Akhlak

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 47

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫املحاضرة األولى‬
‫تعريف علم األخالق‬
‫تخضع التعريفات – غالبا‪ -‬ملفهومين‪،‬أحدهما لغوي‪،‬واآلخر اصطالحي‪،‬فاملعنى اللغوي يعنى‬
‫ببيان املراد من ظاهر اللفظ عند علماء اللغة فقط‪،‬أما املعنى االصطالحي فيعنى ببيان ما تواضع‬
‫عليه أرباب العلم موضوع التعريف‪،‬من تحديد لهذا العلم تحديدا يجمع كل مسائله‪،‬بحيث ال‬
‫يتخلف منها ش يء‪،‬وال يدخل فيه ما ليس منه من سائر املسائل‪.‬‬
‫التعريف اللغوي لعلم األخالق‬
‫أما في اللغة‪،‬فاملعنى اللغوي لكلمة األخالق هي أنها جمع خلق‪،‬ومن معانيه في اللغة‪:‬الطبع‬
‫َْ‬
‫والسجية والعادة‪،‬فقد جاءت كلمة الخلق في أساس البالغة بمعنى التقدير‪ ،‬واستعملت في القرآن‬
‫ُُ‬ ‫ْ‬
‫الخل َقة‪ ،‬ويقال‪:‬رجل له خلق‬ ‫َ‬
‫مجازا بمعنى اإليجاد بتقدير وحكمة‪ ،‬يقال‪ :‬رجل مختلق أي‪ :‬حسن ِ‬
‫َ َّ‬
‫حسن وخليقة‪ ،‬وهي ما خلق عليه من طبيعته‪.‬وتخلق بكذا وهو خليق لكذا كأنما خلق وطبع‬
‫َْ‬
‫عليه‪،‬ويقال‪ :‬امرأة خليقة أي‪ :‬ذات خلق وجسم‪.‬‬
‫إذن خالصة معنـى الخلق في األساس‪ :‬هو الخلق بحسن التقدير والحكمة‪ ،‬ويشمل الخلق‬
‫على هيئة جميلة‪ ،‬ومن هنا استعمل للسلوك على نهج مستقيم جميل‪.‬‬
‫ُُ‬
‫وجاءت كلمة الخلق في القاموس املحيط بمعنى السجية والطبع واملروءة والدين‪،‬والخلقة بمعنى‬
‫َْ‬
‫الفطرة‪ ،‬والخلق بمعنى التقدير‪.‬‬
‫ُُ‬ ‫ُُ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫وفي لسان العرب الخلق‪ :‬الطبيعة وجمعها أخالق‪ ،‬والخلق والخلق‪ :‬السجية‪،‬وقال الخلق‬
‫هو الدين والطبع والسجية‪ ،‬وحقيقته أنه وصف لصورة اإلنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها‬
‫ومعانيها املختصة بها‪ ،‬بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة‬
‫وقبيحة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫قال ابن فارس‪":‬الخاء والالم والقاف أصالن‪ :‬أحدهما تقدير الش يء‪،‬واآلخر مالسة الش يء‪ ...‬ومن‬
‫ذلك الخلق‪ ،‬وهي السجية‪ ،‬ألن صاحبه قد قدر عليه‪ .‬وفالن خليق بكذا‪ ،‬وأخلق به‪ ،‬أي ما أخلقه‪،‬‬
‫أي هو ممن يقدر فيه ذلك‪ .‬والخالق‪:‬النصيب ; ألنه قد قدر لكل أحد نصيبه‪.‬‬
‫ومن الباب رجل مختلق‪ :‬تام الخلق‪ .‬والخلق‪ :‬خلق الكذب‪،‬وهو اختالقه واختراعه وتقديره في‬
‫النفس‪ .‬قال هللا تعالى‪{ :‬وتخلقون إفكا} [العنكبوت‪.]17:‬وأما األصل الثاني فصخرة خلقاء‪ ،‬أي‬
‫مقاييس اللغة (‪ ،)214/2‬مادة (خ ل ق)ابن فارس ‪ .‬المحقق‪ :‬عبد السالم محمد هارون الناشر‪ :‬دار الفكر عام النشر‪1399 :‬هـ ‪1979 -‬م‪ .‬عدد األجزاء‪6 :‬‬ ‫ملساء‪" .‬‬
‫َّ َ ْ‬
‫خص الخلق بالهيئات واألشكال‬ ‫وقال الراغب األصفهاني‪":‬الخلق والخلق في األصل واحد‪ ...‬لكن‬
‫ُ َّ ُ ُ‬
‫والصور املدركة بالبصر‪ ،‬وخص الخلق بالقوى والسجايا املدركة بالبصيرة"‪ .‬انظر‪ :‬الذريعة إلى مكارم األخالق‬

‫(ص‪.)39‬وانظر كذلك‪ :‬لسان العرب‪(10/86).‬‬

‫من هذا العرض اللغوي لألخالق من املعاجم التي ذكرناها والتي لم نذكرها يمكننا تلخيص ثالثة‬
‫معان بارزة‪،‬تكاد تجمع هذه املعاجم عليها‪،‬األول والثاني يتوجه كل منهما لجهة والثالث يجمع بين‬
‫ٍ‬
‫الجهتين ‪.‬‬
‫ُُ‬
‫األول‪:‬الخلق يدل على الصفات الطبيعية في خلقة اإلنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة‪.‬‬
‫والثاني‪:‬تدل األخالق أيضا على الصفات التي اكتسبت وأصبحت كأنها خلقت مع طبيعته‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ظاهريا‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫سلوكيا‬ ‫ًّ‬
‫باطنيا وجانبا‬ ‫ًّ‬
‫نفسيا‬ ‫والثالث‪ :‬أن لألخالق جانبين‪ :‬جانبا‬
‫التعريف اإلصطالحي‬
‫قال أبو عثمان الجاحظ‪" :‬إن الخلق هو حال النفس‪ ،‬بها يفعل اإلنسان أفعاله بال روية وال‬
‫اختيار‪ ،‬والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا‪ ،‬وفي بعضهم ال يكون إال بالرياضة واالجتهاد‬
‫ُّ‬
‫‪ ،‬كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة وال تعلم‪ ،‬وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل‬
‫وغير ذلك من األخالق املحمودة‪ .‬تهذيب األخالق (ص‪.)12‬‬

‫هيئة في النفس راسخة‪،‬‬ ‫وحول نفس املعنى يدور الغزالي في تعريفه فقال األخالق‪" :‬عبارة عن ٍ‬
‫َّ‬
‫عنها تصدر األفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية‪ .‬إحياء علوم الدين (‪ .)53/3‬وانظر‪ :‬التعريفات للجرجاني (ص‪.)104‬‬

‫‪2‬‬
‫تسهيل النظر وتعجيل الظفر (ص‪.)5‬‬ ‫وقال املاوردي‪" :‬هي غرائز كامنة تظهر باالختيار‪ ،‬وتقهر باالضطرار"‬
‫وهكذا فهناك تعريفات كثيرة قد اصطلح عليها‪،‬ولعل أشهرها وهو املتداول بين املؤلفين هو‬
‫ُُ‬
‫تعريف الجرجاني‪ :‬الشريف علي بن محمد‪ ،‬حيث قال‪":‬الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر‬
‫عنها األفعال بسهولة ُوي ْس ٍر من غير حاجة إلى فكر ور ّوية‪ ،‬فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها‬
‫ُُ‬
‫األفعال الجميلة عقال وشرعا بسهولة‪،‬سميت الهيئة خلقا حسنا‪ ،‬وإن كان الصادر منها األفعال‬
‫صدر منه‬‫القبيحة‪ ،‬سميت الهيئة التي هي املصدر ُخ ُلقا سيئا‪ .‬وإنما قلنا‪ :‬إنه هيئة راسخة؛ ألن َمن َي ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫بحالة عارضة‪ ،‬ال يقال خلقه السخاء‪ ،‬ما لم َيث ُب ْت ذلك في نفسه‪.‬وكذلك من‬ ‫ٍ‬ ‫َبذل املال على الندور‬
‫ُ‬ ‫ُُ‬ ‫بجهد أو ّ‬ ‫ّ َ‬
‫روية ال يقال‪ :‬خلقه الحلم‪.‬وليس الخلق عبارة عن الفعل؛‬ ‫تكلف السكوت عند الغضب ٍ‬
‫ُ‬ ‫فرب شخص خلقه السخاء‪ ،‬وال َي ْبذل‪ :‬إما ْ‬
‫لفقد املال‪ ،‬أو ملانع‪ .‬وربما يكون خلقه البخل‪ ،‬وهو َيبذل‬
‫ي‪.101 :‬‬
‫التعريفات‪ ،‬للجرجان ّ‬ ‫لباعث أو رياء"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫الباطنية‬ ‫ّ‬
‫والسجايا‬ ‫ّ‬
‫املعنوية‬ ‫ولذا يمكن القول ّإن‪:‬األخالق هي مجموعة الكماالت‬
‫لإلنسان‪،‬واألخالق أحيانا ُتطلق على العمل ّ‬
‫والسلوك‪ ،‬الذي ينشأ من امللكات النفسانية لإلنسان‬
‫ّ‬
‫السلوكية‪.‬‬ ‫أيضا‪،‬فاألولى األخالق الصفاتية والثانية‬
‫جية أيضا‪،‬حيث يصدر أحيانا من اإلنسان فعل‬ ‫كما يمكن تعريف األخالق من آثارها الخار ّ‬
‫يتكرر ذلك العمل منه‪(:‬مثل البخل وعدم مساعدة اآلخرين)‪ ،‬يكون دليال على‬ ‫اعتباطي ولكن عندما ّ‬
‫ُ‬ ‫ّأن ذلك الفعل ّ‬
‫يمد جذوره في أعماق روح ذلك اإلنسان‪ ،‬تلك الجذور تسمى بالخلق واألخالق‪.‬‬
‫ّ ُ‬ ‫َ‬
‫اق"‪:‬إن الخلق هو تلك‬ ‫وفي ذلك يقول "ابن ِمسك َويه"‪،‬في كتاب "تهذيب األخالق وتطهير األعر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحالة النفسانية التي تدعو اإلنسان‪،‬ألفعال ال تحتاج إلى تفكر وتدبر"‪ .‬تهذيب األخالق‪ ،‬ص ‪.51‬‬

‫تعريف األستاذ الدكتور ‪/‬محمد عبد هللا دراز‪":‬الخلق هو قوة راسخة في اإلرادة تنزع بها إلى‬
‫دراسات‬ ‫اختيار ما هو خير (إن كان الخلق حميدا)أو إلى اختيار ما هو شر وجور(إن كان الخلق ذميما)‪.‬‬
‫إسالمية في العالقات الدولية د‪ /‬محمد عبد هللا دراز ‪.178‬‬

‫‪3‬‬
‫والسلوكيات الحسنة‬‫وعليه فيمكن تقسيم األخالق قسمين‪:‬امللكات التي تنبع منها األعمال ّ‬
‫"الفضائل"‪،‬واخرى تكون مصدرا لألعمال والسلوكيات ّ‬‫ُ‬
‫السيئة وتسمى الرذائل‪.‬‬ ‫وتسمى‬
‫والصفات‬‫بحث فيه عن املَلكات ّ‬ ‫علم ُي َ‬ ‫ّ‬
‫بأنه‪ٌ :‬‬ ‫ومن هنا كانت التعريفات التي تعرف علم األخالق‬
‫علم ُي َ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫هذه الصفات‬‫ِ‬ ‫اكتساب‬ ‫سس‬ ‫أ‬ ‫عن‬ ‫فيه‬ ‫ث‬ ‫بح‬ ‫‪:‬‬ ‫ى‬‫خر‬‫أ‬ ‫الحسنة والسيئة وآثارها وجذورها‪،‬وبعبارة‬
‫الصفات ّ‬
‫وطرق محاربة ّ‬ ‫ُ‬
‫السيئة‪ ،‬وآثارها على الفرد واملجتمع ‪.‬‬ ‫الحسنة‪،‬‬
‫هذه الصفات أحيانا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فعلم األخالق مما سبق يطلق على األعمال واألفعال النابعة من ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والحدة دائما‪،‬يقال عنه بأنه ذو أخالق‬ ‫"األخالق" فمثال الشخص الذي يعيش في حالة من الغضب‬
‫الشخص الفالني يتحلى بأخالق ّ‬ ‫ن ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫طيبة‪،‬‬‫ِ‬ ‫رديئة‪،‬وبالعكس عندما يكون الشخص كريما‪ ،‬فيقولو إن‬
‫ّ‬
‫وفي الحقيقة أن هذين االثنين هما ِعلة ومعلول لآلخر‪ ،‬بحيث‪ ،‬يطلق اسم أحداهما على اآلخر‪.‬‬
‫وأما مفهوم األخالق لدى الفالسفة الغربيين فتابع في مقوماته لالتجاهات التي يدين بها‬
‫هؤالء الفالسفة‪ ،‬فكل يعرف األخالق ويحدد معناها وخصائصها وفقا لالتجاه الفلسفي الذي‬
‫يعتنقه‪ ،‬ونحن نعلم أن هناك اتجاهات فلسفية متعددة ومختلفة حول األخالق‪،‬مثل‪:‬‬
‫االتجاه االجتماعي واملثالي والتجريبي والواقعي والعقلي والحدس ي والنفعي‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬وال‬
‫أريد تفصيل القول في اتجاه كل فلسفة في األخالق‪،‬والتعريفات املختلفة لكل اتجاه ‪،‬فهذا موضعه‬
‫دراسة أخرى بمشيئة هللا عن األخالق الفلسفية ‪،‬ال األخالق اإلسالمية موضوع هذا الكتاب ‪.‬‬
‫ومن التعريفات اللغوية واالصطالحية لعلم األخالق‪،‬يمكن القول إن مفهوم علم األخالق‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ليس كسائر العلوم اإلسالمية‪،‬فعلم األخالق اإلسالمية ليس جزءا من نظام اإلسالم‬
‫العام‪ ،‬بل إن األخالق هي جوهر اإلسالم ولبه وروحه السارية في جميع جوانبه‪ ،‬فالنظام اإلسالمي‬
‫بجوانبه املختلفة وأقسامه املتكاملة عموما مبني على فلسفته الخلقية أساسا‪،‬فهي الروح السارية‬
‫في قلب أركان اإلسالم املختلفة عقيدته وشريعته عباداته وأعماله‪.‬‬
‫وال أدل ذلك من قول الرسول صلى هللا عليه وسلم‪":‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق"‬
‫مسند أحمد‬

‫بن حنبل ج ‪ 2‬ص ‪ ،.381‬فقد قصر الرسول أهداف رسالته في هذا الحديث الشريف على األخالق‪ ،‬وأنه جاء‬
‫‪4‬‬
‫ليتم البناء األخالقي الذي بدأت الرساالت السابقة به‪،‬وفيه إشارة إلى أن مكانة األخالق واحدة في‬
‫كل الديانات السماوية‪.‬‬
‫كما قال صلى هللا عليه وسلم في حديث آخر‪":‬مثلي ومثل األنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها‬
‫وأكملها إال موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون‪ :‬لوال موضع اللبنة‪،‬فأنا‬
‫صحيح مسلم بشرح النووي جـ ‪ 15‬ص ‪ 52‬باب ذكر كون النبي خاتم األنبياء‪.‬‬ ‫موضع اللبنة جئت فختمت األنبياء"‪.‬‬
‫إذن فهدف الرساالت اإللهية كلها هدف أخالقي أيضا؛ ألنها تستهدف إرشاد اإلنسان إلى‬
‫طريق الخير وإبعاده عن الشر في الدنيا وسوء العاقبة في اآلخرة‪،‬فمن تخبط في الدنيا بسوء أخالقه‬
‫فسوء مصيره معلوم في الدنيا قبل اآلخرة وهذا هو موضوع األخالق كما بينا سابقا‪.‬‬
‫قال الحافظ العراقي في هامش األحياء جـ ‪ 3‬ص ‪ 50‬أخرجه المروزي في مسنده في كتاب تعظيم‬ ‫ولهذا قال الرسول‪":‬الدين حسن الخلق"‬
‫مرسال‪ ..‬انظر علم األخالق ألرسطو جـ ‪ 1‬ص ‪، .131‬وكانت عائشة تفهم هذا املعنى من الدين‬
‫ا‬ ‫قدر الصالة من رواية أبي العالء بن الشخير‬

‫صحيح مسلم تحقيق عبد الباقي جـ ‪ 1‬ص‬ ‫اإلسالمي‪،‬ولهذا فهي عندما سئلت عن أخالق النبي قالت‪":‬كان خلقه القرآن"‪.‬‬
‫‪ ،513-512‬كتاب صالة المسافرين‪.‬‬

‫وقد أجاد املاوردى حين نظر إلى الصورة األخالقية التي يرسمها اإلسالم ويطالبنا بالتحقق‬
‫بها فقال"‪:‬فى الخلق العظيم ثالثة أوجه‪:‬أحدها‪:‬أدب القرآن‪،‬والثاني‪:‬دين اإلسالم‪،‬والثالث‪:‬الطبع‬
‫ُُ‬
‫الكريم وهو الظاهر‪ .‬قال‪:‬وحقيقته الخلق ما يأخذ به اإلنسان نفسه من اآلداب ‪ ،‬سمى بذلك ألنه‬
‫ْ‬
‫كالخلقه فيه"‪ .‬تفسير الماوردى ( النكت والعيون ) أبو الحسن البصري الماوردى (‪61/6‬ـ‪،)62‬دار الكتب العلمية ‪.‬‬
‫يصير ِ‬
‫فإذا كانت األخالق هي اإلسالم‪،‬وهي التطبيق العملي له الذي مثله رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪،‬فإن علم األخالق ال بد له من تمييز يميزه عن سائر العلوم بحيث يسهل على من أراد أن‬
‫يتحلى بهذا العلم وبسلوكه أن يجد مرشدا يهديه في حياته‪،‬ومن هنا يمكن القول‪:‬علم األخالق‬
‫اإلسالمية هو علم الخير والشر والحسن والقبح‪،‬القائم على القرآن والسنة وهدي الصحابة‬
‫والسلف وفهم عباقرة األمة‪،‬والدليل على ذلك كثير في القرآن والسنة؛ إذ جاءت كثير من اآليات‬
‫واألحاديث تبين أين الخير والشر وأين الحسن والقبح؟‪.‬وتعرفها أحيانا باملعروف وأخرى باملنكر‬
‫والنفع والضر‪ .‬بتكامل الجانب النظري مع الجانب العملي منه ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫وهذا التكامل النظري والعملي يهدف لتنظيم الحياة من الناحية العملية من أجل الحياة‬
‫الخيرة مع الغير أيا كان هذا الغير إنسانا كان أم حيوانا أو غير حيوان من حيث ما ينبغي أن يكون‬
‫عليه هذا السلوك كسلوك إنساني تجاه الغير‪ ،‬وذلك بناء على مكانته في الكون ومسئولياته التي‬
‫يجب أن ينهض بها‪ ،‬وبناء على ما وضع له خالقه من أهداف في هذه الحياة‪،‬فاألخالق اإلسالمية‬
‫شملت اإلنسان والحيوان والجماد‪.‬‬
‫موضوع علم األخالق‬

‫موضوع األخالق‪:‬سلوك اإلنسان وأفعاله الصادرة عنه بإرادة مباشرة وما يصدر عن‬
‫اإلنسان بدون إرادة منه ال شأن لعلم األخالق به‪،‬أو ما يصدر عن اإلنسان بالواسطة‪ ،‬ومرادنا‬
‫بالواسطة هنا أن علم األخالق يدين املخطئ إذا قصر وأهمل االحتياط والتحفظ‪،‬طبعا مع قدرته‬
‫عليه حيث ال تقصير مع العجز‪،‬وعلى هذا فجميع األعمال اإلنسانية التي تصدر من‬
‫اإلنسان‪،‬وليست على هذا النهج‪،‬وليست داخلة في علم األخالق ‪.‬كالتنفس ونبض القلب وأعمال‬
‫الدورة الدموية وغير ذلك من األعمال اآللية التي تصدر عن اإلنسان في جميع أحواله ‪.‬‬

‫الغاية من دراسة األخالق وأهميتها‬

‫إذا كانت الغاية من علم النحو صون اللسان عن الخطأ في املقال‪،‬ومن علم املنطق صون‬
‫الفكر عن الخطأ في األحكام‪،‬فإن الغاية من علم األخالق صون اإلنسان عن الخطأ في سلوكه‬
‫بحيث يكون مستقيما في قصده وفعله وغرضه بعيدا عن الهوى والتقليد األعمى‪ ،‬وبكلمة فإن‬
‫الغاية من كل علم ما عدا علم األخالق أن نبتعد عن الخطأ في مسائله وقضاياه‪.‬‬

‫أما الغاية من علم األخالق فهي‪:‬أن يوجد مجتمع يسود فيه العدل واألمن والتعاون على‬
‫صيانة الحياة من املفاسد واملظالم‪،‬ومن كل ما يشقيها ويرهقها‪،‬والسير بها إلى األكمل‬
‫واألفضل‪،‬نحو بناء دولة العلم واإليمان‪،‬تسودها األخالق الحسان‪،‬أمال في الفوز بجنة الرضوان‪.‬‬

