LBB Lthny - LFSL L WL

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 43

‫الباب الثاني‬

‫عملية صنع سياسة األمن القومي‬


‫في الواليات المتحدة األمريكية‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫يتكون هذا الباب من فصلين‪ .‬يدرس الفصل األول منهما سياسة األمن القومي وهيكل صنع القرار في‬
‫قضايا األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬حيث يبدأ بدراسة التجربة األمريكية في مجال‬
‫المواءمة بين قرارات األمن القومي والديموقراطية في أوقات األزمات من خالل استعراض موجز‬
‫لألزمات التي شهدتها الواليات المتحدة خالل العصر الحديث ومدى التزام اإلدارات األمريكية بالمعايير‬
‫الديموقراطية خالل تعاملها مع تلك األزمات أو ابتعادها عن تلك المعايير‪ ،‬ثم يستعرض أهم المؤسسات‬
‫ذات الصلة بقرارات األمن القومي األمريكي‪ ،‬حيث يتناول دراسة كل من الرئيس ومكتبه التنفيذي‪،‬‬
‫وإ دراك الرئاسة لقضايا األمن القومي‪ ،‬كما يشمل الفصل األول دراسة بيروقراطية صنع قرارات األمن‬
‫القومي أي وزارات الخارجية والدفاع واألمن الداخلي‪ ،‬ويتم أيضًا دراسة دور الكونجرس في هذا‬
‫المجال‪ ،‬وأخيرًا يتم دراسة دور األجهزة األمنية ذات الصلة بقضايا األمن القومي وعلى رأسها وكالة‬
‫االستخبارات المركزية األمريكية ‪ CIA‬ومكتب التحقيقات الفيدرالي ‪ FBI‬والعالقة بين تلك األجهزة‬
‫وأوجه القصور التي أدت إلى عدم التمكن من إحباط هجمات ‪ 11‬سبتمبر قبل حدوثها‪ ،‬كضعف التنسيق‬
‫بين تلك األجهزة‪ ،‬والتنافس فيما بينها‪ ،‬كما يتعرض هذا الباب إلى محاوالت إصالح تلك العيوب في‬
‫أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪.‬‬
‫أما الفصل الثاني في هذا الباب‪ ،‬فيدرس أسلوب الممارسة الفعلية لعملية صنع سياسة األمن القومي في‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬وتقويم عالقات القوى فيما بين األجهزة المسئولة عن قضايا األمن القومي‪ ،‬والتعاون أو‬
‫التنافس فيما بين تلك األجهزة خاصة على مستوى القيادات قبل أحداث ‪ 11‬سبتمبر وبعدها‪.‬‬

‫الفصل األول‬
‫سياسة األمن القومي وهيكل صنع‬
‫القرار في قضايا األمن القومي في‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‬

‫‪114‬‬
‫المبحث األول‪ :‬التجربة األمريكية في مجال المواءمة بين قرارات األمن‬
‫القومي والديموقراطية‬
‫المبحث الثاني‪ :‬سياسة األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‬

‫المبحث الثالث‪ :‬هيكل صنع القرار في مجال األمن القومي في الواليات‬

‫المتحدة األمريكية‬

‫المبحث الرابع‪ :‬إعادة تعريف مفهوم وإ ستراتيجية األمن القومي األمريكي‬

‫في أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪2001‬‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫يشمل هذا الفصل ثالثة مباحث‪ .‬المبحث األول بعنوان‪" :‬التجربة األمريكية في مجال المواءمة بين‬
‫قرارات األمن القومي والديموقراطية في أوقات األزمات"‪ .‬ويتضمن هذا المبحث دراسة للتجربة‬
‫األمريكية في مجال التعامل مع مشكلة التعارض بين سياسة األمن القومي والديموقراطية في أوقات‬
‫األزمات‪ ،‬وذلك خالل فترات مختلفة في التاريخ األمريكي‪ ،‬وحتى ما قبل أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪،2001‬‬
‫وذلك لتحديد مدى نجاح الواليات المتحدة في تحقيق المواءمة بين اعتبارات األمن القومي‬
‫والديموقراطية‪ ،‬وتأثير تلك القرارات على المجتمع األمريكي‪ ،‬وتحديد ما إذا كانت سياسة األمن القومي‬
‫األمريكية في أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر تمثل امتدادًا لسياسة األمن القومي األمريكية في فترات سابقة‪ ،‬أم‬
‫أنها تمثل تحوًال في مسار تلك السياسة بفعل عوامل جديدة ربما لم تكن موجودة من قبل مثل انفراد‬
‫الواليات المتحدة على قمة هيكل النظام الدولي‪ ،‬وسعي التيارات اليمينية ذات النزعة اإلمبراطورية‬
‫واالنفرادية وذات التأثير على إدارتي جورج دبليو بوش إلى استغالل أحداث ‪ 11‬سبتمبر لتكريس الهيمنة‬
‫األمريكية‪.‬‬
‫أما المبحث الثاني فهو بعنوان "سياسة األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية"‪ ،‬ويتم في هذا‬
‫المبحث تعريف سياسة األمن القومي األمريكي وتوضيح أهم أهدافها‪ ،‬والنقاط التي يجب أخذها في‬
‫االعتبار عند دراسة المصالح القومية باعتبار أن حماية تلك المصالح من أهم األهداف التي تسعى سياسة‬
‫األمن القومي إلى تحقيقها‪ ،‬ودراسة تأثيرات كل من البيئة الدولية والبيئة المحلية على خيارات سياسات‬

‫‪115‬‬
‫األمن القومي‪ ،‬وتحديد األبعاد األساسية الدبلوماسية واالقتصادية والعسكرية لسياسة األمن القومي في‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬
‫أما المبحث الثالث‪ ،‬فهو بعنوان‪" :‬هيكل صنع القرار في مجال األمن القومي في الواليات المتحدة"‪،‬‬
‫ويتم فيه تناول األجهزة الرئيسية المسئولة عن صنع القرارات ذات الصلة باألمن القومي في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪.‬‬
‫أما المبحث الرابع‪ ،‬فهو بعنوان‪" :‬إعادة تعريف مفهوم وإ ستراتيجية األمن القومي األمريكي في أعقاب‬
‫أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ ،"2001‬ويتم فيه دراسة ما حدث من تغيير في كل من مفهوم وسياسة األمن القومي‬
‫األمريكي في الفترة التي أعقبت أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ ،‬باإلضافة إلى دراسة األهداف اإلستراتيجية الجديدة‬
‫لألمن القومي‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬التجربة األمريكية في مجال المواءمة بين قرارات األمن القومي والديموقراطية في أوقات‬
‫األزمات‪.‬‬
‫أوضحت التجربة األمريكية أن من الصعب إيجاد توافق بين حكم القانون والسلطات االستثنائية التي‬
‫تمنحها السلطة التنفيذية لنفسها في أوقات األزمات‪ ،‬فغالبًا ما تكون النتائج براجماتية (نفعية) ومسيسة إلى‬
‫حد كبير‪ ،‬فمن المفترض أن تخضع قرارات الرئيس االستثنائية إلى مراجعة وربما إلى رفض من جانب‬
‫السلطتين التشريعية والقضائية‪ .‬ومع مرور الوقت خضعت السلطات االستثنائية للرئيس إلى مراجعة‬
‫تشريعية وقضائية وفي غالب األمر كانت عملية المراجعة تؤدي إلى أن يقوم الكونجرس بدعم اإلجراءات‬
‫‪1‬‬
‫الرئاسية‪ ،‬وأن تساند المحكمة العليا هذا العمل‪ ،‬خاصة عندما يكون هناك اتفاق بين الرئيس والكونجرس‪.‬‬
‫وقد تم إعطاء الضرورات العسكرية أولوية مقارنة بحقوق الواليات وحقوق األفراد‪ ،‬وتضاءلت نسبة‬
‫الموافقة الشعبية على منح سلطات استثنائية للرؤساء بمرور الوقت عبر التاريخ األمريكي‪ ،‬وتم الرجوع‬
‫عن اإلجراءات التي قام الرؤساء باتخاذها في أوقات الحروب عندما تمت استعادة السالم‪.‬‬
‫أوًال‪ :‬خلفية تاريخية للخبرة األمريكية في مجال المواءمة بين األمن القومي والديموقراطية‪:‬‬
‫شهدت فترة الحرب األهلية في الواليات المتحدة قيام الرئيس لينكولن‪ ،‬في مجهود منه للحفاظ على‬
‫االتحاد‪ ،‬بالدمج بين سلطاته الرئاسية المدنية وبين منصب رئيس أركان القوات المسلحة‪ ،‬وهو الموقف الذي‬
‫أطلق البعض عليه "ديكتاتورية دستورية"‪ .‬كما قام الرئيس بتجنيد أربعين ألفًا من المتطوعين بالجيش‬

‫‪1‬‬
‫‪David R. Segal, "National Security and Democracy in the United States", Armed‬‬
‫‪Forces and Society, op., cit, PP. 376- 377.‬‬

‫‪116‬‬
‫األمريكي بدون تفويض قانوني‪ .‬كما قام بإنفاق أكثر من مليوني دوالر من الخزانة الفيدرالية بدون أن‬
‫يكون مخوًال باإلنفاق منها‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬فقد أوقف لينكولن الضمانة الدستورية المتعلقة باألمر بالمثول‪ ،‬والتي تمنع‬
‫االعتقال أو الحجز التعسفي للمدنيين الذين ُيشتبه في قيامهم بأعمال غير وطنية‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫الدستور يبيح إيقاف تلك الضمانة الدستورية في األوقات التي تتضمن تهديدًا لألمن العام‪ ،‬إال أنه لم يشر إلى‬
‫الجهة المخولة بذلك اإليقاف‪ .‬وعندما حكمت المحكمة الفيدرالية في بالتيمور في ماري الند بأن إيقاف تلك‬
‫الضمانة هو عمل غير دستوري‪ ،‬قام الرئيس لينكولن بتحدي هذا الحكم‪ ،‬وذلك في رسالة بعث بها إلى‬
‫‪2‬‬
‫الكونجرس‪ ،‬ولم تحل المحكمة العليا حتى اآلن مسألة تحديد الجهة المخولة بذلك اإليقاف‪.‬‬
‫أمر لينكولن أيضًا بأن يتم النظر في قضايا الخيانة التي يرتكبها مدنيون في المحاكم واللجان العسكرية‬
‫وليس في المحاكم المدنية‪ ،‬ولم تقم المحكمة العليا بإبطال هذا القرار حتى انتهت الحرب‪.‬‬
‫وفي الحرب العالمية األولى قام الرئيس ويلسون‪ ،‬مثلما فعل الرئيس لينكولن من قبل‪ ،‬بادعاء سلطات‬
‫استثنائية‪ .‬ولم يعتمد ويلسون فقط على سلطته كرئيس ألركان حرب القوات المسلحة‪ .‬ولكن قام الكونجرس‬
‫بتفويضه بالعديد من االمتيازات التي كانت مقتصرة على السلطة التشريعية‪ .‬وبذلك فقد شهد النظام‬
‫القضائي األمريكي أثناء الحرب العالمية األولى معضلة كيفية إيجاد توازن بين الحقوق الفردية‬
‫والضرورات العسكرية في القضايا التي تم النظر فيها وفقًا لقانون التجسس الصادر عام ‪ ،1917‬وقانون‬
‫التحريض على العصيان الصادر عام ‪.1918‬‬
‫وضعت هذه القوانين التي صدرت أثناء الحرب العالمية األولى قيودًا على حرية الحديث والصحافة‪،‬‬
‫وقامت بتصنيف أنواع معينة من التصريحات واألعمال على أنها غير قانونية‪ ،‬وتحرض على الفتنة‬
‫والعصيان‪ .‬وفي سلسلة من القضايا التي تم النظر فيها أمام المحكمة العليا في نهاية الحرب‪ ،‬حكمت‬
‫المحكمة العليا في تلك القضايا جميعها بأن الضرورة العسكرية مثلت مبررًا لنقص الحرية الفردية‪ .‬وبالمثل‬
‫لم تستجب المحكمة العليا للدعاوى التي ُر فعت ضد التجنيد اإلجباري في الحرب العالمية األولى‪ ،‬والتي‬
‫اعتبرت أن الكونجرس قد تخطى حق الواليات فيما يتعلق بعملية التجنيد‪ ،‬حيث اعتبرت المحكمة أن من‬
‫‪3‬‬
‫األمور الضرورية دعم الجيش وزيادة عدد أفراده كضرورة من ضرورات الحرب‪.‬‬
‫وفي الحرب العالمية الثانية هدد الرئيس روزفلت بزيادة سلطاته االستثنائية‪ ،‬حيث أعلن أنه إذا لم‬
‫يتصرف الكونجرس بالطرق التي اعتبرها ضرورية من أجل حماية األمن القومي‪ ،‬فإنه سيقوم بالتصرف‬
‫بشكل انفرادي‪ .‬وقد أصدر روزفلت‪ ،‬باعتباره رئيسًا ألركان حرب القوات المسلحة‪ ،‬األمر التنفيذي رقم‬
‫‪ 9066‬بتاريخ ‪ 2‬فبراير ‪ ،1942‬والذي فّو ض وزير الحرب ومن يختاره لتحديد مناطق عسكرية يمكن أن‬
‫يتم إجالء بعض أو كل األشخاص منها‪ ،‬وذلك لمنع أعمال التخريب والتجسس‪ .‬ووفقًا لهذا األمر التنفيذي‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪3‬‬
‫)‪C. Herman Pritchett, The American Constitution, 2nd ed. (New York: Knopf, 1947‬‬
‫‪p.64.‬‬

‫‪117‬‬
‫تم إجالء كل األشخاص ممن لهم أصول يابانية‪ ،‬ومن بين هؤالء سبعون ألف مواطن أمريكي من الواليات‬
‫الواقعة على ساحل المحيط الهادي وأجزاء من أريزونا‪ ،‬وتم احتجازهم في مراكز سكنية بعيدة‪.‬‬
‫وقد وجد الكونجرس صعوبة في سن قانون للتصديق على األمر التنفيذي رقم ‪ 9066‬والتفويض بمد‬
‫فترة العمل به عقب شهر من إصداره‪ ،‬مما تسبب في رفع العديد من الدعاوى حول دستورية هذا القرار‪.‬‬
‫وفي يونيو ‪ 1943‬نظرت المحكمة العليا في قضية مواطن أمريكي من أصل ياباني ُيدعى هيراباياشي كان‬
‫يعمل أستاذًا بجامعة شيكاغو‪ ،‬وتمت إدانته في محكمة فيدرالية بتهمة رفض تسجيل اسمه في قائمة‬
‫األشخاص الذين سيتم إجالؤهم‪ ،‬وبتهمة انتهاك قانون حظر التجول الذي ُفرض على كل األشخاص ذوي‬
‫األصول اليابانية‪ .‬وقد أصدرت المحكمة العليا حكمها فيما يتعلق بحظر التجول فقط‪ ،‬والذي اعتبرته قانونيًا‬
‫وأيدت قرار اإلدانة‪ .‬ولم يتم النظر في دستورية أوامر اإلجالء واالعتقال حتى ديسمبر ‪ ،1944‬وذلك‬
‫عندما نظرت في قضية مواطن أمريكي آخر من أصل ياباني ُيدعى كورماتسو‪ ،‬حيث وافقت المحكمة على‬
‫إجالء األشخاص ذوي األصول اليابانية‪ ،‬إال أنها أكدت في قضية تخص مواطنًا آخر ُيدعى إيكسبارتي‬
‫إيندو على أن المواطن األمريكي من أصل ياباني ممن يثبت إخالصه للوطن ال ينبغي اعتقاله واحتجازه في‬
‫‪4‬‬
‫مراكز سكنية بعيدة‪ ،‬وإ نما ينبغي أن يتم إطالق سراحه‪.‬‬
‫وفي زمن الحرب الكورية بدا أن السلطة القضائية تضع درجة أعلى من القيود على السلطات االستثنائية‬
‫للتنفيذيين في أوقات الطوارئ‪ ،‬فعندما حاول الرئيس ترومان التحكم في إدارة مصانع الحديد والصلب‪،‬‬
‫حكمت المحكمة العليا بأن ترومان ال يمتلك سلطة طوارئ ليقوم بمثل هذا العمل الذي ينبغي الحصول على‬
‫تفويض مسبق من الكونجرس من أجل القيام به‪ .‬وشهدت فترة الحرب الباردة بين الواليات المتحدة‬
‫واالتحاد السوفييتي حاالت متعددة لفرض قيود على الحقوق والحريات الفردية بدعوى ضرورات األمن‬
‫القومي‪.‬‬
‫إن من أهم األسباب التقليدية للتصادم بين حكم القانون وممارسة السلطة التنفيذية االستثنائية هو التزام‬
‫األشخاص العسكريين بالقتال‪ ،‬فالحروب هي أحداث دولية تتطور بشكل مستقل عن اإلرادة التشريعية‪،‬‬
‫ويحدث ذلك بشكل متسارع يفوق قدرة التشريعيين على التعامل معه واالستجابة لتحدياته‪ .‬وعلى سبيل‬
‫المثال فإن الحرب البحرية التي اندلعت بين الواليات المتحدة وفرنسا خالل الفترة ‪ 1798‬إلى ‪ 1800‬لم يتم‬
‫اإلعالن عنها‪ .‬وكان قرار الكونجرس في أعقاب الهجوم المفاجئ على ميناء بيرل هاربور مجرد اعتراف‬
‫أكثر من كونه إعالن حرب‪ .‬كما أن التزام القوات األمريكية بالدخول في الحرب الكورية كان رد فعل‬
‫تقديري من جانب الرئيس األمريكي على طلب من مجلس األمن باألمم المتحدة‪ .‬كما شبه الرئيس جونسون‬
‫قرار خليج تونكين الصادر من الكونجرس بأنه بمثابة إعالن حرب من قبل الكونجرس‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪Edward S.Corwin, Total War and the Constitution (New York: Mc Graw-Hill,‬‬
‫‪1968), P.372.‬‬

‫‪118‬‬
‫يعكس كل ما سبق الخالفات التي يمكن أن توجد بين النصوص القانونية والخبرة التاريخية‪ ،‬حيث‬
‫انعكست طبيعة رد الفعل الذي يتسم به العمل التشريعي في الحروب الحديثة في قانون سلطات الحروب‪،‬‬
‫وهو محاولة تأسيس سيطرة قانونية على العمليات العسكرية في غياب إعالن الحرب‪ .‬ويطلب القانون من‬
‫الرئيس أن يخبر الكونجرس بكل األعمال الحربية التي يتم تفويضه بها‪ ،‬ويمنع استمرار تلك العمليات لمدة‬
‫تزيد على ‪ 60‬يومًا من بدئها‪ ،‬إذا لم يمنحه الكونجرس فترة أطول‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬الخبرة األمريكية في مجال صنع قرار األمن القومي‪:‬‬


‫إن صنع القرار في نطاق األمن القومي ليس دائمًا بمثابة رد فعل‪ ،‬على الرغم من أنه عادة ما يبدو كذلك‪.‬‬
‫إن ما يجعل عملية صنع القرار في مجال األمن القومي موحدة هو طبيعة المشاركة في العملية السياسية‪.‬‬
‫فبينما يتم مدح المشاركة الشعبية الواسعة في األمور المتعلقة بالسياسة المحلية على أنها عالمة على رسوخ‬
‫الديموقراطية‪ ،‬فإن المخاوف المتعلقة بضرورات األمن القومي واحتياجاته تمنع االقتراب العام من األمور‬
‫التي توجد حاجة إليها لفهم المداوالت المتعلقة بسياسة األمن القومي‪ ،‬والمشاركة فيها‪.‬‬
‫وفي الوقت ذاته فإن القادة العسكريين من ذوي الرتب العليا‪ ،‬والذين ال ُيسمح لهم تقليديًا بالمشاركة في‬
‫عملية صنع السياسة في الواليات المتحدة لعبوا منذ الحرب العالمية الثانية دورًا أساسيًا في صنع القرارات‬
‫ذات الصلة بالسياسة الخارجية واألمن القومي‪.‬‬
‫توجد قيود هيكلية في النظام األمريكي لصنع قرار األمن القومي‪ .‬فمن جانب ُتعد وزارة الدفاع هي وكالة‬
‫للفرع التنفيذي للحكومة تضع ما لديها من خبرة في مجال األمن القومي تحت تصرف الرئيس‪ .‬وعلى‬
‫الجانب اآلخر‪ ،‬فإن المادة رقم (‪ )1‬من الدستور اعتبرت أن الكونجرس هو الفرع األول للحكومة‪.‬‬
‫ذكر جيمس ماديسون‪ ،‬وهو أحد أهم من صاغوا الدستور األمريكي أن "السلطة التشريعية تسود‬
‫بالضرورة في الحكومة الجمهورية"‪ ،‬حيث أشار ماديسون إلى جمعية وطنية تمثيلية يستجيب أعضاؤها‬
‫لمصالح ممثليهم المحليين واحتياجاتهم ‪ ،‬ويكون لديها نظام رقابة وتوازن يتم التأكيد عليه من خالل وجود‬
‫مجلسين منفصلين‪ ،‬مما ُيعد ضمانة لحقوق المواطنين وللفرعين اآلخرين للحكومة‪ ،‬وذلك مقارنة بمكتب‬
‫‪5‬‬
‫الرئيس الذي ُيعد سلطة دستورية مركزة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فقد تم اتخاذ قرارات األمن القومي األساسية في الواليات المتحدة بمبادرات من‬
‫السلطة التنفيذية‪ .‬ففي عقد األربعينيات أقنع الرئيس ترومان الشعب األمريكي بضرورة التراجع عن قرار‬
‫تسريح القوات في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبأهمية الحفاظ على قوة عسكرية كبيرة في وقت‬
‫السالم بهدف حماية الحلفاء األوروبيين من التهديد الشيوعي المتنامي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪Alexander Hamilton, James Madison, and John Jay, The Federalist Papers ( New‬‬
‫‪York: New American Library, 1961), p.322.‬‬

