويــة بــا يكفــي للتغلــب عــى آليــات التنظيــم الــذايت‪ ،‬وقلب‬
‫التــوازن نحــو اللــذة يمكــن أن تكــون هــي نفســها مســبب ًا لإلدمــان‪ ،‬ممــا يؤدي‬
‫أي مكافــأة ليســت قويــة بــا‬‫إىل مقايضــة إدمــان بآخــر (إدمــان تقاطعــي)(‪ّ .)1‬‬
‫يكفــي لــن نشــعر بأهنــا مكافــأة‪ ،‬وهلــذا الســبب عندمــا نســتهلك مكافــآت‬
‫عاليــة مــن الدوبامــن‪ ،‬نفقــد القــدرة عــى االســتمتاع بامللــذات العاديــة‬
‫والبســيطة‪( .‬رســم رقــم ‪)14‬‬

‫ستـبدال‬
‫ا‬
‫مكـافأة‬
‫ال‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫((( احلالــة التــي يظهــر فيهــا الشــخص املدمــن املعتمــد عــى مــادة واحــدة‪ ،‬ميـ ًـا إدمانيـ ًا جتــاه مــادة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أقليــة مــن املــرىض (حــوايل ‪ )% 20‬ال يشــعرون بتحســن بعــد صيــام‬


‫أيضــا؛ ألهنــا ختــرين أن املخــدر مل يكــن‬
‫الدوبامــن‪ .‬هــذه بيانــات مهمــة ً‬
‫املحــرك الرئيــس لألعــراض النفســية‪ ،‬وأن املريــض عــى األرجــح يعــاين مــن‬
‫اضطـ�راب نفـسي متزامـ�ن يتطلـ�ب عالجـ�ه اخلـ�اص‪.‬‬

‫حتــى عندمــا يكــون صيــام الدوبامــن مفيــدً ا‪ ،‬جيــب عــاج االضطــراب‬


‫النفــي املتزامــن يف نفــس الوقــت‪ .‬عــادة مــا يــؤدي التدخــل لعــاج اإلدمــان‬
‫وحــده‪ ،‬دون معاجلــة االضطرابــات النفســية األخــرى إىل نتائــج ســيئة‬
‫لكليهـما‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬لتقديــر العالقــة بــن تعاطــي املخــدرات واألعــراض‬


‫النفســية‪ ،‬أحتــاج إىل مالحظــة املريــض لفــرة كافيــة مــن الوقــت وهــو ممتنــع‬
‫عــن املكافــآت عاليــة الدوبامــن‪.‬‬

‫اليقظة‬
‫قلــت لدليــا‪« :‬أريــدك أن تكــوين مســتعدة لشــعورك بالســوء قبــل أن‬
‫تشــعري بالتحســن‪ ،‬أعنــي هبــذا‪ ،‬عندمــا تتوقفــي عــن تدخــن احلشــيش‬
‫ألول مــرة‪ ،‬ســيزداد قلقــك ســو ًءا‪ .‬لكــن تذكــري‪ ،‬أن هــذا القلــق املخــادع‬
‫ليــس القلــق الــذي جيــب أن تتعايــي معــه مــن خــال تدخــن احلشــيش‪،‬‬
‫بــل هــو قلــق‪ ،‬بســبب االنســحاب‪ .‬كلــا طالــت مــدة قدرتــك عــى احتــال‬
‫أعــراض االنســحاب دون اســتخدام‪ ،‬زادت رسعــة وصولــك إىل ذلــك‬
‫املــكان الــذي تشــعرين فيــه بتحســن‪ .‬عــادة مــا يبلــغ املــرىض عــن نقطــة حتــول‬
‫يف ح��وايل أس��بوعني»‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫«حســنا‪ .‬مــاذا يفــرض يب أن أفعــل يف هــذه األثنــاء؟ هــل لديــك أي‬


‫حبـ�وب يمكـ�ن أن تصفيهـ�ا يل؟»‬

‫«ال يوجــد يشء يمكننــي أن أعطيــك إيــاه للتخلــص مــن األمل‪ ،‬بــا أن‬
‫أي مســكن أو ملطــف قــد يســبب اإلدمــان‪ ،‬إذ إننــا ال نريــد مقايضــة إدمــان‬
‫بآخــر‪ ،‬مــا أطلبــه منــك هــو حتمــل األمل»‪.‬‬

‫«أووف»‪.‬‬

‫أيضــا فرصــة‪ .‬فرصــة لــك ملراقبــة‬


‫«نعــم‪ ،‬أنــا أعلــم أنــه صعــب‪ .‬لكنهــا ً‬
‫نفســك عــى أهنــا منفصلــة عــن أفــكارك وعواطفــك وأحاسيســك‪ ،‬بــا يف‬
‫ذلــك األمل‪ .‬وتســمى هــذه املامرســة أحيانــا اليقظــة»‪.‬‬

‫يمثــل حــرف ‪ M‬مــن ‪ DOPAMINE‬اليقظــة (‪)MINDEFULLNESS‬‬


‫وهــو مصطلــح متــداول كثــر ًا يف وقتنــا احلــايل‪ ،‬ممــا جعلــه يفقــد بعضــ ًا‬
‫مــن معنــاه وحقيقتــه‪ ،‬أســاس نشــأة هــذا املصطلــح مــن التقاليــد البوذيــة‬
‫الروحانيــة للتأمــل‪ ،‬وقــد تــم تبنيهــا وتكييفهــا مــن قبــل الغــرب كمامرســة‬
‫صحيــة عــر العديــد مــن التخصصــات املختلفــة‪ .‬لقــد اخرتقــت الوعــي‬
‫الغــريب متا ًمــا‪ ،‬لدرجــة أنــه يتــم تدريســها اآلن بشــكل روتينــي يف املــدارس‬
‫االبتدائيــة األمريكيــة‪ .‬لكــن مــا اليقظــة يف الواقــع؟ اليقظــة هــي ببســاطة‬
‫القــدرة عــى مراقبــة مــا يفعلــه دماغنــا أثنــاء قيامــه بذلــك‪ ،‬دون إصــدار‬
‫أحــكام‪ .‬هــذا أصعــب ممــا يبــدو‪ .‬العضــو الــذي نســتخدمه ملراقبــة الدمــاغ‬
‫هــو الدمــاغ نفســه‪ .‬غريــب‪ ،‬أليــس كذلــك؟‬

‫عندمــا أنظــر إىل جمــرة درب التبانــة يف الســاء املعتمــة لي ـاً‪ ،‬يدهشــني‬

‫‪115‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫دائــا مــدى غمــوض أننــا يمكــن أن نكــون جــز ًءا مــن يشء يبــدو بعيــدً ا‬
‫ً‬
‫ومنفصـ ًـا‪ .‬فمامرســة اليقظــة هــي يشء مثــل مراقبــة جمــرة درب التبانــة‪ :‬إهنــا‬
‫تتطلــب أن نــرى أفكارنــا وعواطفنــا منفصلــة عنــا‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬يف نفــس‬
‫الوقــت‪ ،‬مــن الــروري أن نكــون واعيــن هلــا بأهنــا جــزء منــا‪.‬‬

‫يمكــن للدمــاغ أن يقــوم ببعــض األشــياء الغريبــة جــدً ا‪ ،‬وبعضهــا‬


‫حمــرج‪ ،‬ومــن هنــا تــأيت احلاجــة إىل عــدم احلكــم‪ .‬فالتحفــظ عــى احلكــم‬
‫مهـ�م ملامرسـ�ة اليقظـ�ة؛ ألنـ�ه بمجـ�رد أن نبـ�دأ يف إدانـ�ة مـ�ا يفعلـ�ه عقلنـ�ا – يــا‬
‫للحامقــة! ملــاذا أفكــر يف ذلــك؟ أنــا فاشــل‪ ،‬أنــا غريــب األطــوار – ســوف‬
‫تتوقــف قدرتنــا عــى املراقبــة‪ .‬البقــاء يف موقــع املراقــب رضوري للتعــرف‬
‫عـلى أدمغتنـ�ا وأنفسـ�نا بطريقـ�ة جديـ�دة‪.‬‬

‫أتذكــر أننــي كنــت أقــف يف املطبــخ يف عــام ‪ 2001‬وأنــا أمحــل طفلتــي‬


‫الرضيعــة بــن ذراعــي وأواجــه صــورة تدخليــة لتحطيــم رأســها بالثالجــة‬
‫أو منضــدة املطبــخ ومشــاهدته وهــو ينهــار مثــل البطيــخ الناعــم‪ .‬كانــت‬
‫الصــورة عابــرة ولكنهــا حيــة‪ ،‬ولــوال أننــي كنــت أمــارس اليقظــة بانتظــام‪،‬‬
‫لكنــت بذلــت قصــارى جهــدي لتجاهلهــا‪.‬‬

‫يف البدايــة‪ ،‬شــعرت بالرعــب‪ .‬بصفتــي طبيبــة نفســية‪ ،‬كنــت قــد عاجلــت‬
‫األمهــات اللــوايت نتيجــة ملرضهــن النفــي‪ ،‬اعتقــدن أنــه جيــب عليهــن‬
‫قتــل أطفاهلــن إلنقــاذ العــامل‪ .‬إحداهــن فعلــت ذلــك بالفعــل‪ ،‬وهــي حالــة‬
‫أتذكرهــا بحــزن ونــدم حتــى يومنــا هــذا؛ لذلــك عندمــا اختــرت صــورة‬
‫إليـ�ذاء طفلتـ�ي يف خميلتـ�ي‪ ،‬تسـ�اءلت عـما إذا كنـ�ت أنضـ�م إىل صفوفهـ�ن‪.‬‬

‫لكــن تذكــرت أن أالحــظ دون حكــم‪ ،‬تابعــت الصــورة والشــعور الذي‬

‫‪116‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫قــادين الكتشــاف حقيقــة‪ ،‬أننــي ال أريــد حتطيــم رأس طفلتــي؛ بــل كان لــدي‬
‫خــوف كبــر مــن القيــام بذلــك‪ .‬جتــى اخلــوف يف تلــك الصــورة الطفيليــة‬
‫الدخيلــة‪.‬‬

‫بــدالً مــن إدانــة نفــي‪ ،‬متكنــت مــن التعاطــف مــع نفــي‪ .‬كنــت أناضــل‬
‫مــع قصــور إمكانــايت كأم جديــدة‪ ،‬ومــا يعنيــه رعايــة مثــل هــذا املخلــوق‬
‫ـي متا ًمــا يف حــال وقوعهــا منــي‪ .‬لقــد جتــى خــويف‬
‫العاجــز‪ ،‬الــذي يعتمــد عـ ّ‬
‫يف هيئــة الصــورة التــي ختيلتهــا‪.‬‬

‫تُعــد ممارســات اليقظــة مهمــة بشــكل خــاص يف األيــام األوىل لالمتنــاع‬


‫عــن أي ســلوك إدمــاين‪ .‬يســتخدم الكثــر منــا مــواد وســلوكيات عاليــة‬
‫الدوبامــن وعاليــة التشــتيت‪ ،‬لــرف انتباهنــا عــن أفكارنــا‪ .‬عندمــا نتوقــف‬
‫ألول مــرة عــن اســتخدام الدوبامــن للهــروب‪ ،‬ينهــار علينــا ســيل مــن‬
‫األفـ�كار املؤملـ�ة والعواطـ�ف واألحاسـ�يس‪.‬‬

‫احليلــة هــي التوقــف عــن اهلــروب مــن املشــاعر املؤملــة‪ ،‬وبــدالً مــن‬
‫ذلــك نســمح ألنفســنا بالتســامح معهــا‪ .‬عندمــا نكــون قادريــن عــى القيــام‬
‫ـيجا جديــدً ا وغن ًيــا بشــكل غــر متوقــع‪ .‬مــا يــزال‬
‫بذلــك‪ ،‬تأخــذ جتربتنــا نسـ ً‬
‫األمل موجــو ًدا‪ ،‬ولكــن تــم تشــكيله بطريقــة مــا‪ ،‬ويبــدو أنــه يشــمل مشــهدً ا‬
‫واسـ� ًعا مـ�ن املعانـ�اة املجتمعيـ�ة‪ ،‬بـ�دالً مـ�ن أن يكـ�ون مشـ�هدنا بالكامـ�ل‪.‬‬

‫عندمــا ختليــت عــن عــادة القــراءة‪ ،‬شــعرت يف األســابيع األوىل برعــب‬


‫وجــودي‪ .‬أســتلقي عــى األريكــة يف املســاء‪ ،‬وهــو الوقــت الــذي كنــت‬
‫أمــارس فيــه التشــتيت عــادةً‪ ،‬باحلصــول عــى قصــة رومانســية أو طريقــة‬
‫أخــرى لإلهلــاء‪ ،‬مــع طــي يــدي عــى معــديت‪ ،‬يف حماولــة لالســرخاء ولكــن‬

‫‪117‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بــدالً مــن ذلــك أشــعر بالرهبــة‪ .‬لقــد اندهشــت مــن أن مثــل هــذا التغيــر‬
‫الصغــر عــى مــا يبــدو يف روتينــي اليومــي يمكــن أن يمــأين بالكثــر مــن‬
‫القلـ�ق‪.‬‬

‫ثــم مــع مــرور األيــام واصلــت هــذه املامرســة‪ ،‬توقفــت عــن االســرخاء‬
‫التدرجيــي حلــدودي العقليــة وانفتــاح وعيــي‪ .‬بــدأت أرى أننــي لســت‬
‫بحاجــة إىل تشــتيت انتباهــي باســتمرار عــن اللحظــة احلاليــة‪ .‬إننــي أســتطيع‬
‫أن أعيــش فيهــا‪ ،‬وربــا أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬بمعنــى أننــي أتســامح معهــا‪.‬‬

‫البصرية‬

‫لقــد وافقــت دليــا عــى شــهر مــن االمتنــاع عــن تدخــن احلشــيش‪،‬‬
‫عندمــا عــادت ملراجعتــي‪ ،‬كانــت برشهتــا متوهجــة‪ ،‬منتصبــة القامــة‪ ،‬وكان‬
‫هنــاك تغيــر واضــح عــى مظهرهــا املتجهــم وســلوكها الالمبــايل الســابق‬
‫الــذي اســتبدل بابتســامة متألقــة‪ .‬دخلــت مكتبــي وجلســت عــى الكــريس‬
‫بثقــة‪ .‬ودون أن أســأهلا بــدأت احلديــث‪:‬‬

‫«حسـنًا‪ ،‬لقــد فعلتهــا! ولــن تصدقــي هــذا يــا دكتــورة‪ ،‬لكــن قلقــي قــد‬
‫انته��ى‪ .‬لق��د غ��ادرين!»‬

‫« قويل يل ما الذي حدث بالتفصيل؟»‬

‫«كانــت األيــام القليلــة األوىل ســيئة‪ .‬شــعرت بالقــرف‪ .‬تقيــأت يف‬


‫اليــوم الثــاين‪ .‬ممــا أعتــره جنونًــا! أنــا ال أتقيــأ أبــدً ا‪ .‬كان لــدي شــعور‬
‫باملــرض واإلعيــاء التــام‪ .‬عندهــا أدركــت أننــي أنســحب‪ ،‬وهــذا دفعنــي إىل‬
‫االسـ�تمرار يف االمتنـ�اع»‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫«ملاذا حيفزك ذلك؟»‬

‫«ألنه كان أول دليل لدي عىل أنني مدمنة ح ًقا»‬

‫«إذن كيف سارت األمور بعد ذلك؟ كيف تشعرين اآلن؟»‬

‫«واااو‪ ،‬أفضــل بكثــر‪ .‬أمــر مذهــل‪ .‬قلــق أقــل‪ .‬بالتأكيــد‪ .‬حتــى أن كلمــة‬
‫«قلــق» ال ختطــر عــى بــايل وال أفكــر فيهــا‪ ،‬إذ كانــت تقــود يومــي كلــه ســابق ًا‪،‬‬
‫ـدي رائحــة التدخــن واهنيارمهــا‪،‬‬
‫اآلن ذهنــي صــايف‪ ،‬ال أقلــق بشــأن شــم والـ ّ‬
‫مل أعــد قلقــة يف املدرســة وتســيطر عــى الشــكوك واملخــاوف‪ ،‬لقــد غــادرين‬
‫القلــق‪ ،‬لقــد بذلــت الكثــر مــن الوقــت واجلهــد العقــي لتنظيــم متعــي‬
‫القادمــة‪ ،‬وســارعت للقيــام بذلــك‪ .‬إنــه ملــن دواعــي االرتيــاح أال أكــون‬
‫مضطــرة إىل فعــل ذلــك بعــد اآلن‪ .‬أنــا أدخــر املــال‪ .‬لقــد اكتشــفت أن هنــاك‬
‫مناســبات أســتمتع هبــا أكثــر وأنــا يف حالــة واعيــة ولســت حتــت تأثــر أي‬
‫خمـ�در‪ .‬مثـ�ل املناسـ�بات العائليـ�ة‪.‬‬

‫«دكتــورة‪ ،‬أنــا أقــول لــك احلقيقــة‪ ،‬مل أكــن أرى يف تدخــن احلشــيش‬
‫مشــكلة‪ .‬أنــا حقــا مل أنظــر إليــه كذلــك‪ ،‬لكــن اآلن بعــد أن توقفــت عــن‬
‫التدخــن‪ ،‬أدركــت مقــدار القلــق الــذي كان بســبب تدخــن احلشــيش بــدالً‬
‫مــن عالجــه‪ .‬كنــت أدخــن ملــدة مخــس ســنوات دون اســراحة‪ ،‬ومل َأر مــا كان‬
‫يفعل��ه يب‪ .‬أن��ا برصاح��ة أش��عر بصدم��ة»‪.‬‬

‫ـرارا‬
‫‪ I‬مـ�ن ‪ DOPAMINE‬تعنــي البصــرة (‪ .)INSIGHT‬لقــد رأيــت مـ ً‬
‫وتكــرارا يف الرعايــة اإلكلينيكيــة‪ ،‬ويف حيــايت اخلاصــة‪ ،‬كيــف أن التمريــن‬
‫ً‬
‫البســيط لالمتنــاع عــن املخــدر املفضــل لدينــا ملــدة أربعــة أســابيع عــى األقــل‬

‫‪119‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يقــدم لنــا نظــرة ثاقبــة لســلوكياتنا‪ .‬البصــرة التــي ببســاطة تُعــد مســتحيلة يف‬
‫حـ�ال اسـ�تمرينا يف سـ�لوكنا اإلدمـ�اين‪.‬‬

‫اخلطوات التالية‬

‫م��ع انته��اء موع��د جلس��ة دلي�لا‪ ،‬س��ألتها ع��ن أه��داف الش��هر الت��ايل‪.‬‬
‫قلــت «إذن مــا رأيــك؟»‪« .‬هــل تريديــن االســتمرار يف االمتنــاع عــن تدخــن‬
‫احلشــيش للشــهر املقبــل‪ ،‬أم تريديــن العــودة إليــه؟»‬

‫قالــت دليــا‪« :‬كــوين متعافيــة‪ ،‬أنــا أعتــر نفــي اآلن أفضــل نســخة‬
‫من��ي»‪ .‬أم��ا أناــ فلق��د اس��تمتعت بتل��ك اللحظ��ة‪ .‬وغمرتنــي الســعادة‪.‬‬

‫قالــت‪« :‬لكــن‪ ،‬مــا زلــت أحــب احلشــيش ح ًقــا‪ ،‬وأفتقــد الشــعور‬


‫اإلبداعــي الــذي يمنحنــي إيــاه‪ ،‬وإحســاس اهلــروب‪ .‬ال أريــد التوقــف عــن‬
‫االســتخدام‪ .‬أود أن أعــود إىل االســتخدام‪ ،‬ولكــن ليــس بالطريقــة التــي‬
‫كنـ�ت اسـ�تخدمه سـ�ابق ًا»‪.‬‬

‫حـ�رف ‪ N‬مـ�ن ‪ DOPAMINE‬يعبــــ��ر عــــ��ن اخلطـــ��وات التالي��ة‪.‬‬


‫(‪ )NEXT STEPS‬هــذا هــو املــكان الــذي أســأل فيــه مرضــاي عــا يريــدون‬
‫القيــام بــه بعــد شــهر مــن االمتنــاع عــن الســلوك اإلدمــاين‪ .‬الغالبيــة العظمــى‬
‫مــن مرضــاي القادريــن عــى االمتنــاع عــن املخــدر ملــدة شــهر‪ ،‬وجتربــة‬
‫نوبــات االمتنــاع مــع ذلــك يريــدون العــودة إىل اســتخدام خمدرهــم‪ ،‬لكنهــم‬
‫يريــدون االســتخدام بشــكل خمتلــف عــا كانــوا يســتخدمونه مــن قبــل‪.‬‬
‫فالفكـ�رة املهيمنـ�ة هـ�ي أهنـ�م يرغبـ�ون يف اسـ�تخدام أقـ�ل‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫هنــاك جــدل مســتمر يف جمــال طــب اإلدمــان حــول مــا إذا كان‬
‫األشــخاص الذيــن يتعاطــون املخــدرات بطريقــة تســبب اإلدمــان يمكنهــم‬
‫العــودة إىل االســتخدام املعتــدل وغــر املحفــوف باملخاطــر‪ .‬لعقــود مــن‬
‫الزمــان‪ ،‬أملــت حكمــة اجتامعــات مدمنــي الكحــول املجهولــن(‪ )1‬أن‬
‫االمتنــاع عــن ممارســة الســلوك اإلدمــاين هــو اخليــار الوحيــد لألشــخاص‬
‫الذيـ�ن يعانـ�ون مـ�ن اإلدمـ�ان‪.‬‬

‫لكــن األدلــة الناشــئة تشــر إىل أن بعــض األشــخاص الذيــن اســتوفوا‬


‫معايــر اإلدمــان يف املــايض‪ ،‬وخاصــة أولئــك الذيــن يعانــون من أشــكال أقل‬
‫حــدة مــن اإلدمــان‪ ،‬يمكنهــم العــودة إىل اســتخدام املخــدر املفضــل لدهيــم‬
‫بطريقـ�ة خاضعـ�ة للرقابـ�ة‪ .‬وقـ�د ثبتـ�ت صحـ�ة ذلـ�ك يف جتـ�اريب الرسيريـ�ة‪.‬‬

‫التجربة‬
‫‪ E‬مـ�ن ‪ DOPAMINE‬تعن��ي التجرب��ة‪ )EXPERIMENT( .‬هــذا هــو‬
‫املــكان الــذي يعــود فيــه املــرىض إىل العــامل مســلحني بنقطــة جديــدة حمــددة‬
‫للدوبامــن (تــوازن مســتوى اللــذة واألمل) وخطــة لكيفيــة احلفــاظ عليهــا‪.‬‬
‫ســواء كان اهلــدف هــو االمتنــاع املســتمر أو االعتــدال‪ ،‬مثــل دليــا‪ ،‬فإننــا‬
‫نضــع اســراتيجية م ًعــا لكيفيــة حتقيــق ذلــك‪ .‬مــن خــال عمليــة تدرجييــة‬
‫للتجربـ�ة واخلطـ�أ‪ ،‬نكتشـ�ف مـ�ا يصلـ�ح ومـ�ا ال يصلـ�ح‪.‬‬

‫((( زمالــة مدمنــي الكحــول املجهولــن منظمــة عامليــة تســاعد يف عــاج إدمــان الكحــول‪،‬‬
‫تأسســت يف مدينــة شــيكاغو األمريكيــة عــام ‪ ،1935‬جيتمــع األفــراد املنتســبون هلــا دوريــا لدعــم‬
‫بعضهــم البعــض‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ســأكون مقــرة إذا مل أرش إىل أن هــدف االعتــدال‪ ،‬خاصة لألشــخاص‬


‫الذيــن يعانــون مــن إدمــان شــديد‪ ،‬يمكــن أن يــؤدي إىل نتائــج عكســية‪ ،‬ممــا‬
‫يســهم يف تصعيــد حــاد يف االســتخدام بعــد فــرة مــن االمتنــاع‪ ،‬يشــار إليــه‬
‫أحيا ًنـ�ا باسـ�م أثـ�ر انتهـ�اك االمتنـ�اع‪.‬‬

‫الفئــران التــي تظهــر ميـ ًـا وراث ًيــا لتصبــح مدمنــة ستســتمر‪ ،‬بعــد فــرة‬
‫مــن أســبوعني إىل أربعــة أســابيع مــن االمتنــاع عــن الكحــول‪ ،‬يف حــن أهنــا‬
‫تعــاود تنــاول الكحــول بمجــرد وصوهلــا إليــه مــرة أخــرى‪ ،‬وتســتمر يف‬
‫االســتخدام بكثافــة بعــد ذلــك كــا لــو مل متتنــع عــن الســلوك اإلدمــاين مــن‬
‫قبــل‪ .‬لوحظــت ظاهــرة مماثلــة يف الفئــران التــي تســتهلك األطعمــة عاليــة‬
‫الســعرات احلراريــة واملدمنــة عليهــا‪ .‬يف حــن أن التأثــر لالســتهالك القهري‬
‫يكــون أقــل لــدى الفئــران التــي لدهيــا اســتعداد جينــي أقــل‪.‬‬

‫مــا هــو غــر واضــح يف دراســات احليوانــات هــو مــا إذا كانــت ظاهــرة‬
‫الرشاهــة بعــد االمتنــاع عــن ممارســة الســلوك اإلدمــاين‪ ،‬تقتــر عــى‬
‫املخــدرات أو الســلوك اإلدمــاين للمــواد ذات الســعرات احلراريــة مثــل‬
‫تالحــظ مــع املخــدرات التــي ليــس هلــا ســعرات‬
‫الطعــام والكحــول‪ ،‬وال َ‬
‫حراريــة مثــل الكوكايــن؛ أو مــا إذا كان الدافــع احلقيقــي هــو االســتعداد‬
‫اجلينـ�ي للفئـ�ران نفسـ�ها‪.‬‬

‫ا للتحقيــق‪ ،‬أفــاد العديــد مــن‬‫حتــى عندمــا يكــون االعتــدال قابــ ً‬


‫مرضــاي أنــه مــن املرهــق جــدً ا االســتمرار فيــه‪ ،‬ويف النهايــة خيتــارون‬
‫االمتنـ�اع عـ�ن ممارسـ�ة السـ�لوك اإلدمـ�اين عـلى املـ�دى الطويـ�ل‪.‬‬

‫لكــن مــاذا عــن املــرىض املدمنــن عــى الطعــام؟ أو اهلواتــف الذكيــة؟ أو‬
‫خمــدرات ال يمكــن إيقافهــا متا ًمــا؟‬

‫‪122‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫أصبحــت مســألة كيفيــة االعتــدال مســألة ذات أمهيــة متزايــدة يف احليــاة‬


‫احلديثــة‪ ،‬بســبب االنتشــار اهلائــل للســلع عاليــة الدوبامــن؛ ممــا جيعلنــا مجي ًعــا‬
‫أكثــر عرضــة لإلفــراط يف االســتهالك القهــري‪ ،‬حتــى عندمــا ال نســتويف‬
‫املعايـير اإلكلينيكيـ�ة لإلدمـ�ان‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬نظـ ًـرا ألن املخــدرات الرقميــة مثــل اهلواتــف الذكيــة‬
‫أصبحــت جــز ًءا ال يتجــزأ يف العديــد مــن جوانــب حياتنــا؛ فقــد أصبــح‬
‫اكتشــاف كيفيــة تعديــل اســتهالكها‪ ،‬ألنفســنا وأطفالنــا‪ ،‬مســألة ملحــة‪.‬‬
‫وحتقيقــا هلــذه الغايــة؛ أقــدم اآلن تصنيفــا الســراتيجيات جهــاد النفــس‪.‬‬

‫ولكــن قبــل أن نتحــدث عــن جهــاد النفــس‪ ،‬دعونــا نراجــع خطــوات‬


‫صيــام الدوبامــن‪ ،‬واهلــدف النهائــي منهــا هــو اســتعادة تــوازن املســتوى‬
‫(امليــزان)‪ ،‬وجتديــد قدرتنــا عــى اختبــار اللــذة مــن خــال جتربــة وتقديــر‬
‫املتــع البســيطة يف صــور متنوعة‪(.‬رســم رقــم ‪)15‬‬

‫‪123‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪124‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل اخلامس‬
‫املكان‪ ،‬الزمان‪ ،‬املعني‬

‫يف خريــف عــام ‪ ،2017‬وبعــد ع��ام كامــل مــن االمتنــاع عــن الســلوكيات‬
‫اجلنســية املفرطــة‪ ،‬انتكــس جاكــوب‪ ،‬كان يبلــغ وقتهــا مخســة وســتني عام ـ ًا‪.‬‬
‫كانــت الــرارة التــي حفــزت هــذه االنتكاســة هــي رحلتــه إىل أوروبــا‬
‫الرشقيــة لرؤيــة عائلتــه‪ ،‬لقــد وجــد جاكــوب األمــور أمامــه يف منتهــى‬
‫الســوء‪ ،‬العديــد مــن املشــاحنات واخلالفــات بــن أبنائــه مــن زواجــه األول‬
‫وزوجتــه احلاليــة‪ ،‬متالزمــة زوجــة األب القديمــة‪ ،‬يف الغالــب تــدور هــذه‬
‫اخلالفــات عــى املــال‪ ،‬مــن حيصــل عــى مــاذا؟‬

‫بعــد أســبوعني مــن رحلتــه التــي اســتمرت ثالثــة أســابيع‪ ،‬والتــي وجــد‬
‫فيهــا أطفالــه غاضبــن؛ ألنــه مل يمنحهــم املــال الــذي طلبــوه‪ .‬ويف نفــس‬
‫الوقــت كانــت زوجتــه غاضبــة؛ ألنــه كان يفكــر يف منحهــم املال‪ .‬كان خيشــى‬
‫أن خييـ�ب آمـ�ال أي شـ�خص منهـ�م‪ ،‬وبالتـ�ايل هـ�دد بخيبـ�ة أملهـ�م مجي ًعـ�ا‪.‬‬

‫لقــد أرســل يل بريــدً ا إلكرتون ًيــا مــن اخلــارج ليخــرين أنــه كان شــجا ًعا‪.‬‬
‫مل ينتكــس بعــد‪ ،‬لكنــه كان قري ًبــا مــن االنتكاســة‪ .‬قمــت ببعــض التدريــب‬
‫عــر اهلاتــف وأخربتــه أن يــأيت لرؤيتــي بمجــرد وصولــه إىل منزلــه يف أمريــكا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫جــاء إىل املكتــب بعــد أســبوع مــن عودتــه‪ ،‬ولكــن بحلــول ذلــك الوقــت كان‬
‫قــد فــات األوان‪.‬‬

‫بــدأ جاكــوب يف رسد مالبســات االنتكاســة‪« :‬إن التلفزيــون يف غرفــة‬


‫الفنــدق هــو الــذي جعلنــي أبــدأ يف اشــتهاء الســلوك اإلدمــاين مــرة أخــرى»‬
‫وأكمــل «كنــت أرغــب يف مشــاهدة بطولــة الواليــات املتحــدة للتنــس‪.‬‬
‫مســتلقي ًا عــى الرسيــر وأنــا أقلــب القنــوات‪ ،‬وأشــعر باالكتئــاب‪ ،‬وأفكــر يف‬
‫عائلتــي‪ ،‬وزوجتــي‪ ،‬وكيــف متكنــت مــن إثــارة غضــب اجلميــع‪ ،‬ومل أمتكــن‬
‫مــن احتــواء املوقــف‪ .‬حينهــا رأيــت امــرأة عاريــة عــى شاشــة التلفــاز‪.‬‬
‫يف احلقيقــة مل أحصــل عــى أي إثــارة ومل تــراودين تلــك األفــكار إال حــن‬
‫شــاهدت التلفــاز‪ ،‬أمــا قبلهــا كنــت مســيطر ًا عــى نفــي‪ .‬اخلطــأ األكــر هــو‬
‫عندمــا شــغلت التلفــاز يف غرفــة الفنــدق وأنــا وحيــد وأشــعر باألســى‪،‬‬
‫حينهــا بــدأت التفكــر يف العــودة إىل عــادايت القديمــة‪ ،‬ومل أمتكــن مــن إيقــاف‬
‫تل��ك األف��كار»‪.‬‬

‫«ثم ماذا حدث؟»‬

‫«يــوم الثالثــاء‪ ،‬عــدت إىل املنــزل‪ .‬مل أذهــب إىل العمــل‪ .‬بقيــت يف‬
‫املنـ�زل أشــاهد اليوتيــوب‪ ،‬كنــت أشــاهد الرســم عــى األجســاد‪ .‬أنــاس‬
‫عــراة يرســمون أجســاد بعضهــم بعضـ ًا‪ .‬عــى مــا أعتقــد أنــه نــوع مــن أنــواع‬
‫الفنــون‪ ،‬يف يــوم األربعــاء‪ ،‬مل أمتكــن مــن مقاومــة األفــكار‪ .‬خرجــت مــن‬
‫املن��زل ل�شراء أج��زاء اآلل��ة ألصن��ع آلت�يـ م��رة أخ��رى‪« .‬‬

‫«آلة التحفيز الكهربائي اخلاصة بك؟»‬

‫‪126‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫قــال بحــزن‪« :‬نعــم»‪ ،‬بالــكاد نظــر إىل عينــي‪ .‬وأكمــل‪« :‬املشــكلة هــي‬
‫أنــه عندمــا أبــدأ‪ ،‬أكــون يف حالــة مــن االنتشــاء لفــرة طويلــة جــد ًا‪ .‬إنــه‬
‫مثــل أن تكــون يف غيبوبــة‪ .‬وهــذا أمــر مريــح للغايــة‪ .‬ال أفكــر يف أي يشء‬
‫آخــر‪ .‬أنطلــق للمامرســة عــى مــدى عرشيــن ســاعة دون توقــف‪ .‬طــوال‬
‫الليــل والنهــار‪ .‬يف صبــاح يــوم اخلميــس‪ ،‬ألقيــت بأجــزاء اآللــة بعيــدً ا يف‬
‫ســلة النفايــات وذهبــت إىل العمــل‪ .‬يف صبــاح يــوم اجلمعــة‪ ،‬أخرجتهــا مــن‬
‫ســلة النفايــات مــرة أخــرى وقمــت بإصالحهــا واســتخدامها طــوال اليــوم‪.‬‬
‫اجلمعــة ليـاً‪ ،‬اتصلــت بمرشــدي‪ ،‬وذهبــت يــوم الســبت إىل اجتــاع مدمنــي‬
‫اجلنــس جمهــويل اهلويــة‪ .‬يف يــوم األحــد‪ ،‬أخرجــت األجــزاء مــن القاممــة‬
‫وقمــت باملامرســة مــرة أخــرى‪ .‬ويــوم االثنــن تكــرر الــيء نفســه‪ .‬أريــد أن‬
‫أتوقــف لكنــي ال أســتطيع‪ .‬مــاذا جيــب أن أفعــل؟‬

‫قلــت لــه‪« :‬احــزم اآللــة وأي قطــع غيــار هلــا وضعهــا يف القاممــة‪ .‬ثــم‬
‫خــذ القاممــة إىل مكــب النفايــات العمومــي أو يف مــكان آخــر حيــث يســتحيل‬
‫عليــك اســتعادهتا‪ « .‬أومــأ برأســه بإشــارة للموافقــة‪ ،‬ثــم أكملــت‪« :‬يف أي‬
‫ـث عــى ركبتيــك‬‫وقــت تــراودك تلــك األفــكار أو الرغبــة يف املامرســة‪ ،‬اجـ ُ‬
‫وصـ ِّـل‪ .‬فقــط صـ ِّـل‪ .‬اســأل اهلل أن يســاعدك‪ ،‬ولكــن افعــل ذلــك وأنــت فعليــا‬
‫جتثــو عــى ركبتيــك‪ .‬هــذا مهــم»‪.‬‬

‫لقــد مجعــت بــن مــا هــو دنيــوي ومــا هــو ميتافيزيقــي يف نصــح جاكوب‪.‬‬
‫مل يكــن هنــاك يشء منخفــض جــدً ا أو مرتفــع جــدً ا بالنســبة يل‪ .‬كان نصــح‬
‫جاكــوب بالصــاة خيالــف القواعــد غــر املدونــة يف املهنــة بالطبــع‪ .‬فاألطبــاء‬
‫ال يتحدثــون عــن اهلل‪ .‬لكننــي أؤمــن باإليــان‪ ،‬وأخــرين حــديس أن هــذا‬

‫‪127‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ســيكون لــه صــدى لــدى جاكــوب‪ ،‬الــذي نشــأ حتــت رعايــة الكنيســة‬
‫الرومانيـ�ة الكاثوليكيـ�ة‪.‬‬

‫أيضــا وســيلة إلدخــال بعــض‬


‫كان إخبــاره بــأن جيثــو عــى ركبتيــه ً‬
‫االلتــزام اجلســدي‪ ،‬أي يشء لكــر اإلكــراه العقــي الــذي كان جيــره عــى‬
‫املامرســة‪ .‬أو ربــا أدركــت حاجتــه العميقــة‪ ،‬التــي كان عليــه تنفيذهــا وفق ـ ًا‬
‫ملــا جيعلــه مستســل ًام وخاضعــ ًا يف تلــك املامرســات‪.‬‬

‫قلــت‪« :‬بعــد أن تصــي‪ ،‬اهنــض واتصــل بمرشــدك» أومــأ برأســه مــرة‬


‫أخـ�رى‪.‬‬

‫«أوه‪ ،‬جاكــوب‪ ،‬اغفــر لنفســك‪ ،‬أنــت لســت رجــ ً‬


‫ا ســي ًئا‪ ،‬بــل أنــت‬
‫إنســان لديــك مشــاكل مثلنــا متا ًمــا»‬

‫***‬

‫جهــاد النفــس (إلــزام الــذات) هــو مصطلــح لوصــف فعــل جاكــوب‬


‫املتمثــل يف التخلــص مــن آلتــه‪ .‬إهنــا الطريقــة التــي نخلــق هبــا حواجــز عــن‬
‫قصــد وعــن طيــب خاطــر بيننــا وبــن الســلوك اإلدمــاين املفضــل لدينــا مــن‬
‫أجــل التخفيــف مــن اإلفــراط يف االســتهالك القهــري‪ .‬إن االلتــزام الــذايت‬
‫ليــس مســألة إرادة يف املقــام األول‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن املســؤولية الشــخصية‬
‫دورا فيــه‪ .‬إال أن اللجــوء إىل االلتــزام الــذايت يقــدم لنــا اعرتا ًفــا علنيـ ًا‬
‫تلعــب ً‬
‫بمحدوديــة إرادتنــا‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املفتــاح الرئيــس إلنشــاء التــزام ذايت فعــال هــو أوالً االعــراف بفقــدان‬
‫قدرتنــا عــى االختيــار الــذي نستشــعره حــن نكــون حتــت فــرة إكــراه قــوي‬
‫ملامرســات معينــة‪ ،‬وأن نلــزم أنفســنا بينــا مــا نــزال نمتلــك القــدرة عــى‬
‫االختيـ�ار اإلرادي‪.‬‬

‫إذا انتظرنــا حتــى نشــعر بالرغبــة امللحــة ملعــاودة الســلوك اإلدمــاين‪،‬‬


‫فــإن اجلــذب االنعــكايس للبحــث عــن اللــذة أو جتنــب األمل يــكاد يكــون مــن‬
‫املسـ�تحيل مقاومتـ�ه‪ .‬يف خضـ�م الرغبـ�ة‪ ،‬ال يوجـ�د قـ�رار‪.‬‬

‫ولكــن مــن خــال إنشــاء حواجــز ملموســة بيننــا وبــن الســلوك‬


‫اإلدمــاين املفضــل لدينــا‪ ،‬نقــوم بالضغــط عــى زر اإليقــاف املؤقــت بــن‬
‫الرغبـ�ة والفعـ�ل‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬أصبــح جهــاد النفــس رضورة حديثــة‪ .‬كالقواعــد‬


‫اخلارجيــة والعقوبــات مثــل الرضائــب املفروضــة عــى الســجائر‪ ،‬وتقييــد‬
‫اســتهالك الكحــول بســن معينــة‪ ،‬والقوانــن التــي حتظــر حيــازة الكوكايــن‪،‬‬
‫عــى الرغــم مــن أمهيــة كل هــذا‪ ،‬إال أهنــا لــن تكــون كافيــة أبــدً ا يف عــامل يمكن‬
‫فيــه الوصــول إىل جمموعــة متنوعــة ومتزايــدة باســتمرار مــن الســلع عاليــة‬
‫الدوبامــن‪ ،‬عمل ًيــا‪ ،‬هــو أمــر ال هنايــة لــه‪.‬‬

‫خيــرين مرضــاي عــن اســراتيجيات جهــاد النفــس التــي مارســوها‪،‬‬


‫عــى مــدى ســنوات ممارســتي املهنيــة‪ .‬يف مرحلــة مــا بــدأت يف كتابتهــا‪.‬‬
‫أعيــد اســتخدام االســراتيجيات التــي أتعلمهــا مــن املــرىض لتقديــم املشــورة‬
‫للمــرىض اآلخريــن‪ ،‬كــا فعلــت مــع جاكــوب عندمــا أخربتــه أن يتخلــص‬

‫‪129‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن آلتــه يف حاويــة قاممــة بعيــدة بحيــث يكــون مــن الصعــب عليــه اســتعادهتا‬
‫الح ًقـ�ا‪.‬‬

‫أســأل مرضــاي‪« ،‬مــا أنــواع احلواجــز التــي يمكنــك وضعهــا جلعــل‬


‫مــن الصعــب عليــك الوصــول بســهولة إىل املخــدر الــذي ختتــاره؟» لقــد‬
‫اســتخدمت اســراتيجية جهــاد النفــس حتــى يف حيــايت إلدارة مشــاكل‬
‫اإلفـ�راط القهـ�ري‪.‬‬

‫يمكــن تنظيــم جهــاد النفــس (اإللــزام الــذايت) يف ثــاث فئــات عامــة‪:‬‬


‫االســراتيجيات الفيزيقيــة (الفضــاء)‪ ،‬واالســراتيجيات الزمنيــة (الوقت)‪،‬‬
‫واالسـتراتيجيات الفئويـ�ة (املعنـ�ى)‪.‬‬

‫كــا ســرى فيــا يــي‪ ،‬فــإن جهــاد النفــس ليــس حمصن ـ ًا ضــد الفشــل‪،‬‬
‫خاصــة بالنســبة ألولئــك الذيــن يعانــون مــن إدمــان شــديد‪ .‬يمكــن أن يقــع‬
‫أيضــا فريســة خلــداع الــذات وســوء النيــة‪ ،‬واملغالطــات العلميــة‪ ،‬لكــن‬
‫ً‬
‫يمكــن القــول‪ :‬إهنــا مــكان جيــد ورضوري للبــدء واالنطــاق يف مواجهــة‬
‫الســلوك اإلدمــاين‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫جهاد النفس املادي (الفضاء)‬

‫مــن بــن املخاطــر العديــدة التــي كانــت تنتظــر أوديســيوس (أوليــس)‬


‫يف رحلــة التيــه وهــو عائــد إىل منزلــه مــن حــرب طــروادة‪ ،‬جتســدت يف غنــاء‬
‫احلوريــات‪ ،‬تلــك املخلوقــات التــي هلــا رأس امــرأة وجســد طــر‪ ،‬التــي‬
‫جذبــت أناشــيدها الســاحرة البحــارة‪ ،‬ليجــدوا حتفهــم عــى املنحــدرات‬
‫الصخريـ�ة للجـ�زر املجـ�اورة‪.‬‬

‫حينهــا أمــر أوديســيوس طاقمــه بوضــع شــمع العســل يف آذاهنــم‬


‫وطلــب مــن رفاقــه بربطــه وشــد وثاقــه بصــاري الســفينة الرشاعيــة؛ ألن‬
‫هــذه املخلوقــات األســطورية تغــوي الرجــال بأصواهتــا الشــجية وتقودهــم‬
‫إىل املـ�وت‪.‬‬

‫كــا توضــح األســطورة اليونانيــة الشــهرية‪ ،‬فــإن أحــد أشــكال جهــاد‬


‫النفــس هــو إنشــاء حواجــز ماديــة أو مســافة جغرافيــة بــن أنفســنا وبــن‬
‫الســلوك اإلدمــاين املفضــل لدينــا‪.‬‬

‫فيــا يــي بعــض األمثلــة التــي أخــرين هبــا مرضــاي‪« :‬قمــت بفــك‬
‫توصيــل التلفزيــون ووضعــه يف خزانــة مالبــي»‪« .‬لقــد أبعــدت ألعــاب‬
‫الفيديــو إىل املــرآب»‪« .‬أنــا ال أســتخدم بطاقــات االئتــان‪ .‬فقــط النقــود»‪.‬‬
‫«أتصــل بالفنــادق مســب ًقا ألطلــب منهــم إزالــة املينــي بــار»‪« .‬أتصــل بالفنادق‬
‫مسـ�ب ًقا ألطلـ�ب منهـ�م إزالـ�ة املينـ�ي بـ�ار والتلفزيـ�ون»‪« .‬أضـ�ع اجلهـ�از اللوحي‬
‫‪ iPad‬اخلــاص يب يف صنــدوق ودائــع آمــن يف بنــك أوف أمريــكا»‬

‫‪131‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مريــي أوســكار‪ ،‬رجــل ســمني يف أواخــر الســبعينات مــن عمــره‬


‫يتمتــع بعقــل علمــي‪ ،‬وصــوت جهــوري‪ ،‬وميــل للحديــث بأســلوب مناجــاة‬
‫ً‬
‫تشويشــا يف جلســات العــاج اجلامعــي واضطــر‬ ‫الــذات‪ ،‬لدرجــة أنــه صنــع‬
‫إىل االنســحاب منهــا‪ ،‬كان لديــه عــادة الــرب الزائــد ســواء أثنــاء كتابتــه‬
‫لدراسـ�اته‪ ،‬أو وهـ�و يعمـ�ل يف مرآبـ�ه‪ ،‬أو يتسـ�كع يف حديقتـ�ه‪.‬‬

‫مــن خــال املحاولــة واخلطــأ تعلــم أنــه ملنــع هــذا الســلوك‪ ،‬كان عليــه‬
‫إزالــة كل الكحــول مــن منزلــه‪ .‬جيــب حبــس أي كحــول يتــم إحضــاره إىل‬
‫املنــزل يف خزانــة امللفــات‪ ،‬وزوجتــه هــي الوحيــدة التــي لدهيــا املفتــاح‪.‬‬
‫وباســتخدام هــذه الطريقــة‪ ،‬متكــن أوســكار مــن االمتنــاع بنجــاح عــن‬
‫الكحـ�ول لسـ�نوات‪.‬‬

‫لكننــي كــا حــذرت ســابق ًا مــن أن جهــاد النفــس غــر مضمــون النتائــج‬
‫والثبــات‪ .‬يف بعــض األحيــان يصبــح احلاجــز نفســه دعــوة للتحــدي‪ .‬ويصبح‬
‫حـ�ل لغـ�ز كيفيـ�ة احلصـ�ول عـلى املخـ�در املفضـ�ل لدينـ�ا جـ�ز ًءا مـ�ن جاذبيتـ�ه‪.‬‬

‫ذات يــوم‪ ،‬أغلقــت زوجــة أوســكار عــى زجاجــة نبيــذ باهظــة الثمــن‬
‫يف خزانــة امللفــات وأخــذت املفاتيــح معهــا‪ ،‬وهــي يف طريقهــا للســفر‬
‫خــارج املدينــة‪ .‬يف الليلــة األوىل التــي كانــت فيهــا زوجتــه بعيــدة عــن املنــزل‬
‫وبحوزهتــا مفاتيــح اخلزانــة‪ ،‬فكــر أوســكار يف زجاجــة النبيــذ التــي كان يعلــم‬
‫أهنــا موجــودة‪ .‬اقتحمــت الفكــرة وعيــه وأصبــح هلــا حضــور مــادي أمامــه‪ .‬مل‬
‫مزعجــا فقــط‪ .‬قــال لنفســه إذا ذهبــت وألقيــت نظــرة‬
‫ً‬ ‫يكــن األمــر مؤ ًملــا‪ ،‬بــل‬
‫خاطفــة وتأكــدت مــن أن كل يشء مغلــق‪ ،‬فســوف أتوقــف عــن التفكــر يف‬
‫األمـ�ر‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجتــه إىل خزانــة امللفــات وســحب الــدرج‪ .‬وممــا أثــار دهشــته‪ ،‬أن الــدرج‬
‫تــم فتحــه بدرجــة نصــف بوصــة‪ ،‬وكان بإمكانــه رؤيــة الزجاجــة واقفــة‬
‫بــن امللفــات‪ .‬بصــورة ال تكفــي إلخراجهــا‪ ،‬ولكــن كافيــة لرؤيــة الغطــاء‬
‫الفلينـ�ي‪ ،‬بعيـ�دً ا عـ�ن متنـ�اول اليـ�د بشـ�كل حمـير‪.‬‬

‫وقــف حيــدق يف الــدرج املظلــم ملــدة دقيقــة كاملــة‪ ،‬وهــو يفكــر يف‬
‫الزجاجــة‪ .‬جــزء منــه أراد إغــاق الــدرج‪ .‬جــزء آخــر منــه مل يســتطع التوقــف‬
‫عــن التحديــق فيــه‪ .‬ملعــت فكــرة يف رأســه وقــرر‪ ،‬أو ربــا توقــف عــن حماولــة‬
‫عـ�دم اختـ�اذ القـ�رار‪ .‬انتقـ�ل إىل الفعـ�ل‪.‬‬

‫ســارع إىل املــرآب بح ًثــا عــن صنــدوق أدواتــه‪ .‬وبــدأ يف العمــل‪،‬‬


‫واســتخدم جمموعــة واســعة مــن األدوات ملحاولــة تفكيــك القفــل وفتــح‬
‫الــدرج‪ .‬عمــل برتكيــز وتصميــم للحصــول عــى مبتغــاه‪ .‬لكنــه مل يســتطع‬
‫فتـ�ح الـ�درج‪ .‬كل أداة اسـ�تخدمها فشـ�لت يف اخـتراق القفـ�ل‪.‬‬

‫ثــم جتلــت اإلجابــة لديــه‪ ،‬عــى هيئــة عقــدة كان حلهــا حتــت يــده ومل‬
‫يكـ�ن مـ�درك ًا هلـ�ا‪ .‬ملـ�اذا مل أفكـ�ر يف األمـ�ر مـ�ن قبـ�ل؟ إنـ�ه واضـ�ح جـ�دً ا‪.‬‬

‫جلــس‪ .‬والتقــط أنفاســه‪ ،‬ال داعــي لــإرساع اآلن‪ .‬كان هدفــه يف متناول‬
‫اليــد‪ .‬لقــد حــزم أدواتــه هبــدوء وأعادهــا للمــرآب عــدا الكامشــة‪ ،‬قــام بفــك‬
‫الزجاجــة بالكامشــة‪ ،‬ووضــع الفلــن والكامشــة برفــق عــى الطاولــة‪ ،‬وذهــب‬
‫إىل املطبــخ للحصــول عــى األداة الوحيــدة املتبقيــة التــي ســيحتاجها‪ :‬قشــة‬
‫بالســتيكية طويلة(مصاصــة)‪ .‬بــا أن خزانــة ملفــات أوســكار قــد فشــلت يف‬
‫حتقيــق رغبتــه باحلصــول عــى الزجاجــة‪ ،‬إال أن األجهــزة اجلديــدة مثــل خزنة‬

‫‪133‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫املطبـ�خ الرقميـ�ة ‪ kSafe‬قــد حققــت لــه رغبتــه بالتحايــل عــى الوقــت‪ .‬ونفذت‬
‫احليلــة‪ .‬خزنــة املطبــخ الرقميــة هــي حاويــة بحجــم حاويــة اخلبــز ومصنوعــة‬
‫مــن البالســتيك الشــفاف الــذي ال يمكــن اخرتاقــه‪ ،‬ويمكــن وضــع أي يشء‬
‫فيهــا بعيــد ًا عــن متنــاول اليــد‪ ،‬بدايــة مــن الكعــك املحــى والبســكويت إىل‬
‫اهلوات�فـ الذكي��ة واألجه��زة اللوحيـ�ة واألدويــة األفيونيــة‪ .‬بمجــرد ضبــط‬
‫التوقيــت وإغالقهــا‪ ،‬يصبــح مــن املســتحيل فتحهــا أو اخرتاقهــا حتــى انتهــاء‬
‫الوقــت املحــدد‪ ،‬حيــث تفتــح تلقائيــ ًا بعــد ذلــك‪ .‬وهبــذا حقــق أوســكار‬
‫رغبتــه بالقليــل مــن االنتظــار‪.‬‬

‫إن أدوات جهــاد النفــس املاديــة متاحــة اآلن عــى نطــاق واســع حتــى‬
‫يف حمــات العطــارة املحليــة‪ ،‬وبــدالً مــن حبــس املخــدر بعيــدً ا يف خزانــة‬
‫ملفــات‪ ،‬لدينــا اآلن خيــار فــرض اإلغــاق عــى مســتوى اخلاليــا احليويــة‬
‫(املســتوى اخللــوي)‪.‬‬

‫يســتخدم دواء النالرتيكســون لعــاج إدمــان الكحــول واملــواد‬


‫األفيونيــة‪ ،‬ويتــم اســتخدامه ملجموعــة متنوعــة مــن الســلوكيات اإلدمانيــة‪،‬‬
‫بدايــة مــن املقامــرة إىل اإلفــراط يف تنــاول الطعــام إىل التســوق‪ .‬يقــوم دواء‬
‫النالرتيكســون بحجــب مســتقبالت املــواد األفيونيــة‪ ،‬والــذي بــدوره يقلــل‬
‫مــن اآلثــار املعــززة للمكافــآت املتنوعــة عــى الســلوك‪.‬‬

‫لقــد أبلــغ املــرىض عــن توقــف شــبه كامــل لرغبتهــم يف رشب الكحــول‬
‫بعــد اســتخدام النالرتيكســون‪ .‬بالنســبة للمــرىض الذيــن تعرضــوا لعقــود‬
‫مــن الزمــن هلــذه املشــكلة‪ ،‬فــإن القــدرة عــى االمتنــاع عــن الــرب أو‬

‫‪134‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫التحكــم فيــه‪ ،‬أو الــرب باعتــدال مثــل «األشــخاص العاديــن»‪ ،‬يكــون‬


‫بمثابـ�ة اكتشـ�اف ملهـ�م هلـ�م‪.‬‬

‫نظـ ًـرا ألن النالرتيكســون حيجــب نظامنــا األفيــوين الــذايت املنشــأ‪ ،‬األمــر‬
‫الــذي يثــر التســاؤل املعقــول لــدى النــاس‪ ،‬عــا إذا كان هــذا الــدواء قــد‬
‫يــؤدي إىل الكآبــة‪ .‬علــ ًا أنــه ال يوجــد دليــل موثــوق عــى ذلــك‪ ،‬ولكننــي‬
‫أرى مــن حــن آلخــر بعــض املــرىض الذيــن يبلغــون عــن لــذة مســطحة مــع‬
‫النالرتيكسـ�ون‪.‬‬

‫يذكــر أحــد مرضــاي‪« :‬إن النالرتيكســون يســاعدين عــى عــدم رشب‬


‫الكحــول‪ ،‬ولكننــي أصبحــت ال أســتطيع االســتمتاع برشائــح اللحــم‬
‫املقــدد بقــدر مــا كنــت معتــاد ًا يف الســابق‪ ،‬أو باالســتحامم باملــاء الســاخن‪،‬‬
‫وال يمكننــي احلصــول عــى االنتشــاء بعــد اجلــري»‪ .‬ممــا جعلنــي أقــرح‬
‫عليــه أخــذ النالرتيكســون عــى حســب احلاجــة‪ ،‬أي حــن تكــون لديــه‬
‫رغبــة يف الــرب يمكنــه تنــاول الــدواء قبــل نصــف ســاعة مــن حالــة رشب‬
‫حمفوفــة باملخاطــر أو يف املســاء حيــث تكــون ســاعة الســعادة بــدأت يف‬
‫عــدد مــن البــارات‪ ،‬حيــث ســمح لــه هــذا االجتــاه يف تغيــر طريقــة تنــاول‬
‫أيضــا برشائــح اللحــم‬
‫النالرتيكســون مــن الــرب باعتــدال واالســتمتاع ً‬
‫املقـ�دد مـ�رة أخـ�رى‪.‬‬

‫يف صيــف عــام ‪ ،2014‬ســافرت أنــا وأحــد طــايب إىل الصــن إلجــراء‬
‫مقابــات مــع أشــخاص يبحثــون عــن عــاج مــن إدمــان اهلريويــن يف‬
‫مستشــفى نيــو‪ ،‬وهــو مستشــفى طوعــي لعــاج اإلدمــان برعايــة غــر‬
‫حكوميــة يف بكــن‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫حتدثنــا إىل رجــل يبلــغ مــن العمــر ثامنيــة وثالثــن عا ًمــا‪ ،‬وصــف‬
‫كيــف أنــه قبــل قدومــه إىل مستشــفى نيــو لتلقــي العــاج‪ ،‬خضــع «جلراحــة‬
‫اإلدمــان» تضمنــت «جراحــة اإلدمــان» كــا يســميها هــو‪ ،‬زراعــة حقنــة يف‬
‫جـ�دار البطـ�ن مـ�ن النالرتيكسـ�ون طويـ�ل املفعـ�ول ملنـ�ع آثـ�ار اهلريويـ�ن‪.‬‬

‫يذكــر‪« :‬يف عــام ‪ ،2007‬ذهب��ت إىل مقاطعــة ووهـ�ان مـ�ن أج��ل هــذه‬
‫اجلراحــة حيــث أجــرين والــداي عــى الذهــاب‪ ،‬وقامــا بدفــع تكاليفهــا‪ .‬ال‬
‫أعــرف عــى وجــه اليقــن مــا فعلــه اجلراحــون‪ ،‬لكــن يمكننــي أن أخــرك‬
‫أنــه مل ينجــح‪ .‬حيــث واصلــت حقــن نفــي باهلريويــن بعــد اجلراحــة‪ .‬مل أكــن‬
‫ـادرا عــى الشــعور باملخــدر يف تلــك األثنــاء‪ ،‬لكننــي فعلــت ذلــك عــى أي‬
‫قـ ً‬
‫حــال؛ ألن حقــن نفــي بكميــات مــن اهلريويــن كان مــن ضمــن عــادايت‬
‫اليوميــة‪ .‬خــال األشــهر الســتة التاليــة‪ ،‬كنــت أحقــن نفــي كل يــوم دون‬
‫أي شــعور بالراحــة واالنتشــاء‪ .‬مل أفكــر يف التوقــف؛ ألننــي مــا زلــت أملــك‬
‫املــال لرشائــه‪ .‬بعــد ســتة أشــهر‪ ،‬عــاد الشــعور‪ .‬لذلــك أنــا هنــا اآلن‪ ،‬عــى‬
‫أم��ل أن يك��ون لدهي��م يشء جدي��د وأفض��ل بالنس��بة يل»‪.‬‬

‫توضــح هــذه احلكايــة أن العــاج الدوائــي وحــده‪ ،‬بعيــدً ا عــن البصــرة‬


‫ناجحـ�ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫والفهـ�م واإلرادة لتغيـير السـ�لوك‪ ،‬مـ�ن غـير املرجـ�ح أن يكـ�ون‬

‫دواء آخــر يســتخدم لعــاج إدمــان الكحــول هــو ثنائــي الســلفريام‪.‬‬


‫حيثــ يتمح��ور عم��ل ثنائ��ي الســلفريام بقطـ�ع عمليــة التمثيــل الغذائــي‬
‫للكحــول‪ ،‬ممــا يــؤدي إىل تراكــم األســيتالدهيايد‪ ،‬والــذي يســبب بــدوره رد‬
‫فعــل شــديد كســخونة اجللــد‪ ،‬والغثيــان‪ ،‬والقــيء‪ ،‬وارتفــاع ضغــط الــدم‪،‬‬
‫والشــعور العــام بالضيــق واإلعيــاء‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ً‬
‫وفعــااًل ألولئــك‬ ‫يعــد تنــاول ثنائــي الســلفريام يوم ًيــا عالجــ ًا راد ًعــا‬
‫الذيــن حياولــون االمتنــاع عــن الكحــول‪ ،‬خاصــة لألشــخاص الذيــن‬
‫يســتيقظون يف الصبــاح مصممــن عــى عــدم الــرب‪ ،‬ولكــن بحلــول‬
‫املســاء يفقــدون عزمهــم‪ .‬مــن الواضــح أن قــوة اإلرادة ال يمكــن أن يعــول‬
‫عليهــا؛ ألهنــا ليســت مصــدر ًا برشي ـ ًا مطلق ـ ًا‪ ،‬بــل يف أوقــات كثــرة ينضــب‬
‫هــذا املصــدر‪ .‬إنــه أشــبه بتمريــن العضــات‪ ،‬إذ يمكــن أن تتعــب كلــا‬
‫اســتخدمناها أكثــر وختــور قواهــا‪.‬‬

‫ك�ما قــال أح��د املـ�رىض‪« ،‬م��ع ثنائــي الســلفريام‪ ،‬أمتكــن مــن القــرار مــرة‬
‫واحــدة يف اليــوم بأننــي لــن أكــون قــادر ًا عــى الــرب‪ ،‬لســت مضطـ ًـرا إىل‬
‫االس��تمرار يف اخت��اذ الق��رار ط��وال الي��وم»‪.‬‬

‫بعــض النــاس‪ ،‬غالبــ ًا يف رشق آســيا‪ ،‬لدهيــم طفــرة جينيــة جتعلهــم‬


‫يتفاعلــون بشــكل طبيعــي بــرد فعــل يشــبه العــوارض اجلانبيــة لثنائــي‬
‫الســلفريام‪ ،‬مــع الكحــول بــدون تناوهلــم الــدواء‪ .‬تارخيي ـ ًا كان لــدى هــؤالء‬
‫األشـ�خاص معـ�دالت أقـ�ل مـ�ن إدمـ�ان الكحـ�ول‪.‬‬

‫وجتــدر اإلشــارة إىل أنــه يف العقــود األخــرة‪ ،‬أدت زيــادة اســتهالك‬


‫الكحــول يف دول رشق آســيا إىل ارتفــاع معــدالت إدمــان الكحــول حتــى‬
‫بــن هــذه الفئــة املحصنــة ســاب ًقا‪ .‬يف حــن تكشــف جتــارب وأبحــاث العلــاء‬
‫اآلن إىل أن أولئــك الذيــن يعانــون مــن هــذه الطفــرة ويرشبــون الكحــول‪،‬‬
‫يعـ�دَّ ون أكثـ�ر عرضـ�ة لإلصابـ�ة بالرسطانـ�ات املرتبطـ�ة بالكحـ�ول‪.‬‬

‫ك�ما ه��و احل��ال مــع مجي��ع أش��كال جه��اد النف�سـ‪ ،‬ف��إن ثنائـ�ي السـ�لفريام‬

‫‪137‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫غــر معصــوم مــن اخلطــأ‪ .‬كان مريــي أرنولــد يــرب الكحــول بكثــرة‬
‫لعقــود مــن الزمــان‪ ،‬مشــكلته تفاقمــت بالســوء مــع الــرب بعــد تعرضــه‬
‫جللطــة دماغيــة خطــرة ممــا جعلتــه يفقــد بعــض وظائــف الفــص األمامــي‪.‬‬
‫أخــره طبيــب القلــب أنــه جيــب أن يتوقــف عــن الــرب وإال ســيموت‪.‬‬
‫كانــت املخاطــر كبــرة‪ .‬وصفــت ثنائــي الســلفريام لــه حينهــا‪ ،‬وأخــرت‬
‫مريضــا يف حــال حتايــل بالــرب‪ ،‬وســوف‬
‫أرنولــد أن الــدواء ســيجعله ً‬
‫تكــون العــوارض اجلانبيــة لثنائــي الســلفريام خطــرة‪ .‬كانــت زوجــة أرنولــد‬
‫هــي املســؤولة عــن تقديــم الــدواء لــه كل صبــاح‪ ،‬والتأكــد مــن ابتالعــه‬
‫للعــاج بفحــص فمــه‪.‬‬