‫ومعنى هذا أن علم األخالق يتوخى إصالح الفرد والجماعة بمالزمة الصراط املستقيم في‬

‫‪6‬‬
‫السلوك‪،‬ومنه إلصالح الدولة فاألمة العربية فاألمة اإلسالمية فالعالم بأسره‪،‬وهكذا تتحقق‬
‫أستاذية العالم ‪.‬‬
‫ّ‬
‫أهمية األخالق‬
‫أهمية عظمى في حياة اإلنسان ٌ‬
‫سواء بالنسبة له‪،‬أو بالنسبة للمجتمع‬ ‫إن لألخالق الفاضلة ّ‬
‫الذي يعيش فيه‪،‬أهمية تفوق الحاجة إلى الطعام والشراب‪ ،‬ذلك أنه بهذه األخالق يعيش حياته‬
‫َ‬
‫عديم‬ ‫السعيدة في الدنيا‪،‬ويصير إلى حياة أسعد في اآلخرة‪ .‬وإن اإلنسان بدون مكارم األخالق يصبح‬
‫الخير والفائدة َ‬
‫كثير ّ‬
‫الشر والضرر ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وملحاسن األخالق في اإلسالم مكانة فريدة لم يصل إلها دين من األديان‪،‬أو منهج من‬
‫املناهج‪،‬وقد بلغ بها اإلسالم من املكانة أن قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن ِمن خياركم‬
‫أحسنكم أخالقا" أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب المناقب‪ ،‬باب صفة النبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬برقم‪ .3366‬ومسلم‪ ،‬في الفضائل‪ ،‬برقم‪ ..682321‬وقال أيضا‪:‬‬
‫أحسنكم أخالقا" أخرجه البخاري‪ ،‬في فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب عبد هللا بن مسعود‪ ،‬رضي هللا عنه رقم‪. .3549‬وقال أيضا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أحبكم ّ‬
‫إلي‬ ‫ّ‬
‫"إن من ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫شق تمرة‪ ،‬فإن لم تجد‪،‬فبكلمة طيبة" صحيح البخاري‪ :‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الصدقة قبل الرد‪ .‬برقم‪ ،1347‬و‪،1351‬‬
‫"اتقوا النار ولو ب ِ ّ َ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومواضع أُخر‪ .‬وأخرجه مسلم‪ ،‬في كتاب الزكاة‪ ،‬برقم‪.681016-66‬؟؟‪.‬فاألخالق في اإلسالم هي معيار التفاضل بين الناس‪،‬كما أنها‬
‫حجاب من النار‪.‬‬
‫ونظرا لهذه األهمية‪،‬ونظرا لطبيعة األخالق‪،‬فإن الكتابة فيها تبقى متجددة على الرغم مما‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫بتشعب الحياة‪،‬متجدد بتجددها‪،‬فإن الحاجة إلى‬ ‫متشعب‬ ‫كتب فيها؛فطاملا أن موضوع األخالق‬
‫الكتابة في هذا املوضوع تبقى متشعبة متجددة أيضا‪،‬رغم وجود عدد من الدراسات السابقة‪،‬إال‬
‫أن هذه الدراسات السابقة قد تفاوتت تفاوتا كبيرا‪،‬األمر الذي جعلني أختار درة ثمينة من بين الدرر‬
‫التي كتبها اإلمام محمد عبد هللا دراز‪،‬وهي"كلمات في مبادئ علم األخالق"ألقوم بالتقديم لها‬
‫‪،‬ومراجعة أصلها‪،‬فلم أجد ضمن الكتب املقررة التي يدرسها طالب كلية أصول الدين ما يقترب ولو‬
‫من بعيد بهذه الرسالة الدرازية‪،‬سوى العناوين فقط‪،‬وهي التي كان يقوم فضيلته بشرحها على‬
‫طالب كلية أصول الدين في الخمسينيات‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫شمولية األخالق اإلسالمية‬
‫إن األخالق في اإلسالم لم تدع جانبا من جوانب الحياة اإلنسانية‪:‬روحية أو جسمية‪ ،‬دينية‬
‫أو دنيوية‪،‬عقلية أو عاطفية‪،‬فردية أو اجتماعية‪،‬إال رسمت له املنهج األمثل للسلوك الرفيع‪،‬فما‬
‫فرقه الناس في مجال األخالق‪،‬باسم الدين وباسم الفلسفة ‪،‬وباسم العرف أو املجتمع‪،‬قد ضمه‬
‫القانون األخالقي في اإلسالم في تناسق وتكامل وزاد عليه ‪.‬‬
‫‪-1‬إن من أخالق اإلسالم ما يتعلق بالفرد في كافة نواحيه‪:‬‬
‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫أ‪-‬جسما له ضروراته وحاجاته ‪.‬بمثل قوله تعالى‪{َ :‬يا َب ِني آ َد َم خذوا ِزين َتك ْم ِع ْن َد ك ِ ّل َم ْس ِج ٍد َوكلوا‬
‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫َواش َرُبوا َوال ت ْس ِرفوا ِإ َّن ُه ال ُي ِح ُّب امل ْس ِر ِف َين (‪})31‬األعراف‪ .‬وقول الرسول – صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫‪":‬إن لبدنك عليك حقا"‪ .‬متفق عليه‬
‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ‬
‫اآل َي ُ‬ ‫ُ ْ ُُ َ َ‬
‫ات‬ ‫ض وما تغ ِني‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ‬‫و‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫او‬‫م‬ ‫الس‬ ‫ي‬‫ف‬‫ب‪-‬وعقال له مواهبه وآفاقه‪.‬يقول القرآن ‪ {:‬ق ِل انظروا م ِ‬
‫ا‬ ‫اذ‬
‫ّلِل َم ْث َنى َو ُف َر َادى ُثمَّ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ َّ‬
‫َ‬ ‫َ ُّ ُ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬
‫والنذ ُر عن قو ٍم ال يؤ ِمنون (‪})101‬يونس‪{.‬قل ِإنما أ ِعظكم ِبو ِاحد ٍة أن تقوموا ِ ِ‬
‫َ َ َ َّ ُ َ َ ُ ْ ْ َّ ْ ُ َ َّ َ ٌ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫اب ش ِد ٍيد (‪})46‬سبأ‪.‬‬ ‫تتفكروا ما ِبص ِاح ِبكم ِمن ِجن ٍة ِإن هو ِإال ن ِذير لكم بين يدي عذ ٍ‬
‫اب َم ْن َد َّس َاها‬ ‫ج‪-‬ونفسا لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها‪{َ :‬ق ْد َأ ْف َل َح َم ْن َز َّك َاها (‪َ )9‬و َق ْد َخ َ‬
‫(‪})10‬الشمس‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن أخالق اإلسالم ما يتعلق باألسرة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ َ ُ ُ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َ‬
‫وه َّن ف َع َس ى أ ْن تك َر ُهوا ش ْيئا َو َي ْج َع َل‬ ‫وف ف ِإن ك ِرهتم‬ ‫اشروهن ِباملعر ِ‬ ‫أ‪ -‬كالعالقة بين الزوجين‪ {:‬وع ِ‬
‫َ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫َّللا ِف ِيه خ ْيرا ك ِثيرا (‪})19‬النساء‪.‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫ص ْي َنا ْاإل ْن َس َ‬
‫ان ِب َو ِال َد ْي ِه ِإ ْح َسانا}األحقاف ‪َ {.15‬وال ت ْق ُتلوا‬ ‫ِ‬
‫ب‪-‬كالعالقة بين األبوين واألرحام‪َ {":‬و َو َّ‬
‫َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ َّ ُ ْ َّ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ‬
‫ان ِخطئا ك ِبيرا (‪} )31‬اإلسراء‬ ‫أوالدكم خشية ِإمال ٍق نحن نرزقهم و ِإياكم ِإن قتلهم ك‬

‫‪8‬‬
‫ْ‬ ‫َّ َّ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ‬
‫اإل ْح َس ِان َو ِإ َيت ِاء ِذي ال ُق ْرَبى َو َي ْن َهى َع ِن‬
‫ج‪-‬وكالعالقة بين األقارب واألرحام‪ِ {:‬إن َّللا يأمر ِبالعد ِل و ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْال َف ْح َشاء َو ْاملُ ْن َكر َو ْال َب ْغي َيع ُظ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ‬
‫ون(‪})90‬النحل‪َ {.‬وآ ِت ذا ال ُق ْرَبى َح َّق ُه َو ِامل ْس ِك َين‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ّ َ‬ ‫َو ْاب َن َّ‬
‫الس ِب ِيل َوال ت َب ِذ ْر ت ْب ِذيرا(‪})26‬اإلسراء‪.‬‬
‫‪ -3‬ومن أخالق اإلسالم ما يتعلق باملجتمع‪:‬‬
‫ُ ّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ‬
‫ين آ َم ُنوا ال ت ْدخلوا ُب ُيوتا غ ْي َر ُب ُيو ِتك ْم َح َّتى ت ْس َتأ ِن ُسوا َوت َس ِل ُموا‬ ‫أ‪ -‬في آدابه ومجامالته‪،‬مثل‪ {:‬يا أيها ال ِذ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ٌ َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ َ َّ‬
‫على أه ِلها ذ ِلكم خير لكم لعلكم تذكرون (‪})27‬النور‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫اس َي ْس َت ْوفون (‪َ )2‬و ِإذا‬ ‫ين إ َذا ْاك َت ُالوا َع َلى َّ‬
‫الن‬ ‫ومعامالته‪{:‬و ْي ٌل ل ْل ُم َط ّفف َين (‪َّ )1‬الذ َ‬
‫َ‬ ‫ب‪-‬وفي اقتصاده‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ‬ ‫وه ْم ُي ْخس ُر َ‬ ‫وه ْم َأ ْو َو َزُن ُ‬‫َك ُال ُ‬
‫ين آ َم ُنوا ِإذا ت َد َاين ُت ْم ِب َد ْي ٍن ِإلى أ َج ٍل ُم َس ًّمى‬ ‫ون (‪})3‬املطففين‪ {.‬يا أيها ال ِذ‬ ‫ِ‬
‫َّللا}البقرة ‪.282‬‬ ‫وه َو ْل َي ْك ُت ْب َب ْي َن ُك ْم َكات ٌب ب ْال َع ْدل َ َوال َي ْأ َب َكات ٌب َأ ْن َي ْك ُت َب َك َما َع َّل َم ُه َّ ُ‬
‫َف ْاك ُت ُب ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ ُّ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َّ َ‬
‫اس أ ْن‬ ‫ات ِإلى أه ِلها و ِإذا حكمتم بين الن ِ‬ ‫ج‪ -‬وفي سياسته وحكمه‪ِ {:‬إن َّللا يأمركم أن تؤدوا األمان ِ‬
‫ان َس ِميعا َب ِصيرا (‪ })58‬النساء‪.‬‬ ‫َّللا نع َّما َيع ُظ ُك ْم به إ َّن َّ َ‬
‫َّللا َك َ‬ ‫ْ َ ْ َّ َّ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ِ ِِ‬ ‫تحك ُموا ِبالعد ِل ِإن ِ ِ ِ‬
‫‪ -4‬ومن أخالق اإلسالم‪،‬ما يتعلق بغير العقالء من الحيوان والطير‪،‬كما في الحديث ‪":‬اتقوا هللا في‬
‫البهائم املعجمة‪،‬فاركبوها صالحة‪،‬وكلوها صالحة‪،‬وفي الحديث اآلخر‪":‬في كل كبد رطبة حية" رواه‬
‫البخاري‪.‬‬
‫‪ -5‬ومن أخالق اإلسالم ما يتعلق بالكون الكبير ‪.‬‬
‫من حيث أنه مجال التأمل واالعتبار والنظر والتفكر واالستدالل وحكمته كما قال‬
‫ُ َْ‬
‫األ ْل َباب (‪َّ )190‬الذ َ‬ ‫الن َهار َ َآل َ‬ ‫َّ‬
‫الل ْيل َو َّ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ول‬
‫ِ‬ ‫أل‬
‫ِ‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫اخ‬‫و‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫األ‬‫و‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫او‬‫م‬ ‫الس‬ ‫ق‬ ‫تعالى‪{:‬إن ِفي خ ِ‬
‫ل‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ْ‬
‫ض ربنا ما خلقت هذا‬ ‫ات واألر ِ‬ ‫يذكرون َّللا ِقياما وقعودا وعلى جن ِوب ِهم ويتفكرون ِفي خل ِق السماو ِ‬
‫اب َّ‬
‫الن ِار (‪})191‬آلعمران‪.‬‬ ‫َباطال ُس ْب َح َان َك َفق َنا َع َذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن حيث أنه مجال لالنتفاع واالستمتاع بما أودع هللا فيه من خيرات وما بث فيه من قوى‬
‫مسخرة ملنفعة اإلنسان‪،‬وما أسبغ فيه من نعم‪،‬تستوجب الشكر لواهبها واملنعم بها‪،‬كما قال تعالى‪{:‬‬

‫‪9‬‬
‫ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫َأ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن َّ َ‬
‫َّللا َس َّخ َر َل ُك ْم َما في َّ‬
‫اط َنة َو ِم َن‬ ‫ََ‬
‫ض وأسبغ عليك ْم ِنع َمه ظ ِاه َرة وب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ‬ ‫ي‬‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ا‬‫م‬‫ات َو َ‬
‫ِ‬
‫الس َم َ‬
‫او‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الناس َم ْن ُي َجاد ُل في ََّّللا ب َغ ْير علم َوال ُهدى َوال كتاب ُمنير (‪})20‬لقمان‪َ {.‬يا أ ُّي َها الذ َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ين آ َمنوا كلوا ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ٍِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ ّ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ ُ ْ ُ ْ َّ ُ َ ْ ُ ُ نَ‬
‫ّلِل ِإن كنتم ِإياه تعبدو (‪})172‬البقرة‪.‬‬ ‫ات ما رزقناكم واشكروا ِ ِ‬ ‫ط ِيب ِ‬
‫‪-6‬وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد‪{:‬‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ‬
‫اك ن ْس َت ِع ُين (‪)4‬‬ ‫الرحيم (‪َ )2‬مالك َي ْوم ّ‬
‫الد ِين (‪ِ )3‬إياك نعبد و ِإي‬ ‫ّلِل َر ّب ْال َع َ ِامل َين (‪َّ )1‬‬
‫الر ْح َمن َّ‬ ‫ْ َ ْ ُ َّ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحمد ِ ِ‬
‫ِ‬
‫يم (‪})5‬الفاتحة ‪.‬‬ ‫اط ْاملُ ْس َتق َ‬ ‫ْ َ َّ َ‬
‫الصر‬
‫ِ‬ ‫اه ِدنا ِ‬
‫فهو وحده الحقيق بأن يحمد الحمد كله‪،‬وأن ترجى رحمته الواسعة‪.‬وأن يخش ى عقابه‬
‫العادل يوم الجزاء‪.‬وهو وحده الذي يستحق أن يعبد ويستعان وأن تطلب منه الهداية إلى الصراط‬
‫املستقيم‪.‬‬
‫وبهذا‪،‬يتجلى شمول األخالق اإلسالمية‪،‬من حيث موضوعها ومحتواها‪،‬ولكن الشمول في‬
‫مكتبة وهبة ص ‪.107 ، 106‬بتصرف‬ ‫لخصائص العامة لإلسالم‬ ‫األخالق يبدو كذلك إذا نظرنا إلى فلسفتها ومصدر اإللزام بها‪.‬‬
‫يسير ط ‪1981 2‬م ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫املحاضرة الثانية ‪:‬اإللزام بين اإلسالم والفلسفة‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬اإللزام في اللغة ‪:‬‬
‫لزم ومضارعه يلزم واسم الفاعل الزم ‪،‬واسم املفعول‬ ‫اإللزام‪ :‬مصدر للفعل َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ملزوم وملزم ‪.‬ولزم الش يء يلزمه لزما ولزوما ‪ ...‬ولزاما ‪،‬والتزمه ‪ :‬ألزمه إياه فالتزمه ‪ .‬قال‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ما لكم‪1‬‬ ‫هللا تعالى ‪{:‬ف َس ْوف َيكون ِل َزاما } أي الزما ‪ -‬أي عذابا الز‬
‫ومن خالل التعريف اللغوي لإللزام يتضح أنه يوجد ‪:‬‬
‫ملزم للش يء ‪ :‬وهو جهة ومصدر اإللزام وهو اسم الفاعل الزم ‪ 2.‬ـ ( ملزوم بالش يء‬ ‫‪1‬ـ َ‬
‫وملزم به ) وهو الواقع عليه اإللزام واملأمور بتنفيذه ـ وهو اسم املفعول من الفعل َ‬
‫لزم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ النتيجة الحتمية السم الفاعل واسم املفعول وهي األوامر املراد تحقيقها‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬تعريف اإللزام في الشرع‬
‫‪ -1‬اإللزام ‪ .‬هو أن تحكم علي اإلنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب‪2‬‬

‫‪ - 2‬يقول الراغب األصفهاني أن " اإللزام ضربان "‪3‬‬

‫أ ‪ -‬إلزام بالتسخير ‪ -‬إما بتسخير من هللا أو بتسخير من اإلنسان ‪.‬‬


‫َ‬ ‫َُْ ُ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫وها َوأ ْن ُت ْم ل َها كا ِر ُهون } سورة هود‬ ‫ب ‪ -‬وإلزام بالحكم واألمر نحو قوله تعالى‪ { " :‬أنل ِزمكم‬
‫التقوى} سورة الفتح جزء من اآلية‬ ‫جزء من اآلية رقم ‪،28‬وقوله تعالى‪َ { :‬و َأ ْل َز َم ُه ْم َكل َم َة َّ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫‪26‬وقوله تعالى‪ { :‬ف َس ْوف َيكون ِل َزاما } سورة الفرقان جزء من اآلية رقم ‪،77‬وقوله تعالى‬
‫ً َ‬ ‫‪َ { :‬و َل ْوال َكل َم ٌة َس َب َق ْت م ْن َ ّب َك َل َك َ‬
‫ان ِل َزاما َوأ َج ٌل ُم َس ّم ًى} سورة طه جزء من اآلية رقم ‪129‬‬ ‫ِ رِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬تعريف اإللزام عند الفالسفة ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أوال ‪:‬هو الرابطة الحقوقية التي يكون بها فعل الش يء أو عدم فعله واجبا علي الشخص‬
‫ً‬
‫تجاه اآلخر‪ .‬فهو إذن عالقة حقوقية بين شخصين يسمي أحدهما دائنا ‪ ...‬ويعتبر من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جهته إلزاما والثاني يسمى مدينا ويعتبر ملتزما‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬اإللزام الخلقي ‪ :‬وهو النوع الثاني من معاني اإللزام في اصطالح الفالسفة وهو ال‬
‫ينشأ عن عقد ‪ ،‬بل ينشأ عن طبيعة اإلنسان من حيث هو قادر علي االختيار بين الخير‬

‫‪ - 1‬راجع في ذلك أ ‪ -‬لسان العرب ابن منظور دار صادر ج ‪ 12‬ص‪ 542‬مادة ( لزم )‬
‫ّ‬
‫ب ‪ -‬كتاب العين الخليل بن أحمد الفراهيدى دار الهالل ج‪ 7‬ص‪ 372‬ج ‪ -‬املفردات في غريب القران ‪ /‬الراغب‬
‫األصفهانى ص‪ 453‬املكتبة التو فيقيه القاهرة‬
‫‪ - 2‬األحكام في أصول األحكام ابن حزم األندلس ي ‪ .‬ج‪ 1‬صـ ‪ 56‬سنة ‪ 1978‬تحقيق ‪ /‬محمد احمد عبد العزيز‬
‫‪ - 3‬املفردات في غريب القرآن ‪ /‬الراغب األصفهاني صـ ‪ 453‬املكتبة التوفيقية القاهرة‬
‫‪1‬‬
‫ً‬
‫والشر‪،‬فما كان فعله أو عدم فعله ممكنا من الناحية املادية ثم وجب حكمه من الناحية‬
‫ً‬
‫الخلقية كان إلزاميا ‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬مفهوم اإللزام عند كانت ‪:‬‬
‫ً‬
‫إذا كان اإللزام مطلقا كاألمر املطلق الذي تكلم عليه ( كانت ) كان له بحرية‬
‫االختيار عالقة وثيقة‪ ,‬ألنه ال معني لألمر املطلق إذا كان سلوك اإلنسان نتيجة لطبيعته‪,‬‬
‫ً‬
‫فاإللزام إذا قانون الحرية وال معني لإللزام إال إذا أوجب اإلنسان علي نفسه فعل الش يء‬
‫أو عدم فعله من ذاته وبملء حريته‪.‬‬
‫ً‬
‫خامسا‪ :‬تعريف اإللزام عند دوركايم يعتبر اإللزام عند دوركايم صورة من صور‬
‫القسر االجتماعي ويمكن الجمع بين مفهوم اإللزام وبين الحتمية االجتماعية ‪4‬‬

‫والخالصة ‪:‬‬
‫تعريفات اإللزام تخلص إلى أنه ( إلزام املكلف بتصديق ما قرره هللا من الحق‬
‫وتنفيذ ما شرعة من األحكام‪ .‬واألخذ بما وص ي به من مكارم األخالق والعزوف عما نهي‬
‫عنه من مساوئها " أو هو كل تكليف صادر من هللا عز وجل إلي اإلنسان للعمل به وتطبيق‬
‫ما شرعه من أحكام وما أوص ي به من فضائل لينال به السعادة في العاجل واآلجل ‪ ,‬وكل‬
‫إلزام التزم به اإلنسان من قبل نفسه في طاعة ربه واجتناب مناهيه "‪.‬‬

