Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 30

‫شرح معاين أمساء القرآن وصفاته‬

‫من دالئل فضل القرآن الكرمي تع ّدد أمسائه وصفاته‪ ،‬وتلك األمساء والصفات دالة على‬
‫للمتأمل فيها دالئل فضل القرآن العظيم‪ ،‬وعظم‬ ‫يتبّي‬ ‫ٍ‬
‫معان جليلة وآاثر عظيمة مباركة ّ‬
‫ّ‬
‫‪.‬شأنه‬
‫متضمنة لصفات هلا آاثرها اليت ال تتخلف عنها‪ ،‬فليست أعالماً‬
‫فأما أمساؤه فهي أمساء ّ‬
‫ّ‬
‫اجملرد‪ ،‬وإمنا هي أعالم ذات أوصاف مقصودة‪ ،‬ودالئل بيّنة‬
‫‪.‬حمضة موضوعة للتعريف ّ‬

‫‪.‬القرآن والفرقان والكتاب والذكر ‪:‬وهي أربعة أمساء‬


‫إن هللا عز وجل مسى تنزيله الذي أنزله على نبيه حممد صلى ( ‪:‬قال ابن جرير الطربي ‪-‬‬
‫‪).‬هللا عليه وسلم أمساء أربعة‬
‫‪.‬مث ذكر األمساء املتقدمة أبدلتها‬
‫سمى كالم هللا الذي أنزله على نبيه صلى هللا عليه وسلم ( ‪:‬وقال أبو إسحاق الزجاج ‪-‬‬
‫يُ َّ‬
‫‪).‬كتااب‪ ،‬وقرآان‪ ،‬وفرقاان‪ ،‬وذكراً‬
‫ابب يف تفسري أمساء القرآن وذكر السورة ( ‪:‬وقال ابن عطية يف مقدمة تفسريه ‪-‬‬
‫‪).‬واآلية‪ ،‬هو القرآن وهو الكتاب وهو الفرقان وهو الذكر‬

‫علي حكيم‪،‬‬‫وأما صفات القرآن فكثرية جليلة جامعة ملعان عظيمة؛ فوصفه هللا أبنه ٌّ‬
‫وجميد وكرمي‪ ،‬وعزيز وعظيم‪ ،‬ومبارك وقيم‪ ،‬وأنه ِذ ْك ٌر وذكرى‪ ،‬وهدى وبشرى‪ ،‬وتذكرة‬
‫وموعظة‪ ،‬وبصائر ورمحة‪ ،‬ونور وبيان‪ ،‬وشفاء وفرقان إىل غري ذلك من صفاته اجلليلة‬
‫‪.‬العظيمة‬
‫معرفاً كما قال هللا‬
‫والفرق بّي االسم والصفة‪ :‬أن االسم يصح أن يطلق مفرداً ّ‬
‫تبارك الذي ّنزل الفرقان { ‪ ،:‬وقال }إن هذا القرآن يهدي لليت هي أقوم{ ‪:‬تعاىل‬
‫إن الذين كفروا { ‪:‬وقال }احلمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب{ ‪ ،:‬وقال}على عبده‬
‫‪}.‬ابلذكر ملا جاءهم وإنه لكتاب عزيز‬
‫مبجردها على‬
‫تدل الصفة ّ‬
‫وأما الصفات فهي الزمة للموصوف الظاهر أو املق ّدر؛ فال ّ‬
‫‪:‬املوصوف إال أن يكون مذكوراً ظاهراً أو معروفاً مق ّدراً‬
‫؛ فإذا أفردت الصفة عن }والقرآن اجمليد{‪} ،‬إنه لقرآن كرمي{ ‪:‬فالظاهر كقوله تعاىل ‪-‬‬
‫‪.‬املوصوف؛ فقلت‪" :‬الكرمي" و"اجمليد" انصرف املعىن إىل ما هو أقرب إىل الذهن‬
‫على القول أبن }هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقّي{ ‪:‬واملق ّدر حنو قوله تعاىل ‪-‬‬
‫‪.‬مرجع اسم اإلشارة إىل القرآن وهو أحد القولّي يف هذه اآلية‬
‫ومن الفروق بّي االسم والصفة أن الصفة غري املختصة حتتاج إىل تعريف لتتضح داللتها‬
‫‪.‬على املوصوف خبالف األمساء اليت جعلت أعالماً على املراد‬
‫يدل على أ ّن }فآمنوا ابهلل ورسوله والنور الذي أنزلنا{ ‪:‬فقوله تعاىل‬
‫وصف النور مبا ّ‬
‫املراد به القرآن‪ ،‬ولو أفرد لفظ "النور" وعزل عن هذا السياق إىل سياق آخر النصرف‬
‫‪.‬املعىن إىل ما هو أقرب إىل الذهن‬
‫توسع بعض العلماء يف تعداد أمساء القرآن؛ فع ّدوا صفاته من أمسائه‪ ،‬واشت ّقوا له‬
‫وقد ّ‬
‫‪.‬أمساء من بعض ما أخرب هللا به عنه‪ ،‬وهو خطأ ّبّي‬
‫وقد صنف يف ذلك احلرايل جزءا وأهنى أساميه إىل نيف وتسعّي وقال ( ‪:‬قال الزركشي‬
‫القاضي أبو املعايل عزيزي بن عبد امللك رمحه هللا اعلم أن هللا تعاىل مسى القرآن خبمسة‬
‫‪).‬ومخسّي امساً‬
‫وزعم الفريوزآابدي أن للقرآن مائة اسم وع ّد نيّفا وتسعّي امسا منها‪ ،‬ويف كثري منها‬
‫يصح؛ حىت ع ّد يف أمسائه‪ :‬النجوم والنعمة والثقيل واملثبّت واملرتَّل والتفسري‬
‫‪.‬تكلّف ال ّ‬
‫يفرقون بّي األمساء والصفات واألخبار‬
‫‪.‬وأكابر العلماء ّ‬

‫يصح اعتبارها أمساء ويصح اعتبارها أوصافاً؛ فتقول‪ :‬إن‬


‫املتضمنة للصفات ّ‬
‫ّ‬ ‫واألمساء‬
‫‪.‬الفرقان من أمساء القرآن‪ ،‬وتقول‪ :‬إن من صفات القرآن أنه فرقان‬

‫وأتمل دالئلها العظيمة‪ ،‬وآاثرها املباركة يفتح‬‫والتفكر يف معاين أمساء القرآن وصفاته‪ّ ،‬‬
‫للمؤمن أبواابً من اليقّي النافع الذي جيد أثره يف قلبه ونفسه‪ ،‬ويعرفه بفضله وعُلُ ِو قَ ْد ِرهِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪.‬و ِعظَِم شأنه‪ ،‬ويرغّبه يف تالوته وتدبّره واتّباع هداه‬
‫َ‬
‫فمن أمسائه القرآن‪ ،‬وهو أصل أمسائه وأشهرها‪ ،‬ومسّي قرآانً ألنّه الكتاب الذي ّاّتذ‬
‫‪.‬للقراءة الكثرية اليت ال يبلغها كتاب غريه‬

‫‪:‬وقد اختلف العلماء يف اشتقاق لفظ "القرآن" على قولّي‬


‫أنه علم جامد غري مشتق‪ ،‬وهو قول الشافعي ومجاعة من العلماء‪ ،‬وكان ‪:‬القول األول‬
‫‪.‬الشافعي ينطق اسم القرآن بغري مهز "ال ُقران" وهي قراءة ابن كثري امل ّكي‬
‫ال ُق َران اسم وليس مبهموز‪ ،‬ومل ( ‪:‬وقد روى ابن عبد احلكم عن الشافعي أنه كان يقول‬
‫‪).‬يؤخذ من قرأت‪ ،‬ولكنه اسم لكتاب هللا‪ ،‬مثل التوراة واإلجنيل‬
‫‪:‬أنه مشتق‪ ،‬واختلف يف أصل اشتقاقه على ثالثة أقوال ‪:‬والقول الثاين‬
‫أنه مشتق من القراءة اليت هي مبعىن التالوة‪ ،‬تقول‪ :‬قرأت قراءة وقرآان‪ ،‬قال ‪:‬أحدها ‪-‬‬
‫‪}.‬فإذا قرأانه فاتّبع قرآنه{ ‪:‬هللا تعاىل‬
‫‪:‬وقال حسان بن اثبت يف راثء عثمان بن عفان‬
‫ضحوا أبمشط عنوان السجود به‬
‫يقطّع الليل تسبيحا وقرآان ‪ّ ..‬‬
‫ورجحه‬
‫أي قراءة‪ ،‬وهذا القول قال به ابن جرير الطربي‪ ،‬وأسند معناه إىل ابن عباس‪ّ ،‬‬
‫‪.‬ابن عطية‬
‫‪.‬وعلى هذا القول يكون القرآن مبعىن املقروء‪ ،‬تسمية للمفعول مبصدره‬
‫اجلم ِع‪ ،‬وهو مروي عن قتادة‪ ،‬وقال به أبو عبيدة ‪:‬والقول الثاين ‪-‬‬
‫أنه مشت ّق من ْ‬
‫‪:‬والزجاج ومجاعة من العلماء‪ ،‬واحتجوا بقول عمرو بن كلثوم‬
‫هجان اللون مل تقرأ جنينا ‪..‬ذراعي عيطل أدماء بكر‬
‫تضم يف رمحها ولداً‬
‫‪.‬قالوا‪ :‬أي‪ :‬مل ّ‬
‫‪).‬وإمنا مسّى قرآان ألنه جيمع السور فيضمها( ‪:‬قال أبو عبيدة‬
‫أنه مشتق من اإلظهار والبيان‪ ،‬وأن القراءة إمنا مسّيت قراءة ملا فيها ‪:‬والقول الثالث ‪-‬‬
‫وفسر قول عمرو‬
‫من إظهار احلروف‪ ،‬وبيان ما يف الكتاب‪ ،‬وقد قال هبذا القول قطرب‪ّ ،‬‬
‫ابلوالدة؛ أي مل تُل ِْق من رمحها ولداً‪ ،‬وأرجع املعىن إىل أصل )مل تقرأ جنينا( ‪:‬بن كلثوم‬
‫‪.‬اإلظهار والبيان‬
‫إمنا ُمسي القرآن قرآانً‪ ،‬ألن ( ‪:‬قال قطرب فيما ذكره عنه أبو منصور األزهري يف الزاهر‬
‫‪).‬القارئ يُظهره ويبيّنه‪ ،‬ويلقيه من فيه‬

‫كتاب خاّت َذ للقراءة الكثرية‬


‫وأرجح األقوال أنه مشتق من القراءة‪ ،‬وأنه مسّي قرآان ألنّه ٌ‬
‫تدل‬
‫ويدل على ذلك بناء االسم على صيغة "فُ ْعالن" اليت ّ‬
‫اليت ال يبلغها كتاب غريه‪ّ ،‬‬
‫دل عليه قول هللا‬ ‫وحسبان وغُفران و ُشكران‪ ،‬مع ما ّ‬ ‫كسبحان ُ‬ ‫على بلوغ الغاية‪ُ ،‬‬
‫آان َع َربِيًّا ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن (‪: {3‬تعاىل‬
‫ّي (‪ )2‬إِ َّان َج َعلْنَاهُ قُ ْر ً‬‫اب ال ُْمبِ ِ‬‫ْكتَ ِ‬ ‫})حم (‪ )1‬وال ِ‬
‫َ‬
‫آن { ‪:‬وقال تعاىل‬‫ت بِ ُقر ٍ‬ ‫ال الَّ ِذين َال ي رجو َن لَِقاء َان ائْ ِ‬ ‫وإِذَا تُ ْت لَى َعلَْي ِهم آَيتُنَا ب يِنَ ٍ‬
‫ات قَ َ‬ ‫ْ َ َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫َ‬
‫‪}.‬غَ ِْري َه َذا أ َْو بَ ِّدلْهُ‬
‫‪.‬وال ُقرآن وال ُق َران مبعىن واحد‪ ،‬وإمنا مها لغتان إحدامها ابهلمز‪ ،‬واألخرى ابلنقل والتسهيل‬
‫اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ "قرآن" مهموزاً حيثما وقع يف ( ‪:‬قال ابن عاشور‬
‫التنزيل‪ ،‬ومل خيالفهم إال ابن كثري قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة ّتفيف املهموز‪،‬‬
‫‪).‬وهي لغة حجازية‪ ،‬واألصل توافق القراءات يف مدلول اللفظ املختلف يف قراءته‬
‫ت" مبعىن اجلمع‪ ،‬وذهب‬
‫وذهب علم الدين السخاوي إىل أ ّن "قُران" مشت ّق من "قَ َرنْ ُ‬
‫‪.‬بعضهم إىل أنّه اسم مجع‪ ،‬والصواب ما تق ّدم‬

‫ذلك { ‪:‬وأما تسميته ابلكتاب؛ فألنّه مكتوب‪ ،‬أي جمموع يف صحف‪ ،‬قال هللا تعاىل‬
‫هللا ال إله إال هو احلي القيوم ‪ّ .‬نزل عليك الكتاب { ‪ ،:‬وقال تعاىل}الكتاب ال ريب فيه‬
‫‪}.‬حم والكتاب املبّي{ ‪ ،:‬وقال}ابحلق‬
‫‪.‬والالم يف هذه املواضع للعهد الذهين الذي جيعل القرآن أوىل به مما سواه عند اإلطالق‬
‫كل ما أنزله هللا من الكتب‪ ،‬فيكون التعريف فيه‬ ‫ويطلق لفظ "الكتاب" أحياان على ّ‬
‫ََّن { ‪:‬للجنس املخصوص؛ كما قال هللا تعاىل‬ ‫ت َِّ‬
‫اَّلل أ َّ‬ ‫ادلُو َن ِيف آَي ِ‬ ‫أََمل تَر إِ َىل الَّ ِذين ُجي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ف يَ ْعلَ ُمو َن (‪70‬‬ ‫اب َوِمبَا أ َْر َسلْنَا بِ ِه ُر ُسلَنَا فَ َس ْو َ‬‫ْكتَ ِ‬‫صرفُو َن (‪ )69‬الَّ ِذين َك َّذبوا ِابل ِ‬
‫َ ُ‬ ‫})يُ ْ َ‬
‫اب ُكلِّ ِه { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫وهنُم وَال ُُِيبخونَ ُكم وتُ ْؤِمنُو َن ِابل ِ‬ ‫}‪..‬هاأَنْ تُم أ َ ِ ِ‬
‫َْ‬ ‫ُوالء ُحتبخ َ ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫خاصة؛ كما يف قول هللا تعاىل‬ ‫آم َن أ َْه ُل { ‪:‬ويطلق أحياان على التوراة واإلجنيل ّ‬ ‫َول َْو َ‬
‫آمنُوا ِمبَا نَ َّزلْنَا مص ِّدقًا لِما { ‪:‬وقوله }ال ِ‬ ‫ْكتاب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ريا َهلُ ْم‬ ‫ْكتَ ِ‬
‫اب لَ َكا َن َخ ْ ً‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ين أُوتُوا ال َ َ‬ ‫ََيأَيخ َها الَّذ َ‬
‫‪}.‬م َع ُك ْم‬
‫َ‬
‫‪.‬وله إطالقات أخرى حبسب السياق‬
‫والكتاب "فِعال" مبعىن "مفعول" أي "مكتوب"؛ واشتقاقه من اجلمع والضم على قول‬
‫‪.‬كثري من العلماء‬
‫وضمها؛ كما مسّيت الكتيبة كتيبة‬
‫قال بعضهم‪ :‬إن الكتاب مسّي كتاابً جلمعه األحرف ّ‬
‫‪.‬لضمها اجلنود املقاتلّي‬
‫ّ‬
‫‪.‬وهذا يف تسمية جنس الكتب بذلك‬
‫وأما تسمية القرآن ابلكتاب؛ فاألظهر أنه مسّي بذلك للداللة على مجعه ما ُُيتاج فيه إىل‬
‫ّ‬
‫بيان اهلدى يف مجيع شؤون العباد؛ فجمع األحكام واحلكمة واآلداب والبصائر واملواعظ‬
‫‪.‬واهلدى وما تقوم به مصاحل دينهم ودنياهم‬
‫يدل على هذا املعىن أ ّن هللا تعاىل وصفه ابلكتاب املبّي‪ ،‬وحذف متعلّق البيان إلفادة‬
‫ومما ّ‬
‫‪.‬العموم‬