‫ذات يــوم بينــا كانــت زوجتــه باخلــارج‪ ،‬شــق أرنولــد طريقــه إىل متجــر‬
‫اخلمــور‪ ،‬وحصــل عــى زجاجــة ويســكي وقــام برشهبــا‪ .‬عندمــا عــادت‬
‫ـورا‪ ،‬كان أكثــر مــا حريهــا هــو ســبب عــدم‬
‫زوجتــه إىل املنــزل ووجدتــه خممـ ً‬
‫إصابتــه بالعــوارض اجلانبيــة لثنائــي الســلفريام‪ .‬كان أرنولــد يف حالــة ســكر‪،‬‬
‫مريضـ�ا‪.‬‬
‫لكنـ�ه مل يكـ�ن ً‬

‫بعــد يــوم اعــرف‪ .‬أنــه خــال األيــام الثالثــة الســابقة‪ ،‬مل يبتلــع حبــوب‬
‫ثنائــي الســلفريام‪ .‬بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬قــام بتثبيتهــا يف فجــوة ســن خملــوع يف‬
‫فمــه‪.‬‬

‫وتتضمــن األشــكال احلديثــة األخــرى جلهــاد النفــس عــى املســتوى‬


‫اجلســدي تغيــرات ترشحييــة يف أجســامنا ؛ عــى ســبيل املثــال‪ ،‬جراحــات‬
‫إنقــاص الــوزن مثــل ربــط املعــدة‪ ،‬واســتئصال جــزء مــن املعــدة وهــو مــا‬
‫يعــرف بالتكميــم‪ ،‬وعمليــة جمــازة املعدة(حتويــل املســار)‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ختلــق هــذه العمليــات اجلراحيــة بشــكل فعــال معــدة أصغــر‪ ،‬إمــا مــن‬
‫خــال حتويــل مســار جــزء مــن األمعــاء الــذي يمتــص الســعرات احلراريــة‪،‬‬
‫أو وضــع حــزام املعــدة وهــو عبــارة عــن حلقــة مطاطيــة حــول املعــدة‪ ،‬ممــا‬
‫جيعلهــا أصغــر دون إزالــة أي جــزء مــن املعــدة أو األمعــاء الدقيقــة‪ .‬يف حــن‬
‫يكــون امليكانيــزم يف عمليــة التكميــم قائــا عــى اســتئصال جــزء مــن املعــدة‬
‫جلعلهــا أصغــر‪ .‬تعيــد جراحــة املجــازة املعديــة ترتيــب األمعــاء الدقيقــة‬
‫بتحويــر املســار حــول املعــدة واالثنــي عــر وعمــل جيــب معــدي أصغــر‪،‬‬
‫حيــث يتــم امتصــاص العنــارص الغذائيــة‪.‬‬

‫خضعــت مريضتــي إميــي يف عــام ‪ 2014‬لعمليــة جمــازة معديــة (حتويــل‬


‫مســار) إلنقــاص الــوزن ومتكنــت بالتــايل مــن االنتقــال مــن ‪ 250‬رط ـ ً‬
‫ا إىل‬
‫‪ 115‬رطـ ً‬
‫ا عــى مــدار عــام‪ .‬لقــد وصلــت إىل وزن مل حتققــه يف الســابق‪ ،‬مــن‬
‫خــال خمتلــف التدخــات التــي جربتهــا وبــاءت بالفشــل‪ ،‬أميــي ليســت‬
‫ا فعــاالً مثب ًتــا للتخلــص مــن‬
‫وحدهــا‪ .‬تعــد جراحــات إنقــاص الــوزن تدخـ ً‬
‫الســمنة‪ ،‬خاص ـ ًة عندمــا تفشــل العالجــات األخــرى‪ .‬لكنهــا ال ختلــو مــن‬
‫عواقـ�ب غـير مقصـ�ودة‪.‬‬

‫يطــور واحــد مــن كل أربعــة متلقــن جلراحــة املجــازة املعديــة مشــكلة‬


‫جديــدة مــع إدمــان الكحــول‪ .‬مبــارشة بعــد اجلراحــة‪ ،‬أصبحــت إميــي‬
‫مدمنـ�ة عـلى الكحـ�ول‪ ،‬ويعـ�ود ذلـ�ك لعـ�دة أسـ�باب‪.‬‬

‫إن معظــم األشــخاص الذيــن يعانــون مــن الســمنة املفرطــة هــم يعانــون‬
‫باألســاس مــن إدمــان للطعــام‪ ،‬والــذي ال يتــم التعامــل معــه بشــكل ٍ‬
‫كاف‬
‫باجلراحــة وحدهــا‪ .‬قلــة مــن األشــخاص الذيــن خيضعــون هلــذه العمليــات‬

‫‪139‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اجلراحيــة حيصلــون عــى التدخــات الســلوكية والنفســية التــي حيتاجوهنــا‬


‫ملســاعدهتم عــى تغيــر عاداهتــم الغذائيــة‪ .‬ومــن ثــم يســتأنف الكثــر منهــم‬
‫تنــاول الطعــام بطــرق غــر صحيــة‪ ،‬ممــا جيعلهــم يوســعون معدهــم التــي‬
‫أصبحــت أصغــر عــن طريــق االســتهالك القهــري املفــرط للطعــام‪ ،‬وينتهــي‬
‫هبــم األمــر بمضاعفــات طبيــة واحلاجــة إىل تكــرار العمليــات اجلراحيــة‪.‬‬
‫خيــارا‪ ،‬يتحــول الكثــرون مــن الطعــام إىل خمــدر‬
‫ً‬ ‫عندمــا ال يعــود الطعــام‬
‫آخــر‪ ،‬مثــل الكحــول‪.‬‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬تغــر التدخــات اجلراحيــة للمعــدة الطريقــة التــي‬


‫يتــم هبــا اســتقالب الكحــول‪ ،‬األمــر الــذي يزيــد مــن معــدل االمتصــاص‪.‬‬
‫لعــدم وجــود معــدة باحلجــم الطبيعــي ممــا يعنــي أن امتصــاص الكحــول يف‬
‫جمــرى الــدم يكــون بشــكل رسيــع وفــوري‪ ،‬وبســبب غيــاب عمليــة التمثيــل‬
‫الغذائــي األوليــة التــي حتــدث عــاد ًة يف املعــدة كــرد فعــل طبيعــي خيفــف مــن‬
‫حــدة أي خمــدر أو دواء نتناولــه قبــل أن ينطلــق يف اجلهــاز الــدوري‪ .‬نتيجــة‬
‫بالســكر بشــكل أرسع ويظلــون يف حالــة ســكر‬
‫لذلــك؛ يصــاب املــرىض ُ‬
‫لفــرة أطــول حتــى إذا رشبــوا كميــات قليلــة‪ ،‬ف ُيعــد رشب الكحــول ملــن‬
‫خضعــوا لعمليــات جراحيــة لتقليــص حجــم املعــدة بمثابــة احلصــول عــى‬
‫حقنــة وريديــة مــن الكحــول‪.‬‬

‫مــن الواجــب علينــا االحتفــاء واإلشــادة باإلنجــازات الطبيــة التــي‬


‫متكنــت مــن أن حتســن صحــة الكثــر‪ ،‬واســتطاعت املحافظــة عــى جــودة‬
‫احليــاة لألجيــال القادمــة‪ .‬ولكــن ينبغــي أن نكــون عــى درجــة كبــرة مــن‬
‫الوع��ي واإلدراك‪ ،‬حلقيقــة أنــه علينــا اللجــوء إىل إزالــة وإعــادة تشــكيل‬

‫‪140‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األعضــاء الداخليــة ألجســادنا‪ ،‬الســتيعاب أنــواع الغــذاء التــي متثــل نقطــة‬


‫حتـ�ول يف تاريـ�خ االسـ�تهالك البـشري‪.‬‬

‫***‬

‫مــن صناديــق األقفــال التــي حتــد مــن وصولنــا إىل أدوات ســلوكنا‬
‫اإلدمــاين‪ ،‬إىل األدويــة التــي متنــع مســتقبالت املــواد األفيونيــة لدينــا‪ ،‬إىل‬
‫العمليــات اجلراحيــة التــي تقلــص حجــم املعــدة‪ ،‬فمجاهــدة النفــس عــى‬
‫املســتوى اجلســدي موجــودة يف كل مــكان يف احليــاة احلديثــة‪ ،‬ممــا يوضــح‬
‫مـ�دى تزايـ�د حاجتنـ�ا إىل كبـ�ح مجـ�اح الدوبامـين‪.‬‬

‫بالنســبة يل‪ ،‬عندمــا كانــت الكتــب عــى بعــد نقــرة واحــدة فقــط‪ ،‬كنــت‬
‫عرضــة للبقــاء يف اخليــال لفــرة أطــول ممــا أردت‪ ،‬أو أكثــر ممــا كان جيــدً ا‬
‫خصوصــا أنــه‬
‫ً‬ ‫بالنسـ�بة يل‪ .‬لقـ�د ختلصـ�ت مـ�ن جهـ�از ‪ Kindle‬اخل�اـص يب‬
‫كان يســهل عــي الوصــول إىل تدفــق متواصــل مــن اإلثــارة اجلنســية القابلــة‬
‫للتحميــل بضغطــة زر‪ .‬نتيجــة لذلــك‪ ،‬كنــت أكثــر قــدرة عــى التخفيــف‬
‫مــن ميــي لالنغــاس يف متعــة اخليــاالت‪ .‬كان الفعــل البســيط املتمثــل يف‬
‫االضطــرار إىل الذهــاب إىل املكتبــة أو حمــل بيــع الكتــب حاجـ ًـزا مفيــدً ا بينــي‬
‫وبــن املخــدر املفضــل لــدي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫جهاد النفس الزمني‬

‫شــكل آخــر مــن أشــكال جهــاد النفــس هــو اســتخدام احلــدود الزمنيــة‬
‫وخطـ�وط النهايـ�ة‪.‬‬

‫مــن خــال قــر االســتهالك عــى أوقــات معينــة مــن اليــوم أو‬
‫األســبوع أو الشــهر أو الســنة‪ ،‬نضيــق نافــذة اســتهالكنا‪ ،‬وبالتــايل نحــد مــن‬
‫اســتخدامنا‪ .‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يمكننــا أن نقــول ألنفســنا أننــا سنســتهلك‬
‫فقــط يف أيــام العطــات‪ ،‬فقــط يف عطــات هنايــة األســبوع‪ ،‬ولــن يكــون قبــل‬
‫يــوم اخلميــس‪ ،‬وليــس قبــل الســاعة ‪ 5:00‬مسـ�ا ًء‪ ،‬ومـ�ا إىل ذلـ�ك‪.‬‬

‫يف بعــض األحيــان‪ ،‬بــدالً مــن الوقــت يف حــد ذاتــه‪ ،‬نجاهــد أنفســنا‬
‫بنــا ًء عــى املناســبات أو اإلنجــازات أو ذكريــات معينــة‪ .‬ســننتظر حتــى عيــد‬
‫ميالدنــا‪ ،‬أو بمجــرد إكــال املهمــة‪ ،‬أو بعــد حصولنــا عىل شــهادتنا‪ ،‬أو بمجرد‬
‫حصولنــا عــى الرتقيــة‪ .‬عندمــا حيــن الوقــت‪ ،‬أو نتجــاوز خــط النهايــة املحدد‬
‫ذات ًيـ�ا‪ ،‬فـ�إن املخـ�در أو السـ�لوك اإلدمـ�اين هـ�و مكافأتنـ�ا‪.‬‬

‫أظهـ�ر عاملـ�ي األعصـ�اب جــورج كــوب و س‪ .‬أمحــد‪ ،‬أن الفئــران التــي‬


‫تــم منحهــا وصــوالً غــر حمــدود إىل الكوكايــن ملــدة ســت ســاعات يوم ًيــا‬
‫تزيــد تدرجييـ ًا مــن الضغــط عــى الرافعــة بمــرور الوقــت إىل درجــة اإلرهــاق‬
‫اجلســدي وحتــى املــوت‪ .‬كــا لوحظــت زيــادة اإلدارة الذاتيــة يف ظــل رشوط‬
‫الوصــول املمتــدة (ســت ســاعات) مــع امليتامفيتامــن والنيكوتــن واهلريوين‬
‫والكحـ�ول‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن الفئــران التــي حتصــل عــى الكوكايــن ملــدة ســاعة‬
‫واحــدة فقــط يف اليــوم تســتخدم كميــات ثابتــة مــن الكوكايــن عــى مــدى‬
‫أيــام عديــدة متتاليــة‪ .‬أي أهنــم ال يضغطــون عــى الرافعــة ملزيــد مــن الــدواء‬
‫لـ�كل وحـ�دة زمنيـ�ة مـ�ع كل يـ�وم متتـ�ايل‪.‬‬

‫تشــر هــذه الدراســة إىل أنــه مــن خــال تقييــد اســتهالك املخــدرات إىل‬
‫نافــذة زمنيــة ضيقــة‪ ،‬قــد نتمكــن مــن ختفيــف اســتخدامنا وجتنب االســتهالك‬
‫القهــري واملتصاعــد الــذي يكــون مصاحبــ ًا للوصــول غــر املقيــد بزمــن‬
‫للمخــدر‪.‬‬

‫***‬

‫جمــرد تتبــع مقــدار الوقــت الــذي نقضيــه يف االســتهالك‪ ،‬عــى ســبيل‬


‫املثــال‪ ،‬مــن خــال مراقبــة اســتخدام هواتفنــا الذكيــة‪ ،‬هــو إحــدى الطــرق‬
‫للوعــي وبالتــايل التخفيــف مــن االســتهالك‪ .‬عندمــا نســتخدم احلقائــق‬
‫املوضوعيــة بوعــي مثــل مقــدار الوقــت الــذي نســتخدمه‪ ،‬فإننــا أقــل قــدرة‬
‫عـلى إنكارهـ�ا‪ ،‬وبالتـ�ايل نكـ�ون يف وضـ�ع أفضـ�ل الختـ�اذ إجـ�راء مـ�ا حياهلـ�ا‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬يمكــن أن يصبــح هــذا صع ًبــا للغايــة برسعــة كبــرة‪.‬‬


‫فالوقــت لديــه طريقــة خمادعــة ومضحكــة لالبتعــاد عنــا عندمــا نطــارد‬
‫الدوبامـين‪.‬‬

‫أخــرين أحــد املــرىض أنــه عندمــا كان يســتخدم امليتامفيتامــن‪ ،‬أقنــع‬


‫نفســه بــأن الوقــت ال حيســب‪ .‬شــعر كــا لــو أنــه يســتطيع إعــادة جتميــع‬
‫مكافآتــه م ًعــا دون أن يفقــد قطعــة واحــدة منهــا‪ .‬ختيلتــه يطفــو يف ســاء‬
‫كبـيرا كنجمـ�ة‪ ،‬يقـ�وم بجمـ�ع إجيـ�ار مـ�ن الكـ�ون أمجـ�ع‪.‬‬
‫ً‬ ‫الليـ�ل‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫تعبــث الســلع عاليــة الدوبامــن بقدرتنــا عــى تأجيــل اإلشــباع‪ ،‬وهــي‬


‫ظاهــرة تســمى خصــم التأخــر‪.‬‬

‫يشــر خصــم التأخــر إىل حقيقــة أن قيمــة املكافــأة تنخفــض كلــا طــال‬
‫دوالرا اليــوم بــدالً مــن‬
‫ً‬ ‫انتظارنــا هلــا‪ .‬يفضــل معظمنــا احلصــول عــى عرشيــن‬
‫عاــم م�نـ اآلن‪ .‬يمكــن أن يتأثــر ميلنــا إىل املبالغــة يف تقديــر املكافــآت قصــرة‬
‫األجــل عــى املــدى الطويــل بالعديــد مــن العوامــل‪ .‬أحــد هــذه العوامــل هــو‬
‫اســتهالك املخــدرات والســلوكيات املســببة لإلدمــان‪.‬‬

‫بحثــت عاملــة االقتصاد الســلوكي آن اليــن بريتيفيل‪-‬جنســن وزمالؤها‬


‫يف اإلشــباع املؤجــل لــدى مســتخدمي اهلريويــن واألمفيتامــن النشــطني‬
‫مقارنــة باملســتخدمني الســابقني ومــع ضوابــط متطابقــة (األفــراد مطابقــون‬
‫للجنــس والعمــر ومســتوى التعليــم ومــا إىل ذلــك)‪ .‬طلــب املحققــون مــن‬
‫املشــاركني مجيعــ ًا ختيــل أن لدهيــم تذكــرة يانصيــب فائــزة بقيمــة ‪100000‬‬
‫كورونــا نروجييــة‪ ،‬أي مــا يقــرب مــن ‪ 14600‬دوالر أمريكـ�ي‪.‬‬

‫ثــم ســألوا املشــاركني عــا إذا كانــوا يفضلــون احلصــول عــى أمــوال‬
‫أقــل يف الوقــت احلــايل (أقــل مــن ‪ 100000‬كرونــة نروجييــة) أو املبلــغ الكامــل‬
‫بعــد أســبوع مــن اآلن‪ .‬مــن بــن متعاطــي املخــدرات النشــطني‪ ،‬قــال ‪ 20‬يف‬
‫املائــة إهنــم يريــدون املــال اآلن وســيكونون عــى اســتعداد ألخــذ القليــل‬
‫للحصــول عليــه‪ 4 .‬يف املائــة فقــط مــن املســتخدمني الســابقني و ‪ 2‬يف املائــة‬
‫مـ�ن عنـ�ارص التحكـ�م املطابقـ�ة كانـ�وا سـ�يقبلون هـ�ذه اخلسـ�ارة‪.‬‬

‫مــن املرجــح أن يكــون مدخنــو الســجائر أكثــر مــن عنــارص التحكــم‬

‫‪144‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املطابقــة بالنســبة خلصــم املكافــآت املاليــة (أي أهنــم يقدروهنــا أقــل إذا‬
‫اضطــروا إىل االنتظــار لفــرة أطــول)‪ .‬كلــا زاد دخاهنــم‪ ،‬وكلــا زاد‬
‫اســتهالكهم للنيكوتــن‪ ،‬زاد اخلصــم الزمنــي لدهيــم‪ .‬تنطبــق هــذه النتائــج‬
‫عـلى كل مـ�ن املـ�ال االفـترايض واملـ�ال احلقيقـ�ي‪.‬‬

‫طلــب الباحــث يف جمــال اإلدمــان وارن ك‪ .‬بيــكل وزمــاؤه مــن‬


‫األشــخاص املدمنــن عــى املــواد األفيونيــة وجمموعــة ضابطــة (صحيــة)‬
‫اســتكامل قصــة بــدأت بالســطر التــايل‪« :‬بعــد االســتيقاظ‪ ،‬بــدأ بيــل يف‬
‫التفكــر يف مســتقبله‪ .‬بشــكل عــام‪ ،‬كان يتوقــع‪.»...‬‬

‫أشــار املشــاركون يف الدراســة مــن املدمنــن عــى املــواد األفيونيــة إىل‬


‫مســتقبل كان يف املتوســط تســعة أيــام‪ .‬أمــا املجموعــة الضابطــة أشــاروا إىل‬
‫مســتقبل يبلــغ يف املتوســط ‪ 4.7‬ســنوات‪ .‬يوضــح هــذا االختــاف املذهــل‬
‫كيــف تتقلــص «اآلفــاق الزمنيــة» عندمــا نكــون حتــت ســيطرة خمــدر يســبب‬
‫اإلدمـ�ان‪.‬‬

‫عــى العكــس مــن ذلــك‪ ،‬حــن أســأل مرضــاي عــن اللحظــة احلاســمة‬
‫بالنســـبة هلـــم التـــي دفعتهـــم ملحاولـــة التعـــايف والتخلـــص مـــن اإلدمـــان‪،‬‬
‫غالب ـ ًا م ــا يذك ــرون أم ــور ًا تع ــر ع ــن رؤيته ــم للوق ــت ع ــى امل ــدى البعي ــد‪.‬‬
‫ك ــا أخ ــرين أح ــد امل ــرىض ال ــذي كان يستنشـــق اهلريوي ــن خ ــال الع ــام‬
‫امل ــايض‪« ،‬أدرك ــت فج ــأة أنن ــي كن ــت أس ــتخدم اهلريوي ــن مل ــدة ع ــام كام ــل‪،‬‬
‫وفك ــرت يف نف ــي‪ ،‬إذا مل أتوق ــف اآلن‪ ،‬فق ــد أفع ــل ه ــذا لبقي ــة حي ــايت»‪ .‬إن‬
‫التفك ــر يف مس ــار حيات ــه كله ــا‪ ،‬ب ــدالً م ــن جم ــرد اللحظ ــة احلالي ــة‪ ،‬س ــمح‬
‫هل ــذا الش ــاب بالقي ــام بعملي ــة ج ــرد أكث ــر دق ــة لس ــلوكياته اليومي ــة‪ .‬وينطب ــق‬

‫‪145‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الـــيء نفســـه عـــى حالـــة دليـــا‪ ،‬التـــي كانـــت عـــى اســـتعداد لالمتنـــاع‬
‫ع ــن احلش ــيش مل ــدة أربع ــة أس ــابيع فق ــط بع ــد أن ختيل ــت نفس ــها م ــا ت ــزال‬
‫تدخ ـ�ن احلش ـ�يش بع ـ�د ع ـ�ر س ـ�نوات‪.‬‬

‫يف النظ ــام البيئ ــي الغن ــي بالدوبام ــن الي ــوم‪ ،‬أصبحن ــا مجي ًع ــا معبئ ــن‬
‫لإلشـــباع الفـــوري‪ .‬نريـــد رشاء يشء مـــا‪ ،‬ويف اليـــوم التـــايل يظهـــر عـــى‬
‫عتب ــة بابن ــا‪ .‬ح ــن نري ــد أن نع ــرف ش ــي ًئا‪ ،‬يف غض ــون ث ــواين تظه ــر اإلجاب ــة‬
‫ع ــى شاش ــتنا‪ .‬ه ــل نفق ــد مه ــارة التفك ــر يف األش ــياء املح ــرة‪ ،‬أم نش ــعر‬
‫باإلحب ــاط أثن ــاء بحثن ــا ع ــن اإلجاب ــة‪ ،‬أم نضط ــر إىل انتظ ــار األش ــياء الت ــي‬
‫نريده ــا؟‬

‫ق ــام ع ــامل األعص ــاب صموئي ــل مكل ــور وزم ــاؤه بفح ــص أج ــزاء‬
‫الدم ــاغ املش ــاركة يف اختي ــار املكاف ــآت الفوري ــة مقاب ــل املكاف ــآت املتأخ ــرة‪.‬‬
‫ووجـــدوا أنـــه عندمـــا اختـــار املشـــاركون املكافـــآت الفوريـــة‪ ،‬أضـــاءت‬
‫أج ــزاء معاجل ــة املش ــاعر واملكاف ــآت يف الدم ــاغ‪ .‬عندم ــا أخ ــر املش ــاركون‬
‫مكافأهت ــم‪ ،‬أصبح ــت ق ــرة الف ــص اجلبه ــي الت ــي تش ــكل ج ــزء الدم ــاغ‬
‫ال ــذي يتحك ــم يف التخطي ــط والتفك ــر املج ــرد نش ــطة‪.‬‬

‫املعن ــى الضمن ــي هن ــا ه ــو أنن ــا مجي ًع ــا معرض ــون اآلن لضم ــور الق ــرة‬
‫اجلبهي ــة ألن مس ــار املكاف ــأة الغني ــة بالدوبام ــن يع ــد املح ــرك املهيم ــن ع ــى‬
‫حياتن ـ�ا‪.‬‬

‫إن ابتـــاع الســـلع عاليـــة الدوبامـــن ليـــس املتغـــر الوحيـــد الـــذي‬


‫يؤث ــر ع�لىـ تأخ�يرـ اخلص���م‪ .‬ع ــى س ــبيل املث ــال‪ ،‬أولئ ــك الذي ــن ينش ــئون يف‬
‫‪146‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بيئ ــات فق ــرة بامل ــوارد وترتف ــع فيه ــا م ــؤرشات الوفي ــات أو مع ــدل العم ــر‬
‫القص ــر‪ ،‬يف ه ــذه البيئ ــات‪ ،‬يك ــون األف ــراد أكث ــر عرض ــة لتقدي ــر املكاف ــآت‬
‫الفوري ــة ع ــى املكاف ــآت املتأخ ــرة مقارن ــة بأولئ ــك الذي ــن تت ــم تربيته ــم يف‬
‫بيئ ــات غني ــة بامل ــوارد‪ .‬ع ــى ســـبيل املثـــال‪ ،‬الشـــباب الربازيلي ــون الذي ــن‬
‫يعيش ــون يف األحي ــاء الفق ــرة يقوم ــون بخص ــم مكاف ــآت املس ــتقبل أكث ــر‬
‫م ــن نظرائه ــم ط ــاب اجلامع ــات املطابق ــن هل ــم يف العم ــر‪.‬‬

‫ه ــل م ــن املس ــتغرب أن يك ــون الفق ــر عام ــل خط ــر لإلدم ــان‪ ،‬خاص ــة‬
‫يف ع ــامل يس ــهل في ــه الوص ــول إىل الدوبام ــن الرخي ــص؟‬

‫هنــاك متغــر آخــر يســهم يف مشــكلة اإلفــراط يف االســتهالك القهــري‪،‬‬


‫وه ــو الك ــم املتزاي ــد م ــن أوق ــات الف ــراغ لدين ــا الي ــوم‪ ،‬وم ــا يصاحب ــه م ــن‬
‫مل ــل‪.‬‬

‫أدت ميكنـــة الزراعـــة والتصنيـــع واألعـــال املنزليـــة والعديـــد مـــن‬


‫الوظائ ــف األخ ــرى الت ــي كان ــت تس ــتغرق وق ًت ــا طويــ ً‬
‫ا والت ــي تتطل ــب‬
‫الكث ــر م ــن العم ــل إىل تقلي ــل ع ــدد الس ــاعات الت ــي يقضيه ــا الن ــاس يف‬
‫العم ــل يوم ًي ــا‪ ،‬مم ــا ي ــرك املزي ــد م ــن الوق ــت للرتفي ــه‪.‬‬

‫كان اليــوم املعتــاد للعامــل العــادي يف الواليــات املتحــدة قبــل احلــرب‬


‫األهليـــة (‪ ،)1865-1861‬ســـواء يف الزراعـــة أو الصناعـــة‪ ،‬يتكـــون مـــن‬
‫العم ــل م ــن ع ــر إىل اثنت ــي ع ــرة س ــاعة يف الي ــوم‪ ،‬وس ــتة أي ــام ونص ــف‬
‫يف األس ــبوع‪ ،‬وواح ــد ومخس ــن أس ــبو ًعا يف الس ــنة‪ ،‬م ــع ع ــدم قض ــاء أكث ــر‬
‫م ــن س ــاعتني يف الي ــوم يف النش ــاط الرتفيه ــي‪ .‬بع ــض الع ــال‪ ،‬غال ًب ــا م ــن‬
‫‪147‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫النس ــاء املهاج ــرات‪ ،‬يعمل ــن ث ــاث ع ــرة س ــاعة يف الي ــوم‪ ،‬س ــتة أي ــام يف‬
‫األس ـ�بوع‪ .‬وعان ـ�ى آخ ـ�رون م ـ�ن العبودي ـ�ة‪.‬‬

‫عـــى النقيـــض مـــن ذلـــك‪ ،‬زاد مقـــدار وقـــت الفـــراغ يف الواليـــات‬


‫املتح ــدة الي ــوم بمق ــدار ‪ 5.1‬س ــاعة يف األس ــبوع ب ــن عام ــي ‪ 1965‬و‪،2003‬‬
‫أي ‪ 270‬ســاعة ترفيــه إضافيــة يف الســنة‪ .‬بحلــول عــام ‪ ،2040‬ســيكون عــدد‬
‫س��اـعات الفـ�راغ املتوقعــة يف يــوم عــادي يف الواليــات املتحــدة حــوايل ‪7.2‬‬
‫س ــاعات‪ ،‬م ــع ‪ 3.8‬س ــاعات فق ــط م ــن العم ــل اليوم ــي‪ .‬بالنس ــبة للبل ــدان‬
‫األخ ــرى ذات الدخ ــل املرتف ــع فه ــي مماثل ــة هل ــذه األرق ــام‪.‬‬

‫خيتل ــف وق ــت الف ــراغ يف الوالي ــات املتح ــدة حس ــب التعلي ــم واحلال ــة‬
‫االجتامعي ـ�ة واالقتصادي ـ�ة‪ ،‬ولك ـ�ن لي ـ�س بالطريق ـ�ة الت ـ�ي ق ـ�د نفك ـ�ر هب ـ�ا‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،1965‬متتــع كل مــن األقــل تعليـ ًا واألكثــر تعليـ ًا يف الواليــات‬


‫املتحــدة بنفــس القــدر مــن وقــت الفــراغ‪ .‬اليــوم‪ ،‬البالغــون الذيــن يعيشــون‬
‫يف الوالي ــات املتح ــدة وال حيمل ــون ش ــهادة الثانوي ــة العام ــة‪ ،‬لدهي ــم ‪ 42‬يف‬
‫املائـــة مـــن أوقـــات الفـــراغ أكثـــر مـــن البالغـــن احلاصلـــن عـــى درجـــة‬
‫البكالوري ــوس أو أع ــى‪ ،‬م ــع أك ــر االختالف ــات يف أوق ــات الف ــراغ الت ــي‬
‫حت ــدث خ ــال س ــاعات األس ــبوع‪ .‬ويرج ــع ذل ــك إىل ح ــد كب ــر إىل البطال ــة‬
‫بـي�ن أولئـ��ك الذيـ��ن ليـ��س لدهيـ��م شـ��هادة جامعيـ��ة‪.‬‬

‫اســـتهالك الدوبامـــن ليـــس جمـــرد طريقـــة ملـــلء الســـاعات التـــي ال‬


‫نقضيه ــا يف العم ــل‪ ،‬لكن ــه أصب ــح س ــب ًبا لع ــدم مش ــاركة الن ــاس يف الق ــوى‬
‫العامل ـ�ة‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫كتـــب اخلبـــر االقتصـــادي مـــارك أغيـــار وزمـــاؤه مقـــاالً معنونـــ ًا‬


‫بمه ــارة بـــ «الكاملي ــات الرتفيهي ــة ووف ــرة العم ــل للش ــباب»‪ :‬حي ــث «أظه ــر‬
‫الرجـــال األصغـــر ســـنًا‪ ،‬الذيـــن تـــراوح أعامرهـــم بـــن ‪ 21‬و ‪ 30‬عا ًمـــا‪،‬‬
‫انخفاضـــا أكـــر يف ســـاعات العمـــل عـــى مـــدار اخلمســـة عـــر عا ًمـــا‬
‫ً‬
‫املاضي ــة مقارن ــة بكب ــار الس ــن‪ ،‬م ــن الرج ــال أو النس ــاء‪ .‬من ــذ ع ــام ‪،2004‬‬
‫تظه ــر بيان ــات اس ــتخدام الوق ــت أن الرج ــال األصغ ــر س ـنًا حول ــوا بش ــكل‬
‫واضــح أوقــات فراغهــم إىل ألعــاب الفيديــو وأنشــطة الكمبيوتــر الرتفيهيــة‬
‫األخ���رى‪« .‬‬

‫أشـــار الكاتـــب إريـــك جيـــه إيانيـــي بإجيـــاز إىل تارخيـــه اخلـــاص يف‬
‫اإلدمــ�ان عــ�ى النحــ�و التــ�ايل‪:‬‬

‫منـــذ ســـنوات‪ ،‬فيـــا يبـــدو اآلن وكأنـــه حيـــاة أخـــرى‪ ،‬قـــال يل أحـــد‬
‫األصدق���اء‪« ،‬يمك���ن اختـ��زال وج��وـدك بالكام ــل يف دورة حي ــاة مكون ــة م ــن‬
‫ثالث ــة أج ــزاء‪ ،‬أوالً العب ــث‪ .‬ثان ًي ــا‪ :‬االهني ــار‪ .‬ثالث ــة‪ :‬الس ــيطرة ع ــى ال ــرر‬
‫« مل نك ــن نع ــرف بعضن ــا بعضــ ًا لف ــرة طويل ــة‪ ،‬رب ــا ش ــهرين ع ــى األكث ــر‪،‬‬
‫ومـــع ذلـــك فقـــد شـــاهد حلظـــات الثمـــل التـــي كنـــت أعانيهـــا بســـبب‬
‫وضوح ــا‪ ،‬تل ــك‬
‫ً‬ ‫ال ــرب املنتظ ــم‪ ،‬وه ــو جم ــرد أح ــد أكث ــر مظاه ــر اإلدم ــان‬
‫الدوامـــة املســـتمرة‪ ،‬ويف حماولـــة لفهمـــي وقـــراءيت‪ ،‬كان يبتســـم ابتســـامة‬
‫س ــاخرة وب ــدأ باف ــراض ‪ -‬وأظ ــن أن ــه كان مازح ـ ًا ‪ -‬إن املدمن ــن يش ــعرون‬
‫باملل ــل واإلحب ــاط ويتجه ــون بص ــورة غريزي ــة إىل ح ــل مش ــاكلهم بابت ــكار‬

‫‪149‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مواق ــف ش ــبيهة بـــ ( هودين ــي)(‪ ،)1‬يفصل ــون أنفس ــهم عنه ــا‪ ،‬خصوصــ ًا‬
‫عندم ــا ال حي ــدث أي حت ـ ٍـد جدي ــد‪ ،‬حينه ــا تصب ــح املخ ــدرات ه ــي املكاف ــأة‬
‫يف حال ــة النج ــاح‪ ،‬أو جائ ــزة للمواس ــاة يف ح ــال الفش ــل‪».‬‬

‫***‬

‫عندمــا قابلــت حممــد ألول مــرة‪ ،‬كان شــخص ًا حيو ًيــا وتتدفــق الكلــات‬
‫منــه كتدفــق النهــر‪ .‬بالــكاد اســتطاع لســانه مواكبــة دماغــه‪ ،‬الــذي كان ملي ًئــا‬
‫باألفـ�كار حينه��ا‪ .‬قــال يل‪« :‬أعتقــد أننــي أعــاين مــن مشــكلة إدمــان صغــرة»‪.‬‬
‫أحببتــه ع�لى الف��ور‪ .‬وبلغــة إنجليزيــة ال تشــوهبا شــائبة بلهجــة رشق أوســطية‬
‫طفيفـ�ة‪ ،‬أخـبرين قصتـ�ه‪.‬‬

‫لقــد جــاء إىل الواليــات املتحــدة مــن الــرق األوســط يف عــام ‪2007‬‬
‫للدراســة اجلامعيــة يف ختصــص الرياضيــات واهلندســة‪ .‬و ُيعــد تعاطــي‬
‫املخــدرات يف وطنــه جريمــة ختضــع لعقوبــة شــديدة‪.‬‬

‫بعــد وصولــه إىل الواليــات املتحــدة‪ ،‬كان األمــر خمتلفــ ًا‪ ،‬فهــو أكثــر‬
‫ـررا بشــأن تعاطــي املخــدرات بشــكل ترفيهــي دون خــوف‪ ،‬يف البدايــة‪،‬‬
‫حتـ ً‬

‫((( هــاري هودينــي يعتــر أســتاذ فــن الوهــم‪ ،‬ومقــدم لعــروض خفــة اليــد والســحر‬
‫واالختفــاء‪ ،‬كان أحــد أهــم عروضــه عــرض الفــرار الــذي أقيــم يف العــام ‪ 1902‬يف‬
‫بالكبورن بإنجلــرا‪ ،‬حــن رفــض هودينــي أن يستســلم عــى رغــم مــن اســتعامل األغــال‬
‫املحكمــة التــي جعلــت فــراره مســتحيالً‪ .‬وبعــد ســاعتني اســتطاع هودينــي اإلفــات‬
‫مــن السالســل التــي قيدتــه‪ ،‬واســتقبله اجلمهــور بالوقــوف والتصفيــق احلــاد‪ .‬ويــروي‬
‫الكتــاب أنــه يف اليــوم التــايل كان ذراعــا هودينــي هبــا آثــار متــزق وجــروح بشــكل خميــف‪،‬‬
‫ألن األصفــاد كانــت مثبتــة بشــكل معقــد فلــم يكــن أمامــه أي خيــار ســوى أن يمــزق‬
‫حلمــه ليتخلــص منهــا‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اقتــر عــى تعاطــي املخــدرات والكحــول يف عطــات هنايــة األســبوع‪،‬‬


‫ولكــن يف غضــون العــام‪ ،‬كان يدخــن احلشــيش يوم ًيــا‪ ،‬ويف هــذه األثنــاء كان‬
‫يـ�رى أن درجاتـ�ه وصداقاتـ�ه أخـ�ذت يف الرتاجـ�ع نتيجـ�ة لذلـ�ك‪.‬‬

‫قــال لنفســه‪ ،‬لــن أدخــن مــرة أخــرى حتــى أكمــل شــهاديت اجلامعيــة‪،‬‬
‫ويتــم قبــويل يف برنامــج املاجســتري‪ ،‬وأحصــل عــى متويــل للحصــول عــى‬
‫درجـ�ة الدكتـ�وراه‪.‬‬

‫ومتكــن مــن الوفــاء بعهــده مــع نفســه‪ ،‬فهــو مل يدخــن مــرة أخــرى حتــى‬
‫انتهــى مــن برنامــج املاجســتري يف جامعــة ســتانفورد يف ختصــص اهلندســة‬
‫امليكانيكيــة‪ ،‬وحصــل عــى متويــل للحصــول عــى درجــة الدكتــوراه‪ .‬عندمــا‬
‫اســتأنف التدخــن‪ ،‬تعهــد أن يقتــر ذلــك عــى عطــات هنايــة األســبوع‬
‫فقـ�ط‪.‬‬

‫بعــد مــرور عــام مــن التحاقــه بربنامــج الدكتــوراه‪ ،‬كان يدخــن كل يــوم‪،‬‬
‫وبحلــول هنايــة عامــه الثــاين‪ ،‬وضــع قواعــد جديــدة لتدخــن احلشــيش‪:‬‬
‫عــرة ملليغــرام أثنــاء العمــل‪ ،‬وثالثــن ملليغــرام عندمــا ال يعمــل‪ ،‬وثالثامئة‬
‫ملليغـ�رام فقـ�ط يف املناسـ�بات اخلاصـ�ة‪ .‬ليكـ�ون وقتهـ�ا يف حالـ�ة مزريـ�ة‪.‬‬

‫لقــد تــوج حممــد دراســته للدكتــوراه بالفشــل يف االمتحــان املؤهــل‬


‫لدرجــة الدكتــوراه‪ ،‬وحــاول مــرة أخــرى وفشــل‪ .‬كان عــى وشــك أن يتــم‬
‫فصلــه واســتبعاده مــن الربنامــج لكنــه متكــن مــن إقنــاع أســاتذته بمحاولــة‬
‫أخـيرة لـ�ه‪.‬‬

‫يف ربيــع عــام ‪ ،2015‬التــزم حممــد باالمتنــاع عــن احلشــيش‪ ،‬مهــا طــال‬

‫‪151‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الوقــت حتــى اجتيــاز امتحــان التأهيــل‪ ،‬يف العــام التــايل‪ ،‬امتنــع عــن تنــاول‬
‫احلشــيش وعمــل بجــد أكثــر مــن أي وقــت مــى‪ .‬كان تقريــره النهائــي يزيــد‬
‫عــن ‪ 100‬صفحـ�ة‪.‬‬

‫قــال يل‪« :‬لقــد كانــت واحــدة مــن أكثــر ســنوات حيــايت إجيابيــة‬
‫وإنتاجيــة»‪ ،‬يف ذلــك العــام اجتــاز امتحــان التأهيــل‪ ،‬ويف الليلــة التــي أعقبــت‬
‫امتحانــه‪ ،‬أحــر أحــد األصدقــاء احلشــيش ملســاعدته عــى االحتفــال‪ .‬يف‬
‫البدايــة‪ ،‬رفــض‪ .‬لكــن صديقــه قــال لــه «مــن املســتحيل أن شــخص يمتلــك‬
‫ذكاءك أن يصبــح مدمنــ ًا»‬

‫قــال حممــد لنفســه هــذه املــرة فقــط‪ ،‬ولــن تكــون هنــاك مــرة أخــرى‬
‫حت��ى التخ��رج‪ .‬بحلــول يــوم االثنــن‪ ،‬مل تعــد «املــرة األخــرى» مؤجلــة إىل‬
‫دروســا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بعــد التخــرج‪ ،‬بــل أصبحــت ال مارجيوانــا يف األيــام التــي لــدي فيهــا‬
‫دروســا صعبــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫والتــي أصبحــت بــا مارجيوانــا يف األيــام التــي تكــون فيهــا‬
‫والتــي أصبحــت بــا مارجيوانــا يف األيــام التــي كنــت أمتحــن فيهــا‪ ،‬والتــي‬
‫صباحـ�ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أصبحـ�ت ال مارجيوانـ�ا قبـ�ل السـ�اعة التاسـ�عة‬

‫كان حممــد ذك ًيــا‪ .‬فلــاذا مل يكتشــف أنــه يف كل مــرة يدخــن فيهــا‪ ،‬لــن‬
‫ـادرا عــى االلتــزام باحلــدود الزمنيــة املفروضــة عــى نفســه؟‬‫يكــون قـ ً‬
‫ألنــه بمجــرد أن بــدأ يف اســتخدام احلشــيش‪ ،‬مل يكــن حمكو ًمــا بالعقــل؛‬
‫كان حيكمــه تــوازن اللــذة واألمل‪ .‬فتدخــن ســيجارة حشــيش واحــدة خلقــت‬
‫لديــه حالــة مــن الرغبــة التــي يصعــب التأثــر عليهــا باملنطــق‪ ،‬مل يعــد بإمكانــه‬
‫تقييــم املكافــآت الفوريــة للتدخــن يف مقابــل مــا يامثلهــا عــى املــدى الطويــل‪.‬‬
‫لقــد كان عــامل حممــد حمكــوم بتأخــر اخلصــم‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يف حالــة حممــد‪ ،‬انطلــق جهــاد النفــس الزمنــي إىل حــد بعيــد‪ ،‬ومــن غــر‬
‫خيــارا عــى اإلطــاق‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫املرجــح أن يكــون تدخــن احلشــيش باعتــدال‬
‫عليــه‪ ،‬ويف النهايــة‪ ،‬أن جيــد طري ًقــا آخــر للتحايــل‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫جهاد النفس الفئوي‪:‬‬

‫جــاء جاكــوب لرؤيتــي مــرة أخــرى بعــد أســبوع مــن انتكاســته‪ .‬يف‬
‫حــن أنــه توقــف عــن اســتخدام آلتــه ملــدة أســبوع‪ .‬لقــد وضــع آلتــه يف ســلة‬
‫النفايــات‪ ،‬وكان يعلــم أهنــا ســوف تُنقــل بعيــدً ا يف نفــس اليــوم‪ .‬كــا وضــع‬
‫الكمبيوتــر املحمــول واجلهــاز اللوحــي بعيــدً ا عــن متناولــه‪ .‬وذهــب إىل‬
‫الكنيســة ألول مــرة منــذ ســنوات وصــى مــن أجــل عائلتــه‪.‬‬

‫تغيــرا جيــدً ا‪ .‬كــا أننــي‬


‫ً‬ ‫«إن عــدم التفكــر يف نفــي ومشــاكيل كان‬
‫توقفــت عــن الشــعور باخلــزي والعــار مــن نفــي‪ .‬قصتــي هــي قصــة حزينــة‪،‬‬
‫لكــن يمكننــي فعــل يشء حيــال ذلــك»‪.‬‬

‫توقــف‪ .‬ثــم اســتدرك‪« :‬لكننــي ال أشــعر أننــي بحالــة جيــدة»‪« .‬أراك‬


‫يــوم االثنــن‪ ،‬وبحلــول يــوم اجلمعــة أفكــر يف قتــل نفــي‪ ،‬لكننــي أعلــم أننــي‬
‫لــن أفعــل ذلــك»‪.‬‬

‫قلــت لــه‪« :‬إهنــا العــودة مــن االســتخدام»‪« .‬دع مشــاعرك تعتــي عليــك‬
‫مثــل املوجــة‪ .‬كــن صبــور ًا‪ ،‬ومــع الوقــت ستشــعر بتحســن»‪.‬‬

‫قــادرا عــى‬
‫ً‬ ‫يف األســابيع واألشــهر التــي تلــت ذلــك‪ ،‬كان جاكــوب‬
‫احلفــاظ عــى االمتنــاع عــن ممارســة اجلنــس مــن خــال تقييــد ليــس فقــط‬
‫الوصــول إىل املواقــع اإلباحيــة وغــرف الدردشــة ووحــدات التحفيــز‬
‫أيضــا «الشــهوة بــأي شــكل مــن األشــكال»‪.‬‬
‫العصبــي‪ ،‬ولكــن ً‬

‫‪154‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫لقــد توقــف عــن مشــاهدة التلفزيــون واألفــام واليوتيــوب ومســابقات‬


‫كــرة الطائــرة النســائية – لقــد امتنــع إىل حــد كبــر عــن أي يشء كان يشــعر أن‬
‫فيــه نوع ـ ًا مــن االســتفزاز اجلنــي أو اإلثــارة لــه‪ .‬حتــى أنــه ختطــى بعــض‬
‫أنــواع املقــاالت اإلخباريــة؛ عــى ســبيل املثــال‪ ،‬مقــاالت عــن ســتورمي‬
‫دانيالــز‪ ،‬راقصــة التعــري التــي تزعــم أهنــا كانــت عــى عالقــة مــع دونالــد‬
‫ترامــب‪ .‬كان يرتــدي رسوالــه قبــل أن حيلــق ذقنــه أمــام املــرآة يف الصبــاح بعــد‬
‫االســتحامم‪ .‬إذ كانــت رؤيــة نفســه عاري ـ ًا حمفــزة إلثارتــه‪.‬‬

‫«لقــد لعبــت بجســدي لفــرة طويلــة‪ .‬ال يمكننــي فعــل ذلــك بعــد‬
‫اآلن»‪« .‬جيــب أن أجتنــب أي يشء قــد يمتــع عقــي املدمــن»‪.‬‬

‫حيــد جهــاد النفــس الفئــوي مــن االســتهالك عــن طريــق تصنيــف‬


‫الدوبامــن إىل فئــات خمتلفــة‪ :‬تلــك األنــواع الفرعيــة التــي نســمح ألنفســنا‬
‫باســتهالكها‪ ،‬وتلــك التــي ال نســتهلكها‪.‬‬

‫تســاعدنا هــذه الطريقــة ليــس فقــط عــى جتنــب املخــدر املفضــل لدينــا‪،‬‬
‫أيضــا عــى االبتعــاد عــن املحفــزات التــي تــؤدي إىل اشــتهاء املخــدر‬
‫ولكــن ً‬
‫أو الســلوك اإلدمــاين‪ .‬هــذه االســراتيجية مفيــدة بشــكل خــاص للمــواد‬
‫التــي ال يمكننــا التخلــص منهــا متا ًمــا ولكننــا نحــاول اســتهالكها بطريقــة‬
‫صحيــة‪ ،‬مثــل الطعــام واجلنــس واهلواتــف الذكيــة‪.‬‬

‫كان مريــي ميتــش مدمنًــا عــى املراهنــات الرياضيــة‪ .‬لقــد خــر مليون‬
‫دوالر مــن املقامــرة عندمــا كان يف األربعــن مــن عمــره‪ .‬لقــد كان النضاممــه‬
‫ا كبــر ًا يف مســاعدته عــى الشــفاء‪.‬‬
‫جلامعــة دعــم املقامريــن املجهولــن فض ـ ً‬

‫‪155‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن خــال مشــاركته يف مجاعــة املقامريــن املجهولــن‪ ،‬اتضــح لــه أن األمــر مل‬
‫يكــن جمــرد االمتنــاع عــن املراهنــات الرياضيــة فقــط‪ .‬بــل اضطــر إىل االمتنــاع‬
‫عــن مشــاهدة الرياضــة عــى التلفزيــون‪ ،‬وقــراءة الصفحــة الرياضيــة يف‬
‫الصحيفــة‪ ،‬وتصفــح مواقــع اإلنرتنــت املتعلقــة بالرياضــة‪ ،‬واالســتامع إىل‬
‫اإلذاعــة الرياضيــة‪ .‬اتصــل بجميــع الكازينوهــات يف منطقتــه ووضــع نفســه‬
‫عــى قائمــة «الرفــض»‪ .‬مــن خــال جتنــب املــواد والســلوكيات التــي تتجــاوز‬
‫قــادرا عــى اســتخدام جهــاد النفــس‬‫ً‬ ‫املخــدر املفضــل لديــه كان ميتــش‬
‫الفئــوي للتخفيــف مــن خطــر االنتكاســة والعــودة إىل املراهنــات الرياضيــة‪.‬‬

‫هنــاك يشء مأســاوي ومؤثــر حــول االضطــرار إىل فــرض احلظــر‬


‫واملنــع عــى أنفســنا‪ .‬بالنســبة جلاكــوب‪ ،‬فهــو خيفــي جســده العــاري وأجســاد‬
‫اآلخريــن‪ ،‬إذ كانــت هــذه الطريقــة تُعــد جــزء ًا مهـ ًا مــن اســراتيجية شــفائه‪.‬‬
‫لطاملــا كان ســر اجلســد حــارض ًا يف العديــد مــن التقاليــد الثقافيــة‪ ،‬حتــى يومنا‬
‫هــذا‪ ،‬كوســيلة للتقليــل مــن خماطــر االنخــراط يف ســلوك جنــي حمظــور‪،‬‬
‫َُ‬
‫[وقــل‬ ‫فالقــرآن الكريــم تــرد بــه آيــة عــن االحتشــام األنثــوي‪ ،‬قــال تعــاىل‬
‫ـن َو َاَل ُيبْدِيـ َ‬
‫ـن‬ ‫ـن فُ ُر َ‬
‫وج ُهـ َّ‬ ‫ح َف ْظـ َ‬ ‫ـن َأب ْ َصارهِـ َّ‬
‫ـن َو َي ْ‬ ‫ـن ِمـ ْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫ضـ َ‬ ‫ّْ ْ َ‬
‫ل ِل ُمؤمِنـ ِ‬
‫ـات يغض‬
‫ِ‬
‫ـن ۖ ]‬ ‫ـن َ َ ٰ‬
‫ىَلَع ُج ُيوبهـ َّ‬ ‫َ َ ُ َّ َّ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ‬
‫خِب ُمرهِـ َّ‬
‫ِِ‬ ‫رْضبــن ِ ِ‬ ‫زِينتهــن إِاَّل مــا ظهــر مِنهــا ۖ ويْل ِ‬
‫أصدرت كنيسة يسوع املسيح لقدييس األيام األخرية (‪)LDS Church‬‬
‫بيانات رسمية حول اللباس املحتشم ألعضائها‪ ،‬مثل عدم تشجيع لبس‬
‫«الرساويل القصرية والتنانري القصرية والقمصان التي ال تغطي البطن‬
‫واملالبس التي ال تغطي الكتفني أو بفتحة تظهر الصدر أو الظهر»‪.‬‬

‫يفشــل جهــاد النفــس الفئــوي عندمــا نــدرج عــن غــر قصــد حمفـ ًـزا يف‬
‫قائمتنــا لألنشــطة املقبولــة‪ .‬حيــث يمكننــا تصحيــح اخلطــأ هنــا مــن خــال‬

‫‪156‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عمليــة الغربلــة العقليــة بنــا ًء عــى اخلــرة‪ .‬ولكــن مــاذا ســيحدث حــن تتغــر‬
‫الفئــة نفســها؟‬

‫التقليــد األمريكــي املعتــاد يف اتبــاع النظــام الغذائــي ‪ -‬نبــايت‪ ،‬نبــايت خــايل‬


‫مــن مشــتقات األلبــان‪ ،‬نبــايت ينء‪ ،‬محيــة خاليــة مــن الغلوتــن‪ ،‬أتكينــز‪ ،‬زون‪،‬‬
‫كيتــوين‪ ،‬باليــو (محيــة العــر احلجري)‪ ،‬محيــة الغريــب فــروت‪ -‬مجيعها تعرب‬
‫عــن جهــاد النفــس الفئــوي‪ .‬نتبــع هــذه األنظمــة الغذائيــة ألســباب خمتلفــة‪:‬‬
‫طبيــة وأخالقيــة ودينيــة‪ .‬ولكــن مهــا كان الســبب‪ ،‬فــإن املحصلــة النهائيــة‪،‬‬
‫هــي حماولــة تقليــل الوصــول إىل فئــات واســعة ومتنوعــة مــن األطعمــة‪ ،‬ممــا‬
‫حيــد بــدوره مــن االســتهالك‪.‬‬

‫لكــن األنظمــة الغذائيــة كشــكل مــن أشــكال جهــاد النفــس الفئــوي‬


‫تصبــح ُمهــددة عندمــا تتغــر الفئــة بمــرور الوقــت نتيجــة لقــوى الســوق‬
‫والتســويق‪.‬‬

‫تســتخدم أكثــر مــن ‪ % 15‬مــن األرس يف أمريــكا الشــالية منتجــات خالية‬


‫مــن الغلوتــن‪ .‬فهنــاك فئــة ختضــع هلــذه احلميــة اخلاليــة مــن الغلوتــن؛ ألهنــم‬
‫مصابــون بمــرض االضطرابــات اهلضميــة‪ ،‬وهــو مــرض مناعــي ذايت حيــث‬
‫يــؤدي تنــاول الغلوتــن إىل تلــف األمعــاء الدقيقــة‪ .‬لكــن أعــدا ًدا متزايــدة من‬
‫النــاس يتجهــون إىل محيــة غذائيــة خاليــة مــن الغلوتــن؛ ألهنــا تســاعدهم عىل‬
‫احلــد مــن اســتهالك الكربوهيــدرات عاليــة الســعرات احلراريــة ومنخفضــة‬
‫التغذيــة‪ .‬املشــكلة أيــن هنــا؟‬

‫تــم تقديــم حــوايل ‪ 3000‬منتــج جديــد للوجبــات اخلفيفــة اخلاليــة مــن‬

‫‪157‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الغلوتــن يف الواليــات املتحــدة مــن عــام ‪ 2008‬إىل عــام ‪ ،2010‬ومنتجــات‬


‫ربحــا للســلع املعبــأة يف الســوق اخلاليــة‬
‫املخابــز هــي الفئــة الوحيــدة األكثــر ً‬
‫مــن الغلوتــن اليــوم‪ .‬يف عــام ‪ ،2020‬قــدرت قيمــة املنتجــات اخلاليــة مــن‬
‫الغلوتــن يف الواليــات املتحــدة وحدهــا بنحــو ‪ 10.3‬مليـ�ار دوالر‪.‬‬

‫النظــام الغذائــي اخلــايل مــن الغلوتــن‪ ،‬والــذي كان يف الســابق حيــد‬


‫بشــكل فعــال مــن اســتهالك األطعمــة املصنعــة عاليــة الســعرات احلراريــة‬
‫مثــل الكعــك والبســكويت واملقرمشــات واحلبــوب والباســتا والبيتــزا‪،‬‬
‫مل يعــد كذلــك اآلن‪ .‬بالنســبة ألولئــك الذيــن كانــوا يســتخدمون النظــام‬
‫الغذائــي اخلــايل مــن الغلوتــن لتجنــب الغلوتــن بســبب املــرض املناعــي‪ ،‬قــد‬
‫ـارا جيــدة بالنســبة هلــم‪ .‬ولكــن بالنســبة ألولئــك‬
‫تكــون تنــوع البدائــل‪ ،‬أخبـ ً‬
‫الذيــن كانــوا يتأقلمــون مــع احلميــة اخلاليــة للغلوتــن للحــد مــن اســتهالك‬
‫اخلبــز والكعــك‪ ،‬مل تعــد تلــك الفئــة تقــدم خدماهتــا هلــم بشــكل فعــال‪.‬‬

‫يوضــح تطــور النظــام الغذائــي اخلــايل مــن الغلوتــن كيــف يتــم مواجهة‬
‫حم��اوالت التحكمــ يف االســتهالك م��ن قب��ل قــوى الس�وـق احلديث��ة بشــكل‬
‫رسيــع(‪ ،)1‬وهــو جمــرد مثــال آخــر عــى التحديــات الكامنــة يف اقتصادنــا‬
‫القائــم عــى الدوبامــن‪.‬‬

‫هنــاك العديــد مــن األمثلــة احلديثــة األخــرى عــى عــدد مــن املخــدرات‬
‫التــي تُعــد مــن املحرمــات يف الســابق‪ ،‬والتــي تــم حتويلهــا إىل ســلع مقبولــة‬

‫((( تنــوع األغذيــة املخصصــة للحميــة الغذائيــة‪ ،‬مل يســهم يف احلــد مــن االســتهالك العــايل‬
‫للطعــام‪ ،‬فاحلميــة الغذائيــة مل تعــد محيــة مقتــرة عــى بعــض األغذيــة املالئمــة لتخفيــف‬
‫الــوزن‪ ،‬بــل اتســعت نافــذة التنــوع التــي يف الغالــب ال حتقــق الفائــدة املرجــوة (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجتامع ًيــا‪ ،‬غال ًبــا حتــت ســتار األدويــة‪ .‬أصبحــت ســجائر التبــغ ســجائر‬
‫اليكرتونيــة ‪ vape‬وأكيــاس (‪ .ZYN)1‬وأصبــح اهلريويــن أوكســيكونتني‪.‬‬
‫وحتــول احلشــيش إىل «املارجيوانــا الطبيــة»‪ .‬مــا أن نلتــزم باالمتنــاع عــن‬
‫ممارســة الســلوك اإلدمــاين حتــى يظهــر خمدرنــا القديــم مــرة أخــرى كمنتــج‬
‫جديــد معبــأ بشــكل جيــد وبأســعار معقولــة يقــول‪ :‬مرح ًبــا! ال بــأس هبــذا أنــا‬
‫جيــد بالنســبة لــك اآلن‪.‬‬

‫التأليــه الشــيطاين هــو شــكل آخــر مــن أشــكال جهــاد النفــس الفئــوي‪.‬‬
‫منــذ عصــور مــا قبــل التاريــخ‪ ،‬وضــع البــر األدويــة التــي تؤثــر عــى العقــل‬
‫يف مكانــة مقدســة‪ ،‬الســتخدامها خــال االحتفــاالت الدينيــة‪ ،‬أو طقــوس‬
‫العبــور‪ ،‬أو كأدويــة‪ .‬يف هــذا الســياق‪ ،‬ال ُيســمح إال للكهنــة أو الشــامان أو‬
‫خاصــا‪ ،‬أو تــم تكليفهــم بســلطات خاصــة‬
‫مــن يمثلهــم ممــن تلقــوا تدري ًبــا ً‬
‫بإعطــاء هــذه األدويــة‪.‬‬

‫أيضــا باســم‬
‫ألكثــر مــن ‪ 7000‬عــام‪ ،‬كان للمهلوســات‪ ،‬املعروفــة ً‬
‫املخــدر (الفطــر الســحري‪ ،‬أياهواســكا‪َ ،‬ب ُّيــوت)‪ ،‬اســتخدامات مقدســة‬
‫عــر ثقافــات متنوعــة‪ .‬عندمــا أصبحــت املــواد املهلوســة شــائعة ومتاحــة‬
‫عــى نطــاق واســع كعقاقــر ترفيهيــة يف ثقافــة الســتينات املضــادة‪ ،‬حيــث‬
‫تضاعف��ت األرضار‪ ،‬مم��ا أدى إىل جعـ�ل اس��تخدام عقاق�ير اهللوسـ�ة غــر‬
‫قانـ�وين يف معظـ�م أنحـ�اء العـ�امل‪.‬‬

‫((( أكيــاس معبــأة نيكوتــن بنكهــات خمتلفــة‪ ،‬مصنفــة مــن أنــواع الطعــام‪ ،‬خاليــة مــن‬
‫التدخــن وخاليــة مــن البصــق‪ ،‬للحصــول عــى جرعــة النيكوتــن بــدون تدخــن عــن‬
‫طريــق وضعهــا بالفــم بــن الشــفة واألســنان (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اليــوم‪ ،‬هنــاك حركــة إلعــادة اســتخدام املهلوســات واملخــدرات‬


‫األخــرى‪ ،‬ولكــن فقــط يف الســياق املقــدس للعــاج النفــي الزائــف‬
‫بمســاعدة املخــدر‪ .‬يقــوم األطبــاء النفســيون وعلــاء النفــس املدربــون‬
‫تدريبــ ًا خاصــ ًا بإعطــاء املهلوســات وغريهــا مــن املؤثــرات العقليــة‬
‫القويةــ (سيلوسيــبني‪ ،‬كيتامــن‪ ،‬إكســتايس) كعالجــات للصحــة العقليــة‪.‬‬
‫أصبحــت إدارة جرعــات حمــدودة (مــن واحــد إىل ثــاث) مــن املخــدر‬
‫تتخللهــا جلســات متعــددة مــن العــاج بالــكالم عــى مــدار عــدة أســابيع‬
‫بمثابــة املعــادل احلديــث للشــامانية(‪ .)1‬األمــل هــو أنــه مــن خــال احلــد مــن‬
‫الوصــول إىل هــذه األدويــة‪ ،‬وبجعــل األطبــاء النفســيني حــراس بوابــات‪،‬‬
‫يمكــن االســتفادة مــن اخلصائــص الغامضــة هلــذه املــواد الكيميائيــة مــن‬
‫الشــعور بالوحــدة‪ ،‬وجتــاوز الزمــن‪ ،‬واملــزاج اإلجيــايب‪ ،‬واالحــرام دون أن‬
‫يــؤدي ذلك إىل إســاءة االســتخدام واإلفراط يف االســتخدام‪ ،‬أو االســتخدام‬
‫كســلوك إدمــاين‪.‬‬

‫***‬

‫هنــاك مــن ال حيتاجــون إىل الشــامان أو الطبيــب النفــي إلضفــاء صفــة‬


‫القدســية عــى املخــدر املفضــل لدهيــم‪ .‬يف جتربــة حلــوى املارشــملو الشــهرية‬
‫يف جامعــة ســتانفورد‪ ،‬متكــن طفــل واحــد عــى األقــل يف التجربــة مــن إدارة‬
‫مــا هــو مقــدس بالكامــل بمفــرده‪.‬‬

‫((( الشــامان‪ ،‬هــم ســحرة دينيــون تقــوم طقوســهم عــى الســحر والشــعوذة واهللوســة‪،‬‬
‫وتُعــد ســيبرييا موطنـ ًا للشــامانية ومــن ثــم انتقلــت إىل الســكان األصليــن يف األمريكيتــن‬
‫(املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫كانــت جتربــة ســتانفورد حللــوى املارشــملو عبــارة عــن سلســلة مــن‬


‫الدراســات التــي قادهــا عــامل النفــس والــر ميشــيل يف أواخــر الســتينيات يف‬
‫جامعـ�ة سـ�تانفورد لدراسـ�ة اإلشـ�باع املتأخـ�ر‪.‬‬

‫ُعــرض عــى األطفــال الذيــن تــراوح أعامرهــم بــن ثالثــة وســتة‬


‫أعــوام االختيــار بــن مكافــأة صغــرة يتــم تقديمهــا عــى الفــور مــن حلــوى‬
‫املارشــملو‪ ،‬أو مكافأتــن صغريتــن مــن حلــوى املارشــملو يف حــال متكــن‬
‫األطفــال مــن االنتظــار ملــدة مخــس عــرة دقيقــة تقري ًبــا دون تنــاول القطعــة‬
‫األوىل مــن احللــوى‪.‬‬