‫مصدر اإللزام في الشرع اإلسالمي( القرآن والسنة واإلجماع والقياس )‬


‫املصدر األول ‪ :‬هو القرآن الكريم‬
‫وهذا محل اتفاق بين جميع االتجاهات اإلسالمية ‪،‬ومصدر هذا االتفاق الذي‬
‫نطق به جموع علماء املسلمين وفقهائهم ‪,‬هو القرآن الكريم‪ .‬فهو املصدر الفكري الذي‬
‫استقي منه املسلمون هذا الحكم الذي نطقوا به‪ ,‬ولقد بين القرآن الكريم أن مصدر‬
‫الحكم واإللزام باألمر هو هللا سبحانه وتعالى ‪ ,‬وجعل ذلك عقيدة يجب أن يعتقدها أهل‬
‫اإلسالم جميعا‪.‬‬

‫‪ - 4‬موسوعة الالند الفلسفية املجلد الثاني ط ‪ 1‬سنة ‪ 1996‬صـ ‪ 898‬منشورات عويدات بيروت ‪-‬تعريب خليل‬
‫أحمد خليل‪ -2،‬املعجم الفلسفي تأليف جميل صليبا ‪ .‬دار الكتاب اللبناني صـ ‪ ،121‬صـ ‪ 122‬ط‪ 1‬سنة ‪1971‬‬
‫بيروت‪ -3،‬املعجم الفلسفي ‪ .‬مجمع اللغة العربية ‪ -‬لقاهرة صـ ‪20‬‬
‫‪2‬‬
‫َ ً‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َّ َّ َ ُ ْ‬
‫َّللا َوال نش ِر َك ِب ِه ش ْيئا‬ ‫قال هللا تعالى ‪ ..... { :‬تعالوا ِإلى ك ِلم ٍة سو ٍاء بيننا وبينكم أال نعبد ِإال‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ً َ َ ً ْ ُ‬
‫َّللا ‪ }....‬سورة آل عمران آية ‪ . 64‬واآلية السابقة‬ ‫وال يت ِخذ بعضنا بعضا أ ْربابا ِمن دو ِن ِ‬
‫يفهم منها نفى األلوهية عن غير هللا تعالى فال يستحق األلوهية أحد سواه‪.‬‬
‫وكذلك نهت اآلية القرآنية عن اتخاذ األرباب من دون هللا تعالى كما وصف‬
‫َّ‬
‫سبحانه وتعالى ـ املحللين واملحرمين من غير هللا تعالى بالكفر‪،‬فقال تعالى‪ِ { :‬إ َّن َما الن ِس ُيء‬
‫َ‬
‫اط ُئوا ِع َّدة َما َح َّر َم‬ ‫َّ َ َ َ ُ َ ُ َ ً َ ُ َ َ ُ َ ً َ‬ ‫َ ٌَ ُْْ ُ َ‬
‫ِزيادة ِفي الكف ِر يضل ِب ِه ال ِذين كف ُروا ي ِحلونه عاما ويح ّ ِر ُمونه عاما ِل ُيو ِ‬
‫ين }سورة التوبة‬ ‫وء َأ ْع َماله ْم َو َّ ُ‬
‫َّللا ال َي ْهدي ْال َق ْو َم ْال َكافر َ‬ ‫ُ‬ ‫س‬‫ُ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫َ َ َّ َ َّ ُ ُ ّ َ َ‬
‫ل‬
‫َّ ُ َ‬
‫َّللا ف ُي ِحلوا ما حرم َّللا زِين‬
‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ َ ُ ُل َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫ين أش َركوا ل ْو ش َاء‬ ‫آية ‪،37‬كما وصفهم هللا تعالى ‪ -‬بالشرك ‪ -‬فقال تعالى ‪ {:‬سيقو ال ِذ‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َّ ُ َ ْ ْ‬
‫َّللا َما أش َرك َنا َوال َآباؤنا َوال َح َّر ْم َنا ِم ْن ش ْي ٍء } سورة األنعام آية رقم ‪،148‬وقال تعالى ‪{ :‬‬
‫َُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّللا َما َع َب ْدنا ِم ْن ُدو ِن ِه ِم ْن ش ْي ٍء ن ْح ُن َوال َآباؤنا َوال َح َّر ْم َنا ِم ْن‬ ‫ين َأ ْش َر ُكوا َل ْو َش َاء َّ ُ‬
‫ال َّالذ َ‬‫َ‬ ‫ق‬
‫ََ‬
‫و‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ُدو ِن ِه ِم ْن ش ْي ٍء } سورة النحل آية رقم ‪.35‬‬
‫فال خالف بين علماء املسلمين في أن مصدر األحكام الشريعة لجميع أعمال‬
‫املكلفين هو هللا سبحانه وتعالى فهو الذي خلق اإلنسان ووضع النظام األخالقي وهو‬
‫َ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫الذي يعلم الظاهر والباطن والسر والعلن { ِإ َّن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر ِم َن ال َق ْو ِل َو َي ْعل ُم َما تك ُت ُمون}‬
‫"األنبياء ‪110:‬‬
‫إذا فمصدر اإللزام في اإلسالم هو بارئ الخلق وفاطرهم ومدبر أمورهم والقائم‬
‫علي شئونهم ‪،‬ولقد تقرر فيما سبق أن مصدر اإللزام الوحيد في اإلسالم ‪ ،‬هو هللا وحده‬
‫ـ وال شريك له في حق التشريع وإلزام العباد‪ ،‬اللهم إال إذا كان هذا اإللزام بموجب هللا‬
‫تعالى ‪.‬‬

‫املصدر الثاني من مصادر اإللزام ‪ :‬السنة املطهرة ‪.‬‬


‫أعلم هللا تعالى عباده بمراده عن طريق الوحي اإللهي لألنبياء والرسل قال‬
‫ََ َ َ َْ َ َْ َْ َ ُ ً ْ َْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َ‬
‫ان َول ِك ْن‬ ‫تعالى‪{:‬وكذ ِلك أوحينا ِإليك روحا ِمن أم ِرنا ما كنت تد ِري ما ال ِكتاب وال ِ‬
‫األيم‬
‫َ‬ ‫َج َع ْل َن ُاه ُنو ًرا َن ْهدي به َم ْن َن َش ُاء م ْن ع َباد َنا َوإ َّن َك َل َ‬
‫اط ُم ْس َت ِق ٍيم } سورة‬‫ر‬‫َ‬ ‫ص‬
‫ِ ِ ِ ٍ‬‫ى‬‫ل‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫د‬‫ه‬‫ْ‬ ‫ت‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫الشورى اآلية رقم ‪52‬‬
‫وللسنة تعريفات عند الفقهاء واملحدثين واألصوليين وعند علماء الدعوة‬
‫واملشتغلين بهاـ ونذكر منها اآلتي‪-:‬‬

‫‪3‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬السنة عند الفقهاء‪.‬‬
‫هي (ما واظب عليها النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ولم يدل دليل من الكتاب والسنة على‬
‫وجوبه‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪:‬عند املحدثين‪ (:‬هي كل ما يضاف إلي النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬من قول أو فعل‬
‫أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا ‪ :‬عند علماء األصول ‪:‬هي املصدر الثاني للتشريع وهو لفظ يقابل الكتاب واإلجماع‬
‫والقياس‪.‬‬
‫‪ -2‬حجية السنة النبوية وبالتالي كونها مصدرا لإللزام ‪.‬‬
‫السنة النبوية ‪ :‬أصل من أصول التشريع اإلسالمي وحجة علي جميع املسلمين فلقد اتفق‬
‫العلماء على اعتبار السنة املحمدية املطهرة ثانية املصادر في امليدان التشريعي‪ ،‬ولقد‬
‫نص القرآن الكريم والسنة النبوية املطهرة علي حجية السنة علي صاحبها أفضل الصالة‬
‫وأتم التسليم ـ ونشير إلي ذلك بش يء من التفصيل ‪ :‬ـ‬
‫أ ـ نصوص القرآن الكريم الدالة علي حجية السنة النبوية املطهرة ‪:‬‬
‫فاملتأمل في آيات القرآن العزيز يجد أن هللا ـ سبحانه وتعالى يأمرنا باتباع الرسول ‪ -‬صلى‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫هللا عليه وسلم ‪ -‬اتباعا ال تشوبه معصية اتباع املطيع املسلم ‪ ,‬بل ويجعله أساس حب‬
‫َ َّ َ َ َّ ُ ُ ْ ْ ُ ُ َّ ُ ْ َ ُ ُ ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫َّللا َو َيغ ِف ْر لك ْم ذ ُن َوبك ْم‬ ‫هللا تعالى ‪.‬قال تعالى ‪{:‬ق ْل ِإ ْن ك ْن ُت ْم ت ِحبون َّللا فات ِبعو ِني يح ِببكم‬
‫يم } سورة آل عمران من آية رقم ‪35‬‬ ‫َّللا َغ ُف ٌ‬
‫ور َر ِح ٌ‬ ‫َو َّ ُ‬
‫ولقد حذر القرآن الكريم من مخالفة أمر النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ـ صغر‬
‫ذلك أم كبرـ فإن فيه الهالك والضياع وجلب الفتن علي النفس البشرية‪ ،‬فقال تعالى ‪{:‬‬
‫َ ْ َ ُ ُ َ َ َّ ُ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ ُ َّ ُ َّ َ َ َّ ُ َ ُ‬
‫ين َيت َسللون ِم ْنك ْم‬ ‫ال تجعلوا دعاء الرسو ِل بينكم كدع ِاء بع ِضكم بعضا قد يعلم َّللا ال ِذ‬
‫َ‬
‫اب أ ِل ٌ‬ ‫ين ُي َخ ِال ُفو َن َع ْن َأ ْمر ِه َأ ْن ُت ِص َيب ُه ْم ِف ْت َن ٌة َأ ْو ُي ِص َيب ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫اذا َف ْل َي ْح َذر َّالذ َ‬
‫َ ً‬
‫يم } سورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِلو‬
‫النور جزء من اآلية رقم ‪ ( ،63‬وأمر رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬هو سبيله ومنهجه‬
‫وسنته وطريقته وشريعته كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫ً‬
‫عليه وسلم ‪ -‬أنه قال ‪ { :‬من عمل عمال ليس عليه أمرنا فهو رد }‬
‫وجعل هللا تعالى طاعة الرسول هي عالمة اإليمان باهلل عز وجل ‪ ,‬وينتفي اإليمان بعدم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫التسليم له واإلذعان لحكمه والخضوع ألمره فقال هللا تعالى ‪ {:‬فال َو َرِّب َك ال ُي ْؤ ِم ُنون َح َّتى‬

‫‪4‬‬
‫ً‬ ‫ّ َ‬ ‫َْ ُ ْ َ َ ً‬
‫جا م َّما َق َ‬ ‫َ َ ََْ ُ َ ُ‬ ‫ُ َ ّ َ‬
‫ض ْي َت َو ُي َس ِل ُموا ت ْس ِليما }‬ ‫يح ِك ُموك ِف َيما شج َر بين ُه ْم ث َّم ال ي ِجدوا ِفي أنف ِس ِهم حر ِ‬
‫سورة النساء اآلية رقم ‪65‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يعوا َّ َ‬ ‫َ‬ ‫وقال تعالى ‪َ {:‬يا َأي َها َّالذ َ‬
‫الر ُسو َل َوأ ِولي األ ْم ِر ِم ْنك ْم ف ِإ ْن‬
‫يعوا َّ‬‫َّللا َوأط ُ‬
‫ِ‬
‫ين َآم ُنوا أط ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َّ َ َّ ُ ل ْ ُ ْ ُ ْ ُ ْ ُ َن َّ‬
‫اَّلل َو ْال َي ْوم ْاآلخر َذل َك َخي ٌرْ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫َّللا والرسو ِ ِإن كنتم تؤ ِمنو ِب ِ‬ ‫تنازعتم ِفي ش ي ٍء فردوه ِإلى ِ‬
‫ََ ْ َ ُ َْ ً‬
‫وأحسن تأ ِويال } النساء أية رقم ‪59‬‬
‫ويفاد من اآلية السابقة نفي اإليمان عمن ال يتحاكم إلي هللا وإلى الرسول ‪ -‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ -‬فأفادت بأن سنة النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أمرنا القرآن باتباعها‬
‫ً‬
‫باعتبارها مصدرا من مصادر التشريع الرباني فلقد أمر هللا بطاعة هللا وطاعة رسوله‬
‫وذلك بمعني طاعة الشريعة فإن هللا هو منزل الشريعة ورسوله مبلغها والحاكم بها في‬
‫حضرته سبحانه وتعالى‪،‬فالحكمة التي امتن هللا تعالى علي رسوله هي السنة النبوية‬
‫املطهرة‪.‬‬
‫ً‬
‫وردت مجموعة من األحاديث النبوية تبين حجية السنة وتجعلها مصدرا من‬
‫مصادر اإللزام لدي املسلمين وعنصر من عناصر التشريع اإلسالمي والتي ال تنفك أن‬
‫تكون مثل القرآن الكريم الكتاب الخالد‪ ،‬ومن جملة هذه األحاديث ما يأتي ‪ :‬ـ‬
‫‪1‬ـ أخرج البخاري ‪ :‬أن النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ { :‬فمن رغب عن سنتي فليس‬
‫مني }‪5‬‬

‫‪2‬ـ ما رواه أبو داود في سننه عن املقداد بن معد يكرب أن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ { : -‬أال إنني أوتيت الكتاب ومثله معه ‪ ,‬أال يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته‬
‫يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حالل فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام‬
‫فحرموه ‪ ,‬أال ال يحل لكم الحمار األهلي‪ ,‬وال كل ذي ناب من السباع ‪ ,‬وال لقطة معاهد إال‬
‫أن يستغني عنها صاحبها ‪ ،‬ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه ‪ ,‬فإن لم يقروه فعليه أن‬
‫يعقبهم بمثل قراه }‪6‬‬

‫‪ - 5‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )5063‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ . )1401‬أما حديث عائشة فلفظه‪ :‬صنع‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم‪ ،‬فبلغ ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم فحمد هللا وأثني‬
‫عليه ثم قال‪" :‬ما بال أقوام يتنزهون عن الش يء أصنعه؟ فوهللا إني أعلمهم باهلل واشدهم له خشية"‪ .‬رواه البخاري‬
‫برقم (‪ )7301‬ومسلم برقم (‪)2356‬‬
‫‪ ،35/4 - 6‬املوافقات للشاطبي‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫وبعد عرض اآليات القرآنية الواردة في حجية السنة املطهرة واألحاديث النبوية‬
‫التي دلت علي ذلك يتضح لنا بجالء أن السنة النبوية هي أصل من أصول التشريع‬
‫اإلسالمي وال ينكر ذلك إال جاحد أو من ليس له أدني معرفة بالشرع اإلسالمي(فثبوت‬
‫حجية السنة املطهرة واستقاللها بتشريع األحكام ضرورة دينية‪،‬وال يخالف في ذلك إال‬
‫من الحظ له في اإلسالم )‬

‫ً‬
‫املصدر الثالث ‪:‬اإلجماع مصدرا من مصادر اإللزام‬
‫ً‬
‫يعد اإلجماع مصدرا من مصادر التشريع اإلسالمي‪،‬وبالتالي من مصادر اإللزام ‪.‬‬
‫وهو مصدر منش ئ لألحكام التي ليست لها سند شرعي في الكتاب والسنة ويحسن بنا أن‬
‫نتحدث عن تعريفه ‪ ،‬وحجيته ‪ ،‬ثم نتحدث عن أهميته وضرورته ‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬تعريف اإلجماع ‪:‬‬
‫عرفه جمهور األصوليين بأنه ( اتفاق املجتهدين من هذه األمة بعد وفاة نبيها ‪ .‬في عصر‬
‫من العصور على حكم من األحكام الشرعية معتمدين في ذلك نص من القرآن أو السنة‬
‫‪ -‬أو قياس عليهما ‪7‬‬

‫ومن خالل التعريف السابق لإلجماع ‪ :‬بأنه ( اتفاق املجتهدين من هذه األمة )فهذا‬
‫ً‬
‫قيد في التعريف فال بد أن يكون اإلجماع شامال كل املجتهدين وال يكون هناك اعتراض‬
‫عليه من أهل االجتهاد في مكان ما ‪ ،‬وهذا استلزام لوجود اإلجماع كمصدر من مصادر‬
‫ً‬
‫اإللزام له قوة ينش ئ بها حكما من اإلحكام ليس له سند تفصيلي في الكتاب والسنة‪،‬ولكن‬
‫بعض الفقهاء لم يعتد بهذا القيد املوجود في التعريف السابق‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬حجية اإلجماع والدليل عليها ‪:‬‬
‫أ ـ من القرآن الكريم ‪ :‬وردت آيات من القرآن الكريم ـ ظنية الداللة ـ تدل علي حجية‬
‫إجماع املسلمين ‪ .‬وذلك مثل ‪:‬قوله تعالى ‪ُ { :‬ك ْن ُت ْم َخ ْي َر ُأ َّمة ُأ ْخر َج ْت ل َّلناس َت ْأ ُم ُر َ‬
‫ون‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬

‫‪ - 7‬انظر في ذلك فلسفة التشريع في اإلسالم ‪ /‬صبحي محمصاني صـ‪ -. 161‬دار العلم للمالين بيروت ط الثالثة‬
‫سنة ‪1961‬م وانظر كذلك لك املوسوعة الجنائية في الفقه الجنائي اإلسالمي الجزء الثاني املجلد األول صـ ‪153‬‬
‫مركز السنهوري دار الشروق ‪ .‬الجريمة في الفقه اإلسالمي ‪ /‬محمد أبو زهرة صـ ‪ 170‬دار الفكر ‪ ،‬فقه الخالفة‬
‫وتطورها الجزء األول ‪ /‬د‪ .‬عبد الرازق أحمد السنهوري العدد الخامس ‪.‬سلسلة املجلس األعلى للشئون اإلسالمية‬
‫صـ ‪. 48‬‬

‫‪6‬‬
‫ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ ً َ‬
‫ان خ ْيرا ل ُه ْم ِم ْن ُه ُم‬ ‫اب لك‬ ‫اَّلل ولو آمن أهل ال ِكت ِ‬ ‫وف وتنهون ع ِن املنك ِر وتؤ ِمنون ِب ِ‬ ‫ِباملعر ِ‬
‫َ‬ ‫ُْْ ُ َ ََ ْ َ ُ ْ َ‬
‫اس ُقون } سورة آل عمران اآلية رقم ‪110‬‬ ‫املؤ ِمنون وأكث ُره ُم الف ِ‬
‫الناس َو َي ُكو َن َّ‬ ‫طا ل َت ُك ُونوا ُش َه َد َاء َع َلى َّ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ ُ َّ ً َ َ ً‬
‫الر ُسو ُل‬ ‫ِ‬ ‫‪2‬ـ وقوله تعالى ‪ { :‬وكذ ِلك جعلناكم أمة وس ِ‬
‫الر ُسو َل ِم َّم ْن َي ْن َق ِل ُب‬‫يدا َو َما َج َع ْل َنا ْال ِق ْب َل َة َّال ِتي ُك ْن َت َع َل ْي َها إ َّال ِل َن ْع َل َم َم ْن َي َّتب ُع َّ‬
‫ََْ ُ ْ َ ً‬
‫عليكم ش ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّللا ل ُيض َيع إ َيم َان ُك ْم إ َّن َّ َ‬
‫َّللا‬ ‫َّللا َو َما َك َ‬
‫ان َّ ُ‬ ‫ين َه َدى َّ ُ‬ ‫َع َلى َعق َب ْيه َوإ ْن َك َان ْت َل َكب َير ًة إ َّال َع َلى َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َ ُِ ِ‬
‫ٌ‬
‫الناس ل َرؤوف َر ِح ٌ‬ ‫َّ‬
‫يم } سورة البقرة اآلية رقم ‪.143‬‬ ‫ِب ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫‪3‬ـ وقوله تعالى ‪َ { :‬و َم ْن ُي َشا ِقق َّ‬
‫الر ُسو َل ِم ْن َب ْع ِد َما ت َب َّي َن ل ُه ال ُه َدى َو َيت ِب ْع غ ْي َر َس ِب ِيل‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ ْ َ ُ َ ّ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ً‬
‫املؤ ِم ِنين نوِل ِه ما تولى ونص ِل ِه جهنم وساءت م ِصيرا } سورة النساء اآلية رقم ‪ 115‬فإن في‬
‫الدليل ما يوجب إتباع سبيل املؤمنين فإن ثبوت الوعيد فيها علي املخالفة يدل علي‬
‫وجوب املتابعة ‪.‬‬
‫ب ـ حجة اإلجماع من السنة النبوية املطهرة ‪:‬‬
‫ً‬
‫لقد ذكرنا سابقا اآليات التي تدل حجية اإلجماع وإن كانت هذه الداللة القرآنية‬
‫داللة ظنية ‪ ,‬إال أن السنة النبوية قد وردت بها مرويات كثيرة ( وتظاهر الروايات عن ‪-‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بألفاظ مختلفة مع اتفاق املعني ‪ ,‬كلها تدل علي عصمة هذه األمة‬
‫من الخطأ ‪ ,‬إن كانت هذه املرويات ـ النبوية ـ لم تصل إلي درجة التواتر ‪.‬‬
‫إال أن هذه املرويات اشتهرت علي لسان الصحابة والتابعين وسلف األمة وظلت‬
‫منقولة ملن بعدهم ‪ ,‬لم يدفعها أحد من أهل النقل فظلت مقبولة من موافقي األمة‬
‫ومخالفيها ‪ ,‬ولم تزل األمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه ‪ ,‬ويستحيل في مستقر العادة‬
‫‪ ,‬توافق األمم من اعصار متكررة علي التسليم بما لم تقم الحجة بصحته ‪ ,‬مع اختالف‬
‫الطباع وتفاوت الهمم واملذاهب في الرد والقبول )‪8‬‬

