Professional Documents
Culture Documents
الفكر السياسي اليساري بين الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت
الفكر السياسي اليساري بين الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت
الفكر السياسي اليساري بين الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت
الفصل :السادس
إعداد الطلبة:
إشراف: اللة فتيحة اإلدريسي كبيدى
الدكتور صديق الحطاب عبد المجيد فوزي
رشيد النويتي
رشيد بوعودة
صالح الدين اعبيدة
1
جيمسون ،استخدموا النظرية الماركسية لتحليل األشكال الثقافية واالقتصادية والسياسية واالجتماعية القديمة والراهنة
في إطار عالقتها باإلنتاج ،وفي تداخلها مع االقتصاد والتاريخ ،وأثرها ووظائفها داخل الحياة االجتماعية.
استخدم مصطلح الماركسية الغربية للمرة األولى من قبل الشيوعيين السوفييت لالنتقاص من العودة إلى
تبنيه من قبل العالمان لوكاش
أنواع محددة من الماركسية الهيغلية والنقدية في أوربا الغربية .لكنه سرعان ما تم ّ
وكورش وذلك باعتبارها أي أكثر استقاللية وذات بعد نقدي وعلمي.
فسر بيري أندرسن ،)Perry Anderson( 1976وهو مؤرخ ماركسي بريطاني ومؤسس مجلة New Left لقد ّ
Reviewالشهيرة ،التحول من التحليل االقتصادي والسياسي إلى النظرية الثقافية كأحد أعراض هزيمة الماركسية
الغربية بعد سحق الحركات الثورية األوربية في عشرينيات القرن الماضي وصعود الفاشية .بيد أن من ّ
ظرين من أمثال
لوكاتش ،بلوخ وبنجامين وأدورنو ،ونظ ار الهتمامهم العميق والملتزم بالظواهر االجتماعية والثقافية ،فقد جلبوا تلك
االهتمامات إلى الماركسية.
المطلب الثاني :الماركسية الغر بية واتجاهاتها الفكرية -لوكاش نموذجا :-
يعتبر جورج لوكاتش المؤسس الحقيقي لما يسمي بالماركسية الغربية ،حيث تميزت أفكاره من حيث المنهج
والممارسة عن الماركسية السوفيتية السائدة ،وتعتبر كتاباته في األدب والفن والمسرح بجانب أفكاره عن االنتاج
الثقافي والطبقات االجتماعية أهم المصادر التي اطلع عليها رواد المدرسة اإلنسانية من ثم تأثر بها الفكر األوروبي.
ظهرت أعمال لوكاتش إلى النور في فترة حياته لتؤثر بشكل واضح في بلورة منهجية متماسكة في مواجهة منظري
الرأسمالية ومفكريها.
ولد الفيلسوف جورج لوكاتش في بودابست ،عاصمة المجر عام ،1885واشتغل بالسياسة بجانب دراسته
للحقوق في بودابست وبرلين ،حيث حصل على الدكتوراه ثم أسس مع بعض زمالئه من الطالب مجموعة (تاليا)
المسرحية ،حيث بدأ في تلك الفترة اهتمامه بالفن واألدب والموسيقي ،ثم أصبح عضواً في حلقة غاليلو األدبية
والفكرية ،نشر مقاالته في الصحف المجرية الشهيرة آنذاك «غرب» و«القرن العرسين».
أصدر كتابه األول بعنوان «الروح واألشكال» الذي ظهرت فيه نظرته الفلسفية والجمالية من خالل دراسات
تناول فيها مجموعة من األدباء والشعراء والفنانين .انتقل للعيش في هايدلبرغ بين عامي ،1917 -1912وفي عام
1915التحق بالخدمة العسكرية غير المسلحة «خدمة ثابتة» ،ولكن أعفي منها عام ،1916ومنذ عام 1917
ساهم في نشاطات كل من حلقة األحد والمدرسة المستقلة للعلوم الفكرية .قد زادت الحرب العالمية األولى من كرهه
للرأسمالية ،فوجد طريق الخالص في الثورة ،إذ انتسب إلى الحزب الشيوعي المجري وصار مسؤوالً سياسياً في
2
الجيش األحمر .خالل فترة ما يسمى الجمهورية النيابية أو جمهورية المجالس في المجر .وبعد سقوط الجمهورية
سافر إلى فيينا ومارس من هناك عمله السياسي كعضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي المجري.
في عام 1926أشرف على معهد ماركس -أنجلز -لينين ثم عاد إلى وطنه عام ،1945فأصبح نائباً
في المجلس البلدي ،لكنه استقال من منصبه ليصبح أستاذاً في الجامعة ثم عضواً فخرياً ألكاديمية العلوم المجرية.
وفي تلك اآلونة دار في المجر ما يسمى جدل لوكاتش الذي تركزت مناقشاته حول نظرة جورج لوكاتش حول
الديمقراطية .وفي عام 1956عين وزي اًر للفنون الشعبية .كما اعتقله السوفييت بعد شيوع أفكاره النقدية ورؤيته
المجددة للماركسية ،ونفي إلى رومانيا ،ثم عاد إلى الوطن فلم يسمح له بنشر أعماله إال في الصحف الغربية.
-الوحدة الشاملة والتشيؤ:
كان غرض لوكاتش األساسي في مجمل كتاباته هو إعادة تأسيس وتطوير القاعدة الفلسفية للتوجه السياسي
اللينيني ،فقد صاحب رفضه لرؤية الماركسية األرثوذكسية للفن ،مراجعة لدور األحزاب العمالية في صياغة وعي
طبقاتها ،باعتبار التعبيرات الفنية في جملتها نتاج للقاعدة االقتصادية فقط ،أي أن الفن ما هو سوى نتاج الوضع
االقتصادي ،فبينما كان يدافع لوكاتش عن استقاللية االنتاج الثقافي كانت النتيجة التي توصل إليها في أبحاثه هو
أن في ظل الرأسمالية ،يتحول االنتاج الثقافي إلى الصناعي لترسيخ دعائم الرأسمالية ،مما زاد من تمسكه بالدفع
نحو مزيد من االستقاللية للعمل الفني عندما عمل وزيرا.