‫يف تلــك األثنــاء قــام الباحــث بوضــع كل طفــل يف غرفــة منفصلــة‪،‬‬


‫ومــن ثــم وضــع قطعــة واحــدة مــن احللــوى يف الطبــق أمــام الطفــل‪ ،‬وكانــت‬
‫الغرفــة خاليــة مــن أي عوامــل تشــتيت بحيــث‪ :‬ال يوجــد ألعــاب‪ ،‬وال‬
‫أطفــال آخــرون‪.‬‬

‫كان الغــرض مــن الدراســة هــو حتديــد العمــر الــذي يتطــور فيــه‬
‫اإلشــباع املتأخــر عنــد األطفــال‪ .‬فحصــت الدراســات الالحقــة عينــات مــن‬
‫نتائــج احليــاة الواقعيــة املرتبطــة بالقــدرة أو عدمهــا عــى تأخــر اإلشــباع‪.‬‬

‫اكتشــف الباحث�وـن أنــه مــن بيـن م�اـ يق��رب م��ن مائ��ة طف��ل‪ ،‬اســتطاع‬
‫الثلــث مــن االنتظــار للحصــول عــى القطعــة الثانيــة مــن احللــوى‪ .‬كان‬
‫العمــر حمــد ًدا رئيســا‪ :‬كلــا كان الطفــل أكــر ســنًا‪ ،‬كان أكثــر قــدرة عــى‬
‫التأجيــل‪ .‬واتضــح مــن خــال الدراســة التتبعيــة التــي أجريــت الحقــ ًا‬
‫عــى نفــس العينــة‪ ،‬أن األطفــال الذيــن متكنــوا مــن انتظــار القطعــة الثانيــة‬

‫‪161‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مـ�ن احللـ�وى يميلـ�ون إىل احلصـ�ول عـلى درجـ�ات أفضـ�ل يف اختبـ�ار ‪،SAT‬‬
‫وحتصيــل تعليمــي أفضــل‪ ،‬وكانــوا مراهقــن يتمتعــون بقــدرات معرفيــة‬
‫وتكيــف اجتامعــي جيــد‪.‬‬

‫إحــدى تفاصيــل التجربــة األقــل تــداوالً‪ ،‬هــي مــا فعلــه األطفــال خالل‬
‫تلــك الدقائــق اخلمــس عــرة مــن الكفــاح مــن أجــل عــدم تنــاول القطعــة‬
‫األوىل مــن حلــوى املارشــملو‪.‬‬

‫تكشــف مالحظــات الباحثــن عــن جتســيد حــريف جلهــاد النفــس‪:‬‬


‫األطفــال «يغطــون أعينهــم بأيدهيــم أو يســتديرون حتــى ال يتمكنــوا مــن‬
‫رؤيــة الطبــق‪ .‬أو قامــوا بــركل الطاولــة‪ ،‬أو قامــوا بشــد ضفائــر شــعرهم‪ ،‬أو‬
‫صغــرا قطنيــا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫ملــس احللــوى والرتبيــت عليهــا كــا لــو كانــت حيوانًــا‬

‫يذكرنــا تغطيــة العيــون واالبتعــاد بجهــاد النفــس اجلســدي‪ .‬يشــر شــد‬


‫الضفائــر إىل اســتخدام األمل اجلســدي كإهلــاء‪ ،‬يشء ســأحتدث عنــه الح ًقــا‬
‫ً‬
‫مطــواًل‪ .‬لكــن مــاذا عــن مداعبــة حلــوى املارشــملو؟ بــدال مــن أن يقــوم‬
‫الطفــل مــن االبتعــاد عــن الــيء املرغــوب‪ ،‬جعلــه حيوانًــا ألي ًفــا‪ ،‬جعلــه‬
‫ثمين ـ ًا عــى أن يــؤكل‪ ،‬أو عــى األقــل لتناولــه كطعــام باندفــاع‪.‬‬

‫كانــت مريضتــي جاســمني تعــاين مــن اإلدمــان عــى الكحــول‪ ،‬حيــث‬


‫تــرب حتــى عــرة زجاجــات بــرة يف اليــوم‪ .‬وكجــزء مــن العــاج‪،‬‬
‫نصحتهــا بإزالــة كل الكحــول مــن منزهلــا كاســراتيجية جلهــاد النفــس‪.‬‬
‫أخــذت نصيحتــي يف الغالــب‪ ،‬مــع ملســة‪ .‬أزالــت كل الكحــول مــن منزهلــا‬
‫واحتفظــت بزجاجــة بــرة واحــدة يف الثالجــة‪ .‬أطلقــت عليهــا اســم «البــرة‬

‫‪162‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الطوطميــة»‪ ،‬والتــي اعتربهتــا رمــز الختيارهــا عــدم الــرب‪ ،‬ومتثيــل‬


‫إلرادهتــا واســتقالليتها‪ .‬أخــرت نفســها أهنــا بحاجــة فقــط إىل الرتكيــز عــى‬
‫عــدم رشب تلــك البــرة بــدالً مــن املهمــة األكثــر صعوبــة املتمثلــة يف عــدم‬
‫رشب أي بــرة مــن الكميــة اهلائلــة املتاحــة يف العــامل‪.‬‬

‫س��اعدت حيلةــ إدراكهــا (إلدراكهـ�ا) مــن ختطيهــا لإلدمــان‪ ،‬التــي‬


‫حولــت موضــوع اإلغــراء إىل رمــز لضبــط النفــس‪ ،‬األمــر الــذي ســاعدها‬
‫عــى االمتنــاع عــن الكحــول‪.‬‬

‫***‬

‫بعــد نصــف عــام مــن حماولتــه الثانيــة للتعــايف‪ ،‬قابلــت جاكــوب يف‬
‫غرفــة االنتظــار‪ .‬لقــد مــرت عــدة أشــهر منــذ أن رأيتــه‪ .‬بمجــرد أن وضعــت‬
‫عينــي عليــه‪ ،‬علمــت أنــه بخــر‪ .‬كانــت مالبســه متناســقة ومالئمــة لــه‪ ،‬مل‬
‫تكــن املالبــس‪ ،‬بــل هــي الطريقــة التــي ينســجم فيهــا مــع جســده وحيتويــه‪،‬‬
‫هــذا باإلضافــة إىل برشتــه املرشقــة‪ ،‬كــا هــو احلــال عندمــا يشــعر الشــخص‬
‫حينــا يكــون مرتبط ـ ًا بنفســه وبالعــامل‪.‬‬

‫ال يعنــي هــذا أنــك ســتجد ذلــك يف أي كتــاب درايس للطــب النفــي‪.‬‬
‫إنــه جمــرد يشء الحظتــه بعــد عقــود مــن رؤيــة املــرىض‪ :‬عندمــا يتحســن‬
‫النــاس‪ ،‬يتامســك كل يشء ويكــون مســتقيم وصــادق‪ .‬كان جاكــوب‬
‫مســتحقا لــه يف ذلــك اليــوم‪.‬‬

‫قــال‪« :‬عــادت زوجتــي إىل حيــايت»‪« .‬مــا زلنــا نعيــش بشــكل منفصــل‪،‬‬
‫لكننــي أذهــب إىل ســياتل لرؤيتهــا ونقــي يومــن رائعــن‪ .‬ســنقيض عيــد‬
‫امليــاد م ًعــا»‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«أنا سعيدة‪ ،‬جاكوب»‪.‬‬

‫«أنــا خــايل مــن هــويس‪ .‬لســت مضطـ ًـرا للتــرف بطريقــة معينــة‪ .‬أنــا‬
‫حــر يف اختــاذ قــرارات مــرة أخــرى بشــأن مــا ســأفعله‪ .‬اآلن بعــد ســتة أشــهر‬
‫منــذ انتكاســتي‪ .‬إذا واصلــت فعــل مــا أفعلــه‪ ،‬أعتقــد أننــي ســأكون بخــر‪.‬‬
‫بــل أفضــل مــن بخــر»‪.‬‬

‫نظر إيل وابتسم‪ ،‬وابتسمت له باملقابل‪.‬‬

‫***‬

‫فاجلهــود غــر العاديــة واملركــزة التــي قــام هبــا جاكــوب حتــى يتحــرر‬
‫مــن إدمانــه عــى اجلنــس ولتجنــب أي يشء مــن املحتمــل أن حيــرض رغبتــه‬
‫اجلنســية‪ ،‬تبــدو بالنســبة لنــا ترصفــات مــن العصــور الوســطى إذ مــا قاربناهــا‬
‫باحليــاة احلديثــة التــي نعيشــها‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فبعيــدً ا عــن الشــعور بالضيــق بســبب طريقــة عيشــه‬


‫اجلديــدة‪ ،‬شــعر بالتحــرر‪ .‬بعــد حتــرره مــن قبضــة اإلفــراط القهــري‪ ،‬متكــن‬
‫مــرة أخــرى مــن التفاعــل مــع اآلخريــن والعــامل بفــرح وفضــول وعفويــة‪.‬‬
‫هــذا باإلضافــة إىل شــعوره بالكرامــة‪.‬‬

‫كتــب إيامنويــل كانــط يف كتــاب «ميتافيزيقيــا األخــاق»‪« ،‬عندمــا نــدرك‬


‫أننــا قــادرون عــى هــذا الترشيــع الداخــي‪ ،‬يشــعر اإلنســان (الطبيعــي) بأنــه‬
‫مضطــر إىل تبجيــل اإلنســان األخالقــي يف شــخصه»‪.‬‬

‫أحرارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫إن جهاد أنفسنا هو وسيلتنا لنكون‬

‫‪164‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل السادس‬
‫امليزان املكسور‬

‫قــال كريــس‪ ،‬وهــو جالــس يف مكتبــي‪ ،‬معــدالً حقيبــة ظهــره‪ ،‬ودافع ـ ًا‬
‫شــعره املتســاقط عــى عينيــه للخلــف‪ ،‬حينهــا كان هيــز ركبتيــه (اعتــدت‬
‫عليــه‪ ،‬عــى مــدار الســنوات التاليــة كان دائـ ًـا يف حالــة حركــة)‪« ،‬ســأواصل‬
‫البوبرينورفــن اخلــاص يب‪ .‬لقــد كان مفيــدً ا‪ .‬يف الواقــع‪ ،‬كان أكثــر مــن مفيــد‬
‫بالنســبة يل‪ .‬لســت متأكــدا مــن أننــي ســأكون عــى قيــد احليــاة بدونــه‪ ،‬وأنــا‬
‫بحاجـ�ة إىل العثـ�ور عـلى شـ�خص يمكنـ�ه وصـ�ف العـلاج يل»‪.‬‬

‫البوبرينورفــن هــو مــادة أفيونيــة نصــف صناعيــة مشــتقة مــن ثيبايــن‪،‬‬


‫مقطــرة مــن خشــخاش األفيــون‪ .‬مثــل املــواد األفيونيــة األخــرى‪ ،‬يرتبــط‬
‫البوبرينورفــن بمســتقبل املــواد األفيونيــة‪ ،μ‬ممــا يوفــر ختفي ًفــا لــأمل والرغبــة‬
‫باملــواد األفيونيــة‪ .‬يف أبســط العبــارات‪ ،‬يعمــل مــن خــال إعــادة تــوازن اللذة‬
‫واألمل إىل الوضــع املســتوي‪ ،‬حتــى يتمكــن شــخص مثــل كريس مــن التوقف‬
‫عــن حماربــة الرغبــة الشــديدة والعــودة إىل عيــش حياتــه‪ .‬الدليــل قــوي عىل أن‬
‫البوبرينورفــن يقلــل مــن اســتخدام املــواد األفيونيــة غــر املرشوعــة‪ ،‬ويقلــل‬
‫مــن خطــر تنــاول جرعــة زائــدة‪ ،‬وحيســن نوعيــة احليــاة‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ولكــن ال يمكــن جتاهــل حقيقــة أن البوبرينورفــن مــادة أفيونيــة يمكــن‬


‫إســاءة اســتخدامها وهتريبهــا وبيعهــا يف الشــارع‪ .‬بالنســبة لألشــخاص الذين‬
‫ال يعتمــدون عــى مــواد أفيونيــة أقــوى‪ ،‬يمكــن للبوبرينورفــن أن خيلــق نوعـ ًا‬
‫م��ن االنتش��اء والبهجــة‪ .‬يع��اين األش��خاص الذي�نـ يتناولون��ه مــن انســحاب‬
‫املــواد األفيونيــة والرغبــة الشــديدة يف التوقــف أو تقليــل اجلرعــة‪ .‬يف الواقــع‪،‬‬
‫أخــرين بعــض املــرىض أن االنســحاب مــن البوبرينورفــن أســوأ بكثــر مــن‬
‫أي يشء عاش��وه مــع اهلريوي��ن أو اوكســيكونتني‪ .‬قلــت لكريــس‪« :‬ملــاذا ال‬
‫ختــرين قصتــك‪ ،‬وبعــد ذلــك ســأخربك بــا أفكــر فيــه»‬

‫وصــل كريــس إىل ســتانفورد عــام ‪ .2003‬قــام بإيصالــه زوج والدتــه‬


‫مــن أركنســاس يف ســيارة شــيفي ســوبربان قديمــة ومســتعارة‪ .‬بــرزت ســيارة‬
‫الدفعــ الرباعــي‪ ،‬املليئـ�ة بممتلكــات كري��س‪ ،‬ب�ين س��يارات البـ�ي إم دبليـ�و‬
‫اجلديـ�دة الالمعـ�ة واللكـ�زس التـ�ي تزاحـ�م مدخـ�ل سـ�كن الطـلاب‪.‬‬

‫مل يضيــع كريــس الوقــت‪ .‬قــام بتنظيــم غرفــة نومــه بدقــة كبــرة‪ ،‬بــد ًءا من‬
‫جمموعــة األقــراص املدجمــة اخلاصــة بــه‪ ،‬والتــي رتبهــا بالرتتيــب اهلجائــي‪ .‬ثم‬
‫تصفــح كتالــوج الــدورة بإمعــان‪ ،‬واســتقر عــى الكتابــة اإلبداعيــة والفلســفة‬
‫اليونانيــة واألســطورة واحلداثــة يف الثقافــة األملانيــة‪ .‬كان حيلــم بــأن يصبــح‬
‫خمرجــا ســينامئ ًيا أو مؤل ًفــا‪ .‬كانــت خططــه‪ ،‬مثــل خطــط أقرانــه‪،‬‬
‫ملحنًــا أو ً‬
‫كبـيرة‪ .‬سـ�تكون هـ�ذه بدايتـ�ه الالمعـ�ة يف سـ�تانفورد‪.‬‬

‫بمجــرد بــدء الفصــول الدراســية‪ ،‬كان أداء كريــس جيــدً ا بــكل‬


‫املقاييــس‪ .‬درس بجــد‪ .‬حصــل عــى درجــات ممتــازة‪ .‬لكــن عــى مســتوى‬
‫آخــر‪ ،‬مل يكــن ناجحــ ًا اجتامعيــ ًا‪ :‬لقــد حــر دروســه بمفــرده‪ ،‬ودرس يف‬

‫‪166‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫غرفتــه أو املكتبــة وحيــد ًا‪ ،‬وعــزف عــى البيانــو يف الغرفــة املشــركة يف مســكنه‬
‫وحــده‪ .‬تلــك الكلمــة املفضلــة يف احلــرم اجلامعــي‪ ،‬املجتمــع‪ ،‬اســتعصت‬
‫عليــه‪ ،‬إذا مــا نظرنــا إىل الــوراء ســيتذكر معظمنــا يف أيــام الدراســة اجلامعيــة‬
‫املبكــرة الكفــاح مــن أجــل تكويــن صداقــات وجمتمــع‪ .‬كافــح كريــس أكثــر‪.‬‬
‫مــن الصعــب القــول‪ ،‬حتــى اآلن‪ ،‬ملــاذا بالضبــط مل يكـ ّـون جمتمــع؟ إنــه شــاب‬
‫جيــد املظهــر‪ ،‬وودود‪ .‬واجتامعــي وحريــص عــى إرضــاء اآلخريــن‪ .‬ربــا‬
‫كان األمـ�ر لـ�ه عالقـ�ة بكونـ�ه ذلـ�ك الطفـ�ل الفقـير مـ�ن أركنسـ�اس‪.‬‬

‫اســتمر وجــوده يف احلــرم اجلامعــي وهــو يف عزلــة اجتامعيــة‪ ،‬حتــى‬


‫ســنته الثانيــة وهــي الســنة التــي التقــى فيهــا بفتــاة يف وظيفتــه بــدوام جزئــي‬
‫يف احلــرم اجلامعــي‪ .‬لطاملــا جذبــت مالحمــه املنحوتــة وشــعره البنــي الناعــم‬
‫وبنيتــه العضليــة االنتبــاه‪ .‬تعمقــت عالقتــه مــع الفتــاة وقــام بتقبيلهــا يف مــرة‬
‫مــن املــرات‪ ،‬ووقــع كريــس يف احلــب عــى الفــور‪ .‬أخربتــه أن لدهيــا صدي ًقــا‪،‬‬
‫ـرارا‪.‬‬
‫ـرارا وتكـ ً‬
‫قــال هلــا‪ :‬إنــه ال هيتــم‪ .‬أراد أن يكــون معهــا‪ ،‬وســعى إليهــا مـ ً‬
‫عندمــا مل يستســلم‪ ،‬اهتمتــه بمطاردهتــا وأبلغــت رئيســهام املشــرك‪ .‬ونتيجــة‬
‫لذلــك؛ فقــد وظيفتــه وتــم توبيخــه مــن قبــل إدارة الكليــة‪ .‬أصبــح بــدون‬
‫وظيفـ�ة أو حبيبـ�ة‪ ،‬قـ�رر حينهـ�ا أن هنـ�اك حـ ً‬
‫لا واحـ�دً ا فقـ�ط‪ :‬سـ�يقتل نفسـ�ه‪.‬‬

‫كتــب كريــس رســالة بريــد إلكــروين إىل والدتــه‪« :‬أمــي‪ ،‬لقــد ارتديــت‬
‫املالبــس الداخليــة النظيفــة»‪ .‬اســتعار ســكينًا‪ ،‬وأخــذ مشــغل األقــراص‬
‫املضغوطــة وقــرص مضغــوط تــم اختيــاره بعنايــة‪ ،‬وشــق طريقــه إىل روبــل‬
‫فيلــد‪ .‬كان وقــت الغســق‪ ،‬وكانــت خطتــه هــي ابتــاع زجاجــة حبــوب‪،‬‬
‫وقطــع معصميــه‪ ،‬وتوقيــت موتــه مــع غــروب الشــمس‪ .‬كانــت املوســيقى‬

‫‪167‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مهم��ة لكري��س‪ ،‬واخت��ار أغنيت��ه األخ�يرة بعناي��ة‪ »PDA« :‬مــن قبــل فرقــة‬
‫اإلنرتبـ�ول‪ ،‬وهـ�ي فرقـ�ة موسـ�يقية مسـ�تقلة يف نيويـ�ورك بعـ�د البانـ�ك‬
‫«‪»PDA‬تعتمــد عــى إيقــاع عـ ٍ‬
‫ـال جــد ًا‪ ،‬ويصبــح مــن الصعــب فهــم كلــات‬
‫األغنيــة‪ .‬كان املقطــع األخــر مــن األغنيــة كالتــايل‪« :‬النــوم حتــى الليــل‪،‬‬
‫النــوم الليلــة‪ ،‬النــوم الليلــة‪ ،‬النــوم الليلــة‪ .‬يشء ألقولــه‪ ،‬يشء ألفعلــه‪ ،‬ال‬
‫يشء ألقولــه‪ ،‬ال يوجــد يشء ألفعلــه»‪ .‬انتظــر كريــس حتــى هنايــة األغنيــة‪،‬‬
‫ثـ�م سـ�حب احلافـ�ة احلـ�ادة للسـ�كني عـبر كل معصـ�م‪.‬‬

‫تبــن أن حماولــة قتــل نفســك عــن طريــق قطــع معصميــك يف حقــل‬


‫مفتــوح ليســت اســراتيجية فعالــة للغايــة‪ .‬بعــد نصــف ســاعة‪ ،‬ختثــر الــدم‬
‫جالســا يف الظــام‪ ،‬يشــاهد النــاس يمشــون‪ .‬عــاد إىل‬
‫ً‬ ‫عــى معصميــه‪ ،‬وكان‬
‫غرفــة نومــه‪ ،‬وأجــر نفســه عــى تقيــؤ احلبــوب‪ ،‬واتصــل برقــم النجــدة ‪.911‬‬
‫وجــاء املســعفون ونقلــوه إىل مستشــفى ســتانفورد‪ ،‬حيــث تــم إدخالــه إىل‬
‫جنـ�اح األمـ�راض النفسـ�ية‪.‬‬

‫أيضــا‬
‫كان زوج والدتــه أول مــن زاره‪ .‬خططــت والدتــه للحضــور ً‬
‫لكنهــا مل تتمكــن مــن ركــوب الطائــرة‪ .‬كان لدهيــا فوبيــا مــن الطــران ملــدة‬
‫طويلــة‪ .‬كــا ظهــر والــده البيولوجــي‪ ،‬الــذي رآه عــدة مــرات يف الســنة فقــط‪.‬‬
‫بــدا والــده مصدومــ ًا عندمــا رأى اللــون األمحــر‪ ،‬والقطــع عــى معصمــي‬
‫كريسـ�توفر‪.‬‬

‫بقــي كريــس يف جنــاح الطــب النفــي ملــدة أســبوعني‪ .‬خــال ذلــك‬


‫الوقــت‪ ،‬شــعر يف الغالــب باالرتيــاح لكونــه يف بيئــة حمتــواه ومســيطر عليهــا‬
‫ويمكـ�ن التنبـ�ؤ هبـ�ا‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫جــاء ممثــل مــن جامعــة ســتانفورد لزيارتــه يف الوحــدة وأبلغــه أنــه يف‬
‫ظــل هــذه الظــروف‪ ،‬ســيضطر إىل أخــذ إجــازة طبيــة مــن ســتانفورد‪ ،‬حتــى‬
‫يتعــاىف بــا يكفــي ليتمكــن مــن العــودة‪ ،‬وكان ذلــك بنــا ًء عــى قــرار وتقديــر‬
‫اجلامعـ�ة‪.‬‬

‫عــاد كريــس إىل أركنســاس للعيــش مــع والدتــه وزوج والدتــه‪ .‬حصــل‬
‫عــى وظيفــة نــادل يف مطعــم‪ .‬وحينهــا اكتشــف املخــدرات‪.‬‬

‫يف خريــف عــام ‪ ،2007‬عــاد كريــس إىل ســتانفورد‪ .‬قبــل أن يتمكــن مــن‬
‫التســجيل يف الفصــل الــدرايس الثــاين‪ ،‬كان بحاجــة إىل مقابلــة رئيــس قســم‬
‫الصحــة العقليــة للطــاب وعميــده املقيــم الطالعهــم عــى تقدمــه وتقديــم‬
‫حجـ�ة مقنعـ�ة إلعـ�ادة التسـ�جيل‪.‬‬

‫يف اليــوم الســابق الجتامعــه‪ ،‬مكــث مــع فتــاة كان يعرفهــا يف ســتانفورد‪.‬‬
‫أيضــا»‪ ،‬لذلــك شــعر كريــس‬
‫مل يكــن يعرفهــا جيــدً ا‪ ،‬لكنهــا كانــت «مضطربــة ً‬
‫بارتيــاح كبــر ممــا شــجعه عــى طلــب املبيــت عندهــا لليلــة أو ليلتــن حتــى‬
‫يعــاد قبولــه يف اجلامعــة‪.‬‬

‫يف الليلــة التــي ســبقت مقابلتــه‪ ،‬ظــل كريــس مســتيق ًظا «يتعاطــى‬
‫الكوكايــن» ويقــرأ كتــاب فرويــد «قلــق احلضــارة وســخطها»‪ .‬بحلــول‬
‫الصبــاح خلــص إىل أنــه كان يف حالــة مزريــة بحيــث ال يســتطيع مقابلــة‬
‫جمموعــة مــن مديــري الكليــة‪ .‬عــاد إىل املنــزل يف نفــس اليــوم‪ .‬أمــى كريــس‬
‫العــام التــايل يف جتريــف األوســاخ‪ ،‬ونــر نشــارة اخلشــب‪ ،‬وقــص املــروج‬
‫يف طقــس يزيــد عــن ‪ 100‬درجــة جلامعــة أركنســاس‪ .‬لقــد أحــب العمــل‬

‫‪169‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫اجلســدي‪ ،‬والطريقــة التــي أدى هبــا حتريــك جســده إىل تشــتيت انتباهــه عــن‬
‫أفــكاره‪ .‬متــت ترقيتــه إىل بســتاين‪ ،‬والــذي تضمــن يف الغالــب دفــع جــذوع‬
‫األشـ�جار واألغصـ�ان وقطعهـ�ا إىل أجـ�زاء بواسـ�طة عربـ�ة خمصصـ�ة لذلـ�ك‪.‬‬

‫عندمــا مل يكــن يعمــل‪ ،‬كان يؤلــف املوســيقى‪ ،‬ويســجل حلنــ ًا تلــو‬


‫اآلخــر‪ ،‬حينهــا كان يدخــن احلشــيش‪ ،‬الــذي أصبــح بالنســبة لــه أســاس وال‬
‫غنــى عنــه‪.‬‬

‫عــاد كريــس إىل ســتانفورد مــرة أخــرى يف اخلريــف التــايل‪ .‬مل يكــن مــن‬
‫ضمــن رشوط القبــول هــذه املــرة اجتــاع شــخيص‪ .‬اجتــه كريــس إىل مســكنه‬
‫عــى غــرار جــاك ريــر(‪ ،)1‬ال يشء ســوى فرشــاة أســنان يف جيبــه وجهــاز‬
‫كمبيوتــر حممــول يف يــده‪ .‬نــام عــى فراشــه يف مالبســه‪ ،‬بــدون حلــاف أو غطــاء‬
‫للرسيـ�ر‪.‬‬

‫منظــا‪ ،‬وهــو أمــر أدرك أنــه ســيحتاج إليــه حتــى‬


‫ً‬ ‫لقــد أراد أن يكــون‬
‫ناجحــا‪ .‬كجــزء مــن عقليتــه اجلديــدة‪ ،‬غـ ّـر ختصصــه‪ .‬أصبــح يــدرس‬
‫ً‬ ‫يكــون‬
‫الكيميـ�اء اآلن‪.‬‬

‫كــا تعهــد باإلقــاع عــن تدخــن احلشــيش‪ ،‬لكــن عزمــه اســتمر ثالثــة‬
‫أيــام فقــط قبــل أن يعــود إىل التدخــن يوم ًيــا‪ ،‬خمتب ًئــا يف غرفتــه‪ ،‬حمـ ً‬
‫ـاواًل حتديــد‬
‫الوقــت الــذي ال يكــون رشيكــه يف الغرفة‪ ،‬الســتغالله يف التدخــن‪ ،‬ال يتذكر‬
‫كريـ�س أي يش عـ�ن رفيقـ�ه سـ�وى أنـ�ه «رجـ�ل هنـ�دي‪ »،‬مل يكـ�ن موجـ�و ًدا‪.‬‬

‫((( جــاك ريــر هــو بطــل الفيلــم األمريكــي الــذي حيمــل نفــس االســم‪ ،‬مــن انتــاج عــام ‪،2012‬‬
‫ُيعــد مــن أفــام االثــارة واجلريمــة‪( .‬املرتمجــة)‬

‫‪170‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يف منتصــف املــدة‪ ،‬اســتنتج كريــس أنــه نظـ ًـرا ألنــه قــى معظــم وقــت‬
‫دراســته يف أعــى مســتوياته‪ ،‬فيجــب أن يكــون منتشــ ًيا يف االختبــارات‬
‫النصفيــة‪ .‬يشء عــن «التعلــم املعتمــد عــى احلالــة» الــذي قــرأ عنــه يف فصــل‬
‫علــم النفــس‪ .‬حــن وصــل إىل الســؤال الثــاين قبــل أن يــدرك أنــه ال يعــرف‬
‫شــيئ ًا يف املــادة‪ ،‬ومل يكــن قـ ً‬
‫ـادرا عــى إكــال االمتحــان‪ .‬وقــف وخــرج‪ ،‬وألقــى‬
‫اختبــاره يف ســلة النفايــات يف املمــر‪ .‬وكان عــى متــن طائــرة إىل املنــزل يف‬
‫اليـ�وم التـ�ايل‪.‬‬

‫شــعر كريــس بــأن مغــادرة ســتانفورد للمــرة الثالثــة خمتلفــة‪ .‬كانــت‬


‫مشــوبة باليــأس‪ .‬عندمــا عــاد إىل املنــزل‪ ،‬مل يكــن لديــه طمــوح عــى اإلطالق‪،‬‬
‫وال حتــى ملواصلــة تأليــف املوســيقى‪ .‬بــدأ يــرب بكثــرة‪ ،‬باإلضافــة إىل‬
‫تدخــن احلشــيش‪ .‬ثــم جــرب املــواد األفيونيــة ألول مــرة‪ ،‬وهــو مــا كان مــن‬
‫الســهل القيــام بــه يف أركنســاس يف عــام ‪ ،2009‬عندمــا كان مصنعــو وموزعــو‬
‫املــواد األفيونيــة يضخــون ماليــن حبــوب األمل األفيونيــة يف الواليــة‪ .‬يف‬
‫نفــس العــام‪ ،‬كتــب األطبــاء يف أركنســاس ‪ 116‬وصفــة طبيــة مــن املــواد‬
‫األفيونيــة لــكل ‪ 100‬شـ�خص يعيشـ�ون يف أركنسـ�اس‪.‬‬

‫أثنــاء تنــاول املــواد األفيونيــة‪ ،‬اعتقــد كريــس أن كل يشء كان يبحــث‬


‫عنــه‪ ،‬أصبــح فجــأة يف متنــاول اليــد‪ .‬نعــم‪ ،‬لقــد شــعر بالبهجــة‪ ،‬لكــن هــذا مل‬
‫يكــن املفتــاح‪ .‬كان املفتــاح هــو أنــه شــعر باالتصــال‪.‬‬

‫بــدأ يف االتصــال باألقــارب وغريهــم مــن األشــخاص الذيــن يعرفهــم‪،‬‬


‫والتحــدث‪ ،‬واملشــاركة‪ ،‬والثقــة‪ .‬بــدت الروابــط حقيقيــة طاملــا أنــه تعــرض‬

‫‪171‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫للمنشــطات لكنــه اختفــى بمجــرد انتهــاء مفعــول املــواد األفيونيــة‪ .‬حينهــا‬


‫علـ�م أن العالقـ�ة احلميمـ�ة املصنوعـ�ة مـ�ن املخـ�درات مل تـ�دم‪.‬‬

‫اتبــع كريــس نم ًطــا متقط ًعــا مــن اســتخدام املــواد األفيونيــة يف حماولتــه‬
‫التاليــة لاللتحــاق باجلامعــة يف ســتانفورد‪ .‬عندمــا عــاد يف خريــف عــام ‪،2009‬‬
‫ً‬
‫مهمشــا بشــكل زمنــي وجغــرايف بــن أقرانــه‬ ‫وهــي اآلن حماولتــه الرابعــة‪ ،‬كان‬
‫املتخرجـين‪ .‬كان أكـبر بخمـ�س سـ�نوات مـ�ن طالـ�ب السـ�نة الثانيـ�ة العـ�ادي‪.‬‬

‫تــم وضعــه يف ســكن طــاب الدراســات العليــا‪ ،‬حيــث كان يتقاســم‬


‫شــقة مــن غرفتــي نــوم مــع طالــب دراســات عليــا يف فيزيــاء اجلســيامت‪.‬‬
‫كان لدهيــا القليــل مــن القواســم املشــركة‪ ،‬كان بينهــا تقريبـ ًا اتفاقـ ًا ضمنيـ ًا‬
‫للبقـ�اء بعيـ�دً ا عـ�ن طريـ�ق بعضهـما بعضـ� ًا‪.‬‬

‫لقــد طــور حينهــا كريــس روتينًــا يوميـ ًا يــدور حــول الدراســة وتعاطــي‬
‫املخــدرات‪ .‬لقــد ختــى عــن فكــرة حماولــة اإلقــاع عــن التدخــن‪ .‬لقــد أصبــح‬
‫يفكـ�ر يف نفس��ه ع�لى أن��ه «مدم��ن خم�دـرات» مؤك��د‪ .‬كان يدخــن احلشــيش‬
‫بمفــرده يف غرفــة نومــه كل يــوم‪ .‬كل ليلــة مجعــة كان يذهــب إىل ســان‬
‫فرانسيســكو‪ ،‬وحــده‪ ،‬للحصــول عــى اهلريويــن‪ .‬كلفتــه حقنــة واحــدة يف‬
‫دوالرا‪ ،‬مقابــل اندفــاع اســتمر مــن مخــس إىل مخــس‬
‫ً‬ ‫الشــارع مخســة عــر‬
‫عــرة ثانيــة‪ ،‬وتوهــج الحــق اســتمر لســاعات‪ .‬لقــد دخــن املزيــد مــن‬
‫احلشــيش لتخفيــف التدهــور املصاحــب للهريويــن‪ .‬يف منتصــف الربــع‬
‫األول‪ ،‬بــاع جهــاز الكومبيوتــر املتنقــل لــراء املزيــد مــن اهلريويــن‪ .‬ثــم‬
‫بــاع معطفــه‪ .‬تذكــر أنــه كان يشــعر بالــرد الشــديد وهــو يتجــول يف شــوارع‬
‫املدينـ�ة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫حــاول مــرة واحــدة تكويــن صداقــات مــع طالبــن بريطانيــن يف‬


‫فصــل اللغــة‪ .‬أخربهــم أنــه يريــد صنــع فيلــم ويســتضيفهام فيــه‪ .‬كان قــد‬
‫بــدأ يف االهتــام بالتصويــر الفوتوغــرايف وأحيا ًنــا يتجــول يف احلــرم اجلامعــي‬
‫اللتقــاط الصــور‪ ،‬بــدوا منبهريــن يف البدايــة‪ ،‬لكــن عندمــا أخربهــم بفكرتــه‬
‫للفيلــم ‪-‬لتصويرهــم يتحدثــون بلهجــات أمريكيــة أثنــاء األكل‪ -‬اعرتضــوا‬
‫وجتنبـ�وه بعـ�د ذلـ�ك‪.‬‬

‫«أعتقــد أننــي كنــت دائـ ًـا غري ًبــا مــن هــذا القبيــل‪ .‬لــدي أفــكار غريبــة‪.‬‬
‫هلـ�ذا السـ�بب ال أريـ�د أبـ�دً ا أن أخـبر النـ�اس بـما أفكـ�ر فيـ�ه»‪.‬‬

‫م��ن خلـال كل ذل��ك‪ ،‬ذه��ب كري�سـ إىل الفص��ل وحص��ل عـلى تقديــر‬
‫ممتــاز يف كل املــواد‪ ،‬باســتثناء حصولــه عــى جيــد جــدا يف مــادة واحــدة فقــط‪،‬‬
‫وهــي الســلوك الشــخيص غــر الســوي‪ .‬ثــم عــاد إىل املنــزل يف عيــد امليــاد‬
‫ومل يعــد إىل اجلامعــة‪.‬‬

‫يف خريــف عــام ‪ ،2010‬قــام كريــس بمحاولــة أخــرة فاتــرة للتســجيل‬


‫يف جامعــة ســتانفورد‪ .‬اســتأجر غرفــة خــارج احلــرم اجلامعــي يف مينلــو‬
‫ختصصــا جديــدً ا آخــر‪ :‬علــم األحيــاء البــري‪ .‬بعــد أيــام‬
‫ً‬ ‫بــارك واختــار‬
‫قليلــة‪ ،‬رسق مســكنات األمل مــن صاحبــة املنــزل وحصــل عــى وصفــة طبيــة‬
‫ألمبيــان‪ ،‬وقــام بســحقها وحقنهــا‪ .‬لقــد كانــت مخســة أشــهر بائســة‪ ،‬ثــم غــادر‬
‫سـ�تانفورد دون أي آمـ�ال يف هـ�ذه املـ�رة للعـ�ودة مـ�رة أخـ�رى‪.‬‬

‫بالعــودة إىل بلدتــه يف أركنســاس‪ ،‬أمــى كريــس أيامــه يف االنتشــاء‪ .‬كان‬


‫يتعاطــى يف الصبــاح‪ ،‬وعندمــا ينتهــي املفعــول‪ ،‬ويكمــل يومــه يف رسيــره‪ ،‬يف‬

‫‪173‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫منــزل والديــه‪ ،‬متمنيـ ًا مــرور الوقــت بفــارغ الصــر‪ .‬بــدت حياتــه كالدوامــة‬
‫ال هنايـ�ة هلـ�ا وال مفـ�ر منهـ�ا‪.‬‬

‫يف ربيــع عــام ‪ ،2011‬ألقــت الرشطــة القبــض عــى كريــس وهــو يــرق‬
‫اآليــس كريــم وهــو خممــور‪ُ .‬عــرض عليــه الســجن أو إعــادة التأهيــل‪.‬‬
‫اختــار إعــادة التأهيــل‪ .‬يف ‪ 1‬أبريــل ‪ ،2011‬يف أثنــاء إعــادة التأهيــل‪ ،‬بــدأ‬
‫كريــس يف تنــاول دواء يســمى البوبرينورفــن‪ ،‬املعــروف باالســم التجــاري‬
‫سوبوكسـ�ون‪ .‬ينسـ�ب كريـ�س الفضـ�ل إىل البوبرينورفـين يف إنقـ�اذ حياتـ�ه‪.‬‬

‫بعــد عامــن مــن االســتقرار يف البوبرينورفــن‪ ،‬قــرر كريــس القيــام‬


‫بمحاولــة أخــرة للعــودة إىل ســتانفورد‪ .‬يف عــام ‪ ،2013‬اســتأجر رسيـ ًـرا يف‬
‫مقطــورة منزليــة مــن رجــل صينــي مســن‪ .‬مل يســتطع حتمــل أي يشء آخــر‬
‫ماديـ� ًا‪ .‬يف شـ�هره األول يف احلـ�رم اجلامعـ�ي‪ ،‬جـ�اء إ ّيل باح ًثـ�ا عـ�ن املسـ�اعدة‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬وافقت عىل وصف البوبرينورفني لكريس‪.‬‬

‫بعــد ثــاث ســنوات ختــرج مــع مرتبــة الــرف واســتمر يف احلصــول‬


‫عــى درجــة الدكتــوراه‪ .‬اتضــح أن أفــكاره «الغريبــة» كانــت مناســبة متا ًمــا‬
‫للمختـبر‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2017‬تــزوج مــن صديقتــه‪ .‬كانــت تعــرف عــن ماضيــه وفهمت‬
‫ســبب تناولــه البوبرينورفــن‪ .‬كانــت تشــعر باألســف حيالــه أحيانًــا‪،‬‬
‫خصوصــ ًا حيــال «افتقــاره اآليل للعاطفــة»‪ ،‬وافتقــاره الظاهــر للغضــب‬
‫عندمــا يكــون هنــاك مــا يــرر الغضــب‪.‬‬

‫لكــن يف األســاس‪ ،‬كانــت احليــاة جيــدة‪ .‬مل يعــد كريــس غار ًقــا يف الرغبــة‬

‫‪174‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الشــديدة والغضــب والعواطــف األخــرى التــي ال تطــاق‪ .‬أمــى أيامــه يف‬


‫املختــر والعــودة إىل املنــزل بعــد العمــل لرؤيــة زوجتــه‪ .‬ورسعــان مــا كانــوا‬
‫يتوقعـ�ون طفلهـ�م األول‪.‬‬

‫ذات يــوم مــن عــام ‪ ،2019‬قلــت لكريــس خــال إحــدى جلســاتنا‬


‫الشــهرية‪« ،‬تبــدو أن أمــورك جيــدة وحياتــك مســتقرة‪ ،‬وقــد كنــت لفــرة‬
‫طويلــة حتــت العــاج‪ ،‬هل فكــرت يف حماولــة إيقــاف عــاج البوبرينورفني؟»‬

‫كانــت إجابتــه قطعيــة‪« .‬ال أريــد أبــدً ا التخــي عــن البوبرينورفــن‪ .‬كان‬
‫مثــل النــور الــذي أضــاء طريقــي‪ .‬مل يمنعنــي فقــط مــن تعاطــي اهلريويــن‪.‬‬
‫بــل أعطــى جســدي شــي ًئا أحتاجــه ومل أمتكــن مــن العثــور عليــه يف أي مــكان‬
‫آخــر»‬

‫كثــرا فيــا قالــه كريــس يف ذلــك اليــوم‪ ،‬حــول أن‬


‫ً‬ ‫لقــد فكــرت‬
‫البوبرينورفـين قـ�دم لـ�ه شـ�ي ًئا مل يتمكـ�ن مـ�ن العثـ�ور عليـ�ه يف أي مـ�كان آخـ�ر‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫األدوية الستعادة مستوى التوازن‬

‫هــل أدى تعاطــي املخــدرات لفــرات طويلــة إىل كــر ميــزان األمل ‪-‬‬
‫اللــذة لديــه لدرجــة أنــه ســيحتاج إىل املــواد األفيونيــة لبقيــة حياتــه فقــط‬
‫ليشــعر بأنــه «طبيعــي»؟ ربــا تفقــد أدمغــة بعــض النــاس املرونــة الالزمــة‬
‫الســتعادة التــوازن‪ ،‬حتــى بعــد االمتنــاع عــن التعاطــي لفــرة طويلــة‪ .‬ربــا‬
‫حتــى بعــد تراجــع نظــام التنظيــم الــذايت‪ ،‬يظــل التــوازن مائـ ً‬
‫ا بشــكل دائــم‬
‫إىل جانــب األمل‪ .‬أم أن كريــس كان يقــول إن املــواد األفيونيــة صححــت‬
‫خلـ ًـا كيميائ ًيــا ولــد بــه (رســم رقــم ‪)16‬‬

‫التة‬
‫شوكو الجتماعي‬
‫لتواصل ا‬
‫وسائل ا‬
‫األلعاب‬
‫التسوق‬
‫االباحية‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫يف التســعينيات‪ ،‬حــن كنــت أعمــل طبيبــة مقيمــة يف كليــة الطــب‪،‬‬


‫تعلمــت أن األشــخاص الذيــن يعانــون مــن االكتئــاب والقلــق ونقــص‬
‫االنتبــاه والتشــوهات املعرفيــة ومشــاكل النــوم‪ ،‬ومــا إىل ذلــك لدهيــم أدمغــة‬
‫ال تعمــل بالطريقــة التــي مــن املفــرض أن تعمــل هبــا‪ ،‬متا ًمــا مثــل مــرىض‬

‫‪176‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الســكري‪ ،‬لدهيــم بنكريــاس ال يقــوم بإفــراز مــا يكفــي مــن األنســولني‪.‬‬


‫لذلــك تنطــوي وظيفتــي‪ ،‬وف ًقــا هلــذه النظريــة‪ ،‬عــى أن أقــوم بوصــف العالج‬
‫الــذي حيــل حمــل املــادة الكيميائيــة املفقــودة حتــى يتمكــن النــاس مــن احليــاة «‬
‫بصــورة طبيعيــة»‪ .‬تــم نــر هــذه الرســائل عــى نطــاق واســع وتــم الرتويــج‬
‫ـورا متقبـ ًـا لــدى األطبــاء‬
‫هلــا بقــوة مــن قبــل صناعــة األدويــة‪ ،‬ووجــدت مجهـ ً‬
‫واملس��تهلكني م��ن امل�رـىض ع�لى ح��د س��واء‪ .‬أو ربــا كان كريــس يقــول شــي ًئا‬
‫خمتل ًفــا‪.‬‬

‫ربــا كان يقــول‪ :‬إن البوبرينورفــن عــوض عــن عجــز ليــس يف دماغــه‪،‬‬
‫ولكــن يف العــامل‪ .‬ربــا خــذل العــامل كريــس‪ ،‬وكان البوبرينورفــن أفضــل‬
‫طريقــة مكنتـ�ه مـ�ن التكيـ�ف مـ�ع العـ�امل‪.‬‬

‫ســواء كانــت املشــكلة يف دمــاغ كريــس أو يف العــامل‪ ،‬ســواء كانــت نامجــة‬


‫عــن تعاطــي املخــدرات لفــرات طويلــة أو مشــكلة ولــد هبــا‪ ،‬فإليــك بعــض‬
‫األشــياء التــي أقلــق بشــأهنا يف اســتخدام األدويــة للضغــط عــى جانــب اللــذة‬
‫مـ�ن التـ�وازن‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬أي دواء يضغط عىل جانب اللذة لديه القابلية عىل اإلدمان‪.‬‬

‫ديفيــد‪ ،‬الطالــب اجلامعــي الــذي كان متعلقــ ًا باملنشــطات املوصوفــة‪،‬‬


‫هــو دليــل حــي عــى أن احلصــول عــى املنشــطات مــن الطبيــب حلالــة طبيــة‬
‫مشــخصة ال يمنــح املناعــة ملشــاكل االعتــاد واإلدمــان‪ .‬املنشــطات املوصوفة‬
‫هــي املكافــئ اجلزيئــي‪ ،‬للميتامفيتامــن الــذي يــروج يف الشــارع (اجلليــد‪،‬‬
‫الرسعــة‪ ،‬الكرنــك‪ ،‬كريســتينا‪ ،‬نــو ســنوز‪ ،‬ســكويب ســنكس)‪ .‬إهنــا تســبب‬

‫‪177‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫موجــة مــن الدوبامــن يف مســار مكافــأة الدمــاغ و «لدهيــا احتامليــة عاليــة‬


‫لإلسـ�اءة»‪ ،‬وهـ�و اقتبـ�اس مبـ�ارش مـ�ن حتذيـ�ر إدارة الغـ�ذاء والـ�دواء ألديـ�رال‪.‬‬

‫ثان ًيــا‪ :‬مــاذا لــو مل تعمــل هــذه األدويــة بالطريقــة التــي مــن املفــرض‬
‫أن تعمــل هبــا‪ ،‬أو األســوأ مــن ذلــك‪ ،‬جتعــل األعــراض النفســية أســوأ‬
‫عــى املــدى الطويــل؟ عــى الرغــم مــن أن البوبرينورفــن كان يعمــل لــدى‬
‫كريــس‪ ،‬إال أن االســتخدام طويــل األمــد لألدويــة عاليــة التأثــر مــن الناحيــة‬
‫العقليــة‪ ،‬قــد يكــون هلــا أثــر ســلبي عــى الصحــة العامــة‪ ،‬خصوصـ ًا أن هنــاك‬
‫أدلــة علميــة عــى ذلــك‪.‬‬

‫عــى الرغــم مــن الزيــادات الكبــرة يف التمويــل يف أربــع دول ذات‬


‫مــوارد عاليــة (أســراليا وكنــدا وإنجلــرا والواليــات املتحــدة) لألدويــة‬
‫النفس��ية مث��ل مض��ادات االكتئــاب (ب��روزاك) ومضـ�اد القلـ�ق (زاناكـ�س)‬
‫واملنوم��ات (امبيــان)‪ ،‬إال أنــه مل ينخفــض انتشــار أعــراض اضطــراب املــزاج‬
‫والقلــق يف هــذه البلــدان منــذ (‪.)2015 - 1990‬‬

‫تســتمر هــذه النتائــج حتــى عنــد التحكــم يف الزيــادات يف عوامــل‬


‫اخلطــر لألمــراض العقليــة‪ ،‬مثــل الفقــر والصدمــات‪ ،‬وحتــى عنــد دراســة‬
‫املـ�رض العقـلي احلـ�اد‪ ،‬مثـ�ل الفصـ�ام‪.‬‬

‫قــد يعــاين املــرىض الذيــن يعانــون مــن القلــق واألرق والذيــن يتناولــون‬
‫البنزوديازيبــن (زاناكــس وكلونوبــن) وغريهــا مــن املــواد املنومــة واملهدئــة‬
‫يوم ًيـ�ا ألكثـ�ر مـ�ن شـ�هر مـ�ن القلـ�ق واألرق الشـ�ديد‪.‬‬

‫املــرىض الذيــن يعانــون مــن األمل والذيــن يتناولــون املــواد األفيونيــة‬

‫‪178‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يوم ًيــا ألكثــر مــن شــهر معرضــون خلطــر متزايــد ليــس فقــط إلدمــان املــواد‬
‫أيضــا لتفاقــم األمل‪ .‬كــا ذكرنــا ســاب ًقا‪ ،‬هــذه هــي العمليــة‬
‫األفيونيــة‪ ،‬ولكــن ً‬
‫التــي تســمى فــرط األمل الناجــم عــن املــواد األفيونيــة‪ ،‬أي أن املــواد األفيونيــة‬
‫تزيـ�د األمل سـ�و ًءا مـ�ع اجلرعـ�ات املتكـ�ررة‪.‬‬

‫األدوي��ة مث��ل أديــرال وريتل�ين املوصوفــة الضطــراب نقــص االنتبــاه‬


‫تعــزز الذاكــرة واالهتــام عــى املــدى القصــر‪ ،‬ولكــن هنــاك القليــل مــن‬
‫األدلــة أو ال يوجــد دليــل عــى حتســن اإلدراك املعقــد عــى املــدى الطويــل‪،‬‬
‫أو تعزيـ�ز القـ�درات للحصـ�ول عـلى املنـ�ح الدراسـ�ية‪ ،‬أو الدرجـ�ات األعـلى‪.‬‬

‫كــا كتبــت عاملــة النفــس يف الصحــة العامــة جريتشــن ليفيفــر واتســون‬


‫وزمالؤهــا املشــاركون أن عقــار فــرط احلركــة وتشــتت االنتبــاه أصبــح يســاء‬
‫اســتخدامه يف اجلامعــات األمريكيــة‪« ،‬تشــر األدلــة اجلديــدة املقنعــة إىل أن‬
‫العــاج الدوائــي الضطــراب فــرط احلركــة ونقــص االنتبــاه مرتبــط بتدهــور‬
‫األداء األكاديمــي واالجتامعــي والعاطفــي»‪.‬‬

‫تظهــر البيانــات احلديثــة أنــه حتــى مضــادات االكتئــاب‪ ،‬التــي كان‬


‫ُيعتقــد ســاب ًقا أهنــا ليســت «قابلــة لالعتيــاد ومــن ثــم اإلدمــان»‪ ،‬قــد تــؤدي‬
‫إىل التحمــل واالعتــاد‪ ،‬وربــا جتعــل االكتئــاب أســوأ عــى املــدى الطويــل‪،‬‬
‫وهــي ظاهــرة تســمى خلــل االنزعــاج الدائــم‪.‬‬

‫إىل جانــب مشــكلة اإلدمــان ومســألة مــا إذا كانــت هــذه األدوية تســاعد‬
‫أم ال‪ ،‬فقــد ابتليــت بســؤال أعمــق‪ :‬مــاذا لــو تســبب تنــاول املؤثــرات العقليــة‬
‫يف فقــدان بعــض اجلوانــب األساســية إلنســانيتنا؟‬

‫‪179‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف عــام ‪ ،1993‬نــر الطبيــب النفــي الدكتــور بيــر كرامــر كتابــه الرائــد‬
‫االســتامع إىل بــروزاك‪ ،‬والــذي جــادل فيــه بــأن مضــادات االكتئــاب جتعــل‬
‫النــاس بحــال «أفضــل مــن جيــد»‪ .‬لكــن مــاذا لــو أخطــأ كرايمــر؟ مــاذا‬
‫لــو جتعلنــا املؤثــرات العقليــة بحــال ســيئة بــدالً مــن جعلنــا أفضــل حــاالً؟‬
‫لقــد كان لــدي العديــد مــن املــرىض عــى مــر الســنني‪ ،‬الذيــن أخــروين أن‬
‫أدويتهــم النفســية‪ ،‬بينــا تقــدم الراحــة قصــرة املــدى مــن املشــاعر املؤملــة‪،‬‬
‫أيضــا مــن قدرهتــم عــى جتربــة جمموعــة كاملــة مــن املشــاعر‪ ،‬وخاصــة‬
‫حتــد ً‬
‫املشـ�اعر القويـ�ة مثـ�ل احلـ�زن والرهبـ�ة‪.‬‬

‫أخربتنــي إحــدى املريضــات التــي كانــت ختضــع للعــاج بمضــادات‬


‫االكتئــاب لفــرة طويلــة‪ ،‬أهنــا مل تعــد تبكــي بعد مشــاهدة إعالنــات األوملبياد‬
‫التجاريــة املؤثــرة‪ .‬وضحكــت عندمــا حتدثــت عــن ذلــك‪ ،‬لقــد فقــدت‬
‫اجلانــب العاطفــي مــن شــخصيتها مــن أجــل الراحــة مــن االكتئــاب والقلــق‪.‬‬
‫ولكــن عندمــا مل تســتطع البــكاء يف جنــازة والدهتــا‪ ،‬كان التــوازن بالنســبة هلــا‬
‫قــد انقلــب‪ .‬قامــت بالتوقــف عــن تنــاول مضــادات االكتئــاب وبعــد وقــت‬
‫قصــر عانــت مــن اجتيــاح شــديد للمشــاعر والعواطــف بصــورة واســعة‪،‬‬
‫بــا يف ذلــك املزيــد مــن االكتئــاب والقلــق‪ .‬قــررت أهنــا تســتحق أن تشــعر‬
‫باملشـ�اعر السـ�لبية واإلحباطـ�ات‪ ،‬لتكـ�ون أكثـ�ر إنسـ�انية‪.‬‬

‫متكنــت مريضتــي التــي بــدأت يف التقليــل التدرجيــي مــن اجلرعــات‬


‫العالي��ة م��ن أوكســيكونتني‪-‬التي تناولتهــا ألكثــر مــن عقــد مــن األمل املزمــن‪-‬‬
‫مــن التوقــف بشــكل هنائــي عــن العــاج‪ ،‬وحــن جــاءت لرؤيتــي بعــد أشــهر‬
‫مــع زوجهــا‪ .‬كانــت املــرة األوىل التــي أقابلــه فيهــا‪ .‬وكان عمومــ ًا يشــعر‬

‫‪180‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫باالســتياء مــن األطبــاء الذيــن قامــوا بعــاج زوجتــه عــى مــدى ســنوات‬
‫طويلــة‪ ،‬قــال‪« :‬حــن كانــت زوجتــي تتنــاول أقــراص أوكــي توقفــت عــن‬
‫االســتامع إىل املوســيقى واالســتمتاع هبــا‪ .‬اآلن أصبحــت تســتمتع باملوســيقى‬
‫مـ�رة أخـ�رى‪ .‬بالنسـ�بة يل أشـ�عر وكأننـ�ي اسـ�تعدت زوجتـ�ي»‪.‬‬

‫لقــد مــررت بتجــاريب اخلاصــة مــع األدويــة العقليــة‪ .‬لقد كنــت مضطربة‬
‫ورسيعــة االنفعــال يف مرحلــة الطفولــة‪ ،‬كنــت‪ ،‬ألمــي طفلــة يصعــب تربيتها‪.‬‬
‫ـعرت‬
‫لقــد كافحــت ملســاعديت يف ختفيــف حــدة مزاجــي‪ ،‬ويف أثنــاء ذلــك شـ ْ‬
‫بالســوء جتــاه نفســها كأم‪ ،‬أو عــى األقــل هــذا هــو تفســري للــايض‪ .‬تعــرف‬
‫أيضــا‪،‬‬
‫بأهنــا فضلــت أخــي؛ ألنــه ســهل التعامــل ومطيــع‪ .‬لقــد فضلتــه أنــا ً‬
‫هــو مــن قــام برتبيتــي فعل ًيــا عندمــا رفعــت والــديت يدهيــا عــن التعامــل معــي‬
‫وهـ�ي حمبطـ�ة منـ�ي‪.‬‬

‫يف العرشين�اـت م��ن عمـ�ري‪ ،‬ب�دـأت يف استــخدام ب�رـوزاك بســبب‬


‫التهيــج والقلــق املزمــن منخفــض الدرجــة الــذي تــم تشــخيصه عــى أنــه‬
‫«اكتئــاب غــر نمطــي»‪ .‬شــعرت بتحســن عــى الفــور‪ .‬يف الغالــب‪ ،‬توقفــت‬
‫عــن طــرح األســئلة الكبــرة‪ :‬مــا هــو هدفنــا؟ هــل لدينــا إرادة حــرة؟ ملــاذا‬
‫نعــاين؟ هــل هنــاك إلــه؟ بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬متكنــت مــن التغلــب عــى هــذه‬
‫األســئلة بمســاعدة العــاج‪.‬‬

‫أيضــا‪ ،‬ألول مــرة يف حيــايت‪ ،‬أصبحنــا أنــا وأمــي يف حالــة مــن التوافــق‪.‬‬
‫ً‬
‫ا بســبب العــاج‪ ،‬يف حــن‬ ‫كانــت مســتمتعة بوجــودي معهــا وأنــا أكثــر تفاعـ ً‬
‫أننــي اســتمتعت بقبوهلــا يل‪.‬‬

‫عندمــا قمــت بإيقــاف بــروزاك بعــد بضــع ســنوات حتســبا ملحاولــة‬

‫‪181‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫احلمــل‪ ،‬عــدت إىل نفــي القديمــة‪ :‬غريبــة األطــوار‪ ،‬كثــرة التســاؤالت‪،‬‬


‫أشــعر بقلــق دائــم تقري ًبــا‪ .‬أصبحنــا أنــا وأمــي عــى خــاف مــرة أخــرى‪.‬‬
‫حتــى أن الغرفــة التــي نجتمــع فيهــا تــكاد ال حتتوينــا‪.‬‬

‫عالقتنــا بعــد عقــود أفضــل بشــكل طفيــف‪ .‬نحــن نكــون أفضــل عندمــا‬
‫نتفاعـ�ل أقـ�ل‪ .‬ممـ�ا جيعلنـ�ي حزينـ�ة‪ ،‬ألننـ�ي أحـ�ب أمـ�ي وأعلـ�م أهنـ�ا حتبنـ�ي‪.‬‬

‫لكننــي لســت نادمــة عــى تــرك الــروزاك‪ .‬شــخصيتي غــر بدونــه‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن أهنــا ليســت مناســبة ألمــي‪ ،‬إال أهنــا ســمحت يل بفعــل أشــياء مل‬
‫أكـ�ن ألفعلهـ�ا بخـلاف ذلـ�ك‪.‬‬

‫اليــوم‪ ،‬أنــا بخــر وحــال جيــدة كــوين متشــككة وقلقــة إىل حــد مــا‬
‫ومكتئبــة قلي ـاً‪ .‬أنــا شــخص بحاجــة إىل مواجهــة حتــدي يشء للعمــل مــن‬
‫أجلــه أو حماربتــه‪ .‬لــن أقلــل نفــي لتناســب العــامل‪ .‬هــل جيــب عــى أي منــا‬
‫ذلــك؟‬

‫يف عــاج أنفســنا للتكيــف مــع العــامل‪ ،‬مــا نــوع العــامل الــذي نســتقر‬
‫عليــه؟ حتــت ســتار عــاج األمل واألمــراض العقليــة‪ ،‬هــل نجعــل رشائــح‬
‫كبــرة مــن الســكان غــر مبالــن مــن الناحيــة الكيميائيــة احليويــة بموقــف‬
‫غــر حمتمــل؟ واألســوأ مــن ذلــك‪ ،‬هــل أصبحــت األدويــة املؤثــرة عــى‬
‫النفــس وســيلة للرقابــة االجتامعيــة‪ ،‬وخاصــة للفقــراء والعاطلــن عــن‬
‫العمــل واملحرومــن مــن حــق التصويــت؟‬

‫يتــم وصــف األدويــة النفســية يف كثــر مــن األحيــان وبكميــات أكــر‬


‫للفقـ�راء‪ ،‬وخاصـ�ة األطفـ�ال الفقـ�راء‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫وف ًقــا لبيانــات عــام ‪ 2011‬املركــز الوطنــي لإلحصــاءات الصحيــة التابــع‬


‫ملراكــز الســيطرة عــى األمــراض والوقايــة منهــا‪ ،‬تنــاول ‪ 7.5‬باملائــة مــن‬
‫األطفــال األمريكيــن الذيــن تــراوح أعامرهــم بــن ســتة وســبعة عــر عا ًمــا‬
‫دوا ًء موصو ًفــا «للصعوبــات العاطفيــة والســلوكية»‪ .‬كان األطفــال الفقــراء‬
‫أكثــر عرضــة لتنــاول األدويــة النفســية مــن أولئــك الذيــن ال يعيشــون يف فقــر‬
‫(‪ % 9.2‬مقابــل ‪ .)% 6.6‬كان األوالد أكثــر عرضــة مــن الفتيــات للعــاج‪.‬‬
‫كان البيـ�ض غـير الالتينيـين أكثـ�ر عرضـ�ة مـ�ن األشـ�خاص امللونـين للعـلاج‪.‬‬

‫بن��ا ًء ع�لى اس��تقراء بيانــات جورجياــ ميديكيـ�د لبقيــة البــاد‪ ،‬قــد يتلقــى‬
‫م��ا يص��ل إىل ع�شرة آالف طف��ل صغ�ير أدوي��ة نفس��ية مث��ل ريتال�ين‪.‬‬

‫كــا كتــب الطبيــب النفــي إد ليفــن فيــا يتعلــق بمشــكلة اإلفــراط‬


‫يف التشــخيص واإلفــراط يف العــاج للشــباب األمريكــي‪ ،‬خصوصــ ًا بــن‬
‫الفقــراء‪« :‬يف حــن أن امليــل إىل الغضــب جيــب أن ينطــوي‪ ،‬كــا هــو احلــال‬
‫مــع مجيــع أنــواع الســلوك‪ ،‬عــى عوامــل بيولوجيــة‪ ،‬إال أنــه يعكــس بشــكل‬
‫أكثــر داللــة رد فعــل املريــض عــى املعاملــة الســلبية‪ ،‬جتــاه معاملــة ضــارة‬
‫وغــر إنســانية»‪.‬‬

‫وال تقت�صر هـ�ذه الظاه��رة علـى الوالياــت املتحــدة‪ .‬حللــت دراســة‬


‫أجريــت يف الســويد عــى مســتوى البــاد‪ ،‬معــدالت وصــف األدويــة‬
‫النفســية املختلفــة‪ ،‬بنــا ًء عــى مــؤرشات مــا ســموه «حرمــان األحيــاء»‬
‫(مــؤرش التعليــم‪ ،‬والبطالــة‪ ،‬واملســاعدة االجتامعيــة)‪ .‬بالنســبة لــكل فئــة مــن‬
‫األدويــة النفســية‪ ،‬وجــدوا أن وصــف األدويــة النفســية زاد مــع انخفــاض‬

‫‪183‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الوضــع االجتامعــي واالقتصــادي للحــي‪ .‬اســتنتاجهم‪« :‬تشــر هــذه النتائــج‬


‫إىل أن «حرمــان األحيــاء» مرتبــط بوصفــة األدويــة النفســية»‪.‬‬

‫أيضــا بشــكل غــر متناســب للفقــراء‪.‬‬


‫يتــم وصــف املــواد األفيونيــة ً‬
‫وف ًقــا لــوزارة الصحــة واخلدمــات اإلنســانية األمريكيــة‪« ،‬يرتبــط الفقــر‬
‫ومعــدالت البطالــة ونســبة العاملــة إىل الســكان ارتبا ًطــا وثي ًقــا بانتشــار املــواد‬
‫األفيونيــة املوصوفــة مــع اختــاذ اإلجــراءات الوقائيــة (وصفــات مقيــدة)‪.‬‬
‫يف املتوســط‪ ،‬مــن املرجــح أن يكــون لــدى املقاطعــات ذات التوقعــات‬
‫االقتصاديــة األســوأ معــدالت أعــى مــن وصفــات األدويــة األفيونيــة‪،‬‬
‫واالستشــفاء املرتبــط باملــواد األفيونيــة‪ ،‬والوفيــات النامجــة عــن اجلرعــات‬
‫الزائـ�دة مـ�ن املخـ�درات»‪.‬‬