‫‪119‬‬
‫وقد تسببت سياسة االحتواء في النهاية في تورط عسكري أمريكي في كوريا وفي فيتنام‪ .‬فقد ذكر جون‬
‫اف كيندي أن الواليات المتحدة في حاجة إلى تأسيس جيش كبير يكون قادرًا على شن حربين كبيرتين‬
‫باإلضافة إلى حرب صغيرة في توقيت متزامن‪.‬‬
‫وفي أعقاب التجربة الفيتنامية قام ريتشارد نيكسون بتخفيض عدد الحروب التي يمكن للجيش األمريكي‬
‫شنها في توقيت متزامن إلى حرب كبيرة وحرب صغيرة فيما ُس مي بإستراتيجية الحرب ونصف الحرب في‬
‫عام ‪.1969‬‬
‫ولم يقم رونالد ريجان الذي كان يتحكم في بناء عسكري ضخم وال جورج بوش األب الذي قام بعملية‬
‫تخفيض لإلنفاق العسكري ‪ -‬وهي العملية التي عجلت بها ضغوط الميزانية وانهيار حلف وارسو‪ -‬بتحديد‬
‫عدد الحروب التي كانا ينويان أن يستعدا لها‪ .‬أما في عهد كلينتون فقد قامت وزارة الدفاع بدراسة إمكانية‬
‫شن حربين كبيرتين وحرب صغيرة في توقيت متزامن‪.‬‬
‫إن سلطة المبادأة في نطاق األمن القومي وتركز نطاق الخبرة في مجال األمن القومي في الفرع التنفيذي‬
‫للحكومة‪ ،‬باإلضافة إلى المسألة الخالفية المتعلقة بأن الرئيس له سلطة مطلقة في مجال السياسة الخارجية‬
‫(وهو األمر الذي له تأثير على سياسة األمن القومي) أدت إلى إثارة تساؤالت حول إمكانية مساءلة السلطة‬
‫التنفيذية عما تتخذه من قرارات في مجال األمن القومي‪ ،‬خاصة عندما يتم صنع السياسات بواسطة‬
‫مسئولين معينين وليسوا منتخبين‪ ،‬ممن يمكن في بعض الحاالت أن يتصرفوا بدون إحاطة الرئيس بما‬
‫‪6‬‬
‫يفعلون‪ ،‬وهذا ما حدث في قضية تهريب األسلحة األمريكية إليران‪ ،‬والتي ُع رفت بفضيحة إيران كونترا‪.‬‬
‫وعلى الرغم من قيام السلطة التنفيذية بأخذ زمام المبادرة فيما يتعلق بقضايا األمن القومي‪ ،‬فقد وجد‬
‫الرؤساء األمريكيون أنهم يحتاجون عمليًا إلى نصيحة الهيئة التشريعية ورضائها‪ .‬وفي حالة الحرب‬
‫الفيتنامية كان الكونجرس يريد في البداية أن يتبع الرئيس‪ ،‬على اعتبار أنه في موقف يمكنه‪ ،‬كما ذكر بعض‬
‫أعضاء الكونجرس‪ ،‬من معرفة أشياء ال يعرفونها‪ .‬ولكن عندما انقلب الرأي العام ضد الحرب وأكد الشعب‬
‫األمريكي على ضرورة فرض إرادته في العملية السياسية فيما يخص تلك القضية‪ ،‬فإن الكونجرس قاوم‬
‫سيطرة السلطة التنفيذية‪ ،‬وبدأ في لعب دور أكثر فعالية انتهى باالنسحاب األمريكي‪.‬‬
‫حاول الكونجرس في بعض المرات تقييد المبادرات الرئاسية‪ ،‬وهو األمر الذي حدث عند دعم متمردي‬
‫الكونترا في نيكاراجوا‪ ،‬وفي أحيان أخرى سعى إلى مد تلك المبادرات‪ ،‬وهو ما اتضح من تقديم الدعم‬
‫بصورة متزايدة للمجاهدين في أفغانستان‪ .‬وفي حرب الخليج في عام ‪ ،1991‬تذكر الرئيس‬
‫جورج بوش األب الخطأ الذي ارتكبه ليندون جونسون الذي لم يحاول الحصول على دعم الكونجرس في‬
‫قضية خليج تونكين‪ ،‬وسعى للحصول على موافقة الكونجرس على قرار األمم المتحدة باستخدام القوة‬
‫المسلحة ضد العراق‪ .‬وقد وافق الكونجرس على قرار مجلس األمن‪ ،‬إال أنه أعلن تفضيله الواضح للتوصل‬
‫إلى حل سلمي ألزمة الخليج‪ ،‬وبمجرد اندالع الحرب‪ ،‬قام الكونجرس بتأييد الرئيس بوش األب‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪David R. Segal, National Security and Democracy in the United States, op.,cit, p.381.‬‬

‫‪120‬‬
‫ومن الواضح أنه بمرور الوقت‪ ،‬بدأ الفرعان التشريعي والتنفيذي يشتركان في عملية صنع القرار‪،‬‬
‫وأصبحت اإلجراءات االنفرادية من جانب السلطة التنفيذية التي تتجنب التشاور مع الكونجرس في عملية‬
‫صنع القرار تتعرض لتحد بالشكل الذي أدي في النهاية إلى تأثيرات سلبية عليها وعلى اإلدارة ذاتها‪ ،‬وذلك‬
‫على العكس من السياسات التي تم اتخاذها عقب مفاوضات مبكرة وحلول وسط بين السلطتين التشريعية‬
‫والتنفيذية‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬تأثير قرارات األمن القومي على المجتمع األمريكي‪:‬‬
‫وجدت الواليات المتحدة حتى الحرب العالمية الثانية أن من األفضل أن تبقى في عزلتها الجغرافية‪،‬‬
‫فتجنبت تشكيل قوات عسكرية ضخمة في أوقات السالم‪ ،‬وغالبًا ما كانت تقوم بتسريح قواتها المسلحة في‬
‫األوقات التي ليست فيها حروب‪ ،‬وكان تأثير القرارات ذات الصلة باألمن القومي على المجتمع األمريكي‬
‫في أوقات السالم ضعيفًا‪ .‬وقد تغير هذا الوضع تمامًا عقب اندالع الحرب العالمية الثانية‪ ،‬بسبب حالة‬
‫التعبئة للقوات المسلحة والصناعات العسكرية‪ ،‬واستخدام األسلحة النووية في الحرب‪ ،‬وقيام الواليات‬
‫المتحدة بدور القوة العظمى في النظام العالمي ثنائي القطبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬وقد‬
‫أصبح الجيش‪ ،‬باعتباره المؤسسة األساسية المسئولة عن األمن القومي‪ ،‬أحد أهم المؤسسات ذات التأثير في‬
‫المجتمع‪ ،‬وذلك بسبب ضخامة عدد أفراده‪ ،‬باإلضافة إلى المؤسسات االجتماعية العديدة األخرى التي‬
‫تتداخل معه‪.‬‬
‫إن حالة التعبئة التي واكبت الحرب العالمية الثانية جعلت العديد من الشباب الذكور األصحاء منخرطين‬
‫في الخدمة العسكرية‪ ،‬مما تطلب االستعانة باإلناث في القوى العاملة في المجال الصناعي‪ ،‬وذلك لتشغيل‬
‫القاعدة الصناعية التي تم التوسع فيها وذلك لدعم المجهود الحربي‪ .‬وعندما انتهت الحرب تم تشجيع النساء‬
‫على ترك سوق العمل واستعادة أدوارهن التقليدية كزوجات وأمهات‪ .‬وعلى الرغم من عودة النساء إلى‬
‫منازلهن‪ ،‬فإن سوق العمل لم يستطع استيعاب ماليين الشباب من الذكور الذين تم تسريحهم من الخدمة‬
‫العسكرية‪ ،‬فتم إصدار قانون جديد ُأطلق عليه جي آي ‪GI‬يوفر دعمًا ماليًا لماليين المتطوعين السابقين في‬
‫الحرب الستكمال تعليمهم الجامعي‪ ،‬وهو ما أدى إلى رفع مستوى التنمية البشرية والتوسع في إنشاء‬
‫مؤسسات للتعليم العالي‪.‬‬
‫وخالل الفترة ما بين ‪ 1940‬وحتى ‪ 1967‬تم وفقًا لهذا القانون مساعدة المتطوعين في كل من الحرب‬
‫العالمية الثانية والحرب الكورية والحرب الباردة والحرب الفيتنامية‪ ،‬والذين تجاوز عددهم ‪ 24‬مليون‬
‫‪7‬‬
‫متطوعًا‪ ،‬وذلك إلكمال تعليمهم في أعقاب انتهاء كل من تلك الحروب‪.‬‬
‫قام الجيش خالل عقد األربعينيات والحرب الكورية بدور قيادي في عملية التكامل العرقي للمجتمع‬
‫األمريكي‪ .‬فقد كانت معظم المؤسسات المدنية األمريكية خالل عقد األربعينيات مقسمة عرقيًا إما بشكل‬
‫‪7‬‬
‫‪Jere Cohen, David R. Segal, and Lloyd V.Temme, "The Educational Cost of Military‬‬
‫‪Service in the 1960s", Journal of Political and Military Sociology, 14, (Fall 1986):‬‬
‫‪303-319.‬‬

‫‪121‬‬
‫رسمي أو غير رسمي‪ .‬وقد بدأت القوات البحرية في دمج الجنود بدءًا من عام ‪1946‬م‪ ،‬على الرغم من‬
‫أنها كانت تخصص نسبة لتمثيل السود األمريكيين على أية سفينة‪ .‬وعلى الرغم من بقاء بعض الوحدات‬
‫مقسمة عرقيًا‪ ،‬إال أنها قامت بدمج عمليات التدريب األساسية للجنود‪.‬‬
‫كان موضوع العرق قضية سياسية مهمة في االنتخابات الرئاسية عام ‪ ،1948‬حيث وضع الحزبان‬
‫الرئيسيان الجمهوري والديموقراطي عدم التفرقة بسبب النوع بندًا رئيسيًا في الحمالت االنتخابية‪ .‬ففي‬
‫يوليو ‪ ،1948‬وقبل ثالثة أشهر من االنتخابات‪ ،‬أصدر الرئيس ترومان األمر التنفيذي رقم ‪ ،9981‬والذي‬
‫أعلن سياسة "المساواة في المعاملة وفي الفرصة في الجيش"‪ .‬وعلى الرغم من أن هذا القرار لم ينه عملية‬
‫التقسيم العرقي في الجيش‪ ،‬إال أنه عبر عن نية الرئيس باعتباره القائد األعلى للقوات المسلحة في إنهاء هذا‬
‫العزل‪ .‬وعندما اندلعت الحرب الكورية‪ ،‬لم يكن قد تم دمج قواعد التدريب في الجيش وال الوحدات القتالية‬
‫‪8‬‬
‫فيه‪ ،‬إال أن عملية التعبئة التي صاحبت الحرب أدت إلى دمج كليهما‪.‬‬
‫أظهرت األبحاث التي أجراها الجيش حول عملية الدمج أن تلك العملية قد أدت إلى زيادة الفعالية القتالية‪.‬‬
‫وقد استمر الجيش خالل عقدي الخمسينيات والستينيات في قيادة المؤسسات المدنية في عملية التكامل‬
‫العرقي‪ ،‬وأصبحت الخدمة العسكرية وسيلة للحراك االجتماعي للشباب المنتمين إلى أقليات عرقية‬
‫بالواليات المتحدة‪ ،‬سواء عن طريق الخدمة العسكرية اإللزامية‪ ،‬أم عن طريق التطوع‪ .‬وفي فترة الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬وبسبب إدراك وجود تهديد شيوعي في أوروبا‪ ،‬استمرت الخدمة العسكرية اإللزامية‪ ،‬واستمر‬
‫التركيز على اإلنتاج العسكري‪ .‬وقد ُو جهت انتقادات لإلنفاق العسكري‪ ،‬حيث ذكر البعض أن االهتمام‬
‫‪9‬‬
‫المبالغ فيه باألمن القومي يأتي على حساب الرخاء االجتماعي‪.‬‬
‫استغلت اإلدارة األمريكية الحرب الباردة كمبرر إلبقاء ماليين المواطنين األمريكيين من العسكريين‬
‫وغير العسكريين في العمل بشكل مباشر تحت إشراف المؤسسات العسكرية‪ ،‬وذلك للحفاظ على العدد‬
‫الكبير من القواعد العسكرية التي أصبحت مصدرًا اقتصاديًا أساسيًا للمجتمعات المدنية المجاورة‪ ،‬ولتحويل‬
‫باليين الدوالرات للصناعات العسكرية‪ ،‬ودعم مئات اآلالف من الوظائف في القطاع الخاص‪.‬‬
‫وقد تأثر هذا الدور المهم الذي تؤديه المؤسسة العسكرية عقب انتهاء الحرب الباردة بسبب ما لحقها من‬
‫تخفيض في الميزانية وعدد األفراد بفعل ضغوط الميزانية وخفض التوترات في أوروبا‪ ،‬إال أنه ُيحسب‬
‫للجيش األمريكي أنه قاد ثورة المواطنة‪ ،‬وُيقصد بها مد حقوق المواطنة إلى الجماعات التي كانت ُم ستبعدة‬
‫في السابق من خالل عملية التكامل واالندماج العرقي‪ .‬وقد جر الجيش خلفه المؤسسات األمريكية األخرى‬
‫لقبول مبدأ المساواة بين جميع األعراق‪ .‬كما ُس مح للنساء باالشتراك في العمليات القتالية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪David R. Segal, Recruiting for Uncle Sam: Citizenship and Military Manpower‬‬
‫‪Policy (Lawrence: University Press of Kansas, 1989), pp 108-109.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪Leo Bogart, ed., Social Research and the Desegregation of the U.S Army (Chicago:‬‬
‫‪Markham, 1969).‬‬

‫‪122‬‬
‫رابعًا‪ :‬األسلحة النووية والعملية الديموقراطية‪:‬‬
‫تتطلب كل الخطوط والعمليات العسكرية درجة ما من السرية وتقييد مشاركة الجماهير في عملية صنع‬
‫القرار‪ .‬وكلما كانت درجة الدمار الناتج عن استخدام األسلحة أكبر كلما زادت درجة السرية المتعلقة‬
‫باستخدام تلك األسلحة‪ .‬وكلما زادت درجة تعقيد التكنولوجيا العسكرية المستخدمة‪ ،‬كلما زادت درجة‬
‫االعتماد على الخبراء الفنيين وإ بعاد الجماهير العادية عن المشاركة في المناقشات المتعلقة باستخدام تلك‬
‫األسلحة‪.‬‬
‫إن غياب الخبرة وحاجة الحكومة للسرية ُيعدان سببين رئيسيين يؤديان إلى ندرة المعلومات المتعلقة‬
‫باألسلحة النووية لدى الجماهير األمريكية‪ .‬وعلى الرغم من أن استطالعات الرأي أظهرت أن األمريكيين‬
‫نظروا إلى احتمال حدوث حرب نووية على أنه أمر ممكن مقارنة بالشعوب األخرى‪ ،‬كما أيدوا الرد‬
‫النووي على التهديدات غير النووية وذلك بغرض إنهاء حرب بشكل سريع‪ ،‬إال أن موضوع الحروب‬
‫النووية لم يكن محل اهتمام كبير للشعب األمريكي‪ .‬وسواء أكان السبب في ذلك هو أن األمور األخرى‬
‫أكثر إلحاحًا‪ ،‬أم ألن اإلدراك منخفض والمعلومات نادرة‪ ،‬فإن النتيجة هي أن النفقات الكبيرة على األسلحة‬
‫النووية وخطط استخدام تلك األسلحة ُو ضعت في ظل غياب مناقشات عامة واسعة النطاق ومظاهرات‬
‫‪10‬‬
‫احتجاجية محدودة وفي أوقات متباعدة‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬األمن القومي ووسائل اإلعالم‪:‬‬
‫تتعارض السرية التي تعد مكونًا مهمًا لألمن القومي بوضوح مع المبدأ الديموقراطي المتمثل في ضرورة‬
‫إحاطة الجماهير علمًا بالسياسات العامة والضمانات الدستورية لحرية الصحافة في الواليات المتحدة‪ .‬وقد‬
‫شهدت العقود األخيرة سلسلة من عمليات إعادة التكييف‪ ،‬حيث حاولت كل من الصحافة والجيش األمريكي‬
‫التعامل مع بعضهما البعض‪ ،‬ومع التكنولوجيات المتغيرة في كل من المجالين‪.‬‬
‫وفي مجال االختيار بين المسئولية عن إخبار الجماهير‪ ،‬ومسئولية حماية المعلومات األساسية‪ ،‬والتي‬
‫تتضمن قبول درجة من الرقابة على وسائل اإلعالم‪ ،‬خاصة الصحافة‪ ،‬كان البديل الثاني هو المفضل أثناء‬
‫الحرب الكورية‪ .‬أما بالنسبة لحرب فيتنام فقد كانت أول حرب متلفزة‪ ،‬حيث أصبح بإمكان األمريكيين منذ‬
‫ذلك الوقت أن يشاهدوا العمليات التي تمت في يوم ما في نشرة األخبار المسائية في اليوم ذاته‪ ،‬مما أدى إلى‬
‫نقل الفزع من الحرب إلى داخل بيوت األمريكيين‪ ،‬وتسبب ذلك في تزايد التوتر بين الجيش ووسائل‬
‫اإلعالم‪ .‬وقامت إدارة كيندي بفرض قيود على حصول الصحفيين على معلومات‪.‬‬
‫ازدادت مقاومة اإلعالم األمريكي للرقابة والقمع منذ ذلك الوقت‪11.‬ومّثل إصدار دورية "أوراق‬
‫البنتاجون" التي أيدتها المحكمة العليا دورًا جديدًا مغايرًا لإلعالم في مجال األمن القومي‪ .‬وُنظر إلى‬

‫‪David R. Segal, National Security and Democracy in the United States, op., cit, pp.‬‬
‫‪10‬‬

‫‪387-388.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪The Pentagon Papers (New York: Bantam, 1971).‬‬

‫‪123‬‬
‫اإلعالم على أنه كان وراء قرار جونسون بعدم الترشح لمرة أخرى وإ لى أنه السبب أيضًا في خسارة حرب‬
‫فيتنام‪ .‬كما تسبب التوتر بين الجيش ووسائل اإلعالم في أن يتم استبعاد الصحافة من تغطية عملية غزو‬
‫جرينادا عام ‪.1983‬‬
‫سادسًا‪ :‬األمن القومي والعالقات المدنية العسكرية‪:‬‬
‫انعكست االقترابات التحليلية لعملية التوازن بين مفهومي األمن القومي والديموقراطية في طبيعة‬
‫المناظرات االجتماعية حول طبيعة المهنية العسكرية والعالقات المدنية العسكرية في الواليات المتحدة‪.‬‬
‫وقد رأى البعض أن الجيش ينبغي أن يكون محايدًا سياسيًا ويخضع للسيطرة المدنية من خالل ميكانيزمات‬
‫تنظيم رسمية‪.‬‬
‫وقد الحظ هنتنجتون أن من الصعب التوصل إلى توازن بين متطلبات األمن العسكري وقيم الليبرالية‬
‫األمريكية‪ ،‬واعتبر هنتنجتون أن التصادم بين األمرين البد أن يؤدي إلى إضعاف التهديد األمني أو إلى‬
‫إضعاف الليبرالية‪ .‬واقترح هنتنجتون أن يتم إنقاذ المؤسسات المدنية من خالل قبول المعايير المحافظة‬
‫‪12‬‬
‫للجيش‪.‬‬
‫وقبل فترة طويلة من انهيار حلف وارسو الذي قلل من التهديد األمني الذي تواجهه الواليات المتحدة‪،‬‬
‫اقترح جانويتز‪ Janowitz‬نموذجًا بديًال يتمثل في الربط بين الجيش والمؤسسات االجتماعية األخرى‬
‫وبالتالي زوال الحد الفاصل بين ما هو عسكري وبين ما هو سياسي‪ .‬إن هذا النموذج الذي قدمه جانويتز لم‬
‫يترك الشئون العسكرية إلى المهنيين العسكريين الذين كانوا معزولين عن االتجاهات االجتماعية الليبرالية‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫بل دعا إلى درجة حساسية سياسية واجتماعية متزايدة من جانب الضباط المهنيين‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬سياسة األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫يتم في هذا المبحث تعريف سياسة األمن القومي وتوضيح أهم أبعادها وعناصرها الرئيسية‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى توضيح الهياكل والعمليات التي يتم خاللها صنع قرارات األمن القومي‪.‬‬
‫أوًال‪ :‬سياسة األمن القومي‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫‪Samuel P.Huntington, The Soldier and the State ( New York: Vintage, 1964), p.456.‬‬
‫‪13‬‬
‫‪Morris Janowitz, The Professional Soldier (Glencoe: Free Press, 1960).‬‬

