Professional Documents
Culture Documents
المبحث الاول
المبحث الاول
تمهيد
تكمن أهمية العالقات التركية الخليجية نظًر ا لالعتبارات الدينية والتاريخية والمصير المشترك
ويدعم ذلك قوة االقتصادية التي تعدُ ضمن مجموعة الدول ذات الدور السياسي المؤثر في إدارة
التوازنات اإلقليمية وشبكة العالقات التي يقيمونها على المستويين اإلقليمي والدولي وألن أولوية
هي الحفاظ على السالم واألمن واالستقرار وخاصة في الشرق األوسط.
وقد شهدت العالقات التركية الخليجية منذ مجىء حزب العدالة والتنمية لحكم تركيا في 18
تشرين الثاني /نوفمبر2002م ،تقدًم ا ملموًسا على المستوى الدبلوماسي واإلقتصادي واألمني
والعسكري،شرعت أنقرة مع بداية العقد الحالي في تطوير رؤيتها وسياستها على نحو يتواكب مع
المستجدات في القرن الحادي والعشرين حيث بذلت جهودها إلرساء رؤيتها على أرضية صلبة
يتم فيها توظيف موروثاتها التاريخية والجغرافية التوظيف األمثل ،ومع وصول حزب “العدالة
والتنمية” ذي الجذور اإلسالمية إلى السلطة عام 2002سعت أنقرة إلى تبني سياسة خارجية
فعالة ترتكز على عدة مبادئ وهي :التوازن السليم بين الحرية واألمن ،وتصفير المشكالت مع
دول الجوار ،واالهتمام بالتأثير في األقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار ،والسياسة الخارجية
المتعددة األبعاد ،والدبلوماسية المتناغمة .وهكذا شهد الشرق األوسط حضورًا تركيًا متناميًا ،حيث
سعت انقرة الى اضطالع بدور محوري فيما يتعلق بالعديد من الملفات الحيوية والمحورية في
المنطقة.
وهكذا برزت تركيا كقوة إقليمية والعب محوري فاعل في محيطها اإلقليمي حيث سعت إلى
تطوير عالقاتها الثنائية مع دول منطقة الشرق األوسط ومن بينها دول الخليج والتي أضحت تعد
إحدى دوائر الحوار المهمة في سياسة تركيا الخارجية.
عرفت تركيا خالل العقد األول من حكم العدالة والتنمية ( 2002وحتى )2011عالقات طيبة مع
مختلف األطراف في العالم العربي والمنطقة ،وخصوًص ا ما سمي حينها بمحوَر ْي االعتدال
والممانعة ،من خالل سياستها الخارجية المتحفظة واعتمادها على القوة الناعمة ونموذج التعاون
االقتصادي المبني على مبدأ الربح للجميع(.)1
بيد أن الثورات العربية وتطورات السنوات الالحقة وضعت تركيا في مواجهة عدد من القوى
الفاعلة في المنطقة ،وفي مقدمتها مصر والسعودية واإلمارات ودولة االحتالل .كان االنقالب في
مصر ،في يوليو/تموز ،2013محطة فارقة في عالقات أنقرة مع هذه األطراف التي أيدت النظام
الجديد في مصر عكس األخيرة .وبسبب هذا االفتراق ،ورغم أنه لم يحصل تعارض كبير في
15
المبحث االول
المصالح الجوهرية للطرفين ،إال أنهما بقيا على طرفي نقيض في مجمل قضايا المنطقة وفي حالة
مواجهة غير معلنة على مدى السنوات الماضية.
اتهمت تركيا اإلمارات بتمويل المحاولة االنقالبية الفاشلة صيف 2016وبعض المحطات
الداخلية( ، )2واتهمها المحور المقابل لها بالتدخل في شؤون الدول العربية وتبني سياسة توسعية في
المنطقة .لكن بدايات عام 2021شهدت مرحلة جديدة بين الجانبين وصلت مع نهاياته إلى مرحلة
التهدئة والحوار وتوقيع اتفاقيات التعاون التجاري واالقتصادي.