‫وأما تسميته ابلفرقان؛ فألنّه فرقان بّي احل ّق والباطل؛ وبّي سبيل املؤمنّي وسبل‬
‫‪.‬الفاسقّي من الكفار واملنافقّي‬
‫وال ُف ْرقَان مصدر مف ّخم للداللة على بلوغ الغاية يف التفريق وبيان ال َف ْرق‪ ،‬وأوجه التفريق‬
‫متنوعة‬
‫‪.‬القرآين كثرية ّ‬
‫وأصل "الفرقان" عندان‪ :‬الفرق بّي الشيئّي والفصل بينهما‪: ( .‬قال ابن جرير الطربي‬
‫املفرقة‬
‫وقد يكون ذلك بقضاء‪ ،‬واستنقاذ‪ ،‬وإظهار حجة‪ ،‬ونصر وغري ذلك من املعاين ّ‬
‫بّي احملق واملبطل؛ فقد تبّي بذلك أن القرآن مسي "فرقاان"‪ ،‬لفصله ‪-‬حبججه وأدلته‬
‫وحدود فرائضه وسائر معاين حكمه‪ -‬بّي احملق واملبطل‪ .‬وفرقانه بينهما‪ :‬بنصره احملق‪،‬‬
‫‪.‬ا‪.‬ه )وّتذيله املبطل‪ ،‬حكما وقضاء‬

‫عام يف الدنيا واآلخرة‬


‫‪:‬وفرقان القرآن ّ‬
‫ويبّي أدلته‪ ،‬وصفات أهله‪ ،‬وآداهبم‬
‫يعرف ابحل ّق ّ‬
‫فهو يف الدنيا فرقان بّي احلق والباطل؛ ّ‬
‫ويعرف بصفات أهله‬
‫ويبّي بطالنه‪ّ ،‬‬
‫ويبّي سبله ّ‬
‫ويعرف ابلباطل ّ‬
‫وأحكامهم وجزاءهم‪ّ ،‬‬
‫‪.‬وعالماهتم وجزاءهم يف الدنيا واآلخرة‬
‫وهو فرقان للمؤمن املتّقي يكشف له ما يلتبس عليه يف أمور دينه ودنياه‪ ،‬فقد يشتبه‬
‫يطمئن‬
‫ّ‬ ‫على املرء أمران ويعتلجان يف صدره الشتباههما والتباس بعضهما ببعض؛ فال‬
‫يتبصر ابلتفريق بينهما؛ ويكون على بيّنة من أمره؛ كما قال مسكّي بن عامر‬
‫حىت ّ‬
‫‪:‬الدارمي‬
‫فرقت بينهما ‪ ..‬من بعد ما اشتبها يف الصدر واعتلجا‬
‫ب أمرين قد ّ‬
‫َي ُر َّ‬
‫الود أحياانً ملن مزجا‬
‫أُدمي ودي ملن دامت مو ّدته ‪ ..‬وأمزج َّ‬
‫واملقصود أ ّن القرآن فيه فرقان للمؤمن يف تلك األمور اليت تعتلج يف الصدر وتشتبه يف‬
‫‪.‬ظاهر األمر‬
‫وهو فرقان ألنّه يفرق صاحبه مبا يرشده به إىل صراط هللا املستقيم عن مشاهبة املغضوب‬
‫عليهم والضالّي يف أعماهلم وأقواهلم وأحواهلم وعاقبتهم؛ فيهدي صاحبه إىل اهلدى‬
‫‪.‬األقوم الذي يصلح به شانه‪ ،‬وينال به الكفاية من ربّه‪ ،‬وحسن العاقبة يف الدنيا واآلخرة‬

‫يفرق بّي أتباعه وخمالفيه؛ فيشفع ملن آمن به واتّبع هداه‬


‫وهو يف اآلخرة فرقان مبّي ّ‬
‫وُياج عنه ويظلّه يف املوقف العظيم‪ ،‬وميحل مبن كفر به وخالف هداه واشرتى به مثناً‬
‫ّ‬
‫‪.‬قليالً‬

‫وأما تسميته ابلذكر وذي الذكر؛ فقد وردت يف مواضع من القرآن منها قول هللا‬
‫لتبّي للناس ما ّنزل إليهم ولعلهم يتفكرون{ ‪:‬تعاىل‬
‫إان { ‪ ،:‬وقوله }وأنزلنا إليك الذكر ّ‬
‫‪}.‬حنن نزلنا الذكر وإان له حلافظون‬
‫شك من ذكري{ ‪:‬ونسبه إليه نسبة تشريف وتعظيم فقال‬
‫‪}.‬بل هم يف ّ‬
‫‪}.‬ص ‪ .‬والقرآن ذي الذكر{ ‪:‬ومسّاه بذي الذكر يف قوله تعاىل‬
‫‪:‬وللذكر هنا معنيان‬
‫‪.‬مبعىن التذكري ‪:‬أحدمها‬
‫‪.‬مبعىن املذكور ‪:‬واآلخر‬

‫فالداللة عليه ظاهرة يف مواضع كثرية من القرآن الكرمي؛ بل هو من ‪:‬فأما املعىن األول‬
‫طه ‪ .‬ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ‪ .‬إال { ‪:‬أعظم مقاصد إنزاله كما قال هللا تعاىل‬
‫}كال إنّه تذكرة{ ‪:‬وقال }تذكرة ملن خيشى‬
‫جل وعال‪،‬‬
‫فسمي ابلذكر على هذا املعىن لكثرة تذكريه وحسنه؛ فهو يذ ّكر العبد بربّه ّ‬
‫ّ‬
‫ويذ ّكره بسبيل سعادته وفوزه برضوان ربّه تعاىل وعظيم فضله وثوابه‪ ،‬ويذ ّكره مبا جيب‬
‫عليه أن يتجنّبه ليتّقي سخطه وعقابه؛ ويذ ّكره مبا ينفعه يف دينه دنياه وآخرته من أنواع‬
‫واملتنوعة واحملكمة‬
‫ّ‬ ‫‪.‬الذكرى الكثرية‬
‫ذلك نتلوه { ‪:‬وقد وصف هللا تذكريه ابإلحكام والداللة على احلكمة؛ كما قال هللا تعاىل‬
‫حكيم َمن اتّبعه هداه إىل الصراط }عليك من اآلَيت والذكر احلكيم‬ ‫ٌ‬ ‫؛ فهو ِذ ْك ٌر‬
‫ش ْرهُ { ‪:‬املستقيم؛ كما قال هللا تعاىل‬ ‫ب فَ بَ ِّ‬ ‫الر ْمحَ َن ِابلْغَْي ِ‬ ‫إِ َّمنَا تُ ْن ِذ ُر َم ِن اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر َو َخ ِش َي َّ‬
‫ٍِ‬
‫َج ٍر َك ِر ٍمي (‪11‬‬ ‫})ِمبَغْف َرة َوأ ْ‬
‫ومن أعرض عنه فقد خسر وغُنب‪ ،‬إذ فاته الفضل العظيم والثواب الكرمي‪ ،‬وابء ابخلسران‬
‫والذل واهلوان‪ ،‬والعذاب األليم واخلزي العظيم؛ كما ّبّي هللا ذلك بقوله‬ ‫{ ‪:‬واحلرمان‪ّ ،‬‬
‫ول َسبِ ًيال (‪ََ )27‬ي َويْ لَ َىت ل َْي تَِين‬‫الر ُس ِ‬
‫ت َم َع َّ‬ ‫ول ََيل َْي تَ ِين َّاّتَ ْذ ُ‬‫ض الظَّ ِاملُ َعلَى يَ َديْ ِه يَ ُق ُ‬‫َويَ ْو َم يَ َع خ‬
‫الش ْيطَا ُن لِ ِْْلنْس ِ‬
‫ان‬ ‫ضلَِّين َع ِن ال ِّذ ْك ِر بَ ْع َد إِ ْذ َجاءَِين َوَكا َن َّ‬ ‫َّت ْذ فَُال ًان َخلِ ًيال (‪ )28‬لََق ْد أَ َ‬ ‫َمل أ َِّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وال (‪29‬‬
‫}) َخ ُذ ً‬
‫ش ُرهُ يَ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة أَ ْع َمى { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ض َع ْن ِذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َم ِعي َشةً َ‬
‫ض ْن ًكا َوَْحن ُ‬ ‫َوَم ْن أَ ْع َر َ‬
‫ال َك َذلِ َ‬ ‫ب ِمل ح َشرتَِين أَ ْعمى وقَ ْد ُك ْن ُ ِ‬
‫آَيتُنَا‬
‫ك َ‬‫ك أَتَ ْت َ‬ ‫ريا (‪ )125‬قَ َ‬
‫ت بَص ً‬ ‫َ َ‬ ‫ال َر ِّ َ َ ْ‬ ‫(‪ )124‬قَ َ‬
‫ك الْيَ ْو َم تُ ْن َسى (‪126‬‬ ‫})فَ نَ ِسيتَ َها َوَك َذلِ َ‬

‫الذكر مبعىن املذكور أي الذي له الذكر احلسن‪ ،‬والشرف الرفيع‪ ،‬واملكانة ‪:‬واملعىن الثاين‬
‫‪.‬العالية‬
‫‪}.‬والقرآن ذي الذكر{ ‪ ،:‬وقال تعاىل}وإنّه لذكر لك ولقومك{ ‪:‬قال هللا تعاىل‬
‫‪.‬قال ابن عباس وسعيد بن جبري وغريمها‪ :‬ذي َّ‬
‫الش َرف‬
‫تشرفهم به ورفعتهم‬
‫ومن آاثر هذا املعىن أن القرآن يرفع أصحابه وجيعل هلم ذكراً؛ فإ ّن ّ‬
‫‪.‬به أثر من آاثر شرفه هو ورفعته‬

‫‪:‬فصل‬
‫وأما صفات القرآن اليت وصفه هللا هبا يف كتابه العظيم فهي صفات جليلة بديعة جامعة‬
‫التأمل أيقن بعظمة هذا القرآن‪ ،‬وعظمة صفاته وآاثره يف‬ ‫ٍ‬
‫أتملها ح ّق ّ‬
‫ملعان عظيمة من ّ‬
‫‪.‬الدنيا واآلخرة‬
‫ليستدل املوفّق اللبيب مبا‬
‫ّ‬ ‫وسأوجز احلديث يف بيان معانيها وسعة دالئلها وجاللة آاثرها‬
‫ث يف تقصريه وقصوره عن بلوغ ما يستح ّقه‬ ‫ويعذر املتح ّد َ‬
‫َ‬ ‫ذُكِ َر على عظمة ما مل يُذكر‪،‬‬
‫وعلو قدرها ولطائف‬
‫هذا القرآن العظيم من حسن التعريف بصفاته وبيان عظم شأهنا ّ‬
‫‪.‬إشاراهتا‬
‫‪:‬فأقول ومن هللا أستم ّد العون والتوفيق والتسديد‬

‫علي فقد ورد يف قول هللا تعاىل‬ ‫اب لَ َديْنَا ل ََعلِ ٌّي { ‪:‬أما وصفه أبنه ٌّ‬ ‫وإِنَّهُ ِيف أُِم ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫يم‬ ‫علو قدره ومنزلته‪ ،‬وعلو صفاته‪ ،‬وتنزهه عن الباطل ِ‬
‫}حك ٌ‬ ‫َ‬ ‫وهذا الوصف يشمل َّ‬
‫واالختالف والتناقض والضعف وسائر ما ال يليق بكالم هللا تعاىل من أوصاف النقص‪،‬‬
‫َوإِنَّهُ ِيف { ‪:‬وهذا الوصف له ما يقتضيه كما قال ابن كثري رمحه هللا يف تفسري قوله تعاىل‬
‫يم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب َّّي شرفَه يف املأل األعلى‪ ،‬ليش ِرفَه ِ‬
‫ويعظّمه ويطيعه ‪ ،:‬قال}أُِم ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫اب لَ َديْ نَا ل ََعل ٌّي َحك ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ََ‬
‫‪).‬أهل األرض‬
‫ُ‬