لم تكن فكرة البنية التحتية والفوقية هي الفكرة األهم في الماركسية حسب لوكاتش ،بل كان لفكرة عالقة
الجزء بالكل ،أي عالقة األجزاء بالوحدة الشاملة عالقة جدلية ،حيث تعطي التصورات التي يحملها الناس منظور
جزئيا للعالم ،وكل منظور جزئي يعطي صور محددة ومن جانب واحد ،ولكن الكل يحتوي على كافة التصورات
المحدودة عنه ،ولذلك فهو أسمى من أي منظور جزئي نظر إليه منفصال عن غيره ،وتتجاوز الجزئية فقط من خالل
النفي لألفكار الثقافية وإعادة بنائها وتوجيهها صوب تكوين الصورة العامة للوحدة للشاملة ،وهي فكرة هيجلية بامتياز.
وتسمى عملية ربط الجزء بالكل عملية "التوسط" وهي عملية خالقة لصوغ الوحدة .فعلى المستوي التحليلي يمثل
الوجود االجتماعي "الكل" وهو وحدة شاملة حيوية في تغير وتطور مستمر ،وال بد أن ينظر لكافة األحداث والوقائع
االجتماعية في إطار صلتها بماضي وحاضر ومستقبل الكل االجتماعي الذي يشكل أجزاءه.
إن منهج الوحدة الشاملة الذي يطلق عليه حسب ماركسية لوكاتش متجذر في الوضع الطبقي للطبقة
العاملة ،حيث يمكن من بني منهج الوحدة الشاملة وال يمكن انجاز الوحدة الشاملة إال من خالل العمال حيث أن
األوضاع األخرى تطرح علينا رؤى محدودة وجزئية ،ولذلك ال يجب أن تكون الماركسية ال باعتبارها وصفا علميا
محايدا وموضوعيا للعالم فقط ،بل كتعبير عن الوعي الفعلي للطبقة العاملة .ومع ذلك فهي ال تتطابق مع الوعي
3
الفعلي للطبقة العاملة كما هو قائم في زمان ومكان معينين ،فالطبقة العاملة في مجتمع ما قد تحمل وعيا زائفا نظ ار
لسوء فهم وضعيتهم ومطامحهم ،وهذا الوعي يوجه حزبا لدى قادته فهم واعي للوضع الحقيقي الذي تعيشه الطبقة
حتى يتسنى للوصول إلى الوعي الناضج .وبالضرورة تقود الطبقة العاملة طليعة من المثقفين من ذوي المعرفة
العلمية.
لقد انشغلت أعمال لوكاتش األولى بالفن واألدب ولكن مناقشاته في كتابة التاريخ والوعي الطبقي نظرت
إل ى الثقافة بمعناها الواسع ،فليست الروايات والمسرحيات مستمدة من الوضع الطبقي فحسب بل من سبل العيش
كذلك ،ومن هذا المنطلق بدأ في بلورة مفهوم التشيؤ فقام بإعادة فهم أعمال ماركس األولى حول مفهوم االغتراب
وهو مفهوم له أصوله في تحليل ماركس لمسألة "عبودية السلع" فأضاف لوكاتش مزيدا من فكر هيجل لعمل ماركس
الناضج .جادل ماركس بأن السمات الشخصية للناس في المجتمع الرأسمالي غير متصلة بأدوارهم في عملية
اإلنتاج ،حيث يعامل العمال ككم من قوى العمل التي تباع وتشتري وتخضع لعمليات ترشيد وتخصيص وتوزيع
المهام ،حتى تكون العالقات بين الناس تبدو عالقات ذات ثمن تربط السلع بالمال ،ويضيع معناها وطابعها اإلنساني
وتتشيأ ،فترى كاألشياء.
يؤمن لوكاتش بأن الفكر البرجوازي مقتصر بالضرورة على هذه المظاهر المتشيئة ،فهو يعتني بالظواهر
المنفصلة والمشابهة باألشياء كما يتضح في الفكر االقتصادي الكالسيكي للبرجوازية ،بينما الفكر البروليتاري حسب
لوكاش هو المؤهل لتجاوز التشيؤ بقيادة المفكرين ،فحين يفهم العمال كيف أصبحوا سلعة وكيف ينهض تحررهم
على تجاوز الظروف اإلنتاجية البرجوازية حينئذ يصلون لمعرفة ذاتية ترشدهم في ممارستهم الثورية.
تعتبر محاوالت لوكاتش مزيدا من إدماج البعد الهيجلي على الرؤية الماركسية ،فقد استند لوكاتش في ذلك
على أعمال ماركس في الفترة ما بين ،1845-1844مما أثار حفيظة الماركسيين السوفييت .فكانت أعمال لوكاتش
أهم المصادر األساسية لدراسة مدرسة فرانكفورت حول صناعة الثقافة والتشيؤ والنظرة األحادية للواقع.
-الرواية كملحمة برجوازية:
اعتبر لوكاتش الرواية األوروبية ملحمة بورجوازية عملت على عكس المجتمع األوروبي وفق تصوراتها
األيديولوجية ،حيث قام لوكاتش بتفريعات في نظرية الرواية على ما جاء به هيغل ،مستندا إلى النظرية المادية في
التحليل االجتماعي للطبقات عند ماركس ليخرج من كل ذلك بأطروحته المشهورة بأن الرواية ليست إال ملحمة
البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة الوروبية ،وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي
جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات األوروبية وانطالقا من تحليله في القرن التاسع عشر ،قدم لوكاتش تصنيفا
للرواية األوروبية ،موزع إلى ثالث أنواع قدمها تلميذه غولدمان كالتالي:
4
/1رواية "المثالية المجردة" ،تتميز بنشاط البطل بوعيه الضيق للغاية قياسا إلى تعقد العالم.
/2الرواية النفسية التي تنزع إلى تحليل الحياة الباطنية ،وتتميز بسلبية البطل وبوعيه الواسع إلى الحد الذي ال
يرضيه معه ما بمقدور عالم العرف أن يقدمه إليه.
/3الرواية التربوية المنتهية بانحصار ذاتي ال يشكل ال قبوال لعالم العرف وال تخليا عن سلم القيم الضمني رغم أنه
تنازل عن البحث اإلشكالي ،هذا االنحصار الذاتي يمكن تخصيصه " بالنضج الفحولي " لبطل الرواية.
أضاف لوكاتش تصنيفا الحقا جديدا وذلك عام 1920من خالل رواية تولستوي التي تنزع نحو الملحمية
وهذه اإلمكانيات المفتوحة أمام الرواية جعلته يعود لنفس الموضوع بعد فترة كبيرة من الزمن عن كتابة مؤلفه "نظرية
الرواية" ،وفي عام 1934حين كان مقيما في موسكو ،ألف دراسة جديدة أثارت جدال عنوانها" :تقرير حول الرواية".