‫‪124‬‬
‫وصف فرانك تاجر وفرانك سيمور سياسة األمن القومي بأنها "ذلك الجزء من السياسة الحكومية الذي‬
‫يهدف إلى إيجاد الظروف السياسية القومية والدولية المالئمة لحماية القيم والمصالح القومية الحيوية‬
‫وتعزيزها في مواجهة الخصوم الحاليين والمحتملين"‪ 14.‬وهذا التعريف يمكن أن يساعد على تحديد النقاط‬
‫التي يجب أن تتضمنها دراسة األمن القومي‪ .‬كما أنه يوضح بعض العناصر األساسية التي يجب أن تتم‬
‫دراستها من أجل فهم سياسة األمن القومي وتقييمها‪ ،‬وذلك من خالل وضع هذه العناصر في إطار مفاهيمي‬
‫ينظم العالقة بين المتغيرات‪ .‬وتتمثل أهم تلك العوامل فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬القيم والمصالح القومية األمريكية‪:‬‬
‫تهدف "سياسة األمن القومي" إلى حماية القيم الوطنية وتعزيزها‪ .‬وتبدو تلك القيم غامضة ومجردة‬
‫بطبيعتها‪ ،‬إال أنها مهمة لتحديد سياسة األمن القومي‪ ،‬ألن القيم تشكل الجوهر األساسي لدولة ما‪ ،‬وتحدد‬
‫الصفة األساسية التي يتصف بها مجتمع ما‪.‬‬
‫إن القيمة الوطنية األساسية هي البقاء‪ .‬وبدون البقاء ال يمكن لدولة أن تحقق أيًا من القيم األخرى‪،‬‬
‫ويتضمن البقاء حماية السكان والتكامل اإلقليمي والسيادة‪ .‬والبقاء المادي ال يكفي في حد ذاته‪ ،‬فالبد‬
‫للمجتمع أن يحافظ على قيمه األخرى من أجل اإلبقاء على السمات المميزة له‪ .‬وعلى سبيل المثال فإن من‬
‫أمثلة القيم الموجودة في الواليات المتحدة العدالة والحرية والحفاظ على مجتمع ديموقراطي‪ .‬وهذه القيم‬
‫باإلضافة إلى قيم أخرى مثل الرخاء والمكانة االجتماعية وحماية إيديولوجية األمة تحدد السمات المميزة‬
‫للمجتمع‪ ،‬وتقدم األساس لتطور سياسة األمن القومي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن سياسة األمن القومي ُيعتقد منطقيًا أنها مأخوذة من هيكل قيمي ُمَعّر ف بدقة‪ ،‬فإن هناك‬
‫صراعات ال يمكن تجنبها تحدث بين القيم‪ .‬وقد وصف صمويل هنتنجتون تلك المشكلة بوضوح حينما قال‪:‬‬
‫(إن النقطة األساسية فيما يتعلق بالسياسة العسكرية هي عالقات توازن القوى فيما بينها وبين األهداف‬
‫الوطنية‪ .‬فاألخيرة تتصارع وغالبًا ما يتم التوصل إلى تسويات‪ .‬وعلى سبيل المثال فإن الحفاظ على‬
‫حريات األفراد قد يتصارع مع الرغبة في تأكيد األمن العام في مواجهة الحمالت اإلرهابية‪ ،‬أو أن حماية‬
‫‪15‬‬
‫الدول الديموقراطية األخرى يمكن أن يفاقم من التهديد للبقاء المادي للواليات المتحدة)‪.‬‬
‫كما أنه من الصعوبة أن ُتحدد على سبيل الدقة األهمية النسبية لقيم معينة‪ ،‬وبالتالي يصعب التحديد الدقيق‬
‫لكيفية تأثير تلك القيم على السياسات التي تتبناها دولة ما‪ .‬وعندما ال يكون واضحًا أن السياسات تدعم قيمة‬

‫‪Frank N, Trager and Frank L.Simone, "An Introduction to the Study of National‬‬
‫‪14‬‬

‫‪Security" in Frank Tager and Phillip S.Krorenberg (ed.), National Security and‬‬
‫‪American Society: Theory, Process and Policy (Lawrence: University of Kansas‬‬
‫‪Press, 1973), p.36.‬‬
‫‪Samuel Huntington, The Common Defense (New York: Colombia University Press, 15‬‬
‫‪.1961), p.2‬‬

‫‪125‬‬
‫معينة‪ ،‬فإن ذلك يرجع إلى وجود قيم متصارعة تم أخذها في االعتبار‪ .‬وال يقتصر األمر على وجود‬
‫تصارع بين القيم التي تتبناها دولة ما‪ ،‬فقد يحدث تصارع بين الهيكل القيمي لكل من الدولة والحكومة‪.‬‬
‫ولذلك يبدو من المهم أن يتم تحديد القيم التي ينبغي حمايتها‪ .‬إن تلك القيم بمثابة انعكاس لإلرادة الجماعية‬
‫للناس‪ ,‬وبالتالي رؤية الدولة القومية كعامل موحد‪ .‬وتؤكد الطبيعة الجماعية لديموقراطية ما أنه ليست لدى‬
‫كل الجماعات في الدولة أولويات متماثلة‪ .‬وهذه التعددية تتسبب في هيكل قيمي لدولة ديموقراطية يتم‬
‫تحديده من خالل المنافسة والتسويات التي يتم التوصل إليها بين الجماعات‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بالدول السلطوية‪ ،‬فقد يكون هناك انفصال بين القيم التي تعتنقها الجماهير‪ ،‬ومعتقدات القادة‬
‫الذين يحددون ما يتم اتباعه من سياسات‪ .‬وفي هذه الحالة تقوم المجموعة الحاكمة بتحديد القيم الوطنية‪.‬‬
‫ونتيجة لذلك فإن بقاء نظام معين ُينظر إليه على أنه هدف أكثر أهمية من بقاء المجتمع ككل‪ .‬وعلى سبيل‬
‫المثال فقد بدا أن هتلر يرغب في التضحية بالمجتمع األلماني من أجل اإلبقاء على النظام النازي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن حماية القيم الوطنية ُتعد هدفًا لسياسة األمن القومي‪ ،‬فالبد من ترجمة تلك القيم إلى‬
‫شئ أقل تجريدًا ويرتبط بمواقف معينة حتى يمكن اعتباره أساسًا التباع سياسة معينة‪ .‬ومن خالل الربط بين‬
‫القيم والبيئتين المحلية والدولية يمكن لصانعي السياسة أن يعرفوا مصالح معينة كأهداف محددة يمكن أن‬
‫تطمح السياسة إلى تحقيقها‪.‬‬
‫يمكن أن يتم وصف المصالح على أنها الظروف التي تحاول األمة تحقيقها أو الحفاظ عليها في كل من‬
‫البيئتين الدولية والمحلية‪ .‬وبالتالي فإن المصالح تقدم رابطًا ما بين القيم والسياسات‪ .‬وهناك مثال ُيظهر‬
‫العالقة ما بين القيم والمصالح من خالل السياسة األمريكية تجاه منطقة الخليج العربي خالل أزماته الثالثة‪.‬‬
‫فال شك أن التدفق الحر للنفط من منطقة الخليج العربي يمثل مصلحة حيوية للواليات المتحدة‪ .‬وتتمثل تلك‬
‫المصلحة في الحفاظ على قيمة أساسية هي الرخاء‪ .‬فبدون النفط تتعرض الواليات المتحدة إلى حالة من‬
‫الضعف االقتصادي‪ ،‬وإ ذا ضعف االقتصاد األمريكي فإن حالة الرخاء التي يعيشها المواطنون األمريكيون‬
‫ستتراجع‪ ،‬ومن هنا يبدو واضحًا كيف يمكن أن تكون المصالح نابعة من القيم الوطنية‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫وتشير األدبيات األمريكية إلى ثالث نقاط مهمة يجب أخذها في االعتبار عند دراسة المصالح القومية‪:‬‬
‫‪17‬‬

‫أ‪ -‬المصالح القومية ليست مهمة في حد ذاتها‪ ،‬ولكنها تكون مهمة فقط إذا ساهمت في تحقيق القيم القومية‪.‬‬
‫ويجب على صانعي السياسة والمحللين أن ينتبهوا إلى ضرورة تجنب التركيز على المصالح على أنها‬
‫أهداف نهائية في حد ذاتها بدًال من اعتبارها أهدافًا وسيطة‪ ،‬حتى ال يتسبب ذلك في صياغة سياسات ال‬
‫تساهم في تحقيق القيم الوطنية‪ ،‬وقد تؤدي إلى نتائج عكسية‪.‬‬
‫ب‪ -‬المصالح مثل القيم يمكن أن تتصارع مع بعضها البعض ويجب أن يتم التوفيق بينها من خالل تحديد‬
‫األولويات والقيام بتسويات مقبولة‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫‪Daniel J.Kaufman& Jeffrey S.Mctrick& Thomas J.Leney, U.S. National Security A‬‬
‫‪Framework for Analysis, op., cit, p.7.‬‬
‫‪17‬‬
‫‪Ibid.‬‬

‫‪126‬‬
‫ج‪ -‬غالبًا ما يتم تبرير السياسة على أنها حماية للمصالح الحيوية‪ ،‬وهي تلك المصالح المرتبطة بالقيم األكثر‬
‫أهمية‪ .‬وعلى الرغم من أن البعض يعّر ف المصالح الحيوية على أنها تلك المصالح التي يمكن استخدام‬
‫القوة العسكرية من أجل حمايتها‪ ،‬فإن هذا التعريف يمكن أن يأخذ اتجاهًا عكسيًا‪ ،‬وهو أن من األكثر مالءمة‬
‫أن يتم النظر إلى استخدام القوة العسكرية كشئ مبرر فقط عندما يتم ذلك من أجل حماية المصالح الحيوية‪.‬‬
‫وألن المصالح القومية يتم تعريفها على أنها نتاج التفاعل بين القيم وكل من البيئتين الدولية والمحلية‪ ،‬فإن‬
‫الخطوة التالية في تحليل سياسة األمن القومي هي فحص العناصر البيئية المحلية والدولية التي تتحد مع‬
‫المصالح القومية لتشكل السياسة القومية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن هذه العوامل البيئية المحلية والدولية ال تحدد الكيفية التي من خاللها تختار دولة ما‬
‫سياستها أو العوامل التي تحفزها على اتباع سياسة معينة من خالل تقليل المزايا الخاصة ببعض خيارات‬
‫السياسة في مقابل الدفاع عن خيارات أخرى‪ ،‬إال أن الرابطة بين البيئتين المحلية والدولية هي اآلن أقوى‬
‫مما كانت عليه في الماضي‪ ،‬ألن السياسة المحلية أصبحت تخضع لتأثيرات دولية بدرجة أكبر‪ .‬وعلى‬
‫سبيل المثال‪ ،‬فإن قرار زيادة أسعار الفائدة قي الواليات المتحدة يؤثر على الرفاهة االقتصادية لدول غرب‬
‫أوروبا من خالل نقل استثمار رأس المال من أسواقها‪ .‬كما أن قرارًا بتقليل اإلنفاق الدفاعي األمريكي من‬
‫أجل ضبط الموازنة يؤثر على األمن األوروبي والثقة األوروبية في منظمة حلف شمال األطلنطي (الناتو)‪.‬‬
‫ومن أبرز األمثلة على أن البيئة الدولية أصبح لها خالل العقود األخيرة تأثير أكبر مما كان عليه الحال‬
‫في الماضي على المصالح الداخلية الحيوية قرار منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) حظر تصدير النفط‬
‫إلى الدول المؤيدة إلسرائيل‪ ،‬وما تسبب فيه من تأثير سلبي على االقتصاديات الغربية‪ .‬وكانت النتيجة‬
‫الواضحة لهذا الربط بين البيئتين المحلية والدولية هي زيادة القلق بشأن أحداث تحدث على بعد آالف‬
‫األميال عن الواليات المتحدة‪.‬‬
‫‪ -2‬البيئة الدولية‪:‬‬
‫يمكن التعرف على عدد من التأثيرات المهمة على سياسة األمن القومي من خالل دراسة البيئة الدولية‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫ويقسم بعض الباحثين تلك التأثيرات إلى نوعين أساسيين‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬خاص بدولة معينة‪ ،‬أي التأثير على العالقات بين الواليات المتحدة والدول األخرى بشكل‬
‫انفرادي‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬نظامي‪ ،‬ويؤثر على مجتمع الدول بأكمله‪.‬‬
‫تتأثر العالقات بين الدول بكل من الجغرافيا واإليديولوجيا‪ ،‬فالدول تميل إلى توجيه قدر أكبر من االهتمام‬
‫بالدول المجاورة أو القريبة من الموارد الحيوية أو خطوط االتصال‪ .‬وُتعد سياسة األمن القومي إلى حد‬
‫كبير رد فعل على التهديدات المدركة في البيئة الدولية‪ ،‬ومستوى التهديد تحدده مقدرات الخصوم المحتملين‬
‫ونواياهم‪ .‬وألن من الصعب تحديد النوايا بدقة‪ ،‬باإلضافة إلى إمكانية حدوث تغيير في تلك النوايا بسرعة‪،‬‬
‫‪18‬‬
‫‪Ibid, pp.8-11.‬‬

‫‪127‬‬
‫فإن صانعي السياسة مجبرون على التركيز على المقدرات‪ ،‬وهي على الرغم من سهولة مالحظتها‪ ،‬فإن‬
‫عدم الثقة الناتج من عدم القدرة على تحديد المستوى الحقيقي و الدقيق لتلك المقدرات يمكن أن يؤثر سلبًا‬
‫على سياسة األمن القومي‪ ،‬حيث يمكن أن يقود إلى افتراض البديل األسوأ بسبب التكاليف المحتملة الناتجة‬
‫عن خطأ في الحسابات‪ .‬وعلى الرغم من أن تهديد األمن القومي لدولة ما يتأثر بقدرات ونوايا الخصوم‬
‫المحتملين‪ ،‬فإن إدراك التهديد يتسبب في استنتاجات سياسية‪ .‬وُيحدد هذا اإلدراك من خالل قيمة المعلومات‬
‫التي جمعتها أجهزة االستخبارات الوطنية عن الدول األخرى‪ ،‬وبالتالي ُيعد عنصرًا مهمًا في تحديد‬
‫السياسة‪ ،‬وتتحدد درجة الدقة التي يمكن من خاللها تحديد التهديد من خالل مدى اقتراب المفاهيم‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى تحديد أفضل ردود فعل ممكنة‪.‬‬
‫إن كثيرًا من المواقف السياسية منبعها عدم االتفاق بشأن تحديد نوايا الخصوم‪ .‬وإ ذا كانت الواليات‬
‫المتحدة تدرك أن دولة ما هي عدوانية بطبيعتها‪ ،‬فإنها تعتبر ذلك مبررًا للتعامل مع أية زيادة يمكن أن‬
‫تحدث في القدرات العسكرية لتلك الدولة أو لألعمال التي تزيد قوتها العسكرية‪ .‬والبد من إقناع الخصوم‬
‫بأن الواليات المتحدة قادرة وراغبة في شن حرب بسبب صراعات المصالح‪ ،‬فالصراعات تصبح اختبارات‬
‫للعزيمة‪ ،‬والتنازالت التي ُتقدم قد يتم إدراكها على أنها ضعف يمكن أن يشجع على حدوث عدوان مستقبلي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن إظهار اإلرادة يمكن أن يكون عنصرًا فعاًال في ردع خصم ما عن القيام بعدوان‪ ،‬فقد‬
‫تكون له آثار عكسية إذا قامت الدولة األخرى بتصرف سريع مضاد بدافع من عدم األمان‪ .‬وإ ذا كان الهدف‬
‫األساسي لسياسة األمن القومي هو مواجهة التهديدات العسكرية‪ ،‬فليست كل التهديدات تأخذ هذا الشكل‪ ،‬فقد‬
‫يتم تهديد األمن من خالل القيام بأعمال اقتصادية مثل منع االقتراب من الموارد الطبيعية الحيوية‪ ،‬كما أن‬
‫التحديات اإليديولوجية من معتدين محتملين يمكن أن يتم إدراكها كتهديدات للنفوذ المستمر للواليات المتحدة‬
‫حول العالم‪ ،‬وقد تتسبب في تشكيل سياسات لمواجهة مثل تلك التحديات‪ .‬ويمكن أن يتحقق الردع من مجرد‬
‫امتالك القدرات التي يمكن استخدامها لمعاقبة معتدي من خالل الهجوم على أرضه وسكانه وممتلكاته‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫إن العناصر الباقية في البيئة الدولية التي تؤثر على سياسة األمن القومي يمكن أن ُتعتبر نظامية وذلك‬
‫ألن لها تأثيرًا أكثر عمومية‪ .‬ففي ظل غياب حكومة عالمية‪ ،‬فإن الدول تعيش في حالة من الفوضوية‪،‬‬
‫ودرجة الفوضوية تحددها العالقات االقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية بين الدول‪ .‬وُتعد كل دولة‬
‫هي الضامن الوحيد ألمنها القومي‪ .‬وفي بيئة فوضوية تكون الدول حرة في السعي لتحقيق أهدافها طالما أن‬
‫مصالحها وقدراتها تسمح بذلك‪ .‬ويتوقف نجاحها في تحقيق أهدافها على قوة الدول األخرى‪.‬‬
‫إن الجهود التي ُبذلت من أجل فرض النظام في البيئة الدولية من خالل تأسيس منظمات دولية مثل األمم‬
‫المتحدة لم تحقق النجاح‪ .‬ونتيجة لكون سيادة الدول هي التي تحدد حرية العمل الوطنية‪ ،‬فإن الدول تتجنب‬
‫االعتماد الكامل على األمن الجماعي أو المنظمات الدولية ألن مثل هذا االعتماد يتطلب االستغناء عن قدر‬

‫‪19‬‬
‫‪Glenn Snyder, Deterrence and Defense: Toward a Theory of National Security,‬‬
‫‪(Princeton, Princeton University Press, 1961), p.9.‬‬

‫‪128‬‬
‫من السيادة‪ .‬وعلى الرغم من أن الجهود التي تبذلها منظمات دولية مثل األمم المتحدة لم يكن لها سوى تأثير‬
‫محدود على تطور السياسة األمنية‪ ،‬فإن العالقات الدولية األخرى مثل التحالفات تلعب دورًا رئيسيًا‪.‬‬
‫إن التحالفات مهمة لفهم سياسة األمن القومي‪ ،‬حيث يمكن من خاللها للدول أن تضاعف من قوتها‪،‬‬
‫وتحاول أن تقترح بعض النظام على البيئة الدولية‪ .‬فالتحالفات يتم تشكيلها وفقًا للمصالح المتبادلة‪ ،‬حتى وإ ن‬
‫لم تكن دائمًا متطابقة‪ ،‬فمن خالل الوعد بتجميع الموارد في مواجهة تهديد مشترك‪ ،‬فإن شركاء التحالف‬
‫يأملون في الحصول على نفوذ أو تحقيق المصالح التي ال يستطيعون تحقيقها بشكل انفرادي‪.‬‬
‫وألن البعد السياسي في البيئة الدولية يتحدد من خالل المنافسة والتعاون‪ ،‬فكذلك البعد االقتصادي للبيئة‬
‫الدولية الذي تحدده المنافسة على الموارد المحدودة وتبادل السلع والخدمات بين الدول‪ .‬وتعتمد الواليات‬
‫المتحدة في تحقيق رخائها االقتصادي على ما يتم استيراده من الدول األخرى من موارد‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫عملها على إيجاد أسواق خارجية لما تنتجه من سلع وخدمات‪ .‬وقد أدت هذه العوامل إلى أن الواليات‬
‫المتحدة أصبحت لديها مصالح في مختلف أنحاء العالم‪ ،‬مثل االقتراب من النفط وحرية التنقل في البحار‪.‬‬
‫وهناك مخاوف أخرى مثل تضاءل الموارد غير المتجددة في ظل الطلب الممتد‪ ،‬والتدهور البيئي‪،‬‬
‫والزيادات السكانية‪ ،‬مما قد يكون له تأثير على سياسة األمن القومي‪ .‬وُيعد التصدي لتلك المخاوف في‬
‫طبيعته مسألة غير عسكرية ولكنه في الواقع يتطلب التنافس على الموارد‪ ،‬وذلك من خالل سياسات ُص ممت‬
‫لمواجهة التهديدات العسكرية‪.‬‬
‫إن التغييرات في البيئتين الدولية والمحلية يمكن أن تحدث بفعل التكنولوجيا‪ ,‬والتي تشكل قدرات األمن‬
‫القومي لدولة ما‪ ،‬وكذلك قدرات الخصوم المحتملين‪ .‬إن التطور األكثر أهمية يتمثل في اختراع األسلحة‬
‫النووية التي جعلت بقاء الواليات المتحدة في خطر للمرة األولى‪ .‬وقد جعلت اإلمكانية التدميرية الهائلة‬
‫لألسلحة النووية تكلفة شن حرب نووية باهظة إلى الحد الذي أصبح فيه الردع هدفًا أساسيًا لسياسة األمن‬
‫القومي‪.‬‬
‫‪ -3‬البيئة المحلية‪:‬‬
‫توجد عوامل محلية تؤثر على خيارات سياسة األمن القومي‪ .‬فمن أجل فهم أسباب تبني سياسة ما‪ ،‬من‬
‫المهم فهم الطريقة التي ترى بها دولة ما العالم‪ ،‬والظروف االقتصادية التي تفرض قيودًا على النفقات‬
‫‪20‬‬
‫الدفاعية‪ ،‬والقيود السياسية التي تشكل المصالح وتؤثر على السياسة‪.‬‬
‫وتتفاعل البيئة المحلية مع قيم المجتمع وتشكل المصالح القومية‪ .‬ويمكن أن ُينظر إلى البيئة المحلية من‬
‫خالل أبعاد ثالثة واسعة‪ :‬اجتماعية واقتصادية وسياسية‪ .‬وداخل هذه األبعاد توجد متغيرات محلية تؤثر‬
‫على تشكيل سياسة األمن القومي‪ .‬وهذه المتغيرات تؤثر بصفة أساسية على توزيع الموارد (الموارد‬
‫البشرية‪ ،‬األموال‪ ،‬المواد الخام‪ ،‬ودرجة التأييد العام للسياسات األمنية)‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪Ibid, p.11-14‬‬