كانت تركيا قد رفعت شعار "زيادة عدد األصدقاء وتقليل عدد الخصوم" ،عام ،2016مع استقالة
أحمد داود أوغلو من رئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم والحكومة وخالفة بن علي يلدرم له في
كليهما ،لكن تطوًرا جوهرًّيا لم يطرأ حينها على عالقات تركيا الخارجية .في العام نفسه ،أعادت
دولة اإلمارات العربية سفيرها ألنقرة ،ووَّقعت األخيرة مع دولة االحتالل اتفاًقا لتطبيع العالقات
بعد حادثة سفينة "مافي مرمرة" ، ،لكن الظروف اإلقليمية وحَّد ة االستقطاب في المنطقة لم تتيحا
ما هو أكثر.
اليوم ،تدفع عدة عوامل داخلية وخارجية أنقرة نحو تدوير زوايا خالفها مع عدد من القوى
اإلقليمية وفتح قنوات الحوار معها ،أهمها:
األول :انخرطت تركيا في األعوام القليلة الماضية في عدة قضايا ونزاعات في المنطقة بأشكال
مباشرة وغير مباشرة ،من سوريا للعراق ومن ليبيا لجنوب القوقاز .عام ،2020حققت تركيا
بعض االختراقات لصالح حلفائها السيما في ليبيا وجنوب القوقاز ،لكن ذلك استنزفها أيًضا وزاد
من الضغوط السياسية واالقتصادية عليها ،ولذلك فقد سعت مع بداية العام 2021للتهدئة ومحاولة
استثمار تلك اإلنجازات سياسًّيا.
15
المبحث االول
الثاني :يقترب موعد االنتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا ،المحددة في يونيو/حزيران
،2023في ظل استقطاب غير مسبوق وأوضاع اقتصادية ضاغطة تجعلها استحقاًقا صعًبا على
أردوغان والعدالة والتنمية ،ولذلك يسعى األخير إلى تهدئة ملفات السياسة الخارجية وحل أزماتها
()3
لتخفيف تلك الضغوط.
الثالث :يواجه االقتصاد التركي مؤخًر ا تحديات حقيقية ألسباب عدة داخلية وخارجية ،زاد منها
قرار الرئيس التركي تخفيض سعر الفائدة ما أَّثر سلًبا على سعر صرف الليرة ونسبة التضخم
وبعض المؤشرات االقتصادية األخرى ،وترك آثاًر ا مباشرة على المواطن التركي .استغلت
المعارضة التركية هذه الظروف وتراجع شعبية العدالة والتنمية للمطالبة بانتخابات مبكرة ،بينما
يعِّو ل الحزب الحاكم على تحسين األوضاع االقتصادية عبر رفع مستوى التعاون االقتصادي
والتجاري مع الخارج قبل موعد االنتخابات.
الرابع :يتقدم ملف شرق المتوسط أولويات السياسة الخارجية التركية مؤخًر ا؛ حيث تواجه أنقرة
محوًرا إقليمًّيا مكوًنا من اليونان ،وقبرص اليونانية ،ومصر ،ودولة االحتالل ،ومدعوًم ا من
اإلمارات وفرنسا (من خارج حوض شرق المتوسط) ،بينما ال شركاء ألنقرة إال الحكومة الليبية
التي أبرمت معها اتفاقين لترسيم الحدود البحرية وللتعاون األمني والعسكري والتي تعاني
أوضاًعا غير مستقرة .ولذا ،تسعى تركيا لكسر العزلة المفروضة عليها في شرق المتوسط
وخلخلة التحالف المواجه لها والبحث عن شركاء في شرق المتوسط.
الخامس :أتت كل هذه الظروف الداخلية والخارجية في ظل تغير اإلدارة األميركية وفوز بايدن
في االنتخابات الرئاسية األميركية ،بما يشمل عالقات متوترة مع أنقرة وتهديدات لها وعقوبات
عليها ،وتراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة ،ورغبتها بتوافق حلفائها وشركائها اإلقليميين وتعاونهم،
وتوجهها إلبرام اتفاق جديد مع إيران .هذا العامل ،الذي يبدو األهم وكمظلة وتتويج لباقي
العوامل ،دفع بتركيا وغيرها من القوى اإلقليمية لمراجعة بعض السياسات واالصطفافات وإعادة
النظر في عالقاتها البينية.