إن األفكار التي قدمها لوكاتش في كتابه "نظرية الرواية" وكذا في كتابه اآلخر"التاريخ والوعي الطبقي"
سيأتي عالم االجتماع لوسيان غولدمان ويبني عليها مشروعه حول سوسيولوجية الرواية ومنهجيته النقدية "البنيوية
التكوينية".
-تحطيم العقل:
يعد كتاب «تحطيم العقل» ذروة مؤلفات لوكاتش وقد صدر في جزأين كبيرين ،كان األول حول بدايات ّ
الالعقالنية الحديثة من ِشلنغ إلى نيتشه ،والثاني حول الالعقالنية الحديثة من دلتاي إلى توينبي .تتراكب موضوعات
الكتاب ضمن خط السيرورة التاريخية من الردة اإلقطاعية أو نصف اإلقطاعية والرومانسية ضد الثورة الفرنسية إلى
الفاشية أي من النضال ضد الجدل المثالي وفكرة التقدم البرجوازية إلى النضال ضد الماركسية والثورة البروليتارية.
-الماركسية في مواجهة الوجودية:
دخل لوكاتش في مواجهة مع الفلسفة الوجودية كإطار كلي عام ،وحاور جان بول سارتر فيلسوف الوجودية
الفرنسية حول نقده للماركسية من الداخل .فقد جادل حول انعدام جوهر الوجودية التي تصل في منهجيتها دائما
بالنفي حيث أن اإلنسان وفقا للوجودية هو وجودة بينما ال تحدد الوجودية ما هو الوجود .يرى لوكاتش أن الوجودية
كاستمرار للفينومونولجيا ليست سوى تعبير عن حالة الفردية النيتشية التي تعكس أزمة اإلمبريالية .ومن ناحيته فهو
يرى اإلنسان ليس سوى نتاج الظروف الموضوعية مع امكانيته إلعادة خلق نفسه من خالل الوعي الحقيقي بالذات.1
1
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=424370
5
المبحث الثاني :النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
المطلب الول :السياق التاريخي لنشأة مدرسة فرانكفورت وأهم روادها:
تشكل مدرسة فرانكفورت انعطافا فكريا هاما في مسيرة الفكر األوربي الحديث ،كان لهذه المدرسة األثر
الكبير والفاعل في صياغة "نظرية نقدية" تتعامل مع السوسيولوجية والفلسفة والسياسة والثقافة كأبعاد متداخلة
ومتشابكة في عملية تكوين ودراسة النظريات االجتماعية ،واألفاق المعرفية والحضارية التي رافقت التطورات
والتحوالت التي شهدها المجمع األوربي في ميادين االقتصاد والسياسة ،إضافة إلى بروز "النظام الرأسمالي" كعامل
حاسم في ترك أثاره في الفلسفة وعلم االجتماع .فأين تأسست مدرسة فرانكفورت؟ ومتى كان هذا التأسيس؟ وما هي
الخلفية الفكرية لهذه المدرسة؟ وما هي أسسها الجوهرية؟
أوال :نشأة مدرسة فرانكفورت:
حصلت مدرسة فرانكفورت على طابعها المؤسسي عبر تأسيس (معهد البحوث االجتماعية) في عشرينات
القرن الماضي ،حيث وضعت الحلقة الدراسية األولى للعمل الماركسي سنة 1922لبنات التفكير في أسباب أزمة
الفكر الماركسي وإخفاق ثورة 1918في ألمانيا .جمعت ثلة من المفكرين أبرزهم رجل األعمال" فليكس فايل"
واالقتصادي فريديريك بلوك والمفكر الماركسي جورج لوكاش ،حيث كانت معهم اإلرهاصات التي دفعت بعض
المشاركين في تلك الحلقات للتفكير جديا في تأسيس "معهد األبحاث االجتماعية".
تأسس معهد األبحاث االجتماعية رسميا في 3فبراير 1923بجامعة غوته بمدينة فرانكفورت بألمانيا.2
توخى المعهد في البداية احتضان األبحاث النظرية االشتراكية التي أقفلت الجامعة األلمانية األبواب في وجهها،
كان يضم جملة من المثقفين الذين لم يتبنوا أطروحات والذين يحدوهم العزم لبلورة فحص عميق "ألسس النظرية
النقدية".3
تولى اإلشراف على المعهد في البداية أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة فيينا كارل غرونبر ،وفي
عام 1931تم تنصيب يوركهايمر رئيسا للمعهد وتعيين تيودور أدورنوا أستاذا مساعدا له ،وبتعاون يوركهايمر
وادورنوا لمع اسم النظرية النقدية بحيث لم يعد االهتمام منصب فقط على نقد االقتصاد السياسي كأداة تحليل للمجتمع
الرأسمالي كما كانت ترى الماركسية .بل اعتمدت مقاربة تركيبية تقوم على ربط الفلسفة بالعلوم االجتماعية
واإلنسانية.4
2
-PAUL LARANT ASSOUN : L’ECOLE DE FRANCFORT -;- 2 EDITION : 1990. PARIS : P 5
- 3حسن مصدق :يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ،الطبعة األولى سنة :2005ص27
- 4حسن مصدق :مرجع سابق :ص 28
6
بعد سيطرة النازية في ألمانيا وصعود هتلر إلى الحكم عام 1933اضطر يوركهايمر وزمالءه للهروب إلى
سويس ار وفرنسا وبريطانيا ومن ثم إلى الواليات المتحدة األمريكية .وفي الوقت الذي صدرت فيه األوامر بإغالق
المعهد ومصادرة مكتبته القيمة ،أسس يوركهايمر وزمالؤه فروعا أخرى للمعهد في كل من باريس ولندن ثم في
جامعة كولومبيا .غير أن الوضع السياسي في أمريكيا جعلهم يتجنبون استخدام المفاهيم الراديكالية بسبب فقدانهم
الثقة في الطبقة العاملة في أوروبا وأمريكا .تطورت النظرية النقدية في المنفى إلى فلسفة للتاريخ والمجتمع ،مثلما
كان ذلك في عصر التنوير ،5في هذه الفترة قدم الرواد األوائل أهم أعمالهم إذ أصدر هوركهايمر عددا من الكتب
من قبيل "السلطة والعائلة" و"كسوف العقل".