‫‪129‬‬
‫إن األبعاد االجتماعية للبيئة المحلية لها أصولها في الخبرة التاريخية للدولة‪ ،‬ودرجة الوحدة الوطنية‪،‬‬
‫والجغرافيا‪ ،‬والسكان‪ .‬ويعد اتجاه الرأي العام بشأن قضايا األمن القومي والرغبة في استخدام القوة‬
‫العسكرية تعبيرًا عن تلك العوامل االجتماعية‪ ,‬ويتأثر الرأي العام بعوامل ثقافية ووسائل جماهيرية‬
‫والفاعلين المهمين في البيئة المحلية‪ .‬كما أن جماعات المصالح ُتعد قوة سياسية أخرى في البيئة المحلية‬
‫ذات تأثير على سياسة األمن القومي‪.‬‬
‫وُتعد العوامل االقتصادية في البيئة المحلية من العناصر المهمة في قرارات توزيع الموارد الضرورية‬
‫لتنفيذ سياسة األمن القومي‪ .‬وتحدد درجة التصنيع وقوة االقتصاد حجم الموارد التي يمكن استخدامها في‬
‫البرامج‪ .‬ويمكن أن يكون للنفقات الدفاعية تأثير على االقتصاد األمريكي‪ ،‬وذلك من خالل تأثيرها على‬
‫التضخم والعمالة وأنماط اإلنفاق‪ .‬فالمستويات الكبيرة من اإلنفاق والممتدة لفترة زمنية طويلة يمكن أن‬
‫تكون لها تأثيرات خطيرة على النمو االقتصادي‪ ،‬ويؤدي إلى تراجع جهود حماية المصالح والقيم األخرى‪,‬‬
‫فعند نقطة ما يمكن أن تتجاوز تكلفة تحقيق األمن القومي الفوائد المدركة‪ ،‬خاصة عندما يكون من الصعب‬
‫تحديد الفوائد‪.‬‬
‫يتكون البعد السياسي للبيئة المحلية من عناصر ُتقدم األساس للهيكل والعملية التي من خاللها يتم صنع‬
‫سياسة األمن القومي‪ ،‬حيث إن نمط النظام السياسي والتوجه اإليديولوجي للمجتمع يحددان إلى حد كبير‬
‫كيفية تنظيم الحكومة‪ ،‬والتي تؤثر بدورها على الكيفية التي ُتصنع بها قرارات األمن القومي‪.‬‬
‫إن الطبيعة الديموقراطية والتعددية للنظام السياسي األمريكي‪ ،‬والتي ترمز إليها المنافسة بين الجماعات‬
‫على النفوذ والالمركزية السياسية كما تم تأسيسها من خالل التقسيم الدستوري للقوى بين الفرعين التشريعي‬
‫والتنفيذي هما اللتان تضعان األطر لعملية اتخاذ القرار‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬أبعاد سياسة األمن القومي‪:‬‬
‫يصف دافيد إيستون السياسة بأنها "نتاج النظام السياسي لبلد ما"‪ 21.‬فالنظام السياسي ينتج مجموعة كبيرة‬
‫متنوعة من السياسات التي يمكن تصنيفها إلى سياسات محلية أو سياسات خارجية وذلك وفقًا للبيئة التي يتم‬
‫التفاعل معها‪ ،‬وبالتالي فإن سياسة األمن القومي تخضع لتأثير كل من البيئتين المحلية والدولية وكنتيجة‬
‫لذلك فإنها تشمل تلك العناصر في كل من البيئة المحلية والسياسة الخارجية التي تؤثر على أمن دولة‬
‫واحدة‪ .‬وتتضمن سياسة األمن القومي نطاقًا واسعًا من التفاعالت السياسية‪ ،‬والتي تتراوح ما بين التعاون‬
‫والعنف‪.‬‬
‫تنبع المصالح من التفاعل بين القيم القومية والبيئتين المحلية والدولية‪ ،‬ولذلك يوجد تداخل واضح بين‬
‫السياسات المحلية والخارجية‪ ،‬كما يوضح الشكل التالي‪:‬‬
‫الشكل رقم (‪)1‬‬

‫‪David Easton, A Framework for Political Analysis, Englewood Cliffs, N.J.:‬‬


‫‪21‬‬

‫‪Prentice- Hall, 1965, Chap.7.‬‬

‫‪130‬‬
‫تداخل السياسة‬

‫سياسة األمن القومي‬


‫السياسة الداخلية‬ ‫السياسة الخارجية‬

‫وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإن السياسات التجارية للواليات المتحدة األمريكية تؤثر على عالقاتها بالدول‬
‫األخرى‪ ،‬كما أن لها تأثيرًا كبيرًا على ازدهار الصناعات المحلية‪ .‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬فإن التغييرات في‬
‫اإلنتاج المحلي تؤثر على الرفاهية االقتصادية للواليات المتحدة وعلى عالقاتها بالدول األخرى‪.‬‬
‫تحدد كل من أهمية المصلحة‪ ،‬ودرجة التهديد‪ ،‬وقدرات الدولة نمط السياسة الذي سيتم اتباعه‪ .‬وتوجد‬
‫ثالثة أبعاد لسياسة األمن القومي‪ :‬دبلوماسية واقتصادية وعسكرية‪ ،‬وبيانها كالتالي‪:‬‬
‫‪ -1‬السياسة الدبلوماسية‪:‬‬
‫تختص السياسة الدبلوماسية بالتعامل مع العالقات السياسية بين الدول‪ ،‬حيث ُتعد الدبلوماسية وسيلة‬
‫أساسية في تطوير العالقات بين الدول والحفاظ عليها‪ ،‬وهي الميكانيزم الذي تم استخدامه كثيرًا للتفاعالت‬
‫الدولية‪ ،‬وُتعد عنصرًا مهمًا في االتصاالت‪.‬‬
‫إن الهدف األساسي للسياسة الدبلوماسية هو الحفاظ على قوة التحالفات والتأكد من أنها تساهم في تحقيق‬
‫المصالح القومية‪ .‬فحتى القوى العظمى مثل الواليات المتحدة األمريكية ال تمتلك الموارد التي تمكنها من‬
‫تحقيق مصالح أمنها القومي بمفردها‪ ،‬والتحالفات الدولية القوية مهمة لردع العدوان‪ ،‬حيث يمكنها أن تقلل‬
‫‪22‬‬
‫من الفوضوية الدولية من خالل أنشطة شركاء التحالف‪.‬‬
‫‪ -2‬السياسة االقتصادية‪:‬‬
‫العناصر األساسية للسياسة االقتصادية التي تركز على البيئة الدولية هي المساعدات األجنبية والعقوبات‬
‫االقتصادية وعمليات نقل السالح والتكنولوجيا النووية وغير النووية‪ .‬وهناك أيضًا سياسات اقتصادية تؤثر‬
‫‪23‬‬
‫على البيئة المحلية مثل حماية الصناعات األساسية ومخزون الموارد اإلستراتيجية‪.‬‬
‫‪ -3‬السياسة العسكرية‪:‬‬
‫تكون السياسة الدبلوماسية واالقتصادية في العديد من الحاالت كافية لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها‬
‫األمن‪ .‬وينبغي أن تكون الدولة مستعدة لتشغيل قواتها المسلحة‪ ،‬إما إلجبار الخصوم إذا فشلت جهودها في‬
‫إقناعهم‪ ،‬أو للدفاع عن نفسها ضد استخدام القوة من جانب دول أخرى‪ .‬والهدف من استخدام القوة العسكرية‬
‫أو التهديد باستخدامها هو توفير مناخ مالئم للحلول السياسية‪ ،‬ولذلك فإن استخدام القوة العسكرية يجب أن‬
‫يهدف إلى تحقيق كل من األهداف السياسية والعسكرية (فالحرب هي امتداد للسياسة)‪.‬‬
‫‪Daniel J.Kaufman & Jeffrey S.Mctrick & Thomas J.Leney, U.S. National Security‬‬
‫‪22‬‬

‫‪A Framework for Analysis, op., cit., pp. 19-21.‬‬


‫‪23‬‬
‫‪Ibid, pp.21-22.‬‬

‫‪131‬‬
‫وهناك مكونان أساسيان للسياسة العسكرية‪ ،‬هما‪:‬‬

‫أ‪ -‬اإلستراتيجية العسكرية‪:‬‬


‫يمكن تعريف اإلستراتيجية العسكرية بأنها خطة الستخدام القوة العسكرية‪ ،‬باإلضافة إلى المبادئ التي‬
‫تحدد كيفية استخدام تلك القوة‪ ،‬وتحدد اإلستراتيجية العسكرية الهدف من استخدام القوات المسلحة ومهامها‬
‫واألماكن التي ستنشر فيها‪ .‬وهي غالبًا ما تكون نتيجة لما يحدث من تقييم داخل نظام األمن القومي لعناصر‬
‫مثل المصالح القومية‪ ،‬وطبيعة التهديدات العسكرية الموجهة لتلك المصالح‪ ،‬ومساهمات الحلفاء‪.‬‬
‫ب‪ -‬هيكل القوة‪:‬‬
‫يشير هيكل القوة إلى التشكيالت والجنود والمعدات في القوات المسلحة وحدود قدرتها على تنفيذ‬
‫إستراتيجية عسكرية‪ .‬وتحدد قرارات هيكل القوة القدرات التي ستكون متاحة لتنفيذ قرارات إستراتيجية‪،‬‬
‫وبالتالي تؤثر على ما يمكن فعله‪ .‬وهو يتأثر بالبيئة المحلية من خالل قرارات تخصيص الموارد وكذلك‬
‫‪24‬‬
‫يتأثر بالبيئة الدولية من خالل توسط اإلستراتيجية‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬نظام األمن القومي‪ :‬الهياكل والعمليات‪:‬‬


‫ُيعد فهم هياكل وعمليات صنع قرار األمن القومي من األمور الضرورية لشرح كيفية ترجمة القيم‬
‫والمصالح إلى سياسات معينة‪ .‬وكما قال صمويل هنتنجتون فإن‪" :‬السياسة ليست نتيجة استنتاجات نابعة‬
‫من تعريف واضح للهدف القومي‪ ،‬فهي نتيجة المنافسة بين أهداف متعارضة لألفراد والجماعات‪ ،‬كما‬
‫‪25‬‬
‫أنها ليست نتيجة للمنطق وإ نما نتيجة للسياسات"‪.‬‬
‫ُتحدد هذه المنافسة من يشارك في القرارات السياسية‪ ،‬والمعلومات التي يتم أخذها في االعتبار‪،‬‬
‫والخيارات التي يتم دراستها‪ ،‬وكيفية تنفيذ تلك القرارات‪.‬‬
‫‪ -1‬الهياكل‪:‬‬
‫تشير الهياكل إلى المؤسسات التي تتخذ قرارات سلطوية في القضايا ذات الصلة باألمن القومي‪ ،‬والتي‬
‫تشمل كيانات مثل مجلس األمن القومي ‪ ، National Security Council‬ووزارة الدفاع‪،‬‬
‫والكونجرس‪ ،‬وغيرها من الكيانات التي سيتم دراستها بالتفصيل في المبحث الثالث‪.‬‬
‫وهناك عوامل متعددة تحدد هيكل صنع القرار‪ ،‬من أهمها الدستور والتشريع‪ ،‬واللذان يحددان‬
‫مسئوليات الرئيس والكونجرس وسلطة كل منهما في تحديد سياسة األمن القومي‪ ،‬فالتشريع يدعم الدستور‬
‫ويحدد لدرجة ما الفاعلين النسبيين وأدوارهم المتعددة في العمليات السياسية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪Samuel Huntington, The Common Defense (New York: Columbia University Press,‬‬
‫‪1961), p.2.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪Ibid.‬‬

‫‪132‬‬
‫‪ -2‬العمليات‪:‬‬
‫تتكون العمليات من سلسلة من األفعال وردود األفعال داخل الهيكل المؤسسي‪ ،‬والتي تتحد لتشكل‬
‫السياسة‪ .‬ويمكن تحديد المراحل التي تتم في هذه العملية فيما يلي‪ :‬تعريف القضية‪ ،‬التخطيط‪ ،‬اتخاذ‬
‫القرار‪ ،‬التنفيذ‪ ،‬والتقييم‪ .‬إن إنجاز هذه المهام بكفاءة يتأثر بشكل مباشر بالهيكل المؤسسي‪ .‬وألن كل‬
‫سياسة لها عمليتها الخاصة‪ ،‬فإن نظام األمن القومي هو تجميع لتلك العمليات داخل إطار الهيكل‬
‫‪26‬‬
‫المؤسسي‪.‬‬
‫ويؤثر نمط القرار على العملية‪ .‬فبسبب الوقت المحدود المتاح‪ ،‬فإن قرارات األزمة يتم صنعها بواسطة‬
‫هيكل وعمليات مختلفة عن تلك التي يتم استخدامها في القرارات الروتينية‪ .‬ويمكن تصنيف القرارات إلى‬
‫‪27‬‬
‫نوعين أساسيين وهما‪:‬‬
‫أ‪ -‬القرارات اإلستراتيجية‪:‬‬
‫القرارات اإلستراتيجية موجهة للبيئة الدولية‪ ،‬وتخضع لتأثير السلطة التنفيذية‪ ،‬ومن بينها اتخاذ قرار‬
‫استخدام القوات المسلحة‪.‬‬
‫ب‪ -‬القرارات الهيكلية‪:‬‬
‫القرارات الهيكلية موجهة للبيئة السياسية المحلية‪ ،‬خاصة ما يتعلق بالبعد االقتصادي‪ ،‬وهي تخضع‬
‫لنفوذ الكونجرس وعدد من الفاعلين خارج نطاق الحكومة‪ ،‬مثل جماعات المصالح‪.‬‬
‫وال ينبغي أن يقتصر االهتمام على دراسة مؤسسات صنع سياسة األمن القومي وإ دارتها ومدى فعالية‬
‫هذه المؤسسات فحسب‪ ،‬وإ نما ينبغي االهتمام بدراسة العالقة بين تلك المؤسسات والشخصيات التي تشغل‬
‫مراكزها القيادية‪ ،‬وتحليل عالقة التفاعل بين صانعي السياسة الخارجية وبيئة النظام الداخلية والخارجية‪،‬‬
‫وذلك ألن استجابة صانعي سياسة األمن القومي قد ال تعكس بالضرورة حقائق الموقف الموضوعية وإ نما‬
‫قد تعكس إدراك هؤالء للموقف‪ ،‬بمعنى أن صانعي السياسة يتصرفون وفقًا إلدراكهم للواقع وليس‬
‫استجابة للواقع نفسه رغم أن إدراكهم هذا قد يكون مشوهًا أو غير كامل‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫وإ دراك صانعي السياسة للبيئة يتأثر بعدد من العوامل أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬عوامل تنبع من الخصائص االجتماعية والصفات المزاجية ونظام المعتقدات لدى صانعي السياسة‪.‬‬
‫ويشمل نظام المعتقدات عددًا من التصورات المترابطة عن البيئتين الداخلية والخارجية‪ .‬ويلعب نظام‬
‫المعتقدات دورًا مهمًا في العملية اإلدراكية‪ ،‬فهو يقوم في هذا الصدد بمهمتين‪:‬‬
‫أ‪ -‬مهمة مباشرة هي تحديد األهداف وتنظيم األولويات‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪Daniel J.Kaufman & Jeffrey S.Mctrick & Thomas J.Leney, U.S. National Security‬‬
‫‪A Framework for Analysis, op., cit., pp. 14-15.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪Ibid, p.16.‬‬
‫‪ 28‬هالة أبو بكر سعودي‪ ،‬السياسة األمريكية تجاه الصراع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.140‬‬

‫‪133‬‬
‫ب‪ -‬مهمة غير مباشرة هي تنظيم اإلدراكات‪ ،‬فهو يمثل مجموعة المرشحات التي يتم من خاللها استقبال‬
‫معلومات عن البيئة المادية واالجتماعية المحيطة‪ ،‬ويقوم بعملية تصفية واختيار وإ عادة تنظيم‪ .‬وينبع ذلك‬
‫من ميل الشخص ألن يستوعب المدركات المماثلة للمدركات المعتادة لديه‪ ،‬أو أن يشوه تلك المدركات‬
‫ليقلل من التصادم بينها وبين توقعاته السابقة‪.‬‬
‫‪ -2‬عوامل تنبع من طبيعة المناصب التي يحتلها صانعو السياسة في أجهزة صنع السياسة والقيم‬
‫والمعتقدات السائدة في تلك األجهزة أو ما ُيعرف "بتوقعات الدور" التي تؤثر في شغل مناصب معينة‪.‬‬

‫خالصة ما سبق أنه من أجل فهم العملية السياسية‪ ،‬من المهم معرفة الفاعلين وكيفية مشاركتهم‪ .‬ويمكن‬
‫تقسيم الفاعلين إلى نوعين أساسيين‪ :‬منظمات وأفراد‪ .‬والبد لصانعي القرار أن يعتمدوا على‬
‫البيروقراطيات بدرجة كبيرة إلمدادهم بالمعلومات وتحديد القضايا واقتراح الخيارات والبدائل وتحليلها‪.‬‬
‫وبينما تلعب البيروقراطيات دورًا مهمًا في عملية صنع القرار‪ ،‬فإن تلك العملية يصنعها في النهاية أفراد‪.‬‬
‫وتحدد وظيفة الفرد أهميته في عملية صنع القرار‪ ،‬وغالبًا ما يعبر األفراد عن رؤى المؤسسة التي ينتمون‬
‫إليها‪.‬‬
‫يتم التأثير على قرارات السياسة أيضًا بواسطة قيم صانعي القرار‪ .‬فصانعو القرار يمكن أن يفضلوا‬
‫سياسة ما بسبب الفوائد التي تعود من وراء اتباع تلك السياسة على حزب سياسي معين‪ ،‬أو التأثير النابع‬
‫من جماعة مصلحة‪ .‬كما أن اإليديولوجية واألهداف الشخصية مثل زيادة احترام الشخص ونفوذه يمكن‬
‫أن يكون لها تأثير مهم على التفضيالت‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬هيكل صنع القرار في مجال األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‬
‫كانت هناك عدة اقترابات نظرية لدراسة المصادر ذات التأثير على صنع القرار في مجال األمن‬
‫القومي‪ ،‬من بينها النموذج الذي وضعه والكوت وهولتز‪ ،‬والذي حدد ثالثة مصادر ذات تأثير على صنع‬

‫‪134‬‬
‫القرار‪ ،‬وهي‪ :‬البيئة السياسية الداخلية‪ ،‬والديناميكيات التنظيمية ودور الهيئة االستشارية‪ ،‬ودور‬
‫الرئيس‪.29‬‬
‫وقد طور نيومان هذا النموذج من خالل تقسيم البيئة السياسية إلى محتوى سياسي محلي ودولي‪ ،‬مما‬
‫يسمح لهذا النموذج بأن يتضمن كل التأثيرات التي تتم على عملية صنع القرار من جانب السياسات‬
‫‪30‬‬
‫الحكومية واإلدارة الرئاسية والمؤسسات األخرى‪.‬‬
‫ووفقًا لما سبق‪ ،‬فقد حدد نيومان عددًا من العوامل التي اعتبر أنها ذات التأثير األكبر على صنع القرار‬
‫في مجال األمن القومي‪ .‬ومن بين تلك العوامل‪ :‬البيئة السياسية الدولية والمحلية‪ ،‬الديناميكيات الداخلية‬
‫المؤسسية والبيروقراطية للفرع التنفيذي‪ ،‬والنمط القيادي للرئيس‪ ،‬واإلدارة‪ ،‬واإلستراتيجية السياسية‪.‬‬
‫وقد اعتبر نيومان أن الطريقة التي تؤثر من خاللها البيئة السياسية الدولية والمحلية على قرارات األمن‬
‫القومي تبدو واضحة‪ ،‬فاألحداث الدولية والتغير في اتجاهات الرأي العام المحلي وضغوط الكونجرس‬
‫يمكن أن تخلق جميعها مطالب جديدة تؤثر على عملية صنع القرار لإلدارة األمريكية‪.‬‬
‫كما تضع الديناميكيات التنظيمية والبيروقراطية وفقًا لنيومان ضغوطًا شبيهة ذات تأثير على عملية‬
‫صنع القرار‪ .‬فمن المعروف أن تلك القوى المؤسسية والبيروقراطية هي الفاعل الرئيسي في عمل السلطة‬
‫التنفيذية‪ ،‬ولكنها يمكنها فقط أن تؤدي إلى حدوث تغيرات في عملية صنع القرار إذا أدت الضغوط‬
‫السياسية الدولية أو المحلية إلى التأثير على بعض نواحي التنافس المؤسسي أو البيروقراطي من خالل‬
‫تسوية ذلك التنافس أو إعادة تشكيله أو بدئه من جديد‪.‬‬
‫وفيما يلي نبذة عن مؤسسات صنع القرار في مجال األمن القومي في الواليات المتحدة والسلطات التي‬
‫ُيخولها الدستور لكل من تلك المؤسسات‪:‬‬
‫أوًال‪ :‬مؤسسة الرئاسة‪:‬‬
‫ُتعد الرئاسة أهم المؤسسات المشاركة في عملية صنع قرار األمن القومي وإ دارتها‪ ،‬فللرئيس سلطة‬
‫المبادرة واقتراح السياسات وذلك في "رسالة االتحاد" التي ُيقدم فيها توصياته بشأن اإلجراءات التي يراها‬
‫ضرورية ومناسبة لتتحول إلى سياسات (م‪ ،)2/1/1‬كما يخول للرئيس كل السلطات التنفيذية (تطبيق‬
‫التشريعات وتنفيذ السياسات)‪ .‬وفي إطار السياسة العسكرية ينص الدستور على أن الرئيس هو القائد‬
‫األعلى للجيش واألسطول األمريكي‪.‬‬
‫وتتوافر لدى الرئيس مصادر معلومات عن طريق جهاز الرئاسة واإلدارات المعاونة والمخابرات‬
‫المركزية‪ ،‬مما يمكنه من وضع مشروعات السياسات‪ ،‬وبالتالي تتحقق له سلطة المبادرة‪.‬‬

