Professional Documents
Culture Documents
pdf - ٢٠٢٤-٠٥-٠٨T٠٠٢٩٠٤.٦٩٤
pdf - ٢٠٢٤-٠٥-٠٨T٠٠٢٩٠٤.٦٩٤
pdf - ٢٠٢٤-٠٥-٠٨T٠٠٢٩٠٤.٦٩٤
net/publication/343172294
CITATIONS READS
0 298
1 author:
SEE PROFILE
All content following this page was uploaded by Samer Jamil Rudwan on 12 January 2021.
الوعي المأزوم:
مقدمة
يحاول الموضوع المطروح اإلجابة عن سؤال شديد التعقيد :لماذا غرق المجتمع العربي في
دوامة من العنف نسفت أساس وجوده ،ولماذا من الصعب إنشاء كيان اجتماعي متجانس يقوم
على أساس عقد اجتماعي تصالحي ال عنفي ،ومنتج وفعال على المستوى اإلنساني والعالمي.
يتبع الموضوع المطروح منهج علم نفس أعماقي-اجتماعي تارة وتارة من علم نفس األنا وعالقة
الموضوع ،وأخرى من تمثل ومعالجة المعلومات ،على الرغم من الكثير من المحاذير
والتحفظات فيما يتعلق بأوضاع شديدة التعقيد إال أنها محاولة إلنارة جانب ال يدعي الصحة
المطلقة ،ولكنه يستحق التأمل ،ألنه يمثل قضية أساسها نفسي-تربوي-اجتماعي .ربما هناك
بعض التشابه لتشابه المنهج المسقط اجتماعياً ،لكن الحديث هنا عن اإلنسان "المأزوم"
و"المصدوم" ،وكذلك عن لمجتمع "المأزوم" و "المصدوم" .هو ليس مجرد تغيير أسماء-عن
أزمة الهوية ،وتمزقها .عن الهوية األزمة ،والهوية المصدومة التي تنفصل أجزائها إلى مكونات
موجودة مع بعضها لكنها منقسمة ،منفصلة ،عموديا ً وأفقياً .عن جناة وضحايا يتبادلون األدوار
باستمرار ،عن تلك الحلقة المفرغة من العبثية والتي ال تجيد سوى لعبة الموت وال يعرف فكرها
سوى العدم.
2
online version 2020 الوعي المأزوم
مدخل كل مشكلة تحمل بذور الحل في طياتها ،المشكلة بحد ذاتها هي طريقة الحل للصراع
الداخلي أو الخارجي الكامن خلف المشكلة .وعندما ننظر لتشخيص المشكلة بأنها محاولة من
محاوالت الحل فإنها تفتح لنا آفاق من الحلول أو بدائل الحلول .فإن تم إدراك أن لب المشكلة
يكمن في هذا الجانب أو ذاك ،فإن هذا اإلدراك وحده غير كاف كلية التخاذ الخطوة نحو الحل،
إذ أن اإلدراك قد يعمي الوعي.
السؤال :ما الذي يمكن عمله للتوصل إلى حل يعتقد أنه األمثل للتعامل مع هذه األوضاع الحياتية
العدمية ،أو كيف يمكن لنا استغالل هذه المعرفة في سبيل بناء مستقبل أفضل ال نكون فيه كذلك.
وهنا تكون مساحة اإلجابات واسعة جدا ً وتفتح لنا الكثير من اإلمكانات التي نعتقد أنها ستقودنا
لذلك .ما التأثيرات التي تمتلكها أوضاعنا الراهنة على رؤيتنا للحل المستقبلي؟ إذا عرفنا أن
السبب يكمن في الماضي وأن الماضي ال يمكن تغييره فهل يمكننا تعديل اآلثار الناجمة عن ذلك
الماضي؟
توصيف بنية الواقع توحي بأن الحل موجود بناء على هذا التوصيف .وقد يغوينا هذا ويدفعنا
بالفعل إلى تصور الحل وطرحه طالما هناك من يود ،لو أن هذا قد طرح الحل وأن هذا اآلخر
مطلوب منه الحل.
مجتمعاتنا االجتماعية تجمعات منغلقة على الداخل ،لم تحظ بنية الوعي فيها بالتعديل والتغيير
على مر العصور ،وظيفتها األساسية اجترار الماضي وتضخيم الذات واإلعالء من شأنها كآلية
تعويضية تشويهية ،وقمع وكبح أي تغيير ،والتغيير والتعديل الذي ذ-إن حصل -يحصل وظيفته
عدم التغيير .إن مآالت كل ما حصل ويحصل تشير إلى ذلك.
تطرح مشكلة ازدواجية الوعي (الالواعي) مشكلة أخرى ،في التعامل مع الداخل والخارج،
في رؤية ثنائية ،متعارضة ،يصعب التوفيق بينها ،ترسخت عبر العصور وما زالت ،وتحمل
في طياتها نظرة استعالئية وعنصرية تنفي وجود اآلخر على مستوى الوعي ،وتنظر إليه نظرة
دونية وعلى أنه مشروع استالب ونهب وغزو وسبي ،مقابل اإلعالء الدفاعي للذات المتضخمة.
ومن البديهي أن تؤدي مثل تلك النظرة إلى العنف واإلرهاب ،كنزعة انتقامية تدميرية،
موجهة ضد اآلخر ظاهرياً ،إال أنها تهدف داخليا ً إلى تدمير الشر الكامن في الذات ،والذي ال
ينتهي إال بالفناء.
3
online version 2020 الوعي المأزوم
a solution. The problem itself is the resolution of the internal or external
conflict that underlies the problem. When we try to diagnose the
problem as a solution attempt, solution perspectives or alternative
solutions open up.
تشتت األوضاع الحياتية المقيتة الوعي اإلنساني وتدفعه إلى خبرة الحياة في أقصى تطرفها
وتعاش الخبرات على أنها متناقضة فيها انفصال عن الواقع وعدم اتساق وتصبح مداخل الخبرة
الجديدة مسدودة فيغرق الوعي حينئذ بفيض عارم من الشذرات المتناثرة التي ال تجد لنفسها مكان
في بنيته .عندئذ يصبح من العسير فهم الحاضر المعاش ،ووضعه في سياق منطقي يغني الخبرة
ويكسبها أبعادا ً جديدة تتيح التعامل مع مشكالته ،ويصبح المدخل الوحيد إلى فهم هذا الحاضر رده
إلى الماضي .وهذا الرد إلى الماضي ليس مجرد استعادة ذكرى أو غرف من خبراته للمساعدة
على حل مشكالت الحاضر كما هو في الحالة االعتيادية بل هي محاولة إعادة إحياء الماضي
وعيشه مرة أخرى بطريقة يصورها الوعي المشوه بأنها ستكون أفضل من الماضي الفعلي نفسه،
ويحصل هذا الفعل من دون أي إدراك لطبيعة ما يفعله ناهيك عن اندفاع قهري لهذا اإلحياء .وهي
آلية معروفة في التحليل النفسي تحت قهر التكرار ،Repetition Compulsionفتستحوذ عليه
حالة من التوق اإلدماني ،بسلطة مطلقة ال واعية نحو إعادة إحياء تلك الحالة األولى المتخيلة،
بانتظار عودة ذلك "المهدي" الذي يمتلك قوى خارقة ليخرجها من أزمتها الوجودية ويكرر معها
صورة الماضي بالنسخة نفسها دون تعديل أو تغيير.