في سنة 1950وبعد الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية في ألمانيا عاد بعض الرواد إلى فرانكفورت في
مقدمتهم يوركهايمر وذلك من أجل إكمال العمل الذي سبق الهروب من ألمانيا ،لتنطلق المرحلة الثانية في تاريخ
المدرسة والتي يعتبر أهم ممثليها يورغن هابرماس ( )1929والذي اعتبر الوريث الشرعي لتركة مدرسة فرانكفورت.
تمثلت مدرسة فرانكفورت باتجاهات فلسفية واجتماعية مختلفة يمكننا ايجازها بما يلي:6
1ـ اتجاه يوركهايمر وأدورنو الذي مثل المنهج النقدي الجدلي الذي يهدف إلى توحيد النظرية بالممارسة العملية
وتقديم نظرية نقدية للمجتمع تستطيع الوقوف أمام فكرة التسلط والعنف وتسعى إلى جعل الفكر النقدي ليبراليا وغير
ليبرالي في الوقت ذاته ،وأن ال تخجل من الصراع االجتماعي الواقعي وأن ال تبخل عن أية مهادنة ،مع أية سلطة،
ما دامت تهدف إلى االستقاللية وإلى تحقيق سلطة االنسان على حياته الذاتية ،مثلما هي على الطبيعة.
2ـ اتجاه هربرت ماركيوز ( ،)1984-1898الذي تمثل في رفض المجتمع القمعي القائم والثورة عليه من خالل
تأكيده على الدور الحاسم والثوري للعقل في حياة االنسان وعدم النظر إلى المجتمع من رؤية ذات بعد واحد.
3ـ االتجاه النفسي ـ التحليلي الذي يمثل آراء إريك فروم والفرويديين الجدد ،وهو اتجاه يقوم على مقدمات ماركسية
في التحليل النفسي.
5
-PAUL LARANT ASSOUN : op. Cit : P 7
6
-
https://www.marefa.org/%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9_%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%83%D9
%81%D9%88%D8%B1%D8%AA#cite_note-Haidari-2
7
4ـ اتجاه يورگن هابرماس ) (1929وهو اتجاه فلسفي انثروبولوجي يؤكد على دراسة الرأسمالية المتأخرة كمجتمع
صناعي عقالني ذي إيديولوجية تكنوقراطية ،كما صاغها في نظريته "السلوك التواصلي".
اتخذت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في مسارها الطويل اتجاهات مختلفة ،بسبب الخلفيات االجتماعية
لروادها من جهة واهتماماتهم المختلفة التي ارتبطت بأفكار عصر التنوير ،من مثالية كانت وهيجل إلى تأويلية ماكس
ڤيبر وفينومينولوجية .ومع ذلك فإن هناك ما يجمع بين روادها ،مع اختالف اتجاهاتهم ،وهو نقدهم للمجتمع الصناعي
الشمولي وما يفرزه من تناقضات ،وخاصة في ثقافة البرجوازية.7
يمثل فكر مدرسة فرانكفورت مجاال لتقاطع العديد من المباحث العلمية والفلسفية مثل علم االجتماع
واألنتروبولوجيا والفلسفة السياسية .والمتفحص للخطاب النقدي المعاصر يلمس األهمية التي أصبح يحظى بها
البحث في الدراسات الفلسفية والسوسيولوجية.
إن ميالد مدرسة فرانكفورت لم يكن وليد الصدفة ،بل جاء كاستجابة للتعقيدات التي يعرفها العالم المعاصر،
فرغم انقضاء قرابة القرن على تأسيس مدرسة فرانكفورت ،فإنها التزال تمثل نموذجا فلسفيا قاد ار على استيعاب
إشكالية الثقافة والسياسة في المجتمع المعاصر ،وقد رسخت مدرسة فرانكفورت دعائمها في الفلسفة المعاصرة من
خالل أمرين هما إنشاء نظرية نقدية جديدة لإلنسان والعالم من ناحية ،وإرساء منهج تحليلي قادر على استيعاب
المشكالت والصعوبات االجتماعية ،فمن أجل وضع نظرية نقدية للمجتمع تستطيع استيعاب المشكالت والصعوبات
االجتماعية ،قام رواد المدرسة بإعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي ،انطالقا من العودة إلى كانط وتحيين فلسفته،
والمرور إلى هيجل والوقوف على منطقه الجدلي ،وصوال إلى ماركس وراديكاليته ،وماكس فيبر وعقالنيته ،ومحاولة
إعادة قراءة فكر كل منهما والعمل على استيعاب أفكارهم في نظرية جامعة لكل هذه األفكار ،والتي أطلقوا عليها
اسم النظرية النقدية التي جاءت كتجاوز للنظريات التقليدية.8
ال يمكن فهم النظرية النقدية اال من خالل اإلحاطة باألسس الجوهرية لفكر مدرسة فرانكفورت ،فما يميز
هذه المدرسة عن باقي المدارس األخرى هو عدم اقتصارها على المرجعية الفلسفية أو السوسيولوجية فقط ،فقد
تشربت هذه المدرسة من ينابيع العلوم اإلنسانية ،من الفلسفة "كانط ،هيجل "...وعلم االجتماع "كارل ماركس وماكس
- 7ابراهيم الحيدري (" .)24-08-2000مدرسة فرانكفورت ..تأسيس نظرية نقدية للمجتمع" .جريدة الشرق األوسط.
8
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=424370
8
فيبر وأوغست كونت "....وعلم النفس"فرويد وجان بياجي "...والعلوم اللغوية "اوستين ،"...لكن لخصوصية الموضوع
لن نتكلم إال عن األسس الفلسفية "األلمانية بالخصوص" والسوسيولوجية.