‫معان ·‬‫‪:‬وأما وصفه أبنه حكيم؛ فيتضمن ثالثة ٍ‬


‫اَّلل { ‪:‬أنه ُحمكم ال اختالف فيه وال تناقض كما قال تعاىل‪:‬أحدها‬ ‫ولَو َكا َن ِمن ِع ْن ِد غَ ِْري َِّ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫اطل ِمن ب ْ ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ريا‬
‫ّي يَ َديْه َوَال { ‪:‬وقال}ل ََو َج ُدوا فيه ا ْخت َالفًا َكث ً‬‫اب َع ِز ٌيز * َال ََيْتيه الْبَ ُ ْ َ‬ ‫َوإِنَّهُ لَكتَ ٌ‬
‫‪}.‬من َخل ِْف ِه تَ ْن ِزيل ِمن ح ِك ٍيم َِ‬
‫مح ٍ‬
‫يد‬ ‫ِ‬
‫ٌ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫أنه حكيم مبعىن حاكم على الناس يف مجيع شؤوهنم شاؤوا أم أبوا‪ ،‬أما املنقادون ‪:‬والثاين‬
‫حلكمه الشرعي فيجدون فيه بيان احلق فيما اختلفوا فيه‪ ،‬وأما املعرضون ففيه بيان ما‬
‫‪.‬يصيبهم من اجلزاء النافذ فيهم يف الدنيا واآلخرة‬
‫وهو ‪-‬كذلك ‪ -‬حاكم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها وانسخ هلا وشاهد بصدق‬
‫ّي يَ َديْ ِه ِم َن { ‪:‬ما أنزل هللا فيها كما قال تعاىل‬ ‫ْكتاب ِاب ْحل ِّق م ِ ِ‬
‫ص ّدقًا ل َما بَ ْ َ‬
‫ك ال َ َ َ ُ َ‬
‫وأَنْ زلْنَا إِلَي َ ِ‬
‫َ َ ْ‬
‫اب َوُم َه ْي ِمنًا َعلَْي ِه‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫}ال ِ‬
‫ص { ‪:‬وهو حاكم فيما اختلف فيه أهل الكتاب قبلنا كما قال تعاىل‬ ‫إِ َّن ََٰه َذا الْ ُق ْرآ َن يَ ُق خ‬
‫يل أَ ْكثَ َر الَّ ِذي ُه ْم فِ ِيه َخيْتَلِ ُفو َن‬‫ِ ِ‬
‫وقال}علَ َٰى بَِين إ ْس َرائ َ‬
‫َ‬ ‫اح ُك ْم بَ ْي نَ ُه ْم ِمبَا أَنْ َز َل { ‪،:‬‬‫َن ْ‬ ‫وأ ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫‪}.‬اَّللُ‬
‫ك ِم َن { ‪:‬أنه ذو احلكمة البالغة‪ ،‬كما قال تعاىل‪:‬واملعىن الثالث‬ ‫ك َربخ َ‬ ‫ك ِممَّا أ َْو َح َٰى إِل َْي َ‬ ‫َٰذَلِ َ‬
‫‪ ،‬وقد مجع هللا فيه من جوامع الكلم املبينة ألصول الدين وفروضه وآدابه }ا ْحلِ ْك َم ِة‬
‫وحماسن األخالق واملواعظ واحلقوق والواجبات واألمثال والقصص احلكيمة ما ال يوجد‬
‫يف كتاب غريه فمن أخذها وعمل هبا فقد أخذ احلكمة من أعظم مصادرها وأقرهبا‬
‫ُوِت َخ ْ ِ‬ ‫}ومن ي ْؤ َ ِ‬
‫ريا{‪:‬وأيسرها‪ ،‬ويف تفسري قول هللا تعاىل‬ ‫ت ا ْحل ْك َمةَ فَ َق ْد أ ِ َ ً‬
‫ريا َكث ً‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫‪.‬رواه ابن ايب حامت )قراءة القرآن والفكرة فيه( ‪:‬قال أبو الدرداء يف تفسري احلكمة‬
‫يعين املعرفة ابلقرآن انسخه ومنسوخه وحمكمه ومتشاهبه ‪ ،‬ومقدمه ( ‪:‬وقال ابن عباس‬
‫‪.‬ومؤخره‪ ،‬وحالله وحرامه‪ ،‬وأمثاله)‪ .‬رواه ابن جرير وابن أيب حامت‬
‫رواه ابن جرير ‪).‬احلكمة‪ :‬الفقه يف القرآن( ‪:‬وقال قتادة‬
‫‪.‬وروي حنوه عن جماهد وأيب العالية الرَيحي ومقاتل بن حيان‬
‫وروي عن غريهم أوجهاً أخرى يف تفسري احلكمة ال تعارض ما سبق ألن أصل احلكمة‬
‫‪.‬وجمامعها يف القرآن احلكيم‬

‫‪:‬وأما وصفه أبنه جميد؛ فيتضمن معنيّي ·‬


‫أنه املَُم َّجد أي الذي له صفات اجملد والعظمة واجلالل اليت ال يدانيها أي ‪:‬أحدمها‪-‬‬
‫كالم ‪ ،‬املتنزه عما يقوله اجلاهلون مما ال يليق به كدعوى بعض الكفار أنه سحر أو شعر‬
‫‪.‬أو من كالم البشر‬
‫وذلك أن وصف اجملد يف اللغة يستلزم عدداً من صفات الكمال واجلالل والعظمة اليت‬
‫‪.‬يكون هبا املوصوف جميداً‬
‫‪.‬فكل صفة عظيمة يوصف هبا القرآن هي من دالئل جمده‬
‫املمجد ملن آمن به وعمل هبديه؛ فيكون ألصحاب القرآن من اجملد ‪:‬واملعىن اآلخر ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫أنه ّ‬
‫والعظمة والعزة والرفعة يف الدنيا واآلخرة ما ال ينالونه بغريه أبداً كما يف صحيح مسلم‬
‫إن هللا ((‪:‬من حديث عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال‬
‫))يرفع هبذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين‬
‫‪).‬من قرأ القرآن عظمت قيمته( ‪ :‬قال الشافعي رمحه هللا ‪-‬‬
‫يعظّم اتليه كما ِ‬
‫يعظّم القرآن أصحابَه ويشرفهم ويكرمهم ويعلي منزلتهم ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫‪.‬وال جتد كتاابً ُ‬
‫روى اإلمام أمحد والنسائي ومجاعة من أهل احلديث إبسناد صحيح عن عبد الرمحن بن‬
‫بديل بن ميسرة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أنس بن مالك رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫» إن هلل عز وجل أهلّي من الناس « ‪:‬هللا عليه وسلم‬
‫قالوا ‪ :‬ومن هم َي رسول هللا ؟‬
‫‪ ».‬أهل القرآن ؛ أهل هللا وخاصته «‪:‬قال‬
‫فأضافهم هللا إىل كتابه وأضافه إىل نفسه جل وعال‪ ،‬ومساهم أهله وهل شرف يداين هذا‬
‫!الشرف؟!‪ ،‬وهل جمد فوق هذا اجملد؟‬
‫‪!.‬وما ظنك إبكرام هللا ألهله؟‬
‫‪:‬وأما وصفه أبنه عزيز؛ فيتضمن ِع َّزةَ ال َق ْد ِر َو ِع َّزة الغَلَبة َّ‬
‫وعزة االمتناع ·‬
‫وُي ُكم وال ُُْي َكم ‪-‬‬‫أفضل الكالم وأحسنُه‪ ،‬يعلو وال يعلى عليه ‪َْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فأما عزة ال َق ْد ِر فألنه‬
‫يغري ال خد َو َل واألحوال وال يتغري‬ ‫‪.‬عليه‪ِّ ،‬‬
‫يث كِتَااب متَ َش ِاهبا مثَ ِاين تَ ْق َش ِع خر ِم ْنهُ جلُ ُ ِ‬
‫َحسن ا ْحل ِد ِ‬
‫ين { ‪:‬قال هللا تعاىل‬ ‫ود الَّذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ً ُ ً َ َ‬ ‫اَّللُ نَ َّز َل أ ْ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫ك ُه َدى َِّ ِ ِ ِ‬ ‫اَّلل َٰذَلِ َ‬
‫وهبم إِ َ َٰىل ِذ ْك ِر َِّ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل يَ ْهدي به َم ْن يَ َشاءُ‬ ‫ود ُه ْم َوقُلُ ُُ ْ‬ ‫َخيْ َش ْو َن َرَّهبُ ْم ُمثَّ تَل ُ‬
‫ّي ُجلُ ُ‬
‫اَّلل فَما لَهُ ِمن َه ٍ‬ ‫ويف مسند اإلمام أمحد من حديث جابر بن عبد هللا عن }ومن ي ْ ِ‬
‫اد‬ ‫ْ‬ ‫ضل ِل َُّ َ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫إن أحسن احلديث كتاب هللا‪ ،‬وأحسن اهلدي (( ‪:‬النيب صلى هللا عليه وسلم أنه قال‬
‫‪ )).‬هدي حممد‬
‫‪.‬وهو عزيز القدر عند هللا‪ ،‬وعند املالئكة‪ ،‬وعند املؤمنّي‬
‫ِ‬
‫}وإِنَّهُ لَكتَ ٌ‬
‫اب َع ِز ٌيز{( ‪:‬قال أبو املظفر السمعاين‬ ‫أي‪ :‬كرمي على هللا )‪ .‬وروي ذلك عن َ‬
‫‪.‬ابن عباس‬
‫وأما عزة قدره عند املؤمنّي فبينة ظاهرة ‪ ،‬وال توجد أمة من األمم تعتين بكتاهبا وجتله ‪-‬‬
‫جيل املسلمون القرآن حىت إهنم من إجالهلم للقرآن لَيُ ِجلخون حامل القرآن كما يف‬
‫كما ّ‬
‫سنن أيب داوود من حديث أيب موسى األشعري رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫إن من إجالل هللا إجالل ذي الشيبة املسلم‪ ،‬وحامل القرآن غري (( ‪:‬هللا عليه وسلم‬
‫‪ )).‬الغايل فيه واجلايف عنه‪ ،‬وإكرام ذي السلطان املقسط‬
‫عزةِ قَ ْد ِره‬
‫‪.‬وهذا كله من َّ‬
‫ف { ‪:‬وأما عزة غلبته فألن حججه غالبة دامغة لكل ابطل كما قال تعاىل ‪-‬‬ ‫بَ ْل نَ ْق ِذ ُ‬
‫ِ‬
‫وحجج القرآن أحسن احلجج وأبينها وأبعدها عن التكلف } ِاب ْحلَِّق َعلَى الْبَاط ِل فَيَ ْد َمغُهُ‬
‫والتعقيد وأقرهبا إىل الفطرة الصحيحة والعقل الصريح وأعظمها مثرة وفائدة‪َ ،‬م ْن عقلها‬
‫حاج هبا غَلَب ‪ ،‬ومن غَالبها غُلِب‬ ‫وم ْن َّ‬
‫‪.‬تبّي له اهلدى‪ ،‬واستبانت له سبل الضالّي‪َ ،‬‬
‫ومن عزة غلبته أنه غلب فصحاء العرب وأساطّي البالغة فلم يقدروا على أن َيتوا مبثله‪،‬‬
‫وال مبثل سورة واحدة منه‪ ،‬وقد حتدى هللا املشركّي الذين يزعمون أنه من أساطري األولّي‬
‫وأنه قول البشر أن َيتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا حىت أقروا بذلك‬
‫وهم صاغرون كما قال الوليد بن املغرية على كفره ‪( :‬وهللا إن له حلالوة‪ ،‬وإن عليه‬
‫ملغدق‪ ،‬وإن أعاله ملثمر‪ ،‬وما يقول هذا بشر) رواه البيهقي يف دالئل‬‫لطالوة‪ ،‬وإن أسفله ِ‬
‫‪.‬النبوة‬
‫أعزه وحفظه حفظاً اتماً من وقت نزوله إىل حّي ‪-‬‬ ‫فألن هللا تعاىل َّ‬ ‫وأما عزة االمتناع َّ‬
‫فال َيتيه }إِ َّان َْحن ُن نَ َّزلْنَا ال ِّذ ْك َر َوإِ َّان لَهُ َحلَافِظُو َن{ ‪:‬يقبضه يف آخر الزمان كما قال تعاىل‬
‫الباطل من بّي يديه وال من خلفه‪ ،‬وال تستطيعه الشياطّي‪ ،‬وال ميكن لكائد مهما بلغ‬
‫‪.‬كيده أن يبدله أو ُيرفه أو يزيد فيه أو ينقص منه شيئاً‬
‫قرأ‬
‫فهو حمفوظ من الشياطّي‪ ،‬حمفوظ من كيد الكائدين‪ ،‬ال يصيبه تبديل وال تغيري‪ ،‬يُ َ‬
‫مر السنّي والقرون كما أُنزل ال ُخيَْرم منه حرف‪ ،‬وال يبدل منه شيء‬
‫‪.‬على ّ‬

‫وأما وصفه أبنه كرمي؛ فوصف له دالئله الباهرة ومعانيه اخلفية والظاهرة فهو كرمي على هللا‬
‫‪ ،‬كرمي على املؤمنّي‪ ،‬كرمي يف لفظه‪ ،‬كرمي يف معانيه‪ُ ،‬م َك َّرم عن كل سوء‪ ،‬مك ِّرٌم ألصحابه‪،‬‬
‫‪.‬كثري اخلري والربكة‪ ،‬كرمي ملا جيري بسببه من اخلري العظيم الذي ال يَ ْق ُد ُر قَ ْد َره إال هللا‬
‫لكل معىن شواهده اللغوية‬
‫وتفصيل وصفه ابلكرم يرجع إىل مخسة معان يف لسان العرب؛ ّ‬
‫‪:‬الصحيحة‬
‫كرم احلُ ْسن‪ ،‬ومن ذلك قول هللا تعاىل‬
‫فأنبتنا فيها من كل زوج { ‪:‬املعىن األول‪َ :‬‬
‫وقل هلما { ‪ ،:‬وقوله}وقلن حاشا هلل ما هذا بشراً إن هذا إال ملك كرمي{ ‪:‬وقوله }كرمي‬
‫‪}.‬قوال كرميا‬
‫‪.‬والقرآن كرمي ابلغ احلسن يف ألفاظه ومعانيه‬
‫علي‪ ،‬أي ذو قَ ْدر ومكانة ‪:‬واملعىن الثاين‬ ‫َك َرم ال َق ْد ِر ّ‬
‫وعلو املنزلة‪ ،‬فتقول‪ :‬فالن كرمي ّ‬
‫‪.‬عالية عندي‬
‫ومن احملمول على إرادة معىن رفعة ال َق ْدر ‪ -‬وإن كان على سبيل الته ّكم ‪ -‬قوله‬
‫‪}.‬ذق إنك أنت العزيز الكرمي{ ‪:‬تعاىل‬
‫‪:‬قال جمنون ليلى‬
‫من املزن ما تُروى به وتسيم ‪..‬سقى بلدا أمست سليمى حتلّه‬
‫علي كرمي ‪..‬وإن مل أكن من ساكنيه فإنه‬ ‫ُيل به شخص ّ‬ ‫ّ‬
‫واملقصود أن القرآن كرميُ ال َق ْد ِر عند هللا تعاىل‪ ،‬وعند املؤمنّي‪ ،‬وبيان دالئل َك َرِم قَ ْد ِرهِ لو‬
‫‪.‬أفاض املتح ّدث فيه الستدعى ذلك منه ِس ْفراً كبرياً‬
‫َكرم العطاء‪ ،‬وهو أشهر معانيه‪ ،‬حىت غلب على أفهام كثري من الناس ‪:‬واملعىن الثالث‬
‫‪.‬فظنوه حمصوراً فيه‪ ،‬وليس األمر كذلك‬
‫والقرآن كرمي هبذا املعىن لكثرة ما يصيب اتليه من اخلري والربكة بسببه‪ ،‬وكثرة ثواب تالوته‬
‫‪.‬وحسن آاثرها‬
‫كل سوء‪ ،‬وهو فرع عن كرم ال َق ْدر‪ ،‬وأصله أن بناء فعيل َيِت ‪:‬واملعىن الرابع‬
‫امل َك َّرم عن ّ‬
‫املكرم‬
‫‪.‬يف اللغة أحياان على معىن املفعول؛ فيأِت الكرمي مبعىن َّ‬
‫ِّ‬
‫املكرم لغريه‪ ،‬وهو من آاثر كرم العطاء وكرم احلسن وكرم الق ْدر‪ ،‬وأصله ‪:‬واملعىن اخلامس‬
‫‪.‬أن بناء فعيل َيِت يف اللغة أحياانً على معىن الفاعل؛ فيأِت الكرمي مبعىن ِّ‬
‫املكرم‬
‫وكالم املفسرين يف معىن وصف القرآن أبنه كرمي يدور حول هذه املعاين‪ ،‬وكل مجلة من‬
‫هذه اجلمل لو أتمل الناظر دالئلها وآاثرها النفتح له من أبواب العلم واإلميان والفضل‬
‫‪.‬العظيم ما ال يكاد ينقضي منه العجب‬
‫ولعل هذا يطلعك على بعض معاين القسم العظيم اجلليل الذي أقسمه هللا تعاىل يف سورة‬
‫ِ‬ ‫ْسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬ ‫ِ‬
‫جل وعال‬ ‫*وإِنَّهُ لََق َس ٌم ل َْو تَ ْعلَ ُمو َن َعظ ٌ‬
‫يم * { ‪:‬الواقعة إذ قال َّ‬ ‫خجوم َ‬
‫ُ‬ ‫فَ َال أُق ُ ََ‬
‫}إِنَّهُ لَ ُق ْرآ ٌن َك ِرميٌ‬
‫فينبغي لكل مؤمن أن يستشعر عظمة هذا ال َق َسم‪ ،‬وجيتهد يف إدراك نصيبه من هذا‬
‫‪.‬ال َك َرم‬