وقهر التكرار هذا هو نوع من التفكير الخرافي الذي يستمد جذوره من وقائع روى التاريخ أنها
حصلت في الماضي ،يضاف إليها الكثير من الخيال الوهمي الذاتي الذي يضفي على هذا الماضي
قيمة إبهار وجذب مقارنة مع الواقع المعاش الطبيعي.
إن احتقار الحياة وتقديس الموت في ظل شذوذ الغريزة قد يحصل تحت هذه اآللية ،والنكوص
إلى الهويات الممزقة والزائفة مع إسقاط صورة الماضي وأحداثه على الحاضر ،يحصل في جزء
منه تحت هذه اآللية.
5
online version 2020 الوعي المأزوم
وفي ظل الجهل والعجز والتخلف ،والتهميش ،وتمزق الهوية تنقلب الغرائز ،لتصبح غرائز
الموت والعدم مصدر المتعة الوحيد ،الذي يستمد منه محرضو الرعاع لذتهم ،فيصورون لهم أن
الحياة دنس ال يمكن تطهيرها إال بالتخلص منها ،بعد التخليص على أكبر عدد ممكن من اآلخر
"المشيطن" .وتحت هذا الضغط الذي يعاني منه الرعاع فإن الوعي المزيف يصور لهم تلك الحالة
على انها نوع من الخالص التطهيري ،الذي يطهر أنفسهم من تلك الشرور القابعة فيهم والتي في
حال إدراكها وغياب آلية التعامل معها ،تنفي أسباب الوجود الفردي .إال أن االنقسام واإلسقاط
كآلية دفاعية يمنع هذا االنتفاء مؤقتا؛ انقسام المشاعر المحتقنه إلى قسمين أبيض وأسود ،ال ظالل
بينهما .وبما أن الفرد مدفوع تحت قهر التكرار إلى استعادة حالة هذيانيه مثالية من األمان والصفاء،
فإنه ينظر لنفسه على أنه هو الخير المطلق واآلخر هو الشر المطلق .إال أنه عبثا ً يحاول؛ إذ أنه
كلما حطم الشر الذي يعتقد زاد اإلحساس باالنقسام وازدادت أثقال آليات الدفاع للحفاظ على هذا
االنقسام صافيا ً دون اختالط .وتحت هذا الضغط تجد غريزة الموت سلطتها ،إذ ال يمكن قهر الشر
إال بقتل النفس.
يلتقط محرضو الرعاع هذه الرغبة الالشعورية في اللحظة التاريخية المناسبة ويغلفونها أكثر
فأكثر بهويات عقائدية دينية طائفية عرقية وسياسية ،ويقودون اآلالف لحتفهم طوعا ً محققين بذلك
لذتهم الوحيدة التي يعرفونها الموت للرعاع ومشبعين رغبة الرعاع بالتخلص من الحياة ،تلك التي
صوروها لهم على أنها دنس ال تستحق أن تعاش ،وينتظرهم التعويض األكبر في مكان ما تكون
فيه الغرائز منفلتة من عقالها مباحة وغير ممنوعة في حالة شره دائم إلشباع ال ينتهي .تصور
يشبه اإلشباع األولي للرغبة منسلخ عن الواقع وال تربطه به صلة بخلق صور ذهنية خادعة وال
متناهية تخديريه الهدف ،وشالة لإلرادة والوعي ،تكتسب شرعيتها من نصوص إيديولوجية
مفبركة وفق القوى التي تمتلك السلطة النفسية والمادية العليا.
تنبثق اللحظة التاريخية عندما تتأزم الهوية وتجد المجتمعات أنفسها في حالة وهم الهوية ،فراغ
الهوية .الفراغ في الهوية يقود بدوره إلى نكوص دائم إلى افكار استبدادية لدى فئة واسعة من
الناس ،وما ينبثق عنه من تطرف .وهذا ما يحصل عندما تفقد الثقة بالتنظيمات السياسية القائمة
أو تهزم نتيجة الحرب أو عندما ينهار مجتمع لسبب ما فإن الهوية تصبح مزعزعة لدى طبقات
واسعة من الشعب .فتمتزج المخاوف الواقعية مع مخاوف الطفولة متحولة إلى مزاج هلع يهدد
باالنفجار .فإذا ما أضيفت إلى ذلك األزمات االقتصادية فإن الغالبية العظمى من الناس تصبح
مستعدة للعدوى بالشعارات التعصبية .فإما أن يميل المرء للدفاع عن النظام ال ُم َهدَّد ضد التحديث،
كما هو الحال في العودة إلى األصولية الدينية .المتعصبة ،ويعيش كل العقليات التقدمية على أنها
6
online version 2020 الوعي المأزوم
معتد مهدد للمناقب الخاصة التي أصبحت هشة .أو يتالءم كلية مع اتجاه انقالبي ،كما هو الحال
في الثورات الدموية للتاريخ ،يعد بالخالص من خالل استئصال متطرف للتنظيمات والسلطات
القديمة ،إال أنها في النهاية تعو د لتمارس ما كانت تدعي أنها تحاربه .والتاريخ أكبر شاهد على
ذلك.