أ -السس الفلسفية:
يبدو أن مدرسة فرانكفورت أو ما يعرف بالنظرية النقدية اتخذت من النقد أساسا لها ،والنقد هو تقليد ألماني
قديم وقد تبدى جليا خاصة مع كانط ومن بعده هيجل وأتباعه الشباب من بعده ،ليصل إلى مدرسة فرانكفورت ،حيث
تكونت انطالقا من نقد مفكرين ونصوص فلسفية أخرى ألنه بدون استلهام للماضي ومحاورة الحاضر ال يمكن اتخاذ
أية مسافة نقدية كيفما كانت داللتها ومقاصدها ،ويرجع العديد من المهتمين بالنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أن
النقد الكانطي يعتبر مرجعا أساسيا اعتمد عليه أصحاب النظرية النقدية وخاصة في كتبه الرئيسية الثالثة ،نقد العقل
الخالص ( )1781ونقد العقل العملي( )1788وكتاب نقد ملكة الحكم (.)1790
حاول بعض مفكري النظرية النقدية نحت منحى توفيقيا بين الفلسفة الكانطية والمادية الجدلية (السيما في
بعديهما المتعالي كما يقول ماركيوز) .9وانطالقا من القيمة التي أسستها كانط في التاريخ الحديث للفلسفة الكالسيكية
األلمانية ،يسعى فالسفة فرانكفورت إلى تقديم النظرية النقدية التي يجتهدون في بنائها وتوضيحها كوريث شرعي
للعقالنية الكالسيكية منذ.
إذا كان هناك اختالف بين الباحثين حول ما إذا كانت فلسفة كانط تمثل إحدى الخلفيات الفلسفية لمدرسة
فرانكفورت ،فهناك إجماع على أن فلسفة هيجل تمثل مرجعا أساسيا لها وقد تبين ذلك بوضوح في كتابات هربرت
ماركيوز خاصة في كتابه العقل والثورة .فإذا كان كانط قد أقام فلسفته النقدية لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة عن
المعرفة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى وقوع العقل في التناقض ،فإن هيجل جعل من التناقض جوه ار لفلسفته ومنهجه
الجدلي.10
قام هيجل من خالل منطقه الجدلي ،بإدخال العقل في الوعي وفي الطبيعة ثم تجلى في التاريخ ،وأصبح
هو جوهر التاريخ ومحركه ،بل أصبحت العملية المعرفية نفسها تنمو في مراحل متعددة ،كما قام هيجل بمهاجمة
المعرفة العقلية الخالصة التي فصلت الفكر عن الوجود ،كما هاجم الفلسفة التجريبية الخالصة التي أغفلت السمات
العقلية للواقع.
- 9محمد نور الدين أفاية :الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس ،إفريقيا الشرق ،الطبعة الثانية المغرب :1998ص 22
- 10هربرت ماركيوز :العقل والثورة هيغل ونشأة النظرية االجتماعية ،ترجمة فؤاد زكرياء ،الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر :1970 ،ص248
9
ُيعتبر هيجل حسب منظري مدرسة فرانكفورت هو رائد الفلسفة االجتماعية نظ ار ألنه خلص الفلسفة من
القيود الشخصية المفردة ،حين ألقى بالوعي في تجربة جماعية وكونية تخوضها الروح منذ اللحظة األولى التي
انفصلت فيها عن الطبيعة ،وتظهر هذه التجربة في الدين والفن والسياسة وتجد في الفلسفة تعبيراتها المفهومية.
انقسمت المدرسة الهيجلية بعد وفاته إلى جناح يميني وجناح يساري ،وقد تمسك الجناح اليميني باالتجاه
المحافظ في مذهب هيجل ووسعه ،أما الجناح اليساري فقد طور االتجاهات النقدية عند هيجل بادئا هذا التطوير
بتفسير تاريخي للدين ،وقد دخلت هذه الجماعة األخيرة في نزاع اجتماعي وسياسي متزايد الحدة مع عهد عودة
الملكية ،وانتهى أمرها إما إلى االشتراكية والفوضوية الكاملة وإما إلى الليبرالية التي تحمل طابع البرجوازية
َ
11
المصغرة .
تعارضت معايير هيجل النقدية وجدله بوجه خاص ،مع الواقع االجتماعي السائد ،ولهذا السبب كان من
الممكن أن يسمى مذهبه بحق فلسفة سلبية ،وهو االسم الذي أطلقه خصومه المعاصرون له ،وقد ظهرت في العقد
التالي بعد وفاة هيجل فلسفة إيجابية/وضعية ترمي إلى إزالة تأثير اتجاهاته الهدامة ،وأخذت هذه الفلسفة على عاتقها
أن تخضع العقل لسلطة الواقع ،وأن الصراع الذي حدث بعد ذلك بين الفلسفة السلبية والوضعية ،ليقدم مفاتيح متعددة
تساعد على فهم نشأة النظرية االجتماعية الحديثة في أوروبا.12
ب -السس السوسيولوجية:
-التأثير الماركسي :من المعروف أن منظري مدرسة فرانكفورت تأثروا بالماركسية حتى اعتبر البعض أن هذه
المدرسة ليست إال فرعا من فروع الماركسية ،لكن أصحاب النظرية النقدية وإن تبنوا الماركسية كمبدأ أو كمنهج
فإنهم لم يلتزموا بها كليا ولم يتشبثوا بمقوالتها المتمركزة حول نقد النظام االقتصادي والرأسمالي وحول األيديولوجيا
بصفة عامة ،بل تركزت ماركسيتهم على نقد االغتراب واألسباب الكامنة و ارءه في المجتمعات الصناعية القائمة
على الكليانية والمعقولية التقنية والبيروقراطية التي ادعت التقدمية وتباهت بالهيمنة على الطبيعة وعلى اإلنسان في
العالم الشيوعي والرأسمالي.
لم يكن المصدر األساسي لهذا النقد هو النظرية النقدية برمتها وال االرتباط بالطبقة العاملة بقدر ما كان
التأثر بماركس الشاب خاصة في كتاباته األولى وتحديدا في مخطوطات ،1844فقد وجدوا في أرائه تأكيدا الغتراب
لعية" ـ
الس ّ
"وثنيتها ّ
اإلنسان وعرفوا أن نقدهم لها ال ينبغي أن يقتصر على اإلصالح االقتصادي والسياسي وعلى ّ
وعقالنيتها المزعومة التي تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة.
ّ حسب تعبير المفكر الماركسي لوكاش ـ
وهذا ما حاول القيام به كل من أدورنوا ويوركهايمر في كتابهما المشترك "جدل العقل" .انطلق هابرماس من فكرة أن
10
الماركسية تحتوي على قدرة نقدية هائلة لكل ما هو عام وشامل ،وقد طرح في نفس الوقت مشروع إعادة "توجيه
الماركسية" .13فإذا كان ماركس قد قلب الجدل الهيجلي على رأسه وجعله يسير على قدميه كما يقال فإن هابرماس
هو أيضا ـ كما يقال ـ قد قلب الماركسية على رأسها لتسير على قدميها وذلك استنادا على عقالنية ماكس فيبر.