‫فمن هذه املرويات واألحاديث‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم ‪:‬ـ‪ { -1‬ال تجتمع أمتي علي‬
‫الضاللة }‪2. 9‬ـ { ال تجتمع أمتي علي الضاللة لم يكن هللا يجمع أمتي علي ضاللة }‪.‬‬
‫َ‬ ‫"إن َّ َ‬
‫‪َّ -3‬‬
‫ضاللة" ‪. 10‬‬‫ٍ‬ ‫تجتم َع على‬ ‫ِ‬ ‫أن‬ ‫تي‬ ‫أم‬ ‫َّللا قد َ‬
‫أجار َّ‬

‫‪ - 8‬انظر املقاصد العامة للشريعة ‪ -‬يوسف العالم ‪ -‬صـ ‪ 66‬بتصرف بعض الش يء‬
‫‪ - 9‬سنن الدارمى( املقدمة ) باب ما أعطي النبي صلي هللا عليه وسلم ‪ -‬من الفضل ‪0‬‬
‫‪ - 10‬أخرجه الضياء في ((األحاديث املختارة)) (‪ ،)2559‬وأخرجه ابن ماجه (‪ ،)3950‬وعبد بن حميد (‪)1218‬‬
‫ً‬
‫مطوال بنحوه‬
‫‪7‬‬
‫والخالصة ‪:‬أن اإلجماع ال بد له من سند يقوم عليه ‪ ,‬وذلك بمعني أن القواعد‬
‫التي يضعها اإلجماع يجب أن تبني علي سند من مصدر آخر{ فاألساس الذي يقوم عليه‬
‫سند اإلجماع هو القرآن الكريم ـ أو السنة النبوية املطهرة ‪ ,‬أو القياس }فاإلجماع الذي‬
‫يصدره املجتهدون من هذه األمة هو في ذاته خاضع للمصدرين األولين القرآن الكريم ـ‬
‫املصدر األول ـ والسنة النبوية ـ املصدر الثاني ـ أو يعتمد علي قياس هذين األصلين في‬
‫مسألة مشابهة ‪.‬‬
‫وأمر أخر يظهر لنا أهمية اإلجماع كمصدر للتشريع اإلسالمي امللزم للمسلمين‬
‫‪،‬هو أن القرآن الكريم والسنة النبوية املطهرة ال يتسعان للتدليل علي كل مسألة من‬
‫مستجدات الحياة ‪ ,‬إذ أن النوازل اليومية واملستجدات الحياتية ال تقف عند حد من‬
‫الحدود‪،‬فال بد من وجود عنصر مستمر وفياض ‪ ,‬يعطي من خالله مطالب الحياة‬
‫اليومية ‪ ،‬مما يستلزم وجود مصدر دائم يدخل عنصر املرونة والتطور في أحكام‬
‫الشريعة اإلسالمية وهذا املصدر هو اإلجماع ـ فاإلجماع يمكن أن يعتبر بحق ـ املصدر‬
‫املباشر للتشريع بعد الكتاب والسنة ‪ ,‬وهو الذي يمكنه التطوير الدائم مع تقدم‬
‫العصور وتغير الظروف ـ رغم تبعيته الظاهرة لهذين املصدرين )‬

‫املبحث الثالث ‪:‬مصدر اإللزام في النظم البشرية الوضعية‬


‫ذكرت في املبحث السابق مصدر اإللزام في الدين اإلسالمي الحنيف وفي هذا‬
‫املبحث نقوم بالبحث عن املصادر التي اعتبرها الفكر الوضعي مصدرا لإللزام في‬
‫األخالق ‪.‬‬
‫* واإللزام عنصر أساس ي في املسألة األخالقية علي الخصوص ‪ ،‬وفي الناحية التشريعية‬
‫علي العموم ‪ .‬فهو املحور الذي تدور حوله املسألة األخالقية ‪ ،‬فهو بمثابة الركيزة األولي‬
‫للفكرة األخالقية ‪.‬‬
‫وزوال فكرة اإللزام تقض ي علي جوهر الحكمة العقلية والعلمية التي تهدف األخالق‬
‫لتحقيقها ‪ ،‬فإذا انعدمت في األخالق فكرة اإللزام انعدمت بالضرورة فكرة املسؤولية ‪،‬‬
‫وإذا انعدمت فكرة املسؤولية انعدمت كذلك بالضرورة فكرة الجزاء ‪ ،‬وبذلك تكون‬
‫ُ‬
‫املسألة األخالقية نسفت من جذورها‪ ،‬وذلك بانعدام فكرة اإللزام الخلقي ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وإذا كنت أتحدث عن فكرة اإللزام في الفكر الوضعي إال أنني أردت اإلشارة إلى‬
‫وجود بعض النظريات الغربية التي تدعي وجود أخالق بال إلزام ‪،‬والنظرة الفلسفية‬
‫لإللزام عند الفالسفة تحمل في ثنايا ادعائها دليل بطالنها فهو ( اتجاه يحمل في ثناياه‬
‫معني التناقض الواضح ‪ .‬ألن القول بأنه مذهب أو اتجاه ‪ ،‬يوحي بأنه مؤسس علي مبادئ‬
‫أو مسلمات يقبلها العقل ‪ ،‬تبني عليه النظريات التي يؤمن بها أصحابها ‪ .....‬فإذا قيل بعد‬
‫ذلك ‪ ،‬إن هذا املذهب ليس لديه قاعدة ملزمة تتأسس عليها نظرياته ‪ ،‬كان هذا معني‬
‫التناقض واالضطراب بعينه فالقول باملذهبية بال إلزام قول مردود )‪11‬‬

‫وفي هذا املبحث سأذكر بإجمال مصادر اإللزام لدي النظم الوضعية ‪،‬بالنظر‬
‫فيما كتبه كبار املفكرين الغربيين ‪ .‬نجد أن مصدر اإللزام لديهم يختلف من مفكر آلخر‬
‫فكون ذلك عده اتجاهات يتضح لنا من خاللها مصادر اإللزام لدي هؤالء املفكرين‬ ‫ّ‬
‫الغربيين ‪ .......‬ونالحظ أنه يوجد اتجاهين أساسيين في مسألة اإللزام الخلقي ‪.‬‬
‫*االتجاه األول ‪ :‬وهو أصحاب الرأي القائلين بأن مصدر اإللزام سلطة خارج اإلنسان ‪:‬‬
‫فليس اإلنسان هو صاحب املصدرية ‪ ،‬وإنما اإللزام يأتي من سلطة خارجة عنه ‪ :‬ثم‬
‫ينقسم هذا االتجاه إلي قسمين‬
‫‪ -1‬القسم األول ‪ :‬وهم القائلون بأن مصدر اإللزام سلطة عليا إلهية‬
‫‪ -2‬القسم الثاني ‪ :‬وهم القائلون بأن مصدر اإللزام هو املجتمع‬
‫* االتجاه الثاني ‪ :‬يذهب أصحاب هذا االتجاه إلي أن مصدر اإللزام هو اإلنسان ذاته‬
‫‪،‬فاإلنسان هو مصدر القيم واألخالق‪ ،‬ويختلف أصحاب هذا االتجاه فيما بينهم إلي‬
‫أقسام ثالثة ‪-:‬‬
‫‪1‬ـ القسم األول ‪-:‬يرى أصحاب هذا الرأي أن مصدر القيم واألخالق هو اللذة واملنفعة‬
‫‪2‬ـ القسم الثاني ‪ -:‬يرى فريق آخر أن مصدر اإللزام هو العقل‬
‫‪3‬ـ القسم الثالث ‪ -:‬ويرى أن الضمير هو مصدر اإللزام‪.12‬‬
‫املطلب األول‪:‬عرض املذهب القائل بأن مصدر اإللزام سلطة خارج اإلنسان‪.‬‬
‫القسم األول ‪ :‬مصدر اإللزام هو الدين‬

‫‪ - 11‬دراسات في فلسفة األخالق ‪ :‬د‪ /‬محمد عبد الستارنصارصـ‪36‬‬


‫‪ - 12‬انظر هذا القسم بمعناه ‪ -‬األخالق النظرية د ‪ /‬عبد الرحمن بدوي صـ ‪ -. 94‬نشر املطبوعات الكويت‪ ،‬االتجاه‬
‫األخالقي في االسالم ‪ -‬مقداد يلجن ط‪ 1‬مكتبة الخانجي بمصر صـ ‪219‬‬
‫‪9‬‬
‫ذهب فريق من الحكماء والفالسفة إلي أن مصدر اإللزام ليس هو اإلنسان ‪ ،‬إنما‬
‫هو سلطة خارج اإلنسان ‪ ،‬وهو الدين السماوي ‪ ،‬فهم يعتبرون أن الوحي أو النقل هو‬
‫مصدر التشريع واإللزام بالقواعد التشريعية واألخالقية وليس لإلنسان دخل في ذلك‬
‫وأطلق علي هذا املذهب ( مذهب النقليين) ولقد نادي بهذا االتجاه حكماء وفالسفة‬
‫ورجال الدين الكنس ي ‪.‬‬
‫ويقرر أندريه كرسون هذا الرأي ويعتبره محل اتفاق في األديان فيقول‪ " :‬سواء‬
‫نظرنا إلي الشريعة املوسوية ( يعني شريعة موس ى عليه وعلي نبينا السالم ) أم إلي‬
‫الشريعة املسيحية فإننا نجد مبدأ ال نزاع فيه هو أن اإلنسان ال شأن له باكتشاف‬
‫القواعد األخالقية "‬
‫ويحسن بنا عرض هذا املذهب في النقاط التالية ‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ -:‬نظره عامة إلي املذهب ‪:‬‬
‫* لقد كان من الطبيعي في ظل نزول رساالت هللا تعالي إلي البشر عن طريق الوحي‬
‫السماوي أن يستمسك الناس بشرع هللا تعالي وأوامره ونواهيه إليهم ‪ ....‬و علي حين فترة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من الوحي وانقطاع من الرسالة إنحرفت البشرية شيئا فشيئا ‪ ،‬وهكذا كان شأن البشرية‬
‫في املاض ي‪. 13‬‬
‫وبالنظر إلي تاريخ هذا املذهب القائل بأن مصدر اإللزام هو الدين نجد أن القائلين بهذا‬
‫هم رجال الدين الكنس ي وظل ذلك حتى قرابة القرن الثالث عشر امليالدي ‪.‬‬
‫وحتى ذلك الحين لم يكن للعقل مجال لدي هؤالء املفكرين في مصدرية اإللزام فمصدر‬
‫اإللزام هو الوحي ‪،‬ومن هؤالء القديس توما اإلكويني ‪.‬‬
‫ثانيا ‪:‬القائلون بأن املجتمع هو مصدر اإللزام الخلقي ‪:‬‬
‫ذهب فريق من العلماء والباحثين الغربيين إلي أن مصدر اإللزام الخلقي لإلنسان سلطة‬
‫خارجة عنه ‪ ،‬وتتمثل هذه السلطة في املجتمع ‪.‬‬

‫‪ - 13‬مذهب النقليين هو مذهب بعض الالهوتيين املسيحيين وملخصة أن العقل ال يكشف عن حقيقة االشياء‬
‫ً‬
‫وإنما يكشف عنها الوعي وااللهام وقد أنكرت الكنيسة سنة ‪1838‬م وتوسع فيه أخيرا وأطلق علي النظريات التي‬
‫تضع الحقائق النقلية فوق الحقائق العلمية ‪ .‬انظر املعجم الفلسفي ‪ .‬مجمع اللغة العربية ‪ .‬الهئية العامة‬
‫للشئون األميرية صـ ‪180‬‬
‫‪10‬‬
‫(فالعرف االجتماعي يفرض علي اإلنسان ما يستحسنه من الخير وما يستقبحه من‬
‫الشر)‪14‬ينهي عن املثول إليه ‪.‬‬
‫ً‬
‫* أوال ‪ -:‬أشهر القائلين بهذا الرأي‬
‫‪ -1‬أوجست كونت‪ -2)1857 - 179815‬إميل دور كايم(‪ -3) 1917 - 1858 ()1‬ليفي بريل‬
‫‪) 1903 - 1823 (16‬‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬نظرة عامة إلي املذهب ‪:‬‬
‫ظهر مذهب القائلين بأن املجتمع هو مصدر اإللزام في القرن التاسع عشر وعرف أنصار‬
‫هذا املبدأ في الفكر الغربي بأنصار املذهب الوضعي‪17‬‬

‫‪ - 14‬املسؤلية الخلقية والجزاء عليها صـ ‪ 36‬د ‪ /‬أحمد عبد العزيز الحلبي ‪.‬‬
‫‪ - 15‬أوجست كونت ( فيلسوف فرنس ي تربي علي الدين الكاثوليكي وتعلم في مسقط رأسه انتسب وهو في السادسة‬
‫ً‬
‫عشرة من عمره إلي كلية العلوم التقنية التقي سنه ‪1818‬م (بسان سيمون ) فصار تلميذا له وعمل أمينا لسره ‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وانتقل عنه بعد سته أعوام وعمل مفكرا مستقال ‪ -‬وفي سنه ‪' 1826‬عادة إلي التدريس عين سنه ‪1832‬م معيدا‬
‫ملادة التحليل وامليكانيكا وطال بتأسيس كرس ي تاريخ عام للعلوم الوضعية يشغله هو ‪ ،‬فصل من العمل سنه‬
‫‪1844‬م ‪ .‬مذهبه ‪ :‬ال يؤمن إال بالوضعية التجريبية وهو مكرس الوضعية الحديثة مع استاذه سان سيمون اختار‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كونت ملجتمعه دينا انتقائيا يقوم علي عبادة اإلنسان التي يجب تأليهها ‪ .‬واستبدل التصور الخيالي عن هللا‬
‫بالتصور الوضعي‬
‫‪ - 16‬فيلسوف فرنس ي من أتباع أوجست كون رئيس لجنة منفذي وصاياه ترأس اللجنة الوضعية وساهم في تحرير‬
‫ً‬
‫السايسة الوضعية ( ‪ ) 1873‬وفي عام ‪ 1878‬أسس املجلة الغربية وأصبح أستاذا للتاريخ العام للعلوم في الكوليج‬
‫دي فرانس عام ( ‪) 1903‬انظر موسوعة االعالم الفلسفية جـ‪ 2‬صـ‪ 337‬تأليف زوني ايلي ألفا مراجعة د‪ /‬جورج‬
‫نخل دار الكتب العلمية بيروت ‪.‬‬
‫‪ - 17‬التعريف بالوضعية ‪ :‬هي املذاهب التجريبية التي ال تعترف إال بالواقع املحسوس ‪ .‬فهي ترد املعرفة إلي التجربة‬
‫( استخدم املنهج التجريبي املحسوس ) وترجع تسميته هذا املذهب إلي ( أوجست كونت ) وقد مهد لهذا االتجاه‬
‫في الفلسفة ديفيد هيوم ( ‪ - ) 1776 - 1711‬أنظر(املدخل إلي الفكر الفلسفي صـ ‪ ) 16‬يوزيف بوخينسكي ترجمة‬
‫د‪ /‬محمود حمدي زقزوق ‪ -.‬دار الفكر العربي سنة ‪1416‬هـ ‪ 1996 ،‬م ومن دواعي قيام املنهج الوضعي في الغرب‬
‫‪ -‬ما يأتي‪ 1‬ـ ( أسلوب التفكير الالهوتي الذي إنتهجته الكنيسة ) فكان تفكيرها ال يتفق مع العقل وال الحقيقة‬
‫العلمية ‪ .‬فكانت الوضعية تهدف إلي إزالة الخرافات التي نسجتها الكنسة حول الفكر الديني =‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إضطهاد الكنيسة لإلسلوب العلمي في التفكير فلقد احتكرت مجال التفكير وحرمت كل تفكير يخالف تقاليد‬
‫البابوية وسادت النزعة النصية وتحكيم الكتاب املقدس في مجاالت الحياة كلها ‪ 3.‬ـ التدخل القصري لسلطان‬
‫الكنيسة في كل مجاالت الحياة ‪ 4‬ـ التحالف بين النظامين االقطاعي والالهوتي ضد املفكرين الغربيين لهذه‬
‫ً‬
‫األسباب قام النظام الوضعي في الغرب وكان لهذا النظام أسس قام عليها ‪ ... -1 :‬اعتبر االحساس وحده مصدرا‬
‫للمعرفة ‪ ... -2‬اعتبار النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم اإلنسانية ( انظر في ذلك‪ :‬منهج البحث االجتماعي‬
‫‪11‬‬
‫وقد أسس هذا املذهب ( أوجست كونت ) (‪ ) 1857 - 1798‬وصار لهذا املذهب‬
‫في الفكر األوربي بخاصة والغربي بعامة تأثير علي مناحي الحياة ‪ -‬العلمية واالجتماعية‬
‫والسياسية واالقتصادية واألخالقية والدينية وظهر من بين رجال الفكر‬
‫الوضعي(املذهب الوضعي ) مؤسسين ملدرسة العلوم االجتماعية والتي ظهرت في القرن‬
‫التاسع عشر ونادت هذه املدرسة بأن مصدر اإللزام للفرد هو املجتمع‪ ،‬والذين تحدثوا‬
‫بأن املجتمع هو سلطة اإللزام ومصدره ليس كل من أيد ونادى بالوضعية‪ ،‬فوجد في‬
‫املذهب الوضعي من ينادي بأن سلطة اإللزام ومصدره هو اإلنسان ذاته ‪ .‬وليست سلطة‬
‫خارجة عن اإلنسان ومن هؤالء ‪-:‬‬
‫‪ -1‬وليم جميس ‪:‬رائد الحركة البرجماتية ‪ -2 -‬ديفيد هيوم ‪ .‬مؤسس الوضعية في علم‬
‫الفلسفة ‪.‬‬
‫أما األول فنادي بأن املنفعة هي مصدر اإللزام والثاني قال بأن العاطفة أو الشعور‬
‫باللذة هي مصدر اإللزام‪18‬‬
‫ً‬
‫ثالثا ‪ -:‬أهم ما يحتوي عليه املذهب ‪-:‬‬
‫‪ ( -1‬رفض واجبات وقواعد العقل العلمي الخالص وقبول الواجب الخلقي حين يصدر‬
‫عن املجتمع علي اعتبار أن املجتمع هو الكائن األخالقي األعظم الذي تصدر عنه الحياة‬
‫األخالقية ) فاملجتمع هو مصدر اإللزام وهو الذي يحق له وحده دون غيره أن يحكم‬
‫علي القيمة األخالقية بالخير أو الشر‪،‬فاملجتمع مصدر اإللزام عند هذا الفريق‪.‬‬

‫الفريق الثاني ‪:‬مصدر اإللزام ‪ ...‬هو اإلنسان‬


‫والقائلون بأن مصدر اإللزام هو اإلنسان ذاته ‪ .‬انقسموا فيما بينهم إلي عدة‬
‫أقسام نأتي علي ذكرها فيما يلي علي هذا النحو ‪ :‬ـ‬
‫‪ -1‬نظرة عامة إلي املذاهب‬

‫بين الوضعية واملعيارية محمد محمد إمريان من ص ‪ :33‬ص ‪ - ،57‬الفكر اإلسالمي الحديث وصلته باالستعمار‬
‫الغربي‪ /‬د‪ /‬محمد البهي ص ‪ 266‬إلي ص ‪ 270‬مكتبة وهبة‬
‫‪ - 18‬راجع معناه في األتي‪ :‬أ‪ -‬قضايا معاصرة في ضوء اإلسالم د‪ /‬حلمي عبد املنعم صابر‬
‫ب‪ -‬ديفيد هيوم ‪ /‬زكي نجيب محمود ‪ -.‬دار املعارف بمصر صـ ‪ 14‬جـ ‪ -‬علم اإلجتماع األخالقي د‪ /‬حسين عبد‬
‫الحميد رشوان ‪ .‬املكتب العلمي للنشر والتوزيع سنه ‪ 2000‬م صـ ‪ ،166‬علم االجتماع األخالقي ‪ .‬د‪ /‬حسين عبد‬
‫الحميد رشوان ‪ .‬املكتب العلمي ‪ .‬صـ ‪.192‬‬
‫‪12‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬القائلون بأن مصدر اإللزام هو اللذة واملنفعة ‪:‬‬
‫‪1‬ـ نظرة عامة الي املذهب ‪:‬‬
‫هذا املذهب الذي زعم أن اللذة ( أو املنفعة أو املصلحة ) وهما بمعني واحد هي مصدر‬
‫اإللزام باألخالق والقيم ‪ ،‬مذهب له جذوره التاريخية فهو ليس وليد القرن التاسع عشر‬
‫ً‬
‫أو القرن العشرين ‪ ،‬إنما قبل ذلك بقرون فهو قبل ذلك بعشرين قرن تقريبا ‪ ،‬ال حاجة‬
‫لعرضها ‪.‬‬
‫مذهب اللذة في العصر الحديث وأشهر القائلين به ‪-:‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬توماس هوبر ومبدأ املنفعة ‪.‬‬
‫ظهر هذا املذهب بضراوة وقوة علي يد الفيلسوف اإلنجليزي ( توماس هوبز )( ‪-1588‬‬
‫‪1676‬م )* فأهم ما يحتوي عليه رأي ( هوبز ) في مصدرية اللذة لألخالق ‪:‬‬
‫‪ -1‬اإليمان الكامل بأن الغريزة "األثرة " هي أقوي الغرائز الفطرية ومن ثم ينبغي أن تكون‬
‫ً‬
‫أساسا يقوم عليه األخالق ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن العواطف النبيلة الخيرة ‪ -‬يزعم أنها ‪ -‬ترجع إلي صفة األنانية‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬جرمى بنتام ـ ومذهب املنفعة ( ‪ 1748‬ـ‪1832‬م )جاء جرمي بنتام وأحيا بعد توماس‬
‫هوبز مذهب النفعية واألثرة التي نادي بها هوبز ‪ .‬ولكن كان لبنتام بصمات علي هذا‬
‫املذهب ‪ .‬فلقد نادي كذلك هو األخر باملذهب القائل بأن مصدر اإللزام هو اللذة‪ ...‬فهو‬
‫واحد من هؤالء املفكرين الذين ساهموا في بناء هذا املذهب ‪ ( -‬الذي أبعد البشرية عن‬
‫الحق ) ‪ -‬املذهب النفعي التجريبي ‪.‬‬