‫‪Charles E.Walcott and Karen M.Hult, Governing the White House (Lawrence:‬‬
‫‪29‬‬

‫‪University Press of Kansas, 1995).‬‬

‫‪William W.Newmann, Managing National Security Policy The President and the‬‬
‫‪30‬‬

‫‪Process (Pittsburgh, University of Pittsburgh Press, 2003), p.6.‬‬

‫‪135‬‬
‫وتشمل مؤسسة الرئاسة كًال من‪ :‬الرئيس األمريكي والمكتب التنفيذي للرئيس‪.‬‬
‫‪ -1‬الرئيس األمريكي‪:‬‬
‫ح‪ll‬دد الدس‪ll‬تور لل‪ll‬رئيس األم‪ll‬ريكي مجموع‪ll‬ة من الس‪ll‬لطات خاص‪ll‬ة ب‪ll‬ه في مج‪ll‬ال األمن الق‪ll‬ومي والش‪ll‬ئون‬
‫الخارجية‪ ،‬ومجموعة أخرى مشتركة بينه وبين الكونجرس‪ .‬وتتمثل السلطات الخاصة ب‪ll‬الرئيس في س‪ll‬لطة‬
‫المب‪ll‬ادرة واق‪ll‬تراح السياس‪ll‬ات‪ ،‬باإلض‪ll‬افة إلى تط‪ll‬بيق التش‪ll‬ريعات وتنفي‪ll‬ذ السياس‪ll‬ات‪ ،‬كم‪ll‬ا ينص الدس‪ll‬تور على‬
‫أن ال ‪ll l‬رئيس ه ‪ll l‬و القائ ‪ll l‬د األعلى للجيش واألس ‪ll l‬طول األم ‪ll l‬ريكي‪ .‬أم ‪ll l‬ا في إط ‪ll l‬ار الس ‪ll l‬لطات المش ‪ll l‬تركة م ‪ll l‬ع‬
‫الكونجرس‪ ،‬فللرئيس السلطة بناء على مشورة مجلس الشيوخ وموافق‪ll‬ة ثل‪ll‬ثي أعض‪ll‬ائه في عق‪ll‬د المعاه‪ll‬دات‪،‬‬
‫كم‪ll l‬ا أن‪ll l‬ه بن‪ll l‬اء على مش‪ll l‬ورة المجلس وموافقت‪ll l‬ه يعين الس‪ll l‬فراء والقناص‪ll l‬ل وكب‪ll l‬ار ض‪ll l‬باط الق‪ll l‬وات المس‪ll l‬لحة‬
‫وأعضاء الوكاالت المهمة مثل وكالة الطاقة الذرية والمجلس الفيدرالي لالحتياطي‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بالتأثير الفعلي للرئيس على عملية صنع القرار فُيعد مسالة أكثر تعقيدًا‪ ،‬حيث إن دوره‬
‫يتحدد وفقًا للنموذج الذي وضعه نيومان من خالل ثالثة عناصر مختلفة وهي‪ :‬النمط القيادي الرئاسي‪،‬‬
‫‪31‬‬
‫وإ ستراتيجية اإلدارة الرئاسية‪ ،‬واإلستراتيجية الرئاسية‪.‬‬
‫يوضح كل من تلك العناصر نمطًا مختلفًا من التأثير الرئاسي على عملية صنع قرار األمن القومي‪.‬‬
‫وتساعد دراسة تأثيرات تلك العناصر على تقديم صورة واضحة لدور الرئيس في عملية صنع القرار‪.‬‬
‫وُيقصد بالنمط القيادي للرئيس اختيارات الرئيس نفسه بشأن إلى أي مدى يريد الرئيس أن يشارك في‬
‫عملية صنع القرار التي تقوم بها اإلدارة األمريكية ومدى قربه من مستشاريه بشكل منفرد وكمجموعة‪.‬‬
‫أما بالنسبة للنمط اإلداري‪ ،‬فيشير إلى خطته المفضلة فيما يتعلق بعملية صنع القرار اإلداري‪ ،‬وما إذا‬
‫كان ينبغي لتلك العملية أن تمر من خالل هياكل معينة كلجان مجلس األمن القومي‪ ،‬أو من خالل تدفق‬
‫المعلومات‪ ،‬باإلضافة إلى األدوار التنظيمية والبيروقراطية للوكاالت والمسئولين الرئيسيين مثل وزير‬
‫الخارجية‪.‬‬
‫وقد تمت إضافة اإلستراتيجية السياسية هنا كعنصر للتأكيد على أن خيارات الرئيس السياسية تعتمد إلى‬
‫حد كبير على معتقداته السياسية وأهدافه والفرص المتاحة أمامه في موقف معين‪ ،‬فالرؤساء هم سياسيون‬
‫في المقام األول‪ .‬وقد يأتي األمن القومي في المرتبة الثالثة أو الرابعة في اهتمامات الرئيس إال إذا حدثت‬
‫أزمة تهدد الواليات المتحدة‪ .‬وفي حاالت متعددة لم تكن سياسة األمن القومي توضع على أجندة الرئيس‬
‫على أنها من الموضوعات المهمة‪.‬‬
‫وتؤثر االهتمامات السياسية للرئيس إلى حد كبير على تغير تلك األولويات وعلى الكيفية التي تحظى‬
‫بها قضايا األمن القومي باالهتمام األكبر‪ .‬وُيعد الرئيس عنصرًا أساسيًا في المناورات التي تشهدها عملية‬

‫‪William W.Newmann, Managing National Security Policy The President and the‬‬
‫‪31‬‬

‫‪Process , op.,cit, p.7.‬‬

‫‪136‬‬
‫صنع القرارات ذات الصلة باألمن القومي‪ .‬فعلى الرغم من أن العناصر األخرى يمكن أن تؤدي أيضًا‬
‫إلى تغييرات في عملية صنع القرار‪ ،‬فإن تلك التغييرات يصنعها الرئيس أو كبار مستشاريه‪ .‬وُتعد هذه‬
‫التعديالت في عملية صنع القرار استجابة للتطورات في البيئة السياسية الدولية والمحلية‪ ،‬و‪/‬أو األساليب‬
‫التي يتم من خاللها التأثير على الديناميكيات الداخلية المؤسسية والبيروقراطية بفعل البيئة السياسية‬
‫‪32‬‬
‫المتغيرة‪.‬‬
‫ويتم في الفصول التالية من الرسالة دراسة التغيرات في عملية صنع القرارات ذات الصلة باألمن‬
‫القومي في الداخل والخارج في الفترة التي أعقبت أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ 2001‬في الواليات المتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬مع التركيز على دور الرئيس وكبار مستشاريه في تلك التغيرات‪ ،‬وذلك في إطار مجهود‬
‫لعزل العوامل المسئولة عن أنماط التغيير‪ ،‬فالمتغيرات التي تحدث في البيئة السياسية الدولية و‪/‬أو البيئة‬
‫السياسية المحلية تؤدي إلى تغييرات في الديناميكيات المؤسسية واإلدارة الرئاسية واإلستراتيجيات‪ ،‬مما‬
‫يؤدي بدوره إلى تغييرات في هيكل صنع القرار‪ .‬وكما سبق توضيحه‪ ،‬فإن استجابة صانعي سياسة األمن‬
‫القومي قد ال تعكس بالضرورة حقائق الموقف الموضوعية وإ نما قد تعكس إدراك هؤالء لبيئة النظام‬
‫الداخلية والخارجية‪ ،‬بمعنى أن صانعي السياسة يتصرفون وفقًا إلدراكهم للواقع وليس استجابة للواقع‬
‫نفسه رغم أن إدراكهم هذا قد يكون مشوهًا أو غير كامل‪ ،‬مما قد يتسبب في أخطاء ونتائج غير متوقعة‬
‫لتلك السياسات‪.‬‬
‫يمكن للرئيس أيضًا أن يقرر أنه يحتاج إلى تعديالت في عملية صنع القرار إذا بدأ يدرك القضايا أو‬
‫األفراد بطريقة مختلفة‪ .‬وتلك التعديالت قد ال تتم بفعل حدث معين أو بفعل أية ديناميكيات داخلية‪ ،‬وإ نما‬
‫بفعل الوزن التراكمي لألحداث التي تؤدي إلى تغيير في الرؤى السياسية‪ .‬وال تتم التغييرات في عملية‬
‫صنع القرار بدون وعي‪ ،‬ولكنها عبارة عن عمليات واعية يقوم بها الرئيس لضبط عملية صنع القرار‬
‫بالوسائل التي يشعر أنها سوف تخدمه بشكل أفضل‪.‬‬

‫‪ -2‬المكتب التنفيذي للرئيس‪:‬‬


‫ال تع‪ll‬ني الرئاس‪ll‬ة األمريكي‪ll‬ة ال‪ll‬رئيس بمف‪ll‬رده‪ ،‬وإ نم‪ll‬ا هي جه‪ll‬از ض‪ll‬خم يض‪ll‬م أك‪ll‬ثر من أل‪ll‬ف موظ‪ll‬ف دائم‪،‬‬
‫باإلضافة إلى ع‪l‬دد كب‪l‬ير من الم‪l‬وظفين غ‪l‬ير ال‪l‬دائمين‪ 33.‬ويش‪l‬مل ه‪l‬ذا الجه‪l‬از الض‪l‬خم كًال من‪ :‬مكتب ال‪l‬بيت‬
‫األبيض‪ ،‬مكتب الميزاني ‪ll l l‬ة‪ ،‬مجلس المستش ‪ll l l‬ارين االقتص ‪ll l l‬اديين‪ ،‬مجلس األمن الق ‪ll l l‬ومي‪ ،‬مجلس الط ‪ll l l‬يران‬
‫‪32‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪ 3333‬د‪ .‬هالة أبو بكر سعودي‪ ،‬السياسة األمريكية تجاه الصراع العربي اإلسرائيلي (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬سلسلة أطروحات الدكتوراه "‪1986 ،"4‬م)‪ ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪137‬‬
‫والفض‪ll‬اء الق‪ll‬ومي‪ ،‬مجلس التخطي‪ll‬ط للط‪ll‬وارئ‪ ،‬ومكتب العل‪ll‬وم والتكنولوجي‪ll‬ا‪ .‬ومن بين هيئ‪ll‬ات ه‪ll‬ذا الجه‪ll‬از‬
‫التنفيذي‪ ،‬فإن مكتب البيت الـبيض ومجلس األمن القومي يؤديان دورًا مهمًا في صنع سياسة األمن الق‪ll‬ومي‬
‫في الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬
‫‪ -1‬مكتب البيت األبيض‪:‬‬
‫يحت ‪ll‬ل مكتب ال ‪ll‬بيت األبيض مرك ‪ll‬ز الص ‪ll‬دارة في المكتب التنفي ‪ll‬ذي لل ‪ll‬رئيس‪ ،‬ويض ‪ll‬م المكتب س ‪ll‬كرتيري‬
‫ال ‪ll l‬رئيس ومس ‪ll l‬اعديه اإلداريين والمس ‪ll l‬اعدين والمستش ‪ll l‬ارين الخصوص ‪ll l‬يين ل ‪ll l‬ه‪ ،‬ويق ‪ll l‬وم المكتب بع ‪ll l‬دد من‬
‫الوظائف منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬إعالم الرئيس بأنشطة الوزارات والهيئات التنفيذية ومشاكلها‪.‬‬
‫ب‪ -‬العمل كرابطة بين الفرع التنفيذي والفرع التشريعي بما يضمن نجاح برامج اإلدارة في الكونجرس‪.‬‬
‫ج‪ -‬تقديم النصيحة للرئيس حول المسائل العسكرية واألمن القومي‪.‬‬
‫د‪ -‬مراجعة نصائح الخبراء والبيروقراطيين والوزراء ومشورتهم‪.‬‬
‫ويق‪ll‬وم مس‪ll‬اعد ال‪ll‬رئيس لش‪ll‬ئون األمن الق‪ll‬ومي بع‪ll‬دد من الوظ‪ll‬ائف المتعلق‪ll‬ة بتنس‪ll‬يق ت‪ll‬دفق المعلوم‪ll‬ات إلى‬
‫ال ‪ll‬رئيس في مج ‪ll‬ال األمن الق ‪ll‬ومي‪ ،‬وتتب ‪ll‬ع العملي ‪ll‬ات الحكومي ‪ll‬ة لض ‪ll‬مان حس ‪ll‬ن التنس ‪ll‬يق وحس ‪ll‬ن االس ‪ll‬تجابة‬
‫لمطالب الرئيس‪ ،‬وتوصيل قرارات الرئيس وتعليماته إلى ال‪l‬وزارات والهيئ‪l‬ات المختلف‪l‬ة‪ ،‬فض‪ًl‬ال عن العم‪l‬ل‬
‫كمستشار شخصي للرئيس وتقديم التحليالت الالزمة له في مسائل األمن القومي‪.‬‬
‫‪ -3‬مجلس األمن القومي‪:‬‬
‫شكل قانون األمن القومي األمريكي عام ‪ 1947‬ركيزة مهمة في إعادة صياغة وتنظيم أدوات السياسة‬
‫الخارجية والدفاع واالستخبارات في تاريخ النظام السياسي األمريكي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫وال يزال هذا القانون على الرغم من التعديالت الطفيفة التي طرأت عليه المرجعية القانونية والعملية‬
‫لمجمل نشاط الواليات المتحدة في مجال األمن القومي‪ .‬ووفقًا لهذا القانون‪ ،‬تم إنشاء مجلس األمن‬
‫القومي‪ ،‬ليكون الهيئة التي تتولى تنسيق التعاون بين اإلدارات والهيئات الحكومية المختلفة فيما يتعلق‬
‫باألمن القومي ودراسة مشاكله وتقديم النصح للرئيس في هذه المجاالت في شكل خطط وسياسات ليتخذ‬
‫‪34‬‬
‫قراراته بشأنها‪.‬‬
‫ويتكون المجلس حسب نظامه األساسي من رئيس الجمهورية ونائب الرئيس ووزيري الخارجية‬
‫والدفاع ومدير مكتب التعبئة المدنية والدفاعية‪ ،‬وقد تمت إضافة مدير وكالة المخابرات المركزية‬
‫األمريكية وأعضاء آخرين بحسب رغبة الرئيس مثل وزراء العدل والطاقة والخزانة واألمن الداخلي‪،‬‬

‫‪William W.Newmann, Managing National Security Policy The President and the‬‬
‫‪34‬‬

‫‪Process , op.,cit, p.73.‬‬

‫‪138‬‬
‫ورئيس هيئة األركان الذي حدده القرار بوصفه المستشار العسكري للرئيس‪ ،‬ومساعد الرئيس لشئون‬
‫األمن القومي‪ ،‬ومستشاره للسياسة الخارجية االقتصادية‪ ،‬ونائب وزير الخارجية‪ ،‬ورئيس هيئة موظفي‬
‫البيت األبيض‪ ،‬وسكرتير هيئة البيت األبيض‪ .‬وتتحدد فاعلية المجلس باإلطار الذي يرسمه الرئيس‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫ولذلك فقد تم استخدام المجلس وتنظيمه بطريقة مختلفة تبعًا للرؤساء األمريكيين المختلفين‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1949‬تم إنشاء منصب سكرتير تنفيذي لألمن القومي‪ ،‬والذي تحول في الخمسينيات من‬
‫القرن الماضي إلى مساعد للرئيس لشئون األمن القومي‪ ،‬وفي السبعينيات من القرن الماضي إلى مستشار‬
‫لألمن القومي‪ ،‬وتحول الطاقم اإلداري لمكتب المستشار من بضعة مساعدين ال يتجاوز عددهم أصابع اليد‬
‫الواحدة إلى جسم بيروقراطي متضخم يتجاوز ‪ 200‬شخصًا موزعين على لجان مختلفة‪ ،‬هي عمليًا بمثابة‬
‫حكومات بديلة مصغرة داخل البيت األبيض والمبنى المجاور له الذي ُيطلق عليه اسم المبنى التنفيذي‪.‬‬
‫واس‪ll‬تمر تط‪ll‬ور دور مستش‪ll‬ار األمن الق‪ll‬ومي‪ ،‬وبخاص‪ll‬ة م‪ll‬ع ق‪ll‬دوم ه‪ll‬نري كيس‪ll‬نجر ك‪ll‬وزير خارجي‪ll‬ة في‬
‫إدارة الرئيس نيكسون‪ ،‬ثم برجنسكي في إدارة الرئيس كارتر‪ ،‬وقد كان نيكسون يشعر بشكوك عميق‪ll‬ة في‬
‫وزارة الخارجي‪l‬ة آن‪l‬ذاك‪ ،‬ل‪l‬ذا أراد من كيس‪l‬نجر أن ي‪l‬دير السياس‪l‬ة الخارجي‪l‬ة من داخ‪l‬ل ال‪l‬بيت األبيض ب‪l‬دون‬
‫أي اعتبار لبقية أعضاء وزارة الخارجية‪.‬‬
‫وعبر السنوات وتغير اإلدارات‪ ،‬تم إجراء تعديالت على أساليب عمل المجلس ونوعية األشخاص‬
‫المشاركين في اجتماعاته‪ .‬وشكلت شخصية الرئيس ودرجة خبرته في الشئون الخارجية والدفاع وكذلك‬
‫أسلوبه في اإلدارة عوامل حاسمة في كيفية استخدام هذه األداة التي ُأنشئت أصًال لمساعدة الرئيس ترومان‬
‫الذي كانت تعوزه الخبرة في الشئون الخارجية والدفاع آنذاك في اتخاذ القرارات المصيرية استنادًا إلى‬
‫المشورة التي يمكن أن يوفرها له أعضاء بارزون في حكومته‪ .‬وكان هذا االتجاه يعبر عن رغبة‬
‫الكونجرس في الحيلولة دون تكرار أخطاء شهدتها مرحلة الحرب العالمية الثانية‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬وزارة الدفاع‪:‬‬
‫أدى قانون األمن القومي لعام ‪1947‬عمليًا إلى إعادة تنظيم فروع القوات المسلحة‪ ،‬حيث تم دمج ما كان‬
‫ُيسمى وزارة الحرب ووزارة البحرية بمسمى جديد هو وزارة الدفاع‪ ،‬إضافة إلى تشكيل وزارة لسالح‬
‫الطيران‪ ،‬ووضع كل الفروع تحت إدارة وزير الدفاع‪ ،‬إضافة لتشكيل هيئة األركان المشتركة‪ ،‬ولكن تم‬
‫اإلبقاء على حد من االستقالل المالي واإلداري لفروع القوات المسلحة‪ ،‬مع تعيين سكرتير خاص لكل‬
‫منها‪ ،‬إضافة إلى رئيس أركان‪ .‬وما عدا رئاسة األركان يتولى عادة منصب وزير الدفاع وسكرتارية‬
‫الفروع مدنيون‪.‬‬

‫‪ 3535‬د‪ .‬هالة أبو بكر سعودي‪ ،‬السياسة األمريكية تجاه الصراع العربي اإلسرائيلي ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص‪.151-147‬‬