رغم المكانة التي تحظى بها الماركسية في مدرسة فرانكفورت ،فإنها لم تسلم من نقدهم لها وخاصة الماركسية
التقليدية والستالينية الدوغمائية ،فقد اعتبر رواد المدرسة أن الماركسية لم تعد تواكب التغيرات التي تحدث في العالم
الرأسمالي ،وأن الرهان على الطبقة العاملة في القيام بالثورات أصبح شبه مستحيل في مجتمع استطاع احتواء هذه
الشريحة الواسعة ،ليراهنوا على فئات أخرى من قبيل الطالب واألقليات العرقية كاستراتيجية للتغير ،وهذا ما تبين
في أحداث 1968في فرنسا ورفض الطالب األمريكيين الحرب على الفيتنام.
-التأثير الفيبري :تعتبر كتابات ماكس فيبر حول العقالنية من إحدى المرجعيات األساسية لمدرسة فرانكفورت،
وقد ظهرت بوضوح في كتابات ماركيوز وخاصة في كتابه اإلنسان ذو البعد الواحد ،وباألخص في حديثه عن
منطق الهيمنة ،وهو المفهوم األساسي الذي أضحى مبدأ جوهريا ممي از لمدرسة فرانكفورت في أوج ازدهارها ،وهو
أن السيطرة على الطبيعة من خالل العلم والتكنولوجيا تنشئ بالضرورة شكال جديدا من التسلط على البشر.14
يمكن أن ندرج وجهين رئيسيين للتشابه بين مدرسة فرانكفورت وكتابات فيبر:
الوجه الول :هو أن العقالنية التقنية أو الترشيد قد تم تصورهما كقوى مجردة تشكل مجتمعا يقع خارج نطاق التحكم
البشري ،حيث أن المنطق الداخلي للنظام الذي خلقه العلم واإلدارة العقالنية يقوم بهذا العمل على نحو ما من وراء
ظهر األفراد أو الجماعات االجتماعية المعينة وأنه يقوم بهذا العمل أيا كان الشكل الظاهري للمجتمع ،أي بصرف
النظر عما إذا كان المجتمع رأسماليا أو اشتراكيا شموليا أو ديمقراطيا ،وبهذا المعنى ،يتم إحالل مفهوم "المجتمع
الصناعي" محل "المجتمع الرأسمالي" .فماركيوز قد برهن على مقوالت فيبر بقوله ( ...ليس تطبيق التكنولوجيا
فحسب ،بل التكنولوجيا نفسها ،هي التي تمثل تسلطا على الطبيعة واإلنسان بطريقة منهجية علمية ومحسوبة وماكرة،
وأ ن األهداف والمصالح المحددة لهذا التسلط ال يتم دسها على التكنولوجيا فيما بعد ومن الخارج ،وإنما هذا يدخل
في تصميم بناء الجهاز التقني).15
الوجه الثاني :يمكن العثور على وجه التشابه في النزعة التشاؤمية الكئيبة التي تنشأ من تفسيرهما للمجتمع الصناعي
الحديث ،فإذا كان فيبر ليبراليا يائسا على حد تعبير توم بوتومورـ فإن مفكري مدرسة فرانكفورت و"ماركيوز
بالخصوص" يمكن وصفهم بأنهم "راديكاليون يائسون" ـ حسب بوتومور ـ فمنظري فرانكفورت وماكس فير يرون أن
- 13توم بوتومور :مدرسة فرانكفورت ،ترجمة سعد هجرس ،دار أويا ،طرابلس ،ليبيا : 1998 ،ص 78
- 14المرجع السابق :ص 79
- 15المرجع السابق :ص 80
11
التوسع األكثر أو األقل قسوة للترشيد والعقلنة يعني أن المجتمع سيصبح عرضة للتسلط من جانب عالقات اجتماعية
ذرائعية محضة ،وسيصبح "قفصا حديديا" ودولة "للتحجر اآللي" تختنق فيه اإلبداعية الفردية والقيم الشخصية.16
إن تشاؤمية ماركيوز ،ويوركهايمر فيما يخص مصير الفرد ،هي من نفس تشاؤمية فيبر ،فالعقالنية التقنية،
أي العقل الذرائعي ،هو الذي يسود الحياة االجتماعية وإن بقيت قوى قليلة تعارضها ،وهذا ما يخلص إليه ماركيوز
في كتابه "اإلنسان ذو البعد الواحد".
إذا كان الرواد األوائل لمدرسة فرانكفورت قد اعتمدوا على كتابات ماكس فيبر وكارل ماكس ...فإن هابرماس
كأحد رواد الجيل الثاني من المدرسة لم يكتف بكتابات ماكس وماركس ،بل انفتح على كتابات سوسيولوجيين آخرين
من قبيل هربرت ميد وإيمل دوركهايم .حسب هابرماس فإن مفهوم التواصل بوصفه نظرية علمية قد بدأ مع
السوسيولوجي هربرت ميد في نظريته المرتبطة بالتفاعل الرمزي ،إذ دافع هابرماس عن فكرة أن التواصل هو المبدأ
المؤسس للمجتمع ،أما فيما يما يخص دوركهايم فيتجلى فكره بوضوح في كتابات هابرماس حول كيفية دمج الفرد
في مجتمع طغت فيه القيم الفردانية ،ويظهر ذلك في حديث هابرماس عن الفضاء العام وكيفية تحقيق الديمقراطية،
ففي كتابه "نظرية الفعل التواصلي" يخصص فصال مطوال للحديث عن دوركهايم وميد ،ويقول هابرماس (إن تحول
البراديغم الذي انتقل من الفعل الغائي إلى الفعل التواصلي بدأ مع ميد ودوركهايم ،فماكس فيبر وإميل دوركهايم
وهربرت ميد ،ينتمون إلى جيل المؤسسين للسوسيولوجيا الحديثة).