‫وهناك املذهب العقلي ‪:‬كمصدرمن مصادراإللزام الخلقي ‪.‬‬

‫لقد كان للمذهب العقلي القائل بأن العقل هو مصدر اإللزام وصاحب التوجيه جذورقديمة‬
‫فلم تكن هذه النظرية وليدة العصرالحديث ففي القديم عند اليونان ( نجد أن العقل هو‬
‫أساس األخالق وهو اآلمرالناهي ‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فهناك من مصادراإللزام ‪ :‬الكتاب والسنة واإلجماع في اإلسالم ‪،‬وفي الغرب هناك من‬
‫قال ‪ :‬بالدين ‪ ،‬أو باملجتمع ‪ ،‬أو باإلنسان ‪ ،‬أو اللذة واملنفعة ‪ ،‬أو البراجماتية ‪ ،‬أو العقل ‪...‬‬

‫‪13‬‬
‫املحاضرة الثالثة ‪:‬خصائص اإللزام الخلقي في اإلسالم‬
‫ورد في الكتاب املقرر ثالث خصائص وهي ‪ :‬إمكانية العمل َ‬
‫امللزم به ‪ ،‬واليسر‬
‫العملي ‪،‬وتحديد الواجبات وتدرجها ‪ ،‬وكل هذه الخصائص إنما هي نتائج لخصيصة‬
‫الربانية ‪،‬والشمولية ‪،‬والجمع بين الثبات واملرونة ‪،‬وهذه الثالثة األخيرة سنلقي عليها‬
‫بعض الضوء ‪ ،‬مع عرض ملقارنة سريعة على الفلسفة الغربية لنبين الخلل الكائن فيها‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬ربانية املصدر‬
‫من أهم خصائص اإللزام في اإلسالم ربانية املصدر ‪ ،‬أي صادر عن هللا تعالى ‪.‬‬
‫فما من أمر ملزم ‪ ,‬واجب األخذ ‪,‬إال وأساس مصدره هو هللا رب العاملين ‪ -‬فهو املشرع‬
‫الحقيقي سبحانه وتعالى ‪،‬فليس من مصدر لإللزام في الشرع اإلسالمي سوي هللا تعالى‪،‬‬
‫حتى ولو كان املشرع واآلمر الناهي هو النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أو العقل أو املجتمع‬
‫أو الضمير أو السلطان والحاكم كل هؤالء إنما واجب االنصياع إليهم ال لذواتهم و إنما‬
‫إليجاب هللا تعالى طاعتهم ‪.‬‬
‫يقول اإلمام الغزالي يرحمه هللا تعالى ‪ " :‬أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إال ملن‬
‫له الخلق واألمر ‪ ,‬فإنما النافذ حكم املالك علي مملوكه ‪ ,‬وال مالك إال الخالق ‪ ,‬فال حكم‬
‫وال أمر إال له ‪ ,‬أما النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬والسيد والسلطان واألب والزوج فإذا‬
‫أمروا وأوجبوا لم يجب ش يء بإيجابهم ‪ .‬بل بإيجاب هللا تعالى طاعتهم )‪،1‬وبهذا يتضح أن‬
‫اإللزام رباني املصدر وإن تعددت فيه الجهة اآلمرة من املصادر التابعة للمصدر‬
‫األساس ي الرباني ‪.‬‬
‫ومن ثمرات هذه امليزة التي امتاز بها اإللزام الخلقي في اإلسالم ‪.‬‬
‫أ ـ أن هذا املصدر لإللزام معصوم من التناقض والتحيز والهوى ‪:‬وهذه مميزات ال‬
‫نجدها في مصادر اإللزام التي تحدثت بها النظريات والنظم الوضعية ‪.‬‬
‫ب ـ ومن ناحية أخرى نادت املدرسة العقلية بأن مصدر اإللزام هو العقل وحده ‪:‬وهو‬
‫القادر علي هداية الناس والحاكم الذي ال حاكم قبله وال بعده وال مثله ‪ .‬نادي بذلك‬
‫علماء املدرسة العقلية وعلي رأسهم ( كانت) األملاني ‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر في ذلك ‪ :‬المستصفي لإلمام أبي حامد الغزالي ط‪ 1‬صـ‪100‬‬


‫‪1‬‬
‫* وكفرت املدرسة العقلية باهلل عز وجل ونادت بأن العقل قادر علي إيجاد األخالق في‬
‫املجتمع بل هو القادر وحده وكفرت بما دونه وقطع كل فكرة تربطنا باهلل سبحانه يقول‬
‫أساسا لألخالق"‪2‬‬ ‫ً‬
‫كانت ‪ " :‬إن هللا مادامت حقيقته تظل مجهولة لنا فال يمكن أن نتخذه‬
‫ونستطيع أن نقول مما يؤخذ علي املدرسة العقلية بشأن هذه النقطة أمرين ‪.‬‬
‫‪1‬ـ إنكارها لأللوهية‪2 -‬ـ إيمانها بالعقل إلي درجة التأليه ‪،‬وغلوها في ذلك بأن جعلته الهادي‬
‫وحده دون الوحي واإلسالم يؤمن بدور العقل وأهميته في تسيير حركة الحياة‬
‫ومستجدات العصر ‪ -‬كل عصر ‪ -‬لكن ال يكون العقل بمنأى عن الوحي السماوي ‪..‬‬
‫فالعقل والوحي كل منها محتاج إلي اآلخر وال تستقيم الحياة بدون واحد منهما‬
‫وبذلك ندرك كما قال الغزالي ‪ ( :‬أن العقل لن يهتدي إال بالشرع والشرع لم يتبين إال‬
‫بالعقل‪ ،‬فالعقل كاألس والشرع كالبناء ‪ ,‬ولن يغني أساس ما لم يكن بناء ‪ ,‬ولم يثبت بناء‬
‫ما لم يكن أساس ‪ ,‬وعلي هذا فالشرع عقل من خارج ‪ ,‬والعقل شرع من داخل ‪ ,‬وهما‬
‫ور ِه‬ ‫ن‬ ‫ور َع َلى ُنور َي ْهدي ه ُ‬
‫َّللا ل ُ‬ ‫متعاضدان ‪ ,‬بل متحدان ولكونهما متحدين قال هللا تعالى ُ‬
‫‪{:‬ن ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّللا ب ُكل َش ْي ٍء َع ِل ٌ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ََ ْ ُ هُ َْ‬
‫األ ْم َث َ‬
‫ال ل هلناس َو ه ُ‬
‫يم } النور‪ )35:‬آي نور العقل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫من يشاء ويض ِرب َّللا‬
‫والشرع‪.‬‬
‫فالعقل في اإلسالم ال ُيناقض الشرع والذي أرشد إليه الكتاب الكريم ( القرآن )‬
‫بشأن العقل هو احترامه واعماله في ظواهر الكون ( وترك الوحي للعقل في مجال التشريع‬
‫أن يجول ويصول في فهم النصوص ‪ .‬فيفرع علي األصول ويقيس علي الفروع ويستنبط‬
‫األحكام ويكيف الوقائع ويرعى القواعد في جلب املصالح ودرء املفاسد ورفع الحرج‬
‫ً‬
‫وتحقيق اليسر) ‪،‬كثيرا ما أشاد القرآن الكريم بالعقل ونوه إلي قدرته علي استيعاب‬
‫ً‬
‫القضايا ‪ .‬فمادة العقل وأداته من الفكر والتذكير كثيرة في القرآن الكريم فكال من العقل‬
‫والوحي رديف اآلخر وشقيق الثاني ‪ ,‬وال يمكن أن يتعارض الوحي مع العقل ألن مصدرها‬
‫واحد وهو هللا رب العاملين ‪.‬‬
‫ويؤكد الغزلي عدم تناقض وحي العقل الصريح ووحي الشرع الصحيح التفاق‬
‫مصدرهما وهو هللا فيقول ‪ " :‬ظن قوم أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن‬
‫الجمع بينهما غير ممكن ‪ ,‬وهذا الظن صادر عن عمى في عين البصيرة لذا نرى أن من‬

‫‪ - 2‬األخالق بين الفلسفة وعلم االجتماع ‪ .‬السيد محمد بدوي صـ ‪96‬‬


‫‪2‬‬
‫يدعوا إلي التقليد في األمور الدينية ويعزل العقل بالكلية ‪ ,‬هو جاهل ‪ ,‬واملكتفي بمجرد‬
‫العقل عن أنوار الكتاب والسنة مغرور "‪3‬‬

‫ـ االحترام وسهولة االنقياد ‪.‬‬ ‫‪- 2‬‬


‫من أثار الربانية وثمراتها في املجتمع أنها تضفي علي النظام واملنهج اإلسالمى‬
‫ً‬
‫قدسية واحتراما ال يظفر بها أي نظام أو منهج من صنع البشر)‪، 4‬مما يعطي للقانون‬
‫األخالقي طول البقاء وسرعة التنفيذ وعدم املراوغة واالحتيال عليه فمن أثار الربانية‬
‫تنشأ الرقابة الذاتية وال يحتاج القانون األخالقي إلي قوة أو يد من حديد تقيمه بالقهر‬
‫والغلبة ؛ بل يقوم ويتحقق في سهولة ويسر ‪ ،‬وما ذلك إال ألن مصدر اإللزام بالقانون ‪-‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مرض ي عنه‪.‬قال هللا تعالى ‪َ {:‬ج َز ُاؤ ُه ْم ع ْن َد َ به ْم َج هن ُ‬
‫ات َع ْد ٍن ت ْج ِري ِم ْن ت ْح ِت َها األ ْن َه ُار‬ ‫ِ رِ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ ََ ً‬
‫دا َرض َي ه ُ‬ ‫َ‬
‫ضوا َع ْن ُه ذ ِل َك ِمل ْن خ ِش َي َرهب ُه } سورة البينة جزء من‬ ‫َّللا َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫خ ِال ِدين ِفيها أب ِ‬
‫اآلية رقم ‪8‬‬

‫‪3‬ـ التحررمن عبودية اإلنسان لإلنسان ( ولكل مظاهرالخضوع ) ‪.‬‬


‫وهذا من أهم ثمرات الربانية التي أختص بها اإللزام الخلقي اإلسالمي فال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنسان يتحكم في اإلنسان مثله وال يخضع له خضوعا مطلقا وكأن له حق مقدس في‬
‫الخضوع فال اإلنسان وال الهيئات وال املؤسسات وال السلطان وال الحاكم له حق علي‬
‫اإلنسان إال بإيجاب هللا تعالى طاعتهم ( وطاعتهم في غير معصية ) ( ولوال ذلك لكان لكل‬

‫‪ - 3‬معا رج القدس ‪ .‬أبو حامد الغزالي صـ ‪ * 59‬ويراجع في ذلك ‪ .‬رسالة التوحيد لإلمام محمد‬
‫عبده بتحقيق د ‪ /‬محمد عمارة صـ ‪( 32 ، 31‬كتاب الهالل ويراجع كذلك ‪ :‬الفكر اإلسالمي‬
‫الحديث ‪ .‬محمد البهي صـ ‪ . 125 ، 124‬مكتبة وهبة نفس المعطيات السابقة‪ ،‬إحياء علوم‬
‫الدين ج‪ 3‬صـ ‪ 17‬أبو حامد الغزالي‬
‫‪ - 4‬الجانب األخالقي في فلسفة وليم جيمس وموقف اإلسالم منه ‪ -‬محمد مجاهد نور الدين صـ‬
‫‪ 146‬رسالة ماجستير ‪ .‬جامعة األزهر كلية الدراسات اإلسالمية بنين القاهرة ‪ .‬نقد المذاهب‬
‫المعاصرة د ‪ /‬إبراهيم مصطفى إبراهيم الجزء األول صـ‪121‬ـ نشر دار الوفاء للطباعة إسكندرية‬
‫صـ ‪ - 43‬مكتبة وهبة‬ ‫و الخصائص العامة لإلسالم‬
‫‪3‬‬
‫ً‬
‫مخلوق أوجب علي غيره شيئا للموجب عليه أن يقلب عليه اإليجاب إذ ليس أحدهما‬
‫أولى من األخر )‪5‬‬

‫والرأي القائل‪:‬بأن مصدر اإللزام هو املجتمع يخالف اإلسالم في هذا األمر‬


‫ون‬ ‫فاإلسالم اعترف بالرأي العام ‪ .‬قال هللا تعالى ‪ُ {:‬ك ْن ُت ْم َخ ْي َر ُأ همة ُأ ْخر َج ْت ل هلناس َت ْأ ُم ُر َ‬
‫ٍ ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫اَّلل َو َل ْو َآم َن َأ ْه ُل ْالك َتاب َل َك َ‬
‫ان َخ ْي ًرا ل ُه ْم ِم ْن ُهمُ‬ ‫ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َن َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َن ه‬
‫وف وتنهو ع ِن املنك ِر وتؤ ِمنو ِب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِباملعر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ْاملُ ْؤم ُنو َن َوأكث ُر ُه ُم ال َ‬
‫ْ‬
‫اس ُقون } سورة آل عمران جزئ من اآلية رقم (‪)110‬‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬
‫وقال النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ { -‬مثل القائم علي حدود هللا والواقع فيها كمثل‬
‫قوم استهموا علي سفينة فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها ‪ ،‬فكان الذين في‬
‫ً‬
‫أسفلها إذا استقوا من املاء مروا علي من فوقهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لو إن خرقنا في نصيبنا خرقا‬
‫ً‬
‫ولم نؤذ من فوقنا‪،‬فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ‪ ،‬وإن أخذوا علي أيديهم نجوا‬
‫ً‬
‫جميعا }‪6‬‬ ‫ونجوا‬
‫وهذه صور إلزام املجتمع لألفراد التي رسمها اإلسالم الحنيف قبل أن يتحدث‬
‫عن ذلك رجال املدرسة االجتماعية بقرون عديدة‪ ،‬ولكن إلي أي حد أعطى اإلسالم هذه‬
‫السلطة للمجتمع ؛ لقد أبان اإلسالم حدود هذه السلطة من زاوية أخري فقال ‪ -‬صلى‬
‫ً‬
‫هللا عليه وسلم ‪ {: -‬من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬
‫يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان }‪ 7‬وقال هللا تعالى ‪َ {:‬و ِإ ْذ قال ْت أ هم ٌة ِم ْن ُه ْم ِل َم ت ِعظو َن‬
‫َ‬ ‫ً َ ُ َ ه‬ ‫َ ً َ ً َ ُ‬ ‫َ ْ ً هُ ُ َ‬
‫َّللا ُم ْه ِلك ُه ْم أ ْو ُم َع ِذ ُب ُه ْم َعذابا ش ِديدا قالوا َم ْع ِذ َرة ِإلى َرِبك ْم َول َعل ُه ْم َي هت ُقون } سورة‬ ‫قوما‬
‫األعراف آية رقم (‪)163‬‬

‫‪ - 5‬المستصفي ‪ .‬ألبي حامد الغزالي ج‪ 1‬صـ ‪ .100‬جامع العلوم والحكم بن رجب الحنبلي صـ‬
‫‪ 464‬دار اإليمان ‪ -‬المنصورة‬
‫‪ - 6‬صحيح البخاري عن النعمان بن بشير ‪ .‬ك الشركة باب هل يقرع في القسمة ج‪ . 2‬صـ‬
‫‪749‬‬
‫والحديث برقم (‪ ) 2493‬دار الحديث القاهرة‬
‫‪ - 7‬صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه ‪ .‬ك اإليمان ‪ .‬باب كون النهي عن‬
‫المنكر من اإليمان ج‪ 1‬صـ ‪ 76‬دار الحديث‬
‫‪4‬‬
‫ً‬
‫لم يجعل اإلسالم املجتمع مصدرا لإللزام فيلغي شخصية الفرد ويغطي عليها‪.‬‬
‫وإنما احترم إرادة األفراد وحريتهم وفي املقابل احترام شعور الجماعة وجعل إلرادة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املجتمع مكانا مقدسا ‪ -‬فال الفرد يطغي علي املجتمع وال املجتمع يلغي شخصية الفرد ‪.‬‬
‫أما ما قال به رجال املدرسة االجتماعية (بأن إرادة اإلنسان الحرة التي يعتز بها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليست إال وهما ‪ ,‬ألن املرء ال يملك لنفسه شيئا وإنما هو مسير بغرائز وقوى )‬
‫وبذلك يذهب (دور كايم) إلي الجبرية املطلقة للفرد في إطار املجتمع وإقراره‬
‫بعجزه عن تغير املجتمع وضرورة الخضوع له ‪ ,‬وهو ما ترفضه الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فهي‬
‫ترفض تحكم اإلنسان في اإلنسان‪،‬أو تحكم الفرد في املجتمع أو املجتمع في الفرد ‪.‬‬

‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬الشمول ‪-:‬‬
‫( الشمول ) خاصية من أبرز خصائص اإللزام الخلقي في اإلسالم على‬
‫الخصوص‪ ،‬واألوامر اإلسالمية بصفة عامة ‪،‬فاألوامر و النواهي الخلقية في اإلسالم إنما‬
‫هي أوامر والتزامات لكل أفراد الجماعة املسلمة ‪،‬والخطاب موجه لكل فرد بالغ عاقل ‪,‬‬
‫لكل مسلم توفرت لدية صفات األهلية والتكليف ‪.‬‬
‫وكذلك هذه الشمولية التي نعنيها إنما هي شمولية للزمن‪،‬فالتشريع الخلقي منذ‬
‫العهد النبوي هو التشريع نفسه إلي اآلن لم يتغير وسيظل ولن يتغير‪ ,‬فهذه الرسالة‬
‫كل ‪ -‬صادرة عن عليم‬ ‫صالحة لكل األجيال الحاضرة واملاضية والقادمة علي السواء في ٍ‬
‫خبير‪ -‬يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلي يوم القيامة ‪ ,‬ال يؤثر علي علمه مرور الزمن‪.‬‬
‫ً‬
‫وعلي ذلك كان التشريع األخالقي صادرا لكل األفراد والجماعات والبيئات‪ ،‬صدر هذا‬
‫التشريع للغني والفقير ‪ ,‬للرجل واملرأة ‪ ,‬للعالم واألمي للساسة والدهماء ‪ ,‬لكل قطاعات‬
‫الناس وأنواع البشر وهذا هو شمول الزمان واألفراد ‪.‬‬
‫ويظهر لنا نوع آخر للشمولية التي امتاز بها اإللزام في التشريع اإلسالمي وهو ‪-:‬‬
‫شمولية اإللزام لالتجاهات اإلنسانية من أمثال ‪ -:‬االتجاه العقلي ‪ ..‬االتجاه الديني أو‬
‫الروحي ‪ -‬االتجاه النفس ي ‪ ..‬االتجاه املادي ‪.‬‬
‫أما بالنسبة للمذاهب الوضعية فلم يقدر لها أن تحظى بمثل ما حظيت به‬
‫الشريعة اإلسالمية في هذا الشأن ‪ ,‬فشأن كل مذهب من هذه املذاهب أن يهتم بجانب‬
‫معين واتجاه محدد فهو إما عقلي أمثال املدرسة العقلية‪ ،‬مهملين بذلك الروح وأهميتها‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫وإما مذهب اللذة واملنفعة وإن كانت لديهم مسحة عقلية إال أنها هجرت الروحانية‬
‫والدينية واهتمت باملادة وأغرقت نفسها فيها‪.‬‬

‫ً‬
‫ثالثا ‪ :‬الجمع بين الثبات واملرونة ‪:‬‬
‫والشريعة األخالقية اإلسالمية استطاعت بهذه الخاصية أن تحافظ علي‬
‫ً‬
‫لثان ‪،‬وإنما هي ثابتة أبدا‬ ‫وجودها فهي ثابتة ال تتغير وال تتبدل من حين آلخر ومن مجتمع ٍ‬
‫وهذا الثبات هو الذي حافظ علي وجود الشريعة دائمة باقية فهي لم تتآكل ملرور الزمن‬
‫عليها ‪ ،‬وكذلك في الجهة املقابلة لم تكن جامدة صلبة لم تراع تطورات العصر وآليات‬
‫ً‬
‫العلم ‪ .‬بل سارت مع التقدم العلمي بالشكل املناسب الذي يجعلها دائما متجددة‬
‫متطورة ‪ ,‬إال أنها محافظة علي عنصر األصالة فيها ‪.‬‬
‫( وهذا من روائع اإلعجاز في هذا الدين وآية من آياته عمومه و خلوده ‪ ,‬وصالحيته لكل‬
‫زمان ومكان ‪ .‬ونستطيع أن نعدد مجال الثبات ومجال املرونة في شريعة اإلسالم ورسالته‬
‫فنقول‪ :‬إنه الثبات علي األصول والكليات‪ ,‬واملرونة في الفروع والجزئيات‪ ،‬الثبات علي‬
‫القيم الدينية واألخالقية‪,‬واملرونة في الشئون الدنيوية والعلمية )‪8‬‬