‫‪139‬‬
‫ُيع‪ll‬د وزي‪ll‬ر ال‪ll‬دفاع مس‪ll‬اعد ال‪ll‬رئيس األساس‪ll‬ي في ك‪ll‬ل المس‪ll‬ائل المتعلق‪ll‬ة بال‪ll‬دفاع واألمن الق‪ll‬ومي‪ ،‬وفي ه‪ll‬ذا‬
‫‪36‬‬
‫الصدد يمكن التمييز في داخل الوزارة بين ثالث مجموعات‪:‬‬
‫أ‪ -‬وزير الدفاع‪ ،‬ويتم استشارته في مسائل السياسة العليا‪.‬‬
‫ب‪ -‬رؤساء األركان المشتركة‪ ،‬ويظهر دورهم في المسائل المتعلقة بالمساعدات العسكرية‪.‬‬
‫ج‪ -‬الخبراء اإلقليميون‪.‬‬
‫وفي ج ‪ll‬و التن ‪ll‬افس التقلي ‪ll‬دي بين مواق ‪ll‬ف ك ‪ll‬ل من ال ‪ll‬بيت األبيض ووزارة الخارجي ‪ll‬ة ف ‪ll‬إن وزارة ال ‪ll‬دفاع‬
‫تش ‪ll‬ترك أحيان ‪ًl‬ا في التن ‪ll‬افس إلى ج ‪ll‬انب ال ‪ll‬بيت األبيض في بعض األحي ‪ll‬ان وإ لى ج ‪ll‬انب وزارة الخارجي ‪ll‬ة في‬
‫أحيان أخرى‪.‬‬
‫لم يؤد تحلل االتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو وانتشار الديموقراطية عبر أوروبا الشرقية إلى‬
‫حدوث تغيير في الدور األساسي لوزارة الدفاع‪ .‬فقد استمرت الوزارة في توفير القوات العسكرية‬
‫المطلوبة لمنع الحرب وحماية أمن الواليات المتحدة وحلفائها‪ .‬وقد أثرت نهاية الحرب الباردة على مهام‬
‫الوزارة‪ ،‬حيث تسببت في أن تركز وزارة الدفاع على نطاق من التهديدات األمنية يتخطى القدرات‬
‫العسكرية لالتحاد السوفييتي السابق‪.‬‬
‫وقد حددت المراجعة الدفاعية التي يتم إجراؤها كل أربع سنوات في عام ‪ ،1997‬خالل تولي ويليام‬
‫كوهين منصب وزير الدفاع‪ ،‬خمسة أخطار يجب أن يتصدى لها الجيش األمريكي‪ ،‬وتتمثل تلك األخطار‬
‫‪37‬‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬األخطار اإلقليمية‪ ،‬الهجوم على الدول الصديقة‪ ،‬الصراع االثني‪ ،‬الحروب الدينية‪ ،‬اإلرهاب الذي‬
‫ترعاه دول‪.‬‬
‫ب‪ -‬أسلحة الدمار الشامل‪ ،‬وتتضمن األسلحة النووية الروسية واالنتشار العالمي لألسلحة البيولوجية‬
‫والكيميائية والنووية‪.‬‬
‫ج‪ -‬األخطار عبر القومية‪ ،‬والتي تتمثل في اإلرهاب وتجارة المخدرات والجريمة المنظمة والهجرة التي‬
‫ال يمكن التحكم فيها‪.‬‬
‫د‪ -‬الهجمات غير المتماثلة‪ ،‬اإلرهاب‪ ،‬حرب المعلومات‪ ،‬استخدام األسلحة غير التقليدية‪ ،‬التخريب‬
‫البيئي‪.‬‬
‫هـ‪ -‬االستعداد لمواجهة السيناريوهات المحتملة غير المتوقعة‪ ،‬مثل التهديد التكنولوجي الجديد أو سقوط‬
‫حكومات صديقة للواليات المتحدة على يد فصائل معادية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫‪William W.Newmann, Managing National Security Policy The President and the‬‬
‫‪Process , op.,cit, p.73-81.‬‬
‫‪37‬‬
‫‪Ibid.‬‬

‫‪140‬‬
‫وعلى الجانب اآلخر‪ ،‬فقد قامت وزارة الدفاع بتوسيع مهامها لتتضمن مجموعة من المهام غير القتالية‬
‫لمواجهة القضايا التي ظهرت في أعقاب الحرب الباردة‪ ،‬لمنع تصاعد مشكالت األمن القومي في‬
‫المستقبل‪ ،‬والحفاظ على الدعم الشعبي للوزارة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬وزارة الخارجية‪:‬‬
‫تع ‪ll‬د وزارة الخارجي ‪ll‬ة بمثاب ‪ll‬ة الجه ‪ll‬از التنفي ‪ll‬ذي ال ‪ll‬ذي يت ‪ll‬ولى تنفي ‪ll‬ذ السياس ‪ll‬ة الخارجي ‪ll‬ة األمريكي ‪ll‬ة وإ دارة‬
‫عالق ‪ll l‬ات الوالي ‪ll l‬ات المتح ‪ll l‬دة الخارجي ‪ll l‬ة على المس ‪ll l‬توى الدبلوماس ‪ll l‬ي‪ .‬ويوج ‪ll l‬د على رأس ال ‪ll l‬وزارة وزي ‪ll l‬ر‬
‫الخارجية ووكيل الوزارة‪ ،‬غير أنها تضم عددًا كبيرًا من الخبراء المتخصصين‪ ،‬فض‪ًl‬ال عن جه‪ll‬از تخطي‪ll‬ط‬
‫السياسة‪.‬‬
‫استمرت وزارة الخارجية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة تؤدي مهمتها التي قامت بها لفترة طويلة‪،‬‬
‫وهي صياغة السياسة الخارجية وتنفيذ تلك السياسة وتفسيرها‪ .‬وال يزال هناك اتفاق بين موظفي الوزارة‬
‫‪ ،‬خاصة في السفارات األمريكية في الخارج‪ ،‬على أن هذا الدور يمكن أن يتم إلى حد كبير من خالل‬
‫الوظائف الدبلوماسية التقليدية المتمثلة في التمثيل والتفاوض وإ رسال التقارير‪.‬‬
‫ولكن بدًال من إدارة الدبلوماسية األمريكية تجاه احتواء االتحاد السوفييتي كأولوية مركزية لها‪ ،‬فقد‬
‫بدأت الوكالة في التركيز على نطاق أوسع من تحديات السياسة الخارجية في أعقاب الحرب الباردة‪ ،‬حيث‬
‫أصبحت الوزارة تهتم ببناء الديموقراطية وتشجيع السالم والحفاظ عليه‪ ،‬وتشجيع النمو االقتصادي‬
‫والتنمية المستدامة‪ ،‬ومواجهة المشكالت العالمية‪ ،‬وتقديم المساعدات اإلنسانية‪.‬‬
‫وتوضح التطورات األربعة التي سيلي ذكرها كيفية قيام وزارة الخارجية بإعادة تفسير مهامها بالتركيز‬
‫‪38‬‬
‫على االهتمامات الداخلية غير السياسية‪:‬‬
‫‪ -1‬ساعد الدبلوماسيون األجهزة األمنية‪ ،‬خاصة االستخباراتية‪ ،‬في الداخل والخارج من خالل إمدادهم‬
‫بالمعلومات المتعلقة بانتهاكات حقوق الملكية الفكرية‪ ،‬والجماعات "اإلرهابية"‪.‬‬
‫‪ -2‬قامت الوكالة الدولية للتنمية الدولية ‪ USAID‬وهي منظمة تابعة لوزارة الخارجية وتقوم بإدارة‬
‫برامج المساعدات الخارجية بتقديم نصائح للمواطنين في المدن األمريكية حول كيفية تحسين البرامج‬
‫التعليمية والتطعيم ضد األمراض والتحكم في النمو السكاني والتنمية االقتصادية‪.‬‬
‫‪ -3‬وضعت وزارة الخارجية القضايا االقتصادية في بؤرة أجندتها وواجباتها‪ ،‬حيث قامت باقتراح‬
‫إستراتيجيات حول كيفية التعامل مع المشكالت البيئية الرئيسية في العالم‪ ،‬وإ لى جانب ذلك قامت بتأسيس‬
‫محاور إقليمية بيئية في عدد من السفارات في الخارج‪ ،‬وذلك من أجل تشجيع التنمية المستدامة وقضايا‬
‫الموارد الطبيعية‪ ،‬وبيع التكنولوجيات البيئية األمريكية‪.‬‬

‫‪James M.Scott, ed., After the End Making U.S Foreign Policy in the Post – Cold 38‬‬
‫‪.War World, op.,cit, pp.59-66‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -4‬التطور الرابع واألكثر أهمية في عمل وزارة الخارجية يتمثل في أن االقتصاد حظي باهتمام أكبر‪،‬‬
‫حيث زاد اهتمام الوزارة بتشجيع التجارة داخل الواليات المتحدة وخارجها‪ .‬وقد أدت محاوالت وزارة‬
‫الخارجية إلى لعب دور "مكتب أمريكي" للشركات التي تريد توسيع تجارتها الدولية إلى قيام الدبلوماسيين‬
‫األمريكيين بالدعاية للصادرات األمريكية لدى المسئولين في الخارج‪ ،‬وتشجيع إجراء تغييرات في‬
‫السياسة في الدول التي تتجه إلى اتباع سياسة السوق الحر‪ ،‬واستشارة الشركات األمريكية بشأن السياسة‬
‫الخارجية األمريكية‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬وزارة األمن الداخلي‪:‬‬
‫تم إنشاء وزارة األمن الداخلي في عام ‪ ،2002‬وهي ُتعد بمثابة أول وزارة للداخلية في تاريخ‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‪ .‬تجمع الوزارة ‪ 22‬وكالة فيدرالية وحوالي ‪ 180‬ألف موظف‪ ،‬وذلك في‬
‫إطار أكبر عملية إعادة تنظيم للحكومة الفيدرالية األمريكية منذ إنشاء وزارة الدفاع بعد الحرب العالمية‬
‫الثانية‪ .‬تشمل وزارة األمن الداخلي الخدمة السرية وحرس السواحل ومصلحة الجمارك ومصلحة‬
‫الهجرة والجنسية وإ دارة أمن النقل ووكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية ووكاالت أخرى لديها مهام تتعلق‬
‫‪39‬‬
‫باألمن‪.‬‬

‫وقد تولى توم ريدج المقرب من الرئيس جورج دبليو بوش وظيفة وزير األمن الداخلي‪ ،‬حيث وضعت‬
‫على عاتقه المهام المتعلقة بدمج آليات الوكاالت مثل أسلوب العمل والحسابات وشؤون األفراد وأنظمة‬
‫المعلومات‪ ،‬باإلضافة إلى دمج ثقافة هذه الوكاالت أيضًا‪ .‬وقد وضع ريدج نظامًا أمنيًا يرمز لحجم‬
‫التهديدات اإلرهابية باأللوان‪ .‬وتعرض ريدج النتقادات من المواطنين األمريكيين‪ ،‬وذلك لرفعه مستوى‬
‫التهديد اعتمادًا على معلومات غير واضحة وبث الخوف في نفوس المواطنين بدون داع‪ ،‬مما أدى إلى‬
‫استقالته مع بداية الفترة الثانية للرئيس جورج دبليو بوش‪.‬‬

‫خامسًًا‪ :‬الكونجرس‪:‬‬
‫ال يق‪ll‬وم الك‪ll‬ونجرس ب‪ll‬دور المب‪ll‬ادأة في إع‪ll‬داد سياس‪ll‬ة األمن الق‪ll‬ومي وص‪ll‬نع قراره‪ll‬ا كم‪ll‬ا يفع‪ll‬ل ال‪ll‬رئيس‪،‬‬
‫وبرغم ذل‪l‬ك ف‪l‬إن ل‪l‬ه دورًا واس‪l‬عًا في المش‪l‬اركة في المراح‪l‬ل المختلف‪l‬ة إلع‪l‬داد ه‪l‬ذه السياس‪l‬ة‪ ،‬وذل‪l‬ك من خالل‬
‫س ‪ll‬لطاته في مج ‪ll‬ال التش ‪ll‬ريع والمخصص ‪ll‬ات المالي ‪ll‬ة والق ‪ll‬رارات‪ .‬ففي مج ‪ll‬ال التش ‪ll‬ريع يمكن للك ‪ll‬ونجرس أن‬
‫يستخدم تلك السلطة في حالتين‪:‬‬
‫‪ -‬عندما يحتاج تنفيذ سياسة ما إلى إصدار تشريع من الكونجرس‪ ،‬فإنه يمكنه أن يدخل تعديالته‬
‫والتغييرات التي يراها على تلك السياسة‪.‬‬
‫‪ -‬كما أن الكونجرس يمكن أن يأخذ المبادرة ويقيد من حرية تصرف الرئيس من خالل التشريع‪.‬‬
‫‪http://www.whitehouse.gov/agenda/homeland_security 39‬‬

‫‪142‬‬
‫أم‪ll‬ا بالنس‪ll‬بة لس‪ll‬الح المخصص‪ll‬ات المالي‪ll‬ة‪ ،‬ف‪ll‬إن الك‪ll‬ونجرس يمكن‪ll‬ه أن يمن‪ll‬ع جزئي ‪ًl‬ا أو كلي ‪ًl‬ا المخصص‪ll‬ات‬
‫الضرورية لتنفيذ سياسة معينة‪ ،‬وهكذا يعوق هذه السياسة أو يجعل تنفي‪ll‬ذها كك‪ll‬ل أم‪ll‬رًا مس‪ll‬تحيًال‪ .‬كم‪ll‬ا يمكن‬
‫للكونجرس أن يدخل تعديالت على مشروعات المخصصات المالية سواء بإضافة نفقات أخ‪ll‬رى لم ت‪ll‬ذكرها‬
‫السلطة التنفيذية أم بتخفيض النفقات المقترحة‪.‬‬
‫يمكن للكونجرس أيضًا أن يصدر قرارات ُتع‪l‬بر عن مجلس‪l‬يه أو أح‪l‬دهما‪ .‬وعلى ال‪l‬رغم من أن مث‪l‬ل ه‪l‬ذه‬
‫الق‪ll‬رارات ال يك‪ll‬ون له‪ll‬ا أث‪ll‬ر مل‪ll‬زم‪ ،‬فإنه‪ll‬ا تع‪ll‬بر عن تفض ‪ll‬يل الك‪ll‬ونجرس لسياس‪ll‬ات معين‪ll‬ة‪ ،‬وتش‪ll‬ير إلى ن‪ll‬وع‬
‫السياسات التي يمكن أن يوافق عليها الكونجرس عندما يطلب منه أن يمارس دوره عن طري‪ll‬ق التش‪ll‬ريع أو‬
‫‪40‬‬
‫المخصصات المالية‪.‬‬
‫سادسًا‪ :‬وكالة االستخبارات األمريكية ‪: CIA‬‬
‫نص قانون األمن القومي األمريكي الصادر عام ‪ 1947‬على تشكيل وكالة المخابرات المركزية‬
‫األمريكية "سي آي إيه"‪ ،‬تطويرًا لمكتب الخدمات اإلستراتيجية (‪ )OSS‬الذي كان قائمًا خالل الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬كما تم توصيف أجهزة االستخبارات المختلفة المدنية والعسكرية‪ ،‬وكانت ميزانية مكتب‬
‫الخدمات اإلستراتيجية تحت سيطرة وزير الخارجية‪ ،‬وتم تحويل معظم ميزانية االستخبارات العسكرية‬
‫والمدنية إلى سيطرة وزير الدفاع وإ بقاؤها سرية‪.‬‬
‫وقد ظلت وكالة االستخبارات األمريكية محور المجموعة االستخباراتية األمريكية في أعقاب انتهاء‬
‫الحرب الباردة‪ ،‬وتضم تلك المجموعة ثالث عشرة منظمة تنفيذية فرعية وفقًا لما حدده قانون األمن‬
‫القومي الصادر في عام ‪ .1947‬ووكالة االستخبارات األمريكية هي وكالة مستقلة ُص ممت لجمع‬
‫المعلومات المتعلقة باألمن القومي وتحليل تلك المعلومات ونقلها إلى مجلس األمن القومي‪ .‬ويكون مصدر‬
‫المعلومات التي تقدمها وكالة االستخبارات األمريكية لصانعي القرار موظفو الوكالة وبيروقراطيات‬
‫أخرى متعددة‪ ،‬والوكالة مسئولة عن تقييم المعلومات القادمة من المنظمات الفرعية ودمجها‪ .‬وتقوم‬
‫الوكالة بتشغيل األدوات التقنية لجمع المعلومات مثل األقمار الصناعية وطائرات التجسس‪ ،‬كما تقوم‬
‫باستخدام العمالء للحصول على المعلومات بطريقة سرية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من تلك المهام المستمرة‪ ،‬فقد فقدت وكالة االستخبارات المركزية األمريكية عددًا من‬
‫مهامها‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فقد تم في عام ‪ 1992‬إجراء تعديل على قانون األمن القومي الصادر عام‬
‫‪ ،1947‬وذلك إلجبار وكالة االستخبارات األمريكية على تقديم ما تجريه من تحليالت إلى الكونجرس‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫كما كان يحدث مع البيت األبيض‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪I. Benjamin., Page, Y. Shapiro Robert, W. Gronke Paul, and M. Rosenberg Robert,‬‬
‫‪“Constituency, Party, and Representation in Congress”, Public Opinion Quarterly, 84,‬‬
‫‪1984, PP 741-756.‬‬

‫‪143‬‬
‫وفي واقع األمر‪ ،‬فإن الجمع السري للمعلومات خارج الواليات المتحدة كان هو الوظيفة التي ميزت‬
‫تقليديًا وكالة االستخبارات المركزية األمريكية عن وكاالت االستخبارات األخرى‪ ،‬وحتى تلك الميزة‬
‫فقدتها الوكالة بسبب الجهاز الجديد الذي أنشأته وزارة الدفاع األمريكية "البنتاجون"‪ ،‬والذي يطلق عليه‬
‫)‪ Defense Humint Service (DHS‬وقد قام هذا الجهاز منذ إنشائه في عام ‪ 1996‬بعد تدعيمه‬
‫بعناصر بشرية من وحدات استخباراتية متعددة داخل القوات المسلحة بتجميع معلومات استخباراتية من‬
‫الخارج بصورة سرية‪ ،‬واستخدام أنشطة تجارية كغطاء ألعماله‪.‬‬
‫قامت وكالة االستخبارات األمريكية كرد فعل على هذا االختراق وللتأكيد على أهميتها في فترة ما بعد‬
‫الحرب الباردة بالقيام بأعمال مغطاة أكثر سرية‪ .‬وتضمنت التطورات المعاصرة طلبات تمويل لدعم‬
‫عمليات سرية على نطاق واسع في الخارج‪ ،‬وأعلنت الوكالة عن رغبتها في اإلبقاء على حقها في تجنيد‬
‫صحفيين ورجال دين كجواسيس في ظروف غير عادية أو استخدام هذه المهن للتغطية على عمليات‬
‫الوكالة‪.‬‬
‫فقدت وكالة االستخبارات المركزية األمريكية أيضًا بعض سلطاتها في مجال مكافحة اإلرهاب‪ .‬وكان‬
‫قانون األمن القومي الصادر عام ‪ 1947‬قد أعطى وكالة االستخبارات المركزية األمريكية السيطرة على‬
‫مكافحة التجسس الخارجي‪ ،‬في حين أبقى لمكتب التحقيقات الفيدرالي ‪ FBI‬مسئولية القبض على العمالء‬
‫داخل الواليات المتحدة‪ ،‬كما سمح لوكالة المخابرات المركزية األمريكية بالقيام بأنشطة استخباراتية‬
‫محلية إذا قامت بتنسيق جهودها مع مكتب التحقيقات الفيدرالي‪ .‬وفي المقابل ُم نح مكتب التحقيقات‬
‫الفيدرالي بعض االمتيازات في الخارج‪ .‬لم يتم هذا التقسيم للعمل بين الوكالة والمكتب على النحو‬
‫المطلوب‪ ،‬فبدًال من المشاركة في العمل والتنسيق بين الوكالتين‪ ،‬فإنهما دخلتا في عملية تنافس‬
‫بيروقراطي شديد بسبب الغيرة والشك واالختالف على األولويات بين الجهازين‪ .‬وكنتيجة لذلك‪ ،‬فقد‬
‫المت كل منظمة منهما األخرى على حاالت الفشل في التعامل مع األنشطة االستخباراتية الخارجية‪.‬‬
‫وقد شهد التاريخ األمريكي المعاصر خالفات متكررة بين وكالة االستخبارات األمريكية ‪ CIA‬ومكتب‬
‫التحقيقات الفيدرالي ‪ . FBI‬فمنذ عام ‪ 1948‬كان هناك ما ال يقل عن اثنتي عشرة مبادرة رئاسية لحل‬
‫الخالفات التي نشبت بين الجهازين‪ ،‬وباء معظمها بالفشل‪ ،‬لرغبتها في الربط ما بين عمل الجهازين وهو‬
‫األمر الصعب الختالف طبيعة عمل كل منهما‪ ،‬فاالستخبارات تسعى إلى العمل من أجل حماية الموارد‬
‫ومنع الجرائم قبل حدوثها‪ ،‬واألجهزة األمنية األخرى تستخدم الموارد للقبض على المجرمين الذين قاموا‬
‫بالفعل بجرائم وتقديمهم لمحاكمة علنية‪.42‬‬

‫‪41‬‬
‫‪James M.Scott, ed., After the End Making U.S Foreign Policy in the Post – Cold‬‬
‫‪War World, op.,cit, pp.66-67.‬‬

‫‪Mark Riebling, Wedge From Pearl Harbor to 9/11 How The Secret War and CIA‬‬
‫‪42‬‬