‫يت�مـ وص��ف مس��كنات األمل األفيونيةــ لألمريكييـن يف برنام��ج ميديكيد‪،‬‬


‫وهــو تأمــن صحــي ممــول احتاد ًيــا ألفقــر األشــخاص وأكثرهــم بؤســ ًا‪،‬‬
‫بمعــدالت تشــكل الضعــف بالنســبة ملعــدل املــرىض غــر املســتفيدين مــن‬
‫برنام��ج ميديكي�دـ‪ ،‬يم��وت م��رىض ميدكيــد مــن املــواد األفيونيــة بثالثــة إىل‬
‫س��تة أضعاــف م�نـ مع�دـل امل�رـىض غ�ير املسـ�تفيدين م��ن برنامـ�ج ميديكيــد‪.‬‬

‫حتــى األدويــة مثــل عــاج البوبرينورفــن‪ ،‬وهــو مــا كنــت أصفــه‬


‫لكريــس لعــاج إدمــان املــواد األفيونيــة‪ ،‬قــد تشــكل نو ًعــا مــن «التخــي‬
‫اإلكلينيكـ�ي» عندمـ�ا ال تتـ�م معاجلـ�ة املحـ�ددات النفسـ�ية واالجتامعيـ�ة‬
‫باملثــل‪ .‬كــا كتبــت ألكســندريا هاتــر وزمالؤهــا يف جملــة اســتخدام األدويــة‬
‫املخــدرة وإســاءة اســتخدامها‪« :‬بــدون االهتــام باالحتياجــات األساســية‬
‫للمــرىض الذيــن ليــس لدهيــم امتيــاز عرقــي وطبقــي‪ ،‬تصبــح األدويــة التــي‬

‫‪184‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تســاعد عــى العــاج (مثــل البوبرينوفــن)‪ ،‬شــك ً‬


‫ال مــن أشــكال اإلمهــال‬
‫املؤســي والعنــف اهليــكيل بــدالً مــن أن تســاعدهم عــى حتريــر أنفســهم‪،‬‬
‫بتقديــم العــاج املالئــم»‪.‬‬

‫يتخي��ل فيل��م اخلي��ال العلم��ي ‪« Serenity‬صفاــء» الــذي تــم إنتاجــه‬


‫عــام ‪ ،2005‬مــن إخــراج جــوس ويــدون‪ ،‬عا ًملــا مســتقبل ًيا جيــري فيــه القــادة‬
‫الوطنيــون جتربــة كبــرة‪ :‬حيــث قامــو ًا بتحصــن (لقــاح) ســكان كوكــب‬
‫بأكملــه ضــد اجلشــع واحلــزن والقلــق والغضــب واليــأس عــى أمــل حتقيــق‬
‫حضـ�ارة السـلام والوئـ�ام‪.‬‬

‫يســافر مــال‪ ،‬وهــو طيــار خمــادع وبطــل الفيلــم وقبطــان ســفينة الفضــاء‬
‫سـيرينيتي‪ ،‬مـ�ع طاقمـ�ه إىل الكوكـ�ب لالستكشـ�اف‪ .‬بـ�دالً مـ�ن العثـ�ور عـلى‬
‫املدينــة الفاضلــة‪ ،‬وجــد جث ًثــا دون تفســر جاهــز ملوهتــم‪ .‬مــات كوكــب‬
‫بأكملــه يف حالــة راحــة وصمــت‪ ،‬مســتلقني يف أرسهتــم وأرائكهــم‪ ،‬رقــود ًا‬
‫عـلى مكاتبهـ�م‪ .‬يف النهايــة‪ ،‬حيــر مــال وطاقمــه األمــر‪ :‬الطفــرة اجلينيــة‬
‫حرمتهـ�م مـ�ن اجلـ�وع ألي يشء‪.‬‬

‫مثــل فئــران املختــر املســتنفدة للدوبامــن والتــي تتضــور جو ًعــا حتــى‬


‫املــوت بــدالً مــن أن تتحــرك بضــع ســنتيمرتات للحصــول عــى الطعــام‪،‬‬
‫مـ�ات هـ�ؤالء البـشر بسـ�بب نقـ�ص الرغبـ�ة‪.‬‬

‫مــن فضلــك ال تســئ فهمــي‪ .‬يمكــن أن تكــون هــذه األدويــة أدوات‬


‫منقــذة للحيــاة وأنــا ممتنــة لوجودهــا يف املامرســة اإلكلينكيــة‪ .‬لكــن هنــاك‬
‫تكلفــة للتخلــص مــن كل نــوع مــن أنــواع املعانــاة اإلنســانية‪ ،‬وكــا ســنرى‪،‬‬
‫هنـ�اك مسـ�ار بديـ�ل قـ�د يعمـ�ل بشـ�كل أفضـ�ل‪ :‬تبنـ�ي األمل‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪186‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اجلزء الثالث‬

‫السعي وراء األمل‬

‫‪187‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الفصل السابع‬
‫الضغط عىل جانب األمل‪ :‬حتفيز األمل‬

‫جلــس مايــكل أمامــي‪ ،‬كان يرتــدي قميص ـ ًا وبنطــاال مــن اجلينــز وبــدا‬
‫وســاحرا بــا عنــاء‪ ،‬وكانــت جاذبيتــه الطبيعيــة هــي‬
‫ً‬ ‫وســياًم‬
‫ً‬ ‫مرتاحــ ًا‪ .‬كان‬
‫هديتــه وعبئــه‪.‬‬

‫قــال‪« :‬أنــا شــخص حمــب لالهتــام ولفــت األنظــار»‪« .‬أي مــن‬


‫أصدقائــي ســيخربك بذلــك»‪.‬‬

‫كانــت حيــاة مايــكل أشــبه بالقصــص اخلرافيــة يف وادي الســيليكون‪.‬‬


‫اســتطاع بعــد خترجــه مــن الكليــة‪ ،‬كســب املاليــن يف جمــال العقــارات‪.‬‬
‫يف ســن اخلامســة والثالثــن‪ ،‬كان ثر ًيــا بشــكل أســطوري‪ ،‬وحيســد عــى‬
‫ومتزوجــا مــن املــرأة التــي أحبهــا ويعيشــان بســعادة‪ .‬لكــن كانــت‬
‫ً‬ ‫وســامته‪،‬‬
‫لديــه حيــاة أخــرى ستكشــف قري ًبــا كل مــا قــام بــه مــن أجلهــا‪.‬‬

‫«لقــد كنــت مهووسـ ًا بالطاقــة‪ ،‬أبحــث عــن أي يشء يعطيني دفعــة‪ .‬كان‬
‫الكوكاي�ين بدهي��ي بالنســبة يل‪ ،‬لكــن الكحــول قــدم يل ذلــك أيضـ ًا‪ ،‬أعطــاين‬
‫قــدر ًا مــن االبتهــاج والكثــر مــن الطاقــة‪ ،‬منــذ املــرة األوىل التــي جربتــه فيهــا‪.‬‬
‫أخــرت نفــي أننــي ســأكون ذلــك الرجــل الــذي يمكنــه تعاطــي الكوكايــن‬

‫‪188‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بشــكل ترفيهــي دون أن يتســبب يل يف مشــاكل‪ .‬يف ذلــك الوقــت‪ ،‬كنــت أؤمن‬
‫بذلــك ح ًقــا»‪ .‬توقــف وابتســم‪« .‬كان جيــب أن أعــرف»‪.‬‬

‫«عندمــا أخربتنــي زوجتــي أن معاجلــة إدمــاين ســتكون الطريقــة‬


‫الوحيــدة إلنقــاذ زواجنــا‪ ،‬مل أتــردد حتــى‪ ،‬أردهتــا‪ ،‬أردت إنقــاذ زواجنــا‪ .‬كان‬
‫التعــايف هــو اخليــار الوحيــد»‪.‬‬

‫اإلقــاع عــن اإلدمــان‪ ،‬بالنســبة ملايــكل‪ ،‬مل يكــن اجلــزء الصعــب‪ .‬كان‬
‫اجلــزء األكثــر صعوبــة هــو معرفــة مــا جيــب عليــه القيــام بــه بعــد ذلــك‪ .‬بعــد‬
‫االمتنــاع عــن الكوكايــن والكحــول‪ ،‬غمرتــه كل املشــاعر الســلبية التــي كان‬
‫خيفيهــا باملخــدرات‪ .‬عندمــا مل يكــن يشــعر باحلــزن والغضــب واخلجــل‪ ،‬مل‬
‫يكــن يشــعر بــأي شــعور عــى اإلطــاق‪ ،‬والــذي ربــا كان أســوأ‪ .‬ثــم صادف‬
‫شـ�يئ ًا أعطـ�اه األمـ�ل‪.‬‬

‫قــال يل‪« :‬يف املــرة األوىل التــي حــدث فيهــا ذلــك‪ ،‬كان بصــورة‬
‫عرضيــة‪ .‬كنــت أســتيقظ يف الصبــاح ألخــذ دروس التنــس‪ ،‬طريقــة إلهلــاء‬
‫نفــي يف األيــام األوىل لالمتنــاع عــن املخــدر‪ .‬لكــن بعــد ســاعة مــن التنــس‬
‫واالســتحامم‪ ،‬مــا زلــت أتعــرق‪ .‬ذكــرت ذلــك ملــدرب التنــس اخلــاص يب‪،‬‬
‫واقــرح أن أجــرب االســتحامم باملــاء البــارد‪ .‬كان االســتحامم البــارد مؤ ًملــا‬
‫بعــض الــيء‪ ،‬ولكــن لثــوان فقــط حتــى اعتــاد جســدي عليــه‪ .‬عندمــا‬
‫خرجــت‪ ،‬شــعرت بحالــة جيــدة بشــكل مدهــش‪ ،‬وكأننــي تناولــت فنجــان‬
‫قهـ�وة جيـ�د‪.‬‬

‫«خــال األســبوعني التاليــن‪ ،‬بــدأت أالحــظ أن مزاجــي بعــد‬

‫‪189‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫االســتحامم البــارد كان أفضــل‪ .‬لقــد بحثــت يف العــاج بامليــاه البــاردة عــر‬
‫اإلنرتنــت ووجــدت أن هنــاك عــدد ًا كبــر ًا مــن األشــخاص يســتحمون‬
‫يائســا‪.‬‬
‫بميــاه بــاردة ومثلجــة‪ .‬بــدا األمــر جمنونًــا نو ًعــا مــا‪ ،‬لكننــي كنــت ً‬
‫حــذوت حذوهــم‪ ،‬انتقلــت مــن مرحلــة االســتحامم البــارد‪ ،‬إىل مــلء حوض‬
‫االســتحامم باملــاء البــارد وغمــر نفــي فيــه‪ .‬لقــد نجــح ذلــك بشــكل أفضــل‪،‬‬
‫لذلــك رفعــت مســتوى التحــدي‪ ،‬وأضفــت الثلــج إىل مــاء احلــوض خلفــض‬
‫درجــة احلــرارة‪ .‬مــن خــال القيــام بذلــك‪ ،‬يمكننــي احلصــول عــى درجــة‬
‫احلــرارة حتــى منتصــف اخلمســينات»‪.‬‬

‫«أصبــح روتينــي اليومــي هــو غمــر نفــي يف املــاء املثلــج ملــدة مخــس إىل‬
‫عــر دقائــق كل صبــاح ومــرة أخــرى قبــل النــوم مبــارشة‪ .‬لقــد فعلــت ذلــك‬
‫كل يــوم خــال الســنوات الثــاث منــذ إقالعــي عــن املخــدرات‪ .‬كانــت‬
‫مفت��اح ش��فائي»‪.‬‬

‫ســألت‪« :‬مــا هــو شــعورك‪ ،‬حــن تغمــر نفســك يف املــاء البــارد؟»‬


‫شــخصيا لــدي نفــور مــن املــاء البــارد‪ ،‬ولــن أســتطيع حتمــل درجــات احلرارة‬
‫هــذه لبضــع ثــوان‪.‬‬

‫«يف أول مخـ�س إىل ع�شر ثوــان‪ ،‬جسـ�دي يــرخ‪ :‬توقــف‪ ،‬أنــت تقتــل‬
‫نفسـ�ك‪ .‬إنـ�ه مـ�ؤمل إىل هـ�ذا احلـ�د»‪.‬‬

‫«أستطيع أن أختيل»‪.‬‬

‫لكنــي أقــول لنفــي إنــه حمــدد بوقــت‪ ،‬وهــو يســتحق ذلــك‪ .‬بعــد‬
‫الصدمــة األوليــة‪ ،‬أصبــح جلــدي خمــدر ًا‪ .‬بعــد خروجــي مبــارشة‪ ،‬أشــعر‬

‫‪190‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫باالبتهــاج‪ .‬إنــه بالضبــط مثــل املخــدرات‪ .‬تذكــرين بالنشــوة التــي كنــت‬


‫أحصــل عليهــا حــن أتنــاول الفايكوديــن بصــورة ترفيهيــة‪ .‬إنــه شــعور ال‬
‫يصــدق‪ .‬أشــعر بشــعور رائــع لســاعات»‪.‬‬

‫تارخييــ ًا‪ ،‬كان معظــم البــر يســتحمون باملــاء البــارد‪ .‬فقــط أولئــك‬
‫الذيــن يعيشــون بالقــرب مــن الينابيــع الســاخنة الطبيعيــة يمكنهم االســتمتاع‬
‫باســتحامم ســاخن بانتظــام‪ .‬ال عجــب أن النــاس يف ذلــك الوقــت ظلــوا أكثــر‬
‫قــذارة‪.‬‬

‫طــور اليونانيــون القدمــاء نظــام تدفئــة للحاممــات العامــة لكنهــم‬


‫اســتمروا يف الدعــوة الســتخدام املــاء البــارد لعــاج جمموعــة متنوعــة مــن‬
‫األمــراض‪ .‬يف عــام ‪ 1820‬روج مــزارع أملــاين ُيدعــى فينســينز بريســنيتز‬
‫الســتخدام املــاء املثلــج لعــاج مجيــع أنــواع االضطرابــات اجلســدية‬
‫والنفســية‪.‬‬

‫ذهــب إىل حــد حتويــل منزلــه إىل مصحــة للعــاج بامليــاه البــاردة‬
‫واملثلجــة‪ .‬منــذ ظهــور الســباكة والتدفئــة احلديثــة‪ ،‬أصبحــت احلاممــات‬
‫الســاخنة واالســتحامم بامليــاه الدافئــة هــي القاعــدة؛ لكــن الغمــر يف املــاء‬
‫مؤخــرا مــرة أخــرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫املثلــج أصبــح شــائ ًعا‬

‫يدع��ي رياضي��و محــل األثقــال أنــه يرسع مــن تعــايف العضالت‪ .‬ويســمى‬
‫«الــدش األســكتلندي»‪ ،‬أو «دش جيمــس بونــد» كــا مارســه جيمــس بونــد‬
‫يف روايــات إيــان فليمنــج ‪ ،007‬إذ حيظــى بشــعبية يف وقتنــا احلــايل‪ ،‬ويتكــون‬
‫مــن إهنــاء دش ســاخن بدقيقــة عــى األقــل مــن االســتحامم البــارد‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أصبــح معلمــو الغمــر يف امليــاه املثلجــة مثــل اهلولنــدي ويــم هــوف مــن‬
‫املشــاهري‪ ،‬هــو وآخــرون‪ ،‬وذلــك لقدرهتــم عــى غمــر أنفســهم لســاعات يف‬
‫درجــات حــرارة شــبه متجمــدة‪.‬‬

‫أجــرى العلــاء يف جامعــة تشــارلز يف بــراغ جتربــة بحثيــة‪ ،‬منشــورة يف‬


‫املجلــة األوروبيــة لعلــم وظائــف األعضــاء التطبيقــي‪ ،‬أجريــت التجربــة‬
‫عــى ‪ 10‬رجــال تطوعــوا لغمــر كامــل جســدهم مــا عــدا منطقــة الــرأس‪ ،‬يف‬
‫املــاء البــارد (‪ 14‬درجــة مئويــة) ملــدة ســاعة واحــدة‪ .‬بمعنــى أهنــم كانــوا عنــد‬
‫‪ 57‬درجــة فهرهنايــت‪.‬‬

‫تــم مجــع عينــات الــدم مــن املتطوعــن‪ ،‬أظهــر الباحثــون أن تركيــزات‬


‫الدوبامــن يف البالزمــا (الــدم) زادت بنســبة ‪ ،% 250‬وزادت تركيــزات‬
‫بالزمــا النورإبينفريــن بنســبة ‪ % 530‬نتيجــة الغمــر يف املــاء البــارد‪.‬‬

‫ارتفــع الدوبامــن بشــكل تدرجيــي وثابــت عــى مــدار احلــام البــارد‬


‫وظــل مرتف ًعــا ملــدة ســاعة بعــد ذلــك‪ .‬ارتفــع النورإبينفريــن بشــكل حــاد‬
‫يف أول ثالثــن دقيقــة‪ ،‬واســتقر يف الثالثــن دقيقــة األخــرة‪ ،‬وانخفــض‬
‫بنحــو الثلــث يف الســاعة التــي تلــت ذلــك‪ ،‬لكنــه ظــل مرتف ًعــا فــوق اخلــط‬
‫األســاس حتــى يف الســاعة الثانيــة بعــد احلــام‪ .‬حتملــت مســتويات الدوبامني‬
‫والنورإبينفريــن مــا هــو أبعــد مــن التحفيــز املــؤمل نفســه‪ ،‬وهــو مــا يفــر‬
‫ترصيــح مايــكل‪« ،‬بعــد خروجــي مبــارشة‪ .‬أشــعر بشــعور رائــع لســاعات»‪.‬‬

‫يف حــن تظهــر الدراســات األخــرى التــي تــدرس تأثــرات الغمــر‬


‫باملــاء البــارد عــى الدمــاغ بالنســبة للبــر واحليوانــات‪ ،‬ارتفاعــات مماثلــة‬

‫‪192‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يف الناقــات العصبيــة أحاديــة األمــن (الدوبامــن‪ ،‬النورإبينفريــن‪،‬‬


‫الســروتونني)‪ ،‬وهــي نفــس الناقــات العصبيــة التــي تنظــم اللــذة والتحفيــز‬
‫واملــزاج والشــهية والنــوم واليقظــة‪.‬‬

‫إىل جانــب الناقــات العصبيــة‪ ،‬ثبــت أن الــرد القــارس يعــزز نمــو‬


‫اخلالي��ا العصبيـ�ة لــدى احليوانــات‪ ،‬وهــو أمــر ملحــوظ للغايــة ألن اخلاليــا‬
‫العصبيــة معروفــة بتغيــر بنيتهــا املجهريــة اســتجابة لعــدد قليــل فقــط مــن‬
‫الظــروف‪.‬‬

‫درســت كريســتينا جــي فــون ديــر أوه وزمالؤهــا أدمغــة الســناجب‬


‫األرضيــة أثنــاء الســبات الشــتوي‪ ،‬حــن تنخفــض درجــات احلــرارة‬
‫األساســية والدماغيــة إىل ‪ 3–0.5‬درجــات مئويــة‪.‬‬

‫يف درجــات احلــرارة املتجمــدة‪ ،‬تبــدو اخلاليــا العصبيــة للســناجب‬


‫األرضيــة يف مرحلــة الســبات الشــتوي‪ ،‬مثــل األشــجار الضيقــة ذات‬
‫األغصــان القليلــة (االســتطالة) وأوراق أقــل (تشــعبات دقيقــة)‪ ،‬ومــع‬
‫ارتفــاع درجــة حــرارة الســنجاب حتــت األرض يف الســبات الشــتوي‪ ،‬تظهــر‬
‫اخلاليــا العصبيــة إعــادة نمــو ملحوظــة‪ ،‬مثــل غابــة نفضيــة يف ذروة الربيــع‪.‬‬

‫حتــدث إعــادة النمــو هــذه برسعــة‪ ،‬فهــي حتاكــي نــوع اللدونــة العصبيــة‬
‫التــي ال ُتــرى إال يف التطــور اجلنينــي‪.‬‬

‫كتــب مؤلفــو الدراســة عــن النتائــج التــي توصلوا إليهــا التــايل‪« :‬برهنت‬
‫الدراســة عــى أن التغيــرات اهليكليــة التــي حتــدث يف الدمــاغ أثنــاء الســبات‬
‫الشــتوي هــي مــن بــن أكثــر التغيــرات الدراماتيكيــة املوجــودة يف الطبيعــة‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف حــن أن االســتطالة التغصنيــة يمكــن أن تصــل إىل ‪ 114‬ميكرومــر يوم ًيــا‬
‫يف احلصــن لــدى جنــن قــرد الريســوس يف مراحــل نمــوه‪ ،‬فــإن الســبات‬
‫الشــتوي لــدى البالغــن يظهــر تغيــرات مماثلــة يف غضــون ســاعتني»‪.‬‬

‫***‬

‫إذن كان اكتشــاف مايــكل العــريض لفوائــد الغمــر يف املــاء املثلــج هــو‬
‫مثــال عــى كيــف أن الضغــط عــى جانــب األمل مــن التــوازن يمكــن أن يــؤدي‬
‫إىل نقيضــه ‪ -‬اللــذة‪ .‬عــى عكــس الضغــط عــى جانــب املتعــة‪ ،‬فــإن الدوبامني‬
‫الــذي يــأيت مــن األمل غــر مبــارش وربــا أكثــر ديمومــة‪ .‬إذن كيــف يعمــل؟‬

‫يــؤدي األمل إىل اللــذة عــن طريــق حتفيــز آليــات االســتتباب املنظمــة‬
‫للجســم‪ .‬يف هــذه احلالــة يتبــع حمفــز األمل األويل (غريملــن) بالقفــز عــى‬
‫جانــب اللــذة مــن التــوازن‪ .‬إن اللــذة التــي نشــعر هبــا هــي اســتجابة أجســامنا‬
‫الفســيولوجية الطبيعيــة واالنعكاســية لألمل‪(.‬رســم رقــم ‪)17‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫‪194‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫قــد يكــون كبــح شــهوات اجلســد مــن خــال الصيــام وجلــد الــذات‬
‫أحــد أســباب نشــوة مارتــن لوثــر‪ ،‬حتــى لــو كان ذلــك ألســباب دينيــة‪.‬‬

‫ومــع التعــرض املتقطــع لــأمل‪ ،‬يتــم ترجيــح نقطــة حتديــد املتعــة الطبيعيــة‬
‫لدينــا إىل جانــب اللــذة‪ ،‬بحيــث نصبــح أقــل عرضــة لــأمل وأكثــر قــدرة عــى‬
‫الشــعور باللــذة بمــرور الوقــت‪( .‬رســم رقــم ‪)18‬‬

‫اللذة‬ ‫األمل‬

‫يف أواخــر الســتينيات‪ ،‬أجــرى جمموعــة مــن العلــاء سلســلة مــن‬


‫التجــارب عــى الــكالب‪ ،‬وهــي جتــارب تتســم بقســوة كبــرة لــن ُيســمح هبــا‬
‫اليــوم‪ ،‬ولكــن قدمــت هــذه التجــارب معلومــات هامــة عــن اســتتباب تــوازن‬
‫الدمــاغ (أو تســوية التــوازن) ‪.‬‬

‫لقــد قــام الباحثــون بتوصيــل املخالــب اخللفيــة للكلــب بتيــار كهربائــي‪،‬‬


‫والحــظ الباحثــون التــايل‪« :‬بــدا الكلــب مرعو ًبــا خــال الصدمــات القليلــة‬
‫األوىل‪ ،‬وارتفــع صياحــه بذعــر وأصبــح يتلــوى مــن األمل‪ ،‬واتســع بؤبــؤ‬
‫عينيــه‪ ،‬هــذا باإلضافــة إىل جحــوظ العينــن‪ ،‬ووقــف شــعره واســتلقت أذنــاه‬
‫إىل الــوراء‪ ،‬ومــال ذيلــه بــن ســاقيه‪ .‬وقــام بالتبــول والتغــوط‪ ،‬إىل جانــب‬
‫العديــد مــن األعــراض األخــرى لنشــاط اجلهــاز العصبــي الــاإرادي احلاد»‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫عندمــا تــم حتريــر الكلــب مــن احلــزام‪ ،‬بعــد الصدمــة األوىل «حتــرك‬
‫ببــطء حــول الغرفــة‪ ،‬وتبــدو مالمــح اخلــوف والــردد والعدائيــة ظاهــرة‬
‫عليــه»‪ .‬ارتفــع معــدل رضبــات قلــب الكلــب إىل ‪ 150‬نبضــة يف الدقيقــة‬
‫فــوق خــط األســاس للراحــة أثنــاء الصدمــة األوىل‪ .‬عندمــا انتهــت الصدمــة‪،‬‬
‫تباطــأ معــدل رضبــات قلــب الكلــب إىل ‪ 30‬نبضــة حتــت خــط األســاس ملــدة‬
‫دقيقــة كاملــة‪.‬‬

‫خــال الصدمــات الكهربائيــة الالحقــة‪« ،‬تغــر ســلوكه تدرجييـ ًا‪ .‬أثنــاء‬


‫الصدمــة‪ ،‬اختفــت عالمــات الرعــب‪ .‬بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬بــدا الكلــب متأ ًملــا أو‬
‫منزعجــا أو قل ًقــا‪ ،‬لكنــه مل يكــن مرعو ًبــا‪ .‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬كان يئــن بــدالً‬
‫ً‬
‫مــن أن يــرخ‪ ،‬ومل يكــن هنــاك تبــول أو تغــوط ال إرادي‪ .‬ومــن َثـ ّ‬
‫ـم عندمــا‬
‫أطلــق رساحــه فجــأة يف هنايــة اجللســة‪ ،‬اندفــع الكلــب‪ ،‬وقفــز عــى النــاس‪،‬‬
‫وهــز ذيلــه‪ ،‬فيــا ســميناه يف ذلــك الوقــت «نوبــة مــن الفــرح»‪.‬‬

‫مــع الصدمــات الالحقــة‪ ،‬ارتفــع معــدل رضبــات قلــب الكلــب‬


‫قلي ـ ً‬
‫ا فقــط فــوق خــط أســاس الراحــة‪ ،‬ثــم لبضــع ثــوان فقــط‪ .‬بعــد انتهــاء‬
‫الصدمــة‪ ،‬تباطــأ معــدل رضبــات القلــب بشــكل كبــر إىل ‪ 60‬نبضــة يف‬
‫الدقيقــة حتــت خــط األســاس للراحــة‪ ،‬أي ضعــف املــرة األوىل‪ .‬اســتغرق‬
‫األمــر مخــس دقائــق كاملــة حتــى يعــود معــدل رضبــات القلــب إىل خــط‬
‫األســاس للراحــة‪.‬‬

‫مــع التعــرض املتكــرر ملنبــه مــؤمل‪ ،‬تكيــف مــزاج الكلــب ومعــدل‬


‫رضبــات القلــب نوعــ ًا مــا‪ .‬حــن أصبحــت االســتجابة األوليــة (األمل)‬
‫أقــر وأضعــف‪ .‬أصبحــت االســتجابة الالحقــة (اللــذة) أطــول وأقــوى‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫حتــول األمل إىل يقظــة مفرطــة إىل «نوبــة فــرح»‪ .‬حتــول ارتفــاع معــدل رضبــات‬
‫القلــب‪ ،‬بــا يتفــق مــع رد فعــل القتــال أو اهلــرب(‪ ،)1‬إىل حــد أدنــى مــن ارتفاع‬
‫معــدل رضبــات القلــب‪ ،‬يليــه بــطء القلــب لفــرات طويلــة‪ ،‬وهــو معــدل‬
‫رضبــات قلــب بطــيء شــوهد يف حــاالت االســرخاء العميــق‪.‬‬

‫ال يمكــن قــراءة هــذه التجربــة دون الشــعور بالشــفقة عــى احليوانــات‬
‫التــي تعرضــت هلــذا التعذيــب‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن مــا يســمى بـــ «نوبــة الفــرح»‬
‫يشــر إىل احتــال حمــر‪ ،‬ففــي حــال الضغــط عــى جانــب األمل مــن امليــزان‪،‬‬
‫هــل يمكننــا حتقيــق مصــدر لــذة يمكــن اعتبارهــا أكثــر ديمومــة؟‬

‫هــذه الفكــرة ليســت جديــدة‪ .‬إذ الحــظ الفالســفة القدمــاء ظاهــرة‬


‫مشــاهبة‪ .‬لقــد تأمــل ســقراط يف العالقــة بــن األمل واللــذة منــذ أكثــر مــن ألفــي‬
‫عــام (كــا ســجله أفالطــون يف «تأمــات ســقراط» «أســباب عــدم اخلــوف‬
‫مــن املــوت»‪.‬‬

‫«كــم يبــدو غريبـ ًا هــذا الــيء الــذي يدعــوه اإلنســان اللــذة! وكــم هــو‬
‫غريــب ارتباطــه بــا ُيعتقــد أنــه عكــس ذلــك‪ ،‬األمل! لــن يتــم احلصــول عــى‬
‫االثنــن يف وقــت واحــد لــدى اإلنســان‪ ،‬ومــع ذلــك إذا بحثــت عــن أحدمهــا‬
‫وحصلــت عليــه‪ ،‬فأنــت ‪-‬تقري ًبــا‪ -‬ملــزم دائـ ًـا باحلصــول عــى اآلخــر‪ ،‬متا ًمــا‬
‫كــا لــو كانــا هلــا نفــس الــرأس‪ ،‬واآلخــر يــأيت خلفــه‪ ،‬مرتبطــن ببعضهــا‪،‬‬
‫أينــا وجــد أحدمهــا يتلــوه اآلخــر‪ .‬لذلــك ‪-‬يف حالتــي‪ -‬عندمــا أصبــت بــأمل‬
‫يف ســاقي نتيجــة األغــال‪ ،‬يبــدو أن اللــذة تلتهــا»‬

‫((( القتــال أو اهلــرب متثــل اســتجابة الكــر أو الفــر لــدى احليوانــات‪ ،‬والنامجــة عــن إطــاق‬
‫اهلرمونــات التــي جتهــز اجلســد إمــا للبقــاء أو التعامــل مــع التهديــد أو اهلــروب إىل بــر األمــان‪.‬‬
‫وهــذه االســتجابة هلــا دور كبــر يف البقــاء واســتمرارية احليــاة (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫نــرت طبيبــة القلــب األمريكيــة هيلــن تاوســيغ مقــاالً يف جملــة‬


‫أمريــكان ساينتســت عــام ‪ 1969‬وصفــت فيــه جتارب األشــخاص الذيــن بقوا‬
‫عــى قيــد احليــاة ممــن رضبتهــم صاعقــة وقامــوا بروايــة قصصهــم‪« .‬أصيــب‬
‫ابــن جــاري بصاعقــة أثنــاء عودتــه مــن ملعــب اجلولــف‪ .‬كان مل ًقــى عــى‬
‫األرض‪ .‬متــزق رسوالــه القصــر إىل أشــاء‪ ،‬وكانــت هنــاك حــروق ظاهــرة‬
‫عــى فخذيــه‪ .‬عندمــا ســاعده رفيقــه عــى اجللــوس‪ ،‬رصخ «أنــا ميــت‪ ،‬أنــا‬
‫ميــت»‪ .‬كانــت ســاقاه خمدرتــن وزرقاويــن ومل يســتطع التحــرك‪ .‬بحلــول‬
‫مبتهجــا‪ .‬كان نبضــه‬
‫ً‬ ‫الوقــت الــذي وصــل فيــه إىل أقــرب مستشــفى‪ ،‬كان‬
‫بطيئــا جــدً ا»‪ .‬يعيدنــا هــذا املوقــف إىل تذكــر «نوبــة الفــرح» لــدى الكلــب‪،‬‬
‫بـما يف ذلـ�ك النبـ�ض البطـ�يء‪.‬‬

‫لقــد عانينــا مجي ًعــا مــن نســخة مــن األمل تفســح املجــال للــذة‪ .‬ربــا قــد‬
‫تكــون مثــل ســقراط‪ ،‬الحظــت حتســنًا يف املــزاج بعــد فــرة مــن املــرض‪،‬‬
‫أو شــعرت بارتفــاع النشــوة بعــد متاريــن اجلــري‪ ،‬أو اســتمتعت بشــكل ال‬
‫يمكــن تفســره بمشــاهدة فيلــم مرعــب‪ .‬فكــا أن األمل هــو الثمــن الــذي‬
‫أيضـ�ا هـ�ي مكافأتنـ�ا عـلى األمل‪.‬‬
‫ندفعـ�ه مقابـ�ل اللـ�ذة‪ ،‬فـ�إن اللـ�ذة ً‬

‫‪198‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫علم اهلرمونات‬

‫اهلرمونــات هــي فــرع مــن فــروع العلــوم التــي تــدرس اآلثــار املفيــدة‬
‫إلعطــاء جرعــات صغــرة إىل معتدلــة مــن املحفــزات الضــارة و‪/‬أو املؤملــة‪،‬‬
‫مثــل الــرد واحلــرارة‪ ،‬وتغــرات اجلاذبيــة‪ ،‬واإلشــعاع‪ ،‬والقيــود املفروضــة‬
‫عــى الغــذاء‪ ،‬والتامريــن الرياضيــة‪ .‬مفــردة هرمونــات مشــتقة مــن اهلرمــن‬
‫(اإلهنــاض) يف اليونانيــة القديمــة‪ ،‬وهــي تعنــي‪ :‬احلركــة الرسيعــة‪ ،‬والدفــع‪،‬‬
‫واحلـ�ث‪.‬‬

‫يصــف إدوارد ج‪ .‬كاالبريــس‪ ،‬عــامل الســموم األمريكــي والرائــد يف‬


‫جمــال اهلرمونــات‪ ،‬هــذه الظاهــرة بأهنــا «االســتجابات التكيفيــة لألنظمــة‬
‫البيولوجيــة ملواجهــة التحديــات البيئيــة املعتدلــة أو التــي تفرضهــا الــذات‬
‫حيســن النظــام وظائفــه و‪/‬أو حتملــه لتحديــات أكثــر‬
‫والتــي مــن خالهلــا ّ‬
‫خطــورة»‬

‫لقــد عاشــت الديــدان املعرضــة لدرجــات حــرارة أعــى مــن درجــة‬


‫احلــرارة املفضلــة هلــم بنحــو ‪ 20‬درجــة مئويــة (‪ 35‬درجــة مئوية ملدة ســاعتني)‬
‫أطــول بنســبة ‪ ،% 25‬وكانــت أكثــر عرضــة بنســبة ‪ % 25‬للبقــاء عــى قيــد احليــاة‬
‫يف درجــات حــرارة عاليــة الحقــة مــن الديــدان غــر املعرضــة‪ .‬لكــن ارتفــاع‬
‫احلــرارة الكبــر مل يكــن جيــد ًا‪ .‬باإلضافــة إىل املــدة‪ ،‬أربــع ســاعات مقابــل‬
‫ســاعتني مــن التعــرض للحــرارة قللــت مــن حتمــل احلــرارة الالحقــة وقللــت‬
‫العمـ�ر بمقـ�دار الربـ�ع‪.‬‬

‫إن ذبــاب الفاكهــة الــذي تــم عزلــه يف جهــاز طــرد مركــزي‪ ،‬اســتمر يف‬

‫‪199‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الــدوران ملــدة أســبوعني إىل أربعــة أســابيع‪ ،‬كان أطــول عمــر ًا مــن الذبــاب‬
‫ـادرا عــى‬
‫أيضــا أكثــر رشــاقة يف ســنه األكــر‪ ،‬وكان قـ ً‬
‫الــذي مل يــدُ ْر‪ ،‬بــل كان ً‬
‫الصعــود أعــى وأطــول مــن نظرائــه الذيــن مل يتعرضــوا للتجربــة يف جهــاز‬
‫الطــرد‪ .‬لكــن الذبــاب الــذي اســتمر يف الــدوران لفــرة أطــول مل يســتطع‬
‫الصمــود‪.‬‬

‫مــن بــن املواطنــن اليابانيــن الذيــن يعيشــون خــارج مركــز اهلجــوم‬


‫النــووي عــام ‪ ،1945‬أظهــر أولئــك األشــخاص الذيــن تعرضــوا جلرعــة‬
‫منخفضــة مــن اإلشــعاع عمـ ًـرا أطــول بدرجــة طفيفــة‪ ،‬وانخفضــت معدالت‬
‫اإلصابةــ بالرسطــان لدهيــم‪ ،‬مقارنــة باألفــراد الذيــن مل يكونــوا عرضــة‬
‫لإلشــعاع‪ .‬مــن بــن أولئــك الذيــن يعيشــون يف املنطقــة املجــاورة بشــكل‬
‫مبــارشة لالنفجــار الــذري‪ ،‬التــي مــات فيهــا مــا يقــرب مــن ‪ 200000‬عــى‬
‫الفـ�ور‪.‬‬

‫افــرض الباحثــون أن الفائــدة اجلوهريــة لإلهنــاض اإلشــعاعي تكمــن‬


‫يف‪« :‬التحفيــز بجرعــة منخفضــة إلصــاح تلــف احلمــض النــووي‪ ،‬وإزالــة‬
‫اخلاليــا الشــاذة عــن طريــق حتفيــز مــوت اخلاليــا املربمــج‪ ،‬والقضــاء عــى‬
‫اخلاليــا الرسطانيــة عــن طريــق حتفيــز مناعــة مضــادة للرسطــان»‪ .‬يف حــن‬
‫تُعــد هــذه النتائــج مثــرة للجــدل‪ ،‬وقــد عارضتهــا ورقــة بحثيــة متتبعــة هلــذه‬
‫الدراسـ�ة‪ُ ،‬نـشرت يف جملـ�ة النسـ�يت املرموقـ�ة‪.‬‬

‫لقــد ســاعد الصيــام املتقطــع وتقييــد الســعرات احلراريــة عــى زيــادة‬


‫العمــر االفــرايض‪ ،‬ومقاومــة األمــراض املرتبطــة بالعمــر يف القــوارض‬

‫‪200‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫والقــرود‪ ،‬فضـ ً‬
‫ا عــن انخفــاض ضغــط الــدم وزيــادة الفاصــل بــن رضبــات‬
‫القلـ�ب‪.‬‬

‫أصبــح الصيــام املتقطــع شــائ ًعا إىل حــد مــا كوســيلة لفقــدان الــوزن‬
‫وحتســن الرفاهيــة‪ .‬وخيضــع الصيــام لعمليــة حســابية تشــمل الصيــام يوم ـ ًا‬
‫ويومـ ًا‪ ،‬والصيــام ليــوم واحــد يف األســبوع‪ ،‬والصيــام حتى الســاعة التاســعة‪،‬‬
‫والصيــام لوجبــة واحــدة يف اليــوم‪ ،‬والصيــام ملــدة ســت عــرة ســاعة كل‬
‫يــوم‪ ،‬والقيــام بــاألكل يف غضــون نافــذة الثــاين ســاعات األخــرى‪ ،‬ومــا إىل‬
‫ذلـ�ك‪.‬‬

‫عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يــارس مضيــف الربنامــج احلــواري األمريكــي‬


‫الشــهري جيمــي كيميــل الصيــام املتقطــع‪« .‬يشء أفعلــه منــذ عامــن هــو جتويــع‬
‫نفــي يومــن يف األســبوع يومــي االثنــن واخلميــس‪ ،‬أتنــاول أقــل مــن‬
‫مخســائة ســعرة حراريــة يف اليــوم‪ ،‬ثــم آكل مثــل اخلنزيــر يف األيــام اخلمســة‬
‫األخ��رى‪ .‬أن��ت «تفاج��ئ» اجلس��م‪ ،‬اجعل��ه خيم��ن‪« .‬‬

‫منــذ وقــت ليــس ببعيــد‪ ،‬ربــا كانــت ســلوكيات الصيــام هــذه تــرر‬
‫بــا يطلــق عليــه «اضطرابــات األكل»‪ .‬فقلــة الســعرات احلراريــة ضــارة‬
‫ألســباب واضحــة‪ .‬لكــن اليــوم‪ ،‬أصبــح الصيــام يف بعــض األوســاط أمــر ًا‬
‫طبيعيـ� ًا وحتـ�ى صحيـ� ًا‪.‬‬

‫***‬

‫‪201‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫ماذا عن التامرين الرياضية؟‬

‫تُعــد التامريــن الرياضيــة ســامة خلاليــا اجلســد‪ ،‬حيــث تــؤدي إىل زيــادة‬
‫درجــات احلــرارة واألكســدة الضــارة وخفــض األكســجني والغلوكــوز‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن األدلــة الدامغــة تؤكــد عــى أن التامريــن الرياضيــة تعــزز‬
‫الصحــة‪ ،‬وغيــاب التامريــن الرياضيــة‪ ،‬مــع نمــط غذائــي غــر صحــي طــوال‬
‫اليـ�وم ُيعـ�د أمـ�ر ًا مميتـ� ًا‪.‬‬

‫تزيــد التامريــن الرياضيــة مــن إنتــاج العديــد مــن الناقــات‬


‫العصبيــة املشــاركة يف تنظيــم املــزاج اإلجيــايب‪ :‬الدوبامــن والســروتونني‬
‫والنوربيينفريــن واإليبينفريــن واإلندوكانابينويــد والببتيــدات األفيونيــة‬
‫الداخليــة (اإلندورفــن)‪ .‬تســهم التامريــن يف والدة خاليــا عصبيــة جديــدة‬
‫ودعــم خاليــا الدبــق العصبــي‪ .‬حتــى أن التمريــن يقلــل مــن احتامليــة تعاطــي‬
‫املخــدرات وإدماهنــا‪ .‬عندمــا ُمنحــت الفئــران إمكانيــة الوصــول إىل عجلــة‬
‫اجلــري قبــل ســتة أســابيع مــن تســهيل حصوهلــا عــى الكوكايــن‪ ،‬قامــت‬
‫الفئــران بنفســها بــاإلدارة الذاتيــة جلرعــات الكوكايــن‪ ،‬وبصــورة أقــل‬
‫مــن الفئــران التــي مل تتــدرب عــى عجــات اجلــري ســابق ًا‪ .‬تــم تكــرار هــذه‬
‫النتيجــة مــع اهلريويــن وامليتامفيتامــن والكحــول‪ .‬وحتــى عندمــا ال تكــون‬
‫التامريــن الرياضيــة طوعيــة بــل تفــرض عــى احليــوان‪ ،‬فإهنــا مــا تــزال تــؤدي‬
‫إىل تقليـ�ل االسـ�تهالك الطوعـ�ي للمخـ�درات‪.‬‬

‫يف البــر‪ ،‬تتنبــأ املســتويات العاليــة مــن النشــاط البــدين يف املرحلــة‬


‫اإلعداديــة والثانويــة ومرحلــة البلــوغ املبكــرة بانخفــاض مســتويات تعاطــي‬
‫املخــدرات‪ .‬كــا ثبــت أن الرياضــة تســاعد األشــخاص الذيــن امتنعــوا عــن‬

‫‪202‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تعاطــي املخــدرات ســواء يف مرحلــة التعــايف أو بعــد التعــايف‪ ،‬فالرياضــة‬


‫تســاعد عــى عــدم العــودة‪.‬‬

‫أوضحــت الدراســات أن هنــاك مالحظــات خمتربيــة تشــر إىل أمهيــة‬


‫الدوبامــن للدوائــر احلركيــة لــكل شــعبة حيوانيــة تــم التحقيــق فيهــا‬
‫ودراســتها‪ ،‬فالديــدان اخليطيــة ‪- C. elegans‬وهــي تُعــد مــن أبســط ديــدان‬
‫املختــر‪ -‬تطلــق الدوبامــن اســتجاب ًة للمنبهــات البيئيــة التــي تشــر إىل وفــرة‬
‫الطعــام‪ .‬فهــي تتعلــق بالــدور القديــم للدوبامــن يف حتفيــز احلركــة اجلســدية؛‬
‫للحصــول عــى هــدف‪ ،‬تتــوق رغبتنــا احلصــول عليــه‪.‬‬

‫وفقـا ًـ للتقاريـ�ر واإلحص�اـءات املس��حية‪ ،‬بطبيع��ة احلــال ُيعــد الدوبامــن‬


‫اليــوم يف متنــاول اليــد وال يتطلــب منــا النهــوض مــن األريكــة‪ .‬فتشــر هــذه‬
‫املســوح إىل أن األمريكــي النموذجــي اليــوم يقــي نصــف ســاعات يقظتــه‬
‫جالســا‪ ،‬أي أكثــر مــن ‪ % 50‬مــن اخلمســن ســنة املاضيــة»‪.‬‬
‫ً‬
‫فالبيانــات مــن الــدول الغنيــة األخــرى حــول العــامل قابلــة للمقارنــة‬
‫مــع البيانــات األمريكيــة‪ ،‬عندمــا نفكــر يف أننــا تطورنــا الجتيــاز عــرات‬
‫الكيلومــرات يوم ًيــا للتنافــس للحصــول عــى إمــدادات حمــدودة مــن‬
‫الطعــام‪ ،‬فــإن اآلثــار الضــارة لنمــط حياتنــا احلديثــة املســتقرة تُعــد مدمــرة‪،‬‬
‫أتســاءل أحيانًــا عــا إذا كان ميلنــا احلديــث إىل اإلدمــان تغذيــه جزئ ًيــا‬
‫الطريقــة التــي تذكرنــا هبــا املخــدرات بأنــه مــا يــزال لدينــا أجســاد‪.‬‬

‫تتميــز ألعــاب الفيديــو األكثــر شــعبية بالصــور الرمزيــة التــي تعمــل‬


‫وتقفــز وتتســلق وتطلــق النــار وتطــر‪ .‬ويتطلــب اهلاتــف الذكــي منــا التمريــر‬

‫‪203‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫عــر الصفحــات والنقــر عــى الشاشــات‪ ،‬وهــذا يعــر عــن االســتغالل‬


‫الذكــي للعــادات القديمــة للحركــة املتكــررة‪ ،‬والتــي أجادهــا اإلنســان‬
‫واعتــاد عليهــا عــر قــرون ماضيــة‪ ،‬مــن طحــن القمــح وقطــف التــوت‪ .‬قــد‬
‫يكــون انشــغالنا املعــارص باجلنــس؛ ألنــه ُيعــد آخــر نشــاط بــدين مــا يــزال‬
‫يـمارس عـلى نطـ�اق واسـ�ع‪.‬‬

‫مفتــاح الرفاهيــة هــو أن نخــرج مــن األريكــة ونحــرك أجســادنا‬


‫احلقيقيــة‪ ،‬وليــس أجســادنا االفرتاضيــة‪ .‬كــا أخــر مرضــاي‪ ،‬فــإن جمــرد‬
‫املــي يف احلــي ملــدة ثالثــن دقيقــة يف اليــوم يمكــن أن حيــدث فر ًقــا‪ .‬فهــذا‬
‫دليــل مربهــن وال جــدال فيــه عــى أن التمريــن لــه تأثــر إجيــايب أكثــر عم ًقــا‬
‫واســتدامة عــى املــزاج والقلــق واإلدراك والطاقــة والنــوم أكثــر مــن أي حبــة‬
‫يمكننــي وصفهــا‪.‬‬

‫لكــن الســعي وراء األمل أصعــب مــن الســعي وراء اللــذة‪ .‬وهــو‬
‫يتعــارض مــع رد فعلنــا الفطــري لتجنــب األمل والســعي وراء اللــذة‪ .‬إنــه‬
‫يضيــف إىل محولتنــا املعرفيــة‪ ،‬مــا جيــب فهمــه‪ ،‬علينــا أن نتذكــر أننــا سنشــعر‬
‫بالســعادة بعــد األمل‪ ،‬يف حــن أننــا نتغافــل وننســى هــذه احلقيقــة‪ ،‬إذن جيــب‬
‫عــي إعــادة تعلــم دروس األمل كل صبــاح‪ ،‬حيــث أجــر نفــي عــى النهــوض‬
‫مـ�ن الرسيـ�ر والذهـ�اب إىل ممارسـ�ة الرياضـ�ة‪.‬‬

‫***‬

‫إن الســعي وراء األمل بــدالً مــن اللــذة أمــر يتعــارض ً‬


‫أيضــا مــع الثقافــة‬
‫الســائدة‪ ،‬حيــث يتعــارض مــع كل الرســائل التــي تبعــث عــى الشــعور‬

‫‪204‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ـواح متعــددة مــن احليــاة احلديثــة‪ .‬لقــد ع ّلــم بــوذا‬


‫بالســعادة والتــي تســود يف نـ ٍ‬
‫الكيفيــة التــي يمكــن هبــا إجيــاد طريــق وســط مــا بــن األمل واللــذة‪ ،‬ولكــن‬
‫حتـ�ى الطريقــ األوس��ط قدــ ت��م غشـ�ه م��ن خــال اإلمــداد بوســائل الراحــة‬
‫«طغيــان الراحــة»؛ وهلــذا جيــب أن نبحــث عــن األمل وندعــوه إىل حياتنــا‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫األمل لعالج األمل‪:‬‬

‫يعــد عــاج األمل بــاألمل تطبيق ـ ًا متعمــد ًا ومعتمــد ًا منــذ القــدم‪ ،‬إذ كتــب‬
‫أبقــراط يف أقوالــه املأثــورة عــام ‪ 400‬قبــل امليــاد‪« :‬مــن بــن أملــن حيدثــان يف‬
‫نفــس الوقــت‪ ،‬وليــس يف نفــس اجلــزء مــن اجلســم‪ ،‬يضعــف األمل ُ األقــوى‬
‫اآلخـ َـر»‪.‬‬

‫تاريــخ الطــب مــيء بأمثلــة عــى اســتخدام املحفــزات املؤملــة أو الضــارة‬


‫لعــاج احلــاالت املرضيــة واآلالم‪ .‬يطلــق عليهــا يف بعــض األحيــان مســمى‬
‫«العالجــات البطوليــة»‪ ،‬مثــل‪ :‬احلجامــة‪ ،‬والبثــور‪ ،‬والكــي‪ ،‬والكــي بــأوراق‬
‫نبــات الشــيح‪ ،‬والوخــز‪ ،‬لقــد كانــت العالجــات املؤملــة متــارس عــى نطــاق‬
‫واســع قبــل عــام ‪ .1900‬ثــم بــدأت شــعبيتها يف الرتاجــع واالنخفــاض يف‬
‫القـ�رن العرشيـ�ن حيـ�ث اكتشـ�فت مهنـ�ة الطـ�ب العـلاج الدوائـ�ي‪.‬‬

‫مــع ظهــور العــاج الدوائــي‪ ،‬أصبــح ُينظــر إىل األمل لعــاج األمل عــى أنه‬
‫نــوع مــن الدجــل‪ .‬ولكــن نظــر ًا لقصــور وأرضار العــاج الدوائــي‪ ،‬أصبــح‬
‫هنــاك عــودة لالهتــام بالعالجــات غــر الدوائيــة‪ ،‬بــا يف ذلــك العالجــات‬
‫املؤملــة التــي عــادت إىل الصــدارة يف العقــود األخــرة‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2011‬يف مقــال يف جملــة طبيــة رائــدة‪ ،‬قــدم كريســتيان ســرينغر‬
‫وزمــاؤه مــن أملانيــا دعـ ًـا علميـ ًا ألفــكار أبقــراط القديمــة حــول األمل‪ .‬لقــد‬
‫قامــوا باســتخدام التصويــر العصبــي (صــور الدمــاغ يف الوقــت الفعــي)‬
‫لدراســة آثــار احلــرارة واملحفــزات املؤملــة األخــرى املطبقــة عــى ذراعــي‬
‫وسـ�اقي عرشيـ�ن شـ�ا ًبا يتمتعـ�ون بصحـ�ة جيـ�دة‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ووجــدوا أن التجربــة الذاتيــة لــأمل الناجــم عــن التحفيــز املــؤمل األويل‬


‫قــد تقلصــت مــع تطبيــق حمفــز مــؤمل ثــان‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬فاســتخدام‬
‫عقــار النالوكســون ‪-‬وهــو مثبــط للمســتقبالت األفيونيــة‪ -‬حيــول دون‬
‫حــدوث هــذه الظاهــرة‪ ،‬ممــا يشــر إىل أن حــدوث األمل يثــر املــواد األفيونيــة‬
‫الذاتيــة يف اجلســم‪ ،‬بمعنــى أن اجلســم يصبــح قــادر ًا عــى صناعــة املخــدر‬
‫بصـ�ورة ذاتيـ�ة‪.‬‬

‫نــر ليــو شــيانغ‪ ،‬األســتاذ يف أكاديمية الصــن للطب الصينــي التقليدي‬


‫يف بكــن‪ ،‬بح ًثــا يف عــام ‪ 2001‬يف نــرة العلــوم الصينية‪ ،‬يعيد النظر يف ممارســة‬
‫الوخــز باإلبــر التــي تعــود إىل قــرون واالعتــاد عــى العلــوم احلديثــة لــرح‬
‫كيفيــة عملهــا‪ .‬وجــادل بــأن فعاليــة الوخــز باإلبــر تتــم بوســاطة األمل‪ ،‬مــع‬
‫إدخــال اإلبــرة كآليــة أساســية‪« :‬اإلبــرة‪ ،‬التــي يمكــن أن تصيــب األنســجة‪،‬‬
‫ه��ي حتفي��ز مزع��ج يس��بب األمل‪ ،‬تثبي��ط األمل الش��ديد ب��األمل البس��يط! «‬

‫أشــارت األبحــاث العلميــة احلديثــة إىل أنــه حاليــا قــد تــم اكتشــاف‬
‫إمكانيــة اســتخدام مثبــط املســتقبالت األفيونيــة النالرتيكســون كعــاج طبــي‬
‫لــأمل املزمــن‪ .‬تقــوم الفكــرة عــى أن منــع تأثــرات املــواد األفيونيــة‪ ،‬بــا يف‬
‫ذلــك تلــك التــي نصنعهــا (اإلندورفــن)‪ ،‬نخــدع أجســامنا لصنــع املزيــد‬
‫مـ�ن املـ�واد األفيونيـ�ة كاسـ�تجابة تكيفيـ�ة‪.‬‬

‫يف دراســة طبقــت عــى ‪ 28‬امــرأة مصابــة بــاألمل العضــي الليفــي‪ ،‬حيــث‬
‫تناولــوا فيهــا حبــة واحــدة مــن جرعــة منخفضــة مــن النالرتيكســون (‪4,5‬‬
‫ملليغــرام) يوم ًيــا ملــدة اثنــي عــر أســبو ًعا‪ ،‬وحبــة ســكر (دواء ومهــي) ملــدة‬
‫أربعـ�ة أسـ�ابيع‪ .‬ويمكـ�ن تعريـ�ف األمل العضـلي الليفـ�ي (‪)Fibromyalgia‬‬

‫‪207‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بأنــه حالــة أمل مزمنــة غــر معروفــة الســبب أو املصــدر ولكــن يعتقــد أهنــا‬
‫مرتبطــة باالســتعداد الفطــري لبعــض األشــخاص وقدرهتــم عــى حتمــل‬
‫احلـ�د األدنـ�ى مـ�ن األمل‪.‬‬

‫كانــت الدراســة مزدوجــة التعميــة‪ ،‬ممــا يعنــي أنــه ال النســاء املشــاركات‬


‫يف الدراســة وال فريــق الرعايــة الصحيــة يعرفــن عــن مكونــات الكبســوالت‪.‬‬
‫تــم إعطــاء كل امــرأة جهــاز كمبيوتــر حممــول لتســجيل األمل والتعــب‬
‫واألعــراض األخــرى عــى أســاس يومــي‪ ،‬واســتمروا يف تســجيل أعراضهــم‬
‫ملـ�دة أربعـ�ة أسـ�ابيع بعـ�د توقفهـ�م عـ�ن تنـ�اول الكبسـ�والت‪.‬‬

‫أفــادت الدراســة أن «املشــاركني عانــوا مــن انخفــاض أكــر بكثــر يف‬


‫درجــات األمل لدهيــم أثنــاء تناوهلــم جرعــة منخفضــة مــن النالرتيكســون‬
‫مقارنــة بالــدواء الومهــي‪ .‬كــا أبلغــوا عــن حتســن الرضــا العــام عــن احليــاة‬
‫وحتسـ�ن احلالـ�ة املزاجيـ�ة أثنـ�اء تنـ�اول النالرتيكسـ�ون‪.‬‬

‫***‬

‫تــم اســتخدام صدمــات الكهربــاء عــى الدمــاغ كإجــراء عالجــي‬


‫لعــاج األمــراض العقليــة منــذ أوائــل القــرن العرشيــن‪ ،.‬حيــث قــام طبيــب‬
‫األعصــاب أوغــو تشــرليتي وزميلــه لوتشــيانو بينــي يف أبريــل ‪1938‬م بإجراء‬
‫أول جتربـ�ة عالجيـ�ة باسـ�تخدام الصدمـ�ات الكهربائيـ�ة(‪ )ECT‬عــى مريــض‬
‫يبلـ�غ مـ�ن العمـ�ر أربعـين عا ًمـ�ا‪ ،‬وصفـ�وه عـلى النحـ�و التـ�ايل‪:‬‬

‫«لقــد قــدم نفســه بكلــات غــر مفهومــة أشــبه بالرطانــة‪ ،‬ومل يكــن معــه‬
‫أي وثائــق للتأكــد مــن هويتــه‪ ،‬منــذ وصولــه مــن ميالنــو بالقطــار بــدون‬
‫تذكــرة»‬

‫‪208‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عندمــا وضــع تشــرليتي وبينــي الكهربــاء عــى دماغــه ألول مــرة‪،‬‬


‫الحظــا «قفــزة مفاجئــة للمريــض عــى رسيــره مــع توتــر قصــر جــدً ا جلميــع‬
‫عضالتــه؛ ثــم اهنــار عــى الفــور عــى الرسيــر دون أن يفقــد وعيــه‪ .‬ثــم بــدأ‬
‫املريــض يف الغنــاء بأعــى صوتــه‪ ،‬ثــم صمــت‪ .‬وكان هــذا مثبــت يف جتربتنــا‬
‫م��ع ال��كالب ح�ين كان اجله��د (الفول��ت) الكهربائ��ي منخف�ضـ ج��دً ا‪« .‬‬

‫ناقــش تشــرليتي وبينــي مــا إذا كان ينبغــي عليهــا تطبيــق صدمــة‬
‫أخــرى بجهــد أعــى‪ .‬بينــا كانــوا يتحدثــون‪ ،‬رصخ املريــض‪ « ،‬نــو أونــا‬
‫ســكندا ! مورتيفــرا!» («ليــس مــرة أخــرى! ســوف يقتلنــي! »)‪ .‬عــى الرغــم‬
‫مــن احتجاجاتــه‪ ،‬فقــد طبقــوا صدمــة ثانيــة ‪ -‬قصــة حتذيريــة هزليــة حــول‬
‫الوصــول مــن ميالنــو بــدون تذكــرة قطــار أو «هويــة يمكــن التحقــق منهــا»‬
‫يف عــام ‪.1938‬‬

‫بمجــرد أن تعــاىف «املريــض» مــن الصدمــة الثانيــة‪ ،‬الحــظ تشــرليتي‬


‫وبينــي أنــه «جلــس مــن تلقــاء نفســه‪ ،‬ورشع يتفحــص نفســه‪ ،‬بابتســامة‬
‫غامضــة‪ ،‬وكأنــه يتســاءل عــا كان متوق ًعــا منــه‪ .‬ســألته «مــاذا كان حيــدث‬
‫لــك؟» أجــاب بوضــوح دون رطانــة‪« :‬ال أعــرف‪ ،‬ربــا كنــت نائـ ًـا»‪ .‬تلقــى‬
‫أول مريــض‪ ،‬ثــاث عــرة جلســة إضافيــة للعــاج بالصدمــات الكهربائيــة‬
‫عــى مــدار شــهرين وخــرج‪ ،‬وهــو يف حالــة شــفاء تــام‪ ،‬عــى حســب التقارير»‬

‫مــا يــزال العــاج بالصدمــات الكهربائيــة يــارس حتــى اليــوم بشــكل‬


‫جيــد‪ ،‬عــى الرغــم مــن أنــه أكثــر إنســانية‪ .‬حيــث متنــع مرخيــات العضــات‬
‫والشــلل االنقباضــات املؤملــة‪ .‬هــذا باإلضافــة إىل االســتعانة بالتخديــر لبقــاء‬

‫‪209‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫املــرىض نائمــن وفاقــدي الوعــي طــوال العمليــة يف الغالــب؛ لذلــك ال‬


‫يمكــن القـ�ول اليـ�وم أن األمل يف حـ�د ذاتـ�ه هـ�و عامـ�ل الوسـ�اطة‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن العــاج بالصدمــات الكهربائيــة يوفر صدمــة هرمونية‬


‫(إهنــاض) للدمــاغ‪ ،‬والــذي بــدوره حيفــز اســتجابة تعويضيــة واســعة إلعــادة‬
‫تأكيــد التــوازن‪« :‬يــؤدي العــاج بالصدمــات الكهربائيــة إىل العديــد مــن‬
‫التغــرات الفســيولوجية العصبيــة وكذلــك الكيميائيــة العصبيــة يف البيئــة‬
‫الكليــة واجلزئيــة للدمــاغ‪ .‬هــذا باإلضافــة إىل التغيــرات املتنوعــة التــي‬
‫تنطــوي عــى عمليــة التعبــر اجلينــي‪ ،‬واالتصــال الوظيفــي‪ ،‬والكيامويــات‬
‫العصبيــة‪ ،‬ونفاذيــة احلاجــز الدمــوي الدماغــي‪ ،‬والتغيــر يف جهــاز املناعــة‬
‫الــذي تــم اقرتاحــه ليكــون مســؤوالً عــن التأثــرات املالئمــة للعــاج‬
‫بالصدمــات الكهربائيــة‪.‬‬

‫***‬

‫بالعــودة إىل قصــة ديفيــد التــي ســبق وأن طرحتهــا‪ ،‬وللتذكــر‪ ،‬هــو‬
‫عاشــق الكومبيوتــر اخلجــول الــذي انتهــى بــه املطــاف يف املستشــفى بعــد‬
‫إدمانـ�ه عـلى املنشـ�طات املوصوفـ�ة‪.‬‬

‫بعــد خروجــه مــن املستشــفى‪ ،‬بــدأ العــاج األســبوعي بواســطة تقنيــة‬


‫التعــرض مــع معاجلــة شــابة وموهوبــة تعمــل يف فريقنــا‪ .‬تتمثــل املبــادئ‬
‫األساســية لتقنيــة العــاج بالتعــرض يف تعريــض النــاس ملخاوفهــم أو‬
‫لألشــياء التــي تثــر قلقهــم‪ ،‬ويكــون ذلــك وفق صــورة تصاعديــة ‪-‬كالوجود‬
‫يف حشــود‪ ،‬والقيــادة عــر اجلســور‪ ،‬والتحليــق يف الطائــرات ‪ -‬ممــا يتســبب‬

‫‪210‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يف املشــاعر غــر املرحيــة التــي حياولــون الفــرار منهــا‪ ،‬وبذلــك‪ ،‬تزيــد قدرهتــم‬
‫عــى حتمــل هــذا النشــاط‪ ،‬ومــع الوقــت قــد يســتمتعون بــه‪.‬‬

‫فالعــاج بالتعــرض يدفعنــا إىل االستشــهاد بمقولــة الفيلســوف‬


‫فريدريــك نيتشــه الشــهرية‪« :‬مــا ال يقتلنــي جيعلنــي أقــوى»‪ .‬وهــو شــعور‬
‫يشــرك فيــه الكثــر مــن النــاس عــى مــر العصــور‪.‬‬