‫‪.‬وأما وصفه أبنه عظيم؛ فيتضمن عظمة قَ ْد ِرهِ َو َعظَ َمةَ صفاته‬
‫‪:‬فالقرآن عظيم ال َق ْد ِر يف الدنيا واآلخرة‬
‫‪:‬فأما عظمة قدره يف الدنيا فتتبّي من وجوه كثرية‬
‫‪.‬أنه كالم هللا تعاىل ‪:‬منها‬
‫‪.‬إقسام هللا تعاىل به ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬كثرة أمسائه وأوصافه الدالة على عظمة قدره ‪:‬ومنها‬
‫حاكم على ما قبله من الكتب‪ ،‬وانسخ هلا‪ ،‬ومهيمن عليها ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬أنه ٌ‬
‫‪.‬أنه فرقان بّي اهلدى والضاللة‪ ،‬واحل ّق والباطل ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬أنه يهدي لليت هي أقوم ‪:‬ومنها‬
‫أنه مصدر األحكام الشرعية اليت هبا قيام مصاحل العباد‪ ،‬وإليها يتحاكمون يف ‪:‬ومنها‬
‫وحل مشكالهتم ومعضالهتم‬
‫‪.‬فض منازعاهتم ّ‬
‫ّ‬
‫تبّي حرمته وجاللة شأنه ‪:‬ومنها‬
‫خصه أبحكام يف الشريعة ّ‬
‫‪.‬أن هللا ّ‬
‫‪.‬واألوجه الدالة على بيان عظمة ق ْدره كثرية جداً يتع ّذر حصرها‬
‫‪:‬وأما عظمة قدره يف اآلخرة فمن دالئلها‬
‫يظل صاحبه يف املوقف العظيم ‪-‬‬
‫‪.‬أنه ّ‬
‫‪.‬وأنه شافع مش ّفع وماحل مص ّدق ‪-‬‬
‫ُياج عن صاحبه ويشهد له ‪-‬‬
‫‪.‬وأنه ّ‬
‫‪.‬وأنه يرفع صاحبه درجات كثرية ‪-‬‬
‫‪.‬وأنه يث ّقل ميزان أصحابه بكثرة ما جيدون من ثواب تالوته ‪-‬‬
‫‪:‬وأما عظمة صفاته فبياهنا من وجهّي‬
‫ّ‬
‫كل صفة وصف هبا القرآن؛ فهو عظيم يف تلك الصفة؛ فكرمه عظيم‪: ،‬الوجه األول‬
‫أن ّ‬
‫وعلوه عظيم‪ ،‬ونوره عظيم‪ ،‬وهداه عظيم‪ ،‬وشفاؤه عظيم‪،‬‬
‫وبركته عظيمة‪ ،‬وجمده عظيم‪ّ ،‬‬
‫كل صفة منها ابلعظمة‬
‫وفرقانه عظيم إىل غري ذلك من أمسائه وصفاته اليت اتّصف يف ّ‬
‫‪.‬فيها‬
‫‪.‬أن كثرة أمسائه وصفاته العظيمة دليل آخر على عظمته ‪:‬والوجه الثاين‬

‫مبارك؛ فقد ورد يف مواضع من القرآن‬ ‫‪:‬وأما وصفه أبنّه َ‬


‫ار ٌك فَاتَّبِعُوهُ َواتَّ ُقوا ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْر َمحُو َن { ‪:‬منها قول هللا تعاىل ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫اب أَنْ َزلْنَاهُ ُمبَ َ‬
‫َو َه َذا كتَ ٌ‬
‫})(‪155‬‬
‫ار ٌك أَنْ َزلْنَاهُ أَفَأَنْ تُ ْم لَهُ ُم ْن ِك ُرو َن (‪: { 50‬وقوله تعاىل ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫}) َو َه َذا ذ ْك ٌر ُمبَ َ‬
‫اب (‪: { 29‬وقوله تعاىل ‪-‬‬ ‫آَيتِِه َولِيَ تَ َذ َّكر أُولُو ْاألَلْبَ ِ‬ ‫ك مب ِ‬
‫اب أَنْ َزلْنَاهُ إِل َْي َ ُ َ َ‬
‫ار ٌك ليَ َّدبَّ ُروا َ‬
‫ِ‬
‫})كتَ ٌ‬
‫َ‬
‫أن الذي ابركه هو هللا تعاىل‪ ،‬ومعىن ابركه أي أودع فيه الربكة‪،‬‬ ‫ومبارك "اسم مفعول" يفيد َّ‬ ‫َ‬
‫وهي اخلري الكثري املتزايد؛ فال ينقص خريه‪ ،‬وال يذهب نفعه‪ ،‬وال تضعف مثرته؛ بل خريه‬
‫مر القرون واألعصار‬
‫‪.‬يف ازدَيد وجت ّدد على ّ‬
‫وكون الذي ابركه هو هللا تعاىل له آاثر عظيمة على بركته؛ فهي بركة من العليم القدير‬
‫احلكيم الواسع األكرم؛ فاتّسعت بركته وعظمت‪ ،‬حىت كان مباركاً يف كل شيء فال ُيرم‬
‫شقي حمروم‬
‫‪.‬بركته إال ّ‬
‫متنوعة؛ فألفاظه مباركة‪ ،‬ومعانيه مباركة‪ ،‬ودالئله مباركة‪،‬‬
‫وأنواع بركات القرآن كثرية ّ‬
‫‪.‬وحيثما كان فهو مبارك ملن آمن به واتّبع هداه‬
‫كل شيء ‪:‬فمن بركاته‬
‫‪.‬هداَيته العظيمة اليت يهدي هبا لليت هي أقوم يف ّ‬
‫‪.‬شفاؤه ملا يف الصدور‪ ،‬وألدواء النفوس واألبدان ‪:‬ومن بركاته‬
‫وتنوعه ‪:‬ومن بركاته‬
‫‪.‬كثرة ثواب تالوته ّ‬
‫‪.‬ما يفيد من العلم واحلكمة واليقّي‪ ،‬والبصرية يف الدين ‪:‬ومن بركاته‬
‫ما ُيصل به من جالء احلزن‪ ،‬وذهاب الغم‪ ،‬ونور الصدر‪ ،‬وطمأنينة القلب‪: ،‬ومن بركاته‬
‫‪.‬وسكينة النفس‬
‫‪.‬ما يكون لتاليه من زَيدة اإلميان‪ ،‬وصالح البال‪ ،‬وذهاب كيد الشيطان ‪:‬ومن بركاته‬
‫وتبصرهم به يف ‪:‬ومن بركاته‬ ‫ِ‬
‫بتمسكهم به‪ّ ،‬‬ ‫ع ّزة أصحابه ابتباعه‪ ،‬وثباهتم على احلق ّ‬
‫مواضع الفنت‪ ،‬وما ُيصل هلم به من الفرقان العظيم بّي احلق والباطل‪ ،‬واخلروج من‬
‫‪.‬الظلمات إىل النور‬
‫‪.‬أنه يرفع أصحابه‪ ،‬ويكرمهم‪ ،‬ويكون هلم بسببه قَ ْد ٌر عظيم ومنزلة عالية ‪:‬ومن بركاته‬
‫أنه مبارك حيثما َح ّل؛ فالبيت الذي يُتلى فيه يكثر خريه ويتّسع أبهله‪: ،‬ومن بركاته‬
‫تتنزل عليه السكينة‬
‫والصدر الذي ُيفظه يتّسع وينفسح‪ ،‬واجمللس الذي يُتلى فيه ّ‬
‫الوَرق الذي يُكتب فيه‬
‫وتغشاه الرمحة وحت ّفه املالئكة ويذكره هللا فيمن عنده‪ ،‬حىت إن َ‬
‫تضمنه آلَيته‪ ،‬وتكون له حرمته وأحكام الكثرية يف الشريعة‬
‫‪.‬لَيَكون له شأن عظيم بعد ّ‬
‫وأما بركاته يف اآلخرة فربكات عظيمة جليلة‪ ،‬فهو مبارك على املؤمن يف قربه‪ ،‬ويف املوقف‬
‫‪.‬العظيم‪ ،‬ويف احلساب‪ ،‬ويف امليزان‪ ،‬ويف الصراط‪ ،‬وعند ارتقائه يف درجات اجلنة‬

‫َّلل الَّ ِذي أَنْ َز َل َعلَى َع ْب ِدهِ { ‪:‬وأما وصفه أبنّه قيّم؛ فقد ورد يف قول هللا تعاىل‬ ‫ا ْحلم ُد َِِّ‬
‫َْ‬
‫شر الْم ْؤِمنِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّي الَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ْسا َشدي ًدا م ْن لَ ُدنْهُ َويُبَ ّ َ ُ َ‬‫اب َوَملْ َْجي َع ْل لَهُ ع َو ًجا (‪ )1‬قَ يِّ ًما ليُ ْنذ َر َأب ً‬ ‫الْكتَ َ‬
‫َج ًرا َح َسنًا (‪2‬‬ ‫ات أ َّ‬ ‫})ي ْعملُو َن َّ ِ‬
‫احل ِ‬
‫َن َهلُ ْم أ ْ‬ ‫الص َ‬ ‫َ َ‬
‫ب قَ يِّ َمةٌ (‪: {3‬وقوله تعاىل‬ ‫ِ‬ ‫ول ِمن َِّ‬
‫َّرةً (‪ )2‬ف َيها ُكتُ ٌ‬ ‫ص ُح ًفا ُمطَه َ‬ ‫اَّلل يَ ْت لُو ُ‬ ‫}) َر ُس ٌ َ‬
‫‪:‬ولوصفه ابلقيّم ثالثة معان‬
‫أنه مستقيم ال عوج فيه‪ ،‬وال خلل‪ ،‬وال تناقض‪ ،‬وال تعارض‪ ،‬بل يص ّدق بعضه ‪:‬أحدها‬
‫ويبّي بعضه بعضاً‪َ ،‬يتلف وال خيتلف‪ ،‬وال َيتيه الباطل من بّي يديه وال من خلفه‪،‬‬
‫بعضاً‪ّ ،‬‬
‫‪.‬يهدي إىل احل ّق وإىل طريق مستقيم‬
‫أي ال اعوجاج فيه ألبتة‪ ،‬ال من جهة األلفاظ‪ ،‬وال من جهة ( ‪:‬قال األمّي الشنقيطي‬
‫املعاين‪ ،‬أخباره كلها صدق‪ ،‬وأحكامه عدل‪ ،‬سامل من مجيع العيوب يف ألفاظه ومعانيه‪،‬‬
‫‪.‬ا‪.‬ه )وأخباره وأحكامه‬
‫أنه قيّم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها‪ ،‬وشاهد بصدق ما أنزل ‪:‬واملعىن الثاين‬
‫‪.‬هللا فيها‬
‫أنه القيّم الذي به قَ َوام أمور العباد وقيام مصاحلهم وشرائعهم وأحكام ‪:‬واملعىن الثالث‬
‫‪.‬عباداهتم ومعامالهتم‪ ،‬ويهديهم لليت هي أقوم يف مجيع شؤوهنم‬