‫‪Has Endangered National Security (New York, Touchstone, 2002), p. 461.‬‬

‫‪144‬‬
‫كان هذا الصراع المؤسسي سببًا أساسيًا في الكشف عن عمليات تجسس قام بها ضابط استخبارات في‬
‫وكالة االستخبارات المركزية األمريكية ُيدعى الدريتش أميز ‪ Aldrich Ames‬والذي ظل يبيع أسرارًا‬
‫لمدة تسع سنوات إلى االتحاد السوفييتي السابق قبل أن يتم إلقاء القبض عليه في عام ‪ .1994‬وعلى الرغم‬
‫من أن الجهازين كانا مسئولين عن الفشل في اكتشاف أميز‪ ،‬فقد صدر قرار رئاسي وتشريع من‬
‫الكونجرس في عام ‪ 1994‬يقضي بمنع سلطة مكافحة اإلرهاب عن وكالة االستخبارات المركزية‬
‫األمريكية‪.‬‬
‫تطلبت هذه القرارات أن تقوم وكالة االستخبارات األمريكية بإخبار مكتب التحقيقات الفيدرالي بسرعة‬
‫عندما يكون لديها اعتقاد أو معلومات عن أن مصدرًا أجنبيًا غير مفوض قد حصل على معلومات مهمة‪.‬‬
‫كما أعطى مكتب التحقيقات الفيدرالي الحق في إجراء تحقيقات متعلقة بمكافحة التجسس األجنبي‪،‬‬
‫ومراقبة السفريات واألرصدة المالية الممنوحة لعمالء وكالة االستخبارات األمريكية المتهمين بالتجسس‪.‬‬
‫كما تم وضع أشخاص من مكتب التحقيقات الفيدرالي داخل مقار وكالة االستخبارات األمريكية‪ ،‬حيث‬
‫تمكنوا من الحصول على ملفات القضايا والمعلومات الخاصة باألنشطة الخارجية‪ .‬وقد اتسعت أنشطة‬
‫وكالة االستخبارات المركزية األمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬حيث كانت أنشطتها في فترة‬
‫الحرب الباردة موجهة تجاه االتحاد السوفييتي السابق‪ ،‬وأصبحت الوزارة عقب ذلك تخصص موارد‬
‫وانتباهًا أكبر إلى أنشطة الصين والعديد من الدول "المارقة" مثل إيران والعراق وليبيا وكوريا الشمالية‬
‫وسوريا‪ ،‬والتي يمكن أن تهدد أنشطتها األمن القومي األمريكي‪.‬‬
‫كما وجهت الوكالة جزءًا من اهتماماتها إلى التصدي لكارتيالت المخدرات في كولومبيا وبيرو‪،‬‬
‫‪43‬‬
‫ومراقبة معاهدات الحد من التسلح ‪ ،‬ومنع انتشار األسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية‪.‬‬
‫يتضح مما سبق تعدد القوى المشاركة في صنع القرارات ذات الصلة باألمن القومي األمريكي ‪ ،‬وتباين‬
‫منطلقاتها ووجهات نظرها في كثير من األحيان‪ .‬ويمكن إرجاع هذه االختالفات في المواق‪ll‬ف إلى ع‪ll‬دد من‬
‫االعتبارات لعل أهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬االختالف في طبيع‪ll‬ة المس‪ll‬ؤوليات الخاص‪ll‬ة به‪ll‬ذه األجه‪ll‬زة‪ ،‬وك‪ll‬ذلك في أس‪ll‬اليبها ومناهجه‪ll‬ا المعت‪ll‬ادة في‬
‫معالجة القضايا‪.‬‬
‫ب‪ -‬غي‪lll‬اب مفه‪lll‬وم مجلس ال‪lll‬وزراء في النظ‪lll‬ام األم‪lll‬ريكي‪ ،‬وال‪lll‬ذي يمكن أن يس ‪ll‬اعد على تحقي ‪ll‬ق ن‪lll‬وع من‬
‫االتفاق والتفاهم حول السياسات بين اإلدارات التنفيذية المختلفة‪.‬‬
‫ج‪ -‬ع ‪ll‬دم ق ‪ll‬درة ال ‪ll‬رئيس األم ‪ll‬ريكي على أن يحس ‪ll‬م دائم‪ًl l‬ا الخالف ‪ll‬ات األساس ‪ll‬ية ال ‪ll‬تي ق ‪ll‬د تنش ‪ll‬أ بين اإلدارات‬
‫التنفيذي‪ll‬ة أو مواجه‪ll‬ة أي‪ll‬ة مقاوم‪ll‬ة لسياس‪ll‬اته من ج‪ll‬انب إدارة تنفيذي‪ll‬ة م‪ll‬ا دون المخ‪ll‬اطرة بإث‪ll‬ارة ص‪ll‬راعات م‪ll‬ع‬
‫الكونجرس الذي عادة ما يكون على استعداد لالستفادة من الخالفات والصراعات العلنية في داخ‪l‬ل الجه‪l‬از‬

‫‪43‬‬
‫‪Ibid, pp.69-73.‬‬

‫‪145‬‬
‫التنفي‪ll‬ذي‪ .‬ومن أب‪ll‬رز الخالف‪ll‬ات ال‪ll‬تي ش‪ll‬هدتها ف‪ll‬ترة الدراس‪ll‬ة م‪ll‬ا ح‪ll‬دث من خالف‪ll‬ات بين وزارتي الخارجي‪ll‬ة‬
‫والدفاع أثناء غزو العراق‪.‬‬
‫ويقول ويليام بلوم ‪ William Blum‬الكاتب والناقد للسياسة الخارجية األمريكية منذ أواخر الستينيات‪،‬‬
‫عندما ترك وظيفته بوزارة الخارجية احتجاجًا على السياسة األمريكية في فيتنام في كتابه "قتل األمل"‬
‫الذي صدر في مقدمة جديدة بطبعة حديثة‪" :‬لقد تم استبدال نظام الجمهورية األمريكي بعد الحرب العالمية‬
‫الثانية بدولة األمن القومي التي ال تخضع ألي مساءلة‪ ،‬حكومة تتجاوز الدستور‪ ،‬ممعنة في النشاط‬
‫السري بعيدًا عن معرفة الشعب األمريكي‪ ،‬معفاة من رقابة السلطة التشريعية وتتصرف وكأنها فوق‬
‫القانون‪ .‬وبعد إنشاء وزارة األمن الداخلي تكتمل حلقة هذه الدولة التي تنفق نحو ‪ 600‬مليار دوالر على‬
‫الدفاع واالستخبارات واألمن سنويًا‪ .‬وعماد هذه الدولة هو التدخل العسكري في الخارج "انتقائيًا واستباقيًا‬
‫أو سريًا"‪ ،‬وتعزيز اإلجراءات البوليسية الداخلية ومصادرة عدد كبير من الحقوق المكفولة دستوريًا تحت‬
‫‪44‬‬
‫ذريعة حفظ األمن ومحاربة اإلرهاب"‪.‬‬
‫دفعت األوضاع السابق ذكرها أحد الباحثين للقول إن خطورة الوضع الدولي الراهن والتحديات الجسام‬
‫التي تواجهها الواليات المتحدة تفترض إعادة النظر في الطريقة التي ُتحكم بها الواليات المتحدة‪ ،‬بما فيها‬
‫طبيعة النظام الرئاسي كما تخيله اآلباء المؤسسون‪ .‬لقد ثبت بالتجربة أن هناك ثغرات جوهرية يعاني‬
‫منها النظام السياسي األمريكي‪ ،‬تبدأ بطبيعة النظام االنتخابي الذي يتم بموجبه انتخاب الرئيس‪ ،‬وما جرى‬
‫في انتخابات عام ‪ 2000‬وفي انتخابات ‪ 2004‬أدلة على ضرورة معالجة هذا الخلل الخطير‪ ،‬وال تنتهي‬
‫بضرورة تعديل قانون سلطات الحرب‪ ،‬بما يكفل‪ ،‬في التطبيق العملي‪ ،‬إناطة أمر شن الحروب وإ عالنها‬
‫بالكونجرس‪ ،‬كما رغب اآلباء المؤسسون‪ ،‬وليس الرئيس‪ ،‬وتقنين الحاالت التي يمكن للرئيس استخدام‬
‫القوة العسكرية خارج حدود الواليات المتحدة‪ ،‬وتقليص الفترة الممنوحة لتصديق الكونجرس من ‪60‬‬
‫يومًا‪ ،‬كما هو قائم حاليًا‪ ،‬إلى عشرة أيام أو عدة أسابيع على األكثر‪ .‬وعندما تم وضع هذه المهلة كان‬
‫العالم يسير على وتيرة بطيئة‪ ،‬فبإمكان أي رئيس أمريكي أن يتورط عسكريًا في أي مكان في العالم خالل‬
‫ساعات أو أيام على األكثر‪ ،‬ويفرض أمرًا واقعًا على الشعب األمريكي‪ ،‬وعلى الكونجرس الذي لن يكون‬
‫‪45‬‬
‫أمامه حق الممارسة الدستورية في معالجة األمر قبل الوصول إلى حافة الهاوية – الحرب‪.‬‬

‫‪William Blum, Killing Hope: U.S. Military and C.I.A Interventions since World‬‬
‫‪44‬‬

‫‪War II ( Buffalo, NY:Black Rose Books, 1998).‬‬


‫‪ 4545‬منذر سليمان‪" ،‬دولة األمن القومي وصناعة القرار األمريكي‪ :‬تفسيرات ومفاهيم"‪ ،‬المستقبل العربي‪ ،‬العدد ‪،325‬‬
‫مارس ‪ ،2006‬ص‪.34‬‬

‫‪146‬‬
‫ويفرق البعض عند معالجة كيفية وصناعة القرار األمريكي فيما يتعلق باألمن القومي والسياسة‬
‫الخارجية عمومًا بين ثالثة أمور مترابطة ومتشابكة لتحديد القوى والمصالح األساسية المحركة‪ ،‬وتتمثل‬
‫في‪:‬‬
‫‪46‬‬

‫‪ -1‬المثلث الحديدي للمصالح (المجمع الصناعي العسكري‪ ،‬المجمع النفطي والمجمع المالي) ولكل من‬
‫األضالع شبكته وتفرعاته‪.‬‬
‫‪ -2‬المجمع الفكري الذي يصوغ هذه المصالح وينظر لها لدى قدوم كل إدارة‪.‬‬
‫‪ -3‬األداة المتابعة والمنفذة والمروجة لهذه المصالح‪ ،‬والتي تتقاطع بين الجهاز التنفيذي واإلعالم‬
‫واالستشارات‪.‬‬
‫ويمكن القول إن الخالفات السابق ذكرها بين األجهزة الرئيسية المسئولة عن األمن القومي من أهم‬
‫الثغرات التي ساعدت على عدم اكتشاف هجمات ‪ 11‬سبتمبر قبل وقوعها‪ ،‬وهو ما سيتم دراسته تفصيًال‬
‫في المبحث الرابع‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬إعادة تعريف مفهوم وإ ستراتيجية األمن القومي األمريكي في أعقاب أحداث ‪11‬‬
‫سبتمبر ‪2001‬‬
‫انطلقت إدارة بوش في تصورها حول أولويات األمن القومي في فترة ما بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر من أن‬
‫على الواليات المتحدة مسئوليات موحدة باعتبارها القوة األعظم في العالم‪ .‬وقد قاد هذا التصور إدارة‬
‫بوش إلعادة التفكير في معنى األمن القومي األمريكي وذلك في إطار عملية تجاوزت الخالفات التقليدية‬
‫بين الفكر المحافظ والفكر التقليدي‪.‬‬
‫أوًال‪ :‬الموضوعات الرئيسية لألمن القومي التي تمت إعادة تعريفها‪:‬‬
‫تضمنت الموضوعات الرئيسية لألمن القومي التي تمت إعادة تعريفها خمسة موضوعات أساسية‪،‬‬
‫‪47‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬إعادة تعريف جغرافية األمن القومي‪:‬‬
‫كانت جغرافية األمن القومي في الماضي يتم تعريفها من خالل الحدود مع الدول األجنبية‪ ،‬حيث كان‬
‫على األعداء الخطيرين أن يمتلكوا اإلمكانيات البشرية والمادية التي تساعدهم على تجميع الجيوش‬

‫‪ 4646‬المرجع ذاته‪ ،‬ص ‪.35‬‬


‫‪47‬‬
‫‪Philip Zelikow, "The Transformation of National Security Five Redefinitions", The‬‬
‫‪National Interest, Spring 2003, pp.19.‬‬

‫‪147‬‬
‫والقوات البرية والبحرية ونشرها‪ .‬أما اليوم فإن حدود األمن القومي يمكن أن تكون في أي مكان في‬
‫العالم‪.‬‬
‫وكانت إدارة كلينتون قد اعتبرت أن الفقر واألمراض المزمنة‪ ،‬واألخطار البيولوجية والوراثية‬
‫واالنحطاط البيئي تشكل تهديدات خطيرة لألمن القومي‪ .‬وكل من هذه المخاطر ذات أبعاد عالمية‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن تهديدات األمن القومي في الحقبة الجديدة تأتي مصادرها من داخل المجتمعات وليس‬
‫من الحدود اإلقليمية بينها‪ .‬ولذلك فإن الصدامات الكبيرة في هذه الحقبة من التاريخ ليست بين الحضارات‬
‫وإ نما داخلها‪.‬‬
‫إن التأثيرات الناجمة عن إعادة التعريف تلك تطال كل مؤسسة أمن قومي رئيسية في اإلدارة‬
‫األمريكية‪ ،‬كما يظهر من التحول الكبير الذي طال الفرع التنفيذي لإلدارة‪ ،‬مع إنشاء وزارة لألمن‬
‫الداخلي‪ ،‬وإ عادة تنظيم مكتب التحقيقات الفيدرالي بهدف التوسع في نشاطه‪ ،‬باإلضافة إلى مراجعة ألداء‬
‫أجهزة االستخبارات‪ ،‬وإ نشاء قيادة جديدة موحدة‪ ،‬وإ عادة هيكلة لوزارة الدفاع‪ ،‬كما يحدث تغيير في‬
‫العالقات األساسية بين األجهزة األمنية على مختلف المستويات‪ ،‬مما أدى إلى تحطم اإلطار المعرفي‬
‫األساسي الذي نشأ عليه نظام األمن القومي في األربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين‪.‬‬
‫وقد أثرت إعادة التعريف الجغرافية لألمن القومي بعمق على األجندة الكلية للسياسة الخارجية‬
‫األمريكية‪ .‬وسواء كان التعامل يتم مع قضايا اإلرهاب أم مع قضايا الصحة العامة‪ ،‬فإن تقسيم السياسة‬
‫األمنية إلى بعدين محلي وخارجي ينهار‪ .‬وإ ذا كانت الواليات المتحدة تريد تطوير سياسات األمن القومي‬
‫لتصل إلى المجتمعات‪ ،‬فإن عليها أن تتضمن المبادئ والقيم األساسية‪.‬‬
‫‪ -2‬إعادة تعريف الصلة بين المبادئ والقوة‪:‬‬
‫تطورت الصورة التقليدية للمصالح األمريكية أثناء وفيما بعد الحرب العالمية الثانية بين الواقعية‬
‫والمثالية‪ .‬فالواقعية ُع رفت بتركيزها على حسابات القوة‪ ،‬في حين ركزت المثالية على المواضيع المتعلقة‬
‫بحقوق اإلنسان ومشكلة الفقر العالمية‪ ،‬والجوانب األخرى ذات الصلة بالرخاء اإلنساني‪.‬‬
‫وإ ذا كانت هذه الصيغة مالئمة لوصف الفصائل السياسية أو القادة السياسيين على أساس فردي‪ ،‬فقد‬
‫ُنظر إليها في إدارة جورج دبليو بوش على أنها غير مالئمة للواقع الحالي ألنها ال تستطيع التوصل إلى‬
‫طبيعة التناقضات الموجودة داخل إدارة أمريكية معينة‪ ،‬كما أنهما ال تفهم الدمج الجديد بين القوة‬
‫والمبادئ‪ ،‬وهو الدمج الذي أصبح له تأثير على توجيه السياسة الخارجية في إدارة جورج دبليو بوش‪.‬‬
‫إن مفهوم اإلدارة األمريكية بالعمل على التوصل إلى توازن قوي يعطي األفضلية للحرية‪ ،‬كما أشارت‬
‫إلى ذلك إستراتيجية األمن القومي األمريكي‪ُ ،‬يخضع حسابات القوة إلى القدرة على دعم المبادئ التي‬
‫تؤثر على العالقات بين الدول واألوضاع داخلها‪ .‬ولذلك أكدت اإلدارة على كل من القوة‪ ،‬واالستعداد‬
‫‪48‬‬
‫للتمييز بين الجيد والسيئ‪ ،‬والصواب من الخطأ‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫‪Ibid, pp 20-22.‬‬

‫‪148‬‬
‫‪ -3‬إعادة تعريف هيكل األمن الدولي‪:‬‬
‫يوجد سبب آخر للتفكير الجدي بشأن مركزية البعد األخالقي في إعادة تعريف األمن القومي األمريكي‬
‫يتمثل في الطريقة التي حاولت من خاللها إدارة بوش أن تحدث تكامًال بين المبادئ العالمية وسياسات‬
‫القوى العالمية‪ .‬فلمدة قرون‪ ،‬كان هيكل السياسة العالمية يتم تعريفه من خالل التنافس بين القوى الكبرى‪.‬‬
‫ورأت إدارة بوش أن من الممكن للواليات المتحدة أن تقوم بصياغة أجندات فعالة للتعاون مع كل مركز‬
‫أساسي للقوى العالمية مبنية على درجات غير عادية من االتفاق حول المبادئ األساسية في تنظيم‬
‫‪49‬‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫‪ -4‬إعادة تعريف التعددية‪:‬‬
‫واجهت السياسة الخارجية للواليات المتحدة معضلة تتمثل في االختيار بين االنفرادية والتعددية‪ ،‬راعي‬
‫البقر المتوحش في مواجهة الدبلوماسي المتعاون‪ .‬ورأى أنصار إدارة بوش أن كل ما تفعله اإلدارة‬
‫األمريكية في العالم يتم بصورة تعددية‪ .‬ويشمل ذلك سياسات اإلدارة األكثر أهمية‪ ،‬بما فيها السياسات‬
‫ذات الصفة العسكرية‪ ،‬كما اتضح في الحرب العالمية على اإلرهاب‪ ،‬والتي تمت إدارتها من خالل شبكة‬
‫‪50‬‬
‫من التعاون الدولي بين الحكومات‪ ،‬كما اتضح في الحملة العسكرية في أفغانستان‪.‬‬
‫‪ -5‬إعادة تعريف تهديدات األمن القومي بأخذ البعد الزمني في االعتبار‪:‬‬
‫كانت التهديدات في الماضي تظهر ببطء‪ ،‬وبشكل يمكن رؤيته غالبًا من خالل تكوين الجيوش‬
‫وتجهيزها للقتال‪ ،‬وقيام العدو باستعدادات مماثلة‪ .‬وكانت التهديدات األكبر تأتي من دول كبيرة قادرة على‬
‫تشكيل وتجهيز جيوش كبيرة في العصر الصناعي‪ .‬وكان يمكن لهذه الدول أن تتعرض لخسائر كبيرة من‬
‫جراء الحروب‪ .‬وتم تطوير مبدأ الردع لمواجهة هذه الدول في العصر ما قبل النووي‪ ،‬ثم في العصر‬
‫النووي‪.‬‬
‫أما في عالم اليوم‪ ،‬فإن التهديدات وفقًا لـ زيليكو تظهر في وقت أسرع‪ ،‬وبدون الحاجة إلى مراكمة عدد‬
‫كبير من الرجال والعتاد‪ .‬ولم يعد مصدر التهديدات يأتي بالضرورة من الدول الكبرى‪ .‬ومن هنا جاءت‬
‫فكرة الهجوم االستباقي إلدارة بوش كمبدأ إستراتيجي عسكري يالءم وفقًا لتصور مسئولي اإلدارة‬
‫ظروف القرن الحادي والعشرين‪ .‬وكان االنتقاد األساسي إلستراتيجية بوش المتعلقة بالضربة الوقائية‬
‫يتمثل في أن من األفضل االنتظار حتى تكون التهديدات واضحة على النطاق العالمي حتى يمكن صياغة‬
‫اتفاق حولها‪ ،‬وبالتالي يتم اتخاذ اإلجراءات المناسبة للقضاء عليها‪.‬‬
‫ويرى المؤيدون أن احتمال حصول عدو على أسلحة دمار شامل قد يحدث بسرعة‪ ،‬وبالتالي ال يمكن‬
‫االنتظار حتى تكون التهديدات ملحة‪ ،‬وبالتالي ال يكون من الصعب أو من المستحيل تحطيم تلك األسلحة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪Ibid, p. 23.‬‬
‫‪50‬‬
‫‪Ibid, pp 24-25.‬‬

‫‪149‬‬
‫لقد أثارت إدارة بوش جداًال على نطاق عالمي‪ ،‬ليس فقط حول أهداف القوة األمريكية‪ ،‬بل حول أهداف‬
‫النظام الدولي برمته‪ .‬ويرى المؤيدون لسياسة إدارة بوش أن اإلدارة لم تعارض ضرورة االعتماد على‬
‫المؤسسات الدولية للقيام بعمل جماعي‪ ،‬ولكنها ضغطت على الدول األخرى‪ ،‬لكي يحددوا بوضوح ما‬
‫يريدونه‪ ،‬وإ عادة النظر في الكيفية التي يمكن أن تقودهم إلى تحقيق تلك األهداف‪ ،‬وإ عادة تقييم العادات‬
‫القديمة على ضوء الحقائق الجديدة‪ .‬وأضاف مؤيدو إدارة بوش أن على المعارضين إما أن يقبلوا‬
‫التعريفات الجديدة لألمن القومي التي تم عرضها‪ ،‬أو أن يقدموا بدائل متماسكة‪ ،‬ويعملوا من خالل حقائق‬
‫‪51‬‬
‫العصر الحالي وليس من خالل حقائق الماضي‪.‬‬
‫وقد طالب المدافعون عن التعددية بدرجة أكبر من االعتماد على القواعد الدولية وأطر التعاون‪ ،‬وذلك‬
‫انطالقًا من إدراك أن ذلك من األمور الضرورية للتصدي للمشكالت المتنامية ذات األبعاد الدولية‬
‫ولتوزيع أعباء القيادة‪ ،‬وللحصول على شرعية دولية لما تقوم به الواليات المتحدة من إجراءات تحقق‬
‫‪52‬‬
‫األهداف األمريكية‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬األهداف اإلستراتيجية الجديدة لألمن القومي‪:‬‬