‫نظـ ًـرا ألن اخلــوف األكــر لــدى ديفيــد كان التحــدث إىل الغربــاء‪ ،‬كانت‬
‫مهمتــه األوىل هــي إجبــار نفســه عــى إجــراء حمادثــة قصــرة مــع زمالئــه يف‬
‫العمـ�ل‪.‬‬

‫قــال يل بعــد أشــهر‪« :‬كان واجبــي يف العــاج هــو الذهــاب إىل املطبــخ‬
‫أو غرفــة االســراحة أو الكافيرتيــا يف العمــل والتحــدث إىل أشــخاص‬
‫عشــوائيني‪ .‬كان لــدي نــص مكتــوب‪« :‬مرح ًبــا‪ .‬اســمي ديفيــد‪ .‬أنــا أعمــل‬
‫ً‬
‫جــدواًل زمن ًيــا‪:‬‬ ‫يف تطويــر الربجميــات‪ .‬مــاذا تفعــل أنــت؟ «لقــد حــددت‬
‫قبــل الغــداء وعــى الغــداء وبعــد الغــداء‪ .‬ثــم اضطــررت إىل قيــاس مــدى‬
‫انزعاجــي قبــل وأثنــاء وبعــد‪ ،‬عــى مقيــاس مــن واحــد إىل مائــة‪ ،‬إذ تُعــد مائــة‬
‫أســوأ درجــة انزعــاج قــد أختيلهــا»‪.‬‬

‫يف عــامل نقــوم فيــه بِعــدّ وحســاب أنفســنا بشــكل متزايــد ‪-‬اخلطــوات‬
‫واألنفــاس ونبضــات القلــب‪ -‬أصبــح وضــع رقــم عــى يشء مــا طريقــة‬
‫نتقنهــا وتســاعدنا عــى وصــف التجربــة‪ .‬بالنســبة يل‪ ،‬فــإن عــدّ األشــياء‬
‫ليــس مــن صفــايت‪ ،‬لكننــي تعلمــت التكيــف‪ ،‬حيــث يبــدو أن طريقــة الوعــي‬
‫الــذايت هــذه هلــا صــدى جيــد بشــكل خــاص للعاملــن يف جمــال الكمبيوتــر‬

‫‪211‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫واهلندســة‪ ،‬أصحــاب العقليــة العلميــة التــي لدينــا الكثــر منهــا هنــا يف وادي‬
‫الســيليكون‪.‬‬

‫كيف شعرت قبل التفاعل؟‪ ،‬يف أي رقم كنت؟»‬

‫«يف البدايــة كنــت أبلــغ املائــة‪ .‬لقــد شــعرت بالرعــب الشــديد‪ .‬أصبــح‬
‫وجه��ي أمح��ر بالكام��ل‪ .‬كن��ت أتع��رق‪».‬‬

‫«مم كنت ختشى؟»‬


‫َّ‬
‫«كنــت خائفــ ًا مــن أن ينظــر إ ّيل اآلخــرون ويضحكــون‪ .‬أو يقومــون‬
‫باســتدعاء شــؤون املوظفــن أو األمــن يل؛ ألننــي بــدوت كاملجنــون»‪.‬‬

‫«كيف سارت األمور؟»‬

‫«مل حيــدث أي مــن األشــياء التــي كنــت أخشــى حدوثهــا‪ .‬مل يتصــل‬
‫أحــد باملــوارد البرشيــة أو األمــن‪ .‬بقيــت يف اللحظــة ألطــول فــرة ممكنــة‪،‬‬
‫أيضــا‪ .‬اســتمرت هــذه‬
‫فقــط تركــت قلقــي يغمــرين‪ ،‬مــع احــرام وقتهــم ً‬
‫التفاعــات تقريبــا أربــع دقائــق»‪.‬‬

‫«كيف شعرت بعد ذلك؟»‬

‫«كنــت تقري ًبــا يف حــدود األربعــن عــى املقيــاس‪ .‬أقــل قلقــا بكثــر؛‬
‫لذلــك فعلــت ذلــك يف جــدول زمنــي ثــاث مــرات يف اليــوم ألســابيع‪،‬‬
‫وبشــكل تقدمــي بمــرور الوقــت أصبــح األمــر أســهل وأســهل‪ .‬ثــم حتدّ يــت‬
‫نفــي مــع أشــخاص خــارج العمــل»‪.‬‬

‫أخربين‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫«يف ســتاربكس‪ ،‬أجريــت حمادثــة قصــرة عــن قصــد مــع معــد القهــوة‬
‫(الباريســتا)‪ ،‬مل أكــن ألفعــل ذلــك يف املــايض‪ .‬لطاملــا كنــت أطلب عــن طريق‬
‫التطبيــق لتجنــب االضطــرار إىل التفاعــل مــع األشــخاص باملطلــق‪ .‬لكــن‬
‫هــذه املــرة‪ ،‬ذهبــت مبــارشة إىل املنضــدة وقمــت بطلــب قهــويت‪ .‬كان خــويف‬
‫األكــر هــو قــول أو فعــل يشء غبــي‪ .‬كنــت بخــر إىل أن ســكبت القليــل مــن‬
‫قهــويت عــى املنضــدة‪ .‬كنــت حمرجـ ًا جــدً ا‪ .‬عندمــا أخــرت معاجلتــي بذلــك‪،‬‬
‫أخربتنــي أن أفعــل ذلــك مــرة أخــرى ‪-‬ســكب قهــويت‪ -‬عــن قصــد هــذه‬
‫املــرة‪ .‬يف املــرة التاليــة التــي كنــت فيهــا يف ســتاربكس‪ ،‬ســكبت قهــويت عــن‬
‫قصــد‪ .‬شــعرت بالقلــق‪ ،‬لكننــي اعتــدت عــى ذلــك»‪.‬‬

‫«ما الذي يدعوك للتبسم اآلن؟»‬

‫حــذرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫«أنــا ال أصــدق تقري ًبــا مــدى اختــاف حيــايت اآلن‪ .‬أنــا أقــل‬
‫كثــرا حتــى أجتنــب التفاعــل مــع‬
‫ً‬ ‫مضطــرا إىل التخطيــط املســبق‬
‫ً‬ ‫لســت‬
‫النــاس‪ .‬يمكننــي ركــوب قطــار مزدحــم اآلن‪ ،‬وأال أتأخــر عــن العمــل‬
‫ألننــي أنتظــر القطــار التــايل‪ ،‬والقطــار الــذي يليــه‪ .‬أنــا يف الواقــع أســتمتع‬
‫بمقابلــة أشــخاص لــن أراهــم مــرة أخــرى»‪.‬‬

‫***‬

‫يف حالــة متســلق اجلبــال املشــهور عامليــ ًا أليكــس هونولــد‪ ،‬والــذي‬


‫تســلق املنحــدر الصخــري الكابيتــان يف متنــزه يوســميتي‪ ،‬بــدون حبــال‪،‬‬
‫وجــد العلــاء بعــد إخضاعــه لتصويــر الدمــاغ بالرنــن املغناطيــي‪ ،‬أن‬
‫لديــه نشــاط ًا أقــل مــن الطبيعــي للــوزة املخيــة أثنــاء تصويــر الدمــاغ‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بالنســبة ملعظمنــا‪ ،‬اللــوزة هــي منطقــة مــن الدمــاغ تــيء يف جهــاز الرنــن‬
‫املغناطي�سي الوظيف��ي عندم��ا ننظ��ر إىل ص��ور خميفـ�ة‪ .‬تكهــن الباحثــون الذيــن‬
‫درســوا دمــاغ هونولــد بأنــه ولــد بخــوف فطــري أقــل مــن غــره‪ ،‬ممــا ســمح‬
‫لـ�ه بـ�دوره‪ ،‬كـما افرتضـ�وا‪ ،‬بإنجـ�از حتديـ�ات تسـ�لق خارقـ�ة‪.‬‬

‫لكــن هونولــد نفســه اختلــف مــع تفســرهم‪« :‬لقــد قمــت بالكثــر‬


‫مــن العمــل الفــردي‪ ،‬وعملــت عــى تطويــر مهــارات التســلق والتدريــب‬
‫املســتمر‪ ،‬يمكــن القــول إن منطقــة الراحــة اخلاصــة يب كبــرة جــدً ا؛ لــذا فــإن‬
‫هــذه األشــياء التــي أفعلهــا وتبــدو فظيعــة للغايــة‪ ،‬بالنســبة يل تبــدو طبيعيــة»‪.‬‬

‫ترجيحــا الختالفــات دمــاغ هونولــد هــو تطــور درجــة‬


‫ً‬ ‫التفســر األكثــر‬
‫احتــال اخلــوف مــن خــال التكيــف العصبــي‪ .‬أعتقــد أن دمــاغ هونولــد ال‬
‫يبــدو خمتل ًفــا عــن متوســط دمــاغ اآلخريــن مــن حيــث حساســية اخلــوف‪.‬‬
‫مــا هــو خمتلــف اآلن هــو أنــه درب دماغــه خــال ســنوات مــن التســلق عــى‬
‫عــدم الــرد عــى املحفــزات املخيفــة وجتاهلهــا‪ .‬يتطلــب األمــر الكثــر إلخافــة‬
‫عــرض نفســه بشــكل‬
‫دمــاغ هونولــد أكثــر مــن الشــخص العــادي؛ ألنــه ّ‬
‫تدرجيــي لتحديــات مميتــة‪.‬‬

‫مــن اجلديــر بالذكــر أن هونولــد كاد أن يعــاين مــن نوبــة هلــع عندمــا‬
‫دخــل جهــاز التصويــر بالرنــن املغناطيــي الوظيفــي اللتقــاط صــور لـــ‬
‫أيضــا أن حتمــل اخلــوف ال ينعكــس بالرضورة‬
‫«دماغــه الشــجاع»‪ ،‬ممــا خيربنــا ً‬
‫عـلى مجيـ�ع التجـ�ارب‪.‬‬

‫كان أليكــس هونولــد ومريــي ديفيــد يتســلقان أجــزاء خمتلفــة مــن‬

‫‪214‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫نفــس جبــل اخلــوف‪ .‬متا ًمــا كــا تكيــف دمــاغ هونولــد مــع تســلق منحــدر‬
‫نســيجا عقل ًيــا‪ ،‬األمــر الــذي جعلــه‬
‫ً‬ ‫صخــري بــدون حبــال‪ ،‬طــور ديفيــد‬
‫إحساســا بالثقــة والكفــاءة جتــاه نفســه‬
‫ً‬ ‫ـادرا عــى حتمــل القلــق‪ ،‬واكتســب‬
‫قـ ً‬
‫وقدرتـ�ه عـلى العيـ�ش يف العـ�امل‪.‬‬

‫األمل لعــاج األمل‪ ،‬والقلــق لعــاج القلــق‪ .‬هــذا النهــج غــر منطقــي‪،‬‬
‫وعكــس متا ًمــا مــا تعلمنــاه عــى مــدار الـــ ‪ 150‬عا ًمــا املاضية حــول كيفيــة إدارة‬
‫املـ�رض والضيـ�ق وعـ�دم الراحـ�ة‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫إدمان األمل‬

‫قــال مايــكل‪« :‬بمــرور الوقــت أدركــت أنــه كلــا شــعرت بمزيــد مــن‬
‫األمل مــع الصدمــة األوليــة للــاء البــارد‪ ،‬زاد شــعوري بالنشــوة بعــد ذلــك‪.‬‬
‫لذلــك بــدأت يف إجيــاد طــرق لزيــادة املكاســب»‪.‬‬

‫«قمــت بــراء ثالجــة خمصصــة لتجميــد اللحــوم ‪-‬حــوض بــه غطــاء‬


‫وملفــات تربيــد‪ -‬وكنــت أملــؤه باملــاء كل ليلــة‪ .‬بحلــول الصبــاح‪ ،‬كانــت‬
‫هنــاك طبقــة رقيقــة مــن اجلليــد عــى الســطح‪ ،‬مــع درجــات حــرارة منخفضــة‬
‫يف الثالثينيــات‪ .‬قبــل الدخــول إليــه‪ ،‬كان عــي كــر اجلليــد‪« .‬ثــم قــرأت‬
‫أن اجلســم يســخن املــاء بعــد بضــع دقائــق‪ ،‬مــا مل يكــن املــاء يتحــرك‪ ،‬مثــل‬
‫الدوامــة‪ .‬لذلــك اشــريت حمــركًا للذهــاب إىل محــام اجلليــد‪ .‬وهبــذه الطريقــة‪،‬‬
‫متكنــت مــن احلفــاظ عــى درجــات حــرارة شــبه متجمــدة أثنــاء وجــودي‬
‫أيضــا مرتبــة مائيــة لرسيــري‪ ،‬والتــي قمــت بوضــع إعداداهتــا‬
‫فيهــا‪ .‬اشــريت ً‬
‫يف أدنــى درجــات احلــرارة‪ ،‬حــوايل ‪ 55‬درجة فهرهنايــت (‪ 13‬درج��ة مئوية)»‪.‬‬

‫توقــف مايــكل عــن احلديــث فجــأة ونظــر إىل بابتســامة غــر متوازنــة‪.‬‬
‫«واو‪ .‬أدرك أننــي أحتــدث عــن هــذا باسرتســال‪ ،‬يبــدو وكأنــه إدمــان»‬

‫يف أبريــل ‪ ،2019‬أرســل يل الربوفيســور آالن روزنــوارس مــن جامعــة‬


‫مــن بريــدً ا إلكرتون ًيــا‪ ،‬بح ًثــا عــن نســخة مــن فصــل نرشتــه مؤخـ ًـرا مــع زميــل‬
‫يل حــول دور التامريــن الرياضيــة يف عــاج اإلدمــان‪ .‬مل ألتــق بالربوفيســور‬
‫روزنــوارس مــن قبــل‪ .‬قمــت بإرســال الفصــل الــذي طلبــه منــي بعــد أن‬
‫حصلــت عــى إذن مــن النــارش‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بعد أسبوع تقري ًبا كتب يل مرة أخرى‪ ،‬وهذه املرة موضح ًا ما ييل‪:‬‬

‫«شــكرا عــى املشــاركة‪ .‬إحــدى املشــكالت التــي الحظتهــا والتــي‬


‫ً‬
‫مل تناقشــها الدراســة هــي مســألة مــا إذا كان جــري الفئــران واجلــرذان يف‬
‫نموذجــا للتامريــن الطوعيــة أو للتامريــن املرضيــة (إدمــان‬
‫ً‬ ‫العجلــة ُيعــد‬
‫التامريــن الرياضيــة)‪ .‬تظهــر بعــض احليوانــات التــي يتــم تربيتهــا يف عجــات‬
‫مــا يمكــن اعتبــاره مســتويات مفرطــة مــن اجلــري‪ ،‬وقــد أظهــرت إحــدى‬
‫الدراســات أن القــوارض الربيــة ستســتخدم عجلــة اجلــري التــي تُركــت‬
‫خــارج بيئــة املختــر»‪.‬‬

‫كنــت مفتونــة بــا ذكــره مــن مالحظــات‪ ،‬وكتبــت لــه مــرة أخــرى‬
‫عــى الفــور‪ .‬مــا ســأقدمه هنــا سلســلة مــن املحادثــات بينــي وبــن الدكتــور‬
‫روزنــوارس‪ ،‬الــذي أمــى األربعــن عا ًمــا املاضيــة يف دراســة إيقاعــات‬
‫أيضــا باســم «حقــل الســاعات»‪ ،‬هــذا‬
‫الســاعة البيولوجيــة‪ ،‬واملعروفــة ً‬
‫باإلضافـ�ة إىل أنـ�ه قـ�ام بتدريـسي جتـ�ارب عجـلات اجلـ�ري‪.‬‬

‫قــال يل روزنــوارس‪« :‬عندمــا بــدأ النــاس يف القيــام هبــذا العمــل ألول‬


‫مــرة‪ ،‬كان يعتقــد بصــورة خاطئــة أن عجــات اجلــري تُعــد وســيلة لتتبــع‬
‫النشــاط التلقائــي للحيوانــات‪ :‬الراحــة مقابــل احلركــة‪ .‬يف مرحلــة مــا‪،‬‬
‫أصبــح النــاس حساســن حلقيقــة أن عجــات اجلــري ليســت خاملــة‪ .‬إهنــم‬
‫مثــرون لالهتــام يف أنفســهم‪ .‬كانــت قفــزة البدايــة هــي تكويــن احلصــن‬
‫العصب��ي للبالغ�ين»‪.‬‬

‫يشــر هــذا إىل االكتشــاف الــذي تــم اكتشــافه قبــل بضعــة عقــود بأنــه‬

‫‪217‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫عــى عكــس مــا كان يــدرس يف الســابق‪ ،‬إذ يمكــن للبــر توليــد خاليــا‬
‫عصبيــة جديــدة يف الدمــاغ حتــى يف منتصــف ســن البلــوغ ويف مراحــل‬
‫متأخــرة منــه‪.‬‬

‫وتابــع روزنــوارس‪« :‬بمجــرد أن يتقبــل النــاس والدة اخلاليــا العصبيــة‬


‫اجلديــدة واندماجهــا يف الدوائــر العصبيــة‪ ،‬كانــت إحــدى أســهل الطــرق‬
‫لتحفيــز تكويــن اخلاليــا العصبيــة هــي اســتخدام عجلــة اجلــري‪ ،‬وتُعــد أكثــر‬
‫فاعليــة مــن البيئــات الغنيــة (املتاهــات املعقــدة‪ ،‬عــى ســبيل املثــال)‪ .‬أدى‬
‫ذلـ�ك إىل عـصر كامـ�ل مـ�ن األبحـ�اث يف عجـلات اجلـ�ري‪.‬‬

‫قــال روزنــوارس‪« :‬اتضــح أن عجــات اجلــري حتكمهــا نفــس‬


‫املســارات األفيونيــة شــبيهة الدوبامــن وشــبيهة احلشــيش‪ ،‬التــي تــؤدي إىل‬
‫تعاطــي املخــدرات القهــري‪ .‬مــن املهــم معرفــة أن عجــات اجلــري ليســت‬
‫نموذج��ا لنم��ط حي��اة صح��ي»‪.‬‬
‫ً‬ ‫بال�ضرورة‬

‫باختصار‪ ،‬عجالت اجلري هي خمدر‪.‬‬

‫را مــن األنفــاق‪ ،‬بــا‬


‫الفئــران املوضوعــة يف متاهــة معقــدة مــن ‪ 230‬م ـ ً‬
‫يف ذلــك املــاء والطعــام ومــواد احلفــر واألعشــاش‪ ،‬بعبــارة أخــرى‪ ،‬منطقــة‬
‫كبــرة هبــا الكثــر مــن األشــياء املتنوعــة واجلميلــة للقيــام هبــا‪ ،‬باإلضافــة إىل‬
‫عجلــة اجلــري‪ ،‬ســتقيض الفئــران معظــم وقتهــا عــى عجلــة اجلــري وتــرك‬
‫أجـ�زاء كبـيرة مـ�ن املتاهـ�ة غـير مستكشـ�فة‪.‬‬

‫بمجــرد أن تبــدأ القــوارض يف اســتخدام عجلــة اجلــري‪ ،‬يصعــب عليهــا‬


‫التوقــف‪ .‬تعمــل القــوارض عــى عجلــة اجلــري أبعــد بكثــر ممــا تفعــل عــى‬

‫‪218‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫وأيضــا أبعــد بكثــر ممــا تفعــل أثنــاء‬


‫جهــاز اجلــري املســطح أو يف املتاهــة‪ً ،‬‬
‫احلركـ�ة الطبيعيـ�ة يف البيئـ�ات الطبيعيـ�ة‪.‬‬

‫شــوهد يف إحــدى التجــارب أن القــوارض التــي متنــح عجلــة جــري يف‬


‫القفــص تقــوم باجلــري حتــى تنحنــي ذيوهلــا بشــكل دائــم إىل األعــى باجتــاه‬
‫منطقــة الــرأس‪ ،‬أي عــى شــكل عجلــة اجلــري‪ :‬كلــا كانــت العجلــة أصغــر‪،‬‬
‫كان منحنــى الذيــل أكثــر حــدة‪ .‬يف بعــض احلــاالت‪ ،‬تســتمر الفئــران باجلــري‬
‫حتـ�ى متــوت‪ .‬كــا يؤثــر موقــع ومــدى حداثــة وتعقيــد عجلــة اجلــري عــى‬
‫طريقـ�ة اسـ�تخدامها‪.‬‬

‫تفضــل الفئــران الربيــة العجــات املربعــة عــى العجــات الدائريــة‪،‬‬


‫والعجــات التــي حتتــوي عــى حواجــز داخلهــا عــى عجــات بــدون‬
‫ـدرا ملحو ًظــا مــن التنســيق واملهــارة البهلوانيــة‬
‫حواجــز‪ .‬إهنــم يظهــرون قـ ً‬
‫يف اجلــري داخــل العجــات‪ .‬مثــل املراهقــن يف حديقــة ألــواح التزلــج‪،‬‬
‫فإهنــم يســمحون «بحمــل أنفســهم بشــكل متكــرر تقري ًبــا إىل أعــى العجلــة‬
‫يف االجتاهــن األمامــي واخللفــي‪ ،‬أو الركــض عــى اجلــزء اخلارجــي مــن‬
‫العجلــة عــى الســطح العلــوي‪ ،‬أو لألعــى خــارج العجلــة بينــا حيققــون‬
‫قــدر ًا مــن التــوازن عــى ذيوهلــم»‪.‬‬

‫تكهــن يس‪ .‬ام‪ .‬شــروين يف مراجعتــه التــي أجراهــا عــى جتــارب‬


‫عجــات اجلــري يف عــام ‪ 1997‬أن خصائــص التعزيــز اجلوهريــة لعجــات‬
‫اجلــري كالتــايل‪ :‬قــد تكــون اجلــودة الثالثيــة األبعــاد لعجــات اجلــري‬
‫بمثابـ�ة تعزيزــ للحيوان��ات‪ .‬أثنــاء تشــغيل العجلــة ســيخترب احليــوان تغــرات‬
‫رسيعــة يف رسعــة واجتــاه حركتــه‪ ،‬ويرجــع ذلــك جزئ ًيــا إىل القــوى اخلارجيــة‬

‫‪219‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫(الزخ��م والقص��ور ال��ذايت للعجلةــ)‪ .‬قــد تكــون هــذه التجربــة معــززة‪ ،‬عــى‬
‫غــرار (بعــض) البــر الذيــن يســتمتعون بركــوب اخليــل يف املهرجانــات‬
‫واألعي��اد خاص��ة املتحركةــ ع�لى املس��توى العم��ودي‪)1( ...‬مــن غــر املحتمــل‬
‫أن حتــدث مثــل هــذه التغيــرات يف حركــة احليــوان يف الظــروف «الطبيعيــة»‪.‬‬

‫وضعــت جوانــا ميجــر ويــوري روبــرز مــن املركــز الطبــي بجامعــة‬


‫ليــدن يف هولنــدا عجلــة جــري يف منطقــة حرضيــة حيــث تعيــش الفئــران‬
‫الوحشــية‪ ،‬وأخــرى يف الكثبــان الرمليــة ال يمكــن للجمهــور الوصــول‬
‫إليهــا‪ .‬ثــم وضعــوا كامــرا فيديــو يف كل موقــع لتســجيل كل حيــوان زار‬
‫األقفـ�اص عـلى مـ�دار عامـين‪.‬‬

‫وكانــت النتيجــة مئــات احلــاالت للحيوانــات التــي تســتخدم عجــات‬


‫اجلــري‪« .‬أظهــرت املالحظــات أن الفئــران الوحشــية ركضــت عــى مــدار‬
‫العــام‪ ،‬وتزايــدت بشــكل مطــرد يف أواخــر الربيــع وبلغــت ذروهتــا يف‬
‫الصيــف يف املنطقــة احلرضيــة اخلــراء‪ ،‬بينــا زادت مــن منتصــف إىل أواخــر‬
‫الصيــف يف الكثبــان الرمليــة‪ ،‬ووصلــت إىل ذروهتــا يف أواخــر اخلريــف»‪.‬‬

‫أيضــا‬
‫مل يقتــر اســتخدام العجلــة عــى الفئــران الربيــة‪ .‬كانــت هنــاك ً‬
‫زبابيــات‪ 2‬وجــرذان ورخويــات وبزاقــات وضفــادع‪ ،‬أظهــر معظمهــا تعامـ ًـا‬
‫متعمـ�دً ا وهاد ًفـ�ا مـ�ع العجلـ�ة‪.‬‬

‫خلــص الباحثــون إىل أن «عجــات اجلــري يمكــن أن تكــون جمزيــة‬

‫((( يشري الباحث هنا إىل لعبة اخليول يف مدينة املالهي التي ترتفع وهتبط عمودي ًا (املرتمجة)‬
‫((( الزبابيات حيوانات ثدية آكلة لألشجار ( املرتمجة )‬

‫‪220‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫حتــى بــدون مكافــأة طعــام مرتبطــة هبــا‪ ،‬ممــا يشــر إىل أمهيــة األنظمــة‬
‫التحفيزيــة التــي ال عالقــة هلــا بالبحــث عــن الطعــام»‪.‬‬

‫إن الرياضــات املتطرفــة (القفــز باملظــات‪ ،‬وركــوب األمــواج بالطائــرة‬


‫الورقيـ�ة‪ ،‬والطـيران الرشاعـ�ي املعلـ�ق‪ ،‬والتزلـ�ج عـلى اجلليـ�د‪ ،‬والتزلـ�ج‬
‫باأللــواح والتزلــج عــى منحــدرات اجلليــد‪ ،‬والتجديــف بالكايــاك يف‬
‫الشــاالت‪ ،‬وتســلق اجلبــال اجلليديــة‪ ،‬وركــوب الدراجــات يف اجلبــال‪،‬‬
‫والتأرجــح يف الــوادي‪ ،‬والقفــز باحلبــال‪ ،‬والقفــز القاعــدي‪ ،‬والطــران ببدلــة‬
‫اجلنــاح) تضغــط بشــدة وبرسعــة عــى جانــب األمل يف ميــزان اللــذة واألمل‪.‬‬

‫فــاألمل الشــديد واخلــوف املصاحــب جلرعــة مــن األدرينالــن خيلقــان‬


‫خم��در ًا فعاــالً‪ .‬لقــد أظهــر العلــاء أن اإلجهــاد وحــده يمكــن أن يزيــد مــن‬
‫إفــراز الدوبامــن يف مســار املكافــأة يف الدمــاغ‪ ،‬ممــا يــؤدي إىل نفــس التغــرات‬
‫الدماغيــة التــي تُالحــظ مــع العقاقــر املســببة لإلدمــان مثــل الكوكايــن‬
‫وامليتامفيتام�ين‪ .‬مثلــا نتســامح مــع منبهــات اللــذة مــع التعــرض املتكــرر‪،‬‬
‫كذلــك يمكننــا أن نتســامح مــع املنبهــات املؤملــة‪ ،‬ونعيــد أدمغتنــا إىل جانــب‬
‫األمل‪.‬‬

‫وجــدت دراســة أجريــت عــى القفــز باملظــات مقارنــة بمجموعــة‬


‫التحكــم (املجدفــن) أن تكــرار عمليــة القفــز باملظــات جعلتهــم أكثــر‬
‫عرضةــ لتجربـ�ة انع�دـام التلذــذ‪ ،‬وقلـ�ة الف��رح‪ ،‬يف بقيــة حياهتـ�م‪ .‬كتــب‬
‫املؤلفــون أن «القفــز باملظــات لــه أوجــه تشــابه مــع الســلوكيات اإلدمانيــة‬
‫وأن التعــرض املتكــرر للتجــارب» املرتفعــة يف الطبيعــة «مرتبــط بانعــدام‬
‫التلــذذ»‪ .‬ال أكاد أســمي القفــز مــن طائــرة عــى ارتفــاع ‪ 13000‬قــدم «ارتفا ًعــا‬

‫‪221‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫طبيع ًيــا»‪ ،‬لكننــي أتفــق مــع االســتنتاج العــام للمؤلــف‪ :‬يمكــن أن يكــون‬
‫القفــز باملظــات إدما ًنــا ويمكــن أن يــؤدي إىل اضطــراب مزعــج دائــم إذا تــم‬
‫االنخرــاط في��ه بشكــل متكــرر‪ .‬فعليــا لقــد ســمحت لنــا التكنولوجيــا بدفــع‬
‫حــدود األمل البــري‪.‬‬

‫يف ‪ 12‬يوليــو ‪ ،2015‬حطــم ســكوت جوريــك رقــم الرسعــة القيــايس‬


‫الجتيــاز درب األبــاالش(‪ .)1‬ركــض مــن جورجيــا إىل مــن (‪ 2189‬ميــاً)‬
‫يف ‪ 46‬يو ًمــا و ‪ 8‬ســاعات و ‪ 7‬دقائــق‪ .‬لتحقيــق هــذا اإلنجــاز‪ ،‬اعتمــد عــى‬
‫التكنولوجيــا واألجهــزة التاليــة‪ :‬مالبــس خفيفــة الــوزن‪ ،‬مقاومــة للــاء‪،‬‬
‫مقاومــة للحــرارة‪ ،‬أحذيــة جــري مــن نــوع (‪ ،)Air-mesh‬جهــاز تعقــب‬
‫األقـمار الصناعيـ�ة ‪ ،GPS‬سـ�اعة ‪ ،GPS‬آيفــون‪ ،‬نظــام ترطيــب‪ ،‬أقــراص‬
‫إلكرتواليــت‪ ،‬أعمــدة رحــات قابلــة للطــي مــن األلومنيــوم‪« ،‬رشاشــات‬
‫امليــاه الصناعيــة لتحفيــز الرتطيــب»‪« ،‬مــرد ثلــج لتربيــد اجلســم‪ »،‬وطعــام‬
‫عــايل الســعرات احلراريــة ‪ 7000-6000‬ســعرة يف اليــوم‪ ،‬وآلــة ضغــط هوائــي‬
‫لتدليــك الســاق‪ ،‬والتــي تعمــل بواســطة ألــواح الطاقــة الشمســية املتصلــة‬
‫بسـ�طح شـ�احنة الدعـ�م‪ ،‬التـ�ي تقودهـ�ا زوجتـ�ه وطاقمـ�ه‪.‬‬

‫يف نوفمــر ‪ ،2017‬ســبح لويــس بــوغ ملســافة كيلومــر واحــد يف امليــاه‬


‫املتجمــدة بالقــرب مــن القــارة القطبيــة اجلنوبيــة حيــث كانــت درجــة‬
‫احلــرارة‪ 3‬درجــات حتــت الصفــر أي ‪ 26‬فهرهنايــت‪ ،‬وهــو يرتــدي مالبــس‬

‫((( هي درب مــي ملســافات طويلــة مشــهورة يف رشق الواليــات املتحــدة األمريكيــة ومتتــد‬
‫بني‪ ‬جبــل ســرينغر يف جورجيا وجبل كاتاهديــن يف والية مــن‪ .‬يرتادهــا عشــاق رياضــة املــي‬
‫(‪)hiking‬‬

‫‪222‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ســباحة عاديــة‪ .‬كان يتطلــب الوصــول إىل هنــاك الســفر جــو ًا وبحــر ًا مــن‬
‫موطــن بــوغ يف جنــوب إفريقيــا إىل جورجيــا اجلنوبية‪ ،‬وهــي جزيــرة بريطانية‬
‫نائيــة‪ .‬بمجــرد أن انتهــى بــوغ مــن الســباحة‪ ،‬نقلــه طاقمــه إىل ســفينة قريبــة‪،‬‬
‫حيــث تــم غمــره يف املــاء الســاخن وبقــي فيــه ملــدة مخســن دقيقــة تقريب ـ ًا‪،‬‬
‫وكان ذلــك إلعــادة درجــة حــرارة جســمه األساســية إىل طبيعتهــا‪ .‬بــدون‬
‫هـ�ذا التدخـ�ل‪ ،‬كان سـ�يموت بالتأكيـ�د‪.‬‬

‫يبــدو صعــود أليكــس هونولــد إىل جبــل إل كابيتــان وكأنــه اإلنجــاز‬


‫البــري النهائــي الــذي يتجنــب التكنولوجيــا‪ .‬دون حبــال‪ .‬ودون معــدات‪.‬‬
‫شــخص واحــد فقــط ضــد اجلاذبيــة يف عــرض يتحــدى املــوت بمنتهــى‬
‫الشــجاعة واإلتقــان‪ .‬ولكــن بــكل املقاييــس‪ ،‬مل يكــن إنجــاز هونولــد ممكنًــا‬
‫ل��وال «مئ�اـت الس��اعات م��ن التدري��ب ع�لى فريرايـ�در (الطريــق الــذي‬
‫ســلكه)‪ ،‬وهــو مربوط ـ ًا بحبــال‪ ،‬حيــث وضــع تصميــم رقصــات موزونــة‬
‫للطريقــة التــي يضــع هبــا يــده عــى الصخــور‪ ،‬تــم التــدرب عليهــا بدقــة لــكل‬
‫قســم‪ ،‬وحفــظ اآلالف مــن تسلســات اليــد والقــدم املعقــدة»‪.‬‬

‫تــم تصويــر صعــود هونولــد مــن قبــل طاقــم تصويــر ســينامئي حمــرف‬
‫وحتــول إىل فيلــم شــاهده املاليــن‪ ،‬ممــا أدى إىل متابعــة هائلــة عــى وســائل‬
‫التواصــل االجتامعــي وشــهرة عامليــة‪ .‬إذ يســهم األغنيــاء واملشــاهري يف‬
‫احتامليــة اإلدمــان عــى الرياضــات املتطرفــة‪ ،‬وهــذا بعــد آخــر يف اقتصادنــا‬
‫القائــم عــى الدوبامــن‪.‬‬

‫إن «متالزمــة اإلفــراط يف التدريــب» حالــة موصوفــة جيــدً ا‪ ،‬ولكنهــا‬


‫ـرا‬
‫غــر مفهومــة بشــكل واضــح بــن رياضيــي القــوى الذيــن يتدربــون كثـ ً‬

‫‪223‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫لدرجــة أهنــم يصلــون إىل نقطــة مل يعــد فيهــا التمريــن ينتــج اإلندورفــن‬
‫ـرا جــدً ا يف وقــت ســابق‪ .‬بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬جتعلهــم التامريــن‬
‫الــذي كان وفـ ً‬
‫الرياضيــة يشــعرون باالســتنزاف واالضطــراب‪ ،‬كــا لــو أن تــوازن مكافآهتــم‬
‫قــد بلــغ احلــد األقــى وتوقــف عــن العمــل‪ ،‬وهــذا مشــابه ملــا رأينــاه مــع‬
‫مريـضي كريـ�س واملـ�واد األفيونيـ�ة‪.‬‬

‫أنــا ال أفــرض أن كل مــن يشــارك يف الرياضــات املتطرفــة و‪/‬أو‬


‫رياضــات القــوى لديــه ســلوك إدمــاين‪ ،‬بــل أســلط الضــوء عــى أن خطــر‬
‫اإلدمــان عــى أي مــادة أو ســلوك يــزداد مــع زيــادة الفعاليــة والكميــة واملــدة‪.‬‬
‫يمكــن لألشــخاص الذيــن يميلــون بشــدة ولفــرة طويلــة جــدً ا عــى جانــب‬
‫أيضــا يف حالــة عجــز مســتمر يف‬ ‫األمل مــن التــوازن أن ينتهــي هبــم األمــر ً‬
‫الدوبامـين‪.‬‬

‫***‬

‫يمكــن أن يزيــد الكثــر مــن األمل ‪-‬يف حــال كان شــديدً ا جــدً ا ‪ -‬مــن‬
‫خطــورة أن يصبــح الشــخص مدمنًــا عــى األمل‪ ،‬وهــو أمــر الحظتــه مــن‬
‫كثــرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫خــال خــريت يف املامرســة اإلكلينيكيــة‪ .‬كان لــدي مريضــة جتــري‬
‫وأصيبــت بكســور يف عظــام ســاقها وحتــى ذلــك احلــن مل تتوقــف عــن‬
‫اجلــري‪ .‬ومريضــة أخــرى‪ ،‬قطعــت ســاعدهيا وفخذهيــا بشــفرة حالقــة‬
‫لتشــعر بالنشــوة‪ ،‬ولتهدئــة حالــة االجــرار الذهنــي املســتمر لدهيــا‪ .‬مل تســتطع‬
‫التوقـ�ف عـ�ن القطـ�ع حتـ�ى مـ�ع خطـ�ر حـ�دوث نـ�دوب وعـ�دوى شـ�ديدة‪.‬‬

‫عندمــا تصــورت ســلوكياهتم عــى أهنــا إدمــان وعاملتهــا كــا أفعــل مــع‬
‫أي مريــض مصــاب باإلدمــان‪ ،‬أدى ذلــك إىل حتســنهم‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫إدمان العمل‬

‫«مدمــن العمــل» هــو عضــو مشــهور يف املجتمــع‪ .‬ربــا ليــس يف مــكان‬


‫آخــر أكثــر مــن وادي الســليكون‪ ،‬حيــث يكــون املعتــاد والنمطــي هــو ‪100‬‬
‫متاحــا ‪.7/24‬‬
‫ســاعة عمــل يف األســبوع وأن يكــون املوظــف ً‬

‫قــررت يف عــام ‪ ،2019‬بعــد ثــاث ســنوات مــن الســفر شــهر ًيا للعمــل‪،‬‬
‫أن أقــوم باحلــد مــن الســفر يف حماولــة إلعــادة التــوازن مــا بــن عمــي وحيــايت‬
‫األرسيــة‪ .‬يف البدايــة كنــت أخــر النــاس بشــفافية عــن الســبب‪ :‬أردت‬
‫املزيــد مــن الوقــت مــع عائلتــي‪ .‬بــدا النــاس منزعجــن‪ ،‬هــذا باإلضافــة إىل‬
‫تافهــا مــن‬
‫شــعورهم باإلهانــة‪ ،‬ألننــي ســأرفض دعوهتــم لســبب قــد ُيعــد ً‬
‫وجهــة نظرهــم‪ ،‬مثــل «الوقــت مــع العائلــة»‪ .‬جلــأت يف النهايــة إىل القــول‪:‬‬
‫إن لــدي مشــاركة أخــرى‪ ،‬والتــي قوبلــت بمقاومــة أقــل‪ .‬يبــدو أن عمــي يف‬
‫مـ�كان آخـ�ر كان مقبـ�والً‪.‬‬

‫يتــم اآلن نســج احلوافــز غــر املرئيــة يف البنــاء الوظيفــي ملوظفــي‬


‫الياقــات البيضــاء‪ ،‬ســواء مــن احتامليــة املكافــآت وخيــارات املســامهة إىل‬
‫الوعــد بالرتويــج‪ .‬حتــى يف جمــاالت مثــل الطــب‪ ،‬يــرى مقدمــو الرعايــة‬
‫الصحيــة املزيــد مــن املــرىض‪ ،‬ويكتبــون املزيــد مــن الوصفــات الطبيــة‪،‬‬
‫وجيــرون املزيــد مــن العمليــات؛ ألهنــم حمفــزون عــى القيــام بذلــك‪ .‬أحصــل‬
‫عــى تقريــر شــهري يوضــح إنتاجيتــي‪ ،‬ويتــم قياســه بــا تــم دفعــه يل بالنيابــة‬
‫عـ�ن املؤسسـ�ة التـ�ي أعمـ�ل هبـ�ا‪.‬‬

‫عــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬أصبحــت وظائــف ذوي الياقــات الزرقــاء‬

‫‪225‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫آليــة بشــكل متزايــد ومنفصلــة عــن معنــى العمــل نفســه‪ .‬مــن خــال العمــل‬
‫حتــت إرشاف املســتفيدين البعيديــن‪ ،‬هنــاك اســتقاللية حمــدودة ومكاســب‬
‫ماليــة متواضعــة وإحســاس ضئيــل بالعمــل املشــرك‪ .‬يــؤدي عمــل خــط‬
‫التجميــع املجــزأ إىل جتزئــة الشــعور باإلنجــاز وتقليــل االتصــال باملســتهلك‬
‫النهائــي للمنتــج‪ ،‬وكالمهــا أســاس للدافــع الداخــي‪ .‬والنتيجــة هــي عقليــة‬
‫«العمــل اجلاد‪/‬اللعــب اجلــاد» حيــث يصبــح االســتهالك القهــري املفــرط‬
‫هـ�و املكافـ�أة يف هنايـ�ة يـ�وم مـ�ن الكـ�دح‪.‬‬

‫ال عجــب إذن أن أولئــك الذيــن لدهيــم أقــل مــن تعليــم ثانــوي يف‬
‫وظائــف منخفضــة األجــر يعملــون أقــل مــن أي وقــت مــى‪ ،‬يف حــن أن‬
‫أصحــاب األجــور العاليــة‪ ،‬مــن املتعلمــن تعليــ ًا عاليــ ًا يعملــون أكثــر‪.‬‬

‫بحلــول عــام ‪ ،2002‬كان احتــال عمــل ‪ % 20‬مــن األشــخاص األعــى‬


‫أجــر ًا لســاعات طويلــة ضعــف احتــال عمــل ‪ % 20‬مــن األشــخاص األقــل‬
‫أجــر ًا‪ ،‬ويســتمر هــذا االجتــاه‪ .‬ويتكهــن االقتصاديــون بــأن هــذا التغيــر‬
‫يرجــع إىل مكافــآت أعــى ملــن هــم يف قمــة السلســلة الغذائيــة االقتصاديــة‪.‬‬
‫أجــد صعوبــة يف بعــض األحيــان يف منــع نفــي مــن العمــل بمجــرد أن أبــدأ‪.‬‬
‫الشــعور «بتدفــق» الرتكيــز العميــق هــو خمــدر يف حــد ذاتــه‪ ،‬يطلــق الدوبامــن‬
‫وخيلــق أعــى مســتوى لــه‪ .‬هــذا النــوع مــن الرتكيــز أحــادي التفكــر‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن مكافأتــه بشــدة يف الــدول الغنيــة احلديثــة‪ ،‬يمكــن أن يكــون ً‬
‫فخــا‬
‫عندمــا يمنعنــا لبقيــة حياتنــا مــن الروابــط األرسيــة‪ ،‬والعالقــات احلميميــة‬
‫مــع األصدقــاء والعائلــة‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫احلكم عىل األمل‬

‫كــا لــو كان ُجُييــب عــن ســؤاله بنفســه حــول مــا إذا كان قــد أصبــح‬
‫مدمنًــا عــى الغطــس يف املــاء البــارد‪ ،‬قــال مايــكل‪« ،‬مل خيــرج األمــر عــن‬
‫الســيطرة أبــدً ا‪ .‬ملــدة عامــن إىل ثالثــة أعــوام‪ ،‬أخــذت محا ًمــا بميــاه مثلجــة‬
‫ملــدة عــر دقائــق كل صبــاح‪ .‬اآلن أنــا لســت مهتـ ًـا بــه كــا كنــت يف الســابق‪.‬‬
‫أفعــل ذلــك يف املتوســط ثــاث مــرات يف األســبوع»‪.‬‬

‫وتابــع‪« :‬الــيء الرائــع ح ًقــا هــو أنــه أصبح نشــا ًطا عائل ًيــا‪ ،‬وشــيئ ًا نفعله‬
‫م��ع األصدق��اء‪ .‬املفارقــة هــو أن تعاطــي املخــدرات‪ ،‬كان دائـ ًـا اجتامعيـ ًا‪ .‬مثل‬
‫حفــات الكليــة التــي حيتفــل فيهــا الطلبــة بجمــوح‪ .‬اجللــوس مع ـ ًا ورشب‬
‫الكحــول واستنشــاق خطــوط الكوكايــن‪ ،‬كل هــذا مــن أجــل االحتفــال»‪.‬‬

‫«اآلن‪ ،‬مل أعــد أفعــل ذلــك‪ .‬بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬يــأيت اثنــان مــن أصدقائنــا‬
‫ـدي حــوض خمصــص تــم‬
‫مــع أطفاهلــم‪ ،‬ونقــوم بعمــل حفلــة مــاء بــارد‪ .‬لـ ّ‬
‫تعيينــه عــى درجــة منتصــف األربعينــات‪ ،‬ويتنــاوب اجلميــع عــى الدخــول‪،‬‬
‫بالتنــاوب مــع حــوض االســتحامم الســاخن‪ .‬لدينــا مؤقــت ونشــجع بعضنــا‬
‫بعضـ ًا‪ ،‬بــا يف ذلــك األطفــال‪ .‬لقــد انتــر هــذا االجتــاه بــن أصدقائنــا ً‬
‫أيضــا‪.‬‬
‫حيــث تذهــب جمموعــة مــن النســاء مــن أصدقائنــا إىل شــاطئ اخلليــج مــرة‬
‫يف األســبوع للغطــس يف املــاء البــارد‪ ،‬يغمــرون أنفســهم إىل أعناقهــم‪ .‬تكــون‬
‫درجــة احلــرارة يف اخلمســينات‪.‬‬

‫«ثم ماذا؟»‬

‫ضحك «ال أعرف»‪« .‬ربام خيرجون وحيتفلون»‪ .‬كالنا ابتسم‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«لقــد قلــت عــدة مــرات أنــك تفعــل ذلــك؛ ألنــه جيعلــك تشــعر أنــك‬
‫عــى قيــد احليــاة‪ .‬هــل يمكنــك أن تــرح؟»‬

‫«أنــا ال أحــب حقـ ًا الشــعور بأننــي عــى قيــد احليــاة‪ .‬كانــت املخــدرات‬
‫والكحــول طريقــة للتكيــف مــع هــذا الشــعور‪ .‬ولكــن ال يمكننــي فعــل ذلك‬
‫بعــد اآلن‪ .‬عندمــا أرى النــاس حيتفلــون بــرب الكحــول أو املخــدرات‪،‬‬
‫مــا زلــت أشــعر بالغــرة قليــ ً‬
‫ا مــن نــوع اهلــروب الــذي حيصلــون عليــه‪.‬‬
‫أســتطيع أن أرى أهنــم حيصلــون عــى نــوع مــن اإلرجــاء والتأجيــل‪ .‬واملــاء‬
‫البــارد يذكــرين أن البقــاء عــى قيــد احليــاة يمكــن أن يكــون شــعور ًا جيــد ًا»‪.‬‬

‫إذا اســتهلكنا الكثــر مــن األمل بصــورة قويــة جــدً ا‪ ،‬فإننــا نخاطــر‬
‫باإلفـ�راط يف االسـ�تهالك القهـ�ري واملدمـ�ر‪.‬‬

‫ولكــن إذا اســتهلكنا الكميــة املناســبة فقــط‪ ،‬أي «تثبيــط األمل الشــديد‬
‫بالقليــل مــن األمل»‪ ،‬فإننــا نكتشــف الطريــق إىل الشــفاء باإلهنــاض‪ ،‬وربــا‬
‫حتــى احلصــول عــى «نوبــة الفــرح» العرضيــة‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل الثامن‬
‫الصدق الصارم‬

‫احتــوت كل ديانــة رئيســة ومدونــة أخالقيــة عــى الصــدق باعتبــاره‬


‫أمـ ًـرا أساس ـ ًيا لتعاليمهــا األخالقيــة‪ .‬اعتمــد مجيــع مرضــاي الذيــن حققــوا‬
‫الشــفاء عــى املــدى الطويــل عــى قــول احلقيقــة باعتبارهــا أمـ ًـرا بالــغ األمهيــة‬
‫أيضــا بــأن‬
‫الســتمرار الصحــة العقليــة واجلســدية‪ .‬لقــد أصبحــت مقتنعــة ً‬
‫الصــدق الصــارم ليــس مفيــدً ا فقــط للحــد مــن اإلفــراط يف االســتهالك‬
‫أيضــا إىل جوهــر احليــاة اجليــدة‪.‬‬
‫القهــري ولكــن فائدتــه متتــد ً‬

‫حيســن قــول احلقيقــة حياتنــا؟ دعونــا أوالً نثبــت‬


‫الســؤال هــو‪ ،‬كيــف ّ‬
‫أن قــول احلقيقــة أمــر مــؤمل‪ .‬نحــن مرتبطــون منــذ العصــور األوىل بالكــذب‪،‬‬
‫وكلنـ�ا نفعـ�ل ذلـ�ك‪ ،‬سـ�واء كنـ�ا هنتـ�م باالعـتراف بذلـ�ك أم ال‪.‬‬

‫يبــدأ األطفــال يف الكــذب يف وقــت مبكــر منــذ ســن الثانيــة‪ .‬كلــا كان‬
‫الطفــل أكثــر ذكا ًء‪ ،‬زاد احتــال كذبــه‪ ،‬وزاد إتقانــه لذلــك‪.‬‬

‫يميــل الكــذب إىل االنخفــاض بــن ســن الثالثــة والرابعــة عــرة؛‬


‫ربــا ألن األطفــال أصبحــوا أكثــر وع ًيــا بالكيفيــة التــي يــؤذي هبــا الكــذب‬
‫اآلخريــن‪ .‬مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬فــإن البالغــن قــادرون عــى اختــاق أكاذيــب‬

‫‪229‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫معاديــة للمجتمــع تتســم بالتعقيــد عــى خــاف أكاذيــب األطفــال‪ ،‬حيــث‬


‫تصبــح القــدرة عــى التخطيــط والتذكــر أكثــر تقد ًمــا‪.‬‬

‫يبلــغ متوســط الكــذب لــدي األشــخاص البالغــن مــا بــن ‪ 0.59‬و‬


‫‪ 1.56‬كذبــة يوميــ ًا‪ .‬كاذب‪ ،‬كاذب‪ ،‬رسوال حيــرق(‪ ،)1‬لدينــا مجي ًعــا القليــل‬
‫مـ�ن الدخـ�ان يتصاعـ�د مـ�ن رساويلنـ�ا‪.‬‬

‫البــر ليســوا احليوانــات الوحيــدة التــي لدهيــا القــدرة عىل اخلــداع‪ .‬تعج‬
‫مملكــة احليوانــات بأمثلــة للخــداع الــذي يســتخدم كســاح دفــاع وهجــوم‬
‫واق للحاميـ�ة‪ .‬عـلى سـ�بيل املثـ�ال ختـترق خنفسـ�اء ‪Lomechusa‬‬ ‫أو درع ٍ‬
‫‪ pubicollis‬مســتعمرات النمــل مــن خــال التظاهــر بأهنــا واحــدة منهــم‪،‬‬
‫وحتقــق ذلــك مــن خــال إطــاق مــادة كيميائيــة جتعلهــا تشــبه رائحــة النمــل‪.‬‬
‫بمجــرد دخوهلــا ملســتعمرات النمــل‪ ،‬تتغــذى اخلنفســاء عــى بيــض النمــل‬
‫ويرقاتــه‪.‬‬

‫لك��ن ال يوج��د حي��وان آخ��ر يناف��س الق��درة البرشي��ة ع�لى الك��ذب‪.‬‬


‫إذ يتكهــن علــاء األحيــاء التطوريــة بــأن تطــور اللغــة البرشيــة يفــر ميلنــا‬
‫وقدرتنــا الفائقــة عــى الكــذب‪ .‬القصــة تســر عــى هــذا النحــو‪ .‬بلــغ تطــور‬
‫اإلنســان العاقــل ذروتــه يف تكويــن جمموعــات اجتامعيــة كبــرة‪ .‬وقــد أمكــن‬
‫إنشــاء جمموعــات كبــرة بســبب تطــور أشــكال االتصــال املتطــورة‪ ،‬مما ســمح‬
‫أيضــا اســتخدام الكلــات املســتخدمة‬ ‫بتطويــر التعــاون املتبــادل‪ .‬يمكــن ً‬
‫للتعــاون وللخــداع والتضليــل‪ .‬كلــا تطــورت اللغــة‪ ،‬أصبحــت األكاذيــب‬
‫أكثــر تعقيـ�دً ا‪.‬‬

‫((( تعبري يستخدم عند فضح الكذبة‪ ،‬وهو دارج يف الثقافة األمريكية (املرتمجة)‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يمكــن القــول‪ :‬إن لألكاذيــب بعــض امليــزات التكيفيــة عندمــا يتعلــق‬


‫األمــر بالتنافــس عــى املــوارد الشــحيحة‪ ،‬لكــن الكــذب يف عــامل مــيء بالوفرة‬
‫خياط��ر بالعزل�ةـ والش��غف واالس�تـهالك املف��رط املـ�ريض س��أرشح ذل��ك‪..‬‬

‫***‬

‫قلــت ملاريــا بينــا كنــا نجلــس مقابــل بعضنــا البعــض يف أبريــل ‪:2019‬‬
‫«تبديــن بحــال جيــدة»‪ .‬كان شــعرها البنــي الداكــن مصفــف بشــكل احــرايف‬
‫قميصــا حمتشـ ًـا ذا ياقــة وبنطــاالً‪ .‬كانــت مبتســمة‬
‫ً‬ ‫وجــذاب‪ ،‬كانــت ترتــدي‬
‫ويقظــة‪ ،‬وبــدا أهنــا فعليــ ًا يف حالــة جيــدة‪ ،‬كــا كانــت خــال الســنوات‬
‫اخلمـ�س املاضيـ�ة حـين كنـ�ت أعاجلهـ�ا‪.‬‬

‫كانــت ماريــا يف حالــة هــداة(‪ )1‬مســتمرة من اضطــراب تعاطــي الكحول‬


‫طــوال الوقــت الــذي كنــت أعرفهــا فيــه‪ .‬لقــد جــاءت إ ّيل بالفعــل وهــي يف‬
‫مرحلــة التعــايف‪ ،‬فلقــد حتقــق تعافيهــا مــن خــال حضورهــا الجتامعــات‬
‫مدمنــي الكحــول املجهولــن‪ ،‬وعملهــا باجتهــاد مــع مرشــدها‪ ،‬كانــت تــراين‬
‫مــن حــن آلخــر لتســجيل الوصــول وإعــادة رصف أدويتهــا‪ .‬أكاد أكــون‬
‫متيقنــة أننــي تعلمــت منهــا أكثــر ممــا تعلمــت هــي منــي‪ ،‬يشء واحــد علمتنــي‬
‫إيـ�اه هـ�و أن قـ�ول احلقيقـ�ة أمـ�ر أسـ�اس لشـ�فائها‪.‬‬

‫كانــت والــدة ماريــا مدمنــة عــى الكحــول‪ ،‬كانــت تــرب إىل أن‬
‫تفقــد الوعــي‪ ،‬رشبــت أثنــاء القيــادة بينــا كانــت ماريــا يف الســيارة‪ .‬أمــا‬

‫((( يشــر املصطلــح إىل مرحلــة انخفــاض أو اختفــاء عالمــات وأعــراض اإلدمــان‪ ،‬يســتخدم‬
‫مرضــا للعقــل واجلســد‬
‫أيضــا عــى نطــاق واســع مــع اإلدمــان؛ ألنــه ُيعــد ً‬
‫مصطلــح «هــداة» ً‬
‫والــروح (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫بالنســبة لوالدهــا‪ ،‬فقــد هجــر العائلــة منــذ عــدة ســنوات إىل مــكان مل ُيســمح‬
‫ألحــد بتســميته‪ ،‬والــذي تفضــل حتــى اآلن عــدم الكشــف عنــه احرتا ًمــا‬
‫خلصوصيتــه‪ُ .‬تــرك هلــا رعايــة أشــقائها الصغــار بينــا كانــت تتظاهــر للعــامل‬
‫اخلارجــي بــأن كل يشء عــى مــا يــرام يف املنــزل‪ .‬يف ذلــك الوقــت بــدأ إدمــان‬
‫ماريــا عــى الكحــول يف منتصــف العرشينــات مــن عمرهــا‪ ،‬يف ذلــك العمــر‬
‫تدربـ�ت عـلى تدبـير أمورهـ�ا والتعامـ�ل مـ�ع إصـ�دارات خمتلفـ�ة مـ�ن الواقـ�ع‪.‬‬

‫لتوضيــح أمهيــة الصــدق يف حياهتــا اجلديــدة اخلاليــة مــن الثمــل‪،‬‬


‫أخربتنـ�ي هبـ�ذه القصـ�ة‪.‬‬

‫«عــدت إىل املنــزل مــن العمــل ووجــدت طــرد ًا مــن أمــازون ملاريــو»‬
‫ماريــو هــو شــقيق ماريــا األصغــر‪ .‬فهــي وزوجهــا دييغــو يقطنــان مــع ماريــو‬
‫بعضــا‪ ،‬وتوفــر اإلجيــار يف ســوق العقــارات الراقيــة‬
‫كوســيلة لدعــم بعضهــا ً‬
‫يف وادي الســيليكون‪.‬‬

‫موجه��ا إ ّيل‪ .‬كان جــزء منــي‬


‫ً‬ ‫«ق��ررت فتحــه علـى الرغمــ م��ن أنـ�ه مل يك��ن‬
‫ـي ذلــك‪ .‬عندمــا فتحــت طــر ًدا ســاب ًقا لــه مــن قبــل‪،‬‬
‫يعلــم أنــه ال ينبغــي عـ ّ‬
‫غضــب منــي بشــدة‪ .‬لكننــي كنــت أعلــم أنــه يمكننــي اســتخدام نفــس العــذر‬
‫الــذي اســتخدمته يف املــرة الســابقة‪ ،‬وهــو أننــي ظننــت باخلطــأ أنــه اســمي‪،‬‬
‫نظـ ًـرا للتشــابه الكبــر بــن اســمينا‪ .‬قلــت لنفــي إننــي‪ :‬أســتحق متعــة صغرية‬
‫بعــد يــوم طويــل مــن العمــل الشــاق‪ .‬ال أتذكــر اآلن مــا كان بالداخــل»‪.‬‬

‫«بعــد أن فتحــت الطــرد‪ ،‬أعــدت إغالقــه وتركتــه مــع بقيــة الربيــد‪.‬‬


‫حتــى أكــون أكثــر صد ًقــا‪ ،‬لقــد نســيت ذلــك‪ .‬عــاد ماريــو إىل املنــزل بعــد‬

‫‪232‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بضــع ســاعات واهتمنــي عــى الفــور بفتحــه‪ .‬كذبــت وقلــت إننــي مل أفعــل‪.‬‬
‫ســألني مــرة أخــرى وكذبــت مــرة أخــرى‪ .‬ظــل يقــول‪« :‬يبــدو أن أحدهــم‬
‫فتحــه»‪ .‬ظللــت أقــول‪« ،‬مل أكــن أنــا»‪ .‬ثــم كان غاض ًبــا ح ًقــا وأخــذ بريــده‬
‫وطـ�رده ودخـ�ل غرفتـ�ه وأغلـ�ق البـ�اب‪.‬‬

‫«لقــد نمــت بشــكل ســيئ يف تلــك الليلــة‪ .‬يف صبــاح اليــوم التــايل‪،‬‬
‫عرفــت مــا جيــب عــي فعلــه‪ .‬دخلــت املطبــخ حيــث كان ماريــو ودييغــو‬
‫يتنــاوالن اإلفطــار وقلــت‪« :‬ماريــو‪ ،‬لقــد فتحــت طــردك‪ .‬كنــت أعلــم أنــه‬
‫لــك‪ ،‬لكننــي فتحتــه عــى أي حــال‪ .‬ثــم حاولــت إخفــاء األمــر‪ .‬ثــم كذبــت‬
‫بشــأن ذلــك‪ .‬أنــا آســفة جــدا‪ .‬أرجــو أن تغفــر يل»‬

‫قلت‪« :‬أخربيني ملاذا الصدق جزء مهم من شفائك؟»‬

‫«عندمــا كنــت أرشب مل أكــن ألعــرف باحلقيقــة أبــد ًا‪ .‬يف ذلــك الوقــت‪،‬‬
‫كذبــت بشــأن كل يشء ومل أحتمــل مســؤولية األشــياء التــي فعلتهــا‪ .‬كان‬
‫هنــاك الكثــر مــن األكاذيــب‪ ،‬ونصفهــا مل يكــن منطق ًيــا أو قابـ ً‬
‫ا للتصديــق»‪.‬‬

‫أخــرين زوج ماريــا‪ ،‬دييغــو‪ ،‬ذات مــرة كيــف اعتــادت ماريــا االختبــاء‬
‫يف احلــام للــرب‪ ،‬تقــوم بتشــغيل الــدش حتــى ال يســمع دييغــو صــوت‬
‫زجاجــات البــرة وهــي تُفتــح‪ ،‬ومل تــدرك أنــه يســتطيع ســاع قرقعــة فتاحــة‬
‫الزجــاج التــي كانــت ختبئهــا خلــف بــاب احلــام‪ .‬وصــف كيــف كانــت‬
‫تــرب ســت عبــوات يف جلســة واحــدة‪ ،‬ثــم تســتبدل البــرة باملــاء وتقــوم‬
‫بإعــادة إغــاق الغطــاء‪« .‬هــل اعتقــدت ح ًقــا أننــي لــن أكــون قـ ً‬
‫ـادرا عــى شــم‬
‫رائحــة الغــراء‪ ،‬أو تــذوق الفــرق بــن املــاء والكحــول؟»‬

‫‪233‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫قالــت ماريــا‪« ،‬لقــد كذبــت للتســر عــى رشيب‪ ،‬لكننــي كذبــت بشــأن‬
‫أيضــا‪ .‬أشــياء ال هتــم حتــى‪ :‬إىل أيــن أذهــب؟ متــى ســأعود؟‬
‫أشــياء أخــرى ً‬
‫مل��اذا تأخ��رت؟ م��ا أكلت��ه ع�لى اإلفط��ار»‪.‬‬

‫طــورت ماريــا عــادة الكــذب‪ .‬مــا بــدا كوســيلة للتســر عــى رشب‬
‫والدهت��ا وغي��اب والده��ا‪ ،‬ويف النهاي��ة إدماهن��ا‪ ،‬حت��ول إىل ك��ذب م��ن أجل��ه‪.‬‬
‫لقــد كــرت لتتعلــم العكــس‪.‬‬

‫مــن الســهل بشــكل ملحــوظ الوقــوع يف عــادة الكــذب‪ .‬ننخــرط مجي ًعــا‬
‫يف الكــذب املنتظــم‪ ،‬يف معظــم األوقــات دون أن نــدرك ذلــك‪ .‬أكاذيبنــا‬
‫صغــرة جــدً ا وغــر حمسوســة لدرجــة أننــا نقنــع أنفســنا بأننــا نقــول احلقيقــة‪.‬‬
‫أو أنـ�ه ال هيـ�م‪ ،‬حتـ�ى لـ�و علمنـ�ا أننـ�ا نكـ�ذب‪.‬‬

‫ـرت ماريــو باحلقيقــة يف ذلــك اليــوم‪ ،‬عــى الرغــم مــن أننــي‬


‫«عندمــا أخـ ُ‬
‫كنــت أعــرف أنــه ســيكون غاض ًبــا‪ ،‬كنــت أعــرف أن شــي ًئا مــا قــد تغــر ح ًقــا‬
‫يف حيــايت‪ .‬كنــت أعلــم أننــي ملتزمــة بعيــش احليــاة بطريقــة خمتلفــة‪ ،‬بطريقــة‬
‫أفضــل‪ .‬لقــد انتهيــت مــن كل تلــك األكاذيــب الصغــرة التــي متــأ مؤخــرة‬
‫ذهنــي وجتعلنــي أشــعر بالذنــب واخلــوف‪ ..‬مذنبــة بســبب الكــذب وخائفــة‬
‫مــن أن يكتشــف أحدهــم ذلــك‪ .‬أدركــت أنــه طاملــا أننــي أقــول احلقيقــة‪ ،‬فــا‬
‫داعــي للقلــق بشــأن أي مــن ذلــك‪ .‬أنــا حــرة‪ .‬بعــد أن أخــرت أخــي باحلقيقــة‬
‫بشــأن الطــرد‪ ،‬كانــت نقطــة انطــاق لتقــارب عالقتنــا‪ .‬عــدت إىل الطابــق‬
‫العلــوي بعــد ذلــك وأنــا أشــعر أننــي بحالــة جيــدة ح ًقــا»‪.‬‬