بدافع من هذه األسباب وغيرها ،بدت أنقرة مصِّم مة على تحسين عالقاتها مع عدد من األطراف
اإلقليمية ،بما في ذلك أرمينيا التي بدأت معها حواًر ا واستأنفت الرحالت الجوية بعد انقطاع،
ومصر التي عقدت معها عدة جوالت من الحوار على مستوى وزارة الخارجية ،ودولة االحتالل
15
المبحث االول
اإلسرائيلي التي أكد أردوغان رغبة بالده في تطوير العالقات معها وأعلن عن زيارة مرتقبة
لرئيسها إلى أنقرة في مارس/آذار القادم ،)4(2022إضافة لدول الخليج وتحديًدا اإلمارات
والسعودية والبحرين.
التقارب مع الخليج
إضافة لما سبق من أسباب ،دفعت مختلف القوى اإلقليمية لمسارات التهدئة والحوار ،ثمة دوافع
لتقارب تركيا مع دول الخليج ترتبط مباشرة بالعالقات بين الجانبين ،أهمها:
أواًل :تراجع أسباب االستقطاب :فقد كانت الثورات العربية وتحديًدا االنقالب في مصر ،عام
،2013محطة أساسية للخالف بين الجانبين ،ثم أتت أزمة حصار قطر التي وقفت فيها تركيا إلى
جانب األخيرة لتعمق االستقطاب أكثر .بعد ثماني سنوات من االنقالب في مصر لم يعد النظام في
األخير يستشعر خطًرا من المعارضة وخصوًص ا اإلسالميين الذين يتهم أنقرة بدعمهم بعد أن
استتب األمر له داخلًّيا وخارجًّيا ،كما أن األزمة الخليجية انتهت على األقل رسمًّيا في قمة العال
في .2021
ثانًيا :العامل اإليراني :تشكل احتمالية توقيع الواليات المتحدة مع إيران اتفاًقا جديًدا بخصوص
برنامجها النووي ،مع ما سيفيده ذلك لألخيرة ،هاجًسا مشترًك ا لتركيا ودول الخليج ،التي ينظر
بعضها إليران بعين الخصومة والخطر بينما تنظر لها تركيا بعين التنافس.
ثالًثا :المحور المقابل :شَّك لت كل من السعودية واإلمارات والبحرين إضافة لمصر محوًرا
مواجًها لتركيا ومناكًفا لها في عدة قضايا إقليمية من سوريا للعراق لشرق المتوسطُ .ذ ِكَر ْت أنقرة
بشكل مباشر في قرارات الجامعة العربية التي تقف خلفها بشكل رئيسي كل من مصر
والسعودية ،وشاركت اإلمارات في بيانات منِّددة بأعمال التنقيب التركية في شرق المتوسط رغم
أنها ليست من دول حوضه .وعليه ،فإن تهدئة الخالفات مع هذه الدول من شأنها تخفيف الضغوط
()5
على أنقرة.
رابًع ا :االستثمارات الخليجية :تراَج َع حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية على وجه
التحديد بسبب األزمة الخليجية ثم قضية اإلعالمي جمال خاشقجي في ظل ظروف صعبة
لالقتصاد التركي ،وطبقت الرياض حظًر ا غير معلن على استيراد البضائع التركية (تظهر آثاره
15
المبحث االول
بوضوح في الجدول أدناه) .ومع تراجع احتياطي المصرف المركزي من العمالت األجنبية
وحاجة تركيا الملَّح ة لها ولالستثمارات واألموال الساخنة التي تملكها دول الخليج ،يمكن فهم
مسارعتها للتصالح معها.جدول ( )1يظهر حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية خالل
السنوات الفائتة
حجم التبادل (مليار دوالر) الواردات (مليار دوالر) الصادرات (مليار دوالر) السنة
5.24 1.98 3.26 2013
5.55 2.42 3.13 2014
5.72 2.14 3.58 2015
5.09 1.83 3.26 2016
5.04 2.21 2.83 2017
5.27 2.51 2.76 2018
5.29 2 3.29 2019
3.6 1.71 2.5 2020
3.71 3.45 0.265 2021
خامًس ا :مشروع الممر البري :اتفقت تركيا مع اإلمارات على ممر بري لنقل البضائع بينهما
باستخدام الموانئ اإليرانية ،وهو ما من شأنه تقليل مدة الشحن إلى ثلث المسار البحري الحالي
وتقليل كلفة النقل وتنشيط التجارة بين البلدين ،السيما في ظل تأثر سالسل التوريد بظروف
()6
جائحة كورونا.