ليس من المهم حينئذ ما هي الصفات التي تطلق :رجال هللا ،رجال الدين ،رجال الطائفة ،رجال
عمر وزيد ،أصحاب النخوة والرجولة ،رجال
المذهب ،رجال الخالفة ،رجال الصليب ،رجال َ
األرض والعرض ،رجال الوطن ،رجال التاريخ :النتيجة واحدة .االتجاه نحو المزيد من التصلب
والجمود وسحب الحدود إلى أقصى تطرفها والتي تتجلى بتحقير اآلخر وإطالق أسوأ الصفات
عليه وسيطرة لغة تحريضية وتبخيسية وإعالء من شأن الذات والجماعة الخاصة بنعتها بصفات
قدسية .وتصبح جرائم الجماعة الخاصة مبررة وجرائم الطرف اآلخر غير مبررة تتطلب العقاب،
وليس مهما ً من يتحالف مع من ومن ضد من ،إذ تكفي أبسط األفعال ليتحول الصديق إلى عدو
والعدو إلى صديق (يهدف اإلسقاط باألصل إلى التخفيف من حدة مشاعر مؤلمة إذا ما تم إدراكها،
كرؤية الشر الداخلي في اإلنسان نفسه على سبيل المثال ،وعندما يفشل اإلسقاط في تأدية هذه
الوظيفة بالنسبة لموضوع اإلسقاط فإنه يتحول من موضوع إسقاط آلخر بسهولة ،خاصة إذا وجد
من يدرك هذه اآللية فيتالعب بها –كالديماغوجيين مثالً -لمنع إدراك الشر الداخلي كحقيقة داخلية
وليست خارجية ومن هنا خطورته) وفي ظل هذه األوضاع تطفو على السطح تلك الفئات من
المجاميع المهمشة اقتصاديا أو اجتماعيا ً أو نفسيا ً أو دينيا ً أو سياسيا ً أو كلها معا ً والتي تم في
الماضي ممارسة أشد أنواع السحق والقهر عليها ،لتصبح لها اليد الطولى ،إذ أنها هي تلك التي
وبسبب ما مورس عليها من تسلط تربوي وديني واجتماعي وسياسي تحولت الحياة (الشر في
داخلها المسقط على الخارج) بالنسبة لها إلى دنس البد من تعجيل نهايتها ،بعد التفات مفاجئ لها
من تلك القوى التي أفرزتها باألصل.
بين هؤالء وأولئك يتشكل حلف الشعوري من التواطؤ النفسي psychological Collision
(المفهوم من الالتينية colludereويعني اللعب معاً) يكون فيه اتفاق غير واع في الغالب ،بين
طرفين أو أكثر تلتقي فيها الميول المرضية (المصالح الخبيثة) لدى الطرفين بتعشيقة غريبة
كالمفتاح في القفل .أساس التواطؤ الصراعات غير المحلولة في مجاالت أساسية من مجاالت النمو
النفسي االجتماعي المعلقة ،التي لم يتم حلها واستيعابها فيلعب الشركاء مع بعضهم البعض ودون
وعي ،أدوارا ً تكاملية نمطية ومقولبة ،تضمن استمرارية التابع والمتبوع فيتبادل الطرفان التحقيق
7
online version 2020 الوعي المأزوم
المتبادل للحاجات النفسية غير المحققة بتفويض اآلخر بأن يحيي له تلك النزعة مقابل أن يسمح
هذا لآلخر بممارسة النزوعات المعاكسة .إال أن التواطؤ ال يستمر لألبد ،فقد تنقلب األدوار فجأة،
أو تتغير.
هنا يتساوى األضداد ،وجميعهم يسير وفق اآللية نفسها :وعي األول هو الوعي الثاني ووعي
الثاني وهو ال وعي األول ،فيمارسون لعبة اإلفناء واإلفناء المضاد إلى ما النهاية ،في حين يوجه
محرضو الرعاع وبالتواطؤ مع نخب استبدادية طاقة تلك األضداد باستمرار كي ال ترتد عليهم.
طن ،المهم هو اآلخر ،الذي يتم تجريده دائما ً من خصائصه اإلنسانية
ش ْي َ
وهنا ليس مهم من هو ال ُم َ
بإسقاط كل شرور الذات التي ال يستطيع تحملها عليه ،فيتم تكفيره واحتقاره ونعته بأبخس الصفات،
واتهامه بالعنصرية والتطرف والتخلف وانتهاء بلغة القذف والذم .اآلخر المشطين هو دائما ً اآلخر
اإلمبريالي ،الشيوعي ،الكافر ،الطائفي ،مع تبديل مستمر لآلخر الشيطان.
في التواطؤ يمكن ألحد الطرفين أن يستمد من الطرف اآلخر السلطة المطلقة مقابل تحقيق
رغبات الطرف األول :تجربة ميلغرام تبين نوعا ً من التواطؤ ،فعندما يقوم شخص ما بتحرير
شخص آخر من تحمل المسؤولية ،فيقوم هذا متوهما امتالكه السلطة المطلقة بإشباع غريزته
المنفلتة من عقالها ،مقابل إرضاء مانح السلطة ،ومانح السلطة نفسه يشبع دافعه للخضوع
واالنصياع.
قهر التكرار والنكوص حجاب وهمي يصد إدراك الهمجية في سياقها الراهن المرتبط
بإيديولوجيات دينية وقومية فاشية وعنصرية تقوم على وهم بعث الماضي بوصفه الحالة التي
تثبت الصورة على مسرح الحدث التاريخي الموهوم .ويجد في النصوص الدينية واإليديولوجية
ما يعزز هذا الهذيان باستمرار.
يجد أفراد المجتمع المأزوم والممزق الهوية أنفسهم تحت ضغط صراعات ،واعية وغير واعية،
متضاربة وشديدة ،كأفراد وككتلة (كتلة األسرة ،العائلة ،كتلة الحي ،كتلة القرية أو المدينة كتلة
العشيرة ،كتلة القبيلة ،كتلة الدولة) .ولكنهم بحكم القهر والتسلط ،كنمط تربوي تطبيعي والذي هو
منهم وفيهم ،بقانون الحلقة المفرغة ،مجبرون في الوقت نفسه على الحفاظ على تماسكهم الظاهري
بفعل قوى مختلفة .وفي ظل ذلك يستجيب المجتمع المأزوم (أفرادا ً وكتالً) ،الفاقد للهوية ،لحاجات
أفراده بالعنف ،ذلك أنه يعيش حاجات أفراده أو كتله كتهديد له فيصدهم بالعنف .فهو مجتمع
ُمغتَ َ
صب باألساس ال يستطيع أن يمنح أفرده أي دعم وشعور باألمان والمواطنة والتعاطف
والمساندة.