‫صائُِر ِم ْن َربِّ ُك ْم َو ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ لَِق ْوٍم {‪:‬وأما وصفه أبنّه بصائر‪ ،‬فقد ورد يف قوله تعاىل‬ ‫َه َذا بَ َ‬
‫َّاس َو ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ لَِق ْوٍم يُوقِنُو َن { ‪ ،:‬وقال تعاىل})يُ ْؤِمنُو َن (‪203‬‬ ‫صائُِر لِلن ِ‬ ‫‪ ،‬وقال } َه َذا بَ َ‬
‫ص َر فَلِنَ ْف ِس ِه َوَم ْن َع ِم َي فَ َعلَْي َها َوَما أ ََان { ‪:‬تعاىل‬ ‫قَ ْد جاء ُكم ب ِ ِ‬
‫صائ ُر م ْن َربِّ ُك ْم فَ َم ْن أَبْ َ‬
‫ََ ََْ‬
‫يظ (‪104‬‬ ‫}) َعلَي ُكم ِحب ِف ٍ‬
‫ْ ْ َ‬
‫تبّي‬
‫ويتفرع على هذه املعرفة ّ‬ ‫والبصائر مجع بصرية‪ ،‬وهي معرفة حقيقة األمر وعاقبته‪ّ ،‬‬
‫‪.‬الصواب واخلطأ فيما يقع يف ذلك األمر‬
‫والبصرية مفتاح اهلداية‪ ،‬والنجاة من الغواية‪ ،‬وسبب الثبات على احل ّق‪ ،‬واجتناب الباطل‪،‬‬
‫صحة املعرفة‬
‫‪.‬وأصلها ما ينعقد يف القلب من ّ‬
‫وحقيق األمر( ‪:‬قال اخلليل بن أمحد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اسم لما اعتُق َد يف القلب من ال ّدين َ‬
‫‪).‬البصريةُ ٌ‬
‫ويبّي‬
‫فيبصر ابحل ّق ويبيّنه‪ّ ،‬‬
‫يبصر ابحلقائق يف كل ما ُُيتاج إليه؛ ّ‬
‫ومسّي القرآن بصائر ألنّه ّ‬
‫ويبّي هلم طريق النجاة‬
‫حسن عاقبته وجزاء أهله‪ ،‬وما يعرتضهم من االبتالءات والفنت‪ّ ،‬‬
‫ويبصر بقبح الباطل وشؤمه‪ ،‬وسوء عاقبة أهله‪ ،‬وسبب اغرتارهم به‪،‬‬
‫وأسباب اهلداية‪ّ ،‬‬
‫‪.‬وطرق جناهتم منه قبل فوات األوان‬
‫شره وينجو‬
‫عدوه املرتبّص به‪ ،‬ومداخل تسلّطه عليه‪ ،‬وكيف يتّقي ّ‬
‫ويبصر املؤمن بكيد ّ‬
‫ّ‬
‫من كيده‪،‬‬
‫ويبصر املؤمنّي أبعدائهم من الكفار واملنافقّي‪ ،‬وطرقهم يف املكر والكيد والتضليل‪،‬‬
‫ّ‬
‫متسكوا به‬
‫شرهم‪ ،‬وما يتح ّقق هلم به النصر والتمكّي إن ّ‬
‫‪.‬ويبّي هلم سبيل السالمة من ّ‬
‫ّ‬
‫‪.‬ويبصر املؤمن حبقيقة هذه الدنيا ومقاصد إجيادان فيها‪ ،‬وما فيها من سنن االبتالء‬
‫ّ‬
‫‪.‬ويبصره أبدواء القلوب وعلل النفوس وأسباب شفائها وطهارهتا وزكاهتا‬
‫ّ‬
‫‪.‬ويبصر أبحكام الدين وشرائعه‪ ،‬وما تصلح به شؤون العباد يف دينهم ودنياهم‬
‫ّ‬
‫جل وعال‪ ،‬وكيف ينال حمبّته ورضوانه‪ ،‬وكيف يبلغ‬
‫يتقرب به إىل ربّه ّ‬
‫ويبصر السالك مبا ّ‬
‫ّ‬
‫كل شأن من شؤونه ‪ -‬مرتبة اإلحسان اليت هي أعلى املراتب‪ ،‬وجزاؤها أحسن‬
‫‪ -‬يف ّ‬
‫كل ما ُيتاجه املؤمن من‬
‫عمت ّ‬
‫اجلزاء‪ ،‬إىل غري ذلك من أنواع البصائر املباركة اليت ّ‬
‫‪.‬البيّنات واهلدى‬
‫وبصائر القرآن كالكنوز الكثرية يف البحر العظيم؛ كلما أقبل عليها َمن يعرف قدرها‬
‫وتتنوع حىت‬
‫وأتملها وقلّب النظر فيها واكتسب منها ما اكتسب وجدها تكثر وتتسع ّ‬
‫ّ‬
‫يسره‬
‫وأتمل ما ّ‬
‫كل حبث ّ‬
‫يوقن أبنّه ال ُييط هبا من كثرة أنواعها وبركاهتا‪ ،‬ووجد يف ّ‬
‫‪.‬ويبهجه مما ال ينقضي من العجب‬
‫البّي‬
‫وأما الكافر واملنافق فإنّه رّمبا عرضت له البصرية من القرآن يف الشيء العظيم ّ‬
‫وعرفه مثّ أنكره فحرم من بركات بصائر القرآن‪ ،‬كما حرم الذين من قبل وكانوا‬
‫مستبصرين؛ فزاغوا بعدما عرفوا احل ّق‪ ،‬وحرموا التوفيق لتكذيبهم وإعراضهم‪ ،‬وصرفوا مبا‬
‫التبصر مبا أنزل هللا إليهم‪ ،‬قال هللا تعاىل‬
‫ّي لَ ُك ْم { ‪:‬افتتنوا به عن ّ‬ ‫ادا َوَمثُ َ‬
‫ود َوقَ ْد تَبَ َّ َ‬ ‫َو َع ً‬
‫ين (‪38‬‬ ‫ِ‬
‫يل َوَكانُوا ُم ْستَ ْبص ِر َ‬ ‫السبِ ِ‬
‫ص َّد ُه ْم َع ِن َّ‬ ‫}) ِم ْن َم َساكِنِ ِه ْم َوَزيَّ َن َهلُ ُم َّ‬
‫الش ْيطَا ُن أَ ْع َما َهلُ ْم فَ َ‬
‫يل إِ ْذ َجاءَ ُه ْم فَ َق َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ب يِنَ ٍ‬ ‫ولََق ْد آتَ ْي نَا موسى تِسع ٍ‬
‫ال { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫اسأ َْل بَِين إ ْس َرائ َ‬ ‫ات فَ ْ‬ ‫آَي َ ّ‬ ‫ُ َ َْ َ‬ ‫َ‬
‫ت َما أَنْ َز َل َه ُؤَال ِء إَِّال َر خ‬
‫ب‬ ‫ال لََق ْد َعلِ ْم َ‬
‫ورا (‪ )101‬قَ َ‬ ‫وسى َم ْس ُح ً‬ ‫لَهُ فِ ْر َع ْو ُن إِِّين َألَظُن َ‬
‫خك ََي ُم َ‬
‫ض بصائِر وإِِّين َألَظُن َ ِ‬ ‫}) َّ ِ‬
‫ورا (‪102‬‬ ‫خك ََيف ْر َع ْو ُن َمثْ بُ ً‬ ‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر ِ َ َ َ َ‬
‫ّي (‪َ )13‬و َج َح ُدوا ِهبَا { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ص َرةً قَالُوا َه َذا ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫فَ لَ َّما جاء ْهتُم آَيتُنَا م ْب ِ‬
‫ََ ْ َ ُ‬
‫ين (‪14‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ف َكا َن َعاقبَةُ ال ُْم ْفسد َ‬ ‫س ُه ْم ظُل ًْما َوعُلًُّوا فَانْظُْر َك ْي َ‬‫استَ ْي َقنَ تْ َها أَنْ ُف ُ‬
‫}) َو ْ‬
‫فسرها ابالعتبار وهداية التوفيق‪،‬‬
‫ولذلك اختلف العلماء يف معىن البصرية؛ فمنهم من ّ‬
‫فسرها هبداية الداللة واإلرشاد‬
‫‪.‬ومنهم من ّ‬
‫والصواب أ ّن البصرية جامعة للمعنّي فأصلها من هداية الداللة واإلرشاد فمن آمن هبا‬
‫التبصر النافع حىت يورثه اليقّي واإلمامة يف‬
‫وتبصر هبا ازداد هداية وتوفيقا ملزيد من ّ‬
‫ّ‬
‫‪.‬الدين‬
‫تعرف‬
‫ومن أعرض عما تقتضيه بصائر القرآن من العمل واتّباع اهلدى واإلقبال على ّ‬
‫بصائر القرآن واالنتفاع هبا استح ّق العقاب على تولّيه وإعراضه أبن ُيرم فهم القرآن‬
‫والتبصر به‪ ،‬ويشغله ما افتنت به من هلو الدنيا وغرور األمنيات ووساوس الشيطان عن‬
‫ّ‬
‫‪.‬االنتفاع ببصائر القرآن وازدَيد العلم هبا‬
‫ص َر فَلِنَ ْف ِس ِه { ‪:‬وقد اجتمع املعنيان يف قول هللا تعاىل‬ ‫قَ ْد جاء ُكم ب ِ ِ‬
‫صائ ُر م ْن َربِّ ُك ْم فَ َم ْن أَبْ َ‬
‫ََ ََْ‬
‫يظ (‪104‬‬ ‫})ومن َع ِمي فَ علَي ها وما أ ََان َعلَي ُكم ِحب ِف ٍ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫ََ ْ َ َ ْ َ ََ‬
‫وتعرفه به‪ ،‬والعمي هو الذي‬‫تدل على اهلدى ّ‬ ‫فاملبصر هو املنتفع ببصائر القرآن اليت ّ‬
‫التبصر ببصائر القرآن‬
‫‪.‬عوقب ابلعمى لتعاميه وش ّدة نفوره عن ّ‬
‫قال ابن األعرايب‪" :‬البصرية الثبات يف الدين"‪ ،‬وقيل‪ :‬البصرية ( ‪:‬قال ابن القيم رمحه هللا‬
‫‪:‬العربة‪ ،‬كما يقال‪ :‬أليس لك يف كذا بصرية؟ أي‪ :‬عربة‪ ،‬قال الشاعر‬
‫تبصر‬
‫األولّي ‪ ...‬من القرون لنا بصائر والتحقيق أ ّن العربة مثرة البصرية؛ فإذا َّ‬
‫يف الذاهبّي ّ‬
‫اعترب؛ فمن عدم العربة فكأنَّه ال بصرية له‪ ،‬وأصل اللفظ من الظهور والبيان؛ فالقرآن‬
‫‪.‬ا‪.‬ه )بصائر‪ :‬أي أدلة وهدى وبيان يقود إىل احلق ويهدي إىل الرشد‬
‫وأما وصفه أبنّه هدى؛ فقد ورد يف مواضع كثرية من القرآن؛ منها قوله تعاىل يف ّأول‬
‫ّ‬
‫‪}.‬أمل ‪ .‬ذلك الكتاب ال ريب فيه ‪ .‬هدى للمتّقّي{سورة البقرة؛‬
‫تضمن‬
‫وجميء هذه اآلية يف ّأول املصحف بعد الفاحتة اليت فيها سؤال اهلداية تنبيه على ّ‬
‫‪.‬القرآن للهداية اليت يسأهلا املؤمنون وترغيب يف االهتداء به‬
‫ات ِم َن ا ْهلَُدى { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫َّاس وب يِنَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َش ْهر رم َ ِ‬
‫ضا َن الَّذي أُنْ ِز َل فيه الْ ُق ْرآ ُن ُه ًدى للن ِ َ َ ّ‬ ‫ُ ََ‬
‫}والْ ُفرقَ ِ‬
‫ان‬ ‫َ ْ‬
‫صلْنَاهُ َعلَى ِعل ٍْم ُه ًدى َوَر ْمحَةً لَِق ْوٍم يُ ْؤِمنُو َن (‪: { 52‬وقال‬ ‫اه ْم بِ ِكتَ ٍ‬
‫اب فَ َّ‬ ‫}) َولََق ْد ِج ْئ نَ ُ‬
‫يل أَ ْكثَ َر الَّ ِذي ُه ْم فِ ِيه َخيْتَلِ ُفو َن (‪: { 76‬وقال‬ ‫ِ ِ‬
‫ص َعلَى بَِين إ ْس َرائ َ‬ ‫َوإِنَّهُ )إِ َّن َه َذا الْ ُق ْرآ َن يَ ُق خ‬
‫}) َهل ًدى ور ْمحةٌ لِل ِ‬
‫ّي (‪77‬‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ُ ََ َ ُ‬
‫ين َال يُ ْؤِمنُو َن ِيف آ َذاهنِِ ْم َوق ٌْر َو ُه َو َعلَْي ِه ْم { ‪:‬وقال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُه ًدى َوش َفاءٌ َوالَّذ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِِ‬
‫قُ ْل ُه َو للَّذ َ‬
‫يد (‪44‬‬ ‫ان ب ِع ٍ‬‫ٍ‬ ‫ك ي نَ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اد ْو َن م ْن َم َك َ‬ ‫}) َع ًمى أُولَئ َ ُ‬
‫شر الْم ْؤِمنِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين يَ ْع َملُو َن { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ّي الَّذ َ‬‫إِ َّن َه َذا الْ ُق ْرآ َن يَ ْهدي للَِّيت ه َي أَق َْو ُم َويُبَ ّ ُ ُ َ‬
‫ريا (‪9‬‬ ‫َن َهلُ ْم أ ْ ِ‬ ‫احل ِ‬
‫ات أ َّ‬ ‫}) َّ ِ‬
‫َج ًرا َكب ً‬ ‫الص َ‬
‫فهداية القرآن هداية عظيمة يف مشوهلا جلميع شؤون العباد‪ ،‬ويف كوهنا هتدي لليت هي‬
‫كل شأن‬
‫‪.‬أقوم يف ّ‬
‫‪:‬وهداية القرآن على مرتبتّي‬
‫عامة جلميع الناس؛ تدهلّم على احلق‪ ،‬وعلى صراط هللا املستقيم؛‬
‫املرتبة األوىل‪ :‬اهلداية ّ‬
‫احلجة عليهم‪ ،‬وما ينذرون به‬
‫فيعرفون به ما جيب عليهم وما ُيرم‪ ،‬ويتبيّنون به ما تقوم به ّ‬
‫شرون به إذا اتّبعوا هداه‬ ‫‪.‬إذا خالفوا هدى القرآن‪ ،‬وما يب ّ‬
‫َّاس ِاب ْحلَِّق فَ َم ِن ا ْهتَ َدى فَلِنَ ْف ِس ِه َوَم ْن { ‪:‬كما قال هللا تعاىل‬ ‫اب لِلن ِ‬ ‫إِ َّان أَنْزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يل (‪41‬‬‫ت َعلَْي ِه ْم بَِوكِ ٍ‬ ‫ض َّل فَِإ َّمنَا ي ِ‬
‫ض خل َعلَْي َها َوَما أَنْ َ‬ ‫َ‬ ‫‪}.‬هدى للناس{ ‪:‬وقال فيه }) َ‬
‫يتقربون‬
‫اخلاصة للمؤمنّي اليت يوفّقون هبا لفهم مراد هللا تعاىل‪ ،‬وملا ّ‬ ‫واملرتبة الثانية‪ :‬اهلداية ّ‬
‫‪.‬به إليه؛ فيزيدهم هدى إليه‬
‫ومن ّاّتذ القرآن دليالً له إىل هللا تعاىل أبصر به السبيل الذي ّ‬
‫يقربه إليه ويوجب له حمبته‬
‫‪.‬ورضوانه وفضله العظيم مبا أوجبه هللا على نفسه من ذلك‬
‫‪}.‬إن هذه تذكرة فمن شاء ّاّتذ إىل ربّه سبيال{ ‪:‬كما قال هللا تعاىل‬
‫متسك به عُصم من الضاللة‬
‫‪.‬فمن اهتدى ابلقرآن هداه هللا‪ ،‬ومن ّ‬
‫وعن أيب شريح اخلزاعي‪ ،‬قال‪ :‬خرج علينا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫»أبشروا‪ ،‬أبشروا‪ ،‬أليس تشهدون أن ال إله إال هللا وأين رسول هللا؟« ‪:‬فقال‬
‫‪.‬قالوا‪ :‬نعم‬
‫فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد هللا‪ ،‬وطرفه أبيديكم فتمسكوا به‪ ،‬فإنكم لن « ‪:‬قال‬
‫‪.‬رواه ابن أيب شيبة وابن حبان وصححه األلباين »تضلوا ولن هتلكوا بعده أبدا‬
‫فسر قول هللا تعاىل‬ ‫صموا ِحبَْب ِل َِّ ِ‬
‫ِ‬
‫اَّلل َمج ًيعا وال { ‪:‬والسبب هو احلبل‪ ،‬وقد ّ‬ ‫َوا ْعتَ ُ‬
‫}تفرقوا‬
‫‪.‬ابالعتصام ابلقرآن ّ‬
‫ضر حتضره الشياطّي‪ ،‬ينادون‪َ :‬ي عبد هللا‪: ( ،‬قال عبد هللا بن مسعود‬
‫إن الصراط ُحمت َ‬
‫هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل هللا؛ فاعتصموا حببل هللا‪ ،‬فإن حبل هللا هو كتاب‬
‫‪.‬رواه ابن جرير ‪).‬هللا‬
‫‪.‬رواه ابن جرير )حبل هللا املتّي الذي أمر أن يُعتصم به‪ :‬هذا القرآن( ‪:‬وقال قتادة‬
‫وهذا القول أحد األقوال اخلمسة املأثورة عن السلف يف املراد حببل هللا‪ ،‬وهي أقوال‬
‫ففسر ابلقرآن وابلتوحيد وابجلماعة‬
‫ويدل بعضها على صدق بعض؛ ّ‬
‫تتفق وال ّتتلف‪ّ ،‬‬
‫‪.‬وابلسنة وبعهد هللا‬
‫ويف صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما أن النيب صلى هللا عليه‬
‫حجة الوداع‬
‫وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن ( ‪:‬وسلم قال يف خطبته يف ّ‬
‫‪).‬اعتصمتم به‪ ،‬كتاب هللا‬
‫متسك ابلقرآن عُصم من الضاللة؛ وهذه من أعظم مثرات هدى القرآن‬
‫‪.‬فمن ّ‬