وجه الرعيل األول لمدرسة فرانكفورت انتقاداته الحادة إلى النزعة العلمية المفرطة وأنساقها التي تحولت إلى
أيديولوجيات تستند إلى يقين معرفي ومعتقدات إيمانية فكلها في نظرهم قد غدت أنظمة معرفية مغلقة تعتمد أشكاال
تنظيمية جد مقننة للحياة االجتماعية ،من خالل إسقاط آليات فهم الظواهر الطبيعية على الظواهر االجتماعية
بمعنى أنها أصبحت أيديولوجيات شمولية تنظم عالقات اإلنسان باإلنسان واإلنسان باألشياء ،مما حدا برواد مدرسة
فرانكفورت إلى رصد تحول العقالنية كأيديولوجيات ،ومحاولة الكشف عن مكامن التسلط فيها ومحاربة نزعتها
الوثوقية.17
اعتمادا على إرث النظرية النقدية واستكماال لمشروعها ،واستنادا إلى التطورات االقتصادية التي عرفها
المجتمع الغربي الحديث ،وجه "هابرماس" انتقاداته أيضا لكل من النزعتين "الوضعية والتجريبية" انطالقا من كون
- 16محمد األشهب :الفلسفة والسياسة عند هابرماس ،مطبعة النجاح الجديدة ،الدار البيضاء ،المغرب :2006ص17
- 17حسن مصدق :مرجع سابق :ص 35
12
المهمة الفلسفية تقتضي ذلك ،لكشف الوهم اإليديولوجي الكامن من وراء النزعتين معا ،ألنهما يمثالن وجهين لعملة
واحدة.
إن المعرفة العلمية التي سخرت لفهم الطبيعة والتحكم فيها تم استخدامها أيضا للتحكم في اإلنسان ،بمعنى
أن منطق النظم الذي تصوره اإلنسان للسيطرة على الطبيعة ،تم نقله بالكامل للتحكم باألفراد والجماعة ،وهذا ما
يت بادر إلى أذهاننا عند فحص مختلف التنظيمات القانونية واإلدارية ،وأشكال الترشيد والضبط والتقنين والعقلنة
لمختلف جوانب الحياة في العالم المعاصر ،فكل هذه اآلليات تعمل وفق نظمها ومنطقها الداخلي وتكرارها إنتاج
مجتمع طبقا لمقاسات ومواصفات معينة ،لكن مدرسة فرانكفورت ترفض أي تناظر أو تماثل تجريبي قد يعقد بين
الظواهر الطبيعية واالجتماعية ،يمكن صياغته في قواعد وقوانين ،فقواعد السلوك البشري ال تمت بصلة للقواعد التي
تتحكم في ظواهر الطبيعة.
األمر الذي حدا برواد مدرسة فرانكفورت للوقوف جنبا إلى جنب لمعارضة الوضعية والتجريبية والنزعة
التقنوعلموية 18الجامحة في حدود عواقبهما ،ولعل ما يميز هذا النقد العنيف محاولة الكشف عن العقالنية "بوصفها
آليات للهيمنة والتسلط" ،التي بتطويرها العقل التقني تحت ستار العلم من أجل العلم وبدعوى الحياد والموضوعية
العلمية.
يمكن أن نجمل النقد العنيف الذي قام به رواد فرانكفورت في العناصر التالية:
-ال تحفل النزعة الوضعية الحديثة إال بالتجربة الخالصة والمحضة ،ووحده التجريب الذي تقوم به العلوم
الحقة يستحق لقب "المعرفة" وما عداه يلقى به في قمامة التاريخ.
-تنظر النزعة الوضعية للحاضر كحدث تم انجازه ،وتتنصل كليا من تغييره.
-تعلن السوسيولوجيا التجريبية أن كل ما يمكن مالحظته ال يعدوا أن يكون في نظرها أشياء ،ومحض
أشياء.19
كان االستهالك في الماضي هو وسيلة لغاية ما ،وهي تحقيق سعادة اإلنسان ،أما اليوم فقد أصبح االستهالك
غاية في حد ذاته ،فاإلنسان اليوم مفتون بإمكانية شراء المزيد من األشياء الجديدة واألفضل ،فقد أصبح فعل الشراء
- 18التقنوعلموية :هي إيمان العلم بنفسه ،أي لم يعد باستطاعتنا اعتبار العلم أحد األشكال المعرفية الممكنة ،بل علينا على العكس من ذلك اعتبار العلم
والمعرفة بوصفهما الشيء نفسه .إذن ننعت بالعلموية تلك المحاولة لتبرير حصر المعرفة بالعلم ،كما أن النظرية العلمـوية تنظر إلى قدرة العـلم على حل جميع
إشكـاالت العصر المطروحة .يورغن هابرماس :المعرفة والمصلحة ،ترجمة حسن صقر ،منشورات الجمل الطبعة األولى كولونيا -ألمانيا :2001ص 17
- 19حسن مصدق :مرجع سابق :ص 36
13
واالستهالك هدفا العقالنيا ألنه غاية في ذاته ،فشراء أخر موديالت "السيارات ،المالبس ،اآلالت "...هو هدف
كل إنسان ،وتكون اللذة الحقيقية الستخدام هذه األشياء ،ثانوية بالنسبة للحصول عليها.
لقد حقق المجتمع الصناعي وفرة في اإلنتاج ،ومن أجل تصريف هذه الوفرة يجب أن توازيها وفرة في
االستهالك ،فمن أجل ترسيخ قيم االستهالك ،تعمل الشركات الكبرى من خالل آليات اإلشهار على توحيد األذواق،
فوفرة اإلنتاج واالستهالك ـ حسب رواد مدرسة فرانكفورت ـ تخدر المجتمع وتجعله يكتسب مناعة ضد أي تغيير
نوعي .يعتقد الفرد في هذا المجتمع أن له قيمة وأنه حر بمجرد كونه يستطيع االختيار بين أنواع المنتجات الصناعية
لتلبية حاجاته( ،إنه حر فقط في اختيار أسياده) حسب ماركيوز.20
فالرغبة في االستهالك تجعل اإلنسان لديه رغبة مطلقة منفصلة تماما عن حاجاته الحقيقية ،فالمجتمع
الصناعي يعتقد أنه حر في وقت فراغه ،فوقت فراغه هو األخر خاضع للمنظومة الرأسمالية ،فاإلنسان اليوم يستهلك
وقت فراغه في مشاهدة المباريات الرياضية واألفالم السينمائية ...بطريقة ال تختلف عن استهالكه للسلع فاإلنسان
يستمتع بمشاهدة ما هو مفروض عليه أن يراه وأن يسمعه.