في أغسطس/آب ،2021زار مستشار األمن الوطني اإلماراتي ،طحنون بن زايد ،تركيا والتقى
الرئيس أردوغان وقالت مصادر البلدين :إنهما ناقشا "سبل التعاون التجاري واالقتصادي
والفرص االستثمارية" بينهما .كما جمعت عدة اتصاالت هاتفية بين الرئيس التركي وولي عهد
أبوظبي ،محمد بن زايد ،وكذلك بين وزيَر ْي خارجية البلدين .وفي نوفمبر/تشرين الثاني من
العام نفسه ،بحث وزيرا خارجية البحرين وتركيا ،عبد اللطيف الزياني ومولود تشاوش أوغلو،
في أنقرة "سبل تعزيز التعاون بين البلدين في عدة مجاالت" ،كما التقى نائب الرئيس التركي،
15
المبحث االول
فؤاد أقطاي ،مع وزير التجارة السعودي ،ماجد بن عبدهللا القصبي ،في إسطنبول وتباحثا في
العالقات التجارية بين الجانبين.
هذا الزخم المتزامن للقاءات التركية-الخليجية ُتِّو َج في الـ 24من نوفمبر/تشرين الثاني الفائت
بزيارة محمد بن زايد ألنقرة ألول مرة منذ عشر سنوات ،واستقباله بحفاوة رسمية بالغة وتوقيع
البلدين عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم في مجاالت التجارة والطاقة والبيئة واالستثمار ،إضافة
لتأسيس اإلمارات صندوًقا بقيمة 10مليارات دوالر أميركي لالستثمار في تركيا .رَّد أردوغان
بزيارة في فبراير/شباط الجاري ،تخَّللها توقيع 13اتفاقية بين البلدين وتوقيعهما على بيان مشترك
بشأن "بدء مفاوضات اتفاقية الشراكة االقتصادية الشاملة بينهما".
15
المبحث االول
الجيوسياسية الحربية بحد أنه يقع في بؤرة االستراتيجيات التي تنتهجها القوى ذات المحور
البحري تجاه القارات الثالث آسيا وإفريقيا وأوروبا ،وقد أصح بالنسية لالستراتيجيات ذات الثقل
البحري ،كما بات بمثاية قاعدة عسكرية لتحقيق الهيمنة اإلستراتيجية الموجهة نحو القارات
الثالث آسيا وإفريقيا وأورويا وبحارها ،ومتلك أهم المعابر المائية مثل معبر مضيق هرمز
ومضيق بات عدن ،وتحتل دول الخلج المكان المميز في قلب العالم القديم وعلى البحار
والمضايق األكثر اهمية في العالم ،وعلى طرق مرور الطاقة ولكن المشكلة تاتي من أن الحدود
االتية داخل الشرق األوسط تشبه جدار مخلخل المفكك اللبنات ،وتدرك القوى الدولية أن تحريك
أية لبنة من لبنات ذلك الجدار المخلخل يعني انهياره ،وهي بطبيعة الحال ال ترغب في البقاء
تحت حطام جدار متهدم ،ولتحقيق هذا الهدف تعمل تحريك لبناته المختلفة في آن واحد ،وهو ما
يستوع تنوع ألعابها الدبلوماسية ،إذ يتحتم على هذه القوى المداومة على إعادة تقييم أوضاعها
بالنسبة للقوى األخرى داخل وسط مرن.