‫الصــدق الصــارم – أي قــول احلقيقــة عــن األشــياء الكبــرة والصغــرة‪،‬‬

‫‪234‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫خاصــة عندمــا يفضــح ذلــك نواقصنــا ويرتتــب عليــه عواقب‪ -‬أمــر رضوري‬
‫ليــس فقــط للتعــايف مــن اإلدمــان ولكــن لنــا مجي ًعــا إذا مــا أردنــا حماولــة عيــش‬
‫حيــاة أكثــر تواز ًنــا يف نظامنــا البيئــي املشــبع باملكافــآت‪ .‬إن ذلــك يعمــل عــى‬
‫عـ�دة مسـ�تويات‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬الصــدق الصــارم يعــزز الوعــي بأفعالنــا‪ .‬ثان ًيــا‪ :‬يعــزز الروابــط‬
‫اإلنســانية احلميمــة‪ .‬ثال ًثــا‪ :‬يــؤدي ذلــك إىل ســرة ذاتيــة صادقــة‪ ،‬حتملنــا‬
‫أيضــا أمــام ذواتنــا املســتقبلية‪.‬‬
‫املســؤولية ليــس فقــط أمــام حارضنــا ولكــن ً‬
‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬فــإن قــول احلقيقــة أمــر معـ ٍـد‪ ،‬وقــد يمنــع حتــى تطــور‬
‫اإلدمـ�ان يف املسـ�تقبل‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الوعي‬

‫يف وقــت ســابق يف هــذا الكتــاب كنــت قــد قدمــت األســطورة اليونانيــة‬
‫ألوديســيوس لتوضيــح جهــاد النفــس اجلســدي‪ .‬هنــاك خامتــة غــر معروفــة‬
‫هلـ�ذه األسـ�طورة ذات صلـ�ة بـما يـ�دور يف هـ�ذا الفصـ�ل‪.‬‬

‫ســتتذكرون أن أوديســيوس طلــب مــن طاقمــه ربطــه بصــاري ســفينته‬


‫الرشاعيــة لتجنــب إغــراء صــوت غنــاء احلوريــات اجلــذاب‪ .‬ولكــن إذا‬
‫فكــرت يف األمــر‪ ،‬كان بإمكانــه ببســاطة وضــع شــمع العســل يف أذنيــه كــا‬
‫أمــر بقيــة طاقمــه بالقيــام بــه وجينــب نفســه األمل واحلــزن‪ .‬مل يكــن أوديســيوس‬
‫هنــا للعــذاب‪ .‬ولكــن يمكــن فهــم األمــر مــن منطلــق آخــر‪ ،‬إذ ال يمكــن‬
‫ً‬
‫قتــل احلوريــات إال إذا عــاش مــن ســمعها لــروي القصــة بعــد ذلــك‪ .‬هــزم‬
‫أوديســيوس احلوريــات مــن خــال رسد رحلتــه القريبــة مــن املــوت‪ .‬كان‬
‫القتـ�ل هـ�و روايـ�ة احلـ�دث‪.‬‬

‫تسلــط أس�طـورة أوديسيــوس الضــوء عــى ســمة رئيســة لتغيــر‬


‫الســلوك‪ ،‬وهــي أن رسد جتاربنــا يمنحنــا التفــوق عليهــا‪ .‬ســواء يف ســياق‬
‫العــاج النفــي‪ ،‬أو التحــدث إىل املرشــد يف جمموعــة املدمنــن املجهولــن‪،‬‬
‫أو االعــراف لكاهــن‪ ،‬أو الثقــة يف صديــق‪ ،‬أو الكتابــة يف جملــة‪ ،‬فــإن كشــفنا‬
‫الصــادق يقــدم الراحــة لترصفاتنــا‪ ،‬ممــا يســمح لنــا برؤيــة ترصفاتنــا للمــرة‬
‫األوىل‪ .‬هــذا ينطبــق بشــكل خــاص عــى الســلوكيات التــي تنطــوي عــى‬
‫مســتوى مــن التلقائيــة خــارج وعينــا املــدرك‪.‬‬

‫عندمــا كنــت أقــرأ الروايــات الرومانســية بشــكل قهــري‪ ،‬كنــت أدرك‬

‫‪236‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ذلــك جزئ ًيــا فقــط‪ .‬بمعنــى أننــي كنــت عــى علــم بالســلوك الــذي مل أكــن‬
‫عــى علــم بــه يف نفــس الوقــت‪ .‬هــذه ظاهــرة معــرف هبــا جيــدً ا يف اإلدمــان‪،‬‬
‫وهــي نــوع مــن احلالــة غــر الواعيــة تشــبه حلــم اليقظــة‪ ،‬وغال ًبــا مــا يشــار‬
‫إليهـ�ا باسـ�م اإلنـ�كار‪.‬‬

‫مــن املحتمــل أن ظاهــرة اإلنــكار تعمــل مــن خــال االنفصال بــن جزء‬
‫مســار املكافــأة يف دماغنــا ومناطــق القــرة الدماغيــة العليــا التــي تســمح لنــا‬
‫بــرد أحــداث حياتنــا‪ ،‬وتقديــر العواقــب‪ ،‬والتخطيــط للمســتقبل؛ لذلــك‬
‫تتضمــن العديــد مــن أشــكال عــاج اإلدمــان تقويــة وجتديــد الروابــط بــن‬
‫هـ�ذه األجـ�زاء مـ�ن الدمـ�اغ‪.‬‬

‫درس عــامل األعصــاب كريســتيان راف وزمــاؤه اآلليــات البيولوجيــة‬


‫العصبيــة للصــدق‪ .‬يف إحــدى التجــارب‪ ،‬التــي أجريــت عــى ‪ 145‬مــن‬
‫املشــاركني‪ ،‬للعــب لعبــة قامــوا فيهــا باختيــار النــرد مقابــل املــال باســتخدام‬
‫واجهــة الكمبيوتــر‪ .‬قبــل كل لفــة‪ ،‬أشــارت شاشــة الكمبيوتــر إىل النتائــج‬
‫التــي ســتحقق املــردود النقــدي‪ ،‬التــي بلغــت حتــى ‪ 90‬فرنــكًا ســويرس ًيا‬
‫(حــوايل ‪ 100‬دوالر أمريكـ�ي)‪.‬‬

‫عــى عكــس املقامــرة يف الكازينــو‪ ،‬يمكــن للمشــاركني الكــذب بشــأن‬


‫نتائــج رمــي النــرد لزيــادة مكاســبهم‪ .‬متكــن الباحثــون مــن حتديــد درجــة‬
‫الغــش مــن خــال مقارنــة متوســط النســبة املئويــة لرميــة النــرد الناجحــة‬
‫املبلــغ عنهــا مقابــل املعيــار املقــدر بـــ ‪ 50‬يف املائــة املتضمنــة عــى تقاريــر تفيــد‬
‫كثــرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بصدقهــا وصحتهــا‪ .‬ليــس مــن املســتغرب أن يكــذب املشــاركون‬

‫‪237‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫باملقارنــة مــع معيــار الصــدق بنســبة ‪ ،% 50‬أفــاد املشــاركون أن ‪ % 68‬مــن‬


‫قوائـ�م رمـ�ي النـ�رد كانـ�ت حتقـ�ق النتيجـ�ة املرجـ�وة‪.‬‬

‫ثــم اســتخدم الباحثــون التنبيــه الكهربائــي لتعزيــز اإلثــارة العصبيــة يف‬


‫قــرة الفــص اجلبهــي الدماغــي للمشــاركني‪ ،‬باســتخدام أداة تســمى التنبيــه‬
‫باســتخدام التيــار املبــارش عــر القحــف‪.‬‬

‫قــرة الفــص اجلبهــي هــي اجلــزء األمامــي مــن دماغنــا‪ ،‬خلــف اجلبهــة‬
‫مبــارشة‪ ،‬املســؤولة عــن صنــع القــرار وتنظيــم املشــاعر والتخطيط املســتقبيل‪،‬‬
‫والعديــد مــن العمليــات املعقــدة األخــرى‪ .‬وتقــوم بــدور رئيــس يف قدرتنــا‬
‫عــى رسد القصــص‪ .‬وجــد الباحثــون أن الكــذب انخفــض بمقــدار النصــف‬
‫عندمــا ارتفعــت اإلثــارة العصبيــة يف قــرة الفــص اجلبهــي‪ .‬باإلضافــة إىل‬
‫ذلــك‪ ،‬فــإن زيــادة الصــدق «ال يمكــن تفســرها بالتغــرات يف املصلحــة‬
‫املاديــة الذاتيــة أو املعتقــدات األخالقيــة والتــي تــم عزهلــا مــن املشــاركني يف‬
‫التجرب��ة مث��ل اندف��اع املش��اركني‪ ،‬واالس��تعداد للمخاط��رة‪ ،‬وامل��زاج»‪.‬‬

‫وخلصــوا إىل أنــه يمكــن تعزيــز الصــدق مــن خــال حتفيــز قــرة‬
‫الفــص اجلبهــي‪ ،‬بــا يتفــق مــع فكــرة أن «الدمــاغ البــري قــد طــور آليــات‬
‫مكرســة للتحكــم يف الســلوكيات االجتامعيــة املعقــدة»‪.‬‬

‫قادتنــي هــذه التجربــة إىل التســاؤل عــا إذا كانت ممارســة الصدق يمكن‬
‫أن حتفــز التنشــيط القــري يف الفــص اجلبهــي‪ .‬أرســلت بريــدً ا إلكرتون ًيــا إىل‬
‫كريســتيان راف يف سوــيرسا ألسـ�أل عــن رأي�هـ يف ه��ذه الفك��رة‪ .‬وكان ســؤايل‬
‫كالتــايل‪»:‬إذا كان حتفيــز قــرة الفــص اجلبهــي جيعــل النــاس أكثــر صد ًقــا‪،‬‬

‫‪238‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫أيضــا أن يكــون الصــدق حمفــز ًا لقــرة الفــص اجلبهــي؟‬


‫فهــل مــن املمكــن ً‬
‫هــل يمكــن أن تــؤدي ممارســة قــول احلقيقــة إىل تعزيــز النشــاط واإلثــارة يف‬
‫أجــزاء مــن الدمــاغ الــذي نســتخدمه للتخطيــط املســتقبيل وتنظيــم املشــاعر‬
‫واإلشــباع املتأخــر؟»‪.‬‬

‫أجــاب‪« :‬ســؤالك منطقــي‪ .‬ليــس لــدي إجابــة هنائيــة عليــه‪ ،‬لكننــي‬


‫أشــاركك حدســك بــأن العمليــة العصبيــة املخصصــة (مثــل عمليــة الفــص‬
‫اجلبهــي املتضمنــة لعمليــة الصــدق) جيــب تعزيزهــا مــن خــال االســتخدام‬
‫املتكــرر‪ .‬هــذا مــا حيــدث خــال معظــم أنــواع التعلــم‪ ،‬وف ًقــا لشــعار دونالــد‬
‫هيــب القديــم‪« ،‬أن اخلاليــا التــي تقــدح م ًعــا ترتبــط م ًعــا»‬

‫لقــد أحببــت إجابتــه؛ ألهنــا تعنــي أن ممارســة الصــدق الصــارم قــد‬


‫تقــوي الدوائــر العصبيــة املخصصــة بنفــس الطريقــة التــي يقــوي هبــا تعلــم‬
‫لغــة ثانيــة‪ ،‬أو العــزف عــى البيانــو‪ ،‬أو إتقــان أحجيــة الســودوكو الدوائــر‬
‫األخـ�رى‪.‬‬

‫متاش ـ ًيا مــع التجربــة احليــة لألشــخاص يف فــرة التعــايف مــن اإلدمــان‪،‬‬
‫قــد يغــر قــول احلقيقــة الدمــاغ‪ ،‬ممــا يســمح لنــا بــأن نكــون أكثــر وع ًيــا بميزان‬
‫األمل واللــذة والعمليــات العقليــة التــي تــؤدي إىل اإلفــراط يف االســتهالك‬
‫القهـ�ري‪ ،‬وبالتـ�ايل تغيـير سـ�لوكنا‪.‬‬

‫***‬

‫ظهــر وعيــي بمشــكلتي مــع الروايات الرومانســية يف عــام ‪ ،2011‬حتديد ًا‬


‫عندمــا كنــت أقــوم بتدريــس جمموعــة مــن األطبــاء املقيمــن يف قســم الطــب‬

‫‪239‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫النفــي يف ســان ماتيــو عــن كيفيــة التحــدث إىل املــرىض حــول الســلوكيات‬
‫التـ�ي تسـ�بب اإلدمـ�ان‪ .‬وكانـ�ت املفارقـ�ة أننـ�ي مل أفـ�وت التجربـ�ة‪.‬‬

‫كن��ت يف فص��ل درايس بالطاب��ق األول يف املركــز الطبــي لســان ماتيــو‪،‬‬


‫أقــدم حمــارضة لتســعة مــن األطبــاء املقيمــن يف قســم الطــب النفــي حــول‬
‫كيفيــة إجــراء حمادثــات صعبــة يف كثــر مــن األحيــان مــع املــرىض حــول‬
‫تعاطــي املخــدرات والكحــول‪ .‬توقفــت جزئ ًيــا خــال املحــارضة لدعــوة‬
‫الطــاب لالنخــراط يف متريــن تعليمــي‪« :‬اقــرن برشيــك ملناقشــة عــادة تريــد‬
‫تغيريهــا‪ ،‬وناقــش بعــض اخلطــوات التــي قــد تتخذهــا إلجــراء هــذا التغيري»‪.‬‬

‫تشــمل األمثلــة الشــائعة ملــا يتحــدث عنــه الطــاب يف هــذا التمريــن‬


‫«أريــد أن أمتــرن أكثــر» أو «أريــد تنــاول كميــات أقــل مــن الســكر»‪ .‬بعبــارة‬
‫أخــرى‪ ،‬مواضيــع أكثــر أمانًــا‪ .‬عــادة ال يتــم تنــاول مواضيــع اإلدمــان‬
‫اخلطــر‪ ،‬يف حــال كانــوا يعانــون منهــا‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬مــن خــال احلديــث‬
‫عــن أي ســلوك ال يســعدون بــه ويريــدون تغيــره‪ ،‬يكتســب الطــاب نظــرة‬
‫ثاقبــة ملــا قــد يكــون عليــه املــرىض إلجــراء هــذه املحادثــات معهــم كمقدمــي‬
‫رعايــة صحيــة‪ .‬هنــاك دائـ ًـا فرصــة الكتشــاف يشء مــا عــن أنفســهم يف هــذه‬
‫العمليـ�ة‪.‬‬

‫أدركــت أنــه مــع وجــود عــدد فــردي للطــاب‪ ،‬مــن الواجــب عــي أن‬
‫أشــارك الطالــب الــذي مل جيــد رشيــك ًا للقيــام بالتمريــن‪ .‬اقرتنــت بشــاب‬
‫يتحــدث بصــوت منخفــض‪ ،‬وعميــق التفكــر‪ ،‬إذ كان يســتمع باهتــام‬
‫طــوال املحــارضة‪ .‬أخــذت دور املريــض حتــى يتمكــن مــن ممارســة مهاراتــه‪.‬‬
‫ثـ�م نقـ�وم بالتبديـ�ل‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ســألني عــن ســلوك أردت تغيــره‪ .‬طريقتــه اللطيفــة دعتنــي إىل‬


‫اإلفصــاح‪ .‬ولدهشــتي‪ ،‬بــدأت أخــره بنســخة ملطفــة مــن إدمــاين عــى قــراءة‬
‫الروايــات يف وقــت متأخــر مــن الليــل‪ .‬مل أحــدد مــا كنــت أقــرؤه أو مــدى‬
‫املشـ�كلة‪.‬‬

‫قلــت‪« :‬أبقــى مســتيقظة حتــى وقــت متأخــر جــدً ا بســبب قــراءة‬


‫الروايــات بالليــل‪ ،‬وهــذا يتعــارض مــع نومــي‪ .‬أود أن أغــر ذلــك»‪.‬‬

‫بمجــرد أن قلــت ذلــك‪ ،‬اســتوعبت أنــه حقيقــي‪ ،‬ســواء ســهري‬


‫لســاعات متأخــرة ورغبتــي يف تغيــر الســلوك‪ .‬حتــى تلــك اللحظــة‪ ،‬مل أكــن‬
‫عـلى درايـ�ة بـ�أي مـ�ن هذيـ�ن األمريـ�ن‪.‬‬

‫ســأل‪« :‬ملــاذا تريديــن إجــراء هــذا التغيــر؟»‪ ،‬مســتخد ًما سـ ً‬


‫ـؤااًل قياسـ ًيا‬
‫منهجــا لالستشــارات والتوجيــه الــذي‬
‫ً‬ ‫مــن املقابــات التحفيزيــة التــي تُعــد‬
‫طــوره علــاء النفــس الرسيــري كل مــن ويليــام آر ميلــر وســتيفن رولنيــك‬
‫الستكشـ�اف الدوافـ�ع الداخليـ�ة وحـ�ل التناقـ�ض‪.‬‬

‫قلــت‪« :‬إنــه يتعــارض مــع قــدريت عــى أن أكــون فعالــة كــا أرغــب أن‬
‫أكــون‪ ،‬ســواء يف العمــل أو مــع أطفــايل»‪.‬‬

‫أومأ برأسه‪« .‬هذه تبدو وكأهنا أسباب وجيهة»‪.‬‬

‫كان عــى حــق‪ .‬كانــت هــذه أســباب وجيهــة‪ .‬حــن أفصحــت عنهــا‬
‫بصــوت عـ ٍ‬
‫ـال‪ ،‬أدركــت ألول مــرة مــدى تأثــر ســلوكي ســل ًبا عــى حيــايت‬
‫واألشـ�خاص الذيـ�ن أهتـ�م هبـ�م‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«عــم ســتتخلني إذا أوقفــت هــذا الســلوك؟» أجبــت عــى‬


‫َّ‬ ‫ثــم ســأل‪:‬‬
‫الفـ�ور «ســأختىل عــن املتعــة التــي أحصــل عليهــا مــن القــراءة‪ .‬أنــا أحــب‬
‫اهلــروب»‪« ،‬لكــن هــذا الشــعور ليــس مهـ ًـا بالنســبة يل مثــل عائلتــي وعميل»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عــال‪ ،‬أدركــت أنــه‬ ‫مــرة أخــرى‪ ،‬حــن قمــت بقــول ذلــك بصــوت‬
‫صحيــح‪ :‬أنــا أقــدر عائلتــي وعمــي فــوق متعتــي‪ ،‬ولكــي أعيــش وف ًقــا‬
‫لقيمـ�ي؛ كنـ�ت بحاجـ�ة إىل وقـ�ف القـ�راءة القهريـ�ة وممارسـ�ة اهلـ�روب‪.‬‬

‫«مــا اخلطــوة التــي يمكنــك اختاذهــا لتغيــر هــذا الســلوك؟» «يمكننــي‬


‫التخلــص مــن القــارئ اإللكــروين‪ .‬ســهولة الوصــول إىل الكتــب منخفضــة‬
‫التكلف��ة الت��ي تغ��ذي رغب��ة الق��راءة يف وق��ت متأخ��ر م��ن اللي��ل»‪.‬‬

‫قال مبتس ًام‪« :‬تبدو فكرة جيدة»‪ .‬لقد انتهينا من كوين املريضة‪.‬‬

‫يف اليــوم التــايل‪ ،‬ظللــت أفكــر يف حمادثتنــا‪ .‬قــررت أن آخــذ اســراحة من‬
‫الروايــات الرومانســية للشــهر املقبــل‪ .‬أول يشء فعلتــه هــو التخلــص مــن‬
‫القــارئ اإللكــروين‪ .‬خــال األســبوعني األولــن‪ ،‬عانيــت مــن انســحاب‬
‫منخفــض‪ ،‬بــا يف ذلــك القلــق واألرق‪ ،‬خاصــة يف الليــل قبــل النــوم مبــارشة‪،‬‬
‫وهــو الوقــت الــذي كنــت أقــرأ فيــه القصــص عــادةً‪ .‬لقــد فقــدت فــن النــوم‬
‫بمفــردي‪ .‬يف هنايــة الشــهر‪ ،‬كنــت أشــعر بتحســن وأعطيــت إذنًــا لــذايت‬
‫للقـ�راءة الرومانسـ�ية مـ�رة أخـ�رى‪ ،‬وكنـ�ت أخطـ�ط للقـ�راءة باعتـ�دال أكـبر‪.‬‬

‫بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬انغمســت يف اإلثــارة اجلنســية‪ ،‬وســهرت ليلتــن‬


‫متتاليتــن وشــعرت باإلرهــاق نتيجــة لذلــك‪ .‬لكننــي اآلن رأيــت ســلوكي‬

‫‪242‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عــى حقيقتــه ‪-‬نمــط قهــري ومدمــر للــذات‪ -‬ممــا جعلنــي أفقــد املتعــة التــي‬
‫حصلــت عليهــا‪ .‬شــعرت بتصميــم متزايــد لوقــف هــذا الســلوك إىل األبــد‪.‬‬
‫كانــت أحــام يقظتـ�ي تقـترب مـ�ن هنايتهـ�ا‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الصدق يعزز محيمية الروابط اإلنسانية‪:‬‬

‫قــول احلقيقــة جيــذب النــاس‪ ،‬خاصــة عندمــا نكــون عــى اســتعداد‬


‫لفضــح نقــاط ضعفنــا‪ .‬و ُيعتقــد أن هــذا غــر منطقــي؛ ألننــا نفــرض أن‬
‫الكشــف عــن عيوبنــا واجلوانــب األقــل استحســانًا ألنفســنا ســيجعل النــاس‬
‫هيربــون منــا‪ .‬مــن املنطقــي أن يبتعــد النــاس عنــا عندمــا يدركــون عيــوب‬
‫شـ�خصيتنا وجتاوزاتنـ�ا‪.‬‬

‫يف الواقــع‪ ،‬حيــدث العكــس‪ ،‬يقــرب النــاس‪ .‬إهنــم يــرون يف انكســارنا‬


‫ضعفهــم وإنســانيتهم‪ .‬فهــم مطمئنــون إىل أهنــم ليســوا وحدهم يف شــكوكهم‬
‫وخماوفهــم ونقــاط ضعفهــم‪.‬‬

‫***‬

‫التقيــت أنــا وجاكــوب عــى مــدار األشــهر والســنوات التــي أعقبــت‬


‫انتكاســته وعودتــه ملامرســة العــادة الرسيــة بصــورة قهريــة مفرطــة‪ .‬يف‬
‫ذلــك الوقــت اســتمر يف االمتنــاع عــن ســلوكياته املســببة لإلدمــان‪ .‬كانــت‬
‫ممارســة الصــدق برصامــة‪ ،‬خاصــة مــع زوجتــه‪ ،‬أســاس تعافيــه املســتمر‪ .‬يف‬
‫إحــدى زياراتنــا‪ ،‬شــاركني بقصــة حدثــت بعــد فــرة وجيــزة مــن عودتــه هــو‬
‫وزوجتـ�ه م ًعـ�ا‪.‬‬

‫كانــت تقــوم زوجتــه برتتيــب احلــام‪ ،‬بعــد يــوم مــن عودهتــا إىل منزهلــا‬
‫املشــرك‪ ،‬حينهــا الحظــت أن إحــدى حلقــات ســتارة االســتحامم مفقــودة‪.‬‬
‫سـ�ألت جاكـ�وب عـما إذا كان يعـ�رف مـ�ا حـ�دث هلـ�ا‪.‬‬

‫قــال يل جاكــوب‪« :‬لقــد جتمــدت»‪« .‬أعــرف متا ًمــا مــا حــدث مــع حلقــة‬

‫‪244‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ســتارة االســتحامم‪ ،‬لكننــي ال أريــد أن أخربهــا‪ .‬لــدي العديــد مــن األســباب‬


‫الوجيهــة‪ .‬حــدث ذلــك منــذ وقــت طويــل‪ ،‬وال أرغــب يف إزعاجهــا‪.‬‬
‫خصوصـ ًا بعــد أن حتســنت أمورنــا بصــورة جيــدة‪ ،‬يف حــال أخربهتــا ســوف‬
‫أفســد األمــر»‪.‬‬

‫لكنــه ذكّــر نفســه بعــد ذلــك بمــدى تدمــر كذبــه وعبثــه لعالقتهــا‪.‬‬
‫لقــد وعدهــا‪ ،‬قبــل أن تعــود للعيــش معــه‪ ،‬بأنــه ســيكون صاد ًقــا معهــا مهــا‬
‫حـ�دث‪.‬‬

‫«لذلــك قلــت هلــا إننــي اســتخدمتها يف جتميــع إحــدى آاليت‪ ،‬منــذ مــا‬
‫يقــرب مــن عــام‪ ،‬بعــد مغادرتــك‪ .‬إنــه ليــس شــي ًئا حدي ًثــا‪ .‬لكننــي وعدتــك‬
‫بــأن أكــون صادق ـ ًا معــك؛ لذلــك أنــا أقــول لــك»‬

‫سألت‪« :‬ماذا فعلت؟»‪.‬‬

‫«اعتقــدت أهنــا ســتخربين أن األمــر انتهــى وســتغادر مــرة أخــرى‪.‬‬


‫لكنهــا مل تــرخ يف وجهــي‪ .‬ومل ترتكنــي‪ ،‬بــدال مــن ذلــك‪ .‬وضعــت يدهــا‬
‫ـكرا لــك عــى إخبــاري احلقيقــة»‪ .‬ثــم عانقتنــي»‪.‬‬
‫عــى كتفــي وقالــت‪« :‬شـ ً‬
‫***‬

‫مصــدرا للدوبامــن‪ .‬يف حــن يرتبــط هرمــون‬ ‫ً‬ ‫تعــد احلميميــة‬


‫األوكسيتوســن‪ ،‬بالوقــوع يف احلــب‪ ،‬والرتابــط بــن األم والطفــل‪ ،‬والعالقــة‬
‫اجلنســية بــن األزواج مــدى احليــاة‪ ،‬وهــو يرتبــط بمســتقبالت اخلاليــا‬
‫العصبيــة التــي تفــرز الدوبامــن يف مســار مكافــأة الدمــاغ‪ ،‬وتعــزز إطالقــه‬
‫يف مســار دائــرة املكافــأة‪ .‬بعبــارة أخــرى‪ ،‬يــؤدي األوكسيتوســن إىل زيــادة‬

‫‪245‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الدوبامــن يف الدمــاغ‪ ،‬وهــو اكتشــاف حديــث أجــراه علــاء األعصــاب يف‬


‫جامعــة ســتانفورد لــن هونــغ وروب مالينــكا وزمالؤهـ�م‪.‬‬

‫بعــد أن كشــف جاكــوب األمــر بصــدق لزوجتــه‪ ،‬تــاه تعبريهــا عــن‬


‫الــدفء والتعاطــف‪ ،‬ربــا شــهد جاكــوب ارتفا ًعــا يف األوكسيتوســن‬
‫والدوبامــن يف مســار مكافأتــه‪ ،‬ممــا ســوف يشــجعه عــى القيــام بذلــك مــرة‬
‫أخـ�رى‪.‬‬

‫يف حــن أن قــول احلقيقــة يعــزز االرتبــاط اإلنســاين‪ ،‬فــإن اإلفــراط‬


‫يف االســتهالك القهــري للســلع عاليــة الدوبامــن هــو مناهــض ألطروحــة‬
‫التعلــق اإلنســاين‪ .‬يــؤدي االســتهالك إىل العزلــة والالمبــاالة‪ ،‬حيــث يــأيت‬
‫املخــدر ليحــل حمــل املكافــأة التــي يتــم احلصــول عليهــا مــن العالقــة مــع‬
‫اآلخريـ�ن‪.‬‬

‫تظهــر التجــارب أن اجلــرذ احلــر ســيعمل بشــكل غريــزي عــى حتريــر‬


‫فــأر آخــر حمــارص داخــل زجاجــة بالســتيكية‪ .‬ولكــن بمجــرد الســاح هلــذا‬
‫اجلــرذ احلــر بــاإلدارة الذاتيــة لتعاطــي اهلريويــن بنفســه‪ ،‬يصبــح عالقــ ًا يف‬
‫ضبــاب أفيــوين بحيــث ال هيتــم بأحــد مــن أفــراد جنســه‪.‬‬

‫***‬

‫أي ســلوك يــؤدي إىل زيــادة الدوبامــن يمكــن أن يســتغل بعــدة صــور‪.‬‬
‫مــا أشــر إليــه هنــا هــو ذلــك «اإلفصــاح اإلباحــي» الــذي أصبــح ســائدً ا يف‬
‫الثقافــة احلديثــة‪ ،‬حيــث يصبــح الكشــف عــن اجلوانــب احلميمــة حلياتنــا‬
‫وجتاربنــا وســيلة للتالعــب باآلخريــن لتحقيــق نــوع معــن مــن اإلشــباع‬

‫‪246‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫األنــاين‪ ،‬بــدالً مــن تعزيــز تلــك العالقــة احلميمــة مــن خــال حلظــات مــن‬
‫اإلنسـ�انية املشـتركة‪.‬‬

‫يف مؤمتــر طبــي حــول اإلدمــان يف عــام ‪ ،2018‬جلســت بجانــب رجــل‬


‫ذكــر يل إنــه يتعــاىف عــى املــدى الطويــل مــن اإلدمــان‪ .‬كان هنــاك لــروي قصة‬
‫تعافيــه للجمهــور‪ .‬قبــل أن يصعــد عــى خشــبة املــرح مبــارشة‪ ،‬التفــت إيل‬
‫خصوصــا أن توقعــه‬
‫ً‬ ‫وقــال‪« :‬اســتعدي للبــكاء»‪ .‬قمــت بتأجيــل تعليقــي‪،‬‬
‫لـ�رد فعـلي عـلى قصتـ�ه قـ�د أزعجنـ�ي‪.‬‬

‫لقــد روى بالفعــل قصــة فظيعــة عــن اإلدمــان والتعــايف‪ ،‬لكننــي مل أتأثــر‬
‫بالبــكاء‪ ،‬األمــر الــذي فاجــأين ألننــي عــادة مــا أتأثــر بشــدة بقصــص املعانــاة‬
‫والتوبــة‪ .‬يف هــذه احلالــة‪ ،‬بــدت قصتــه غــر صحيحــة لــكل مــا قــد يكــون‬
‫صحيحــا مــن الناحيــة الواقعيــة‪ .‬فالكلــات التــي حتــدث هبــا والعبــارات‬
‫ً‬
‫واألســلوب اخلطــايب التمثيــي ال تتوافــق مــع املشــاعر التــي تقــف خلــف‬
‫القضيــة األساســية‪ ،‬وهــي مشــاركته لنــا بقصــة تعافيــه ونضالــه‪ .‬بــدالً مــن‬
‫شــعوري بأنــه كان يمنحنــا احلــق يف مشــاركته جتربتــه املؤملــة‪ ،‬شــعرت أنه كان‬
‫متالع ًبــا وحم ًبــا للفــت األنظــار‪ .‬قــد يكــون األمــر متعل ًقــا بتكــراره لقصتــه يف‬
‫كل مــرة‪ ،‬ممــا جعلهــا مســتهلكة بالنســبة لــه‪ .‬مهــا كان الســبب‪ ،‬مل تكــن قصتــه‬
‫قــادرة عــى منحــي فرصــة للتعلــم واملشــاركة‪.‬‬

‫هنــاك ظاهــرة معروفةــ يف اجتامعـ�ات مدمنـ�ي الكحـ�ول املجهولـين‬


‫تدعــى» مفاخــر الســكارى»‪ ،‬يف إشــارة إىل حكايــات ومآثــر فرديــة ملدمــن‬
‫الكحــول التــي يتــم مشــاركتها للرتفيــه والتباهــي بــدالً مــن التعليــم والتعلــم‪.‬‬
‫متيــل قصــص الســكارى إىل إثــارة الرغبــة الشــديدة للــرب بــدالً مــن تعزيــز‬

‫‪247‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫التعــايف‪ .‬فاخلــط الفاصــل بــن اإلفصــاح الــذايت الصــادق ومفاخــر الســكارى‬


‫هــو خــط رفيــع‪ ،‬بــا يف ذلــك االختــاف الدقيــق يف املحتــوى والنــرة‬
‫والتناغــم والتأثــر‪ ،‬يمكــن معرفتــه بوضــوح عنــد التعــرض لــه‪.‬‬

‫آمــل مــن إفصاحــي هنــا‪ ،‬ســواء مــا هــو خــاص يب أو بمرضــاي الذيــن‬
‫منحــوين اإلذن بمشــاركة قصصهــم‪ ،‬أال ينحــدر ويضــل طريقــه وينحــرف‬
‫إىل اجلانـ�ب اخلطـ�أ كـما يف قصـ�ص مفاخـ�ر السـ�كارى‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫السري الذاتية الصادقة ختلق املساءلة‪.‬‬

‫يمكــن تشــبيه احلقائــق الوحيــدة والبســيطة حــول حياتنــا اليوميــة‬


‫بالروابــط املتصلــة بسلســلة‪ ،‬حيــث ترتجــم إىل روايــات ســرة ذاتيــة صادقــة‪.‬‬
‫مقياســا أساســ ًيا للوقــت والتجــارب التــي‬
‫ً‬ ‫تُعــد روايــات الســرة الذاتيــة‬
‫نعيشــها‪ .‬القصــص التــي نروهيــا عــن حياتنــا ال يمكــن اعتبارهــا كمقيــاس‬
‫أيضـ�ا تشـ�كيل سـ�لوكنا املسـ�تقبيل‪.‬‬
‫ملاضينـ�ا فقـ�ط‪ ،‬ولكـ�ن يمكنهـ�ا ً‬

‫خــال أكثــر مــن عرشيــن عا ًمــا كطبيبــة نفســية‪ ،‬وأنــا أســتمع إىل‬
‫عــرات اآلالف مــن قصــص املــرىض‪ ،‬تكونــت لــدي قناعــة‪ ،‬بــأن الطريقــة‬
‫التــي نــروي هبــا قصصنــا الشــخصية هــي عالمــة ومــؤرش عــى الصحــة‬
‫العقليـ�ة‪.‬‬

‫قصصــا غال ًبــا مــا يكونــون فيهــا الضحيــة‪،‬‬


‫ً‬ ‫املــرىض الذيــن يــروون‬
‫ـادرا مــا يتحملــون املســؤولية عــن النتائــج الســيئة لســلوكهم‪ ،‬يف الغالــب‬
‫ونـ ً‬
‫ال يبــدو عليهــم أي حتســن ويبقــون يف دائــرة األمل أو االدمان‪ .‬إهنم مشــغولون‬
‫جــدً ا بإلقــاء اللــوم عــى اآلخريــن بحيــث ال يمكنهــم الرتكيــز عــى علتهــم‬
‫وحماولــة التعــايف منهــا‪ .‬عــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬عندمــا يبــدأ مرضــاي يف‬
‫رسد القصـ�ص التـ�ي تصـ�ور مسـ�ؤوليتهم بدقـ�ة‪ ،‬أعلـ�م أهنـ�م يتحسـ�نون‪.‬‬

‫اجتاهــا جمتمع ًيــا واســع ًا‪ ،‬نميــل فيــه مجي ًعــا إىل‬
‫يعكــس رسد الضحيــة ً‬
‫رؤيــة أنفســنا ضحايــا للظــروف املحيطــة‪ ،‬ونســتحق قــدر ًا مــن التعويــض‬
‫أو املكافــأة عــى معاناتنــا‪ .‬حتــى عندمــا يكــون الفــرد ضحيــة فعليــة‪ ،‬إذا‬

‫‪249‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مل يتجــاوز الــرد نقطــة الشــعور بالضحيــة أبــدً ا‪ ،‬فمــن الصعــب حــدوث‬
‫الشــفاء‪.‬‬

‫تتمثــل إحــدى وظائــف العــاج النفــي اجليــد يف مســاعدة النــاس‬


‫عــى رسد قصــص الشــفاء‪ .‬إذا كان رسد الســرة الذاتيــة هنـ ًـرا‪ ،‬فــإن العــاج‬
‫النفــي هــو الوســيلة التــي يتــم هبــا رســم خرائــط هلــذا النهــر‪ ،‬ويف بعــض‬
‫احلـ�االت إعـ�ادة توجيـ�ه مسـ�اره‪.‬‬

‫ترتبــط قصــص الشــفاء ارتبا ًطــا وثي ًقــا بأحــداث احليــاة الواقعيــة‪ .‬إن‬
‫البحــث عــن احلقيقــة وإجيادهــا‪ ،‬أو أقــرب تقديــر ممكــن هلــا مــن خــال مــا‬
‫هــو متــاح مــن بيانــات‪ ،‬يتيــح لنــا فرصــة االســتبصار والفهــم احلقيقيــن‪ ،‬ممــا‬
‫يسـ�مح لنـ�ا بتبنـ�ي خيـ�ارات واعيـ�ة‪.‬‬

‫كــا أرشت مــن قبــل‪ ،‬فــإن املامرســة احلديثــة للعــاج النفــي يف بعــض‬
‫األحيــان ال حتقــق هــذا اهلــدف الســامي‪ .‬لقــد أصبحنــا كمقدمــي رعايــة‬
‫صحيــة عقليــة عالقــن يف ممارســة التعاطــف لدرجــة أننــا فقدنــا حقيقــة أن‬
‫التعاطــف دون مســاءلة هــو حماولــة قصــرة النظــر لتخفيــف املعانــاة‪ .‬إذا أعاد‬
‫املعالــج واملريــض إنشــاء قصــة مــا‪ ،‬يكــون فيهــا املريــض ضحيــة دائمــة لقوى‬
‫خارجــة عــن إرادتــه‪ ،‬فمــن املحتمــل أن هــذا يعــزز اســتمرارية املريــض يف‬
‫الشـ�عور بأنـ�ه ضحيـ�ة‪.‬‬

‫ولكــن إذا كان بإمــكان املعالــج مســاعدة املريــض عــى حتمــل املســؤولية‬
‫إن مل يكــن عــن احلــدث نفســه‪ ،‬بــل عــن كيفيــة تفاعلــه جتــاه احلــدث يف‬
‫اللحظــة اآلنيــة‪ ،‬ففــي الغالــب يصبــح هــذا املريــض مؤه ـ ً‬
‫ا للمــي قد ًمــا‬
‫يف حياتـ�ه‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫لق��د تأثـ�رت بشدــة بفلسفــة وتعالي��م اجتامعــات مدمنــي الكحــول‬


‫املجهول�ين حــول هــذه النقطــة‪ .‬فأحــد شــعاراهتم البــارزة‪ ،‬والتــي غال ًبــا مــا‬
‫تُطبــع بخــط عريــض يف كتيباهتــم‪ ،‬هــو «أنــا مســؤول»‪.‬‬

‫باإلضافــة إىل املســؤولية‪ ،‬يؤكــد مدمنــو الكحــول املجهولــون عــى‬


‫«الصــدق الصــارم» كمبــدأ مركــزي وأســاس لفلســفتهم‪ ،‬وحتــى تنســجم‬
‫هــذه األفــكار معـ ًا‪ ،‬تتطلــب االنتقــال إىل اخلطــوة الرابعــة مــن خطواهتــم التي‬
‫يبلــغ عددهــا ‪ 12‬خطــوة‪ ،‬وتشــر اخلطــوة الرابعــة إىل حموريــة القيــام بـــ «جــرد‬
‫ـال مــن اخلــوف»‪ ،‬حيــث ينظــر الفرد يف عيــوب شــخصيته وكيف‬ ‫أخالقــي خـ ٍ‬
‫أســهمت يف حــدوث املشــكلة؟ اخلطــوة اخلامســة هــي «خطــوة االعــراف»‪.‬‬
‫حيــث يع�ترف في��ه أعض��اء اجتامعــات مدمنــي الكحــول املجهولــن لـــ «اهلل‬
‫وألنفســنا وإلنســان آخــر يعــاين مثلنــا»‪ .‬يمكــن أن يكــون هلــذا النهــج املبــارش‬
‫والعمـلي واملنهجـ�ي تأثـير قـ�وي وهـ�ادف للتغيـير‪.‬‬

‫لقــد اختــرت هــذا شــخص ًيا يف الثالثينيــات مــن عمــري أثنــاء تدريبــي‬
‫عــى الطــب النفــي يف ســتانفورد‪ .‬اقــرح أســتاذي ومــرف العــاج النفيس‬
‫اخلــاص يب‪ ،‬الــذي جئــت عــى ذكــره يف مقدمــة هــذا الكتــاب (مرتد ًيــا قبعــة‬
‫عــى طريقــة أفــام إنديانــا جونــز)‪ ،‬أن أجــرب ‪ 12‬خطــوة كوســيلة عالجيــة‬
‫أواجــه هبــا مشــكلتي‪ ،‬التــي تتمحــور حــول اســتيائي الدائــم مــن والــديت‪ .‬لقد‬
‫أدرك معاجلــي‪ ،‬منــذ وقــت طويــل بأننــي كنــت أتشــبث بغضبــي بطريقــة فيهــا‬
‫قــدر كبــر مــن االجــرار والتكــرار‪ ،‬أشــبه بالســلوك اإلدمــاين‪ .‬لقــد أمضيــت‬
‫ســنوات ســابقة يف العــاج النفــي يف حماولــة ملعرفــة ماهيــة عالقتــي هبــا‪،‬‬
‫عــي‪ ،‬كونــه يغــذي غضبــي جتاههــا لكوهنــا ليســت األم التــي‬ ‫وأثــر ذلــك ّ‬
‫أريدهـ�ا أن تكـ�ون أمـ�ي‪ ،‬أو األم التـ�ي اعتقـ�دت أننـ�ي بحاجـ�ة إليهـ�ا‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن خــال إجــراءات اإلفصــاح الواســعة‪ ،‬للكشــف عــن الــذات‪،‬‬


‫شــاركني مــريف خربتــه‪ ،‬وذكــر يل أنــه تعــاىف منــذ عقــود مــن إدمــان‬
‫الكح��ول‪ ،‬وأن اخلطـ�وات االثنتـ�ي عـشرة ملدمنـ�ي الكحـ�ول املجهولـين‬
‫ســاعدته عــى الوصــول إىل التعــايف‪ .‬عــى الرغــم مــن أن مشــكلتي مل تكــن‬
‫اإلدمــان يف حــد ذاتــه‪ ،‬إال أنــه كان لديــه شــعور غريــزي بــأن اخلطــوات الـ ‪12‬‬
‫ستســاعدين‪ ،‬ثــم قــرر أن يطبقهــا معــي‪.‬‬

‫لقــد عملــت معــه بجــد لتطبيــق اخلطــوات العالجيــة‪ ،‬وكانــت التجربــة‬


‫بالفعــل هادفــة للتغيــر‪ ،‬وخاصــة اخلطوتــن ‪ 4‬و ‪ .5‬ألول مــرة يف حيــايت‪ ،‬بدالً‬
‫مــن الرتكيــز عــى الطــرق التــي أدركــت هبــا أن والــديت قــد خذلتنــي‪ ،‬فكــرت‬
‫فيــا أســهمت أنــا بــه يف عالقتنــا املتوتــرة‪ .‬ركــزت عــى التفاعــات األخــرة‬
‫بـ�دالً مـ�ن أحـ�داث الطفولـ�ة‪ ،‬حيـ�ث كانـ�ت مسـ�ؤوليتي أثنـ�اء الطفولـ�ة أقـ�ل‪.‬‬

‫يف البدايــة كان مــن الصعــب بالنســبة يل أن أرى أي الطــرق التــي‬


‫أســهمت هبــا يف املشــكلة‪ .‬لقــد رأيــت نفــي ح ًقــا كضحيــة عاجــزة مــن مجيــع‬
‫النواحــي‪ .‬كنــت أركــز عــى إحجامهــا عــن زيــاريت يف منــزيل أو تنميــة عالقــة‬
‫مــع زوجــي وأوالدي‪ ،‬عــى عكــس عالقتهــا الوثيقــة بإخــويت وأطفاهلــم‪.‬‬
‫لقــد شــعرت باالســتياء ممــا اعتربتــه عــدم قدرهتــا عــى قبــويل عــى حقيقتــي‪،‬‬
‫شــخصا أكثــر دف ًئــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫شــخصا خمتل ًفــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وشــعوري بأهنــا تريــدين أن أكــون‬
‫وأكثــر مرونــة‪ ،‬وأكثــر نكران ـ ًا للــذات‪ ،‬وأقــل اعتــا ًدا عــى الــذات‪ ،‬وأكثــر‬
‫مرحــا‬
‫ً‬

‫لكــن بعــد ذلــك بــدأت يف االنخــراط يف عمليــة الكتابــة املؤملــة‪ ..‬نعــم‪،‬‬


‫فالكتابــة عــى الــورق‪ ،‬أدت إىل جعــل عيــوب شــخصيتي والطــرق التــي‬

‫‪252‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ـهمت هبــا يف توتــر عالقتنــا‪ ،‬تصبــح حقيقيــة للغايــة‪ ،‬وأنــا أقوم بتجســيدها‬
‫أسـ ُ‬
‫كتاب ـ ًة‪ ،‬كــا قــال إســخيلوس‪« ،‬جيــب أن نعــاين‪ ،‬نعــاين مــن احلقيقــة»‬

‫احلقيقــة هــي أننــي قلقــة وخائفــة‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن قليــ ً‬


‫ا هــم‬
‫األشــخاص الذيــن ســيعتقدون ذلــك عنــي‪ .‬فأنــا أحافــظ عــى جــدول زمنــي‬
‫صــارم‪ ،‬وروتــن يمكــن التنبــؤ بــه‪ ،‬والتــزام صــارم بقائمــة مهامــي‪ ،‬كوســيلة‬
‫إلدارة قلقــي‪ .‬هــذا يعنــي أن اآلخريــن غال ًبــا مــا يضطــرون إىل االنصيــاع‬
‫إلراديت ومقتضيـ�ات أهـ�دايف‪.‬‬

‫عــى الرغــم مــن أن األمومــة هــي جتربــة ثريــة وجمزيــة يف حيــايت‪ ،‬إال‬
‫أيضــا األكثــر إثــارة للقلــق‪ ،‬ومــن هنــا وصلــت دفاعــايت وطــرق‬
‫أهنــا كانــت ً‬
‫ـارا‪ .‬إذا نظرنــا إىل الــوراء‪،‬‬
‫التأقلــم إىل آفــاق جديــدة عندمــا كان أطفــايل صغـ ً‬
‫أدركــت أنــه ال يمكــن أن يكــون ممت ًعــا ألي شــخص أن يــزور منزلنــا خــال‬
‫ذلــك الوقــت‪ ،‬بــا يف ذلــك والــديت‪ .‬لقــد حافظــت عــى إحــكام قبضتــي عــى‬
‫خصوصــا يف حــال ســاءت األمــور أو‬
‫ً‬ ‫إدارة منزلنــا وأصبحــت قلقــة للغايــة‪،‬‬
‫مل تكــن متفقــة مــع توقعــايت‪ .‬لقــد عملــت بــا هــوادة‪ ،‬ومل أكــن أعطــي لنفــي‬
‫أي وقــت‪ ،‬أو لألصدقــاء والعائلــة‪ ،‬ســواء لالســتجامم أو الرتفيــه‪ ،‬يف الواقــع‬
‫ـرا يف تلــك األيــام باســتثناء مــع أطفــايل‪ ،‬كــا أمتنــى ذلــك‪.‬‬
‫مل أكــن ممتعــة كثـ ً‬
‫أمــا بالنســبة الســتيائي مــن والــديت لرغبتهــا يف أن أكــون خمتلفــة عــا‬
‫كنــت عليــه‪ ،‬فقــد أدركــت بوضــوح مفاجــئ وصــادم أننــي مذنبــة بنفــس‬
‫الــيء جتاههــا‪ .‬رفضــت قبوهلــا عــى حقيقتهــا‪ ،‬وأريدهــا بــدالً مــن ذلــك أن‬
‫تكــون كاألم ترييــزا التــي ســتهبط إىل منزلنــا وتعتنــي بنــا مجي ًعــا‪ ،‬بــا يف ذلــك‬
‫زوجـ�ي وأوالدي‪ ،‬بالطريقـ�ة التـ�ي نحتاجهـ�ا‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن خــال مطالبتهــا باالرتقــاء إىل مســتوى هــذه الرؤيــة املثاليــة‪ ،‬ملــا‬
‫اعتقــدت أنــه مــا ينبغــي أن تكــون عليــه األم واجلــدة‪ ،‬متكنــت مــن رؤيــة‬
‫عيوهبــا فقــط وليــس أي مــن صفاهتــا اجليــدة‪ ،‬والتــي متلــك الكثــر منهــا‪.‬‬
‫إهنــا فنانــة موهوبــة‪ .‬إهنــا ســاحرة‪ .‬يمكــن أن تكــون مرحــة ومضحكــة‪ .‬لدهيــا‬
‫قلــب لطيــف ومعطــاء‪ ،‬طاملــا أهنــا ال تشــعر بــأن ترصفاهتــا خاضعــة للحكــم‬
‫أو الرفــض‪.‬‬

‫بعــد العمــل عــى اخلطــوات‪ ،‬متكنــت مــن رؤيــة حقيقــة هــذه األشــياء‬
‫وضوحــا‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬تالشــى اســتيائي‪ .‬لقــد حتــررت مــن‬
‫ً‬ ‫بشــكل أكثــر‬
‫غضبـ�ي جتـ�اه والـ�ديت‪ .‬ذلـ�ك العـ�بء الثقيـ�ل‪ ،‬يـ�ا هلـ�ا مـ�ن راحـ�ة!‬

‫أســهم شــفائي يف حتســن عالقتــي هبــا‪ .‬كنت أقــل تطل ًبــا‪ ،‬وأكثر تســاحمًا‪،‬‬
‫أيضــا العديــد مــن األشــياء اإلجيابيــة‬
‫حكــا عليهــا‪ .‬لقــد أدركــت ً‬
‫ً‬ ‫وأقــل‬
‫الناجتــة عــن خالفنــا الســابق‪ ،‬وهــي أننــي أمتتــع بقــدر مــن املرونــة وأعتمــد‬
‫عــى نفــي بطــرق ربــا مل أكــن أمتتــع هبــا لــو كنــت أنــا وهــي أكثــر تواف ًقــا‪ .‬مــا‬
‫زلــت أحــاول ممارســة هــذا النــوع مــن قــول احلقيقــة يف مجيــع عالقــايت اآلن‪.‬‬
‫أنــا لســت ناجحــة دائـ ًا‪ ،‬وأريــد بصــورة غريزيــة إلقــاء اللــوم عــى اآلخريــن‪.‬‬
‫أيضــا أننــي مســؤولة‪ .‬عندهــا‬
‫يف حــال كنــت منضبطــة وجــادة‪ ،‬فأنــا أدرك ً‬
‫أكــون قــادرة عــى الوصــول إىل هــذا املــكان ورسد النســخة احلقيقيــة لنفــي‬
‫ولآلخريــن‪ ،‬حينهــا أشــعر بالصــاح واإلنصــاف‪ ،‬ذلــك الشــعور الــذي‬
‫يمنـ�ح العـ�امل النظـ�ام الـ�ذي أتـ�وق إليـ�ه‪.‬‬

‫يتيــح لنــا رسد الســرة الذاتيــة الصــادق أن نكــون أكثــر أصالــة وعفويــة‬
‫وحريـ�ة يف الوقـ�ت احلـ�ايل‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫قــدم املحلــل النفــي دونالــد وينيكــوت مفهــوم «الــذات الزائفــة» يف‬


‫الســتينيات‪ .‬وف ًقــا لوينيكــوت‪ ،‬فــإن الــذات الزائفــة هــي شــخصية مبنيــة ذات ًيا‬
‫عــى الدفــاع ضــد املطالــب اخلارجيــة والضغــوط التــي ال تطــاق‪ .‬افــرض‬
‫وينيكــوت أن خلــق الــذات الزائفــة يمكــن أن يــؤدي إىل مشــاعر تتســم‬
‫باخلــواء العميــق‪ .‬بمعنــى أنــه ال يوجــد يشء هنــاك ســوى الفــراغ‪.‬‬

‫أســهمت وســائل التواصــل االجتامعــي يف مشــكلة الــذات الزائفــة‪،‬‬


‫فقــد ســهلت األمــر علينــا‪ ،‬وشــجعتنا عــى نظــم وتنســيق روايــات عــن‬
‫حياتنـ�ا البعيـ�دة عـ�ن الواقـ�ع‪.‬‬

‫مريــي تــوين وهــو شــاب يف العرشينــات مــن عمــره‪ ،‬يف حياتــه عــى‬
‫اإلنرتنــت‪ ،‬كان يركــض كل صبــاح لالســتمتاع بــروق الشــمس‪ ،‬ويقــى‬
‫اليــوم منخر ًطــا يف أنشــطة منتجــة وخالقــة‪ ،‬وحصــل عــى العديــد مــن‬
‫اجلوائــز‪ .‬يف حياتــه الواقعيــة‪ ،‬بالــكاد يســتطيع النهــوض مــن الرسيــر‪ ،‬هــذا‬
‫باإلضافــة إىل إدمانــه عــى مشــاهدة املــواد اإلباحيــة عــر اإلنرتنــت‪ ،‬وكونــه‬
‫عانــى مــن أجــل العثــور عــى عمــل مربــح‪ ،‬وشــعوره بالعزلــة ومعاناتــه مــن‬
‫االكتئــاب وامليــول االنتحاريــة‪ ،‬فالقليــل مــن حياتــه اليوميــة احلقيقيــة ظاهـ ًـرا‬
‫عــى صفحتــه يف الفيــس بــوك‪.‬‬

‫عندمــا ختتلــف جتربتنــا احليــة عــن صورتنــا املتوقعــة‪ ،‬فإننــا نميــل إىل‬
‫الشــعور باالنفصــال وعــدم الواقعيــة‪ ،‬مثــل الصــور املزيفــة التــي أنشــأناها‪.‬‬
‫يســمي األطبــاء النفســيون هــذا الشــعور بتبــدد الشــخصية والغيــاب عــن‬
‫الواقــع‪ .‬إنــه شــعور مرعــب‪ ،‬يســهم عــادة يف حتفيــز األفــكار االنتحاريــة‪ .‬بعد‬
‫كل يشء‪ ،‬إذا مل نشـ�عر بأننـ�ا حقيقيـ�ون‪ ،‬فـ�إن إهنـ�اء حياتنـ�ا يصبـ�ح بـلا عواقب‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الرتيــاق للــذات الزائفــة هــو الــذات األصيلــة‪ .‬فالصــدق الصــارم‪،‬‬


‫هــو وســيلة للوصــول إىل هنــاك‪ .‬إنــه يربطنــا بوجودنــا وجيعلنــا نشــعر بأننــا‬
‫حقيقيــون يف العــامل‪ .‬كــا أنــه يقلــل مــن العــبء املعــريف املطلــوب للحفــاظ‬
‫عــى كل تلــك األكاذيــب‪ ،‬وحيــرر الطاقــة العقليــة للعيــش بشــكل أكثــر‬
‫عفويــة يف الوقــت الراهــن‪.‬‬

‫انفتاحــا‬
‫ً‬ ‫عندمــا نتخلــص مــن تقديــم الــذات الزائفــة‪ ،‬نكــون أكثــر‬
‫عــى أنفســنا واآلخريــن‪ .‬كــا كتــب الطبيــب النفــي مــارك إبســتني يف كتابـ�ه‬
‫«يســتمر ليكــون» عــن رحلتــه اخلاصــة نحــو األصالــة‪« ،‬مل أعــد أســعى‬
‫إلدارة بيئتــي‪ ،‬بــدأت أشــعر بالنشــاط‪ ،‬إلجيــاد التــوازن‪ ،‬للســاح بالشــعور‬
‫باالرتبــاط بعفويــة مــع العــامل الطبيعــي ومــع طبيعتــي الداخليــة»‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫قول احلقيقة معدي‪ ..‬وكذلك الكذب‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2013‬كانــت مريضتــي ماريــا يف ذروة مشــكلة الــرب‪ .‬كانــت‬


‫تذهــب بشــكل متكــرر إىل غــرف الطــوارئ املحليــة بمســتوى كحــول يف‬
‫الــدم يبلــغ أربعــة أضعــاف احلــد القانــوين‪ .‬تــوىل زوجهــا دييغــو اجلــزء األكــر‬
‫مـ�ن رعايتهـ�ا‪.‬‬

‫يف هــذه األثنــاء‪ ،‬كان يعــاين مــن إدمانــه عــى الطعــام‪ .‬يبلــغ طولــه مخســة‬
‫أقــدام‪ ،‬وكان وزنــه ‪ 336‬رطــاً‪ .‬بمجــرد مــا توقفــت ماريــا عــن الــرب‪،‬‬
‫متحمسـ�ا ملعاجلـ�ة إدمانـ�ه عـلى الطعـ�ام‪.‬‬
‫ً‬ ‫أصبـ�ح دييغـ�و‬

‫قــال‪« :‬لقــد دفعتنــي رؤيــة ماريــا تتعــاىف إىل إجــراء تغيــرات يف حيــايت‪.‬‬
‫عندمــا كانــت تــرب ماريــا‪ ،‬كنــت أهــرب بصــور متعــددة‪ .‬كنــت أعلــم‬
‫أننــي متجــه إىل مــكان ســيئ‪ .‬مل أشــعر باألمــان يف جســدي‪ .‬لكــن تعافيهــا‬
‫شــجعني عــى أن أكــون نش ـ ًطا‪ .‬أســتطيع أن أقــول‪ :‬إهنــا متجهــة إىل مــكان‬
‫جيــد اآلن‪ ،‬ومل أرغــب يف التخلــف عــن الركــب»‪.‬‬

‫«لذلــك اقتنيــت ســاعة ملتابعــة الوظائــف احليويــة والســعرات احلراريــة‬


‫والتامريــن الرياضيــة‪ .‬ثــم بــدأت بالذهــاب إىل صالــة األلعــاب الرياضيــة‪.‬‬
‫وقمــت بعــد الســعرات احلراريــة‪ .‬جمــرد عــد الســعرات احلراريــة جعلنــي‬
‫أدرك كــم كنــت آكل‪ .‬ثــم بــدأت نظــام كيتــو الغذائــي والصيــام املتقطــع‪ .‬لــن‬
‫أســمح لنفــي بتنــاول الطعــام يف وقــت متأخــر مــن الليــل‪ ،‬أو يف الصبــاح‬
‫حتــى امتــرن‪ .‬ركضــت‪ .‬رفعــت الــوزن‪ .‬أدركــت أن اجلــوع هــو تنبيــه يمكننــي‬

‫‪257‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫جتاهلــه‪ .‬هــذا العــام ‪ 2019‬يبلــغ وزين ‪ 195‬رط ـاً‪ .‬لــدي ضغــط دم طبيعــي‬
‫ألول م��رة من��ذ ف�ترة طويل��ة»‪.‬‬

‫يف ممارســتي الرسيريــة‪ ،‬غال ًبــا مــا أرى حــن يتعــاىف أحــد أفــراد األرسة‬
‫مــن اإلدمــان‪ ،‬يليــه برسعــة فــرد آخــر مــن العائلــة يفعــل الــيء نفســه‪ .‬لقــد‬
‫أزواجــا يتوقفــون عــن الــرب متبوعــن بزوجــات يتوقفــن عــن‬
‫ً‬ ‫رأيــت‬
‫إقامــة عالقــات غراميــة‪ .‬لقــد رأيــت آبــاء يتوقفــون عــن التدخــن يليهــم‬
‫أطفـ�ال يفعلـ�ون الـشيء نفسـ�ه‪.‬‬

‫لقــد ذكــرت جتربــة ســتانفورد ســاب ًقا «حلــوى املارشــملو» عــام‬


‫‪ ،1968‬حيــث متــت دراســة األطفــال الذيــن تــراوح أعامرهــم بــن ثــاث‬
‫وســت ســنوات مــن أجــل فهــم قدرهتــم عــى تأجيــل اإلشــباع‪ .‬لقــد تُركــوا‬
‫بمفردهــم يف غرفــة فارغــة مــع حلــوى املارشــملو عــى طبــق‪ ،‬وقيــل هلــم‪:‬‬
‫إذا كان بإمكاهنــم قضــاء مخســة عــر دقيقــة كاملــة دون تنــاول احللــوى‪،‬‬
‫فســيحصلون عــى حلــوى إضافيــة‪ .‬ســيحصلون عــى ضعــف املكافــأة إذا‬
‫متكنـ�وا مـ�ن انتظارهـ�ا‪.‬‬

‫يف عــام ‪ ،2012‬قــام باحثــون يف جامعــة روتشســر بتغيــر جتربــة حلــوى‬


‫تغيــرا جوهر ًيــا‪ .‬حيــث‬
‫ً‬ ‫املارشــملو التــي طبقــت يف ســتانفورد عــام ‪1968‬‬
‫قامــوا بتعريــض جمموعــة مــن األطفــال خلــرة وعــد تــم نقضــه ومل يتــم الوفــاء‬
‫بــه‪ ،‬وذلــك قبــل إجــراء جتربــة حلــوى املارشــملو‪ ،‬غــادر الباحثــون الغرفــة‬
‫وقالــوا إهنــم ســيعودون عندمــا يقــرع الطفــل اجلــرس‪ ،‬لكنهــم مل يفعلــوا‬
‫ذلــك‪ .‬قيــل للمجموعــة األخــرى مــن األطفــال الــيء نفســه‪ ،‬لكــن عندمــا‬
‫قرعـ�وا اجلـ�رس‪ ،‬عـ�اد الباحـ�ث‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫كان األطفــال يف املجموعــة األخــرة‪ ،‬حيــث عــاد الباحــث‪ ،‬عــى‬


‫اســتعداد لالنتظــار ملــدة تصــل إىل أربــع مــرات أطــول (اثنتــي عــرة دقيقــة)‬
‫لتنــاول حلــوى املارشــملو الثانيــة مقارنــة باألطفــال يف جمموعــة الوعــد‬
‫الــذي مل يتــم الوفــاء بــه‪.‬‬

‫كيــف يمكننــا أن نفهــم ملــاذا أهلــم شــفاء ماريــا مــن إدماهنــا عــى‬
‫الكحــول دييغــو ملعاجلــة مشــكلة إدمانــه عــى الطعــام؟ أو ملــاذا عندمــا يفــي‬
‫البالغــون بوعودهــم لألطفــال‪ ،‬يكــون هــؤالء األطفــال أكثــر قــدرة عــى‬
‫تنظيــم دوافعهــم؟‬

‫الطريقــة التــي أفهــم هبــا هــذا‪ ،‬هــي التمييــز بــن مــا أســميه الوفــرة‬
‫مقابــل عقليــة النــدرة‪ .‬قــول احلقيقــة يولــد عقليــة الوفــرة‪ .‬الكــذب يولــد‬
‫عقليــة النــدرة‪ .‬ســأرشح لكــم ذلــك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عــال مــن الثقــة‪،‬‬ ‫عندمــا يكــون األشــخاص مــن حولنــا عــى قــدر‬
‫وخيربوننــا باحلقيقــة‪ ،‬بــا يف ذلــك الوفــاء بالوعــود التــي قطعوهــا لنــا‪ ،‬نشــعر‬
‫بثقــة أكــر بشــأن العــامل ومســتقبلنا فيــه‪ .‬نشــعر أنــه يمكننــا االعتــاد ليــس‬
‫أيضــا عــى العــامل ليكــون مكا ًنــا منظـ ًـا وآمن ـ ًا ويمكــن‬
‫فقــط عليهــم‪ ،‬ولكــن ً‬
‫التنبــؤ بــه‪ .‬حتــى يف خضــم النــدرة‪ ،‬نشــعر بالثقــة يف أن األمــور ستســر عــى‬
‫مــا يــرام‪ .‬هــذه عقليــة الوفــرة‪.‬‬