فرواد النظرية النقدية بعدما شاهدوه من انحطاط للقيم الفردية داخل المجتمع المتقدم ،ومن انسحاب لحق الفرد
في االختالف في النظام الشمولي أوال وفي النظام الرأسمالي ثانيا ،حاولوا إعمال العقل إلعادة االعتبار للفرد ولتنشيط
الفكر النقدي (وانطالقا من هذا عملوا على إعادة قراءة النص "الفرويدي" على ضوء تحوالت المجتمع الصناعي
متسائلين عن دالالت الرغبة والتصعيد الالشعوري وموقع الجنس في آليات اإلغراء الحديثة وعالقتها بالعملية
اإلنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب).21
-3نقد االيديولوجيا:
لقد دأب المنظرون األوائل منذ ظهور المجتمع البرجوازي إلى اإلشارة لأليديولوجيا على أنها "الوعي الزائف"،
فقد خلص "أدورنوا" إلى أن ظهور مفهوم االيديولوجيا مرتبط بالمجتمع البرجوازي وليس بالمجتمع الصناعي ،وتعتبر
صناعة الثقافة التي ترجع جذورها إلى القرن الثامن عشر مولد لأليديولوجيا ،وهي غير منفصلة عن تاريخ المجمع
البرجوازي.22
يعتبر علم االجتماع المعاصر االيديولوجيا كأساس "لسوسيولوجيا المعرفة" أي كوصف للتكوين الثقافي
وتمثالت فئات المجتمع المختلفة ،إضافة إلى عالقتها بالوضع االجتماعي ،فعلم اجتماع المعرفة ينظر إلى معنى
الحياة اإلنسانية من منظور الثقافة أو "القيم" السائدة فيه.
في هذا السياق ،يرى أدورنوا أن علم االجتماع يجب أن يهتم باأليديولوجيا عن طريق أبحاثه في التواصل،
ووضعه إلى جنب المنتجين والمستهلكين لصناعة الثقافة الموضوعة بهدف إنتاج معارف محدودة وعقل محدود،
غير أن علم االجتماع إذا أراد أن يصبح ناقدا لاليديولوجيا ،يجب عليه أن يحلل وسائط االتصال العامة ويدرس
- 20هربرت ماركيوز :اإلنسان ذو البعد الواحد ،ترجمة جور طرابيشي ،الطبعة الثالثة ،دار اآلداب بيروت :1988ص 37
- 21محمد نور الين أفاية :مرجع سابق :ص 38
- 22حسن مصدق :مرجع السابق :ص 50
14
"سيناريوهاتها" التي تعرف بثقافة الجماهير ،والتي تصب بعناية بالغة في تبرير ما هو موجود والسيطرة المحكمة
على الذوق والنقد على حد سواء.23
وعلى العموم تعلن تلك االيديولوجيا أن ليس هناك ما هو أحسن مما كائن وال داعي للبحث عما ينبغي أن
يكون ،فالواقع ما هو كائن (وهذه الثقافة دعاية ليس إال ،وما تنفك أن تتحول رويدا رويدا إلى إرهاب ،عندما تعمل
على إقرار الوضع القائم كأمر ال مناص أو بديل عنه.
لم تكن نشأة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وليدة الصدفة ،بل جاءت نتيجة ظروف العصر والمشاكل
التي ي تخبط فيها ،فمن أجل صياغة نظرية نقدية تساير متطلبات العصر لم يتم الرجوع إلى فكر فيلسوف أو عالم
اجتماع واحد ،ولم يساير رواد النظرية النقدية التقاليد التي كانت موجودة في تلك الفترة باالعتماد على منهج واحد
أو إتباع طريق مفكر أحادي التوجه ،بل قام الرواد األوائل بالمزاوجة بين الكثير من العلوم االجتماعية ،واالنطالق
من مفكرين مختلفين وفي بعض األحيان متعارضين في أطروحاتهم مثل المزاوجة بين فكر ماركس وماكس...
إن المتتبع للنظرية النقدية سيجد أنها عرفت مرحلتين أساسيتين ،مع جيلين مختلفين في الطرح والتصور في
الكثير من القضايا ،لكن في الجانب المنهجي التحليلي فسنجد أنها تسير في نفس الخط النقدي الذي ُنهج منذ أن
تأسست كمعهد للبحوث االجتماعية .إال أن االختالف الجوهري بين الجيل األول والثاني نجده في التعاطي مع
الموضوعات المعاصرة خاصة فيما يتعلق باإلشكالية الكبرى المرتبطة بالمجتمع من قبيل االستالب والهيمنة ،التي
هي سمة العصر الحالي ،والتي برزت بقوة بعد تزايد التقدم العلمي والتكنولوجي.
15
الفهرس:
المبحث الول :الماركسية الغربية :نشأتها وتطورها واتجاهاتها الفكرية1 ........................................... :
المطلب الثاني :الماركسية الغر بية واتجاهاتها الفكرية -لوكاش نموذجا 2 .................................... :-
المطلب الول :السياق التاريخي لنشأة مدرسة فرانكفورت وأهم روادها6 ........................................... :
16
المراجع المعتمدة:
-ابراهيم الحيدري (" .)24-08-2000مدرسة فرانكفورت ..تأسيس نظرية نقدية للمجتمع" .جريدة الشرق
األوسط.
-توم بوتومور :مدرسة فرانكفورت ،ترجمة سعد هجرس ،دار أويا ،طرابلس ،ليبيا1998 ،
-حسن مصدق :يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ،الطبعة
األولى سنة 2005
-عالء طاهر :مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماز ،منشورات اإلنماء القومي ،بيروت الطبعة األولى
بدون تاريخ
-محمد نور الدين أفاية :الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس ،إفريقيا الشرق ،الطبعة
الثانية المغرب 1998
-محمد األشهب :الفلسفة والسياسة عند هابرماس ،مطبعة النجاح الجديدة ،الدار البيضاء ،المغرب 2006
-يورغن هابرماس :المعرفة والمصلحة ،ترجمة حسن صقر ،منشورات الجمل الطبعة األولى كولونيا -ألمانيا
2001
-هربرت ماركيوز :العقل والثورة هيغل ونشأة النظرية االجتماعية ،ترجمة فؤاد زكرياء ،الهيئة المصرية العامة
للتأليف والنشر1970 ،
-هربرت ماركيوز :اإلنسان ذو البعد الواحد ،ترجمة جور طرابيشي ،الطبعة الثالثة ،دار اآلداب بيروت 1988
-PAUL LARANT ASSOUN: L’ECOLE DE FRANCFORT; 2 EDITION: 1990. PARIS
-
https://www.marefa.org/%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9_%D9%81%
D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%81%D9%88%D8%B1%D8%AA#cite_note
-Haidari-2
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=424370
17