والتراكم التاريخي هو أحد العناصر األساسية الي تحدد الوضع الزماني والكاني لدول الخليج
العربي ،إن دول الخليج العربي يتمتعون بتاريخ إسالمي عريق يبدأ بتأسيس الدولة اإلسالمية
بالمدينة المنورة والدولة األموية والدولة العباسية ،والدولة العثمانية ،ثم العصر الحديث ،من
الخصائص األساسية في منطقة الخليج العربي السمات الجيوثقافية النابعة من العمق التاريخي
الذي يمتلكه ،فإن أكبر التطورات الثقافية والدينية والفكرية التي أثرت في تاريخ البشرية تحققت
على أرض هذه المنطقة كما أسهم قربها من القارات الثالث أن تكون ساحة للمجاهرة والمواجهة
والمحاسبة الثقافية على المستوى العالمي والمحلي(.)8
وركز داود أغلو على التاريخ واعتبره من المعطيات الثابتة ،ألن التاريخ يساعد على معرفة ما
كان من شأن األمم البائدة بشكل عام؛ حيث يفيد هذا األمر في معرفة الطرق التي تقدم بها
اإلنسان ،والذي نتج اساسا عن تقدم العقل البشري وما صاحبه من تقدم في النظريات،
15
المبحث االول
والفلسفات ،والعلوم ،واألفكار المختلفة ،إلى أن وصلت كلها إلى ما وصلت إليه اليوم من تطور
كبيرة ،فأفكار اليوم ليست كاألفكار في القرون الوسطى.
وتتميز دول الخليج العربي بغناها التاريخي والثقافي ،فبسبب موقعها المميز استطاع العرب أن
يحتكموا بكافة الثقافات ،فالناس مرتبطون بشكل أو بآخر بالتاريخ ،وإن حاولنا التعمق في
بعض الحضارات نجد أن التاريخ له أهميه عظيمة في حضارها ومنطلقاها تجاه
العالم.
ثالثا :العامل االقصادي و دوره في القوة الشاملة.
تعد منطقة الخليج العربي واحدة من أهم المناطق ذات األبعاد االستراتيجية على مستوى العام من
ناحية اقتصادية و الجغرافية،مرتبطا ذلك باالكتشافات النفطية الكبيرة التي عرفتها دول المنطقة
مما جعل منها محط أنظار العالم وقواه المتنافسة ،إال أن تنامي أهميتها اإلستراتيجية خالل العقود
القليلة المنصرمة ،قد ارتبط أيضا بقدرة دول المنطقة الغنية بالنفط على استثمار عائداته وتوظيفها
في تنمية مرافق هذه الدول ،ومحاولة النهوض سياسيا واقتصاديا واجتماعيا باالعتماد علي
"الطفرة" الكبيرة في أسعار النفط ،وقد أصبحت منطقة الخليج في اآلونة األخيرة إلى واحدة من
أكبر بؤر العالم أهمية واضطرابا في الوقت ذاته ،وبات من أهم مفرداته وملفاته مسألة تأمين أمن
منطقة الخليج والحفاظ على تدفق النفط منه إلى العالم ،وللداللة على األهمية االقتصادية للنفط
بالنسبة لدول المنطقة ،يمكن مطالعة التقارير االقتصادية الدولية الراصدة لحركة األموال فيها،
فقد وصلت عائدات دول مجلس التعاون الخليجي من مبيعات النفط عام 2003م إلى 350مليار
دوالر ،و تتجاوز 450مليار دوالر في عام 2008م بفضل ارتفاع أسعار النفط علميا .
كما وصل الفائض التراكمي في الحساب الجاري بين عامي 2003م و 2007م إلى نحو 700
مليار دوالر ،واصبح 900مليار دوالر في عام 2009بحسب تقارير صندوق النقد الدولي .كما
بلغ نمو الناتج المحلي اإلجمالي إلى ،% 7.5وتجاوزت الفوائض التجارية 250مليار دوالر في
عام 2005م ،وحسب تقديرات بعض الخبراء ،فإن منطقة الخليج ستراكم فائضا في الميزانية
مقداره 3تريليون دوالر بين عامي 2005و 2025م.
ويرجع هذا النمو االقتصادي غير المسبوق إلى كون دول الخليج العربي تمثل محطة وقود للعالم
بأسره كما تبرز االحتياطات النفطية في منطقة الخليج العربي لتؤهلها كمركز مهم لتلبية الطلب
()9
العالمي المتزايد على النفط ،ال سيما احتياجات الدول اآلسيوية.
إذ تضم منطقة الخليج العربي ثلثي احتياطي النفط المكتشف في العالم ،كما ينتج اكثر من ربع
إجمالي اإلنتاج العالمي من النفط وبخز ن ثلث إجمالي االستهالك العالمي تقريبا ،وتشير تقارير
15
المبحث االول
وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب العالمي على النفط سيزداد من 84مليون برميل يوميا في عام
2005م إلى 116مليون برميل يوميا في عام ،2030وستبلغ حصة الخليج العربي من إنتاج
النفط ما يزيد عن % 37من اإلجمالي العالمي بحلول عام 2025م.