8
online version 2020 الوعي المأزوم
تعمل قوة الدافع العدواني الهدام بما تنتجه من تصويرات استعرافية مشوهة distorted and
deformed Cognitive Schemataعلى صد أو تحريف أية نزوعات لتحقيق االرتباط
اإلنساني الذي بدوره يعمل كقوة معاكسة للعدوانية الكامنة ،ومنبع لطاقة الحب وأساس لعالقة
مواطنة ناضجة .وعندما يتأذى تحقيق الحاجات اإلنسانية لالرتباط ،فإن الصبغة الغالبة على
األفراد والكتل االجتماعية هي الحيرة واليأس والالحول ،وفقدان القدرة على بناء عالقة مواطنة
متحررة من التوتر بالبيئة المادية واالجتماعية .والنتيجة عالقة عدم انتماء –هوية ممزقة -تظهر
في التدمير والتخريب والتشويه والتصحير واستنزاف اغتصابي للموارد ألقصى حد ،وعالقة عدم
ثقة وفقدان أمان بالنفس وبالكتل االجتماعية األخرى والتفكك ،Dissociationحيث يبدو مسرح
الحدث الخارجي منفصالً كلية عن مسرح الحدث الداخلي –هوية متناقضة ،-أو انتماء زائف-
هوية مستعارة -وضياع –هوية غائمة.
تشكل مشاعر االرتباط البنى النفسية العالئقية كالحب والبهجة والتعاطف والفخر واألمل
والتفاؤل ويسبب افتقادها مشاعر القلق والغضب والحزن واأللم والذنب والخزي واإلثم والعار.
وتقود اضطرابات االرتباط إلى صعوبات في تنظيم االنفعاالت ،فتتسم التصرفات الفردية الذكورية
باالندفاعية وزوال الكف والكبح كآلية ضابطة أخالقياً ،عندئذ تنفلت األخالق من عقالها ويتعطل
التعاطف والشعور بالواجب وااللتزام تجاه اآلخرين وتكون اإلناث مفرطة التكيف والخضوع.
واضطراب تنظيم االنفعاالت هو العنصر الرئيسي في االضطراب الحدودي ،والذي يمثل أساس
التطرف الفردي واالجتماعي .فاألفراد أو الكتل االجتماعية التي توارثت االرتباط المزعزع غير
اآلمن تختل لديها القدرة على المشاركة االجتماعية ،فيعمل الدفاع النفسي على توجيه طاقة عدائية
هدامة نحو الكتل األخرى ألنها توقظ فيها مشاعر التهديد ،أي الخوف من التقارب واالندماج.
والتصويرة االستعرافية المرافقة صورة اآلخر المختلف ال ُمهدد (الموقظ لقلق االرتباط –المشاعر
البدائية األولى من التهديد) والتي تعيق التقارب واالندماج.
تتشكل جذور مشاعر االنتماء والتماسك من مقدار االرتباط اآلمن (الثقة ،الثبات ،التقبل،
الرعاية ،الحماية) واالستقاللية والكفاءة الذاتية ومشاعر الهوية والحرية في التعبير عن الحاجات
بالذات. والتحكم الواقعية بالحدود والوعي والتلقائية واالنفعاالت
ويعمل القمع والعسف وسوء المعاملة والتعرض للغبن واإلجحاف والظلم على المستوى الفردي
واالجتماعي ،وعدم تكافؤ الفرص والتربية القائمة على الخزي والتخويف ،ومشاعر الذنب العميقة،
وعدم االعتراف والتقبل ،والترهيب الديني من قوة عليا جبارة قاهرة صارمة ال تعرف الرحمة
9
online version 2020 الوعي المأزوم
أساس هذا ينبع على المستوى الفردي من عالقة مأزومة باألم المسلوبة اجتماعيا ً (المغتصبة
نفسياً) الفاقدة باألساس لإلحساس بكيانها البشري ،سبية المجتمع ،بغطاء سلطوي ديني ،أم تعيش
مشاعر التهديد منذ اللحظة األولى لوعيها ،عالقتها بذكورها تتحدد بتصويرات استعرافية
ُ Cognitive Schemataم َهدِّدة ،المولدة لعالقة مشحونة بتوتر النهاية له .يفقد المجتمع الممزق
الهوية قدرته على االرتباط ،وينشأ أبناؤه عبر األجيال ليصبحوا رجاالً عنيفين صادمين (”بنية
الجاني“) في حين تكون لنسائه على األغلب بنية الضحية والتي تلحق األذى بغيرها تعويضا ً عن
الغبن الذي لحق بها ويستمر تشتت الهوية وتمزق االرتباط في األجيال التالية .وفي منظومة
االرتباط المصدومة بالعنف ،تسود المشاعر السلبية كالخوف أو الغضب وبالمقابل تتعطل فاعلية
الحب كقوة انفعالية دامجة مخففة للتوتر وبانية للتماسك ومحققة للثقة األساسية – الصمغ الر ابط
اجتماعيا ً -ومعافية من الصدمة.
ينشأ األفراد في المجتمع المأزوم مهددون وجوديا ً منذ بداية حياتهم ،مهددون ال شعوريا
من األم المسلوبة (غضب األم) ومن المجتمع المأزوم (غضب السلطة ،االستبعاد ،النبذ ،التهميش
االجتماعي) ،وعبثا ً يحاولون مواجهته بال طائل ،فيعمل الدفاع النفسي فعله ،إذ حتى يتمكن األفراد
التأقلم والتخفيف من قلقهم الوجودي البد من فصم القلق ،أي طرد مشاعر الغضب والحزن واأللم،
فيتم على المستوى النفسي تفعيل آلية تشويه دفاعي تحجب الوعي ،مفادها صد وطرد فكرة الشر
عن مصدر التهديد (المسؤول الحقيقي عن الحالة ،الجاني) وإنكار الوعي لفكرة أنه يمكن أن يصدر
عنه فعل شرير وتضخيم مفرط لما يمكن أن يصدر عنه من التفاتات توحي باالهتمام ويتحول
بالتدريج إلى عدو فكرة تناقض ذلك الخالص ،ويزداد تعلقه به ليس خشية على الجاني بل خوفا ً
10
online version 2020 الوعي المأزوم
على نفسه ،فيبدو األمر للخارج غير مفهوم ،كيف يتحول المقهورين والمسحوقين إلى حماة
لجالديهم؟.
والمكافئ االجتماعي الظاهر لهذا هو ذلك االلتصاق المفرط بالتكتالت القبيلة ،العشيرة،
الطائفة ،الحزب ،أو التقديس اإللهي المفرط لشخصيات ديماغوجية تتلبس عباءات الدين والوطنية
والقومية وإضفاء الصفات القدسية شبه الفصامية على فكرة الوطن واالرتباط االنفعالي الخيالي
به –عملية نفسية أولية -على الرغم من كل العنف والعسف والقهر والظلم الممارس على اإلنسان.