‫وهذا الثبات هو الذي حفظ حدود الشريعة اإلسالمية‪،‬وكلها أخالق ‪ ،‬وأبقي‬


‫معاملها ‪ .‬فالشريعة تحتوي علي أصول وقواعد كلية ال تتبدل وتحتوي علي فروع وجزئيات‬
‫ً‬
‫‪،‬تتبدل من حين إلي آخر حسب متطلبات العصر وحاجة األمة ونضرب لذلك مثاال من‬
‫التشريع الجنائي اإلسالمي ‪.‬‬
‫ً‬
‫ففي أصوله بقي محافظا عليها مثل الحدود ( الزنا السرقة ‪ -‬القذف ‪ -‬شرب‬
‫الخمر إلي أخر هذه الحدود ) وكذلك منها الواجبات املأمور بها واملنهيات التي نهي عنها‬
‫مثل الربا‪ ,‬الكذب‪ ,‬وشهادة الزور وغير ذلك ‪.‬‬
‫لقد كانت الشريعة اإلسالمية ذات ميزة عظيمة علي املذاهب الوضعية فنصوص‬
‫الشرع اإلسالمي ‪ -‬تحتوي علي الشمولية هذه في مضمون النص ذاته فتجد في نصوص‬
‫الس ِار ُق‬‫التشريع الجنائي علي سبيل املثال ما يؤكد حديثنا هذا قال هللا تعالى ‪َ {:‬و ه‬
‫يم * َف َم ْن َت َ‬ ‫َ ه َ ُ َ ْ َ ُ َْ َُ َ َ َ ً َ َ َ َ َ َ ً‬
‫اال م َن هَّللا َو ه ُ‬
‫اب ِم ْن‬ ‫َّللا َعز ٌيز َح ِك ٌ‬
‫ِ‬ ‫والسا ِرقة فاقطعوا أي ِديهما جزاء ِبما كسبا نك ِ ِ‬

‫صـ ‪200‬‬ ‫‪ - 8‬الخصائص العامة‬

‫‪6‬‬
‫يم } سورة املائدة اآلية رقم (‪،38‬‬ ‫ور َر ِح ٌ‬ ‫وب َع َل ْيه إ هن ه َ‬
‫َّللا َغ ُف ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّللا َي ُ‬
‫ت‬ ‫َب ْع ِد ُظ ْلمه َو َأ ْ‬
‫ص َل َح َفإ هن ه َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫‪)39‬‬
‫وفي هذا النص التشريعي نجد أن هللا تعالى ذكر القانون وفيه الحكم املرتب علي‬
‫الجريمة الخلقية ‪،‬وذكر مصدر هذا التشريع ‪ -‬وهو هللا تعالى ‪ -‬ونالحظ أن النص القرآني‬
‫موجه إلي الجماعة باعتبار أن املجتمع هو القائم علي تنفيذ شرع هللا ‪ ،‬ثم نجد التشريع‬
‫السماوي كذلك يربط الدنيا باآلخرة ‪.‬وال يقصر الجزاء على أنه دنيوي فحسب ؛ بل هو‬
‫دنيوي وأخروي‪.‬‬
‫ً‬
‫ويفتح باب التوبة مخاطبا بذلك قلب اإلنسان العاص ي ليفتح له باب الهداية‬
‫والبعد عن املعاص ي‪ ..‬وليس هذا النص وحده املشتمل علي خاصية الشمول بل‬
‫الزان َي ُة َو ه‬
‫الزا ِني‬ ‫ه‬
‫النصوص القرآنية علي وجه العموم تحمل هذا املعنى ‪ ,‬قال هللا تعالى ‪ِ {:‬‬
‫ُ‬
‫َّللا ِإ ْن ك ْن ُت ْم ُت ْؤ ِم ُنو َن‬
‫ه‬ ‫ُْ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َْ َ ٌ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ‬
‫فاج ِلدوا ك هل و ِاح ٍد ِمنهما ِمائة جلد ٍة وال تأخذكم ِب ِهما رأف ِ ِ ِ ِ‬
‫ين‬ ‫د‬ ‫ي‬‫ف‬ ‫ة‬
‫ُْ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ه ْ‬
‫اَّلل َوال َي ْو ِم اآل ِخ ِر َول َيش َه ْد َعذ َاب ُه َما طا ِئ َفة ِم َن امل ْؤ ِم ِنين } سورة النور آية رقم (‪)2‬‬ ‫ِب ِ‬
‫وخاصية الثبات التي تميزت بها الشريعة اإلسالمية تقابلها النسبية األخالقية التي‬
‫تحدث بها أكثر املدارس واألفكار الوضعية فجعلت األخالق ليست ثابتة بل متطورة‬
‫نسبية تختلف من مكان إلي مكان ومن زمن إلي آخر ومن مجتمع إلي ثان ‪.‬‬
‫فاألخالق ليست ثابتة بل هي متغيرة ولقد نادي بهذا املذهب علماء املدرسة‬
‫االجتماعية ( أوجست كونت ‪ -‬دور كايم ‪ -‬ليفي بريل ) وغيرهم ممن تابعوهم وحذوا‬
‫حذوهم ‪ .‬فأحلوا مكان املطلق ‪ .‬واعتبروا أنه ال يمكن قيام أخالق مطلقه ثابتة‪ ،‬والقول‬
‫بذلك يعد خرافة‪.‬‬
‫يقول أوجست كونت‪ " :‬إن موقف اإلنسان إزاء الظواهر األخالقية البد أن يتغير‬
‫من مرحلة إلي أخري ‪ ،‬ومادامت اإلنسانية في تقدم مستمر فإن هذه القوانين البد أن‬
‫ً‬
‫تتغير أوال ثم ال بد لها أن تساير التطور ‪ ،‬ويكون نصيبها ا لتطور املستمر ‪ ,‬واإلصالح‬
‫ً‬
‫املطرد وحيث أن وجود الجنس اإلنساني يعتمد إلي درجة كبيرة علي عدد كبير جدا من‬
‫الظروف الطبيعية والفلكية والبيولوجية واالجتماعية ‪ ,‬وإذا كانت هذه الظروف تتغير‬

‫‪7‬‬
‫ً‬
‫باستمرار أيضا ولتبقي علي وتيرة واحدة ‪ ,‬فال يمكن أن تستغرب ‪ ...‬أن أخالقنا يجب أن‬
‫إذا نسبية مع مركزنا ومع تكويننا "‪9‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تتغير باستمرار أيضا فهي‬
‫وممن ذهبوا إلي القول بالنسبية األخالقية كذلك ‪ -‬أصحاب اللذة ‪ -‬واالتجاه‬
‫النفعي ولقد ذكر وليم جيمس أن ( الخير أو الحق كورقة النقد الزائفة تظل صالحة‬
‫لالستعمال حتى يثبت زيفها)‪.10‬‬
‫فاألخالق عنده ليست ثابتة بل متغيرة من حال آلخر‪،‬ولقد عارضت الشريعة‬
‫اإلسالمية هذه اآلراء السابقة بنسبية األخالق ‪ .‬إذ القول بنسبية األخالق وعدم ثباتها‬
‫يودي إلي نسف املسألة األخالقية ونشر اإلباحية والخالعة واملجنون وهو ما صار إليه‬
‫ً‬
‫العالم الغربي حاليا بالفعل ‪.‬‬
‫وكذلك القول بنسبية األخالق يتضمن القول بعدم قبول القوانين الخالدة‬
‫السابقة وعدم احترام القدوات املوجودة فينا‪ ،‬وفي ذلك مخالفة لصريح القرآن الكريم‬
‫ين َه َدى ه ُ‬
‫َّللا‬ ‫والسنة النبوية املطهرة وعمل األمة اإلسالمية قال تعالى ‪ُ {:‬أ َولئ َك هالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ه ْ ْ َ‬ ‫ْ ُ َ َُ ُ َ َ ً‬ ‫َ‬
‫ف ِب ُه َد ُاه ُم اق َت ِد ْه ق ْل ال أ ْسألك ْم َعل ْي ِه أ ْجرا ِإ ْن ُه َو ِإال ِذك َرى ِلل َع ِاملين } سورة األنعام آية رقم‬
‫ْ‬ ‫ه ُ ْ ٌَ َ َ َ ٌ َْ َ َ َْ ُ هَ ْ‬ ‫ان َل ُك ْم في َر ُ‬ ‫َ‬
‫‪{:‬ل َق ْد َك َ‬
‫َّللا َوال َي ْو َم اآل ِخ َر‬ ‫َّللا أسوة حسنة ِملن كان يرجو‬ ‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫‪،90‬قال تعالى‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َُ‬ ‫َ َ َ َ هَ َ ً‬
‫َّللا ك ِثيرا } سورة األحزاب آية رقم (‪،)21‬وقال تعالى ‪ {:‬ق ْد كان ْت لك ْم أ ْس َوة َح َس َنة ِفي‬ ‫وذكر‬
‫ه َ َ ُ‬
‫َّللا ك َف ْرنا ِبك ْم‬ ‫ُْ َ َْ ُ َ ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫إ ْب َراه َ َ ه َ َ َ ُ ْ َ ُ َ ْ‬
‫يم وال ِذين معه ِإذ قالوا ِلقو ِم ِه ْم ِإنا ب َر ُآء ِمنك ْم و ِم هما تع ُبدون ِمن دو ِن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ه َ ْ َُ ه َْ َ َْ َ َ‬ ‫ً‬
‫ََ َُ َ َْ َ َ َه ُْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ ََ َََْ ُ‬
‫اَّلل وحده ِإال قول ِإبر ِاهيم ِأل ِب ِيه‬ ‫وبدا ب ْيننا وبينك ُم العداوة والبغض ُاء أبدا حتى تؤ ِمنوا ِب ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َ َ هْ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ هن َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ ه‬
‫َّللا ِم ْن ش ْي ٍء َرهب َنا َعل ْي َك ت َوكل َنا َو ِإل ْي َك أن ْب َنا َو ِإل ْي َك امل ِص ُير}‬
‫ألستغ ِفر لك وما أم ِلك لك ِمن ِ‬
‫سورة املمتحنة آية رقم ‪4‬‬

‫‪ - 9‬أوجست كونت ‪ /‬د‪ .‬مصطفي الخشاب مدرس بكلية اآلداب جامعة فؤاد األول مطبعة البيان‬
‫العربي مؤلفات ( الجمعية المصرية لعلم االجتماع ) صـ ‪126‬‬
‫‪ - 10‬وليم جيمس ( إرادة االعتقاد ) ترجمة د‪ /‬محمود حسب هللا صـ ‪ 101‬سابق وكذلك وليم‬
‫جيمس بقلم ‪ /‬محمود زيدان دار المعارف صـ ‪ ،182‬انظر في ذلك أ‪ -‬فلسفة أوجست كونت‬
‫وليفي بريل ‪ -‬محمود قاسم صـ ‪ 302 ، 301‬مرجع سابق‬
‫ب‪ -‬علم االجتماع األخالقي د‪ /‬حسين رشوان ‪ -‬صـ ‪ 189‬سابق‬
‫جـ ‪ -‬أوجست كونت دروس في الفلسفة الوضعية د‪ /‬محمود قاسم صـ ‪ 5‬تحت عنوان منهج‬
‫الوضعية وأنواعها‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫هذه هي القدوات في نظر الشارع اإلسالمي ‪ ..‬أما بالنسبة إلي املذاهب الوضعية‬
‫النفعية فال قيمة لها ‪.‬‬

‫وإذا كانت املدارس الوضعية والنظم البشرية السابقة تمثل أقص ى اليمين بالنسبة‬
‫لخاصية الثبات واملرونة التي تميزت بها الشريعة اإلسالمية في مسألة اإللزام الخلقي في‬
‫التشريع الخلقي اإلسالمي إال أننا نجد مدرسة أخرى تمثل أقص ى اليسار ‪.‬‬
‫وهذه املدرسة هي املدرسة الكانتية ‪ .‬التي نادي بها ( كانت األملاني ) وأتباعه من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعده وبذلك خط هذا املفكر خطا جديدا ومنهجا مبتكرا في األخالق العصرية الحديثة‬
‫ً ً‬
‫‪ .‬فجعل شرط الفعل األخالقي أن يكون عاما كليا يشمل جميع األفراد ‪،‬في الوجود كله‪،‬‬
‫وال يبيح االستثناءات في هذا النوع األخالقي ‪.‬‬
‫ً‬
‫يقول كانت‪ " :‬اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك‬
‫ً ً‬
‫كليا للطبيعة‪11".‬‬ ‫قانونا‬
‫وهذه القاعدة اعتبرها (كانت) هي القاعدة األساسية لسائر القواعد األخالقية‬
‫األخرى‪ .‬فهي املحل األوحد للسلوك األخالقي ‪ .‬فإن كان في وسع الفرد أن يجعل من‬
‫ً ً‬
‫القاعدة التي يستند إليها في فعل ما يريده ‪ .‬قانونا عاما ال يتعارض مع الواقع الخارجي‬
‫ً‬
‫كان مطابقا للواجب( فيكون فعل أخالقي ) ‪.‬‬
‫ً‬
‫أما إذا أدى تعميمي للقاعدة إلى ضرب من التناقض كان الفعل حينئذ متعارضا‬
‫ً‬
‫مع القانون األخالقي ‪ .‬فالقاعدة العامة ال يجوز فيها االستثناء لدى (كانت) ‪ .‬فالقتل مثال‬
‫هو محرم‪ ،‬عمل غير أخالقي ‪ ,‬اتفقت كل الشرائع السماوية والنظم األرضية علي ذلك ‪...‬‬
‫ولكن ليس من املمكن أن تنكر هذه القاعدة ويكون فيها حاالت استثنائية ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪ .‬ما هو موقف القانون األخالق من دفع الرجل الرجل عن سرقة ماله‬
‫أو عن عرضه وشرفه؟ ‪ ,‬أليس هذا من الواجب؟ولو أدي ذلك إلي قتل الباغي املعتدي ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أليس ذلك عمال أخالقيا ؟‬
‫لقد امتازت الشريعة اإلسالمية بالثبات ‪ .‬ولكن هذا الثبات ال يعني التحجر بل‬
‫ثبات مصحوب باملرونة ‪ :‬لقد راعت الشريعة (حين ألزمت املكلفين ) أحوال املكلف‬

‫‪ - 11‬كانت الفلسفة النقدية صـ ‪ 142‬د‪/‬ذكريا إبراهيم‬


‫‪9‬‬
‫وأع َف ْت ُه من بعض التكاليف في حاالت استثنائية وهي ما تعرف لدي علماء أصول الفقه‬ ‫ْ‬
‫بالضرورة‪ .‬ويحسن بنا إلبراز ميزة اإللزام في الجانب الخلقي من التشريع اإلسالمي في‬
‫هذه النقطة أن نذكر بعض األمثلة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬أن املبادئ الخلقية املسلم بها كثيرا ما تكسر وخاصة في أوقات الحروب واألزمات‬
‫الطاحنة‪ .‬وربما كان كسر القاعدة العامة لدفع ضرر أكبر من الضرر الناتج عن كسر‬
‫القاعدة العمومية التي يسير عليها التشريع اإلسالمي ‪.‬فعندما يتصارع قانونان فإنه‬
‫يتعذر الفصل بينهما إال بالنظر إلي اآلثار والنتائج املترتبة عليها ‪ .‬فاإلسالم هنا يعمل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بقانون ( املنفعة واملصلحة ) فأكثرهما نفعا وأقلهما ضررا ـ يكون هو األولي باإلتباع ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪:‬أننا نجد القاعدة العامة في اإلسالم أنه ال يجوز إراقة دم أو قتل نفس‬
‫إال بحقها‪،‬هذا على جهة العموم ‪ .‬وباألخص دم الفرد املسلم فقد خصت نفسه بالحرمة‬
‫‪.‬يقول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ { : -‬إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا‬
‫في شهركم هذا في بلدكم هذا }‪12‬ولقد ذكر هللا تعالى حرمة النفس عامة يقول تعالى ‪َ {:‬وال‬
‫َ ْ ُُ ه ْ َ ه َ ه َ هُ ه ْ‬
‫َّللا ِإال ِبال َح ِق } األنعام جزء من اآلية رقم (‪ )151‬واإلسراء جزء‬ ‫تقتلوا النفس ال ِتي حرم‬
‫من اآلية رقم ‪33‬‬
‫والذي نريد طرحه هنا‪ ،‬هل يجوز كسر هذه القاعدة العامة ؟‬
‫اإلجابة علي ذلك تتضح من خالل ما ذكره العلماء بشأن مسألة التترس في‬
‫ً‬
‫الحرب‪ .‬وصورة هذه املسألة ( أن يأسر العدو جنودا من الجيش اإلسالمي ويتترس بهم ‪.‬‬
‫ويستتر خلفهم ) ففي هذه الحالة هل يجوز ضرب الكفار ومن معهم من املسلمين ؟ وما‬
‫ً‬
‫حكم دم املسلم هنا ؟ وأال يعد كسرا للقاعدة العامة السابقة في حرمة النفس؟ هذه‬
‫التساؤالت السابقة تدل علي الوقوع في حرج فعلي‪ ،‬فكيف يكون وضع األمر اإللزامي‬
‫بالقاعدة ( السابقة ) ؟‬
‫ً‬
‫وهذه املسألة أجاب عنها الفقهاء املسلمون قديما مراعين في ذلك أخف الضررين‬
‫موازين بين املنفعة واملضرة ‪ ،‬واملصلحة وعدمها فقالوا ‪ ":‬إن تترسوا بمسلم ولم تدع‬
‫الحاجة إلي رميهم ‪ .‬لكون الحرب غير قائمة أو إلمكان القدرة عليهم بدونه أو لألمن من‬
‫ً‬
‫شرهم ‪ .‬لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلما ‪ .‬فعليه ضمانه‪ ...‬وإن لم يخف على‬

‫‪ - 12‬صحيح مسلم ك الحج ‪ .‬باب حجة النبي صلي هللا علية وسلم‬

‫‪10‬‬
‫املسلمين ‪ .‬لكن لم يقدر عليهم إال بالرمي ‪ .‬فقال األوزاعي والليث ‪ :‬ال يجوز رميهم لقوله‬
‫ه َ‬ ‫ُ ًَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ُ ه َ ََُ َ َ ُ‬
‫ص ُّدوك ْم َع ِن امل ْس ِج ِد ال َح َر ِام َوال َه ْد َي َم ْعكوفا أ ْن َي ْبل َغ َم ِحل ُه َول ْوال‬‫تعالى { هم ال ِذين كفروا و‬
‫َ ٌ ُ ْ ُ َ َ َ ٌ ُ ْ َ ٌ َ ْ َ َْ ُ ُ ْ َ ْ َ َُ ُ ْ َ ُ َ ُ ْ ُْ ْ َ َ ه ٌ َْ ْ‬
‫ِرجال مؤ ِمنون و ِنساء مؤ ِمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فت ِصيبكم ِمنهم معرة ِبغي ِر ِعل ٍم‬
‫َ ً َ ً‬ ‫ُ ْ َ ه ُ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َهُ َ َ ه ْ َ ه َ َ‬
‫ين ك َف ُروا ِم ْن ُه ْم َعذابا أ ِليما } سورة‬ ‫ِليد ِخل َّللا ِفي رحم ِت ِه من يشاء لو تزيلوا لعذبنا ال ِذ‬
‫الفتح جزء من اآلية رقم ( ‪)25‬‬
‫قال الليث‪ " :‬ترك فتح حصن يقدر علي فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق ‪" .‬‬
‫وأكد ذلك اإلمام مالك بن أنس عليه رحمه هللا بقوله ‪" :‬عندما سئل عن قوم من‬
‫املشركين في البحر في مراكبهم وأخذوا أسارى املسلمين ‪ ،‬فأدركهم أهل اإلسالم ‪ .‬فأرادوا‬
‫أن يحرقوهم ومراكبهم بالنار ومعهم األسارى في مراكبهم ؟‬
‫فقال مالك ‪ :‬ال أرى أن تلقى عليهم النار ونهى عن ذلك واستدل باآلية السابقة وقال إنما‬
‫صرف النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬عن أهل مكة ملا كان فيهم من املسلمين ‪ .‬ولو تزيل‬
‫الكفار عن املسلمين لعذب الكفار ‪ .‬وهذا تأويله وهللا أعلم )‪13‬‬

‫‪2‬ـ جواز الكذب والترخيص فيه في بعض الحاالت والظروف التي تقتض ى ذلك‪ ،‬ونجد في‬
‫ذلك إشارة صريحة لدي علماء اإلسالم وفي أحاديث النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وذلك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫را }‪14‬‬ ‫بقوله ‪ {:‬ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خي‬