وال يمكن بحال التغاضي في هذا السياق عن أهمية (الغاز) في الوقت الراهن ،مما يعزز من
هيمنة الخليج العربي على أسواق الطاقة ،فكل من إيران وقطر تملكان اثنين من أكبر ثالثة
احتياطيات للغاز ،تعتبر المنطقة بهذا االمتداد الجغرافي من أغنى المناطق العالمية بالثروات
الطبيعة ،فال يوجد منطقة في العالم أغنى من حيث الثروات من منطقة الخليج العربي ،وعلى
رأس هذه الثروات النفطة التي تنتشر في بقاع عديدة من بقاع الوطن العري وعلى رأسها دول
الخليج ،يبد انه مع انخفاض أسعار النفط من مائة دوالر لسعر البرميل إلى اثنان وأربعون دوالر
في عام ،2016اهتزت مكانة منطقة الخليج بالنسبة للقوى الدولية ،وهذا يعني أن على دول
الخليج تعزيز بقية أدوات قوتها في نظرية القوة الشاملة وان ال تعتمد فقط على القوة االقتصادية
البحتة.
15
المبحث االول
أردوغان يحلم باستعادة نفوذ القوة العثمانية القديمة ذات النفوذ االستعماري االقليمي الكبير،
منطلقًا من التدخل في شؤون الدول العربية المجاورة والسعي للعب دور فاعل في إعادة
()10
“هندسة” الخليج العربي بما يتـوافق مـــع طموحاتــه وأحالمه.
15
المبحث االول
ورغم أن تركيا قد تبنت في بداية وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم سياسة خارجية
قائمة على استراتيجية “صفر مشاكل” التي صاغها وزير الخارجية األسبق أحمد داود أوغلو،
فإن تنامي نفوذ أردوغان في الحزب الحاكم ثم قيامه بتغيير شكل نظام الحكم ذاته وإبعاد حلفائه
السياسيين المقربين ،قد فتح الباب واسعًا أمام االنقالب على هذه االستراتيجية واالعتماد على
توجه جديد معاكس تمامًا ،قائم على صناعة األزمات والتدخل عبر القوة الخشنة في مناطق
األزمات والصراعات العربية ،مستغًال في ذلك تنظيم “اإلخوان المسلمين” االرهابي الذي يرتبط
مع الحزب الحاكم في تركيا وقادته ،والسيما الرئيس أردوغان ،بروابط فكرية وأيديولوجية
وعالقات تنظيمية قوية ،حيث وجدت تركيا في أحداث العشرية الثانية من القرن الحادي
والعشرين في المنطقة العربية فرصة سانحة لتحقيق أطماعها في دول عربية عدة من بينها مصر
واليمن وتونس وسوريا ،من خالل دعم تنظيم “األخوان المسلمين” للوصول إلى الحكم حتى بلغ
بها الحال للتدخل العسكري المباشر في سوريا وليبيا ،فضًال عن خسارة المصالح االستراتيجية
التركية مع دول عربية مهمة مثل السعودية ومصر واالمارات ،بل والسعي الدائم لإلضرار
بمصالح هذه الدول عبر بناء تحالفات تكتيكية غير واقعية مع نظام الحكم في دولة قطر وحكومة
السراج في ليبيا وتنظيمات ارهابية متطرفة استطاعت عقد صفقات سرية مشبوهة مع النظام
التركي لفتح ممرات عبور االرهابيين إلى سوريا وغيرها.