فالفرد المحتاج لالندماج واالرتباط يسلك هنا تجاه بيئته (أسرته ،قبيلته ،مجتمعه ،وطنه) سلوكا ً
تعليقا خاضعا ً مشحون عاطفياً ،على الرغم من كل العنف الممارس عليه .تلك الصورة الوهمية
أو الهذيانية لإلحساس باالنتماء تعمل ككابح لقلق النبذ والعزلة وفقدان اإلحساس بالمساندة
والمواطنة الخادعة.
يطور الفرد المأزوم في المجتمع الممزق الهوية ارتباطا ً متناقضاً :فهو من جهة يقدم نفسه
ضحية لكتلته االجتماعية لتساعده على البقاء في نوع من التواطؤ التعايشي معرضا ً نفسه لخطر
واقعي ،بأن يتم استغالله ،يتم تشويه الحقيقة له؛ ذلك أنه ال يمكن توقع نزوات الكتل المتسلطة
الممزقة فاقدة الهوية (الديماغوجية وغيرها مالكة السلطة) الساعية بأي ثمن لخلق صورة مرضية
لهوية متماسكة –مزيفة ،محافظة على االنقسام (الحدودية) مستحضرة قهر التكرار كمادة الصقة.
المجتمع المأزوم فاقد الهوية ال قدرة له على التماسك ،الرجال فيه يتحولون إلى جناة والنساء إلى
ضحايا ،إنها بنية الجاني والضحية .وكلما كان المجتمع أكثر ضياعا ً كان أفراده أكثر تطرفاً.
العواقب :القلق الدائم من عزلة المجتمع ومخاوف اجتياف ومشاعر الغضب والكره للمجتمع
والحقد عليه ،وفي الوقت نفسه جوع وتوق للتكيف معه ،تأرجح بين األمل واليأس ،في أنه مازال
من الممكن تحقيق التماسك ،وإيجاد الهوية.
يحصل ذلك عن طريق االنقسام العمودي واألفقي؛ فينقسم اإلحساس بهوية المجتمع وكذلك
بالهوية الفردية إلى هوية مدركة مأزومة وإلى هوية أخرى غير واعية .والنتيجة :تعيش الكتل
االجتماعية وأفرادها المشكلين لها خبرات اغتراب :اغتراب الواقع واغتراب الشخصية ،والتي
تتجلى في مكونات (أنماط شخصية ،تصرفات) موجودة إلى جانب بعضها وال تدرك وجود
بعضها .الجزء غير الواعي فيها مغطى وغير مكشوف لكنه موجود ،يبدو كما لو كان في قفص
زجاجي غائم ،غير واضح ،لكن تجلياته تبرز من خالل المشكالت االجتماعية (طيف التجليات
االجتماعية واسع :بدءا ً من صداع المجتمع وانتهاء بسرطان المجتمع) .االنقسام العمودي يكون
11
online version 2020 الوعي المأزوم
بين الماضي والحاضر .الماضي الذهبي الجميل ،والحاضر القبيح .النتيجة :من خالل هذه اآللية
الدفاعية يصبح من المستحيل على الوعي إدراك أن الماضي لم يكن كله جميالً ،وأنه مجرد صورة
من اختراع مجتمع مأزوم (وفرد مصدوم).
أما االنقسام األفقي او التفكك االفقي ،horizontal Dissociationأو الكبت ،أو االنفصال
عن الواقع ،فإنه يمثل آلية للتقليل من شدة التوتر المدرك ،تحاول التعامل مع واقع منفر ومقيت
يصعب التعامل معه كوحدة كلية ،معطلة بذلك الوظيفة التكاملية للوعي والذاكرة واإلدراك والهوية،
نتيجة لعجز الدماغ على القيام بوظائفه في تمثل واستيعاب وتنظيم المدركات زمانيا ومكانيا ً في
الذاكرة .وهو يتجلى في انبثاق خبرات داخلية متناقضة في ساحة الوعي :على المستوى الفردي
يظهر الفرد للخارج عظمته ويعيش هذه الخبرة في حين يشهد نفسه من الداخل على أنه بال قيمة
وتافه .وعلى المستوى االجتماعي يتباهى المجتمع بقيم أصيلة أغلبها صور منبثقة من أوهام
الماضي البعيد في حين يعرف أن داخله فارغ منخور وأجوف.
وظيفة االنقسامات إيجاد الحل الوسط يضطر فيه الوعي إلى التأرجح المستمر بين حالتين
وجدانيتين متناقضتين ،دون أن يتمكن من إدراك التدرجات المختلفة بشكل متزامن .وتساند االنقسام
آليات دفاع أخرى غير ناضجة مثل اإلنكار واإلسقاط ،والتبخيس أو التقديس أو التماهي اإلسقاطي.
في ظل كل ذلك ونتيجة له يحدث خلل بنيوي أساسي فيصبح القتلة أصحاب القانون والدستور،
ويطلب الناس األمن واألمان منهم ويحل الموت باالستسالم والخنوع محل الموت بالرصاص.
أما القلة القليلة الباقية من دعاة السلم والعدل والقانون وغيرهم ،فال يعود لهم أثر فهم إما قتلوا أو
همشوا بالسخرية والهزء والمحاصرة والتجاهل والعزل ،وتصبح األكثرية مصفقه لمبشريها
بالجهل والموت.
ولدى مجموعات أخرى يصاب الوعي بحالة من انسداد األفق وتتضيق الخيارات أمام األفراد.
فعلى الرغم من أن المأساة اجتماعية إال أن فكرة الخالص المسيطرة هي فكرة الخالص الفردي،
فيتغلغل اليأس وقلة الحيلة واالستسالم .وحتى آليات الدفاع تصبح في هذه الحالة مهددة بالفشل،
حيث أن الخيارات المرة ستصبح جميعها متساوية وسينقاد اإلنسان إلى مصيره دون أدنى محاكمة
منطقية .أن يصبح المرء قاتالً أم مقتوالً ،مغامرا ً بحياته ومسلما ً نفسه لقطاعي الطرق وشذاذ اآلفاق
المتاجرين بالبشر ،غارقا ً بالبحر أم مرميا ً على شاطئ مهجور ،فكلها سيان .وعلى الجانب اآلخر
من الوعي المطموس ،تظهر سلوكيات فئات من البشر من الجنس والعرق نفسه وجود أزمة هوية
عميقة ،هوية عقيمة مزعزعة ،هوية أقرب للعنصرية ،إال أنها ليست كذلك بل هي تعكس أزمة
12
online version 2020 الوعي المأزوم
قلق وجودي مرعوب من كل ما حوله ،ويريد التعجيل بالخالص إلى جنة الوهم الموعودة لكنه
البد أن يفقد جنته األرضية في الوقت نفسه.