‫ركز مسئولو إدارة بوش خالل المراحل األولى من إعالنهم الحرب على ما ُيسمى باإلرهاب على مهام‬
‫محددة وضعوها ألنفسهم‪ ،‬وهي هزيمة طالبان وإ زاحة القاعدة عن أفغانستان‪ .‬وبحلول عام ‪ 2002‬بعد‬
‫سنة من وصولهم إلى السلطة‪ ،‬كانوا قادرين على التحرك نحو هدف أكبر ال يقتصر على استهداف دولة‬
‫أخرى أو جماعة إرهابية‪ ،‬ولكن طريق جديد كامل للتفكير حول العالقات األمريكية بالعالم‪ ،‬وكانوا‬
‫يستعدون لشن حملة جديدة مهدوا لها من خالل األحاديث واألوراق اإلستراتيجية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن فريق بوش عمل لفترة من الزمن داخل إطار األفكار التي تم تطويرها خالل‬
‫الحرب الباردة‪ ،‬فإنه في عام ‪ 2002‬وعقب أكثر من عقد على انهيار االتحاد السوفييتي‪ ،‬كان كثيرون‬
‫منهم شغوفين إلى تغيير تلك األفكار‪ ،‬والتوصل إلى أفكار جديدة‪ .‬ففي أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ ،‬كانت‬
‫لديهم رغبة في إجراء تغييرات واسعة ومستمرة في المبادئ التي توجه السياسة الخارجية األمريكية‪،‬‬
‫وكانوا مقتنعين بأن الواليات المتحدة دخلت حقبة جديدة تحتاج إلى مفاهيم جديدة لتوجيهها‪ ،‬وأثناء أحداث‬
‫‪ 11‬سبتمبر ‪ ،2001‬مّثل ونستون تشرشل إلهامًا لفريق إدارة بوش‪ ،‬الذين سعوا عقب أحداث ‪ 11‬سبتمبر‬
‫‪ 2001‬إلى التحول إلى أنماط تاريخية لقادة مثل هاري ترومان وجورج كينان ودين اتشيسون‪ ،‬وهم‬
‫مجموعة من الرجال الذين صاغوا سياسة خارجية جديدة ومجموعة جديدة من األفكار لمساعدة الواليات‬
‫‪53‬‬
‫المتحدة على التعامل مع االتحاد السوفييتي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫‪Ibid, pp.25-27.‬‬
‫‪51‬‬

‫‪Stewart Patrick and Shepard Forman, Multilateralism & U.S Foreign Ambivalent‬‬
‫‪52‬‬

‫‪Engagement (London, Lynne Rienner, 2002), p.1.‬‬


‫‪53‬‬
‫‪James Mann, Rise of the Vulcans (New York: Penguin Group, 2004), p.311.‬‬

‫‪150‬‬
‫جاءت إدارة بوش إلى الحكم ولديها رغبة محددة في التخلي عن ميراث الحرب الباردة‪ ،‬وتنفيذ األفكار‬
‫الخاصة بالدفاع الصاروخي‪ .‬وبدأت اإلدارة الجديدة بوضوح وباستمرار في مراجعة االفتراضات التي‬
‫حكمت األمن القومي لعدة عقود‪ .‬وعقب شهور من توليه منصبه‪ ،‬قام وولفويتز بزيارة إلى أوروبا ردد‬
‫فيها مقولة إن معاهدة الحد من الصواريخ البالستيكية التي تم التوصل إليها في عهد نيكسون لم تعد‬
‫صالحة اليوم‪ ،‬وذلك ألن عالم ‪ 2001‬مختلف بصورة كاملة عن عالم ‪ ،1972‬فقد واجهت الواليات‬
‫المتحدة تحديات جديدة نابعة من انتشار الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل‪ .‬ففي برلين‪ ،‬تساءل وولفويتز‪:‬‬
‫"لماذا نحن ال نزال ملتزمين بمفاهيم الحرب الباردة المتعلقة بالردع على الرغم من مرور اثني عشر عامًا‬
‫على انهيار حائط برلين"‪ 54.‬أما كوندوليزا رايس‪ ،‬فقد ذكرت في حديث لها احتوى على نقد ذاتي لعقلية‬
‫الحرب الباردة لديها‪" :‬لقد كنت متخصصة في الشئون السوفييتية‪ ،‬وكنت أدافع بشدة عن الحد من التسلح‬
‫‪55‬‬
‫وكنت مؤمنة بهذا الموضوع"‪.‬‬
‫وقد أدت أحداث ‪ 11‬سبتمبر إلى التسريع من رغبة اإلدارة األمريكية في إعادة النظر في أفكار الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬حيث خلقت تلك األحداث مناخًا جديدًا جعل اإلدارة مستعدة إلعادة النظر في المعتقدات األساسية‬
‫التي وجهت األمن القومي األمريكي منذ الحرب العالمية الثانية‪ .‬وقد ذكر مسئول في االستخبارات أنه‬
‫كان يعتقد أن أسلوب عمل إدارة جورج دبليو بوش كان مختلفًا عن سابقيه‪ ،‬و بدا أن فريق السياسة‬
‫الخارجية الجديد لديه شعور بعدم الصبر بشكل لم يلحظه أحد سواء في إدارة بوش األولى أم في إدارة‬
‫ريجان‪ .‬وأضاف المسئول‪" :‬أنا مندهش ألنه خالل الثالثين عامًا الماضية تعلمت أن األمور تعود إلى‬
‫طبيعتها خالل ستة أسابيع أو على األكثر شهرين عقب اندالع األزمة‪ ،‬ولكن هؤالء الناس ال يتغيرون‪،‬‬
‫‪56‬‬
‫فلديهم إصرار واضح على تحقيق أهداف‪ ،‬وال يريدون أن ترجع األمور إلى ما كانت عليه"‪.‬‬
‫وفي ديسمبر ‪ ،2001‬أخذت اإلدارة األمريكية الخطوة األولى األكبر في التخلي عن القواعد والقيود‬
‫التي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة عندما أعلن الرئيس بوش أن الواليات المتحدة ستنسحب من‬
‫معاهدة الحد من الصواريخ البالستيكية وذلك ألن هذه االتفاقية ُك تبت في زمن مختلف لمواجهة عدو‬
‫مختلف‪.‬‬
‫وقد كانت هناك إشارات مبكرة في إدارة بوش على أن الدفاع الصاروخي مثل وجهًا واحدًا فقط لتغيير‬
‫أوسع في اإلستراتيجية‪ .‬ففي أوائل عام ‪ ،2002‬سلم البنتاجون للكونجرس وثيقة مصنفة ُتدعى "مراجعة‬
‫الحالة األمنية"‪ .‬وفي هذه الوثيقة طلبت اإلدارة األمريكية تطوير أسلحة نووية جديدة أصغر حجمًا‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪56‬‬
‫‪Ibid.‬‬

‫‪151‬‬
‫ويمكن استخدامها ليس فقط تجاه القوى النووية الكبرى مثل روسيا والصين‪ ،‬وإ نما أيضًا ضد العراق‬
‫‪57‬‬
‫وكوريا الشمالية وإ يران وسوريا وليبيا‪.‬‬
‫كان تحرك إستراتيجية بوش الجديدة يهدف إلى نقل هدف السياسة النووية الجديدة من الدفاع والردع‬
‫إلى شن حرب قتالية‪ ،‬حيث يمكن وفقًا لما جاء في هذا التقرير استخدام أسلحة نووية ضد إمدادات العدو‬
‫من األسلحة الكيميائية أو البيولوجية‪ ،‬حيث يمكن استخدامها ردًا على هجوم من العراق على إسرائيل أو‬
‫أي من جيرانه‪ ،‬أو حدوث هجوم من جانب كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية‪ ،‬أو في حالة حدوث‬
‫مواجهة عسكرية حول وضع تايوان‪.‬‬
‫وقد كانت اإلدارة األمريكية تفكر في الدور الذي يمكن لألسلحة النووية األمريكية أن تلعبه في‬
‫الصراعات المستقبلية في العالم الثالث‪ ،‬حيث اعتبرت أن اإلرهابيين الذين قاموا بهجمات ‪ 11‬سبتمبر لم‬
‫يتم ردعهم عن القيام بتلك الهجمات بفعل الترسانة النووية األمريكية‪ ،‬فالردع‪ ،‬وهو العنصر األساسي في‬
‫اإلستراتيجية العسكرية األمريكية لم يعد مفهومًا مفضًال‪ ،‬فقد انجذبت اإلدارة نحو إستراتيجيات ركزت‬
‫على العمل العسكري الهجومي‪ .‬وكما قال رامسفيلد فإن "الدفاع ضد اإلرهاب والتهديدات البازغة في‬
‫القرن الحادي والعشرين يتطلب نقل الحرب إلى العدو‪ ،‬وذلك على اعتبار أن أفضل دفاع‪ ،‬وقد يكون‬
‫الدفاع الوحيد‪ ،‬هو الهجوم الجيد"‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫وقد كان الرمز األساسي في هذه التغييرات المفاهيمية األكبر هو كوندوليزا رايس مستشارة األمن‬
‫القومي‪ ،‬على الرغم من وجود رموز أكبر منها سنًا في دوائر اإلدارة الداخلية‪ ،‬مثل تشيني وباول‬
‫ورامسفيلد‪ ،‬حيث كان لـ رايس أهمية كبيرة من عدة نواح‪ .‬فمن بين المسئولين الكبار كانت هي األكثر‬
‫قربًا من الرئيس‪ ،‬وعندما كانت تحدث خالفات بين وزارتي الدفاع والخارجية تتسبب في أن ينصح‬
‫رامسفيلد بوش باتباع سياسة معينة‪ ،‬في الوقت الذي ينصح فيه باول باتباع سياسة مغايرة‪ ،‬فإن رايس هي‬
‫التي كانت تساعد الرئيس على اتباع سياسة ما‪ ،‬فقد عملت على الحدود المشتركة بين الرئيس ومستشاريه‬
‫من جانب‪ ،‬وفريق السياسة الخارجية من جانب آخر‪.‬‬
‫وقد جسدت رايس التحول الفكري العميق من إدارة بوش األولى إلى اإلدارة الثانية‪ ،‬وتم النظر إليها‬
‫على أنها وريثة تقاليد السياسة الخارجية لهنري كيسنجر وبرينت سكوكروفت‪ .‬فعندما كانت رايس أستاذة‬
‫للعلوم السياسية في جامعة ستانفورد أثناء إدارة جورج بوش األب‪ ،‬كانت تؤيد مبدأ الواقعية القائم على‬
‫االعتقاد في سياسة خارجية متشددة مبنية على المصالح القومية ودبلوماسية توازن القوى خالل الحملة‬
‫الرئاسية لعام ‪ .2000‬كما كانت رايس تدافع خالل الشهور األولى لبوش في السلطة عن رؤية حديثة‬
‫معدلة لنفس تلك التقاليد الواقعية‪ .‬وذهبت رايس إلى أن السياسة الخارجية األمريكية يجب أن تركز على‬
‫الدول األكبر واألكثر قوة خاصة الصين وروسيا‪ ،‬ويجب أن تتجنب التورط في مشروعات بناء الدولة‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪58‬‬
‫‪Ibid, p.315.‬‬

‫‪152‬‬
‫وال يجب أن تستخدم الواليات المتحدة جيشها للعب دور الشرطي في العالم‪ .‬فهذا التعريف الواسع‬
‫‪59‬‬
‫للمصلحة القومية يمكن أن تكون له آثار عكسية‪ ،‬ألن اآلخرين سيدعون ألنفسهم السلطة ذاتها‪.‬‬
‫وقد حرصت رايس على عدم إغضاب المحافظين الذين عارضوا أسلوب كيسنجر الواقعي‪ .‬وكما فعل‬
‫جورج دبليو بوش نفسه‪ ،‬فقد سعت رايس إلى تجنب أن يتم جرها إلى الخالفات بين فصائل الحزب‬
‫الجمهوري والتي تسببت في تدهور شعبية جورج بوش األب ومن قبله جيرالد فورد‪ .‬وقد دعت رايس‬
‫إلى واقعية تخدم المثاليات وهو شعار بدا أنه يهدف إلى حل الخالفات القديمة بين الجمهوريين‪ .‬وقد‬
‫نظرت رايس إلى مهمة فريق اإلدارة األمريكية في أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر على أنها مهمة تاريخية‬
‫بالمقارنة بحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬فالواليات المتحدة في رأي رايس ال تحارب اإلرهاب فقط‪،‬‬
‫وإ نما تؤسس نظامًا عالميًا جديدًا‪ ،‬مستغلة مرحلة السيولة التي كان النظام الدولي يمر بها منذ انهيار القوة‬
‫السوفييتية‪.‬‬
‫وقد اختلف تعامل اإلدارات األمريكية المتعاقبة مع تلك القضية‪ .‬وعلى الرغم من أنه ‪ ،‬في النصف‬
‫الثاني من عام ‪ ،1991‬بدا من غير الممكن هزيمة الرئيس جورج بوش األب سياسيًا‪ .‬ففي أعقاب حرب‬
‫الخليج الثانية بلغت نسبة الموافقة عليه ‪ .%90‬وعلى الرغم من ذلك فقد حدث تحول في الشهور التالية‬
‫بسبب المشكالت التي واجهت االقتصاد األمريكي في تلك الفترة‪ ،‬والتي جعلت الناخب األمريكي يعتقد أنه‬
‫على الرغم من أن بوش أثبت قدرته على أن يكون قائدًا عالميًا فعاًال‪ ،‬فإنه لم يستطع إثبات أن المشكالت‬
‫والقضايا الداخلية‪ ،‬خاصة االقتصادية منها‪ ،‬تحظى بنفس القدر من االهتمام لديه‪ ،‬ومن هنا كانت خسارة‬
‫بوش وفوز المرشح بل كلينتون الذي أعطى اهتمامًا أكبر في حملته االنتخابية للقضايا االقتصادية‪ 60.‬ومن‬
‫هنا كان تركيز كلينتون‪ ،‬خالل فترتي حكمه‪ ،‬على الداخل األمريكي‪ ،‬خاصة القضايا االقتصادية‪،‬‬
‫والتركيز على القوة الناعمة فيما يتعلق بعالقات الواليات المتحدة الخارجية‪.‬‬
‫أما إدارة جورج دبليو بوش‪ ،‬فقد سعت إلى استغالل أحداث ‪ 11‬سبتمبر لتكريس التحول في النظام‬
‫الدولي من خالل استخدام القوة العسكرية‪ ،‬وهو ما بدا واضحًا خالل المراحل األخيرة للحرب في‬
‫أفغانستان‪ ،‬ففي نوفمبر ‪ ،2001‬كان هناك تحول في الخطاب العام إلدارة بوش‪ ،‬حيث أكد مسئولون كبار‬
‫على خطورة حصول القاعدة على أسلحة دمار شامل‪ .‬وقال رامسفيلد في مقابلة تليفزيونية إن االعتقاد‬
‫‪61‬‬
‫بأن أسامة بن الدن لديه أسلحة كيميائية وبيولوجية هو أمر له ما يبرره‪.‬‬
‫وقد حذر بوش في حديثه أمام الجمعية العامة لألمم المتحدة من أن اإلرهابيين كانوا "يسعون للحصول‬
‫على أسلحة دمار شامل‪ ،‬وهي األدوات التي تمكنهم من تحويل كرههم إلى هولوكست"‪ .‬وكان ذلك إشارة‬
‫‪59‬‬
‫‪Condoleezza Rice, "Promoting the National Interest", Foreign Affairs, vol.79‬‬
‫‪(January/February 2000), pp.45-61.‬‬
‫‪60‬‬
‫‪David Halberstan, War in a Time of Peace Bush, Clinton and the Generals (New‬‬
‫‪York: Simon & Schuster, 2002), pp 9-14.‬‬
‫‪61‬‬
‫‪James Mann, Rise of the Vulcans, op., cit, p.317.‬‬

‫‪153‬‬
‫من اإلدارة إلى أنها متجهة إلى حرب أوسع تسيطر على سياسة إدارة بوش لفترة طويلة بعد‬
‫أفغانستان‪62.‬وفي ‪ 29‬يناير ‪ ،2002‬أخذ بوش الخطوة الثانية في إعادة توجيه الحرب على اإلرهاب‪ .‬ففي‬
‫خطاب "حالة االتحاد" فاجأ بوش األمريكيين والعالم باالدعاء باتهام ثالث دول هي العراق وإ يران وكوريا‬
‫الشمالية أطلق عليها "محور الشر" بالسعي إلى تطوير أسلحة دمار شامل‪ ،‬واعتبر أن بإمكان الدول أن‬
‫‪63‬‬
‫تعطي هذه األسلحة إلى اإلرهابيين‪.‬‬
‫حولت اإلدارة األمريكية خالل فترة تقل عن خمسة أشهر االنتباه فيما يتعلق بالحرب على اإلرهاب من‬
‫االنتقام من مدبري هجمات ‪ 11‬سبتمبر إلى إيقاف اإلرهابيين عن الحصول على أسلحة دمار شامل ومنع‬
‫الدول من إمداد اإلرهابيين بهذه األسلحة‪ ،‬وتركيز االنتباه على دول محور الشر وبرامجها النووية‪.‬‬
‫وبالتركيز على أسلحة الدمار الشامل‪ ،‬اعتبر الرئيس بوش أن هذه األنظمة تمثل خطرًا كبيرًا ومتناميًا‪.‬‬

‫خاتمة الفصل األول‪:‬‬

‫استعرض الفصل األول من الباب الثاني عددًا من الموضوعات المتعلقة بسياسة األمن القومي وهيكل‬
‫صنع القرار في قضايا األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬حيث قام باستعراض تفصيلي‬
‫للتجربة األمريكية في مجال المواءمة بين قرارات األمن القومي والديموقراطية في أوقات األزمات‪ .‬كما‬
‫قام بدراسة سياسة األمن القومي في الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬
‫وقد أوضحت التجربة األمريكية أنه على الرغم من الطبيعة الديموقراطية للنظام السياسي األمريكي‪،‬‬
‫فقد واجه هذا النظام صعوبة بالغة في إيجاد توافق بين حكم القانون والسلطات االستثنائية التي تمنحها‬
‫السلطة التنفيذية لنفسها في أوقات األزمات‪ ،‬كما فعل الرئيس لينكولن في فترة الحرب األهلية‪ ،‬وكما فعل‬
‫الرئيس ويلسون في الحرب العالمية األولى‪ ،‬والرئيس روزفلت في الحرب العالمية الثانية‪ .‬ومع مرور‬
‫الوقت سعت السلطة القضائية إلى وضع درجة أكبر من القيود على السلطات االستثنائية للتنفيذيين في‬
‫أوقات الطوارئ‪ ،‬وهو ما اتضح من عدم تمكن الرئيس ترومان من الحصول على سلطات طوارئ في‬
‫زمن الحرب الكورية‪.‬‬
‫وقد تطرق الفصل األول تفصيًال للتجربة األمريكية في مجال صنع قرار األمن القومي‪ ،‬والعالقات‬
‫المدنية العسكرية‪ ،‬وتأثير قرارات األمن القومي على المجتمع األمريكي‪ ،‬وما أدى إليه التقدم التكنولوجي‬
‫واختراع األسلحة النووية من زيادة مشكلة التعارض بين السرية التي ُتعد مكونًا مهمًا لألمن القومي‪،‬‬
‫وبين المبدأ الديموقراطي المتمثل في ضرورة إحاطة الجماهير علمًا بالسياسات العامة‪.‬‬
‫كما تطرق الفصل األول إلى دراسة سياسة األمن القومي في الواليات المتحدة‪ ،‬والعناصر األساسية‬
‫التي تساعد على فهم تلك السياسة وشرحها وتقييمها ‪ ،‬كالقيم والمصالح القومية األمريكية‪ ،‬والبيئتين‬

‫‪62‬‬
‫‪Ibid.‬‬
‫‪63‬‬
‫‪Ibid.‬‬

‫‪154‬‬
‫الدولية والمحلية‪ ،‬باإلضافة إلى أبعاد سياسة األمن القومي الدبلوماسية واالقتصادية والعسكرية‪ ،‬والهياكل‬
‫والعمليات المتعلقة بصنع قرار األمن القومي والمؤسسات المسئولة عن صنع قرار األمن القومي في‬
‫الواليات المتحدة األمريكية ‪ ،‬والسلطات التي يخولها الدستور لكل من تلك المؤسسات‪.‬‬
‫كما تم في الفصل األول دراسة ما حدث من إعادة تعريف مفهوم وإ ستراتيجية األمن القومي األمريكي‬
‫في أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪ ،2001‬واستعراض لألهداف اإلستراتيجية الجديدة األمن القومي‪.‬‬

‫‪155‬‬

You might also like