وال يقتصر السعي التركي للتدخل في المنطقة العربية على سوريا وليبيا ومحاولة الضغط على
بعض الدول واالضرار بمصالحها بل يشمل محاوالت مستمرة للتسلل في منطقة القرن االفريقي،
حيث تبدي أنقرة اهتمامًا استثنائيًا بدول القارة االفريقية منذ سنوات مضت ،حيث استضافت تركيا
في مدينة اسطنبول عام ،2008قمة أفريقية تركية تحت اسم “التضامن والشراكة لمستقبل
مشترك” ،وكانت القمة األولى من نوعها ،وشارك في هذه القمة ممثلون من 50دولة أفريقية،
وفي العـام ذاتــه منحـــت “قمــــة االتحــاد األفريقـي” المنعقــدة في أديـــس أبابا وصـــــف
“حليف استراتيجي” لتركيا ،كما قامت بمضاعفة اعداد سفاراتها في افريقيا خالل السنوات القليلة
الماضية لنحو ثالثة أضعاف العدد في السابق ،وتنشط الخطوط الجوية التركية إلى جانب آلية
الدعم وتعزيز التبادل التجاري .صحيح أن العالقات التركية االفريقية لم تعد بنفس الحماس
السابق منذ تولي فخامة السيد عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر ووضع افريقيا في صدارة اولويات
السياسة الخارجية المصرية ،ولكن أنقرة ال تزال تستخدم عالقاتها مع دول قارة افريقيا في كسب
نفوذ متزايد داخل المنظمات الدولية واالقليمية ،كما توظفها في تحقيق أهداف عسكرية مثلما
حدث في اقامة قاعدة عسكرية تركية بالصومال ،وهي ثاني قاعدة عسكرية للجيش التركي خارج
15
المبحث االول
أراضيه بعد القاعدة العسكرية في قطر ،وهو تمدد مناوىء للنفوذ العربي ويعمل على محاصرة
هذا النفوذ او على االقل ايجاد معادل موضوعي له(.)12
التحول إلى سياسة خارجية هجومية لتعزيز مكانة تركيا ودورها :رأى الرئيس أردوغان وحلفائه
في حزب «العدالة والتنمية» التركي أن مايعرف بـ الربيع العربي» يمثل فرصة ثمينة العادة
هيكلة توجهات تركيا وهويتها االستراتيجية من خالل السعي لقيادة العالم االسالمي وترسيخ
دورها االقليمي بما ينطوي علىه ذلك ـ وفقا لهذه الرؤية ـ من مصالح حيوية لتركيا على الصعيد
االقتصادي والتجاري والسياحي ،وحتى على مستوى مبيعات األسلحة ،فضًال عن امتالك أوراق
ضغط جديدة تسهم في حوارها االستراتيجي مع االتحاد األوروبي وروسيا والواليات المتحدة
واستغالل عالقاتها المفترضة مع أنظمة الحكم العربية ـ كما كان متصورًا قبل انهيار هذه األحالم
ـ في تحقيق األهداف والمصالح االستراتيجية التركية مع العالم .فضًال عن ممارسة سياسة خلط
األوراق واإلرباك من خالل تحقيق أهداف تخص األمن القومي التركي وتسويقها سياسيًا
باعتبارها ضمن األهداف المشتركة للعالم في مكافحة االرهاب وغير ذلك ،ومن أبرز األمثلة
الدالة على ذلك السعي للقضاء على األكراد ووأد احالمهم في بناء دولة مستقلة ،وكذلك سعي
أردوغان إلقامة منطقة عازلة على الحدود التركية السورية بزعم مكافحة ومالحقة تنظيمات
االرهاب والتطرف ،وأيضًا استغالل موقعها الجغرافي كمعبر لموجات اللجوء من سوريا إلى
دول االتحاد األوروبي وكذلك تسلل االرهابيين إلى الداخل السوري ،في تحقيق األهداف
15
المبحث االول
االستراتيجية التركية والسيما مايتعلق بابتزاز دول االتحاد األوروبي والحصول على األموال
مقابل وقف زحف الالجئين إلى حدود أوروبا(.)13
محاولة الضغط على مصر والسعودية والسعي للحد من دورهما االقليمي وتهديد األمن القومي
العربي :منذ انهيار نظام حكم تنظيم اإلخوان المسلمين االرهابي في مصر عام ،2013والدعم
القوي الذي قدمته المملكة العربية السعودية ودولة االمارات لمصر في تلك الظروف ،بما مًك نها
من تجاوز الصعوبات االقتصادية في أغلبها ،تشّك لت لدى أردوغان قناعة بأن السعودية ومصر
يقفان حجر عثرة في وجه تحقيق أحالمه التوسعية بالمنطقة العربية ،ومن ثم فقــد قــام بتطـوير
استراتيجيـــة السياسيــة لتشمل اسـتهدافهما والعمــــل على ضـــــرب مصالحها ،وجاء ذلك من
خالل محاور وأدوات عدة أولها تقديم دعم تركي عسكري وسياسي للنظام الحاكم في قطر من
أجل تحريضه على مواصلة سياساته المعادية لبقية دول مجلس التعاون ،حيث قامت تركيا باقامة
قاعدة عسكرية في الدوحة ويتمركز فيها قوات نخبة تركية تحت غطاء اتفاقية أمنية تم توقيعها
عام ،2014واتفاقية تسمى باتفاق المجلس االستراتيجي القطري التركي ،مقابل الحصول على
مليارات الدوالرات القطرية لدعم االقتصاد التركي المتداعي بسبب ازماتها المتالحقة والتدخالت
العسكرية المتوالية ،التي تسببت في تراجع الصادرات وانهيار العملة التركية.