‫وأما وصفه أبنّه نور؛ فقد ورد يف مواضع من القرآن منها‬ ‫‪ّ :‬‬
‫ورا ُمبِينًا { ‪:‬قول هللا تعاىل ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫َّاس قَ ْد َجاءَ ُك ْم بُ ْرَها ٌن م ْن َربِّ ُك ْم َوأَنْ َزلْنَا إِل َْي ُك ْم نُ ً‬
‫ََيأَيخ َها الن ُ‬
‫})(‪174‬‬
‫ّي (‪ )15‬يَ ْه ِدي بِ ِه َّ‬
‫اَّللُ َم ِن اتَّبَ َع ِر ْ‬ ‫اب ُمبِ ٌ‬ ‫اَّلل نُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض َوانَهُ { ‪:‬وقوله ‪-‬‬ ‫ور َوكتَ ٌ‬ ‫قَ ْد َجاءَ ُك ْم م َن َّ ٌ‬
‫صر ٍ‬
‫اط ُم ْستَ ِق ٍيم‬ ‫ِِ ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ خ ِ ِ‬ ‫}سبُل َّ ِ‬
‫الس َالم َوُخيْ ِر ُج ُه ْم م َن الظلُ َمات إ َىل النخوِر إب ْذنه َويَ ْهدي ِه ْم إ َىل َ‬ ‫ُ َ‬
‫اإلميَا ُن { ‪:‬وقوله ‪-‬‬ ‫اب َوَال ِْ‬ ‫ِ‬
‫ت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬ ‫وحا ِم ْن أ َْم ِرَان َما ُك ْن َ‬‫ك ُر ً‬ ‫ك أ َْو َح ْي نَا إِل َْي َ‬‫َوَك َذلِ َ‬
‫صر ٍ‬
‫اط ُم ْستَ ِق ٍيم‬ ‫اد َان وإِنَّ َ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َكن جعلْنَاهُ نُ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك لَتَ ْهدي إ َىل َ‬ ‫ورا َهنْدي به َم ْن نَ َشاءُ م ْن عبَ َ‬ ‫ً‬ ‫َول ْ َ َ‬
‫})(‪52‬‬
‫ري (‪: { 8‬وقوله ‪-‬‬ ‫َّلل َوَر ُسولِ ِه َوالنخوِر الَّ ِذي أَنْ َزلْنَا َو َّ‬
‫اَّللُ ِمبَا تَ ْع َملُو َن َخبِ ٌ‬
‫})فَ ِآمنُوا ِاب َِّ‬
‫ك ُه ُم { ‪:‬وقوله ‪-‬‬ ‫خور الَّ ِذي أُنْ ِز َل َم َعهُ أُولَئِ َ‬
‫ص ُروهُ َواتَّبَ عُوا الن َ‬
‫ِ‬
‫آمنُوا بِه َو َع َّزُروهُ َونَ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫فَالَّذ َ‬
‫}ْ)ال ُْم ْفلِ ُحو َن (‪157‬‬
‫فهو نور يضيء الطريق للسالكّي؛ ويذهب عنهم ظلمة الشرك والعصيان وآاثرها؛ فمن‬
‫استضاء بنور القرآن أضاء له سبيله‪ ،‬وأبصر احلقائق‪ ،‬وعرف ما َيِت وما يذر‪ ،‬وكان على‬
‫بيّنة من ربّه؛ حسن املعرفة بصراطه املستقيم‪ ،‬وبكيد الشيطان الرجيم‪ ،‬وعلل النفس‬
‫‪.‬املردية‬
‫واهلوام‬
‫ّ‬ ‫ومثل العبد يف هذه احلياة الدنيا كمثل السالك يف صحراء مظلمة مليئة ابملخاوف‬
‫حمصن؛ وال تُعرف معامل هذا الطريق إال بنور‬
‫والسباع ويف تلك الصحراء طريق آمن ّ‬
‫ّ‬
‫وتعرض للمخاوف‪ ،‬ومل‬ ‫يضيء لصاحبه حىت يعرفه؛ فمن سار يف الظلمة ّتبّط يف سريه ّ‬
‫احملصن‪ ،‬وسار فيها آمنا‪ ،‬وكان على‬
‫يصل إىل مأمنه‪ ،‬ومن استضاء ابلنور أبصر الطريق ّ‬
‫‪.‬حذر من الزيغ عنه إىل مفاوز الظلمات املوحشة‬
‫فالقرآن هو النور املبّي الذي يستضاء به ليبّي السبيل للسالكّي‪ ،‬وخيرجوا من الظلمات‬
‫‪.‬إىل النور‪ ،‬ومن سبل الشياطّي املوحشة املضلّة إىل صراط هللا املستقيم‬
‫ورا ُمبِينًا { ‪:‬وقد وصف هللا نور القرآن أبنه نور مبّي كما قال هللا تعاىل‬
‫َوأَنْ َزلْنَا إِل َْي ُك ْم نُ ً‬
‫})(‪174‬‬
‫فسر مبعنيّي صحيحّي‬
‫‪:‬وقد ّ‬
‫أنه مبّي مبعىن بَّّي أي ظاهر واضح يعرف أنه هو احلق لنوره الذي مييّزه عن ‪:‬أحدمها‬
‫‪.‬غريه‪ ،‬وهلذا املعىن نظائر كثرية يف القرآن الكرمي ويف كالم العرب‬
‫‪.‬أنه ُمبّي مبعىن ُم ِّبّي؛ ملا فيه من بيان احلق واهلدى للناس ‪:‬واملعىن اآلخر‬
‫يتبّي به حقائق األمور‪ ،‬وسنن االبتالء‪ ،‬وعواقب السالكّي‪ ،‬وال‬
‫واملستنري بنور القرآن ّ‬
‫تغره مكائد األعداء‪ ،‬وظواهر الفنت اخل ّداعة‪ ،‬وحيل النفس اخلفيّة‪ ،‬يف حصن حصّي من‬
‫ّ‬
‫فنت الشبهات والشهوات ملا يرى من قبحها وسوء عاقبتها إذ تب ّدت له بوجهها احلقيقي‬
‫ّي َك ْاألَ ْع َمى {املن ّفر؛ يبصر فيها ال كبصر غريه‪ ،‬ويسمع فيها ال كسمع غريه؛‬ ‫َمثَل الْ َف ِري َق ْ ِ‬
‫ُ‬
‫الس ِمي ِع َه ْل يَ ْستَ ِوََي ِن َمثَ ًال أَفَ َال تَ َذ َّك ُرو َن (‪24‬‬ ‫‪)}.‬و ْاألَص ِم والْب ِ‬
‫ص ِري َو َّ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫وهو هبذا البصر املستنري بنور القرآن يف حياة حقيقية؛ قد خرج من أسر الظلمات‪،‬‬
‫ووجد حقيقة احلياة وطعمها وتبيّنت له غايته اليت يسعى إليها‪ ،‬وطريقه الذي يوصله إىل‬
‫ورا ميَْ ِشي بِ ِه ِيف الن ِ‬
‫َّاس َك َم ْن َمثَلُهُ ِيف { ‪.‬غايته‬ ‫َحيَ ْي نَاهُ َو َج َعلْنَا لَهُ نُ ً‬
‫أ ََوَم ْن َكا َن َم ْي تًا فَأ ْ‬
‫ِ ِ‬
‫ك ُزيِّ َن ل ْل َكاف ِر َ‬
‫ين َما َكانُوا يَ ْع َملُو َن (‪122‬‬ ‫ِج ِم ْن َها َك َذلِ َ‬‫س ِخبَار ٍ‬ ‫خ ِ‬
‫})الظلُ َمات ل َْي َ‬
‫وهذا النور مالزم لالنفساح وانشراح الصدر؛ ألنه يرى من آفاق السعة ورفع احلرج‬
‫وكثرة أبواب الفضل والرمحة واملخارج من املضايق ما يدفع عنه الشعور ابلضيق الناتج‬
‫قل نصيبه من االستنارة بنور القرآن‬
‫‪.‬عن ضعف إبصارها لدى من ّ‬
‫وهذا يطلعك على تفاوت الناس يف االستنارة بنور القرآن؛ وأعظمهم نصيباً منه أشرحهم‬
‫صدراً وأزكاهم نفساً وأحسنهم بصرية؛ قد انصرفت مهّته إىل إحسان العمل وجتنّب اإلمث؛‬
‫‪.‬فازداد هداية وانشراحاً واستنارة بنور هللا‬
‫وهبُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر {‬ ‫اَّلل ص ْدرهُ لِ ِْْلس َالِم فَ هو َعلَى نُوٍر ِمن ربِ ِه فَويل لِ ْل َق ِ‬
‫اسيَ ِة قُلُ ُ‬ ‫ْ َّ َ ْ ٌ‬ ‫َُ‬ ‫ح َُّ َ َ ْ‬ ‫أَفَ َم ْن َش َر َ‬
‫ّي (‪22‬‬ ‫ض َال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ك ِيف َ‬ ‫‪َِّ )}.‬‬
‫اَّلل أُولَئِ َ‬

‫وأما وصفه أبنّه بيان ومبّي؛ فقد ورد يف مواضع كثرية من القرآن الكرمي؛ فقال‬ ‫ّ‬
‫َّاس و ُه ًدى ومو ِعظَةٌ لِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ّي (‪: {138‬تعاىل‬‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ََْ‬ ‫على القول أبن مرجع اسم }) َه َذا بَيَا ٌن للن ِ َ‬
‫‪.‬اإلشارة هو القرآن الكرمي‪ ،‬وهو قول احلسن البصري وقتادة‬
‫اب ال ُْمبِ ِ‬
‫ّي { ‪:‬وقال‬ ‫ت ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫آَي ُ‬ ‫يف }والكتاب املبّي{ ‪:‬يف ثالثة مواضع‪ ،‬وقال }تِل َ‬
‫ْك َ‬
‫‪.‬موضعّي‬
‫‪.‬وبيان القرآن أحسن البيان وأعظمه وأجلّه يف ألفاظه ومعانيه وهداَيته‬
‫فأما ألفاظه فهي على أفصح لغات العرب وأحسنها‪ ،‬ال تعقيد فيها وال تكلف وال‬
‫تعسر‪ ،‬له حالوة عند مساعه‪ ،‬وحالوة‬
‫اختالل‪ ،‬حسن اجلرَين على اللسان بال سآمة وال ّ‬
‫عند تالوته‪ ،‬يقرؤه الكبري والصغري وُيفظه من يشاء منهم لتيسر ألفاظه وحسنها‪ .‬وقد‬
‫حت ّدى هللا به أساطّي فصحاء العرب‪ ،‬وهم متوافرون على أن َيتوا مبثله أو بسورة من‬
‫‪.‬مثله فلم يستطيعوا‪ ،‬ولو اجتمع أهل األرض كلّهم على أن َيتوا مبثله مل يستطيعوا‬
‫وقد اعتىن ببديع بيان ألفاظ القرآن مجاعة من العلماء؛ فاستخرجوا من ذلك ما يبهر‬
‫‪.‬ويدهش من حسن البيان وإحكامه‬
‫وأما بيان معانيه؛ فهو حمكم غاية اإلحكام؛ ال َيتيه الباطل من بّي يديه وال من خلفه‪،‬‬
‫أَفَ َال ي ت َدبَّرو َن الْ ُقرآ َن ولَو َكا َن ِمن ِع ْن ِد غَ ِْري َِّ‬
‫اَّلل {وال يتعارض‪ ،‬وال يتناقض‪ ،‬وال خيتلف؛‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ََ ُ‬
‫ريا (‪82‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫‪)}.‬ل ََو َج ُدوا فيه ا ْخت َالفًا َكث ً‬
‫وأما بيان هداَيته وداللتها على ما ُيبّه هللا ويرضاه‪ ،‬وعلى بيان احل ّق ونصرته‪ ،‬وعلى‬
‫كشف الباطل ودحضه؛ وإرشاده إىل صراط هللا املستقيم؛ فأمر ظاهر غاية الظهور؛‬
‫احلجة على اإلنس واجلن؛ وأمر نبيّه أن يذ ّكر به‪ ،‬وينذر‬ ‫ولظهور بيانه للهدى أقام هللا به ّ‬
‫شر به؛ فأمره أن يقول‬ ‫يل َه َذا الْ ُق ْرآ ُن ِألُنْ ِذ َرُك ْم بِ ِه َوَم ْن بَلَ َغ{ ‪:‬به ‪ ،‬ويب ّ‬ ‫}وأ ِ‬
‫ُوح َي إِ ََّ‬ ‫َ‬
‫‪}.‬قُ ْل إِ َّمنَا أُنْ ِذ ُرُك ْم ِابل َْو ْحي { ‪:‬وقال تعاىل‬
‫اف و ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يد (‪: { 45‬وقال تعاىل‬ ‫})فَ َذ ّك ْر ِابلْ ُق ْرآن َم ْن َخيَ ُ َ‬
‫ين َخيَافُو َن أَ ْن ُُْي َش ُروا إِ َىل َرّهبِِ ْم { ‪:‬وقال‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫‪}.‬وأَنْذ ْر به الَّذ َ‬ ‫َ‬
‫ّي َوتُ ْن ِذ َر بِ ِه قَ ْوًما ل ًُّدا (‪: { 97‬وقال‬ ‫ك لِتُ ب ِّ ِ ِ‬ ‫‪)}.‬فَِإ َّمنَا ي َّ ِ ِ‬
‫ش َر بِه ال ُْمتَّق َ‬ ‫س ْرَانهُ بِل َسان َ َ‬ ‫َ‬