‫عندمــا يكــذب النــاس مــن حولنــا وال يوفــون بوعودهــم‪ ،‬نشــعر بثقــة‬
‫ـرا ال يمكــن االعتــاد عليــه‬
‫أقــل بشــأن املســتقبل‪ .‬يصبــح العــامل مكا ًنــا خطـ ً‬
‫ليكــون منظـ ًـا وآمنًــا أو يمكــن التنبــؤ بــه‪ .‬حينهــا نتجــه إىل وضعيــة التنافــس‬

‫‪259‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مــن أجــل البقــاء‪ ،‬ونفضــل املكاســب قصــرة األجــل عــى املكاســب طويلــة‬
‫األجـ�ل‪ ،‬بغـ�ض النظـ�ر عـ�ن الثـ�روة املاديـ�ة الفعليـ�ة‪ .‬هـ�ذه عقليـ�ة النـ�درة‪.‬‬

‫يف جتربــة أجراهــا عــامل األعصــاب وارن بيــكل وزمــاؤه لدراســة أثــر‬
‫ميــل املشــاركني إىل تأجيــل اإلشــباع للحصــول عــى مكافــأة ماليــة‪ ،‬بعــد‬
‫قــراءة مقطــع رسدي يعــر عــن حالــة مــن الوفــرة مقابــل مقطــع رسدي يعــر‬
‫عـ�ن حالـ�ة مـ�ن النـ�درة‪.‬‬

‫كان رسد الوفــرة كالتــايل‪« :‬متــت ترقيتــك يف وظيفتــك‪ ،‬وســتتاح لــك‬


‫الفرصــة لالنتقــال إىل جــزء مــن البلــد كنــت ترغــب دائـ ًـا يف العيــش فيــه‪ ،‬أو‬
‫قــد ختتــار البقــاء يف مكانــك‪ .‬يف كلتــا احلالتــن‪ ،‬متنحــك الرشكــة مبل ًغــا كبـ ً‬
‫ـرا‬
‫مــن املــال لتغطيــة نفقــات النقــل وتطلــب منــك االحتفــاظ بــا ال تنفقــه‪.‬‬
‫ســوف جتنــي ‪ % 100‬أكثــر ممــا كنــت عليــه ســابقا» ‪.‬‬

‫وجــاء رسد النــدرة عــى هــذا النحــو‪« :‬لقــد تــم فصلــك للتــو مــن‬
‫وظيفتــك‪ .‬ســيتعني عليــك اآلن االنتقــال للعيــش مــع أحــد األقــارب الــذي‬
‫يعيــش يف جــزء تكرهــه مــن البلــد‪ ،‬وســيتعني عليــك إنفــاق كل مدخراتــك‬
‫لالنتقــال إىل هنــاك‪ .‬أنــت غــر مؤهــل ملســاعدة البطالــة؛ لذلــك لــن حتقــق أي‬
‫دخ��ل حت��ى جت��د وظيف��ة أخ��رى‪».‬‬

‫ليــس مــن املســتغرب أن جيــد الباحثــون أن املشــاركني الذيــن قــرؤوا‬


‫رسد النــدرة كانــوا أقــل اســتعدا ًدا النتظــار مكافــأة مســتقبلية بعيــدة‪ ،‬وأكثــر‬
‫عرضــة للرغبــة يف احلصــول عــى مكافــأة حاليــة‪ .‬أمــا أولئــك الذيــن قــرؤوا‬
‫رسد الوفـ�رة كانـ�وا أكثـ�ر اسـ�تعدا ًدا النتظـ�ار مكافأهتـ�م‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫مــن املنطقــي أنــه عندمــا تكــون املــوارد شــحيحة‪ ،‬يكــون النــاس أكثــر‬
‫اســتثامرا يف املكاســب الفوريــة‪ ،‬ويكونــون أقــل ثقــة يف أن هــذه املكافــآت‬
‫ً‬
‫سـ�تظل وشـ�يكة يف املسـ�تقبل البعيـ�د‪.‬‬

‫الســؤال هــو‪ :‬يف الوقــت الــذي يعيــش الكثــر منــا يف دول غنيــة بمــوارد‬
‫ماديــة وفــرة‪ ،‬ملــاذا نســتمر يف ممارســة حياتنــا اليوميــة بعقليــة النــدرة؟‬

‫كــا رأينــا‪ ،‬فــإن امتــاك الكثــر مــن الثــروة املاديــة يمكــن أن يكون ســي ًئا‬
‫مثــل امتــاك القليــل جــدً ا‪ .‬يضعــف احلمــل الزائــد مــن الدوبامــن قدرتنــا‬
‫عــى تأجيــل اإلشــباع‪ .‬إن تضخــم املبالغــة يف وســائل التواصــل االجتامعــي‬
‫وسياســات «جتــاوز احلقائــق» (دعونــا نســميها باســمها احلقيقــي‪ ،‬الكــذب)‬
‫تعمــل عــى تضخيــم إحساســنا بالنــدرة‪ .‬والنتيجــة هــي أنــه حتــى وســط‬
‫الرخـ�اء وملكيتنـ�ا للكثـير‪ ،‬نشـ�عر بالفقـ�ر‪.‬‬

‫متا ًمــا كــا يمكــن أن يكــون لديــك عقليــة النــدرة وســط الكثــر‪ ،‬مــن‬
‫أيضــا أن يكــون لديــك عقليــة الوفــرة وســط النــدرة‪ .‬يــأيت الشــعور‬
‫املمكــن ً‬
‫بالوفــرة مــن مصــدر خــارج العــامل املــادي‪ .‬إنــه اإليــان بــيء مــا خــارج‬
‫أنفســنا أو العمــل مــن أجلــه‪ ،‬وتعزيــز حيــاة غنيــة بالرتابــط اإلنســاين واملعنى‪،‬‬
‫وذلــك يمكــن أن يعمــل كغــراء اجتامعــي مــن خــال منحنــا عقليــة الوفــرة‬
‫حتــى يف خضــم الفقــر املدقــع‪ .‬ويتطلــب احلصــول عــى الرتابــط واملعنــى‬
‫صد ًقــا صار ًمــا‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫قول احلقيقة كوقاية‪:‬‬

‫كلفــت بعمــل تقييــم للصحــة العقليــة مــن قبــل جلنــة الســامة املهنيــة‬
‫للطبيــب ديريــك‪ ،‬قلــت لــه‪« :‬اســمح يل أوالً أن أرشح دوري‪ ،‬أنــا هنــا‬
‫لتحديــد مــا إذا كان لديــك مــرض عقــي يؤثــر ســل ًبا عــى قدرتــك عــى‬
‫ممارســة الطــب‪ ،‬ومــا إذا كانــت هنــاك أي إجــراءات معقولــة ورضوريــة‬
‫أيضــا‬
‫يمكــن اختاذهــا لتمكنــك مــن القيــام بعملــك‪ .‬لكننــي آمــل أن تــراين ً‬
‫بصــورة تتجــاوز تقييــم اليــوم‪ ،‬أن تــراين كدليــل ومرجــع يف حــال كنــت‬
‫بحاج��ة إىل تدخ��ل عالج��ي أو دع��م عاطف��ي ع�لى نط��اق أوس��ع»‪.‬‬

‫«شكرا عىل ذلك»‪.‬‬


‫ً‬ ‫مرتاحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال وهو يبدو‬

‫«أفهم أنك حصلت عىل خمالفة القيادة حتت الكحول؟»‬

‫تذكــرة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول‪ ،‬هــي خمالفــة قانونيــة للقيــادة يف‬
‫حالــة ســكر‪ .‬بالنســبة للســائقني الذيــن تبلــغ أعامرهــم ‪ 21‬عا ًمــا أو أكثــر يف‬
‫الوالي��ات املتح��دة‪ ،‬ف��إن القي��ادة برتكي��ز كح��ول يف ال��دم (‪ )BAC‬بنســبة ‪0,08‬‬
‫باملائـ�ة أو أعـلى أمـ�ر غـير قانـ�وين‪.‬‬

‫«نعم‪ .‬منذ أكثر من عرش سنوات‪ ،‬عندما كنت يف كلية الطب»‪.‬‬

‫«ممممم‪ .‬أنا يف حرية من أمري‪ .‬ملاذا تريني اليوم؟‬

‫«عــادةً‪ُ ،‬يطلــب منــي تقييــم األطبــاء املامرســن‪ ،‬بعــد حصوهلــم عــى‬


‫خمالف��ة القي��ادة حت��ت تأث�ير الكح��ول»‪.‬‬

‫«أنــا جديــد يف الكليــة هنــا‪ .‬لقــد أبلغــت عــن تذكــرة املخالفــة الوحيــدة‪،‬‬

‫‪262‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫يف نمــوذج الطلــب اخلــاص يب‪ .‬أعتقــد أهنــم (جلنــة الســامة) أرادوا فقــط‬
‫التأك��د م��ن أن كل يشء ع�لى م��ا ي��رام»‪.‬‬

‫قلت‪« :‬أعتقد أن هذا منطقي»‪« .‬حسنًا‪ ،‬أخربين قصتك»‬

‫يف عــام ‪ ،2007‬كان دريــك يف الفصــل الــدرايس األول مــن ســنته األوىل‬
‫يف كليــة الطــب‪ .‬لقــد خــرج متوجه ـ ًا إىل الشــال الرشقــي مــن كاليفورنيــا‪،‬‬
‫مســتبدالً األرايض العشــبية التــي تغمرهــا أشــعة الشــمس‪ ،‬عــى ســاحل‬
‫املحيــط اهلــادئ مقابــل تــال نيــو إنجالنــد الغارقــة باأللــوان يف كل جمدهــا‬
‫اخلريفــي‪.‬‬

‫لقــد قــرر دراســة الطــب يف وقــت متأخــر‪ ،‬بعــد أن مــى عليــه بعــض‬
‫الوقــت يف الدراســة اجلامعيــة يف كاليفورنيــا‪ ،‬حيــث ختصــص فعل ًيــا يف‬
‫ً‬
‫فصــا دراســ ًيا واحــدً ا يعيــش يف الغابــة خلــف‬ ‫ركــوب األمــواج‪ ،‬وقــى‬
‫شــعرا ســي ًئا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫احلــرم اجلامعــي‪« ،‬يكتــب‬

‫بعــد االمتحــان األول‪ ،‬أقــام بعــض زمالئــه يف كليــة الطــب حفلــة يف‬
‫منزهلــم يف الريــف‪ .‬كانــت اخلطــة أن يقــود الســيارة صديقــه‪ ،‬لكــن يف اللحظة‬
‫األخــرة‪ ،‬واجــه الصديــق مشــكلة يف الســيارة؛ لذلــك انتهــى األمــر بديريــك‬
‫بـ�أن يقـ�ود السـ�يارة‪.‬‬

‫«أتذكــر أنــه كان يو ًمــا مجيـ ًـا يف أوائــل اخلريــف يف ســبتمرب‪ .‬كان املنــزل‬
‫ع�لى طري��ق ريف��ي‪ ،‬لي��س بعي��دً ا ع��ن امل��كان ال��ذي كن��ت أعي��ش في��ه»‪.‬‬

‫تبــن أن احلفلــة كانــت أكثــر متعــة ممــا توقعــه ديريــك‪ .‬كانــت هــذه هــي‬
‫املــرة األوىل التــي ثمــل فيهــا منــذ جميئــه إىل كليــة الطــب‪ .‬بــدأ يف رشب اثنــن‬

‫‪263‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫منــ البيـرة‪ ،‬ث�مـ تق��دم إىل رشب ج��وين ووك��ر وبل��و ليب��ل‪ ،‬بحلــول الســاعة‬
‫‪ 11:30‬مســا ًء‪ ،‬عندمــا ظهــر رجــال الرشطــة بســبب اتصــال أحــد اجلــران‬
‫بسـ�بب بالضوضـ�اء‪ ،‬كان ديريـ�ك يف حالـ�ة سـ�كر‪ .‬وكذلـ�ك كان صديقـ�ه‪.‬‬

‫«أدركــت أنــا وصديقــي أننــا كنــا يف حالــة ســكر لدرجــة أننــا ال نســتطيع‬
‫القيــادة‪ .‬لذلــك بقينــا يف املنــزل‪ .‬لقــد نمــت‪ .‬غــادر رجــال الرشطــة ومعظــم‬
‫الضيــوف اآلخريــن‪ .‬وجــدت أريكــة وحاولــت النــوم فيهــا‪ .‬يف الســاعة‬
‫صباحــا‪ ،‬هنضــت‪ .‬كنــت مــا زلــت يف حالــة ســكر بســيط‪ ،‬لكننــي مل‬
‫ً‬ ‫‪2:30‬‬
‫أكــن أشــعر بإعيــاء الســكر‪ .‬وتشــجعت حينهــا عــى العــودة ملنــزيل نظـ ًـرا ألن‬
‫الطريــق الريفــي غالبـ ًا فــارغ‪ .‬كانــت جمــرد ميلــن إىل ثالثــة كحــد أقــى‪ ،‬ثــم‬
‫انطلقن��ا»‪.‬‬

‫بمجــرد أن اقتحــم دريــك وصديقــه الطريــق الريفــي‪ ،‬رأوا ســيارة‬


‫رشطــة تنتظــر عــى جانــب الطريــق‪ .‬توقفــت الرشطــة خلفهــم وبــدأت يف‬
‫متابعتهــم‪ ،‬كــا لــو كانــت تنتظرهــم طــوال الوقــت‪ .‬وصلــوا إىل تقاطــع؛‬
‫حيــث كانــت هنــاك إشــارة ضــوء معلقــة يف ســلك واحــد‪ .‬كانــت تتحــرك‬
‫بسـ�بب الريـ�ح‪.‬‬

‫«اعتقــدت أنــه كان يومــض باللــون األصفــر يف طريقــي‪ ،‬وأمحــر يف‬


‫االجتــاه اآلخــر‪ ،‬لكــن كان مــن الصعــب معرفــة ذلــك وهــو يتأرجــح هبــذه‬
‫الطريقــة‪ .‬أيضــا‪ ،‬كنــت متوتــر ًا ألن الرشطــي كان خلفــي يتابعنــي‪ .‬مــررت‬
‫عــر التقاطــع ببــطء‪ ،‬ومل حيــدث يشء‪ ،‬لذلــك اعتقــدت أننــي كنــت حم ًقــا‬
‫بشــأن اللــون األصفــر‪ ،‬وواصلــت التقــدم‪ .‬تقاطــع واحــد فقــط‪ ،‬وانعطافــة‬

‫‪264‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫لليســار وأصــل إىل منــزيل‪ .‬أخــذت املنعطــف‪ ،‬لكننــي نســيت أن أشــغل‬


‫إشــارة االنعط��اف اخلاص��ة يب‪ ،‬يف ذل��ك احل�ين أوقفن��ي الرشط��ي»‪.‬‬

‫صغــرا‪ ،‬يف نفــس عمــر ديريــك تقري ًبــا‪« .‬بــدا‬


‫ً‬ ‫كان ضابــط الرشطــة‬
‫جديــدً ا يف الوظيفــة‪ ،‬وكأنــه شــعر بالســوء إليقــايف ولكــن كان عليــه القيــام‬
‫بذلــك»‪.‬‬

‫طلــب مــن ديريــك بــأن يتنحــى خــارج الســيارة إلجــراء فحــص‬


‫تعاطــي اخلمــور‪ ،‬عــى جانــب الطريــق‪ .‬نفــث يف جهــاز االختبــار وكانــت‬
‫نتيجتــه ‪ ،% 0.10‬وهــو مــا يزيــد عــن احلــد القانــوين‪ .‬أخــذ الضابــط ديريــك‬
‫إىل املخفــر‪ ،‬حيــث مــأ ديريــك جمموعــة مــن األوراق وتــم إخطــاره أنــه تــم‬
‫تعليــق رخصتــه مؤق ًتــا لقيادتــه حتــت تأثــر الكحــول‪ .‬وقــام شــخص مــن‬
‫املخفــر بإيصالــه إىل منزلــه يف اليــوم التــايل‪.‬‬

‫تذكــرت شــائعة مفادهــا أن صدي ًقــا نشــأت معــه قــد حصــل عــى خمالفة‬
‫القيــادة حتــت تأثــر الكحــول أثنــاء عملــه كطبيــب مقيــم يف طــب الطــوارئ‪.‬‬
‫لقــد كنــت أكــن لــه قــدر ًا كبــر ًا مــن التقديــر واالحــرام‪ .‬حيــث كان رئيــس‬
‫فصلن��ا‪ .‬اتصل��ت ب��ه»‪.‬‬

‫قــال صديقــي عندمــا اســتطعت الوصــول إليــه‪« :‬مهــا فعلــت‪ ،‬ال‬


‫يمكنــك احلصــول عــى خمالفــة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول يف ســجلك‪،‬‬
‫خاصــة كونــك طبيــب‪ .‬احصــل عــى حمــام عــى الفــور وســيجدون طريقــة‬
‫للتخلــص مــن املخالفــة‪ .‬هــذا مــا فعلتــه»‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وجــد ديريــك حمام ًيــا حمل ًيــا ودفــع لــه ‪ 5000‬دوالر مقد ًمــا‪ ،‬حيــث حصل‬
‫عــى املــال مــن مكتــب قــروض الطالب‪.‬‬

‫قــال لــه املحامــي‪« :‬ســيحددون لــك موعــدً ا للمحكمــة‪ .‬ارتــد بدلــة‬


‫أنيقــة‪ .‬ســيطلب منــك القــايض الوقــوف‪ ،‬ويســألك كيــف تدافــع عــن‬
‫نفســك‪ ،‬وســتقول «غــر مذنــب»‪ .‬هــذا كل يشء‪ .‬هــذا كل مــا عليــك فعلــه‬
‫كلمتــان‪« ،‬غــر مذنــب» وســتكون األمــور حتــت الســيطرة»‬

‫يف يــوم االســتامع‪ ،‬ارتــدى ديريــك مالبســه كــا قيــل لــه‪ .‬كان يســكن‬
‫عــى بعــد عــدة بنايــات مــن قاعــة املحكمــة‪ ،‬وبينــا كان يســر إىل هنــاك‪ ،‬بــدأ‬
‫يفكــر‪ .‬فكــر يف ابــن عمــه يف نيفــادا الــذي كان يقــود ســيارته وهــو خممــور‬
‫واصطــدم وجه ـ ًا لوجــه بفتــاة تبلــغ مــن العمــر ثامنيــة عــر عا ًمــا قادمــة يف‬
‫االجتــاه اآلخــر‪ .‬كالمهــا مــات‪ .‬قــال األشــخاص الذيــن رأوا ابــن عمــه يف‬
‫حانـ�ة قبـ�ل ذلـ�ك بقليـ�ل إنـ�ه كان يـشرب كـما لـ�و كان يريـ�د أن يمـ�وت‪.‬‬

‫«يف قاعــة املحكمــة‪ ،‬رأيــت جمموعــة مــن الرجــال اآلخريــن يف مثــل‬


‫ـازا منــي‪ .‬كنــت أفكــر أنــه ربــا مل‬
‫عمــري‪ .‬لقــد بــدوا‪ ،‬كــا تعلمــون‪ ،‬أقــل امتيـ ً‬
‫يكــن لدهيــم حمــام مثــي‪ .‬بــدأت أشــعر بأننــي خســيس»‪.‬‬

‫بمجــرد دخولــه قاعــة املحكمــة‪ ،‬يف انتظــار اســتدعائه‪ ،‬اســتمر ديريــك‬


‫يف إدارة اخلطــة داخــل رأســه‪ ،‬متا ًمــا كــا قــال لــه حماميــه‪« :‬ســيدعوك القــايض‬
‫للوقــوف أمــام املنصــة ويســألك كيــف ترتافــع‪ ،‬وســتقول» غــر مذنــب‪.‬‬
‫«هـ�ذا كل يشء‪ .‬هـ�ذا كل مـ�ا عليـ�ك فعلـ�ه كلمتـ�ان‪« .‬غـير مذنـ�ب»‪.‬‬

‫دعــا القــايض ديريــك إىل منصــة الشــهود‪ .‬اســتقر ديريــك عــى الكــريس‬

‫‪266‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫اخلشــبي الصلــب يف األســفل‪ ،‬وعــى يمــن مقعــد القــايض‪ُ .‬طلــب منــه‬


‫رفــع يــده اليمنــى والقســم بقــول احلقيقــة‪ .‬فعــل ذلــك‪ ،‬وبــدأ ينظــر إىل‬
‫األشــخاص املوجوديــن يف قاعــة املحكمــة‪ .‬ونظــر إىل القــايض‪ .‬التفــت‬
‫القــايض إليــه وقــال‪« :‬كيــف ترتافــع؟» كان ديريــك يعــرف مــا يفــرض أن‬
‫يقولــه كان خيطــط لقــول ذلــك‪ .‬كلمتــان‪ .‬غــر مذنــب‪ .‬كانــت الكلــات عــى‬
‫شـ�فتيه تقري ًبـ�ا‪ .‬قريبـ�ة جـ�دا‪.‬‬

‫«ولكــن بعــد ذلــك بــدأت أفكــر يف هــذه املــرة عندمــا كان عمــري مخــس‬
‫ســنوات وطلبــت مــن والــدي اآليــس كريــم وطلــب منــي االنتظــار حتــى‬
‫بعــد الغــداء‪ .‬قلــت لــه‪« :‬لقــد تناولــت الغــداء‪ .‬ذهبــت إىل منــزل مايــكل‪،‬‬
‫وأعطــاين هــوت دوغ‪« .‬لكــن احلقيقــة هــي أننــي مل أذهــب أبــدً ا إىل منــزل‬
‫مايــكل‪ .‬ومايــكل وأنــا مل نكــن أصدقــاء ح ًقــا‪ ،‬وكان والــدي يعــرف ذلــك‪.‬‬
‫حســنا‪ ،‬والــدي مل يضيــع أي وقــت‪ .‬التقــط اهلاتــف يف ذلــك الوقــت وســأل‬
‫مايــكل‪« ،‬هــل أعطيــت ديريــك هــوت دوج؟» ثــم طلــب منــي والــدي‬
‫اجللــوس‪ ،‬وهبــدوء تــام‪ ،‬أخــرين أن الكــذب مــن أســوأ األمــور‪ .‬قــال يل بــأن‬
‫ـرا عــي»‪.‬‬
‫الكــذب ال يســتحق العواقــب‪ .‬تركــت تلــك اللحظــة انطبا ًعــا كبـ ً‬
‫«طــوال الوقــت كنــت أخطــط للدفــاع بـــ» غــر مذنــب «متا ًمــا مثلــا‬
‫ـرارا خمتل ًفــا قبــل أن‬
‫أخــرين املحامــي‪ ،‬مل يكــن األمــر كــا لــو أننــي اختــذت قـ ً‬
‫أتوجــه إىل املنصــة‪ .‬لكــن يف اللحظــة التــي ســألني فيهــا القــايض‪ ،‬مل أســتطع‬
‫ق��ول الكل�مات‪ ..‬كن��ت أع��رف أنن��ي مذن��ب‪ .‬لق��د كن��ت أرشب وأق��ود»‪.‬‬

‫قال ديريك «مذنب»‬

‫‪267‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫رفــع القــايض نفســه عــى كرســيه كــا لــو كان يســتيقظ ألول مــرة يف‬
‫ذلــك الصبــاح‪ .‬أدار رأســه ببــطء‪ .‬حــدق بعينيــه يف ديريــك‪ ،‬بنظــرة ثاقبــة‪.‬‬
‫«هــل أنــت متأكــد مــن أن هــذا هــو ترافعــك األخــر؟ هــل تــدرك العواقــب؟‬
‫ألن��ك ال تس��تطيع الع��ودة»‪.‬‬

‫قــال ديريــك‪« :‬لــن أنســى أبــدً ا الطريقــة التــي أدار هبــا رأســه وهــو‬
‫ينظــر إيل»‪« .‬اعتقــدت أن هــذا كان غري ًبــا نو ًعــا مــا أنــه كان يســألني ذلــك‪.‬‬
‫تســاءلت جلــزء مــن الثانيــة إذا مــا كنــت قــد ارتكبــت خطــأ مــا‪ .‬ثــم أخربتــه‬
‫أنن��ي متأك��د»‪.‬‬

‫اتصــل ديريــك باملحامــي وأخــره بــا حــدث يف املحكمــة‪« .‬لقــد فوجــئ‬


‫بالتأكيــد» قــال حمامــي ديريــك‪« ،‬أنــا أحــرم صدقــك‪ .‬وعــادة ال أقــوم هبــذا‪،‬‬
‫لكنن��ي سأرس��ل لـ�ك املبلـ�غ كامـلاً»‪ .‬وقــد فعــل املحامــي‪ .‬وقمــت باســرداد‬
‫كامــل للمبلــغ‪.‬‬

‫أمــى ديريــك العــام التــايل يف حضــور دروس القيــادة حتــت تأثــر‬


‫الكحــول‪ .‬كانــت الفصــول يف أماكــن نائيــة‪ .‬نظـ ًـرا ألنــه مل يســتطع القيــادة‪،‬‬
‫كان عليــه ركــوب احلافلــة‪ ،‬ممــا جيعلــه يســتغرق ســاعات يف كل مــرة‪ .‬حلضور‬
‫االجتامعــات اإللزاميــة‪ ،‬جلــس يف حلقــة مــع أشــخاص مل يكــن ليتعــرض‬
‫ـرا عــن األشــخاص الذيــن كنــت معهــم يف كليــة‬
‫هلــم عــادةً‪« .‬خيتلفــون كثـ ً‬
‫الطــب»‪ .‬األشــخاص اآلخــرون يف الفصــل كــا يتذكــر كانــوا يف الغالــب مــن‬
‫الرجــال البيــض األكــر ســنًا الذيــن لدهيــم العديــد مــن خمالفــات القيــادة‬
‫حتـ�ت تأثـير الكحـ�ول‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫بعــد دفــع أكثــر مــن ‪ 1000‬دوالر كغرامــات وقضــاء عــرات الســاعات‬


‫يف دروس تذكــرة خمالفــة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول‪ ،‬اســتعاد ديريــك‬
‫رخصـ�ة القيـ�ادة خاصتـ�ه‪ .‬اتضـ�ح أن هـ�ذه كانـ�ت البدايـ�ة فقـ�ط‪.‬‬

‫أهنــى كليــة الطــب وتقــدم بطلــب العمــل كطبيــب مقيــم‪ ،‬وذكــر‬


‫تذكــرة خمالفــة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول يف الطلــب الــذي قدمــه‪ ،‬عندمــا‬
‫تقــدم بطلــب للحصــول عــى رخصتــه الطبيــة‪ ،‬كان عليــه أن يفعــل الــيء‬
‫نفســه‪ .‬ومــرة أخــرى عندمــا تقــدم بطلــب للحصــول عــى شــهادة جملــس‬
‫التخصصــات (البــورد)‪ .‬يف هنايــة كل ذلــك‪ ،‬عندمــا تــوىل منصــب طبيــب‬
‫مقيــم يف منطقــة خليــج ســان فرانسيســكو‪ ،‬علــم أنــه مل يتــم احتســاب أيـ ًا مــن‬
‫دروس خمالفــة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول التــي أخذهــا يف فريمونــت يف‬
‫كاليفورنيـ�ا‪ ،‬لذلـ�ك كان عليـ�ه القيـ�ام هبـ�ا مـ�رة أخـ�رى‪.‬‬

‫«لقــد كنــت أعمــل طــوال النهــار‪ ،‬حتــى الليــل‪ ،‬ثــم أرسع مــن‬
‫املستشــفى للوصــول إىل هــذه االجتامعــات باحلافلــة‪ .‬يف حــال تأخــرت‪ ،‬كان‬
‫عــي دفــع رســوم‪ .‬يف مرحلــة مــا‪ ،‬تســاءلت عــا إذا كنــت ســأكون أفضــل‬
‫حـ ً‬
‫ـااًل بالكــذب‪ .‬لكــن اآلن‪ ،‬حــن أنظــر إىل الــوراء‪ ،‬أنــا ســعيد ألننــي قلــت‬
‫احلقيقــة»‪.‬‬

‫«كان والــداي يعانيــان مــن مشــاكل يف الــرب عندمــا كنــت طفــاً‪.‬‬


‫مــا يــزال والــدي يفعــل ذلــك‪ .‬يمكنــه أال يــرب لعــدة أســابيع متواصلــة‪،‬‬
‫لكــن عندمــا يفعــل ذلــك‪ ،‬يكــون األمــر ســيئ ًا للغايــة‪ .‬أمــي تتعــاىف منــذ عــر‬
‫ســنوات حتــى اآلن‪ ،‬لكنهــا كانــت تــرب طــوال الوقــت الــذي كنــت‬
‫أترعــرع فيــه‪ ،‬رغــم أننــي مل أكــن أعــرف ذلــك ومل أرهــا يف حالــة ســكر‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫قــادرا عــى‬
‫ً‬ ‫ولكــن حتــى مــع مشــاكلهم‪ ،‬كان والــداي جيديــن يف جعــي‬
‫منفتحــا وصاد ًقــا معهــم»‪.‬‬
‫ً‬ ‫الشــعور بأنــه يمكــن أن أكــون‬

‫«بــدا أهنــا دائـ ًـا حيبــاين ويفخــران يب‪ ،‬حتــى عندمــا أســأت التــرف‪.‬‬
‫مل يقومــا بتدليــي‪ .‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬مل يعطيــاين أبــدً ا املــال لدفــع الرســوم‬
‫القانونيــة‪ ،‬عــى الرغــم مــن أن لدهيــا املــال‪ .‬لكــن يف نفــس الوقــت‪ ،‬مل حيكــا‬
‫عــي أبــدً ا‪ .‬أعتقــد أهنــا خلقــا مســاحة مرحيــة وآمنــة مــن النضــج‪ .‬ســمح يل‬
‫منفتحــا وصاد ًقــا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫ذلــك أن أكــون‬

‫ـادرا مــا أرشب‪ .‬إذ إين عرضــة للمبالغــة يف الــرب‪،‬‬


‫«اليــوم‪ ،‬أنــا نفــي نـ ً‬
‫حمــب للمخاطــرة؛ لذلــك كان بإمــكاين بالتأكيــد أن أســلك هــذا الطريــق‪.‬‬
‫لكننــي أعتقــد أن قــول احلقيقــة يف تلــك اللحظــة احلاســمة مــن حيــايت‪،‬‬
‫عندمــا حصلــت عــى تذكــرة خمالفــة القيــادة حتــت تأثــر الكحــول‪ ،‬ربــا‬
‫وضعتنــي عــى طريــق آخــر‪ .‬ربــا ســاعدين الصــدق عــى مــر الســنني عــى أن‬
‫أكــون أكثــر راحــة مــع نفــي‪ .‬ليــس لــدي أرسار»‪.‬‬

‫قــد يكــون قــول احلقيقــة واملعانــاة مــن العواقــب املرتتبــة‪ ،‬قــد غــرا‬
‫مســار حيــاة ديريــك‪ .‬يبــدو أنــه يعتقــد ذلــك‪ .‬يبــدو أن االحــرام الشــديد‬
‫للصــدق الــذي غرســه والــده فيــه يف ســن مبكــرة كان لــه تأثــر أكــر حتــى‬
‫مــن عبئــه اجلينــي الكبــر لإلدمــان‪ .‬هــل يمكــن أن يكــون الصــدق الصــارم‬
‫ـرا وقائ ًيــا؟‬
‫تدبـ ً‬
‫ال تقومــوا بتفســر جتربــة ديريــك مــن منطلــق أن الصــدق الصــارم جــاء‬
‫بنتائــج عكســية يف نظــام فاســد وخمتــل وظيف ًيــا‪ ،‬أو كيــف أســهمت امتيــازات‬

‫‪270‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫عرقــه وطبقتــه يف املجتمــع األمريكــي يف قدرتــه عــى التغلــب عــى العواقــب‬


‫ـخصا ملو ًنــا‪ ،‬لربــا بــدت النتيجــة خمتلفــة‬
‫ـرا و‪/‬أو شـ ً‬
‫الكبــرة‪ .‬لــو كان فقـ ً‬
‫متا ًمـ�ا‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فقــد أقنعتنــي قصتــه كأم‪ ،‬أنــه يمكننــي وجيــب عــي التأكيــد‬
‫عـلى الصـ�دق كقيمـ�ة أساسـ�ية يف تربيـ�ة أطفـ�ايل‪.‬‬

‫لقــد علمنــي مرضــاي أن الصــدق يعــزز اإلدراك والوعــي‪ ،‬وخيلــق‬


‫عالقــات أكثــر إرضــا ًء‪ ،‬وحيملنــا املســؤولية ‪ -‬ويقــوي قدرتنــا عــى تأجيــل‬
‫اإلشـ�باع‪ .‬قـ�د يمنـ�ع حتـ�ى تطـ�ور اإلدمـ�ان يف املسـ�تقبل‪.‬‬

‫بالنســبة يل‪ ،‬الصــدق هــو كفــاح يومــي‪ .‬هنــاك دائـ ًـا جــزء منــي يريــد‬
‫تزيــن القصــة فقــط‪ ،‬جلعــل نفــي أبــدو أفضــل‪ ،‬أو لتقديــم عــذر ما للســلوك‬
‫السـ�يئ‪ ،‬أنـ�ا اآلن أحـ�اول جاهـ�دة حماربـ�ة هـ�ذا الدافـ�ع‪.‬‬

‫عــى الرغــم مــن صعوبــة املامرســة العمليــة إال أن هــذه األداة الصغــرة‬
‫املفيــدة ‪ -‬قــول احلقيقــة ‪ -‬يف متنــاول أيدينــا بشــكل مذهــل‪ .‬يمكــن ألي‬
‫شــخص أن يســتيقظ يف أي يــوم ويقــرر‪« :‬اليــوم لــن أكــذب بشــأن أي يشء»‪.‬‬
‫وبذلــك‪ ،‬ال يقومــون بتغيــر حياهتــم الفرديــة لألفضــل فقــط‪ ،‬ولكــن ربــا‬
‫حتــى تغيــر العــامل‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪272‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الفصل التاسع‬
‫الدعم االجتامعي للعار‬

‫عندمــا يتعلــق األمــر باالســتهالك القهــري املفــرط‪ ،‬فــإن العــار مفهــوم‬


‫خمــادع بطبيعتــه‪ .‬يمكــن أن يكون وســيلة الســتمرارية الســلوك‪ ،‬أو قــد يكون‬
‫الدافــع إليقافــه‪ .‬إذن كيــف يمكننــا إصــاح هــذا التناقــض؟‬

‫أوالً‪ ،‬لنتحدث عن ماهية العار‪.‬‬

‫حتــدد األدبيــات النفســية اليــوم العــار عــى أنــه عاطفــة ختتلــف عــن‬
‫الشــعور بالذنــب‪ .‬يســر التفكــر عــى هــذا النحــو‪ :‬العــار جيعلنــا نشــعر‬
‫بالســوء جتــاه أنفســنا كأشــخاص‪ ،‬يف حــن أن الشــعور بالذنــب جيعلنــا نشــعر‬
‫بالســوء حيــال أفعالنــا مــع احلفــاظ عــى إحســاس إجيــايب بالــذات‪ .‬العــار هــو‬
‫عاطفـ�ة غـير قـ�ادرة عـلى التكيـ�ف‪ ،‬بينـما الشـ�عور بالذنـ�ب هـ�و عاطفـ�ة تكيفية‪.‬‬

‫مش��كلتي مـ�ع ثنائيــة الذنــب والعــار هــي أهنــا متطابقــان مــن الناحيــة‬
‫التجريبيــة‪ .‬أمــا مــن الناحيــة الفكريــة‪ ،‬فقــد أكــون قــادرة عــى حتليــل كراهيــة‬
‫ـخصا جيــدً ا ارتكــب شــي ًئا خاط ًئــا»‪ ،‬ولكــن يف‬
‫الــذات مــن منطلــق «كــوين شـ ً‬
‫تلــك اللحظــة مــن العــار ‪ -‬الذنــب‪ ،‬يكــون الشــعور متطاب ًقــا‪ :‬النــدم املختلــط‬
‫باخلــوف مــن العقــاب‪ ،‬ورعــب اهلجــر‪ .‬النــدم ألنــه تــم اكتشــافه‪ ،‬وقد يشــمل‬

‫‪273‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أو ال يشــمل النــدم عــى الســلوك نفســه‪ .‬إن اخلــوف مــن اهلجــر‪ ،‬الــذي ُيعــد‬
‫نوعــ ًا مــن العقــاب‪ ،‬وهــو شــعور قــوي وعميــق جــد ًا‪ .‬إنــه الرعــب مــن‬
‫الطــرد‪ ،‬والنبــذ‪ ،‬أي مل يعــد الفــرد جــز ًءا مــن القطيــع‪.‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن ثنائيــة العــار‪ -‬الذنــب تنطلــق مســتفيدة مــن الواقــع‪.‬‬
‫أعتقــد أن االختــاف ليــس كيــف نختــر املشــاعر‪ ،‬ولكــن كيــف يســتجيب‬
‫اآلخــرون لتجاوزاتنــا وأخطائنــا‪.‬‬

‫يف حــال قــام اآلخــرون برفضنــا أو إدانتنــا أو جتنبنــا‪ ،‬فإننــا ندخــل يف‬
‫دائــرة مــا أطلــق عليــه «العــار املدمــر»‪ .‬العــار املدمــر يعمــق التجربــة العاطفيــة‬
‫للعــار وهييئنــا الســتدامة الســلوك الــذي أدى إىل الشــعور باخلــزي يف املقــام‬
‫األول‪.‬‬

‫أمــا إذا اســتجاب اآلخــرون مــن خــال تقريبنــا وتقديــم إرشــادات‬


‫واضحــة للخالص‪/‬التعــايف‪ ،‬فإننــا ندخــل يف دائــرة الدعــم االجتامعــي‬
‫للعــار‪ .‬فالعــار املدعــوم مــن قبــل املجتمــع‪ ،‬خيفــف مــن التجربــة العاطفيــة‬
‫للعـ�ار‪ ،‬ويسـ�اعدنا عـلى وقـ�ف أو تقليـ�ل السـ�لوك املخـ�زي‪.‬‬

‫مــع وضــع ذلــك يف االعتبــار‪ ،‬لنبــدأ باحلديــث عــن متــى وكيــف يصبــح‬
‫العــار مدمــرا؟ متهيــد ًا للحديــث عــن الوقــت الذي يســر فيــه العــار بالصورة‬
‫الصحيحـ�ة (أي العـ�ار املدعـ�وم اجتامعي ًا)‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫العار املدمر‬

‫قــال يل أحــد زمالئــي يف الطــب النفــي ذات مــرة‪« ،‬إذا مل نحــب‬


‫مرضانــا‪ ،‬فــا يمكننــا مســاعدهتم»‪.‬‬

‫عندما قابلت لوري ألول مرة‪ ،‬مل أحبها‪.‬‬

‫ـم تبحــث؟ رسعــان مــا أخربتنــي أهنــا جــاءت‬ ‫كانــت تعــرف جيــد ًا عـ َّ‬
‫لعيــاديت ألن طبيبهــا الرئيــس أرســلها‪ ،‬وهــي تعتقــد أنــه أمــر غــر رضوري‬
‫متا ًمــا ألهنــا مل تكــن تعــاين مــن أي نــوع مــن اإلدمــان أو مشــاكل الصحــة‬
‫العقليــة األخــرى وحتتــاج فقــط أن أقــول هــذا هلــا؛ حتــى تتمكــن مــن العــودة‬
‫إىل «الطبيـ�ب احلقيقـ�ي» للحصـ�ول عـلى أدويتهـ�ا‪.‬‬

‫قالــت‪« :‬لقــد أجريــت جراحــة املجــازة املعديــة»‪ ،‬كــا لــو كان ينبغــي‬
‫تفســرا كاف ًيــا للجرعــات الكبــرة واخلطــرة مــن األدويــة‬
‫ً‬ ‫أن يكــون هــذا‬
‫املخــدرة التــي كانــت تتناوهلــا‪ .‬بنــرة معلمــة تقليديــة ومتزمتــة‪ ،‬حتدثــت‬
‫إ ّيل كــا لــو أهنــا تقــوم بتدريــس تالميــذ ال يتمتعــون باحلــد األدنــى مــن‬
‫املوهبــة‪« .‬كنــت أزن أكثــر مــن مائتــي رطــل واآلن لســت كذلــك؛ لذلــك‬
‫بالطبــع لــدي متالزمــة ســوء االمتصــاص نتيجــة عمليــة املجــازة املعديــة‪،‬‬
‫وهلــذا الســبب أحتــاج إىل ‪ 120‬ملليغ��رام م��ن ليكســابور‪ ،‬للوصــول فقــط إىل‬
‫مســتويات دم الشــخص العــادي‪ .‬أنــت‪ ،‬أيتهــا الطبيبــة‪ ،‬مــن بــن كل النــاس‬
‫جي��ب أن تفهم��ي ذل��ك»‪.‬‬

‫ليكســابور هــو مضــاد لالكتئــاب يقــوم بتعديــل الناقــل العصبــي‬


‫الســروتونني‪ .‬متوســط اجلرعــات اليوميــة ‪ 20-10‬جمــم‪ ،‬ممــا جيعــل جرعــة‬
‫لــوري ســتة أضعــاف املعــدل الطبيعــي عــى األقــل‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫يف الغالــب ال يســاء اســتخدام مضــادات االكتئــاب عــادة لالنتشــاء‪،‬‬


‫لكننــي رأيــت مثــل هــذه احلــاالت عــى مــر الســنني‪ .‬عــى الرغــم مــن صحــة‬
‫أن جراح��ة املج��ازة املعدي��ة الت��ي تلقته��ا لــوري لفقــدان الــوزن يمكــن أن‬
‫تــؤدي إىل مشــكلة يف امتصــاص الطعــام واألدويــة‪ ،‬إال أنــه مــن الغريــب‬
‫جـ�دً ا احتياجهـ�ا هلـ�ذه اجلرعـ�ات العاليـ�ة‪ .‬يشء آخـ�ر كان حيـ�دث‪.‬‬

‫«هل تستخدمني أي أدوية أخرى أو خمدرات؟»‬

‫«أتنــاول اجلابابنتــن واملارجيوانــا الطبيــة لــأمل‪ .‬آخــذ (أمبيــان) للنــوم‬


‫هــذه أدويتــي‪ .‬أحتاجهــم لعــاج حالتــي الطبيــة‪ .‬أنــا ال أعــرف مــا هــو اخلطــأ‬
‫يف ذلــك؟» «مــا حالتــك الطبيــة التــي تعاجلينهــا؟» بالطبــع كنــت قــد قــرأت‬
‫ملفهــا الطبــي‪ ،‬لكنــي أحــب دائـ ًـا أن أســمع املــرىض «هــل لدهيــم تصــور‬
‫وفهــم وا ٍع لتشــخيصهم الطبــي وخطتهــم العالجيــة؟»‪.‬‬

‫«لدي اكتئاب وأمل يف قدمي من إصابة قديمة»‪.‬‬

‫«حســنا‪ .‬هــذا منطقــي‪ .‬لكــن اجلرعــات عاليــة‪ .‬أتســاءل عــا إذا كنــت‬
‫قــد عانيــت يف حياتــك مــن اســتخدام عــاج أو خمــدر أكثــر ممــا خططــت لــه‪،‬‬
‫أو اس��تخدمت الطع��ام أو املخ��درات للتعام��ل م��ع املش��اعر املؤمل��ة»‪.‬‬

‫تصلبــت‪ ،‬وظهرهــا مســتقيم‪ ،‬ويداهــا تلتفــان حــول خارصهتــا‪،‬‬


‫وكاحليهــا متقاطعــان بإحــكام‪ .‬بــدت وكأهنــا ســوف تقفــز مــن كرســيها‬
‫هاربـ�ة مـ�ن الغرفـ�ة‪.‬‬

‫«قلــت لــك‪ ،‬دكتــورة‪ ،‬ليــس لــدي هــذه املشــكلة»‪ .‬قامــت برتطيــب‬


‫شـ�فتيها‪ ،‬ثـ�م نظـ�رت بعيـ�دً ا‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫تنهــدت ثــم قلــت‪« :‬دعينــا نغــر طريقــة احلديــث»‪ ،‬عــى أمــل إنقــاذ‬
‫بدايتنــا الصعبــة‪« .‬ملــاذا ال ختربينــي عــن حياتــك‪ ،‬قدمــي نفســك مــن خــال‬
‫ســرة ذاتيــة مصغــرة‪ :‬أيــن ولــدت؟ مــن قــام برتبيتــك؟ كيــف كانــت‬
‫طفولتــك؟ معــامل احليــاة الرئيســة‪ ،‬حتــى يومنــا هــذا»‪.‬‬

‫بمجــرد أن أعــرف قصــة املريــض –القــوى التــي شــكلته خللــق‬


‫الشــخص املاثــل أمامــي‪ -‬يتبخــر العــداء يف دفء التعاطــف‪ .‬إن فهــم‬
‫شــخص مــا ح ًقــا هــو االهتــام بــه‪ .‬وهلــذا الســبب أقــوم دائـ ًـا بتعليــم طــاب‬
‫الطــب واملقيمــن الذيــن يتوقــون إىل حتليــل التجربــة املرضيــة لــكل مريــض‪،‬‬
‫بوضعهــا يف صناديــق منفصلــة مثــل «تاريــخ املــرض احلــايل» و«امتحــان‬
‫احلالــة العقليــة» و«مراجعــة األنظمــة» كــا تــم تعليمهــم القيــام بــه‪ ،‬الرتكيــز‬
‫بــدالً مــن ذلــك عــى القصــة‪ .‬القصــة تســتعيد ليــس فقــط إنســانية املريــض‬
‫أيضـ�ا إنسـ�انيتنا‪.‬‬
‫ولكـ�ن ً‬

‫ترعرعــت لــوري يف الســبعينات يف مزرعــة يف وايومنــغ‪ ،‬وهــي األصغــر‬


‫بــن ثالثــة أشــقاء نشــؤوا مجيعـ ًا حتــت رعايــة األم واألب‪ .‬تذكــر لــوري ‪ ،‬أهنــا‬
‫منـ�ذ سـ�ن مبكـ�رة كانـ�ت خمتلفـ�ة‪.‬‬

‫صحيحــا معــي‪ .‬مل أشــعر أننــي أنتمــي‪ .‬شــعرت‬


‫ً‬ ‫«يشء مــا مل يكــن‬
‫باحلــرج وبأننــي منبــوذة‪ .‬كان لــدي إعاقــة يف الــكالم‪ ،‬لثغــة‪ .‬شــعرت بالغبــاء‬
‫طــوال حيــايت»‪ .‬مــن الواضــح أن لــوري كانــت ذكيــة للغايــة‪ ،‬لكــن تصوراتنا‬
‫الذاتيــة املبكــرة عــن أنفســنا حتــارص آفاقنــا الواســعة بشــكل كبــر لتعيــد‬
‫صياغـ�ة حياتنـ�ا‪ ،‬وتقـ�وم بإبعـ�اد كل األدلـ�ة‪ ،‬لتقـ�دم الصـ�ورة بشـ�كل عكـسي‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫تذكــرت أهنــا لطاملــا كانــت خائفــة مــن والدهــا‪ .‬كان عرضــة لغضبــه‬
‫بشـ�كل مسـ�تمر‪ .‬لكـ�ن التهديـ�د األكـبر يف منزهلـ�م كان شـ�بح اإللـ�ه العقـ�ايب‪.‬‬

‫«تربيــت عــى «إلــه اللعنــة»‪ .‬إذا مل تكــن مثال ًيــا‪ ،‬فأنــت ذاهبــة إىل‬
‫اجلحيــم»‪ .‬نتيجــة لذلــك؛ أصبــح إخبــار نفســها بأهنــا مثاليــة‪ ،‬أو عــى األقــل‬
‫مهـما طـ�وال حياهتـ�ا‪.‬‬
‫أكثـ�ر مثاليـ�ة مـ�ن اآلخريـ�ن‪ ،‬موضو ًعـ�ا ً‬
‫كانــت لــوري طالبــة متوســطة عــى مســتوى التحصيــل الــدرايس‪،‬‬
‫ولكنهــا رياضيــة فــوق املتوســط‪ .‬ســجلت الرقــم القيــايس يف املدرســة‬
‫اإلعداديــة يف ســباق ‪ 100‬مــر حواجــز وبــدأت حتلــم باألوملبيــاد‪ .‬لكــن يف‬
‫ســنتها األوىل يف املرحلــة الثانويــة‪ ،‬كــرت كاحلهــا أثنــاء ركضهــا وقفزهــا‬
‫فــوق احلواجــز‪ .‬كانــت بحاجــة إىل عمليــة جراحيــة‪ ،‬وبذلــك انتهت مســرهتا‬
‫املهنيـ�ة الوليـ�دة بشـ�كل فعـلي‪.‬‬

‫«الــيء الوحيــد الــذي كنــت أجيــده انتُــزع منــي‪ .‬عندهــا بــدأت يف‬
‫َــي بيــغ مــاك‪.‬‬
‫األكل‪ .‬كنــا نتوقــف عنــد ماكدونالــدز ويمكننــي أكل وجبت ْ‬
‫كنــت فخــورة بذلــك‪ .‬يف ســنتي األوىل مــن الكليــة كان وزين ‪ 125‬رطــاً‪،‬‬
‫يف ذلــك احلــن مل أعــد أهتــم بمظهــري‪ .‬بحلــول الوقــت الــذي خترجــت‬
‫أيضــا‬
‫فيــه وذهبــت إىل كليــة التقنيــة الطبيــة‪ ،‬كان وزين ‪ 180‬رطــاً‪ .‬بــدأت ً‬
‫يف جتربــة املخــدرات‪ :‬الكحــول واملاريغوانــا واحلبــوب‪ .‬بشــكل رئيــس‬
‫فايكوديــن‪ .‬لكــن خمــدري املفضــل كان دائــا الطعــام»‪.‬‬

‫متيــزت الســنوات اخلمــس عــرة التاليــة مــن حيــاة لــوري بالتجــوال‪.‬‬


‫مــن مدينــة إىل أخــرى‪ ،‬مــن عمــل إىل عمــل‪ ،‬مــن صديــق إىل صديــق‪ .‬كفنيــة‬

‫‪278‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫طبيــة‪ ،‬كان مــن الســهل احلصــول عــى عمــل يف أي مدينــة تقري ًبــا‪ .‬كان‬
‫الثابــت الوحيــد يف حيــاة لــوري هــو أهنــا كانــت تذهــب إىل الكنيســة كل يــوم‬
‫أحـ�د‪ ،‬بغـ�ض النظـ�ر عـ�ن املـ�كان الـ�ذي تعيـ�ش فيـ�ه‪.‬‬

‫خــال هــذا الوقــت‪ ،‬اســتخدمت الطعــام واحلبــوب والكحــول‬


‫واحلشــيش‪ ،‬كل مــا يمكنهــا للهــروب مــن نفســها‪ .‬يف يــوم عــادي كانــت‬
‫تــأكل وعــاء مــن اآليــس كريــم عــى اإلفطــار‪ ،‬وتتنــاول وجبــة خفيفــة خــال‬
‫العم��ل‪ ،‬وتأخ��ذ أمبي��ان بمجــرد وصوهلــا إىل املنــزل‪ .‬أمــا بالنســبة للعشــاء‪،‬‬
‫كانــت تــأكل وعــاء آخــر مــن اآليــس كريــم‪ ،‬وبيــغ مــاك‪ ،‬وبطاطــا مقليــة مــن‬
‫احلجمــ الكب�ير‪ ،‬ودايــت ك�وـكا‪ ،‬يليه��ا قرص��ان م�نـ أمبيــان و«مربــع كبــر‬
‫منــ الكعكةــ» للتحلي��ة‪ .‬يف بع��ض األحي��ان كان��ت تأخـ�ذ أمبيــان يف هنايــة‬
‫مناوبتهــا‪ ،‬وحتصــل عــى بدايــة قفــزة حتــى تكــون منتشــية بحلــول الوقــت‬
‫الـ�ذي تصـ�ل فيـ�ه إىل املنـ�زل‪.‬‬

‫«إذا مل أســمح لنفــي بالنــوم بعــد تنــاول األمبيــان‪ ،‬ســأحصل عــى‬


‫النشــوة ثــم سأســتغرق ســاعتني وأتنــاول قرصــن مــرة أخــرى‪ ،‬للحصــول‬
‫عــى النشــوة‪ .‬أكــون وقتهــا مبتهجــة‪ .‬وهــو أمــر جيــد ويعطــي تقريبــا نفــس‬
‫ش��عور املـ�واد األفيونيــة» كانــت تكــرر هــذه الــدورة أو دورة مماثلــة يو ًمــا بعــد‬
‫يــوم‪ .‬يف أيــام إجازهتــا‪ ،‬كانــت ختلــط احلبــوب املنومــة مــع أدويــة الســعال‬
‫لتنتــي‪ ،‬أو تــرب الكحــول لدرجــة التســمم‪ ،‬واالنخــراط يف ســلوك‬
‫جنــي حمفــوف باملخاطــر‪.‬‬

‫بحلــول الوقــت الــذي كانــت فيــه لــوري يف منتصــف الثالثينيــات مــن‬


‫عمرهــا‪ ،‬كانــت تعيــش بمفردهــا يف منــزل يف واليــة أيــوا‪ ،‬وتقــي أوقــات‬

‫‪279‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫فراغهــا يف االنتشــاء واالســتامع إىل اإلذاعــة األمريكيــة‪ ،‬برنامــج املذيــع غلــن‬


‫بيـ�ك‪.‬‬

‫«أصبحــت مقتنعــة بــأن هنايــة العــامل قادمــة ال حمالــة‪ .‬القيامــة‪ .‬املســلمني‪.‬‬


‫غــزو إيــراين‪ .‬اشــريت جمموعــة مــن الوقــود يف حاويــات‪ .‬قمــت بتخزينهــا‬
‫يف غرفــة نومــي اإلضافيــة‪ .‬ثــم وضعتهــم يف الفنــاء حتــت قــاش القنــب‪.‬‬
‫اشــريت بندقيــة عيــار ‪ .22‬ثــم أدركــت أنــه مــع كميــة الوقــود املوجــودة يف‬
‫منــزيل قــد أكــون عرضــة لالنفجــار؛ لذلــك بــدأت يف مــلء ســياريت بالوقــود‬
‫م��ن احلاوي��ات حت��ى انته��ت الكمي��ات الكب�يرة»‪.‬‬

‫ـتوى مــا علمــت لــوري أهنــا بحاجــة إىل املســاعدة‪ ،‬لكنهــا مل‬
‫عــى مسـ ً‬
‫تكــن متحمســة لطلــب ذلــك‪ .‬كانــت ختشــى أهنــا إذا اعرتفــت بأهنــا ليســت‬
‫«املســيحية املثاليــة»‪ ،‬فــإن النــاس ســيتخلون عنهــا‪ .‬كانــت قــد أملحــت يف‬
‫بعــض األحيــان إىل مشــاكلها مــع زمالئهــا أعضــاء الكنيســة لكنهــا أدركــت‬
‫مــن خــال الرســائل الدقيقــة أن هنــاك أنوا ًعــا معينــة مــن املشــاكل التــي مل‬
‫يكــن مــن املفــرض أن تشــاركها أعضــاء الكنيســة‪ .‬يف تلــك املرحلــة‪ ،‬كان‬
‫وزهنــا حــوايل ‪ 250‬رطـاً‪ ،‬وشــعرت باكتئــاب ســاحق‪ ،‬وبــدأت تتســاءل عــا‬
‫إذا كان مـ�ن األفضـ�ل هلـ�ا أن متـ�وت‪.‬‬

‫قلــت‪« :‬لــوري‪ ،‬عندمــا ننظــر إىل كل هــذا‪ ،‬ســواء كان الطعــام أو‬
‫احلشــيش أو الكحــول أو حبــوب الوصفــات الطبيــة‪ ،‬يبــدو أن إحــدى‬
‫املش��كالت الدائم�ةـ ه��ي اإلف��راط يف االس��تهالك القه��ري واملدم��ر لل��ذات‪..‬‬
‫ه��ل تعتق��دي أن م��ا أقول��ه معق��ول ومنص��ف؟ »‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫نظــرت إ ّيل ومل تقــل شــي ًئا‪ .‬ثــم بــدأت يف البــكاء‪ ،‬عندمــا متكنــت مــن‬
‫التحــدث‪ ،‬قالــت‪« :‬أعلــم أن هــذا صحيــح‪ ،‬لكننــي ال أريــد أن أصــدق‬
‫ذلــك‪ .‬ال أريــد ســاعها‪ ،‬لــدي وظيفــة‪ .‬لــدي ســيارة‪ .‬أذهــب إىل الكنيســة كل‬
‫يــوم أحــد‪ .‬اعتقــدت أن إجــراء جراحــة املجــازة املعديــة ســيصلح كل يشء‪.‬‬
‫اعتقــدت أن فقــدان الــوزن ســيغري حيــايت‪ .‬حتــى عندمــا فقــدت الــوزن‪ ،‬مــا‬
‫زلــت أرغــب يف املــوت«‪.‬‬

‫اقرتحــت عــد ًدا مــن املســارات املختلفــة التــي قــد تتخذهــا لــوري‬
‫للتحسـ�ن‪ ،‬بـما يف ذلـ�ك حضـ�ور اجتامعـ�ات مدمنـ�ي الكحـ�ول املجهولـين‪.‬‬

‫قالت دون تردد‪« :‬لست بحاجة إىل ذلك»‪« .‬لدي كنيستي»‪.‬‬

‫بعد شهر‪ ،‬عادت لوري كام هو مقرر‪« .‬التقيت برعاة الكنيسة»‪.‬‬

‫ماذا حدث؟‬

‫نظــرت بعيــدا‪« .‬كنــت منفتحــة بطريقــة مل أكــن عليهــا مــن قبــل‪ .‬إال‬
‫مع��ك‪ .‬أخربهت��م ب��كل يشء تقريب�� ًا‪ ،‬لق��د وضع��ت كل يشء هن��اك»‪.‬‬

‫«و؟»‬

‫قالــت «كان غريبــا»‪« .‬بــدوا‪ ...‬مشوشــن‪ .‬وقلقــن‪ .‬وكأهنــم مل يعرفــوا‬


‫ح ًقــا مــاذا يفعلــون معــي‪ .‬قالــوا يل أن أصــي‪ .‬قالــوا إهنــم ســيصلون مــن‬
‫أجــي‪ .‬كــا شــجعوين عــى عــدم مناقشــة مشــاكيل مــع أعضــاء الكنيســة‬
‫اآلخريــن‪ .‬هــذا هــو»‬

‫«كيف كان ذلك بالنسبة لك؟»‬

‫‪281‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫«يف تلــك اللحظــة شــعرت بإلــه اللعنــات والعــار‪ .‬أنــا قــادرة عــى‬
‫اقتبــاس الكتــاب املقــدس ولكنــي ال أشــعر بــأي صلــة بإلــه الكتــاب املقــدس‬
‫املحــب‪ .‬ال يمكننــي توقــع ذلــك منــه‪ .‬أنــا لســت عــى مــا يــرام؛ لذلــك‬
‫توقفــت عــن الذهــاب إىل الكنيســة‪ .‬مل أحــر منــذ شــهر وهــل تعلمــي‪ ،‬مل‬
‫يالحــظ أحــد عــى مــا يبــدو‪ .‬مل يتصــل أحــد‪ .‬مل يتصــل يب أحــد‪ .‬وال شــخص‬
‫واحــد»‪.‬‬

‫وقعــت لــوري يف دائــرة العــار املدمــر‪ .‬عندمــا حاولــت أن تكــون‬


‫صادقــة مــع زمالئهــا أعضــاء الكنيســة‪ ،‬قامــوا بإحبــاط مشــاركتها هــذا اجلــزء‬
‫مــن حياهتــا‪ ،‬بصــورة ضمنيــة‪ ،‬تــم إبالغهــا بأهنــا ســتتعرض للرفــض أو مزيــد‬
‫مــن العــار إذا كانــت منفتحــة بشــأن كفاحهــا‪ .‬مل تســتطع املخاطــرة بفقــدان‬
‫املجتمــع الصغــر الــذي لدهيــا‪ .‬لكــن إبقــاء ســلوكها خمفيــ ًا أدى أيضــ ًا إىل‬
‫ديمومــة عارهــا‪ ،‬ممــا أســهم بشــكل أكــر يف العزلــة‪ ،‬وكل هــذه العوامــل‬
‫غــذت االســتهالك املســتمر لدهيــا‪.‬‬

‫تشــر الدراســات إىل أن األشــخاص الذيــن يشــاركون بنشــاط يف‬


‫املنظــات الدينيــة يف املتوســط لدهيــم معــدالت أقــل مــن تعاطــي املخــدرات‬
‫والكحــول‪ .‬ولكــن عندمــا ينتهــي األمــر باملنظــات الدينيــة إىل اجلانــب اخلطــأ‬
‫مــن معادلــة العــار‪ ،‬مــن خــال جتنــب املتحولــن جنســ ًيا و‪/‬أو تشــجيع‬
‫شــبكة عالقــات تتمحــور حــول الرسيــة واألكاذيــب‪ ،‬فإهنــا تســهم يف دائــرة‬
‫العــار املدمــر‪.‬‬

‫يبــدو العــار املدمــر عــى هــذا النحــو الدائــري‪ :‬يــؤدي االســتهالك‬


‫املفــرط إىل العــار‪ ،‬ممــا يــؤدي إىل جتنــب املجموعــة أو الكــذب عــى املجموعــة‬

‫‪282‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫لتجنــب اهلجــر والنبــذ‪ ،‬وكالمهــا يــؤدي إىل مزيــد مــن العزلــة‪ ،‬ممــا يســهم يف‬
‫االس��تهالك املستــمر وهب��ذا تس��تمر الدائرة‪(.‬رســم رقــم ‪)19‬‬

‫العار المدمر‬

‫الرتيــاق للعــار املدمــر هــو الدعــم االجتامعــي للعــار‪ .‬دعونــا نــرى كيــف‬
‫يمكــن أن يعمــل ذلــك؟‬

‫‪283‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مدمنو الكحول املجهولون‪ :‬نموذج للدعم االجتامعي للعار‬


‫أخــرين أســتاذي ذات مــرة عــا دفعــه للتوقــف عــن رشب الكحــول‪.‬‬
‫لطاملــا أتذكــر قصتــه؛ ألهنــا توضــح وجهــي العــار املختلفــن بصــورة كبــرة‪.‬‬

‫رسا كل‬‫حــن كان يف األربعينيــات مــن عمــره‪ ،‬اعتــاد عــى أن يــرب ً‬


‫ليلــة بعــد أن تذهــب زوجتــه وأطفالــه إىل الفــراش‪ .‬لقــد فعــل ذلــك لفــرة‬
‫طويلــة بعــد أن وعــد زوجتــه بأنــه توقــف‪ .‬كل األكاذيــب الصغــرة التــي‬
‫قاهلــا للتســر عــى رشبــه‪ ،‬وحقيقــة الــرب نفســه‪ ،‬تراكمــت وثقلــت عــى‬
‫ضمـيره‪ ،‬ممـ�ا دفعـ�ه بـ�دوره إىل رشب املزيـ�د‪ .‬رشب مـ�ن أجـ�ل العـ�ار‪.‬‬

‫ذات يــوم اكتشــفت زوجتــه ثملــه‪ .‬يذكــر‪« :‬نظــرة خيبــة األمــل واخليانــة‬
‫يف عينيهــا جعلتنــي أقســم أننــي لــن أرشب مــرة أخــرى»‪ .‬دفعــه العــار الــذي‬
‫شــعر بــه يف تلــك اللحظــة‪ ،‬ورغبتــه يف اســتعادة ثقــة وقبــول زوجتــه‪ ،‬إىل أول‬
‫حماولــة جــادة لــه للتعــايف‪.‬‬