‫‪ - 13‬المغني البن قدامه المقدسى ج ‪ 13‬كتاب الجهاد فصل ( وإن تترسوا بمسلم ) ص ‪ 141‬دار‬
‫هجر للطباعة يتحقق د ‪ /‬عبد هللا عبد المحسن التركي د ‪ /‬عبد الفتاح الحلو (‪ )3‬المدونة الكبرى‬
‫لإلمام مالك بن أنس رواية اإلمام سحنون ج ‪ 3‬ص ‪ 48 , 47‬دار النصر للطباعة اإلسالمية‬
‫بالقاهرة تحقق السيد علي عبد الرحمن الهاشم ‪ /‬طبع علي نفقة الشيخ ‪ /‬زيد بن سلطان‬
‫‪ - 14‬صحيح مسلم ك البر باب تحريم الكذب‬
‫‪11‬‬
‫املحاضرة الرابعة‪ :‬املسؤولية بين اإلسالم والفلسفة‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬تعريف املسئولية في اللغة ‪:‬‬
‫املسئولية أصلها اسم مفعول من سأل‪ ،‬زيد عليه ياء مشددة وتاء مربوطة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتسمى هذه الصيغة مصدرا صناعيا‪،‬وهى مأخوذة من الفعل سأل ‪ .‬يسأل ‪ ..‬سؤاال‬
‫‪،‬واسم الفاعل‪ :‬سائل من سأل يسأل وسل‪،‬واسم املفعول منها مسئول‪،1‬وقد وردت مادة‬
‫سأل في لغة العرب على عدة معاني منها ‪:‬ـ‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َّ‬
‫‪ -1‬سأل بمعنى الطلب‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪ {:‬و َّات ُقوا َّللا الذي تساءلون به واْل أرحام إ َّن َّللا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كان عل أيك أم رقيبا } سورة النساء آية رقم ‪،1‬فأصله تتساءلون ‪ .‬ومعناه تطلبون حقوقكم‬
‫لسائلين } سورة فصلت آية‬ ‫به ‪،.‬ومنه قوله تعالى { وق َّدر فيها أ أقواتها في أ أربعة أ َّيام سو ًاء ل َّ‬
‫ٍ‬
‫رقم ‪10‬‬
‫‪ -2‬سأل بمعني دعاء ‪ .‬تأتي بمعني الدعاء‪،‬قال تعالى { سأل سائل } (املعارج‪ :‬من اآلية‪)1‬أي‬
‫دعاء داع قال الجوهري أي سأل من عذاب واقع‪.2‬‬
‫‪-3‬ويأتي السؤال بمعنى بيان الحجة واملؤاخذة ومنه قوله تعالى في القرآن الكريم‬
‫ُ‬
‫وه أم إ َّن ُه أم م أس ُؤولون) قال الزجاج سؤالهم سؤال توبيخ وتقرير إليجاب الحجة‬ ‫(وق ُف ُ‬
‫عليهم‪.‬‬
‫‪-4‬ويأتى السؤال بمعنى االستعطاء ‪.‬وقال بن برى‪ :‬سألته الش يء ‪.‬بمعنى استعتيطه‬
‫إياه‪.‬وسلته أسأله فهو مثل خفته أخافه فهو تخوف‪.3‬‬
‫أ ـ معنى السؤال في القرآن الكريم ‪:‬وتدور مادة سأل في القرآن الكريم حول عدة معاني ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫‪ -1‬الطلب وعرض الحاجة قال تعالى ‪ {:‬ي أسأ ُل ُه م أن في َّ‬
‫السماوات واْل أرض ك َّل ي أو ٍم ُهو في‬
‫أ‬
‫شأ ٍن } سورة الرحمن آية (‪ * )29‬يعنى يطلب من في السماوات واْلرض املغفرة‬
‫ُ‬
‫‪ -2‬املخاصمة واملجادلة ‪ .‬لقوله تعالى ‪ { :‬ع َّم يتساءلون } سورة النبأ آية رقم ‪ 1‬أي‬
‫يتخاصمون ‪.‬‬

‫المعجم الوسيط ‪ .‬مجمع اللغة العربية ‪ .‬إبراهيم أنيس دار المعارف مصر ولسان العرب بن‬ ‫‪-‬‬ ‫‪1‬‬

‫منظور ج‪،11‬دار صادر صـ ‪ . 318‬ومعجم مقاييس اللغة العربية البن فارس ج‪ 3‬صـ ‪،124‬‬
‫انظر النحو الوافي ‪ .‬عباس حسن ج‪ 3‬صـ ‪187‬‬
‫‪ - 2‬لسان العرب ‪.‬ج‪ . 11‬ص‪ . 318‬دار صادر‬
‫‪ - 3‬لسان العرب بن منظور ج‪ 11‬صـ ‪ 319‬دار صادر مادة السين المهملة‬
‫‪1‬‬
‫أُ‬ ‫َّ ُ‬
‫‪ -3‬املؤاخذة والحساب قال تعالى { فلن أسأل َّن الذين أ أرسل إل أيه أم ولن أسأل َّن امل أرسلين } سورة‬
‫اْلعراف آية رقم ‪6‬‬
‫ُ‬ ‫أ‬
‫اسألوا أ أهل الذكر إ أن ك أن ُت أم ال ت أعل ُمون} سورة اْلنبياء‬ ‫‪ -4‬االسترشاد ‪ .‬كقوله تعالى ‪ { :‬أ ف أ‬
‫آية رقم ‪7‬‬
‫أ‬
‫‪ -5‬السؤال واالستفتاء كقوله تعالى { ي أسألونك عن الخ أمر } سورة البقرة آية رقم ‪219‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -6‬املراجعة في الكالم واالعتراض { فال ت أسألن ما ل أيس لك به علم } سورة هود آية رقم‬
‫(‪4 )46‬‬

‫واملعنى اْلقرب إلي معنى املسئولية من هذه املعاني‪،‬السؤال بمعنى الطلب‬


‫والسؤال بمعنى املؤاخذة والحساب‪،‬فهما املعنيان اللذان يدالن على املسئولية واملجازاة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على نتيجة الفعل ‪ .‬واملحاسبة عليه إما خيرا وإما شرا ‪.‬‬
‫وقد تناول القرآن الكريم الحديث عن بعض القضايا التي لها عالقة مباشرة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫باملسئولية‪ ،‬وبإيضاح هذه القضايا تزداد املسئولية إيضاحا وبيانا ‪.‬‬
‫‪ -1‬وهذه القضايا يحس بنا أن نقف على معناها للوقوف على معنى املسئولية ‪ .‬وهذه‬
‫القضايا هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬الخالفة ‪ 2‬ـ التكليف ‪ 3‬ـ اْلمانة ‪4‬ـ العهد وامليثاق‬
‫وهذه القضايا إنما هي تثبت املسئولية عن طريقة اللزوم ‪ .‬ولقد وردت هذه القضايا في‬
‫مواضع كثيرة في القرآن الكريم نكتفي باإلشارة إلي كل واحدة منها بموضع في القرآن‬
‫الكريم ‪.‬‬
‫ً ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -1‬الخالفة ‪ :‬قال هللا تعالى‪ {:‬وإذ قال رُّبك للمالئكة إني جاعل في اْل أرض خليفة قالوا‬
‫س لك قال إني‬ ‫أت أجع ُل فيها م أن ُي أفس ُد فيها وي أسف ُك الدماء ون أح ُن ُنسب ُح بح أمدك و ُنقد ُ‬
‫ً‬
‫أ أعل ُم ما ال ت أعل ُمون } سورة البقرة آية رقم ‪ 30‬أي إني جاعل { أقواما يخلف بعضهم‬
‫ً‬
‫بعضا } ولقد أسند هللا تعالى إلي البشرية أمر الخالفة في اْلرض ‪.‬‬
‫فالخالفة ‪ (:‬بمعنى املستخلف عن هللا تعالى في تنفيذ أحكامه ‪.‬والقيام بما ألزمه هللا إياه)‬
‫من اْلحكام واْلوامر ‪ .‬ولقد أعطي هللا عز وجل هذا اإلنسان املستخلف ( من املقومات‬

‫انظر قاموس القرآن أو إصالح الوجوه والنظائر في القرآن ‪ .‬الحسين محمد الدامغاني ‪ .‬تحقيق‬ ‫‪-4‬‬

‫عبد العزيز سيد األهل ‪ .‬ط‪ 5‬سنة ‪ 1985‬دار العلم للمالين بيروت صـ ‪ 223‬صـ ‪224‬‬

‫‪2‬‬
‫ما تعينه على القيام بهمة الخالفة في اْلرض وأهم هذه املقومات االستطاعة البشرية ‪-‬‬
‫وهذه أولى املقومات والثانية أن اإلنسان أعطى القدرة على تسخير وتذليل ما في هذا‬
‫الكون من صعاب وقدرة املخلوق البشرى في السيطرة عليها)‪ 5‬ومادام اإلنسان‬
‫مستخلف في اْلرض إلنفاذ أحكام ربانية ألزمه هللا تعالى بها ‪ ..‬فالبد من وراء هذا اإللزام‬
‫مسئولية وهذه هي العالقة بين الخالفة واملسئولية فالخالفة إلزام واملسئولية نتيجة‬
‫لزومية أو حتمية ملوضوع الخالفة في اْلرض ‪.‬‬
‫ً َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫ف َّ ُ‬
‫َّللا ن أفسا إال ُو أسعها لها ما كسب أت وعل أيها ما‬ ‫‪ - 2‬التكليف ‪ :‬قال هللا تعالى ‪{:‬ال يكل‬
‫أ‬
‫اكتسب أت} سورة البقرة آية رقم ‪،286‬فاآلية فيها نص على تكليف العباد باْلوامر‬
‫واْلعمال التي في وسع املكلف ‪،‬وفي مقتض ى إداركه وبنيته‪ 6‬فالتكليف له شروط ‪ ..‬وهى‬
‫اْلصلية والقدرة أو االستطاعة وبناء على هذا التكليف والذي هو عبارة عن (خطاب‬
‫بأمر أو نهى )‪7‬‬

‫بناء على ذلك‬ ‫أو "طلب يتعلق بفعل أمر أو تركه أو تخير بين فعله وتركه ‪،‬فالتكليف ً‬
‫يشمل اإللزام الذي هو طلب فعل على طريق الحتم ‪.‬فيترتب على فعل الش يء املكلف به‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إما اإلثابة إن كان املكلف مطيعا وإما املعاقبة إن املكلف عاصيا‪ ،‬ويتضح بذلك أن‬
‫القرآن الكريم أوضح املسئولية من طريقة التكليف والذي هو أعم من اإللزام ‪ .‬أو‬
‫باْلحرى أن اإللزام ضرب من التكليف ‪ .‬فالعالقة بين التكليف واملسئولية عالقة لزومية‬
‫‪ .‬فإذا ثبت التكليف ثبت بالضرورة املسئولية ‪.‬‬
‫‪- 3‬اْلمانة ‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ضنا أاْلمانة على َّ‬
‫السماوات واْل أرض والجبال فأب أين أ أن ي أحملنها‬ ‫قال هللا تعالى ‪ { :‬إ َّنا عر أ‬
‫ً‬ ‫ُ ً‬
‫ان إ َّن ُه كان ظلوما ج ُهوال } سورة اْلحزاب آية رقم‬ ‫وأ أشف أقن م أنها وحملها أاْل أنس ُ‬
‫(‪،)72‬فواضح من اآلية القرآنية الكريمة أن اْلمانة والتي حملها اإلنسان إنما هي ش ئ‬

‫‪ - 5‬المسئولية األخالقية وأثرها في التربية اإلسالمية ط‪ 1‬سنة ‪ 2003‬أحمد بن حسين المجان‬


‫السعدي صـ ‪ 35‬دار االعتصام انظر في هذا المعني السابق ‪ .‬القضاء والقدر في اإلسالم‪ /‬د ‪.‬‬
‫فاروق الدسوقي ج‪ 1‬صـ ‪ 243‬دار الدعوة‬
‫‪ - 6‬الجامع ألحكام القرآن األمام القرطبي جـ‪ 3‬صـ‪429‬‬
‫‪ - 7‬انظر روضة الناظر البن قدامة ج‪ 1‬صـ ‪136‬‬
‫‪3‬‬
‫خصص به اإلنسان عن بقية املخلوقات العلوية والسفلية ‪ ،‬خصص بها عن املالئكة‬
‫وعن الجن ‪.‬عن السماوات واْلرض والجبال وهذا إشارة إلي من يسكن هذه اْلماكن ‪.‬‬
‫ولسنا هنا بصدد تحديد مفهوم اْلمانة‪،‬والتنازع حول ماهيتها إال أنه يكفينا ما‬
‫أشار به العلماء من تعريفات ‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫ُ أ‬
‫‪ - 4‬العهد وامليثاق قال هللا تعالى { وأ أوفوا بالع أهد إ َّن الع أهد كان م أس ُؤوال} سورة اإلسراء‬
‫ُّ أ‬ ‫َّ‬
‫آية رقم ‪،34‬وقال هللا تعالى ‪ {:‬ولق أد ك ُانوا عاه ُدوا َّللا م أن ق أب ُل ال ُيولون اْل أدبار وكان ع أه ُد‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫َّللا م أس ُؤوال } سورة اْلحزاب آية رقم (‪)15‬‬
‫وواضح من خالل التعبير القرآني الربط بين العهد واملسئولية بين طلب هللا عز‬
‫وجل من اإلنسان ومحاسبته اإلنسان على عمله تجاه عهد هللا وميثاقه‬
‫ب‪ -‬املسئولية في السنة النبوية‪:‬‬
‫وردت املسئولية في الحديث النبوي الشريف بمعنى الطلب وكذلك وردت بمعنى الحساب‬
‫‪ -1‬ورودها بمعنى الطلب ‪:‬قال ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ { -‬كلكم راع وكلكم مسئول عن‬
‫رعيته }‪8‬‬

‫ورودها بمعنى املحاسبة ‪:‬قال ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ { -‬لصاحب حائط من‬
‫ً‬
‫اْلنصار ‪ .‬أطعمنا بصرا ‪ ,‬فجاء بعذق فوضعه فأكل ‪ ,‬فأكل رسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬
‫بماء بارد فشرب فقال لتسألن عن هذا يوم القيامة قال فأخذ ُ‬
‫عمر‬ ‫‪ -‬وأصحابه ‪ .‬ثم دعا ً‬
‫العذق فضرب به اْلرض ‪,‬حتى تناثر اليسر قبل رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ثم‬
‫قال يا رسول هللا إننا ملسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال نعم إال من ثالث خرقة كف‬
‫بها عورته أو كسرة سد بها جوعته‪ ,‬أو حجر يتدخل فيه من الحر أو القر }‪9‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬تعريف املسئولية في االصطالح اإلسالمي ‪:‬‬
‫ً‬
‫تعريف املسئولية في التشريع الجنائي اإلسالمي‪.‬أورد علماء اإلسالم عددا من‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تعريف املسئولية نذكر أهمها ثم نختار تعريفا جامعا مانعا ‪ .‬فمن أهم هذه التعريفات‬
‫ما يأتي ‪:‬‬

‫‪ - 8‬صحيح مسلم عن عبد هللا بن عمر رض هللا عنها ‪ .‬كتاب اإلمارة باب فضيلة األمام العادل‬
‫ج‪ 3‬والحديث برقم‪1829‬‬
‫الحديث أخرجه األمام أحمد في المسند عن أبى عسيب رضي هللا عنه ج ‪ 5‬صـ ‪81‬‬ ‫‪-9‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ "-1‬هي تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية‬
‫اإليمانية والسلبية أمام هللا في الدرجة اْلولى ‪ ,‬وأمام املجتمع في الدرجة الثابتة ‪10‬‬

‫‪ -2‬ويعرفها فضيلة الدكتور محمد بيصار في إطارها العام بقوله ‪ ":‬حالة للمرء يكون فيها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صالحا للمؤاخذة على أعماله ملزما بتبعاتها املختلفة " ثم يعرض فضيلته بعد ذلك‬
‫التعريف العام ‪ .‬تعريفات وتقسيمات ْلنواع املسئوليات ‪ ,‬فلقد قسم املسئولية إلي عدة‬
‫أنواع ‪:‬‬
‫أ‪ -‬املسئولية الدينية ‪ :‬وهى التزام املرء بأوامر الدين ونواهيه‪ .‬وقبول ملا يترتب على‬
‫ً‬
‫مخالفتها ‪ ,‬بحيث يكون ملتزما بما ينتج عن هذه املخالفة من جزاءات محدودة وعقوبات‬
‫مقررة ‪ .‬ثم يذكر فضيلته بعد ذلك املسئولية االجتماعية بقوله‪:‬‬
‫ب‪ -‬املسئولية االجتماعية ‪ ( :‬وهى التزام املرء بقوانين املجتمع الذي يعيش فيه وبتقاليده‬
‫ونظمه ‪ ,‬سواء كانت وضعية أو أدبية ‪,‬وتقبله ملا ينتج عن مخالفته لها من محتويات‬
‫شرعها املجتمع للخارجين على نظمه ‪ ,‬أو تقاليده وآدابه ثم يذكر الدكتور بيصار بعد‬
‫ً‬
‫ذلك تعريفا للمسؤولية اْلخالقية بقوله ‪ ( :‬هي حالة تمنح اإلنسان من القدرة أمام نفسه‬
‫ما يعينه على تحمل تبعات أعمالها وآثارها ‪.‬‬
‫ثم يعلق فضيلته على مصدرية املسؤوليات الثالث السابقة بقوله ‪:‬‬
‫" مصدر النوع اْلول من املسئولية هو الدين بما جاء من مبادئ وما سن من أحكام أو‬
‫خط من تشريعات وكما أن مصدر النوع الثاني هو املجتمع بما أتفق عليه من نظم وبما‬
‫سار فيه من تقاليد وآداب فكذلك مصدر هذا النوع اْلخير من املسئولية وهو املسئولية‬
‫اْلخالقية ما أودع في اإلنسان من قوة فطرية تسمى الضمير ‪ .‬الذي يكون له من السلطان‬
‫ً‬
‫ورقيبا على الفعل ‪11" ...‬‬ ‫ً‬
‫ما يجعل منه مصدرا للمسئولية‬
‫وإننا من خالل التعريف اْلول نلحظ أنه تعريف عام للمسئولية ‪ .‬وأثبت في‬
‫التعريف اإللزام والذي يعتبر العنصر السابق للمسؤولية اْلول في املسألة اْلخالقية‪،‬‬
‫ً‬
‫وكذلك نلحظ من خالل التعريف أيضا اإلشارة إلي أنواع املسئولية في اإلسالم من حيث‬

‫‪ - 10‬االتجاه األخالقي في اإلسالم‪ .‬مقداد يالجن صـ ‪237‬‬


‫‪ - 11‬انظر العقيدة واألخالق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع ‪ .‬د‪ /‬محمد بيصار أستاذ الفلسفة وعلم‬
‫العقيدة جامعة األزهر ط‪ 4‬سنة ‪ 1973‬مكتبة األنجلو المصرية صـ ‪ 225‬صـ ‪226‬‬
‫‪5‬‬
‫الزمان ‪ ،‬مسئولية دنيوية ومسئولية أخروية أمام هللا وذلك في الدار اآلخرة ‪ ،‬و أمام‬
‫املجتمع ‪.‬‬
‫ومن خالل التعريف الثاني للدكتور محمد بيصار نالحظ اآلتي ‪:‬أ‪ -‬أنه أحدث‬
‫ً‬
‫نوعا من الفصل بين املسؤوليات الثالث من حيث مصدر كل مسئولية وهذا غير ممكن‬
‫في الشرع اإلسالمي فجميع املسئوليات في الشرع اإلسالمي إنما مصدرها هو الشارع‬
‫سبحانه وتعالى ‪،‬فليس للمجتمع حق مسائلة اْلفراد ‪ -‬إال بإيجاب هللا تعالى ذلك الحق‬
‫للمجتمع أو للحاكم أو الخليفة القائم بشئون اْلمة ‪ .‬فاملصدر هو الشارع سبحانه وتعالى‬
‫‪ .‬فهو مصدر كل املسئوليات الدينية واالجتماعية واْلخالقية والجنائية واملدنية وغيرها‪.‬‬

‫ً‬
‫ثانيا ‪ -‬املسئولية عند الفالسفة ‪:‬‬
‫لقد تحدث عنها كثير من الفالسفة بوجه عام ‪،‬فكل فيلسوف أقر بمبدأ اإللزام‬
‫‪ -‬على مصادره املتعددة ‪ -‬أقر بطريقة اللزوم باملسئولية ومن أنكر اإللزام جملة‪ ،‬أنكر‬
‫املسئولية كذلك جملة‪ ،‬وعلى حسب رأى كل فيلسوف في مصدر اإللزام كان عطاؤه في‬
‫ً‬
‫موضوع املسئولية‪ ،‬ومن هنا ندرك أن حديث الفالسفة عن املسئولية لم يكن حديثا‬
‫ً‬
‫موحدا‪ ،‬وعلى قدر اختالف الفالسفة وتباين آرائهم حول موضوع الحرية واإلرادة كذلك‬
‫كان حديثهم عن املسئولية ‪.‬‬
‫ويمكن أن نلخص سبب اختالف أراء الفالسفة في املسئولية إلي قرب كل فيلسوف أو‬
‫بعده من ‪:‬‬
‫‪ - 1‬اإلقرار بالربانية ‪ .‬كمصدر لإللزام أو بعده عنها ‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلقرار بحرية اإلنسان وقدرته على االختيار أم القول بجبريته ‪.‬‬
‫ونستطيع أن نذكر اتجاهات الفالسفة نحو موضوع املسئولية إلي ثالث اتجاهات ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(‪ )1‬اتجاه من الفالسفة ذهب أصحابه إلي القول بأن اإلنسان مسئول قانونيا واخالقيا‬
‫ومن أشهر هؤالء الفالسفة ‪ [ .‬جريمى بنتام ‪ .‬عماوئيل كانت (اْلملاني ) وبكاريا ]‬
‫(‪ )2‬االتجاه الثاني من الفالسفة ‪ :‬وهو الذي أقر باملسئولية الناتجة عن فعل الضرر‬
‫الالحق باآلخرين ولكنه ال يعترف باملسئولية اْلخالقية إذ يرى هذا الفريق أن اإلنسان‬
‫ً‬
‫مجبور وليس حرا‪ ،‬فهو مسير وليس مخيرا‪ ،‬وبناء على ذلك فال يسأل أخالقيا ‪0‬‬