يتحول العقل المصدوم في المجتمع المأزوم المشتت الهوية إلى عقل مسدود المسارات،
باالرتباط مع تغير في الوظائف الدماغية القشرية العليا ،وسيطرة المناطق البدائية الالزمة للحفاظ
على البقاء وانخفاض القدرة على السيطرة والتحكم في مناطق الفص الجبهي من الدماغ :المكافئ
الذهني لهذه التغيرات حصول تشويه في الطريقة التي تفسر فيها الخاليا العصبية في الدماغ ما
يردها من المحيط من معلومات (الخلل في قدرة الدماغ في استقبال ومعالجة واستيعاب المعلومات
الواردة إليه) ،والمكافئ االجتماعي لهذه التغيرات تأسيس ثقافة هذيانية مبنية على الخرافة تسيطر
على الحياة العامة والخاصة تنتشر في كل مكان وعلى جميع المستويات في الشارع والمدرسة
والبيوت ،والمساجد والكنائس ،تعبر عن نفسها باالنشغال المفرط في قضايا غيبية ،ونبذ اآلخر
المختلف والغطرسة والتبخيس من منجزات العلم ،وعلى المستوى االنفعالي تقود الحصارات في
الدماغ وبالتعاضد مع ثقافة الخرافة إلى سيطرة مشاعر الكره والحقد؛ حقد وكره ضد الذات أساسا ً
بما يشبه االفتراس الذاتي وموجه نحو الخارج بطاقة تدميرية هائلة.
في علم النفس الحديث فإن السلطة عبارة عن استراتيجية للسلوك االجتماعي تتكون في أساسها
من استغالل اآلخرين ،حتى ضد إرادتهم وذلك للمصلحة الخاصة وفي سبيل خدمة األهداف الذاتية
باستخدام استراتيجيات تأثير على اآلخرين تتمثل في الكذب (الخداع) واألذى ،وإحدى وسائلها في
هذا تأجيج العدوان وإبقاء مشاعر التهديد حية .ففي سبيل استمرار فاعلية آليات الدفاع والتي
وظيفتها باألساس تشويه الواقع وإيجاد حلول مؤقتة غير سوية وتعطيل قوى الفعل الواعي الهادف
وتشويه الواقع على المدى البعيد وخلق بنية إدراك مشوهة للواقع تحل محل التصور الفعلي ،تعمل
القوى المسيطرة باستمرار على إبقاء الدافع العدواني الهدام حيا ً ومشاعر التهديد نشيطة .ذلك أن
إبقاءه حيا ً متجددا ً يعمل بشكل تلقائي على تعطيل قوى التحكم والسيطرة في المراكز الدماغية
المسؤولة عن التحكم واتخاذ القرار الواعي المسؤول الفص الجبهي بشكل خاص ،وفي الوقت
نفسه تنشط مراكز الدماغ األقدم من الناحية النشوئية والتي وظيفتها الحفاظ على البقاء كهدف
أساسي باتخاذ إجراءات إما للهجوم أو الهرب.
وبما أن طاقة الدافع العدواني طاقة يصعب التحكم بوجهتها في حالة الشعور بالتهديد وكي
تضمن القوى المسيطرة استمرارية طمس الوعي وعدم ارتداد الدافع العدواني عليها البد من خلق
مكافآت اجتماعية عقائدية للقوى العدائية الهدامة المنشطة باستمرار.
13
online version 2020 الوعي المأزوم
الحيلة الدفاعية المستخدمة هنا هي إضفاء النزعة القدسية وفكرة االنتقاء اإللهي والفئة الناجية
واألمة الخالدة على هذه الطاقة العدائية كأداة تضليل وخداع تكمن ورائها غايات أخرى للقوى
المسيطرة .فيصبح القتل والتدمير والتهجير حربا ً مقدسة يرعاها ويُشَر ِّعن غاياتها رعاع الدين
ضية بالقدرة الكلية ،ويزاح هللا عن عرشه ليحل محله
وهكذا يتحول إدراك الواقع إلى قناعة َم َر ِّ
القائد الملهم والقيصر الجبار والزعيم العظيم والخليفة المؤمن والسيد المعصوم والولي الفقيه،
والمهدي المنتظر والمفتي المأجور والداعية المراهق-حتى لو أخطئوا ،-يقابله متواطئا ً معه شذاذ
اآلفاق الذين وجدو الخالص اإللهي على أيدي هؤالء.
للكتل االجتماعية المختلفة شعرائها وكتابها ورجال دينها .فيتحول "المثقف" في المجتمع
المأزوم إلى شاعر وكاتب ومفكر الكتلة االجتماعية ،ومعتمد منها .الثقافة في المجتمع المأزوم
ثقافة القطيع والكتلة والعشيرة االجتماعية والسلطة والشيخ واألمير والحزب ،يتصدر رئاسة
الحركة الثقافية مثقف "متعلم" ال ثقافة فيه ،قاحل مجدب ،ال نبت فيه ،يهذر غثاء أجوف ،يفرض
فكره على مدارسها وتمول كتبه من السلطة ،وتتصدر مقاالته الصحف الرسمية ،ويتحول إلى نجم
شاشاتها ،يدرك المثقف وضعيته "المترجرجة" تلك ،فيتضخم لديه اإلحساس بعدم األمان وضعف
الثقة بالنفس .أليات الدفاع المسيطرة هي آليات غير ناضجة َو َم َرضيِّة من نحو االستعالء ووهم
األهمية الذاتية ،والقدرة على التأثير وصنع القرار واالنفصام.
أما العلم بالمعنى الموسوعي باعتباره عملية منهجية من البحث والمعرفة القابلة للفهم المستقل
عن األشخاص في مجال معين ويأتي بمعرفة مبرهنة ومنتظمة وموثوقة ،وال يشغل نفسه كثيرا ً
بالقضايا الغيبية واإليمانية ،فيظل ظاهرة طارئة في المجتمعات المأزومة معزوالً عن سياقه
"مهمشا" تحت ضغط القوى الهدامة والمتواطئة من السلطة ورعاع الدين ،فتبدو القطعية بين العلم
كمنهج تفكير وكوسيلة لحل المشكالت وهذه الكتل االجتماعية واضحة عبر تهميش العلم والعلماء
وتبخيس المنجزات العلمية والعزلة واالنقطاع عما يمت للتفكير العلمي بصلة ،ويترك الناس تحت
ر حمة قلق وجودي هائل ،يدفعهم إلى االنشغال الفكري بالغيبيات وعزو مصائرهم الفردية إلى
قوى غيبية تروج لها القوى المسيطرة عبر المنجمين والدعاة والمخرفين بالعلم والطامعين بالسلطة
منهم .ديناميكية العزلة والتهميش هذه تدفع العلماء لالنكفاء والالمباالة وعدم اإلسهام الفاعل أو
للهجرة ،وسيطرة أشباه العلماء "المخرفين بالعلم".