اقامة توازن مع النفوذ االيراني اقليميًا ودوليًا :الثابت أن النظام االيراني منذ قيام ثورة الخميني
عام 1979يمتلك مشروعًا توسعيًا ذا وجه طائفي يحاول تنفيذ في المنطقة العربية ،وراوحت
الجهود في هذا اإلطار بين مد وجزر حتى جاء الغزو األمريكي للعراق في عام ،2003والذي
وجدت فيه إيران فرصة تاريخية للتغلغل إلى هذا البلد العربي الكبير من بوابة الطائفية والمذهبية
وترسيخ نفوذها فيها بالشكل الذي تشير إليها المؤشرات الراهنة .ولما كان الوجود االيراني في
العراق يمثل تهديدًا للمصالح التركية لما بين البلدين من تنافس تاريخي تقليدي وصراعات
مصالح تشتعل وتخمد بحسب الظروف االقليمية وحسابات المصالح واألولويات السياسية للبلدين،
والتوازنات االستراتيجية القائمة بين القوى االقليمية ،وفي ظل غياب أي مشروع عربي جماعي
للتصدي للتهديد اإليراني ولجم االندفاع االيراني في دول المنطقة العربية ،سارعت تركيا وقتذاك
إلى تغيير مقاربتها االستراتيجية وصياغة استراتيجية جديدة قائمة على التدخل الخشن في
األزمات والصراعات.
السعي الدائم لصرف األنظار عن األزمات الداخلية :رغم ما راكمته تركيا من نجاحات تنموية
في بدايات تولي حزب العدالة والتنمية ،فإن سياسات أردوغان قد تسببت في شبه عزلة تركية
اقليمية ودولية انعكست سلبًا على االقتصاد التركي ،الذي يعتمد بشكل كبير على عائدات
15
المبحث االول
الصادرات والسياحة ،فضًال عن تفاقم األزمات الداخلية وتدهور مستوى المعيشة وانهيارات
متوالية للعملة التركية ،التي شهدت سنوات طويلة من االرتفاعات القياسية ،وقد ازدادت
االوضاع الداخلية سوءًا بعد ما عرف بمحاولة االنقالب الفاشلة عام ،2016والتي وفرت
ألردوغان المبرر والمسوغات لالنقضاض على معارضيه كافة سواء بدعوى االنضمام إلى
جماعة فتح هللا جولن أو التعاطف معها أو فتح قنوات اتصال مع قادتها ،وقام باستعداء شريحة
سياسية كبيرة ،وزج عشرات اآلالف السجون وفصل وتشريد مئات اآلآلف من وظائفهم ،وفتح
الباب امام تعديالت دستورية افضت إلى نظام حكام للرئيس أردوغان فيه الكلمة الفصل .وبحسب
احصاءات ،فقد اتخذ الرئيس أردوغان اجراءات عقابية ضد نحو 160ألف شخص فى اعقاب
محاولة االنقالب الفاشلة ،كما فقد نحو 140ألف شخص وظائفهم الحكومية ضمن مايعرف
بتطهير الدوائر الحكومية من جماعة فتح هللا جولن ،فضًال عن اعتقال عشرات اآلآلف من
العسكريين وضباط الشرطة والقضاة ما أحدث شرخًا في المجتمع التركي يصعب ترميمه سوى
بعد رحيل أردوغان وطي صفحة هذه السياسات االنتقامية.
15