‫‪6‬‬
‫فهم يعلنون بإحالل فكرة املسئولية القانونية أو االجتماعية محل املسئولية‬
‫ً‬
‫اْلخالقية ‪،‬فيخضعون املجرم رغم كونه مسيرا غير مختار للمسئولية الجنائية على‬
‫أساس أن املسئولية القانونية ليست وسيلة لتحقيق العدالة ‪ ...‬إنما هي مجرد وسيلة‬
‫ً‬
‫لدفاع املجتمع عن نفسه ضد خطر يهدده بوقوع جريمة أخرى ‪.‬مستقبال من نفس‬
‫املجرم أومن غيره‪12.‬‬
‫ً‬
‫وهذا االتجاه السابق ينكر املسئولية اْلخالقية وكذلك أيضا املسئولية اْلخروية‬
‫‪ ،‬فليست هناك مسئولية ربانية وإنما أنكر كذلك الدين وما أدى إليه من مسئوليات‪،‬‬
‫وعرف أنصار هذا االتجاه بأصحاب املدرسة الوضعية ولقد أشرنا لرأيهم عن مصدر‬ ‫ُ‬
‫اإللزام ‪0‬‬
‫‪ -3‬االتجاه الثالث ‪ :‬وهو اتجاه منبثق عن رأى الوضعيين ومتأثر بآراء أوجست كونت‪،‬‬
‫وأنصار املدرسة الوضعية‪ ،‬وأصحاب مدرسة العلوم االجتماعية؛ إال أن هذا الرأي‬
‫ً‬
‫حيال مسألة املسئولية كان أكثر تحررا من آراء أصحاب االتجاه السابقة ‪.‬وأصحاب هذا‬
‫ً‬
‫االتجاه انسلخوا من كل مسئولية ‪ ...‬وجعلوا اإلنسان حرا ؛إال أن هذه الحرية التي نادوا‬
‫بها إنما هي حرية مطلقة بغير قيود وال ضوابط ‪.‬‬
‫فأنكروا املسئولية الفردية واملسئولية االجتماعية والقانونية واملسئولية‬
‫اْلخروية ‪ ،‬فال واحدة من هذه املسئوليات ثابتة لديهم‪.‬‬

‫‪ - 12‬انظر كتاب حق الدولة في العقاب ‪ /‬د مصطفى عبد الفتاح الصيفي ‪-.‬ط‪ 2‬طبعة فريده ‪-.‬‬
‫دار النهضة العربية سنة ‪ 1985‬صـ ‪72 ، 71‬‬
‫‪7‬‬
‫املحاضرة الخامسة ‪ :‬الجزاء‬
‫لقد ألزم الشرع اإلسالمي كل إنسان بنتائج عمله وحاسبه عليها فجعل الثواب‬
‫ً‬
‫للطائعين والعقاب للمخالفين‪،‬ولو لم يفعل ذلك إذا لتساوى العاص ي والطائع ‪ ،‬والظالم‬
‫والعادل ‪ ،‬حينئذ يتساوى الخير والشر ‪ ،‬فإذا حدث ذلك ‪ :‬فقد اتسع الرقع على الراقع ‪،‬‬
‫وانخرم النظام ‪ ،‬وهلك العباد ‪ ,‬واستشرى الفساد ‪,‬وضاعت معالم األخالق الفاضلة ‪ ,‬إال‬
‫أن ذلك كله لم يكن ليحدث في ظل وجود العنصر املهم لصيانة الحياة بصورة أخالقية‬
‫نبيلة وهو الجزاء ‪ ،‬فهو أحد عناصر ثالثة تقوم عليها املسألة األخالقية اإللزام ‪،‬‬
‫املسئولية ‪ ،‬والجزاء ‪.‬‬
‫تعريف الجزاء‬
‫أ ـ تعريف الجزاء في اللغة ‪ :‬الجزاء مصدر ترجع مادته إلي الجيم والزاي والياء (جزى) (‬
‫وجزى الش يء جزاء كفي وأغنى والجزاء املكافأة على الش يء ‪،‬ذكره صاحب لسان العرب‬
‫اء وجازاه مجازاة وجزاء‪1‬‬ ‫وقال ‪ ...‬جزاه به وعليه به وعلية جز ً‬
‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قال أبو الهيثم ‪ " :‬الجزاء يكون ثوبا ويكون عقابا قال هللا تعالى ‪ {:‬قالوا ف َما َج َزاؤ ُه‬
‫َّ‬ ‫ُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِإ ْن ك ْن ُت ْم ك ِاذ ِب َين * قالوا َج َزاؤ ُه َم ْن ُو ِج َد ِفي َر ْح ِل ِه ف ُه َو َج َزاؤ ُه كذ ِل َك ن ْج ِزي الظ ِ ِامل َين}‬
‫يوسف‪،75:‬قال معناه ‪ :‬فما عقوبته إن بان كذبكم بأنه لم يسرق ‪ .‬أي ما عقوبة السرق‬
‫‪ :‬والجزاء القضاء وجزى هذا األمر أي قض ى )‪2‬‬

‫تقول تجازى دينه ويدينه تقاضاه ‪ .‬واجتزاه طلب منه الجزاء ‪ ...‬وجزى الش يء يجزى كفي‬
‫وعنه قض ى‪3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومن معاني الجزاء في اللغة ‪ :‬ما فيه الكفاية من املقابلة إن خيرا فخير وإن شرا فشر‪،4‬قال‬
‫ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫تعالى ‪ { :‬فل ُه َج َز ًاء ال ُح ْس َنى َو َس َن ُقو ُل ل ُه ِم ْن أ ْم ِرنا ُي ْسرا }الكهف ‪ " .88:‬وقال تعالى ‪َ { :‬و َج َز ُاء‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َّ‬
‫َّللا ِإ َّن ُه ال ُي ِح ُّب الظ ِ ِامل َين }الشورى‪،40:‬‬ ‫س ِيئ ٍة س ِيئة ِمثل َها ف َمن عفا وأصلح فأج ُره على ِ‬

‫‪ - 1‬معجم مقاييس اللغة البن فارس ‪ .‬تحقيق عبد السالم هارون ج‪ 1‬صـ ‪455‬‬
‫لسان العرب البن منظور د‪ 1‬دار المعارف مصر صـ ‪، 620 ، 619‬ـ ‪621‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪ - 3‬القاموس المحيط ‪/‬المطبعة الحسينية المصرية سنة ‪0 1330‬ج‪ 3‬صـ ‪312‬‬


‫معجم المصطلحات واأللفاظ الفقهية د‪ /‬محمود عبد الرحيم عبد المنعم ج‪ 1‬صـ ‪ 526‬دار‬ ‫‪-4‬‬

‫الفضيلة وانظر كذلك المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ‪ .‬صـ ‪ 122‬ج‪ 1‬سنة ‪1380‬‬
‫سنة ‪1960‬م‬
‫‪1‬‬
‫ومن خالل املعاني اللغوية السابقة‪ :‬نلمح تعدد داللة مفهوم الجزاء في اللغة العربية‬
‫ً‬
‫‪.‬فقد يكون واحدا من املعاني اآلتية ‪:‬‬
‫الجزاء بمعنى القضاء ‪ ،‬والجزاء بمعنى الكفاية والغناء ‪،‬واملعاني السابقة متقاربة‬
‫املدلول تعنى مقابلة ش ئ لش يء سابق إما على سبيل اإلحسان والثواب ‪ ,‬وإما على سبيل‬
‫اإلساءة والعقاب ‪ .‬وعلى ذلك ( فالجزاء أعم من العقوبة حيث يستعمل في الخير والشر‬
‫‪ ,‬والعقوبة خاصة باألخذ بالسوء‪5‬‬

‫ب ـ تعريف الجزاء في االصطالح ‪:‬‬


‫ً‬
‫أوال ‪ :‬تعريف الجزاء في الشريعة اإلسالمية ‪0‬‬
‫ً‬
‫لم يكن تعريف الجزاء في الشريعة اإلسالمية خارجا عن الداللة اللغوية السابقة التي‬
‫ذكرناها في معنى الجزاء ‪،‬فورد الجزاء في القرآن الكريم والسنة النبوية املطهرة باملعاني‬
‫اآلتية ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أ ‪-‬ورد الجزاء في القرآن الكريم بمعنى املكافأة قال تعالى ‪َ { :‬و َما ِأل َح ٍد ِع ْن َد ُه ِم ْن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز‬
‫}) سورة الليل اآليتان رقم ( ‪) 20 ، 19‬فالجزاء هنا بمعنى املكافأة‪.‬‬
‫ً‬
‫ورد لفظ الجزاء في السنة النبوية بمعنى املكافأة أيضا فقال صلى هللا عليه وسلم { المرأة‬
‫أرادت ذبح ناقة لها بعد أن قرت عليها من املشركين ( بئس ما جزيتها)‪6‬أى كافأتيها املكافأة‬
‫مقابلة الحسن بالحسن والس ئ بالس ئ ‪.‬‬
‫وورت آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية تدل على هذا املعنى ‪ .‬بل هذا املعنى {‬
‫املكافأة } وهو املعنى الذي دار حوله مفهوم الجزاء في أكثر آيات القرآن الكريم ‪ .‬وقد‬
‫تكون هذه املكافأة بمعنى اإلثابة على الخيرات أو العقوبة على فعل املنكرات والفواحش‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫ين أ ْح َس ُنوا ِبال ُح ْس َنى } سورة‬ ‫‪.‬وقال هللا تعالى { َليج ِزي ال ِذين أساءوا ِبما ع ِملوا ويج ِزي ال ِذ‬
‫النجم جزء من اآلية ‪31‬‬
‫َ‬ ‫ين ُي َحارُبو َن َّ َ‬ ‫وورد الجزاء بمعنى العقوبة في قوله تعالى { إ َّن َما َج َز ُاء َّالذ َ‬
‫َّللا َو َر ُسول ُه‬ ‫َ ِ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ً َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ ُ َ َّ َ ْ ْ َ ْ ُ ُ‬
‫الف أو‬ ‫ض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أي ِد ِيهم وأرجلهم ِمن ِخ ٍ‬ ‫ويسعون ِفي األر ِ‬

‫معجم مصطلحات واأللفاظ الفقهية د‪ /‬محمود عبد الرحيم عبد المنعم دار الفضيلة ج‪ 1‬صـ‬ ‫‪-5‬‬

‫‪526‬‬
‫‪ - 6‬سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين ك النذور باب النذر فيما ال يملك ج‪ 3‬صـ ‪239‬‬
‫والحديث برقم ‪3316‬‬
‫‪2‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ ْ َْ َ َ‬
‫الد ْن َيا َول ُه ْم ِفي اآل ِخ َر ِة َعذاب َع ِظيم } سورة املائدة جزء‬ ‫ض ذ ِل َك ل ُه ْم ِخ ْزي ِفي‬‫ينفوا ِمن األر ِ‬
‫من اآلية رقم ‪34‬‬
‫َ‬
‫َ َ َ ً‬
‫اال م َن ََّّللا َو َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫َّللا َع ِزيز َح ِكيم } سورة املائدة جزء‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك قوله تعالى { جز ًاء ِب َما كسبا نك ِ‬
‫من اآلية رقم ‪ 38‬قال ابن كثير ( آي مجازاة على صنيعها الس ئ في أخذهما أموال الناس‬
‫بأيديهم‪7‬‬

‫[ب]ورد كذلك الجزاء في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعنى الكفاية‪،‬قال هللا تعالى {‬
‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫َوذ ِل َك َج َز ُاء َم ْن ت َزكى } سورة طه جزء من اآلية رقم ‪ 76‬أي كفاية من طهر نفسه من‬
‫دنس الشرك‪. 8‬‬
‫ولقد ورد لفظ الجزاء في السنة النبوية بمعنى الكفاية فعن الحسين بن على رض ى هللا‬
‫عنهما أن رسول هللا صلي هللا عليه وسلم قال ‪ ( .‬يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم‬
‫أحدهم ‪ ,‬ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم"‪ 9‬أى يكفي ويغنى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫[ج] ورد الجزاء بمعنى القضاء قال هللا تعالى ( واتقوا يوما ال تجزى نفس عن نفس شيئا‬
‫) سورة البقرة جزء من اآلية رقم ‪ 48‬فمراد قولة تعالى ( ال تجزى نفس ) أى ال تقض ى وال‬
‫تؤدى‪ 10‬نفس ‪.‬‬
‫وفي السنة النبوية ورد هذا املعنى قال صلى هللا عليه وسلم ألبى برزة رض ى هللا‬
‫عنه حين أراد ان يضحى بالجذعة فقال ( اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك‪ 11‬واملعنى‬
‫تقض ى عنك وال تقض ي عن أحد بعدك‪.12‬‬
‫ونستطيع أن نجمل ما يفهم من التعريفات السابقة في التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬أنها تشتمل على اإلثابة ( املكافأة ) والعقوبة وال يختصر على العقوبة فقط‬

‫‪ - 7‬تفسير بن كثير ج‪ 2‬صـ ‪ 56‬بيروت‬


‫مفردات القرآن لألصفهاني صـ ‪ 100‬المكتبة التوفيقية‬ ‫‪-8‬‬

‫‪ - 9‬سنن أبو داود ك األدب باب ما جاء في رد الواحد علي الجماعة والحديث برقم ‪ 210‬وقال‬
‫األرناؤوط في جامع األصول ج‪ 6‬صـ ‪ ( 598‬إسناده حسن )‬
‫‪ - 10‬انظر تفسير وبيان مفردات القرآن للدكتور ‪ /‬محمد حسن الجمصي صـ‪7‬‬
‫‪ - 11‬رواه البخاري ك األضاحي باب سنة األضحية‬
‫‪ - 12‬النهاية في غريب الحديث البن األثير ج‪ 1‬صـ ‪270‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -2‬أن هذه املكافأة بنوعيها قد تكون في الدنيا من هللا عز وجل أومن أحد من الناس ممن‬
‫خولهم هللا عز وجل إقامة شرعه وحدوده‬
‫‪ -3‬أن الجزاء من هللا في الدنيا قد يكون بواحد من عدة أشياء ‪ .‬مثل تأنيب الضمير‬
‫والشعور بالفرح أو اإلساءة وكذلك ما يصيب اإلنسان من مصائب أو ينزل به من نوازل‬
‫ً‬
‫وابتالءات ‪ .‬وكذلك أيضا ما يظهره هللا تعالى من مدح وذم على السنة الخلق‪.‬‬
‫‪ -4‬أن الجزاء في اإلسالم عام وشامل ‪ ,‬دنيوي وأخروي ‪ ,‬واألخروي إنما يكون املجازى فيه‬
‫املحاسب هو هللا سبحانه وتعالى وحده ‪.‬وهذا تعريف عام للجزاء في اإلسالم ‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا الجزاء عند الفالسفة‬
‫أ‪ -‬الجزاء عند الفالسفة ‪:‬‬
‫‪ -1‬الجزاء عند الفالسفة القدامى ‪ .‬ذهب فالسفة اليونان أمثال سقراط أفالطون‬
‫وأرسطو إلي تقرير جزاء بعد املوت ‪ ,‬وكذلك جزاء وجدانى تحس به النفس البشرية‬
‫ً‬
‫فأشار أفالطون في آرائه إلي أهمية اعتقاد وقوع جزاء بعد املوت مبنيا أن الحياة األخرى‬
‫تظهر النفس العادلة في حلل من البهاء ‪ ,‬وتنير له طريق الحياة ‪.‬‬
‫وقد بلغت ثقته في العدل اإللهي والجزاء األخروى درجة من الجزم جعلتها قانونه في‬
‫األخالق ‪ ،‬إذا أنه يرى أنه البد أن يكون مصير النفوس الخيرة أحسن‪،‬وأن يكون مصير‬
‫النفوس الشريرة أسوأ‪...‬‬
‫وفي نهاية القول ندرك أن أفالطون كان يؤمن بالجزاء األخروي لكن هذا اإليمان‬
‫بالدار اآلخرة كان له شكل خاص ووضع معين ولم يرق إلي ملا أقره اإلسالم منذ بدء‬
‫ً‬
‫الخليفة في مسألة الدار اآلخرة إال أنه كان ابعد نظرا من غيره فكان يؤمن بالجزاء‬
‫الوجداني مع الجزاء األخروي وكذلك كان يعترف بالجزاء االجتماعي كمقوم للمجرم‬
‫ومثيب للمحسن‬
‫وعند أرسطو ‪:‬‬
‫اعتقد أرسطو أن املكافأة واجبة وأن سبيل بلوغ ثوابها بعد املوت هو عمل الخير وخدمة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القرابين ‪ ،‬ولم يكن أرسطو أحسن حظا وال أعمق فكرا من أستاذه أفالطون فقد كانت‬
‫العقيدة الوثنية التي يؤمن بها هؤالء الفالسفة ‪ -‬اليونانيون ‪-‬هي التي حددت ورسمت لهم‬
‫طريقهم الفكري‪...‬‬

‫‪4‬‬
‫ً‬
‫وهكذا نري أن مفهوم الدار اآلخرة واأللوهية عند فالسفة اليونان لم يكن متفقا‬
‫ً‬
‫تماما مع ما جاء به اإلسالم الحنيف من التوحيد الخالص ونفي الشركاء عن هللا تعالي ‪,‬‬
‫ً‬
‫وكذلك مفهوم الدار اآلخرة مغاير تماما في اإلسالم عنه في عقيدة اليونان‬
‫‪ -2‬الجزاء عند الفالسفة املحدثين ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم تكن نظرة املتأخرين من فالسفة أهدي سبيال وال أقوم طريقا من نظرة إخوانهم‬
‫ً‬
‫السابقين عليهم ‪ ,‬بل كانت نظرة أسوأ في حق الجانب األخالقي بل كانت نظرتهم هذه سببا‬
‫ً‬
‫مهما في اختفاء األخالق وضياعها من الساحة السلوكية ‪ ،‬فهي نظرة ال تبحث إال عن‬
‫اللذة وما يحققها ‪ :‬ولقد انقسم الفالسفة املحدثين في فكر هم عن الجزاء األخروي إلي‬
‫فريقين ‪.‬‬
‫‪-1‬الفريق األول‪:‬آمن فريق من الفالسفة بفكرة الجزاء األخروى وكان من هؤالء‬
‫الفالسفة‪،‬على سبيل املثال توما األكوينى ‪،‬وكذلك وليم جيمس‪.‬‬
‫‪ -2‬الفريق الثانى من الفالسفة املحدثين ‪ -‬فلقد ذهب كثير من الفالسفة املحدثين‬
‫واملعاصرين إلي إنكار الجزاء األخروى بوجه عام‪ ,‬ونظرتهم هذه إنما هي مبنية على عقيدة‬
‫ً‬
‫اللذة وتحقيق املنفعة العاجلة التي كثيرا ما لهثوا ورائها لتحقيقها ‪ ،‬فنتج عن ذلك عدم‬
‫إيمانهم بالدار اآلخرة ‪ ،‬وال بأي أمر غيبي ‪ ،‬ومن هؤالء الفالسفة علي سبيل املثال ( توماس‬
‫هوبز ) الفيلسوف ‪) 1676 - 1588( ،‬م وكذلك رواد املذهب النفعي أمثال جريمي بنتام‬
‫(‪ ) 1832 - 1748‬وجون استيورت مل ( ‪ ) 1873 - 1806‬وجيمس مل ( ‪) 1836 - 1773‬‬
‫وكذلك رواد املدرسة الوجودية املتحللة أمثال كارل ماركس الفيلسوف اليهودي‬
‫‪ ) 1883 - 1818‬وجان بول سارتر ‪، 1905‬وكذلك وليم جيمس الفيلسوف األمريكى‬
‫(‪ )1910-1843‬رائد الفلسفة البرجماتيه ‪.‬فإن هؤالء وغيرهم من التجربيين علقوا جزاء‬
‫الفعل الخلفي على ما يكافئه من منفعة أو مضرة ينالها الفاعل ‪ .‬ومعلوم أن هذا الفكر‬
‫ليس وليد العصر الحديث وإنما له جذور تاريخية ‪ ،‬فهو امتداد لفكر أبيهم األكبر أبيقور‬
‫ومالحدة اليونان ‪.‬‬
‫ويعود سبب عدم قول هؤالء الفالسفة بجزاء بعد املوت مع نشأتهم في مجتمعات‬
‫نصرانية تدين بالجزاء األخروي إلي الجفوة التي حدثت بينهم وبين الكنيسة ‪،‬مما حدا‬
‫بهم إلي مجانبة الوحى واالستناد على العقل والتجربة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وبهذا العرض املوجز نكون قد أتينا على أراء الفالسفة من قدامي ومحدثين حول رأيهم‬
‫في الجزاء األخروي بوجه عام ‪.‬‬
‫وباختصار ‪ :‬أقول مع الدكتور محمد عبد هللا دراز وهو الرائد في هذا امليدان ‪،‬وال‬
‫َ‬
‫يوجد من ك َتب في األخالق إال وهو عالة على الدكتور دراز رحمه هللا تعالى ‪:‬في رسالته التي‬
‫أعدها للدكتوراه ‪ :‬دستور األخالق في القرآن ص ‪ :285‬الجزاء هو رد فعل القانون على‬
‫موقف األشخاص الخاضعين لهذا القانون ‪ ،‬وقد رأينا أن القانون األخالقي مطلب ال‬
‫يقاوم ألنفسنا ‪،‬وفرض صارم لضميرنا الجماعي ‪ ،‬وهو في الوقت نفسه أمر مقدس‬
‫لضمير الفرد في أكمل صورة وأقدسها ‪،‬فمن هنا كان هذا الشكل املثلث للمسؤولية التي‬
‫ً‬
‫فرغنا منها في املحاضرات السابقة ‪ ،‬ومن هنا أيضا كان للجزاء ثالثة ميادين ‪ :‬الجزاء‬
‫األخالقي ‪،‬والجزاء القانوني ‪،‬والجزاء اإللهي ‪.‬‬

‫‪6‬‬

You might also like