وتنتشر الطفيليات انتشار النار في الهشيم ،ويصبح وهم المعرفة ،واالدعاء "بالعلم" ظاهرة
ترسخ التبعية وتعطل مسارات التفكير.
14
online version 2020 الوعي المأزوم
وفي حال تم تعميم المعارف المتوفرة حول آلية الصدمة وتعميمها على الكتل االجتماعية
المأزومة وعالقتها بالسلطة –مع بعض الحذر في فرط التعميم -تنشأ بين الكتل االجتماعية والسلطة
عالقة تعايشية يمكن وصفها بأنها استراتيجية تسعى إلى البقاء وذلك من خالل تالؤمها مع حاجات
السلطة؛ الكتل االجتماعية المأزومة تدرك ضعفها وعجزها وربما أزمتها ،تحتاج إلى خطة للبقاء
واالستمرار.
وبما أنها مأزومة باألصل فإن استراتيجيات البقاء التي تراها (آليات الدفاع الذهانية وغير
الناضجة) هي إقامة نوع من التعايش ذات منفعة متبادلة ،فتظل الكتل االجتماعية في حالة عجز
طفولي تغذي حاجة السلطة للشعور بالتحكم ،بالمقابل فإنها تعيش عطاءات تلك السلطة على أنها
منة ال يمكنها بلوغها لوال وجودها وتدرك أن استمراريتها متعلقة بالسلطة.
صورة الوطن تعاش هنا على أنها صورة السلطة ،تجسيد صورة ذهنية للوطن في شخص،
ومن ثم فإن العالقة بين التكتالت نفسها ومع السلطة ليست عالقة مواطنة تقوم على الحقوق
والواجبات وعلى عقد اجتماعي راشد بل على القيام بأفعال تنتظر هذه التكتالت االجتماعية أن يتم
مكافئتها عليها.
تتصف المجتمعات الناضجة بخصائص منها الثقة واألمل واالسترشاد بالواقع والوعي به
واالنفتاح على اآلخر المختلف والقدرة على التنظيم والمسؤولية والتعاطف وتنظيم انفعاالت
أفرادها والقدرة على تحديد الحاجات واألولويات وغيرها كثير بالطبع.
أما الكتل االجتماعية المأزومة فإن اآللية الدفاعية لديها هي التثبيت (وهي بالطبع ليست اآللية
الوحيدة) :أي السكون والتثبيت عند نقطة تاريخية معينة ال تتجرأ على تركها ،وإن برزت في
مرحلة ما من مراحلها محاوالت لتجاوز التثبيت فإنها تكون عاجزة من تلقاء نفسها ومن دون
مساعدة على القيام بتلك الخطوة لألمام .وهنا ال يمكن للتطور والنمو أن يتحقق في ظل قوى مثبطة
لذلك ال مصلحة لها في ذلك النضج ،وهو ما يحصل من خالل تواطؤ قوى التسلط السياسي
واالجتماعي والديني (ديناميكية ذاتية مولدة لنفسها ومدفوعة في الوقت نفسه من قوى خارجية)،
التي تواجه هذا النمو والنضج بوسائل عنف قاسية ،األمر الذي يقود إلى تفعيل وإحياء آلية أخرى
تدفع هذه الكتل للوراء ،تلك اآللية المعروفة في التحليل النفسي بالنكوص ،والعودة للحالة الخيالية
األولى التي تثبت اللحظة التاريخية الماضية كتصوير مثالي موجود في الخيال فحسب ،وال تترك
مجاالً إلدخال أية تعديالت على تلك التصويرة االستعرافية الناشئة في لحظة الصدمة؛ ذلك أن
ذكريات الصدمة المخزنة فيها ،التي تعطل أية قدرة على التفكير المنطقي والواعي وتدفع إلى
15
online version 2020 الوعي المأزوم
البحث الدائم عن مخرج من تلك األزمة بطريقة غير سوية تعيق الحل ،بل وتمنعه .والمكافئ
السلوكي لهذا هو االستعداد الدائم لالستثارة ألبسط األسباب ،وأفعال العنف القاسية التي تتصف
بها هذه التكتالت ضد اآلخر المختلف وضد نفسها وبتأجيج من السلطة المتحكمة.
المجتمعات المأزومة مجتمعات تحيط نفسها بقفص زجاجي صلب مليء بالتشققات تحجب عنها
الرؤية السوية وال تسمع غير صدى ذاتها .وبالتالي فإنه من الصعب عليها الخروج من أزمتها
سوى بتدمير نفسها من الداخل (العنف الذاتي) ،تخاف من االنفتاح على نفسها ومواجهة األجزاء
المأزومة فيها .وبما أنها باستمرار في استراتيجية بقاء فقط ،فإنها تعيش في حالة دائمة من فقدان
الثقة :إذ ال تثق التكتالت المأزومة بأحد (نظرية المؤامرة) ،تتجلى تلك من خالل الكثير من
المظاهر والتناقضات غير المفهومة ال من الداخل نفسه وال من الخارج .التناقض يالحظ في
الحاجة للمساعدة من الخارج غير أنها ال تتقبل إال تلك المساعدة التي تعزز لها استراتيجيتها
المأزومة والمشوهة التي تعتمدها في البقاء ،أي المحافظة على االنقسام وتعزيزه وتكثيره؛ فهي
تتقبل تلك المساعدة التي ال تمس األسباب األساسية وإنما تلك التي تظهر على السطح (التركيز
على األعراض وتجليات الظاهرة وليس على األسباب) ،وتنكر الواقع الصادم ،تعمل بالتقييمات
واالتهامات بدالً من التوضيح والفهم وتولد أزمات جديدة ،وتسعى إلى توريط اآلخرين في
أزماتها.
وعندما تتعرض الهوية الثقافية التي يتبناها اإلنسان للتهديد ينشط في الالوعي قلق الموت "قلق
الفناء" .وبما أن الطغاة والمستبدون والمتطرفون العقائديون واألحزاب المنغلقة ذات الفكرة
التعصبية الجامدة تفتقد للرؤية الديناميكية لحركة التاريخ وعقيمة معرفياً ،فإنهم يبرعون وبطريقة
خبيثة –بوعي أو من دون وعي-في إيقاظ مخاوف الفناء لدى أتباعهم ،عندما تتهدد مصالحهم بل
وال يتورعون في ارتكاب جرائم بحق أتباعهم لتأجيج مخاوف الفناء أكثر وأكثر .