‫وأما وصفه أبنه ِذ ْك ٌر وذكرى وتذكرة؛ ففي آَيت كثرية من كتاب هللا تعاىل؛ بل جعل هللا‬
‫طه (‪َ )1‬ما أَنْ َزلْنَا { ‪:‬من أعظم مقاصد إنزال القرآن التذكري به؛ كما قال هللا تعاىل‬
‫ك الْ ُق ْرآ َن لِتَ ْش َقى (‪ )2‬إَِّال تَذْكِ َرةً لِ َم ْن َخيْ َشى (‪3‬‬ ‫}) َعلَْي َ‬
‫ّي (‪: { 48‬وقال‬ ‫})وإِنَّهُ لَتَذْكِرةٌ لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫‪َ )}.‬ك َّال إِنَّهُ تَذْكِ َرةٌ (‪ )54‬فَ َم ْن َشاءَ ذَ َك َرهُ (‪: { 55‬وقال‬
‫ِ‬
‫ّي { ‪:‬وقال‬ ‫‪.‬يف ثالثة مواضع }إِ ْن ُه َو إَِّال ِذ ْك ٌر لل َْعال َِم َ‬
‫ار ٌك أَنْ َزلْنَاهُ أَفَأَنْ تُ ْم لَهُ ُم ْن ِك ُرو َن (‪: { 50‬وقال‬ ‫ِ‬
‫‪َ )}.‬و َه َذا ذ ْك ٌر ُمبَ َ‬
‫ك فَ َال ي ُكن ِيف ص ْد ِر َك حرج ِم ْنه لِت ْن ِذر بِ ِه وِذ ْكرى لِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ّي { ‪:‬وقال‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ََ ٌ ُ ُ َ َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫اب أُنْ ِز َل إِل َْي َ‬
‫كتَ ٌ‬
‫‪2()}.‬‬
‫ك ل ََر ْمحَةً َوِذ ْك َرى { ‪:‬وقال‬ ‫اب يُ ْت لَى َعلَْي ِه ْم إِ َّن ِيف ذَلِ َ‬ ‫أَوَمل ي ْك ِف ِهم أ ََّان أَنْزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََْ ْ‬
‫‪)}.‬لَِق ْوٍم يُ ْؤِمنُو َن (‪51‬‬
‫‪:‬واآلَيت يف هذا املعىن كثرية‪ ،‬وتذكري القرآن على درجتّي‬
‫ِ ِِ‬
‫احلجة؛ كما قال هللا تعاىل ‪:‬الدرجة األوىل‬ ‫عام تقوم به ّ‬ ‫س { ‪:‬تذكري ّ‬ ‫َوذَ ّك ْر به أَ ْن تُ ْب َس َل نَ ْف ٌ‬
‫يع َوإِ ْن تَ ْع ِد ْل ُك َّل َع ْد ٍل َال يُ ْؤ َخ ْذ ِم ْن َها‬ ‫ِ‬
‫اَّلل َوِيلٌّ َوَال َشف ٌ‬
‫ون َِّ‬‫ت ل َْيس َهلَا ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫}مبَا َك َسبَ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ص ْي ِط ٍر (‪ )22‬إَِّال َم ْن تَ َو َّىل { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم ِمبُ َ‬ ‫َس َ‬ ‫فَ َذ ّكِر إِ َّمنَا أَنْ َ ِ‬
‫ت ُم َذ ّك ٌر (‪ )21‬ل ْ‬ ‫ْ‬
‫رب (‪24‬‬ ‫اب ْاألَ ْك ََ‬ ‫}) َوَك َف َر (‪ )23‬فَ يُ َع ِّذبُهُ َّ‬
‫اَّللُ ال َْع َذ َ‬
‫وهذا التذكري من استجاب له هداه هللا به إىل صراطه املستقيم؛ ومن أعرض عنه وزهد‬
‫فيه انتقم هللا منه‪ ،‬وعاقبه ابحلرمان من فقهه واالنتفاع به؛ وتلك أعظم العقوابت يف‬
‫ض َع ْن َها إِ َّان ِم َن { ‪:‬الدنيا؛ كما قال هللا تعاىل‬ ‫ومن أَظْلَم ِممَّن ذُّكِر ِِبَي ِ ِ‬
‫ت َربِّه ُمثَّ أَ ْع َر َ‬ ‫ََ ْ ُ ْ َ َ‬
‫ّي ُم ْن تَ ِق ُمو َن (‪22‬‬ ‫ِ‬
‫})ال ُْم ْج ِرم َ‬
‫ض َع ْن َها َونَ ِس َي َما قَ َّد َم ْ‬ ‫ومن أَظْلَم ِممَّن ذُّكِر ِِبَي ِ ِ‬
‫ت يَ َداهُ إِ َّان { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ت َربِّه فَأَ ْع َر َ‬ ‫ََ ْ ُ ْ َ َ‬
‫َج َعلْنَا َعلَى قُلُوهبِِ ْم أَكِنَّةً أَ ْن يَ ْف َق ُهوهُ َوِيف آذَاهنِِ ْم َوق ًْرا َوإِ ْن تَ ْدعُ ُه ْم إِ َىل ا ْهلَُدى فَلَ ْن يَ ْهتَ ُدوا‬
‫})إِذًا أَبَ ًدا (‪57‬‬
‫ين (‪َ )36‬وإِ َّهنُ ْم { ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ض لَهُ َش ْيطَ ًاان فَ ُه َو لَهُ قَ ِر ٌ‬ ‫ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫الر ْمحَ ِن نُ َقيِّ ْ‬ ‫َوَم ْن يَ ْع ُ‬
‫يل َوَُْي َسبُو َن أ ََّهنُ ْم ُم ْهتَ ُدو َن (‪37‬‬ ‫السبِ ِ‬
‫وهنُ ْم َع ِن َّ‬ ‫ص خد َ‬‫‪)}.‬لَيَ ُ‬
‫ّي (‪ُ )13‬مثَّ تَ َولَّ ْوا َع ْنهُ{ ‪:‬وقال تعاىل‬ ‫ََّن َهلُ ُم ال ِّذ ْك َرى َوقَ ْد َجاءَ ُه ْم َر ُس ٌ‬
‫ول ُمبِ ٌ‬ ‫‪}.‬أ َّ‬

‫وجل‬
‫عز ّ‬ ‫احلجة‪ ،‬وال ينفع إال من استجاب هلل ّ‬ ‫واملقصود أن هذا التذكري العام تقوم به ّ‬
‫‪.‬واتّبع هداه‬
‫خاص ابملؤمنّي؛ كما قال هللا تعاىل ‪:‬والدرجة الثانية‬
‫وذ ّكر { ‪:‬التذكري النافع؛ وهو تذكري ّ‬
‫سيذ ّكر من { ‪:‬وقال }وما يذ ّكر إال من ينيب{ ‪ ،:‬وقال}فإن الذكرى تنفع املؤمنّي‬
‫}خيشى‬
‫واخلشية واإلانبة من أعمال اإلميان‪ ،‬وكلما كان العبد أكمل إمياان كان نصيبه من التذ ّكر‬
‫‪.‬أعظم وأنفع‬
‫‪.‬ولذلك كان نصيب أهل اخلشية واإلانبة من ذلك أحسن النصيب‬
‫‪:‬وتذكري القرآن له أنواع كثرية‬
‫جل وعال‪ ،‬وتعريفه أبمسائه وصفاته املوجبة حملبّته؛ فيحبّه ويعظّمه ‪:‬فمنها‬
‫تذكري العبد بربّه ّ‬
‫‪.‬ويتقرب إليه‬
‫ّ‬
‫ويتقرب إليه ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬تذكريه بفضله ورمحته وعظيم ثوابه يف الدنيا واآلخرة؛ فريجوه ّ‬
‫ويتقرب إليه خوفا من عقابه ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬تذكريه بش ّدة عقوبته وبطشه؛ فيخافه وخيشاه‪ّ ،‬‬
‫‪.‬احملبة واخلوف والرجاء عليها مدار عبودية القلب ‪:‬وهذه األركان الثالثة‬
‫‪.‬تذكري العبد بنعم هللا وآالئه؛ فيذكره ويشكره وُيبّه ‪:‬ومنها‬
‫تذكريه حبقيقة الدنيا والنفس وكيد الشيطان وأعداء الدين؛ فيعرف حقائق ذلك‪: ،‬ومنها‬
‫‪.‬وينجو من فنت عظيمة مضلّة‬
‫تذكريه ابملوت وسكرته وابلقيامة وأهواهلا وابحلساب واجلزاء واجلنّة والنار؛ ‪:‬ومنها‬
‫‪.‬فيستع ّد للقاء هللا تعاىل‪ ،‬ويتي ّقن قصر م ّدة بقائه يف هذه الدنيا مهما عُ ّمر فيها‬
‫‪.‬إىل غري ذلك من األنواع اليت عليها مدار تذكري القرآن‬

‫وأما وصفه أبنّه موعظة‪ ،‬فقد ورد يف آَيت من القرآن الكرمي‪ ،‬منها قول هللا‬
‫ص ُدوِر َو ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ { ‪:‬تعاىل‬ ‫َّاس قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َو ِش َفاءٌ لِ َما ِيف ال خ‬
‫ََيأَيخ َها الن ُ‬
‫ري ِممَّا َْجي َمعُو َن (‪58‬‬ ‫اَّلل َوبَِر ْمحَتِ ِه فَبِ َذلِ َ‬
‫ك فَلْيَ ْف َر ُحوا ُه َو َخ ٌْ‬
‫ض ِل َِّ‬ ‫ّي (‪ )57‬قُ ْل بَِف ْ‬ ‫})لِل ِ‬
‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ُ‬
‫َّاس و ُه ًدى ومو ِعظَةٌ لِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ّي (‪: { 138‬وقوله‬ ‫ْمتَّق َ‬ ‫ُ‬ ‫ََْ‬ ‫}) َه َذا بَيَا ٌن للن ِ َ‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َوَم ْو ِعظَةً { ‪:‬وقوله‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫آَيت ُمبَ يِّنَات َوَمثَ ًال م َن الَّذ َ‬
‫ولََق ْد أَنْ َزلْنَا إِل َْي ُكم ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ّي (‪34‬‬ ‫‪)}.‬لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬
‫يلّي القلب ليزدجر عن السوء فيسلم من عقوبته ومغبّته‪ ،‬وُيذر‬
‫واملوعظة هي التذكري مبا ّ‬
‫ويتبّي خطر التفريط فيه فيبادر إليه ليغنم‬
‫‪.‬فوات اخلري ّ‬
‫‪).‬املوعظة‪ :‬تذكرتك اإلنسان مبا يلّي قلبه من ثواب وعقاب( ‪:‬قال ابن سيده‬
‫ومواعظ القرآن أحسن املواعظ وأنفعها‪ ،‬وأعظمها أثراً؛ فهي مواعظ مبناها على العلم‬
‫وعزهم وجناهتم‪ ،‬وقد قال هللا‬
‫التام والرمحة واحلكمة‪ ،‬وغاَيهتا إرشاد الناس ملا فيه خريهم ّ‬
‫ّ‬
‫نعما يعظكم به{ ‪:‬تعاىل‬
‫أتمل مواعظ القرآن وجدها دالّة على اخلري }إ ّن هللا ّ‬
‫؛ ومن ّ‬
‫‪.‬والرمحة واإلصالح والنهي عن السوء والفساد واملنكرات‬
‫ومهما بلغ حال العبد من السوء وارتكاب املوبقات إذا فعل ما وعظه هللا به يف كتابه‪،‬‬
‫وصدق يف ذلك؛ ظهر أثر مواعظ القرآن على قلبه ولسانه وجوارحه‪ ،‬حىت يهتدي إىل‬
‫صراط هللا املستقيم وينال فضله العظيم وخيرج مما كان فيه من الظلمات والضالالت‬
‫شر الناس منزلةً جلمعهم بّي الكفر‬ ‫واملوبقات‪ ،‬وقد قال هللا تعاىل يف املنافقّي الذين هم ّ‬
‫وعظُو َن بِ ِه لَ َكا َن {والنفاق وارتكاهبم كثرياً من أعمال السوء القبيحة‬ ‫َول َْو أ ََّهنُ ْم فَ َعلُوا َما يُ َ‬
‫اهم ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخ ْريا َهلم وأَ َش َّد تَثْبِيتا (‪ )66‬وإِ ًذا َآلتَي نَ ِ‬
‫ص َراطًا‬ ‫يما (‪َ )67‬وَهلََديْ نَ ُ ْ‬ ‫اه ْم م ْن لَ ُد َّان أ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً ُْ َ‬
‫يما (‪68‬‬ ‫ِ‬
‫‪ُ )}.‬م ْستَق ً‬
‫يدل على أ ّن مواعظ القرآن ما حلّت يف قلب إال أمثرت فيه هداية وصالحاً وخرياً‬ ‫وهذا ّ‬
‫كل الشأن هو يف اتّعاظ العبد مبواعظه‪ ،‬وأن اخلسران املبّي هو يف‬ ‫عظيماً‪ ،‬وأ ّن الشأن ّ‬
‫‪.‬اإلعراض عنها‬