‫بــدأ يف حضــور اجتامعــات مدمنــي الكحــول املجهولــن‪ .‬وحــدد‬


‫الفائــدة الرئيســة ملدمنــي الكحــول املجهولــن بالنســبة لــه عــى أهنــا «عمليــة‬
‫إزالــة العــار» وصفهــا هبــذه الطريقــة‪« .‬أدركــت أننــي لســت الوحيــد‪ .‬كان‬
‫هنــاك أشــخاص آخــرون مثــي متا ًمــا‪ .‬كان هنــاك أطبــاء آخــرون يعانــون مــن‬
‫إدمــان الكحــول‪ .‬إن معرفــة أن لــدي مكا ًنــا أذهــب إليــه حيــث يمكننــي أن‬
‫أكــون صاد ًقــا متا ًمــا ومــا زلــت مقبـ ً‬
‫ـواًل كان أمـ ًـرا مهـ ًـا للغايــة‪ .‬لقــد خلقــت‬
‫املســاحة النفســية التــي أحتاجهــا للتســامح مــع نفــي وإجــراء التغيــرات‪.‬‬
‫للمــي قدمــا يف حيــايت»‪.‬‬

‫يعتمــد الدعــم االجتامعــي للعــار عــى فكــرة أن العــار مفيــد ومهــم‬

‫‪284‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الزدهــار املجتمعــات‪ .‬بــدون الشــعور بالعــار‪ ،‬ســينحدر املجتمــع إىل‬


‫الفــوىض‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فــإن الشــعور باخلجــل مــن الســلوكيات املتجــاوزة وغــر‬
‫أمـ�را مناسـ� ًبا وجيـ�دً ا‪.‬‬
‫الالئقـ�ة‪ُ ،‬يعـ�د ً‬
‫تســتند أســس الدعــم االجتامعــي للعــار‪ ،‬بشــكل أكــر عــى فكــرة أننــا‬
‫مجي ًعــا معيبــون وقــادرون عــى ارتــكاب األخطــاء‪ ،‬وبحاجــة إىل التســامح‪.‬‬
‫و ُيعــد التشــجيع لاللتــزام بمعايــر املجموعــة هــو املفتــاح األســاس‪،‬‬
‫دون اســتبعاد أي شــخص ضــل الطريــق‪ ،‬بــل يتــم احتــواؤه‪ ،‬بــأن تكــون‬
‫لديــه قائمــة «مهــام» ملــا بعــد العــار والتــي توفــر خطــوات حمــددة إلجــراء‬
‫تعديــات‪ .‬هذــا م��ا تقــوم بـ�ه جمموع�ةـ مدمن�يـ الكح��ول املجهولـين مــن‬
‫خــال خطواهتــا الـــ ‪.12‬‬

‫تســر دورة الدعــم االجتامعــي للعــار عــى هــذا النحــو‪ :‬يــؤدي‬


‫االســتهالك املفــرط إىل العــار‪ ،‬الــذي يتطلــب صد ًقــا صار ًمــا وال يــؤدي إىل‬
‫النبــذ‪ ،‬ولكــن إىل القبــول والتعاطــف‪ ،‬إىل جانــب جمموعــة مــن اإلجــراءات‬
‫املطلوبــة إلجــراء تعديــات‪ .‬والنتيجــة هــي زيــادة االنتــاء وانخفــاض‬
‫االســتهالك‪ .‬عــى عكــس مــن العــار املدمــر‪( .‬رســم رقــم ‪)20‬‬

‫‪285‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫***‬

‫أخــرين مريــي تــود‪ ،‬وهــو جــراح شــاب يتعــاىف مــن إدمــان الكحــول‪،‬‬
‫كيــف أن «جمموعــة مدمنــي الكحــول املجهولــن كانــت متثــل أول مــكان‬
‫آم��ن للتعب�ير ع��ن الضعفــ»‪ .‬يف أول اجت�ماع ل��ه م��ع املجموعــة‪ ،‬بكــى بشــدة‬
‫�ادرا عـلى نطـ�ق اسـ�مه‪.‬‬
‫لدرجـ�ة أنـ�ه مل يكـ�ن قـ ً‬
‫«بعــد ذلــك‪ ،‬جــاء اجلميــع وأعطــوين أرقامهــم وطلبــوا منــي االتصــال‪.‬‬
‫دائــا ولكــن مل يكــن لــدي أبــدً ا‪ .‬مل يكــن‬
‫كان ذلــك املجتمــع الــذي أردتــه ً‬
‫بإمــكاين االنفتــاح هكــذا مــع أصدقائــي يف تســلق الصخــور أو مــع جراحــن‬
‫آخري��ن»‪.‬‬

‫بعــد مخــس ســنوات مــن التعــايف املســتمر‪ ،‬شــارك تــود معــي أن أهــم‬
‫خطــوة مــن اخلطــوات الـــ ‪ 12‬بالنســبة لــه كانــت اخلطــوة العــارشة (اســتمر‬
‫يف إجــراء اجلــرد الشــخيص وعندمــا نكــون خمطئــن‪ ،‬نعــرف بذلــك عــى‬
‫الفـ�ور)‪.‬‬

‫«كل يــوم‪ ،‬أحتقــق مــن نفيس‪ .‬حســن ًا‪ ،‬هــل انحرفــت؟ إذا كان نعم‪ ،‬كيف‬
‫يمكننــي تغيــره؟ هــل أحتــاج إىل تصحيــح؟ كيــف يمكننــي أصحــح ذلــك؟‬
‫عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يف ذلــك اليــوم‪ ،‬كنــت أتعامــل مــع أحــد األطبــاء املقيمــن‬
‫الــذي مل يعطنــي معلومــات صحيحــة عــن مريــض‪ .‬بــدأت أشــعر باإلحبــاط‪.‬‬
‫ملــاذا ال يتــم ذلــك بالشــكل املطلــوب؟ عندمــا أشــعر هبــذا اإلحبــاط‪ ،‬أقــول‬
‫لنفــي‪ :‬حسـنًا‪ ،‬تــود‪ ،‬توقــف‪ .‬فكــر يف هــذا‪ .‬هــذا الشــخص لديــه خــرة أقــل‬
‫منــك بعــر ســنوات تقري ًبــا‪ .‬ربــا هــو خائــف‪ .‬بــدالً مــن الشــعور باإلحباط‪،‬‬
‫كيــف يمكنــك مســاعدهتم يف احلصــول عــى مــا حيتاجــون إليــه؟ هــذا يشء مل‬

‫‪286‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫أكـ�ن ألفعلـ�ه قبـ�ل الشـ�فاء‪.‬‬

‫قــال يل تــود‪« :‬قبــل عامــن‪ ،‬بعــد حــوايل ثــاث ســنوات مــن شــفائي‪،‬‬
‫كنــت أرشف عــى طالــب طــب كان فظي ًعــا‪ .‬كان ســيئ ًا للغايــة‪ .‬لــن أدعــه‬
‫يعتنــي باملــرىض‪ .‬عندمــا حــان وقــت التقييــم النصفــي‪ ،‬جلســت معــه‬
‫وقــررت أن أكــون صاد ًقــا معــه‪ .‬قلــت لــه‪« ،‬لــن تســتطيع اجتيــاز التقييــم مــا‬
‫مل تقــم ببعــض التغيــرات الكبــرة»‪ .‬بعــد مالحظــايت‪ .‬قــرر البــدء مــن جديــد‬
‫قــادرا عــى التحســن‬
‫ً‬ ‫وحماولــة حتســن أدائــه بشــكل ملمــوس‪ .‬لقــد كان‬
‫وانتهــى بــه األمــر باجتيــاز التقييــم‪ .‬حــن كنــت أرشب‪ ،‬مل أكــن ألكــون‬
‫صاد ًقــا معــه‪ .‬كنــت ســأتركه يســتمر ويفشــل يف التقييــم‪ ،‬أو أتــرك املشــكلة‬
‫لشــخص آخــر للتعامــل معهــا‪.‬‬

‫إن اجلــرد الــذايت الصــادق ال يــؤدي فقــط إىل فهــم أفضــل ألوجــه‬
‫القصــور لدينــا‪ .‬إال أنــه يســمح لنــا بتقييــم أوجــه القصــور يف اآلخريــن‬
‫واالســتجابة هلــا عــى نحــو أكثــر موضوعيــة‪ .‬عندمــا نكــون قادريــن عــى‬
‫مســاءلة أنفســنا‪ ،‬فإننــا نكــون قــادرون عــى حماســبة اآلخريــن‪ .‬يمكننــا‬
‫االســتفادة مــن العــار دون عــار‪ .‬املفتــاح هنــا هــو املســاءلة والتعاطــف‪.‬‬
‫تنطبــق هــذه الــدروس علينــا مجي ًعــا‪ ،‬ســواء كنــا مدمنــن أم ال‪ ،‬وترتجــم إىل‬
‫كل نـ�وع مـ�ن العالقـ�ات يف حياتنـ�ا اليوميـ�ة‪.‬‬

‫***‬

‫مدمنــو الكحــول املجهولــون هــي منظمــة نموذجيــة تقــدم الدعــم‬


‫االجتامعــي للعــار‪ .‬تُســخر املجموعــة عمليــة دعــم العــار‪ ،‬لاللتــزام بمعايــر‬

‫‪287‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫املجموعــة‪ .‬ال عيــب يف أن تكــون «مدمنًــا عــى الكحــول»‪ ،‬بــا يتفــق مــع‬
‫مقول��ة املجموعـ�ة‪ ،‬هــي منطقــة «ال عــار فيهــا « ولكــن هنــاك عــار يف حــال‬
‫الســعي الفاتــر وغــر اجلــاد نحــو التعــايف‪ ،‬أخــرين املــرىض أن العــار املتوقــع‬
‫مــن االضطــرار إىل االعــراف باالنتكاســة أمــام اجلامعــة يعمــل كــرادع‬
‫رئيـ�س ضـ�د االنتـ�كاس‪ ،‬ويعـ�زز املزيـ�د مـ�ن االلتـ�زام بمعايـير اجلامعـ�ة‪.‬‬

‫األهـ�م منــ ذل��ك‪ ،‬عندم��ا ينتك��س أعضــاء املجموعــة‪ ،‬فــإن االنتكاســة‬


‫نفســها هــي ســلعة النــادي(‪ .)1‬يشــر علــاء االقتصــاد الســلوكي إىل مكافــآت‬
‫االنتــاء إىل جمموعــة كســلع النــادي‪ .‬كلــا زادت قــوة ســلع النــادي‪ ،‬زادت‬
‫احتامليــة قــدرة املجموعــة عــى احلفــاظ عــى أعضائهــا احلاليــن وجــذب‬
‫أعضــاء جــدد‪ .‬يمكــن تطبيــق مفهــوم ســلع النــادي عــى أي جمموعــة مــن‬
‫البـشر‪ ،‬مـ�ن العائـلات إىل جمموعـ�ات الصداقـ�ة إىل اجلامعـ�ات الدينيـ�ة‪.‬‬

‫كــا كتــب اخلبــر االقتصــادي الســلوكي لورانــس إياناكــون يف إشــارة‬


‫إىل ســلع النــادي يف املنظــات الدينيــة‪« ،‬ال تعتمــد املتعــة التــي أســتمدها‬
‫أيضــا‬
‫مــن قــداس األحــد عــى مســامهايت اخلاصــة فحســب‪ ،‬بــل تعتمــد ً‬
‫عــى مســامهات اآلخريــن‪ :‬كــم عــدد اآلخريــن الذيــن حيــرون؟ ومــدى‬

‫((( ســلع النــادي مفهــوم اقتصــادي يشــر إىل ســلع تتميــز بانخفــاض مســتوى التنافســية يف‬
‫االســتهالك ولكــن مــع زيــادة يف القــدرة عــى اســتبعاد األفــراد الذيــن ال يدفعــون ثمنهــا‪ ،‬أو‬
‫يتبعــون أنظمتهــا يف العضويــة واالنتــاء‪ ،‬وغال ًبــا مــا تقــدم إمــا عــن طريــق احلكومــة (عضويــة‬
‫املكتبــة العامــة – احلدائــق التــي تفــرض رســوم) أو عــن طريــق مؤسســات غــر ربحيــة‪ .‬فاملؤلفــة‬
‫تســتخدم مفهــوم ســلع النــادي يف ســياق الدراســة لتوضــح الــدور الــذي تقــوم بــه مجاعــة مدمنــي‬
‫الكحــول املجهولــن بــا أنــه غــر ربحــي أو تنافــي ولكــن اســتمراريتهم تكمــن يف مــدى احلفــاظ‬
‫عــى مبــادئ املجموعــة‪ ،‬وااللتــزام بمعايريهــا التــي تعتربهــا ســل ًعا للنــادي‪ ،‬فكلــا ارتفعــت‬
‫درجــة االنتــاء واملصداقيــة كانــت املجموعــة قــادرة عــى االســتمرارية والتأثــر‪( .‬املرتمجــة)‬

‫‪288‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫ترحيبهــم يب‪ ،‬ومهارهتــم يف الرتتيــل والغنــاء‪ ،‬ومــدى محاســهم يف القــراءة‬


‫والصــاة»‪ .‬تــم تعزيــز ســلع النــادي مــن خــال املشــاركة النشــطة يف‬
‫األنشــطة والتجمعــات اجلامعيــة‪ ،‬ومــن خــال االلتــزام بقواعــد ومعايــر‬
‫املجموع��ة‪.‬‬

‫إن الكشــف الصــادق عــن االنتــكاس يف جمموعــة مدمنــي الكحــول‬


‫املجهول�ين يزيــد مــن ســلع النــادي مــن خــال خلــق الفرصــة ألعضــاء‬
‫املجموعــة اآلخريــن لتجربــة التعاطــف واإليثــار‪ ،‬ودعونــا نواجــه األمــر‪،‬‬
‫بطريقــة أخــرى قــد يكــون هنــاك درجــة معينــة مــن الرتكيــز عــى الــذات عــى‬
‫غــرار (الشــاتة) «كان مــن املمكــن أن حيــدث ذلــك يل وأنــا ســعيد بالتأكيــد‬
‫ألنـ�ه مل حيـ�دث» أو «هنـ�اك ولكـ�ن مـ�ن أجـ�ل نعمـ�ة اهلل اذهـ�ب‪»)1(.‬‬

‫تتعــرض ســلع النــادي للتهديــد مــن قبــل العابريــن الذيــن حياولــون‬


‫االســتفادة مــن املجموعــة دون مشــاركة كافيــة يف هــذا املجتمــع‪ ،‬فهــم أشــبه‬
‫بالطفيليــات املنتفعــة‪ .‬عندمــا يتعلــق األمــر بقواعــد ومعايــر املجموعــة‪ ،‬فــإن‬
‫العابريــن هيــددون ســلع النــادي عندمــا يفشــلون يف االلتــزام‪ ،‬أو الكــذب‬
‫بشــأهنا‪ ،‬و‪/‬أو عــدم بــذل أي جهــد لتغيــر ســلوكهم‪ .‬ســلوكهم الفــردي ال‬
‫يفعــل شــي ًئا لتقويــة ســلع النــادي‪ ،‬لكنهــم يســتفيدون بشــكل فــردي مــن‬
‫العضويــة يف املجموعــة أي منفعــة االنتــاء‪.‬‬

‫((( قــول مأثــور جــاء عــى لســان الشــهيد جــون برادفــورد يف منتصــف القــرن الســادس عــر‬
‫أثنــاء ســجنه يف بــرج لنــدن‪ ،‬والعبــارة تشــر إىل التعاطــف مــع جمموعــة مــن الســجناء الذيــن تــم‬
‫إعدامهــم أمامــه‪ ،‬وهــي تصــف مقــدار تعاطفــه معهــم وأن العنايــة اإلهليــة هــي التــي جعلتــه أكثــر‬
‫ح ًظــا منهــم‪ ،‬فهــو قــد يكــون يف مكاهنــم لــوال القــدر‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وأشــار إياناكــون إىل أنــه مــن الصعــب إن مل يكــن مــن املســتحيل قيــاس‬
‫االلتــزام بمبــادئ املجموعــة التــي ختلــق ســلع النــادي‪ ،‬خاصــة عندمــا‬
‫تنطــوي املطالــب عــى عــادات شــخصية وظواهــر ذاتيــة غــر ملموســة‪ ،‬مثــل‬
‫قـ�ول احلقيقـ�ة‪.‬‬

‫تفــرض نظريــة إياناكــون للتضحيــة والوصمــة أن إحــدى طــرق‬


‫«قيــاس» مشــاركة املجموعــة تتــم بصــورة غــر مبــارشة‪ ،‬مــن خــال فــرض‬
‫ســلوكيات وصــم تقلــل مــن املشــاركة يف ســياقات أخــرى‪ ،‬واملطالبــة‬
‫بالتضحيــة بمــوارد الفــرد الســتبعاد األنشــطة األخــرى‪ .‬وهكــذا يتــم التحرر‬
‫مــن العابريــن‪.‬‬

‫عــى وجــه التحديــد‪ ،‬تلــك الســلوكيات التــي تبــدو مفرطــة أو غــر‬


‫مــررة أو حتــى غــر عقالنيــة يف املؤسســات الدينيــة القائمــة‪ ،‬مثــل تصفيــف‬
‫الشــعر أو ارتــداء مالبــس معينــة‪ ،‬أو االمتنــاع عــن األطعمــة املختلفــة أو‬
‫أشــكال التكنولوجيــا احلديثــة‪ ،‬أو رفــض بعــض العالجــات الطبيــة‪ ،‬هــي‬
‫عقالنيــة عنــد فهمهــا عــى أهنــا تكلفــة الفــرد لتقليــل االنضــام املجــاين داخــل‬
‫املنظمـ�ة‪.‬‬

‫قــد تعتقــد أن املنظــات الدينيــة والفئــات االجتامعيــة األخــرى األكثــر‬


‫انفتاح ـ ًا‪ ،‬أي تلــك التــي تعتمــد عــى قواعــد وقيــود أقــل‪ ،‬بأهنــا ســتجذب‬
‫جمموعــة أكــر مــن األتبــاع‪ .‬ليــس كذلــك‪ .‬حتقــق «الكنائــس األكثــر رصامــة»‬
‫متابعــن أكــر‪ ،‬وهــي أكثــر نجاحــ ًا مــن الكنائــس احلــرة؛ ألن الكنائــس‬
‫األكثــر رصامــة‪ ،‬تقــوم بطــرد العابريــن‪ ،‬بــا تفرضــه مــن قيــود لالنتــاء إليهــا‪،‬‬
‫وبذلــك تقــدم ســل ًعا أكثــر قــوة للنــادي‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫انض��م جاك��وب إىل جمموعـ�ة مدمنــي اجلنــس املجهولــن التــي تعتمــد‬


‫عــى منهــج ‪ 12‬خطــوة‪ ،‬كان ذلــك يف وقــت مبكــر مــن عمليــة شــفائه وقــام‬
‫بتكثيــف مشــاركته يف كل مــرة انتكــس فيهــا‪ .‬كان االلتــزام هائـاً‪ .‬كان حيــر‬
‫اجتامعــا مجاع ًيــا شــخصيا أو عــر اهلاتــف يوميــا‪ ،‬غال ًبــا مــا كان ُجُيــري ثــاين‬
‫مكاملــات هاتفيــة أو أكثــر يومي ـ ًا مــع زمالئــه األعضــاء‪.‬‬

‫متتــ اإلس��اءة إىل جمموع��ات مدمن��ي الكحــول املجهول�ين وجمموعــات‬


‫‪ 12‬خطــوة كذلــك‪ ،‬باعتبارهــا «طوائــف» أو منظــات‪ ،‬تتــم فيهــا مقايضــة‬
‫اإلدمــان عــى الكحــول و‪ /‬أو املخــدرات بإدمــان املجموعــة‪ .‬هــذه‬
‫االنتقــادات فشــلت يف تقديــر أن رصامــة املنظمــة‪ ،‬وثقافتهــا‪ ،‬قــد تكــون‬
‫مصــدر فعاليتهــا‪.‬‬

‫يمكــن أن يتخــذ العابــرون املجانيــون يف جمموعــات ‪ 12‬خطــوة أشـ ً‬


‫ـكااًل‬
‫عديــدة‪ ،‬ولكــن مــن أكثرهــا خطــورة هــؤالء األعضــاء الذيــن ال يعرتفــون‬
‫باالنتــكاس‪ ،‬وال يعيــدون إعــان أنفســهم كوافديــن جــدد‪ ،‬وال يعيــدون‬
‫صياغــة اخلطــوات‪ .‬إهنــم حيرمــون جمموعــة النــادي مــن عملهــم األســاس‬
‫وهــو الدعــم االجتامعــي للعــار‪ ،‬ناهيــك عــن الشــبكة االجتامعيــة الرصينــة‬
‫للتعــايف‪.‬‬

‫للحفاــظ ع�لى ســلع النــادي‪ ،‬جيــب أن تتخ��ذ جمموعــة مدمنــي الكحــول‬


‫املجهولـين‪ ،‬إجــراءات قويــة وغــر عقالنيــة يف بعــض األحيــان ضــد هــذا‬
‫النــوع مــن العبــور املجــاين‪.‬‬

‫متكنـ�ت جـ�وان مـ�ن اإلقـلاع عـ�ن الـشرب مـ�ن خـلال مشـ�اركتها يف‬

‫‪291‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أيضــا ذهبــت إىل اجتامعــات منتظمــة‪ ،‬وكان هلــا مرشــد‪،‬‬


‫املجموعــة‪ ،‬هــي ً‬
‫وهـ�ي كانـ�ت مرشـ�دة آلخريـ�ن‪ .‬لقـ�د امتنعـ�ت عـ�ن تنـ�اول الكحـ�ول يف‬
‫املجموعـ�ة ملــدة أربــع ســنوات وكانــت مريضتــي ملــدة عــر ســنوات؛ لذلــك‬
‫متكنــت مــن مراقبــة وتقديــر مجيــع التغيــرات اإلجيابيــة التــي طــرأت عــى‬
‫حياهت�اـ من��ذ انضاممهـ�ا إىل املجموعــة‪.‬‬

‫تعرضــت جــوان حلــادث يف بدايــات عــام ‪ 2000‬حيــث تناولــت‬


‫الكحــول دون قصــد‪ .‬كانــت يف رحلــة إىل إيطاليــا‪ ،‬حيــث مل تكــن تتحــدث‬
‫اللغــة اإليطاليــة بطبيعــة احلــال‪ ،‬وطلبــت عــن طريــق اخلطــأ مرشو ًبــا حيتــوي‬
‫عــى نســبة صغــرة جــدً ا مــن الكحــول‪ ،‬تقريبـ ًا تعــادل البــرة غــر الكحوليــة‬
‫التــي يتــم تســويقها وبيعهــا يف الواليــات املتحــدة‪ .‬ثــم أدركــت مــا حــدث‪،‬‬
‫ليـ�س ألهنـ�ا شـ�عرت بالتغيـير ولكـ�ن ألهنـ�ا قـ�رأت امللصـ�ق‪.‬‬

‫عندمــا عــادت مــن رحلتهــا وأخــرت مرشــدها بــا حــدث‪ ،‬أرص‬


‫عــى أهنــا انتكســت وشــجعها عــى إخبــار املجموعــة وإعــادة ضبــط موعــد‬
‫تعافيهــا‪.‬‬

‫لقــد فوجئــت بــأن مرشــد جــوان اختــذ مثــل هــذا املوقــف الصــارم‪.‬‬
‫هــي بالنهايــة‪ ،‬اســتهلكت كميــة ضئيلــة مــن الكحــول لدرجــة أن معظــم‬
‫األمريكيــن يعتــرون مثــل هــذه املرشوبــات «غــر كحوليــة»‪ .‬لكــن جــوان‬
‫وافقتــ‪ ،‬رغمــ أهن�اـ فعل��ت ذل�كـ وه��ي تبكـ�ي‪ .‬لقــد حافظــت عــى تعافيهــا‬
‫ومشــاركتها يف املجموع��ة حتـ�ى يومنـ�ا هـ�ذا‪.‬‬

‫بــدا إرصار مرشــد جــوان عــى إعــادة ضبــط تاريــخ تعافيهــا‪ ،‬أمــر ًا‬

‫‪292‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫متطرف ـ ًا بالنســبة يل يف ذلــك الوقــت‪ ،‬لكننــي اآلن أفهــم أنــه إجــراء وقائــي‬
‫للحاميــة مــن الكحــول القليــل الــذي يفســح املجــال أمــام الكثــر منــه‬
‫‪-‬املنحــدر الزلــق‪ -‬و مــن بــاب «تعظيــم املنفعــة» مــن أجــل الصالــح العــام‬
‫للمجموعــة‪ .‬لقــد عــززت رغبــة جــوان يف االلتــزام عــى الرغــم مــن التفســر‬
‫الصــارم النتكاســها عالقاهتــا باملجموعــة‪ ،‬والتــي تبــن أهنــا إجيابيــة عــى‬
‫املـ�دى الطويـ�ل بالنسـ�بة هلـ�ا أيضـ� ًا‪.‬‬

‫كــا أشــارت جــوان نفســها‪« ،‬ربــا كان هنــاك جــزء منــي يعــرف أن‬
‫هنــاك كحــوالً يف املــروب ويريــد االســتفادة مــن التواجــد يف بلــد أجنبــي‬
‫كذريعـ�ة»‪ .‬وهبـ�ذا املعنـ�ى تعمـ�ل املجموعـ�ة كضمـير ممتـ�د‪.‬‬

‫بالطبــع‪ ،‬يمكــن اســتخدام اســراتيجيات التفكــر اجلامعــي لتحقيــق‬


‫غايــات شــائنة‪ .‬عندمــا تتجــاوز تكلفــة االنتــاء ســلع النــادي ويتــرر‬
‫األعضـ�اء‪ .‬عـلى سـ�بيل املثـ�ال كان ‪ NXIVM‬برنامــج نجــاح تنفيــذي كــا‬
‫يقــدم نفســه‪ ،‬حيــث تــم القبــض عــى قادتــه ووجهــت إليهــم الئحــة اهتــام يف‬
‫عــام ‪ 2018‬بتهــم مــن قبيــل اجلرائــم الفيدراليــة كاالجتــار باجلنــس واالبتــزاز‬
‫املــايل‪ .‬وباملثــل‪ ،‬هنــاك مواقــف يســتفيد فيهــا أعضــاء املجموعــة‪ ،‬لكنهــا‬
‫تــؤذي مــن هــم خــارج املجموعــة‪ ،‬مثــل الكيانــات املختلفــة اليــوم التــي‬
‫تســتخدم وســائل التواصــل االجتامعــي لنــر األكاذيــب‪.‬‬

‫بعــد بضعــة أشــهر مــن توقــف لــوري عــن الذهــاب إىل الكنيســة‪،‬‬
‫ذهبتــ إىل أول اجت�ماع هلاــ يف املجموعــة‪ ،‬وقدمـ�ت هلـ�ا اجتامعـ�ات املجموعـ�ة‬
‫الزمالــة الداعمــة التــي كانــت تبحــث عنهــا ومل جتدهــا يف كنيســتها‪ .‬يف ‪20‬‬
‫ديســمرب ‪ ،2014‬توقفــت لــوري عــن إدماهنــا‪ ،‬وحافظــت عــى ترددهــا عــى‬

‫‪293‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫املجموعـ�ة منـ�ذ ذلـ�ك احلـين‪.‬‬

‫قالــت لــوري‪ ،‬وهــي تنظــر إىل الــوراء يف تعافيهــا بعــد ســنوات‪ ،‬والتــي‬
‫تنس��بها إىل مش��اركتها يف جمموعــة مدمنــي الكحــول املجهولــن «ال أســتطيع‬
‫أن أخــرك بالضبــط بــا حــدث‪ ،‬أو متــى»‪« .‬ســاع قصــص النــاس‪ .‬االرتيــاح‬
‫الــذي شــعرت بــه‪ ،‬التخــي عــن أعمــق أرساري وأكثرهــا ســوداوية‪ .‬رؤيــة‬
‫األم��ل يف عي��ون الوافدي��ن اجلــدد‪ .‬كنـ�ت يف عزل��ة ش��ديدة م��ن قبـ�ل‪ .‬أتذكــر‬
‫شـ�يئ ًا واح�دـ ًا وه�وـ أنن��ي كن��ت أري��د املـ�وت‪ .‬أســتلقي مســتيقظة يف الليــل‪،‬‬
‫أقــوم بجلــد نفــي عــى كل األشــياء التــي فعلتهــا‪ ،‬يف املجموعــة تعلمــت أن‬
‫أقبلــ نفــي واألش�خـاص اآلخريـ�ن ك�ما هـ�م‪ .‬اآلن لــدي عالقــات حقيقيــة‬
‫م��ع النــاس‪ .‬أن��ا أنتمـ�ى‪ .‬إهنــم يعرفــون حقيقتــي»‬

‫‪294‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫الدعم االجتامعي للعار واألبوة‪.‬‬

‫بصفتــي أم قلقــة بشــأن رفاهيــة أطفاهلــا يف عــامل مــيء بالدوبامــن‪ ،‬فقــد‬


‫حاول��ت دم��ج مب��ادئ الدع��م االجتامع��ي للع��ار يف حياتن��ا األرسي��ة‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬لقــد اعتمدنــا الصــدق الصــارم كقيمــة عائليــة أساســية‪ .‬أحــاول‬


‫نموذجــا للصــدق الصــارم‬
‫ً‬ ‫جاهــدة‪ ،‬وإن كنــت ال أنجــح دائـ ًـا‪ ،‬يف أن أضــع‬
‫يف ســلوكي‪ .‬يف بعــض األحيــان نحــن كآبــاء نعتقــد أنــه مــن خــال إخفــاء‬
‫أخطائنــا وعيوبنــا والكشــف فقــط عــن فضائلنــا‪ ،‬أننــا ســنعلم أطفالنــا مــا هــو‬
‫صحيــح‪ .‬لكــن هــذا يمكــن أن يكــون لــه تأثــر معاكــس‪ ،‬ممــا يدفــع األطفــال‬
‫إىل الشـ�عور بأهنـ�م جيـ�ب أن يكونـ�وا مثاليـين ليكونـ�وا حمبوبـين‪.‬‬

‫بــدالً مــن ذلــك‪ ،‬إذا كنــا منفتحــن وصادقني مــع أطفالنا بشــأن معاناتنا‪،‬‬
‫فإننــا نخلــق مســاحة هلــم ليكونــوا منفتحــن وصادقــن بشــأن أنفســهم‪ .‬عــى‬
‫هــذا النحــو‪ ،‬جيــب أن نكــون مســتعدين‪ ،‬ومســتعدين لالعــراف عندمــا‬
‫نكــون خمطئــن يف تفاعالتنــا معهــم ومــع اآلخريــن‪ .‬جيــب أن نتبنــى عارنــا‬
‫وأن نكــون مســتعدين لإلصــاح‪.‬‬

‫منــذ حــوايل مخــس ســنوات‪ ،‬عندمــا كان أطفالنــا مــا يزالــون يف املدرســة‬
‫االبتدائيــة واإلعداديــة‪ ،‬قدمــت هلــم أرن ًبــا مصنو ًعــا مــن الشــوكوالتة‪ ،‬هديــة‬
‫لعيــد الفصــح‪ .‬وكانــت مــن صانــع شــوكوالتة متخصــص‪ .‬أكل أطفــايل‬
‫القليــل مــن أرانبهــم ووضعــوا الباقــي يف اخلزانــة لوقــت الحــق‪.‬‬

‫عــى مــدار األســبوعني التاليــن‪ ،‬كنــت أقضــم القليــل مــن هنــا وهنــاك‪،‬‬
‫مل يكــن ذلــك كاف ًيــا ‪-‬كــا اعتقــدت‪ -‬حتــى يالحــظ أي شــخص‪ .‬بحلــول‬

‫‪295‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫الوقــت الــذي تذكــر فيــه أطفــايل أرانــب الشــوكوالتة اخلاصــة هبــم‪ ،‬كانــت‬
‫قــد تقلصــت إىل ال يشء تقري ًبــا‪ .‬بســبب عالقتــي بالشــوكوالتة‪ ،‬اهتمــوين‬
‫أوالً‪.‬‬

‫قلــت‪« :‬مل أكــن أنــا»‪ .‬جــاءت الكذبــة بشــكل طبيعــي‪ .‬واصلــت الكــذب‬
‫خــال األيــام الثالثــة التاليــة‪ .‬أرصوا عــى الشــك يف أننــي أقــول احلقيقــة‪،‬‬
‫بعضــا‪ .‬كنــت أعلــم أنــه جيــب‬
‫لكنهــم بــدؤوا بعــد ذلــك يف اهتــام بعضهــم ً‬
‫عــي تصحيــح األمــر‪ .‬كيــف ســأعلم أطفــايل الصــدق إذا مل أكــن صادقــة مــع‬
‫نفــي؟ ويــا لــه مــن يشء ســخيف وغبــي حتــى أكــذب بشــأنه! اســتغرق‬
‫األمــر منــي ثالثــة أيــام لبنــاء الشــجاعة إلخبارهــم باحلقيقــة‪ .‬كنــت أشــعر‬
‫باخلجـ�ل الشـ�ديد‪.‬‬

‫لقــد متــت تربئتهــم ويف نفــس احلــن أثــارت معرفــة احلقيقــة رعبهــم‪.‬‬
‫صحيحــا‪ .‬مرعوبــون مــن أن‬
‫ً‬ ‫حيــث تــم إثبــات أن ختمينهــم األول كان‬
‫والدهتـ�م سـ�تكذب عليهـ�م‪ .‬لقـ�د كان مفيـ�دً ا يل وهلـ�م عـلى عـ�دة مسـ�تويات‪.‬‬

‫ذ ّكــرت نفــي‪ ،‬وأرشت إليهــم‪ ،‬كــم أنــا خمطئــة بشــدة‪ .‬لقــد صممــت‬
‫أيضــا أنــه عندمــا أرتكــب أخطــاء يمكننــي عــى األقــل امتــاك اجلــرأة‬
‫ً‬
‫لإلفصــاح‪ .‬ســاحمني أطفــايل وحتــى يومنــا هــذا يســتمتعون بــرد القصــة‬
‫حــول كيفيــة «رسقــة» الشــوكوالتة ثــم «الكــذب» حــول هــذا املوضــوع»‪.‬‬
‫مضايقتهــم هــي تكفــري وأنــا أرحــب هبــا‪ .‬لقــد أكدنــا معــا كعائلــة أن‬
‫عائلتنــا هــي عائلــة يتــم ارتــكاب األخطــاء فيهــا‪ ،‬ولكــن ال يتــم إدانتهــم أو‬
‫طردهـ�م بشـ�كل دائـ�م‪ .‬نحـ�ن نتعلـ�م وننمـ�و م ًعـ�ا‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫مثــل مريــي تــود‪ ،‬عندمــا ننخــرط يف إعــادة تقييــم نشــطة وصادقــة‬


‫ألنفســنا‪ ،‬نكــون أكثــر قــدرة ورغبــة يف إعطــاء مالحظــات صادقــة لآلخرين‪،‬‬
‫بــروح مســاعدهتم عــى فهــم نقــاط قوهتــم ونواقصهــم‪.‬‬

‫أيضــا لتعليــم‬
‫هــذا النــوع مــن الصــدق الصــارم اخلــايل مــن العــار‪ ،‬مهــم ً‬
‫األطفـ�ال نقـ�اط قوهتـ�م وضعفهـ�م‪.‬‬

‫عندمــا كانــت ابنتنــا الكــرى يف اخلامســة مــن عمرهــا‪ ،‬بــدأت دروس‬


‫البيانــو‪ .‬لقــد ترعرعــت يف عائلــة موســيقية وتطلعــت ملشــاركة املوســيقى‬
‫مــع أطفــايل‪ .‬اتضــح أن ابنتــي مل يكــن لدهيــا أي إحســاس باإليقــاع‪ ،‬وعــى‬
‫الرغــم مــن أهنــا مل متتلــك أذنـ ًا موســيقية‪ ،‬إال أهنــا كانــت حتــاول‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫كنــا مرصيــن عــى متاريــن العــزف اليوميــة‪ ،‬وأنــا أجلــس بجانبهــا‪ ،‬أحــاول‬
‫أن أشــجعها‪ ،‬بينــا أحــاول احتــواء رعبــي مــن افتقارهــا التــام إىل الكفــاءة‬
‫واملوهبـ�ة‪ .‬احلقيقـ�ة هـ�ي أن أيـ�ا منـ�ا مل تكـ�ن تسـ�تمتع بالتامريـ�ن املوسـ�يقية‪.‬‬

‫بعـ�د حـ�وايل عـ�ام مـ�ن دروسـ�ها‪ ،‬كنـ�ا نشـ�اهد فيلـ�م ‪ Happy Feet‬حيكــي‬
‫قصــة بطريــق‪ ،Mumble ،‬يعــاين مــن مشــكلة كبــرة‪ :‬ال يمكنــه غنــاء نغمــة‬
‫واحــدة‪ ،‬يف عــامل حيتــاج فيــه إىل أغنيــة عاطفيــة جلــذب رفيــق الــروح‪ .‬نظــرت‬
‫ابنتنــا إ ّيل يف منتصــف الفيلــم وقالــت‪« ،‬أمــي‪ ،‬هــل أنــا مثــل مامبــل؟»‬

‫لقدــ اجتاحتنـ�ي يف هذــه اللحظ��ة مشـ�اعر الشــك األبويــة‪ ،‬مــاذا أقــول؟‬


‫هــل أقــول هلــا احلقيقــة وأخاطــر بإحلــاق الــرر بتقديرهــا لذاهتــا‪ ،‬أم أكــذب‬
‫وأحــاول اســتخدام اخلــداع إلشــعال حــب املوســيقى؟ لقــد خاطــرت‪.‬‬
‫قلــت‪« :‬نعــم‪ ،‬أنــت إىل حــد كبــر مثــل مامبــل»‪ .‬اندلعــت ابتســامة كبــرة عــى‬

‫‪297‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وجــه ابنتــي‪ ،‬والتــي فرسهتــا عــى أهنــا ابتســامة التحقــق‪ .‬كنــت أعــرف حينهــا‬
‫أننـ�ي فعلـ�ت الـشيء الصحيـ�ح‪.‬‬

‫يف التحقــق مــن صحــة مــا كانــت تعرفــه بالفعــل ‪ -‬افتقارهــا إىل القــدرة‬
‫املوســيقية ‪ -‬شــجعت مهاراهتــا يف التقييــم الــذايت الدقيــق‪ ،‬وهــي مهــارات‬
‫أيضــا رســالة مفادهــا أنــه‬
‫تواصــل إظهارهــا حتــى يومنــا هــذا‪ .‬لقــد أرســلت ً‬
‫ال يمكننــا أن نكــون جيديــن يف كل يشء‪ ،‬ومــن املهــم أن تعــرف مــا الــذي‬
‫جتيـ�ده ومـ�ا ال جتيـ�ده‪ ،‬حتـ�ى تتمكـ�ن مـ�ن اختـ�اذ قـ�رارات حكيمـ�ة‪.‬‬

‫قــررت تــرك دروس البيانــو بعــد عــام ‪ -‬لراحــة اجلميــع ‪ -‬وهــي‬


‫تســتمتع باملوســيقى حتــى يومنــا هــذا‪ ،‬وتغنــي جن ًبــا إىل جنــب مــع الراديــو‬
‫خــارج النوتــة املوســيقية متا ًمــا وال تشــعر بأقــل إحــراج‪.‬‬

‫الصــدق املتبــادل يســتبعد العــار وينــذر بانفجــار محيمــي‪ ،‬اندفــاع مــن‬


‫الــدفء العاطفــي يــأيت مــن الشــعور باالرتبــاط العميــق باآلخريــن عندمــا‬
‫يتــم قبولنــا عــى الرغــم مــن عيوبنــا‪ .‬ليــس كاملنــا بــل اســتعدادنا للعمــل م ًعــا‬
‫ملعاجلـ�ة أخطائنـ�ا هـ�و الـ�ذي خيلـ�ق العالقـ�ة احلميمـ�ة التـ�ي نتـ�وق إليهـ�ا‪.‬‬

‫يــكاد يكــون مــن املؤكــد أن هــذا النــوع مــن االنفجــار احلميمــي‬


‫مصحــوب بإطــاق الدوبامــن الداخــي يف دماغنــا‪ .‬ولكــن عــى عكــس‬
‫اندفــاع الدوبامــن الــذي نحصــل عليــه مــن امللــذات الرخيصــة‪ ،‬فــإن‬
‫االندفــاع الــذي نحصــل عليــه مــن العالقــة احلميمــة احلقيقيــة هــو تكيــف‬
‫وجتديـ�د وتعزيـ�ز للصحـ�ة‪.‬‬

‫مــن خــال التضحيــة ووصمــة العــار‪ ،‬حاولــت أنــا وزوجــي تقويــة‬

‫‪298‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫سـ�لع ن��ادي عائلتنـ�ا‪ .‬مل ُيســمح ألطفالنــا باحلصــول عــى هواتفهــم اخلاصــة‬
‫حتــى وصلــوا إىل املرحلــة الثانويــة‪ .‬هــذا جعلهــم غريبــن بــن أقراهنــم‪،‬‬
‫خاصــة يف املدرســة اإلعداديــة‪ .‬يف البدايــة توســلوا ومتلقــوا للحصــول عــى‬
‫هاتــف خــاص هبــم‪ ،‬ولكــن بعــد فــرة رأوا هــذا االختــاف كجــزء أســاس‬
‫مــن هويتهــم‪ ،‬إىل جانــب إرصارنــا عــى ركــوب الدراجــة بــدالً مــن القيــادة‬
‫كلـما أمكـ�ن ذلـ�ك‪ ،‬وقضـ�اء الوقـ�ت م ًعـ�ا كعائلـ�ة بـ�دون أجهـ�زة‪.‬‬

‫أنــا مقتنعــة بــأن مــدرب الســباحة ألطفالنــا حاصــل عــى درجــة‬


‫الدكتــوراه الرسيــة يف االقتصــاد الســلوكي‪ .‬إنــه يســتفيد مــن التضحيــة‬
‫ووصمـ�ة العـ�ار بشـ�كل منتظـ�م لتقويـ�ة سـ�لع النـ�ادي‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬هنــاك التــزام زمنــي مذهــل‪ ،‬يصــل إىل أربــع ســاعات يوم ًيــا مــن‬
‫ممارســة الســباحة لألطفــال يف املدرســة الثانويــة‪ ،‬والعــار الــري الــذي‬
‫حيــدث عندمــا يغيــب األطفــال عــن التدريــب‪ .‬هنــاك تقديــر ومكافــآت‬
‫للحضــور العــايل (ال خيتلــف عــن قانــون اجتامعــات مدمنــي الكحــول‬
‫املجهولــن‪ ،‬لثالثــن اجتام ًعــا يف ثالثــن يو ًمــا‪ ،‬بــا يف ذلــك إمكانيــة املشــاركة‬
‫يف االجتامعــات يف حــال الســفر)‪ .‬هنــاك إرشــادات صارمــة حــول مــا جيــب‬
‫ارتــداؤه‪ :‬قمصــان الســباحة احلمــراء أيــام اجلمعــة‪ ،‬وقمصــان الســباحة‬
‫الرماديــة يــوم الســبت‪ ،‬ومالبــس شــعار الفريــق (قبعــات‪ ،‬بــدالت‪ ،‬نظارات‬
‫واقيــة) فقــط‪ .‬هــذا مــا يميــز بنجــاح األطفــال يف هــذا الفريــق عــن املظهــر‬
‫غــر الرســمي لألطفــال يف الفــرق األخــرى‪.‬‬

‫تبــدو العديــد مــن هــذه القواعــد مفرطــة وغــر مــررة‪ ،‬ولكــن عنــد‬
‫النظــر إليهــا مــن خــال عدســة مبــادئ تعظيــم املنفعــة لتعزيــز املشــاركة‪،‬‬

‫‪299‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫وتقليــل الركــوب املجــاين‪ ،‬وزيــادة ســلع النــادي‪ ،‬فإهنــا منطقيــة‪ .‬ويتدفــق‬


‫األطفــال عــى هــذا الفريــق عــى وجــه اخلصــوص‪ ،‬ويبــدو أهنــم حيبــون‬
‫الرصامـ�ة‪ ،‬حتـ�ى وهـ�م يشـ�تكون منهـ�ا‪.‬‬

‫نميــل إىل التفكــر يف العــار عــى أنــه ســلبي‪ ،‬خاصــة يف وقــت يكــون فيــه‬
‫العــار – عــار الســمنة‪ ،‬وعــار الفســق‪ ،‬وعــار اجلســد‪ ،‬ومــا إىل ذلــك ‪ -‬كلمــة‬
‫ذات محولــة وترتبــط يف احلقيقــة بالتنمــر‪.‬‬

‫يف عاملنــا الرقمــي املتزايــد‪ ،‬أصبــح التشــهري يف وســائل التواصــل‬


‫االجتامعــي و «ثقافــة اإللغــاء» املرتبطــة بــه شــك ً‬
‫ال جديــدً ا مــن أشــكال‬
‫اإلقصـ�اء والنبـ�ذ‪ ،‬وهـ�و تطـ�ور حديـ�ث يف أكثـ�ر جوانـ�ب العـ�ار تدمـير ًا‪.‬‬

‫حتــى عندمــا ال يوجــه أي شــخص آخــر أصابــع االهتــام إلينــا‪ ،‬فنحــن‬


‫مجي ًعـ�ا مسـ�تعدون جـ�دً ا لتوجيههـ�ا إىل أنفسـ�نا‪.‬‬

‫تدفعنــا وســائل التواصــل االجتامعــي إىل امليــل نحــو الشــعور بالعــار من‬
‫ال��ذات‪ ،‬م�نـ خ�لال دعـ�وة الكثـير م��ن التامي��ز البغي��ض إىل حياتنــا اليوميــة‪.‬‬
‫نحــن اآلن نقــارن أنفســنا ليــس فقــط بزمالئنــا يف الفصــل‪ ،‬وجرياننــا‪،‬‬
‫وزمالئنــا يف العمــل‪ ،‬بــل نقــارن أنفســنا بالعــامل بــأرسه‪ ،‬ممــا جيعــل مــن الســهل‬
‫جــدً ا إقنــاع أنفســنا بأنــه كان علينــا فعــل املزيــد‪ ،‬أو احلصــول عــى املزيــد‪ ،‬أو‬
‫العيـ�ش بشـ�كل خمتلـ�ف‪.‬‬

‫لنعتــر حياتنــا «ناجحــة»‪ ،‬نشــعر اآلن أنــه جيــب علينــا حتقيــق النجاحات‬
‫األســطورية التــي حققهــا ســتيف جوبــز ومــارك زوكربــرغ‪ ،‬أو مثــل‬

‫‪300‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫(‪)1‬‬
‫إليزابيــث هوملــز صاحبــة رشكــة ثريانــوس‪ ،‬إنــه اليوم األخــر إليكاريــوس‬
‫حينــا ســقط بســبب محــى املحاولــة‪.‬‬

‫لكــن التجربــة احليــة ملرضــاي تشــر إىل أن الدعــم االجتامعــي للعــار‬


‫يمكــن أن يكــون لــه آثــار إجيابيــة وصحيــة مــن خــال تقليــم بعــض احلــواف‬
‫اخلشــنة للنرجســية لدينــا‪ ،‬وربطنــا بشــكل وثيــق بشــبكاتنا االجتامعيــة‬
‫الداعمــة‪ ،‬واحلــد مــن ميولنــا اإلدمانيــة‪.‬‬

‫((( أســطورة يونانيــة تــدور حــول حماولــة الفتــى إيكاريــوس الطــران‪ ،‬وذلــك مــن خــال صنــع‬
‫أجنحــة إلنقــاذ والــده مــن املنفــى يف جزيــرة كريــت‪ ،‬نصحــه والــده بعــدم التحليــق بعيــدً ا ومل‬
‫ينصــت لــكالم والــده؛ حيــث حلــق بأجنحتــه التــي تــم لصقهــا بالشــمع بالقــرب مــن أشــعة‬
‫الشــمس‪ ،‬ومــن ثــم ذاب الشــمع وســقط إيكاريــوس مالق ًيــا حتفــه (املرتمجــة)‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪302‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫خامتة‬

‫دروس يف التوازن‬

‫نرغــب مجيعنــا يف فــرة راحــة مــن العــامل‪ ،‬وخــروج عــن املعايــر‬


‫املســتحيلة التــي وضعناهــا ألنفســنا ولآلخريــن‪ ،‬مــن الطبيعــي أن نســعى‬
‫للحصــول عــى إرجــاء الجرتارنــا الــذي ال هيــدأ‪ :‬ملــاذا فعلــت ذلــك؟ ملــاذا‬
‫ال أســتطيع فعــل هــذا؟ انظــر مــاذا فعلــوا يب‪ ،‬كيــف يمكننــي أن أفعــل ذلــك‬
‫هبــم؟‬

‫لذلــك نحــن منجذبــون إىل أي مــن أشــكال اهلــروب املمتعــة املتاحــة‬


‫لنــا اآلن‪ :‬الكوكتيــات العرصيــة‪ ،‬وغرفــة الصــدى(‪ )1‬يف وســائل التواصــل‬
‫االجتامعــي‪ ،‬ومشــاهدة برامــج الواقــع بنهــم‪ ،‬وأمســية مــن اإلباحيــة عــى‬
‫اإلنرتنــت‪ ،‬ورقائــق البطاطــس والوجبــات الرسيعــة‪ ،‬وغمــر أنفســنا يف‬
‫ألعــاب الفيديــو‪ ،‬وروايــات مصــايص الدمــاء مــن الدرجــة الثانيــة‪ .‬القائمــة‬

‫((( غرفــة صــدى وســائل التواصــل االجتامعــي مصطلــح متــداول حديثــا وهــو يعنــي عندمــا‬
‫خصيصــا تلغــي وجهــات النظــر املتعارضــة‬
‫ً‬ ‫خيتــر املــرء جتربــة إعالميــة متحيــزة ومصممــة‬
‫واألصــوات املختلفــة‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫حقــا ال تنتهــي‪ .‬توفــر العقاقــر والســلوكيات املســببة لإلدمــان تلــك الراحــة‬


‫املؤقتـ�ة‪ ،‬ولكنهـ�ا جتعلنـ�ا نعـ�اين عـلى املـ�دى الطويـ�ل‪.‬‬

‫مــاذا لــو اجتهنــا نحــوه بــدالً مــن البحــث عــن الســلوان للهــروب مــن‬
‫العــامل؟ مــاذا لــو فكرنــا يف غمــر أنفســنا يف العــامل بــدالً مــن تــرك العــامل‬
‫وراءنــا؟‬

‫ســوف تتذكــرون مريــي حممــد الــذي أخــذ يتأرجــح يف حمــاوالت‬


‫متعــددة مــن جهــاد النفــس للحــد مــن تدخــن احلشــيش‪ ،‬يف كل حماولــة جيــد‬
‫نفســه يف اخللــف‪ ،‬ال يســتطيع التقــدم‪ ،‬فهــو يتقــدم مــن االعتــدال يف تدخــن‬
‫احلشــيش إىل االســتهالك املفــرط واإلدمــان‪ ،‬بصــورة رسيعــة‪.‬‬

‫يف مــرة ذهــب للتنــزه يف بوينــت رايــز‪ ،‬وهــو مســار طبيعــي شــال ســان‬
‫فرانسيســكو مبــارشة‪ ،‬عــى أمــل العثــور عــى مــاذ يف نشــاط كان قــد منحــه‬
‫يف الســابق املتعــة‪ ،‬حمــاوالً مــرة أخــرى الســيطرة عــى إدمانــه للحشــيش‪.‬‬
‫كان كل منعطــف مــن منعطفــات املتنــزه كفيلــة بجلــب ذكريــات تدخــن‬
‫احلشــيش يف رحــات املــي الســابقة‪ ،‬التــي كانــت تغلــب عليهــا الصــورة‬
‫االحتفاليــة وهــو يف حالــة انتشــاء وثمــل‪ ،‬وهكــذا بــدالً مــن أن تكــون نزهتــه‬
‫هرو ًب��ا‪ ،‬حتول��ت الرحل��ة إىل معان��اة االش��تهاء والذك��رى املؤمل��ة باخلس��ارة‪.‬‬
‫ـادرا عــى مواجهــة مشــكلة احلشــيش لديــه حــد‬
‫لقــد يئــس مــن أن يكــون قـ ً‬
‫االستسـلام‪.‬‬

‫ثــم كان لديــه تلــك اللحظــة ‪..‬حلظــة وجدهتــا‪ .‬يف نقطــة معينــة مــن‬
‫املشــهد‪ ،‬يف الوقــت الــذي كانــت تتدفــق لديــه ذكريــات رصحيــة عــن تدخــن‬

‫‪304‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫احلشــيش مــع األصدقــاء‪ ،‬أحــر الكامــرا إىل عينــه وأشــار هبــا إىل نبــات‬
‫قريــب‪ .‬رأى حــرة عــى ورقــة وركــز الكامــرا أكثــر‪ ،‬شــاهد اخلنفســاء‬
‫ذات اللــون األمحــر الســاطع‪ ،‬وقــرين االستشــعار‪ ،‬واألرجــل ذات الشــعر‬
‫الشــوكي‪ .‬كان مفتونًــا باملشــهد‪.‬‬

‫لقــد اســتحوذ ذلــك الكائــن الصغــر عــى انتباهــه‪ .‬التقــط سلســلة مــن‬
‫الصــور‪ ،‬ثــم غــر زاويتــه والتقــط املزيــد‪ .‬قــام بذلــك طــوال رحلــة املــي‬
‫ملســافات طويلــة‪ ،‬توقــف اللتقــاط صــور عــن قــرب للخنافــس‪ .‬بمجــرد أن‬
‫فعـ�ل ذلـ�ك‪ ،‬انخفضـ�ت رغبتـ�ه الشـ�ديدة يف تنـ�اول احلشـ�يش‪.‬‬

‫قــال يل يف إحــدى جلســاتنا يف عــام ‪« :2017‬كان عــي أن أجــر نفــي‬


‫عــى أن أكــون ســاكنًا للغايــة»‪« .‬كان عــي أن أحقــق ســكونًا مثال ًيــا أللتقــط‬
‫صــورة جيــدة الرتكيــز‪ .‬هــذه العمليــة أوقفتنــي‪ ،‬حرف ًيــا‪ ،‬وأعــادت اكتشــايف‬
‫لــذايت‪ .‬لقــد اكتشــفت عا ًملاغري ًبــا ورسيال ًيــا ومقن ًعــا بواســطة كامــريت‪،‬‬
‫ينافــس العــامل الــذي هربــت إليــه باملخــدرات‪ .‬لكــن هــذا كان أفضــل؛ ألنــه مل‬
‫تكــن هنــاك حاجــة للمخدر»‪.‬بعــد عــدة أشــهر‪ ،‬أدركــت أن طريــق حممــد إىل‬
‫ـرارا وا ًعيــا لتعويــض نفــي يف‬
‫الشــفاء كان مشــا ًهبا لطريقــي‪ .‬لقــد اختــذت قـ ً‬
‫رعايــة املــرىض‪ ،‬مــع الرتكيــز عــى جوانــب عمــي التــي كانــت دائـ ًـا جمزيــة‪:‬‬
‫العالقــات مــع مرضــاي بمــرور الوقــت‪ ،‬واالنغــاس يف الــرد كوســيلة‬
‫لتحقيــق النظــام يف العــامل‪ .‬مــن خــال القيــام بذلــك‪ ،‬متكنــت مــن اخلــروج‬
‫أيضــا‬
‫مــن القــراءة الرومانســية القهريــة إىل مهنــة جمزيــة وذات مغــزى‪ .‬كنــت ً‬
‫نجاحــا يف عمــي‪ ،‬لكــن نجاحــي كان نتيجــة ثانويــة غــر متوقعــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫أكثــر‬
‫وليـ�س الـشيء الـ�ذي كنـ�ت أبحـ�ث عنـ�ه‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫أحثــك عــى إجيــاد طريقــة لالنغــاس متا ًمــا يف احليــاة التــي منحــت لــك‪.‬‬
‫للتوقــف عــن اهلــروب مــن أي يشء حتــاول اهلــروب منــه‪ ،‬وبــدالً مــن ذلــك‬
‫تتوقـ�ف‪ ،‬وتسـ�تدير‪ ،‬وتواجـ�ه أ ًيـ�ا كان‪.‬‬

‫ثــم أحتــداك أن متــي نحوهــا‪ .‬هبــذه الطريقــة قــد يكشــف العــامل عــن‬
‫نفســه لــك عــى أنــه يشء ســحري وملهــم ال يتطلــب اهلــروب‪ .‬بــدالً مــن‬
‫ذلـ�ك قـ�د يصبـ�ح العـ�امل شـ�ي ًئا يسـ�تحق االهتـمام بـ�ه‪.‬‬

‫إن مكافــآت إجيــاد التــوازن واحلفــاظ عليهــا ليســت فوريــة وال دائمــة‪.‬‬
‫إهنــا حتتــاج إىل الصــر والصيانــة‪ .‬جيــب أن نكــون عــى اســتعداد للمــي‬
‫قد ًمــا عــى الرغــم مــن عــدم اليقــن بشــأن مــا ينتظرنــا‪ .‬جيــب أن نؤمــن بــأن‬
‫أفعــال اليــوم التــي يبــدو أنــه ليــس هلــا تأثــر يف اللحظــة احلاليــة هــي يف‬
‫الواقــع ترتاكــم يف اجتــاه إجيــايب‪ ،‬فاملامرســات الصحيــة حتــدث يو ًمــا بعــد يــوم‪،‬‬
‫ونتائجهــا ليســت ســحرية أو فوريــة‪ .‬وحتتــاج منــا الصــر واإليــان باملســتقبل‬
‫الــذي ســيقدم لنــا ثمــرة جهودنــا يف الوقــت املناســب‪.‬‬

‫قالــت يل مريضتــي ماريــا‪« :‬يشــبه التعــايف ذلــك املشــهد يف هــاري بوتــر‬


‫عندمــا يســر دمبلــدور يف زقــاق مظلــم وتــيء أعمــدة اإلنــارة عــى طــول‬
‫الطريــق‪ .‬فقــط عندمــا يصــل إىل هنايــة الطريــق الضيــق‪ ،‬ويتوقــف للنظــر إىل‬
‫ال��وراء‪ ،‬ي��رى الطري��ق بأكمل��ه مضي ًئ��ا‪ ،‬إن��ه ض��وء تقدم��ه»‪.‬‬

‫هــا نحــن يف النهايــة‪ ،‬لكنهــا قــد تكــون جمــرد بدايــة لطريقــة جديــدة‬
‫للتعامــل مــع عــامل اليــوم شــديد التحفيــز‪ ،‬واملشــبع باللــذة‪ .‬مــارس دروس‬
‫أيضــا مــن إلقــاء نظــرة عــى ضــوء تقدمــك‪.‬‬
‫التــوازن‪ ،‬حتــى تتمكــن أنــت ً‬

‫‪306‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫دروس التوازن‪:‬‬

‫‪1-‬السعي الدؤوب وراء اللذة (وجتنب األمل) يؤدي إىل األمل‪.‬‬

‫‪2-‬يبدأ التعايف باالمتناع عن السلوك اإلدماين متا ًما‪.‬‬

‫‪3-‬يعيــد االمتنــاع عــن الســلوك اإلدمــاين ضبــط مســار مكافــأة الدمــاغ‬


‫ومعـ�ه تعـ�ود قدرتنـ�ا عـلى االسـ�تمتاع بامللـ�ذات البسـ�يطة‪.‬‬

‫‪4-‬خيلــق جهــاد النفــس مســاحة واقعيــة ومعرفيــة بــن الرغبة واالســتهالك‪،‬‬


‫وهـ�ي رضورة حديثـ�ة يف عاملنـ�ا املثقـ�ل بالدوبامني‪.‬‬

‫‪5-‬يمكــن لألدويــة أن تســاعدنا الســتعادة التــوازن‪ ،‬ولكــن ضــع يف‬


‫اعتبـ�ارك مـ�ا نخـسره مـ�ن خـلال التخلـ�ص مـ�ن آالمنـ�ا‪.‬‬

‫‪6-‬الضغط عىل جانب األمل يعيد توازننا إىل جانب اللذة‪.‬‬

‫‪7-‬احذر من إدمان األمل‪.‬‬

‫‪8-‬الصــدق الصــارم يعــزز الوعــي ويعــزز العالقــة احلميمــة‪ ،‬ويعــزز الكثــر‬


‫مـ�ن الصحـ�ة العقلية‪.‬‬

‫‪9-‬الدعم االجتامعي للعار يؤكد عىل أننا ننتمي إىل القبيلة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪10-‬بــدالً مــن اهلــروب مــن العــامل‪ ،‬يمكننــا أن نعثــر عــى اخلــاص مــن‬
‫خــال االنغــاس فيــه‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫مالحظة املؤلفة‬

‫مــا ورد يف هــذا الكتــاب مــن حمادثــات وقصــص محيمــة‪ ،‬خضعــت‬


‫ٍ‬
‫عــال مــن‬ ‫ملوافقــة املــرىض الذيــن متــت مقابلتهــم‪ ،‬وللحفــاظ عــى قــدر‬
‫اخلصوصيــة‪ ،‬حتــى عندمــا كان املشــاركون عــى اســتعداد لتضمينهــا دون‬
‫تغيــر‪ ،‬إال أين قمــت بحــذف وتغيــر األســاء والتفاصيــل الديموغرافيــة‬
‫األخــرى‪ ،‬ولقــد تضمنــت عمليــة احلصــول عــى موافقــة املشــاركني عــى‬
‫مــا يــي‪« :‬مــن املحتمــل أن يتعــرف عليــك شــخص عــى ســابق معرفــة‬
‫بــك‪ ،‬حــن يقــرأ قصتــك هنــا عــى الرغــم مــن أننــي غــرت اســمك‪ .‬هــل‬
‫أنــت موافــق عــى ذلــك؟ « و «إذا كانــت هنــاك أي تفاصيــل ال تريــد منــي‬
‫تضمينهــا‪ ،‬فأخــرين وســوف أقــوم بحذفهــا»‬

‫‪308‬‬
‫أمـــة الدوبــاميـن‬

‫املؤلفة يف سطور‬

‫آنــا ليمبكــي أســتاذة الطــب النفــي واإلدمــان يف كليــة الطــب بجامعــة‬


‫ســتانفورد‪ ،‬ورئيســة عيــادة ســتانفورد للتشــخيص املــزدوج لطــب اإلدمــان‪.‬‬
‫حصلــت عــى العديــد مــن اجلوائــز ألبحاثهــا املتميــزة يف األمــراض العقليــة‪،‬‬
‫وإســهاماهتا يف التدريــس‪ ،‬واالبتــكار اإلكلينيكــي يف العــاج‪ .‬هــي باحثــة‬
‫وطبيبــة‪ ،‬قامــت بنــر أكثــر مــن مائــة ورقــة بحثيــة متــت مراجعتهــا مــن‬
‫قبــل األقــران‪ ،‬وهلــا مشــاركات يف فصــول الكتــب‪ ،‬وتعليقــات وأبحــاث‬
‫منشــورة يف دوريــات علميــة مرموقــة مثــل جملــة نيــو إنغالنــد الطبيــة وجملــة‬
‫اجلمعيــة الطبيــة األمريكيــة‪ ،‬وهــي مؤلفــة كتــاب يــدور حــول وبــاء األدويــة‬
‫املوصوفــة‪ ،‬بعنــوان «تاجــر املخــدرات الطبيــب»‪ .‬دكتــوره ليمبكــي عضــوة‬
‫يف العديــد مــن املنظــات احلكوميــة والوطنيــة التــي تعنــى بمكافحــة اإلدمان‪،‬‬
‫ولقــد أدلــت بشــهادهتا أمــام جلــان خمتلفــة يف جملــس الشــيوخ بالواليــات‬
‫املتحــدة األمريكيــة فيــا خيتــص بقضايــا اإلدمــان‪ ،‬وتشــارك يف العديــد مــن‬
‫املؤمتــرات العلميــة‪ ،‬هــذا باإلضافــة إىل حمافظتهــا عــى ممارســتها اإلكلينيكيــة‬
‫بجديــة تامــة‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫آنا ليمبيكي‬

‫‪310‬‬

You might also like