ومن خالل استثارة "قلق الموت" يمكن دفع مجموعات سكانية كبيرة خاصة عندما تكون مجتمعات
مأزومة وطائفية إلى الشعور بتهديد للهوية الثقافية فيتحول اإلنسان من خالل ذلك إلى متعصب
قومي أو ديني أو معاد لآلخر ال يعرف التسامح .
الدراسات النفسية حول قلق الموت تشير إلى أن األشخاص الذين يعتبرون أنفسهم محافظين
يصبحون أكثر رفضا ً لآلخر المختلف وأقل تسامحا ً عندما يتم إيقاظ قلق الموت لديهم .
"قلق الموت" قد يدفع أولئك لالندفاع نحو الموت نفسه للتخلص من ذلك العذاب الذي يؤرقهم في
16
online version 2020 الوعي المأزوم
الالوعي وذلك بجعل التجربة مشتركة ،مدمرين معهم أكبر كم ممكن من اآلخر المختلف ،متوهمين
أنهم يمنحون أنفسهم الخلود األبدي في جنة متوهمة.
المتطرفون العقائديون بكافة أطيافهم يدفعون أتباعهم للموت كآلية دفاعية لصد قلهم الذاتي من
الفناء وتسكين ذلك العذاب النفسي المرتبط بفكرة أنهم فانون -مغلفين كل ذلك بأهداف عليا .-وفي
"األسطرة" التاريخية يحتل التعويض مركزا ً متقدما ً في عالقة اإلنسان المأزوم بنفسه وببيئته.
ولعل إحدى وظائف التعويض هنا اإلسهام بمزيد من طمس الوعي ألن الوعي يتطلب الجرأة على
المواجهة والتغيير ،كشرط من شروط التوجه نحو المستقبل بدالً من التوجه نحو الماضي والتثبت
فيه .تعمل أسطرة التاريخ للمجتمعات المأزومة على رسم صور ومواقف وهمية أو معزولة عن
سياقها للماضي ،ليبقى حيا ً حاضرا ً ممتدا ً ال ينتهي.
وفي الوقت الراهن تعمل وسائط اإلعالم والوسائط المتعددة بوصفها أكبر جهاز خداع وتزوير
ونفاق على تأصيل لوعي زائف من النوع الفيروسي والذي ال يتيح للوعي ،المأزوم باألصل ،أية
فرصة للمحاكمة المنطقية والمواجهة الفاعلة ،خدمة لمصالح ذاتية بعيدة عما هو طاف على
السطح.
ومع افتقاد البعد األخالقي والقيمي والروحي تغرق الكتل االجتماعية المأزومة هذه في
عصبيات انتماؤها عابر للحدود ،أيديولوجيتها إيديولوجية "الحواكير والحارات ومضارب الخيام"،
وتفكيرها هذياني النزعة إقصائي ،يوزع صفة "الوطنية" على من يشاء وينزعها عمن يشاء مقابل
طرف آخر يوزع صكوك الغفران واإليمان على من يشاء وينزعها عمن يشاء.
يستخدم االستبداد االجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات المأزومة أدوات نفسية وخيمة
من أجل ترسيخ عالقات السلطة بإشاعة ثقافة الخجل (التخجيل ،والخزي) والتي تعمل بدورها
على توليد مشاعر التفاهة لدى األتباع (أفرادا ً وكتالً) .والمكافئ السلوكي المقابل لهذا يتجلى في
التواضع الكاذب والمشوه ،والتماهي بالمعتدي دون وعي منها أنها تمارس في السر ما ترفضه
في العلن.
وظيفة ثقافة الخجل (التخجيل أو الشعور بالعار والخزي ،الشعور بالنقص) يدفع اإلنسان
"الخجالن" إلى إخفاء نفسه؛ إلى االنسحاب ،وتصغير نفسه واحتقارها؛ إنه يصغر نفسه ،يحقرها
ويحتقرها .ومن ثم تضمن القوى المسيطرة إصابة مجاميع كاملة من أفراد الكتل المأزومة بالشلل
الذهني.
17
online version 2020 الوعي المأزوم
ومشاعر النقص ليست أكثر من مشاعر الخجل (مشاعر العار) ،وهي تدفع الفرد لالنسحاب
والتنازل عن مطالبته بأن يكون على المستوى نفسه سواء من السلطة الحاكمة بوصفها ممثالً له
في ظل مفهوم العقد االجتماعي والمواطنة .وألن هذه المشاعر مؤلمة ومقيتة ويصعب تحمل هذا
الشعور بالتفاهة من جهة ،وضغط القوى المتسلطة على اإلنسان المأزوم ليظل تحت رحمة ما
يعدونه هم على أنه مخجل (أو عيب) ،فإن آليات الدفاع كالتثبيت والنكوص والكبت تعمل على
تخفيف التوتر الناجم .
مظاهر األبهة والفخامة ،واستعراضات القوة والقصور الشامخة واألبراج الشاهقة ،وسيلة
يسعى من ورائها المتسلطون وغيرهم إلى توليد اإلحساس لدى أتباعهم بتفاهتهم وعدم أهميتهم:
فتسود ثقافة (أين نحن من هؤالء ،أين نحن وأين هم) هذا الشعور يجعلهم يتوقفوا عن اعتبار
أنفسهم مواطنين بل رعايا وأتباع ،ويخجلوا من المطالبة بحقوقهم .في مجتمعات كهذه تسود مظاهر
اإلدمان والعدوانية والعنف بأشكاله واإلساءة لسمعة اآلخرين والعنصرية المتخفية المقيتة (النميمة
وإطالق الشائعات والمضايقة والتماهي بالمعتدي) كرد فعل الشعوري على األذى النفسي الناجم.
وماذا يبقى في النهاية غير التصرف بردود الفعل العدائية ،انتقاما ً للذات المأزومة والممزقة
تحت شعار االنتصار للدين ،والولي والفقيه وانتقاما ً من الكفرة أو المارقين أو المعارضين الذين
يتم تحديدهم بشكل عشوائي ،ليس بسبب كونهم كذلك بالفعل ،بل ألنهم يشكلون موضوعا ً لإلسقاط،
يرى فيه ممارسو العنف واإلرهاب والديماغوجيين ذلك الجانب المخفي فيهم ،أال وهو حقيقة
أنفسهم ،حقيقة أزمتهم وصدمتهم ،فيحاولون الهرب منها للخارج ،وتكون النتيجة الغرق الذي لن
ينجو منه أحد حتى أنفسهم.