‫ِ‬
‫وأما وصفه أبنّه شفاء؛ فقد ورد يف مواضع من القرآن؛ منها قول هللا تعاىل‬ ‫َونُنَ ِّز ُل م َن { ‪ّ :‬‬
‫ِ‬ ‫آن ما هو ِش َفاء ور ْمحةٌ لِل ِ‬
‫ارا (‪82‬‬ ‫ّي إَِّال َخ َس ً‬ ‫ّي َوَال يَ ِزي ُد الظَّال ِم َ‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫})الْ ُق ْر َ ُ َ ٌ َ َ َ ُ‬
‫ِ‬
‫ص ُدوِر َو ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ { ‪:‬وقوله‬ ‫َّاس قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َو ِش َفاءٌ لِ َما ِيف ال خ‬
‫ََيأَيخ َها الن ُ‬
‫ري ِممَّا َْجي َمعُو َن (‪58‬‬
‫ك فَلْيَ ْف َر ُحوا ُه َو َخ ٌْ‬‫اَّلل َوبَِر ْمحَتِ ِه فَبِ َذلِ َ‬
‫ض ِل َِّ‬‫ّي (‪ )57‬قُ ْل بَِف ْ‬ ‫})لِل ِ‬
‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ُ‬
‫ين َال يُ ْؤِمنُو َن ِيف آ َذاهنِِ ْم َوق ٌْر َو ُه َو َعلَْي ِه ْم { ‪:‬وقوله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُه ًدى َوش َفاءٌ َوالَّذ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِِ‬
‫قُ ْل ُه َو للَّذ َ‬
‫يد (‪44‬‬ ‫ان ب ِع ٍ‬‫ٍ‬ ‫ك ي نَ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اد ْو َن م ْن َم َك َ‬ ‫}) َع ًمى أُولَئ َ ُ‬
‫خاصة للمؤمنّي؛ ففيه شفاء لنفوسهم‬ ‫فوصفه هللا أبنّه شفاء؛ وجعل هذا الشفاء منحة ّ‬
‫‪:‬من عللها وأدوائها اليت مرجعها إىل أمرين‬
‫‪.‬ظلمها بتع ّديها حدود هللا؛ فيصيبها من مغبّة خمالفتها هلداه ما تشقى به ‪-‬‬
‫ويكملها ‪-‬‬
‫‪.‬وجهلها مبا ينفعها ويزّكيها ّ‬
‫اإلنْ َسا ُن إِنَّهُ { ‪:‬واألصل يف وصف اإلنسان أنّه ظلوم جهول؛ كما قال هللا تعاىل‬
‫َو َمحَلَ َها ِْ‬
‫وال (‪72‬‬
‫وما َج ُه ً‬ ‫}) َكا َن ظَلُ ً‬
‫جير عليها‬
‫أي أن هذا من طبعه وعادته؛ فيتع ّدى حدود هللا اتّباعاً هلواه؛ فيظلم نفسه مبا ّ‬
‫‪.‬من البالء والعلل واألدواء والعناء والشقاء‬
‫يضره وال ينفعه؛ ويشقيه وال يشفيه‬
‫‪.‬وجيهل فينصرف إىل تناول ما ّ‬
‫وتتنوع مظاهر الشقاء يف النفس البشرية وتتفاوت حبسب بعدها عن هدى هللا؛ وينشأ‬
‫ّ‬
‫والشح والبخل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والشك واحلرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والكرب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فيها من علل اجلهل والظلم‪ ،‬والعُ ْج ِ‬
‫ب‬
‫جتر على من اتّصف هبا أو ببعضها‬
‫واحلرص واحلسد‪ ،‬والعشق والتعل ّق‪ ،‬وغريها من العلل ّ‬
‫‪.‬ألواانً من الشقاء العظيم والعذاب الوبيل‬
‫التصور افتتان بفنت الشبهات؛‬
‫ّ‬ ‫التصور واإلرادة؛ فيحصل بفساد‬
‫ّ‬ ‫وتلك العلل تفسد‬
‫فريى الباطل ح ّقاً‪ ،‬واحل ّق ابطالً‪ ،‬واملعروف منكراً‪ ،‬واملنكر معروفاً؛ ويزداد بذلك عذاب‬
‫‪.‬حريته وش ّكه وظلمة قلبه‬
‫وُيصل بفساد اإلرادة افتتان أبنواع من الشهوات‪ ،‬وتعلّق القلب هبا حىت جيد من أليم‬
‫‪.‬عذاهبا وعظيم مصاهبا ما تشقى به حياته‪ ،‬ويظلم به فؤاده‬
‫واللبيب املوفّق إذا أبصر ما أصاب الناس من علل نفوسهم وأدوائها وما أنتجته هلم تلك‬
‫يصح به‬
‫العلل من عذاب وشقاء أدرك أنّه ال خمرج منها إال بشفاء َيِت من هللا؛ شفاء ّ‬
‫ويتبّي فضله ومثرته وحسن عاقبته‪،‬‬
‫التصور فيعرف احل ّق وحسنه ويبصره بدالئله الظاهرة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ويعرف الباطل وقبحه ويبصره بدالئله الظاهرة وإن هويته النفس وطمعت فيه للذة هامجة‬
‫ويتبّي خطره وشؤمه وسوء عاقبته‬
‫‪.‬أو خاطرة عابرة‪ّ ،‬‬
‫وصحة املعرفة إىل‬
‫املعريف النافع الذي أصله البصرية ّ‬
‫ّ‬ ‫وُيتاج اإلنسان مع هذا العالج‬
‫عالج سلوكي؛ ليتناول ما يصلح به قلبه‪ ،‬وتزكو به نفسه‪ ،‬وينشرح به صدره‪ ،‬وتستنري به‬
‫يضره ويفسد عليه‬
‫بصريته‪ ،‬ويستقيم به على ما ينفعه يف مجيع شؤونه‪ ،‬ويسلم به مما ّ‬
‫‪.‬مثرات صالحه ويضعفها‬
‫وجل هذا القرآن العظيم شفاءً للمؤمنّي الذين آمنوا به واتّبعوا ما أنزل‬
‫عز ّ‬‫وقد أنزل هللا ّ‬
‫‪.‬هللا فيه من اهلدى؛ فتح ّقق هلم من الشفاء بقدر ما ح ّققوا من اإلميان واتّباع اهلدى‬
‫ومن أبصر ما تق ّدم أدرك عظيم منّة هللا تعاىل هبذا الشفاء العظيم؛ الذي حرم منه من‬
‫حرم؛ فشقي يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وسعد به من عرف قدره وعظّمه فاغتبط به يف الدنيا مع‬
‫‪.‬ما يرجو من فضل هللا العظيم يف اآلخرة‬
‫وقد جعل هللا مع هذا الشفاء العظيم الذي هو املقصود األعظم من الشفاء شفاءً من‬
‫نوع آخر؛ فهو رقية انفعة من العلل واألدواء اليت تصيب الروح واجلسد‪ ،‬فكم ُشفي به‬
‫ليتبّي الناس آية من آَيت هللا فيه؛ وأ ّن هللا إذا شاء‬
‫من عليل عجز األطبّاء عن عالجه؛ ّ‬
‫‪.‬أن يشفي عبده فال يعجزه شيء‪ ،‬وال ير ّد فضله عنه أحد‬
‫‪.‬وكم أُبطل به من سح ٍر قد ّ‬
‫أضر وأنكى‬
‫‪.‬وكم تعاىف به من معيون وحمسود وممسوس وموسوس‬
‫وتفرقه‪ ،‬وكم‬
‫تفرق‪ ،‬وصلح به حال قوم بعد فساد أمرهم ّ‬
‫وكم اجتمع به مشل أسرة بعد ّ‬
‫سكنت به من نفوس‪ ،‬واطمأنّت به من قلوب‪ ،‬وانشرحت به من صدور‪ ،‬وصلحت به‬
‫‪.‬من أحوال‬
‫كل ذلك من الدالئل البيّنة على ما جعل هللا فيه من الشفاء املبارك‬
‫‪.‬و ّ‬

‫صائُِر ِم ْن { ‪:‬وأما وصفه أبنه رمحة؛ فقد ورد يف آَيت كثرية؛ منها قول هللا تعاىل‬ ‫َه َذا بَ َ‬
‫}) َربِّ ُك ْم َو ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ لَِق ْوٍم يُ ْؤِمنُو َن (‪203‬‬
‫})وإِنَّه َهل ًدى ور ْمحةٌ لِل ِ‬
‫ّي (‪: { 77‬وقوله‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬‫َ ُ ُ ََ َ ُ‬
‫يل ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه ًدى { ‪:‬وقوله‬ ‫يق الَّ ِذي ب ْ َ ِ ِ‬
‫ّي يَ َديْه َوتَ ْفص َ‬‫َ‬ ‫ص ِد َ‬
‫َك ْن تَ ْ‬ ‫ما َكا َن ح ِديثًا ي ْف َرتى ول ِ‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫}) َوَر ْمحَةً لَِق ْوٍم يُ ْؤِمنُو َن (‪111‬‬
‫ْكتاب تِب ي ًاان لِ ُك ِل َشي ٍء وه ًدى ور ْمحَةً وب ْشرى لِل ِ‬ ‫ونَ َّزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ّي { ‪:‬وقوله‬ ‫ْم ْسل ِم َ‬
‫ّ ْ َ ُ َ َ َُ َ ُ‬ ‫ك ال َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫})(‪89‬‬
‫ِ‬ ‫آن ما هو ِش َفاء ور ْمحةٌ لِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ّي إَِّال َخ َس ً‬
‫ارا { ‪:‬وقوله‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ّي َوَال يَ ِزي ُد الظَّال ِم َ‬ ‫ِ‬
‫َونُنَ ِّز ُل م َن الْ ُق ْر َ ُ َ ٌ َ َ َ ُ‬
‫})(‪82‬‬
‫‪.‬واآلَيت يف هذا املعىن كثرية‬
‫يدل به عباده على النجاة من سخطه وعقابه وأليم عذابه‪،‬‬
‫فهو رمحة من هللا تعاىل؛ ملا ّ‬
‫ورمحة هلم ملا يفتح هلم به من أبواب اخلري الكثري‪ ،‬والفضل العظيم‪ ،‬والفوز املبّي؛‬
‫‪.‬برضوانه وثوابه وبركاته‬
‫عما فيه ضررهم مما تقبل عليه نفوسهم متبعة أهواءها جلهلها‬
‫ورمحة هلم ملا ُيجزهم به ّ‬
‫‪.‬وضعفها‬
‫ورمحة هلم ملا يعصمهم به من الضاللة‪ ،‬وخيرجهم به من الظلمات إىل النور‪ ،‬ومن الشقاء‬
‫‪.‬إىل السعادة‬
‫ويصرف هلم فيه من اآلَيت‬
‫يبّي هلم من احلقائق‪ ،‬ويعلّمهم من احلكمة‪ّ ،‬‬ ‫ورمحة هلم ملا ّ‬
‫‪.‬املبصرة‪ ،‬واألمثال املذ ّكِرة‬
‫ّ‬
‫يعرفهم به من أمسائه احلسىن وصفاته العليا؛ فتفضي إليه القلوب مبحبّتها‬ ‫ورمحة هلم ملا ّ‬
‫وتعبّدها له جل وعال أبنواع العبودية اليت حاجة القلب إليها أعظم من حاجة البدن إىل‬
‫والتقرب إليه حىت يفيض عليه من‬
‫الغذاء؛ فإ ّن يف القلب تعطّشاً ال يرويه إال التعبّد هلل ّ‬
‫روى بعد تعطّشه وإهناكه‪ ،‬ويتّسع‬ ‫فيطمئن بعد قلقه وانزعاجه‪ ،‬ويَ َ‬ ‫ّ‬ ‫فضله ورمحته وبركاته؛‬
‫ويسعد بعد شقائه وعذابه‬ ‫وحتسره‪ ،‬وير ُشد بعد حريته وضالله‪َ ،‬‬ ‫‪.‬بعد ضيقه ّ‬
‫ََي أَيخ َها { ‪:‬فهذه الرمحات اجلليلة اليت جعلها هللا يف القرآن داخلة يف معىن قوله تعاىل‬
‫ص ُدوِر وه ًدى ور ْمحةٌ لِل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ّي (‪)57‬‬‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫َّاس قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم َم ْوعظَةٌ م ْن َربّ ُك ْم َوش َفاءٌ ل َما ِيف ال خ َ ُ َ َ َ ُ‬ ‫الن ُ‬
‫ري ِممَّا َْجي َمعُو َن (‪58‬‬
‫ك فَ لْيَ ْف َر ُحوا ُه َو َخ ٌْ‬‫اَّلل َوبَِر ْمحَتِ ِه فَبِ َذلِ َ‬
‫ض ِل َِّ‬
‫})قُ ْل بَِف ْ‬

‫وأما وصفه أبنه بشرى‪ ،‬ففي مواضع من كتاب هللا تعاىل؛ منها قول هللا تعاىل‬ ‫َونَ َّزلْنَا { ‪ّ :‬‬
‫ْكتاب تِب ي ًاان لِ ُك ِل َشي ٍء وه ًدى ور ْمحَةً وب ْشرى لِل ِ‬ ‫}) َعلَي َ ِ‬
‫ّي (‪89‬‬ ‫ْم ْسل ِم َ‬
‫ّ ْ َ ُ َ َ َُ َ ُ‬ ‫ك ال َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ك ِاب ْحل ِّق لِي ثَبِ َ ِ‬ ‫قُل نَ َّزلَه روح الْ ُق ُد ِ ِ‬
‫آمنُوا َو ُه ًدى َوبُ ْش َرى { ‪:‬وقوله تعاىل‬ ‫ت الَّذ َ‬
‫ين َ‬ ‫س م ْن َربِّ َ َ ُ ّ‬ ‫ْ ُُ ُ‬
‫})لِل ِ‬
‫ّي (‪102‬‬ ‫ْم ْسل ِم َ‬
‫ُ‬
‫ّي (‪ )1‬ه ًدى وب ْشرى لِل ِ‬ ‫آن وكِتَ ٍ‬
‫ّي (‪: { 2‬وقوله تعاىل‬ ‫ْم ْؤمنِ َ‬
‫ُ َُ َ ُ‬ ‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ت الْ ُق ْر َ‬ ‫آَي ُ‬‫ْك َ‬ ‫})طس تِل َ‬
‫و َه َذا كِتَاب مص ِّد ٌق لِس ًاان َعربِيًّا لِي ْن ِذر الَّ ِذين ظَلَموا وب ْشرى لِل ِ‬
‫ّي { ‪:‬وقوله تعاىل‬ ‫ْم ْحسنِ َ‬‫َ َ ُ َ َ ُ َُ َ ُ‬ ‫ٌ ُ َ‬ ‫َ‬
‫})(‪12‬‬
‫ووصفه أبنّه بشرى مع التنبيه على أن التبشري من مقاصد إنزاله دليل على عظيم أثر‬
‫‪.‬بشاراته‪ ،‬وعظيم حاجة النفس البشرية للتبشري مبا تنال به سعادهتا وفالحها‬
‫املبشرين به دليل على تفاضل بشاراته؛ فهو بشرى للمسلمّي‪ ،‬وبشرى‬‫وتنويع وصف َّ‬
‫للمؤمنّي‪ ،‬وبشرى للمحسنّي؛ وبّي تلك املراتب من التفاضل العظيم يف البشارات ما ال‬
‫ري ِمبَا يَ ْع َملُو َن (‪{ 163‬يعلمه إال هللا‬ ‫اَّلل و َّ ِ‬‫})هم َدرج ٌ ِ ِ‬
‫اَّللُ بَص ٌ‬ ‫ات ع ْن َد َّ َ‬ ‫ُ ْ ََ‬
‫وحض‬
‫ّ‬ ‫فرتتّب البشارات على العمل وعلى بصر هللا تعاىل به تنبيه على معيار التفاضل‪،‬‬
‫‪.‬على اغتنام أَيم املهلة يف االزدَيد من بشاراته العظيمة‬
‫شر به؛ وحرصا على حتقيق ما‬
‫وكلما قوي أثر التبشري على القلب ازداد إقباالً على ما بُ ّ‬
‫ينال به تلك البشرى‪ ،‬واحرتازاً مما ُيول بينه وبينها؛ فيثمر له ذلك من أنواع العبودية يف‬
‫‪:‬القلب ما يثمر‬
‫‪.‬فتزداد حمبّة هللا يف قلبه لشهود منّته بتلك البشارات ‪1.‬‬
‫وتيسر سبلها مع الوعد الكرمي من الرمحن الرحيم ‪2.‬‬
‫‪.‬ويزداد الرجاء لعظيم االشتياق هلا ّ‬
‫تبوأت مكانتها يف القلب‪ ،‬وعرف قدرها وفضلها ‪3.‬‬
‫‪.‬ويزداد اخلوف من فواهتا بعد أن ّ‬
‫فيجتمع لقلب املؤمن بتلك البشارات من احملبة واخلوف والرجاء ما يكون به صالح‬
‫‪.‬عبوديته هلل تعاىل‪ ،‬وإذا صلح القلب صلح اجلسد كله‬

You might also like