Professional Documents
Culture Documents
S4-Philosophie Moderne
S4-Philosophie Moderne
الفلسفة الحديثة
ديكارت
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
المحتو يات
أسس الفلسفة الحديثة :الموقف الفلسفي العقلاني .ديكارت 2 .................................................
"أنا أفكر ،إذن :أنا موجود" :مراحل تبلور أساس فلسفة ديكارت 17 .......................................
)1رهان الشك المنهجي :مواجهة الشك المذهبي واستعادة الثقة في العقل الإنساني 17
()1ألوان الشكانية 18........................................................................................................................
")2أنا أفكر ،إذن أنا موجود" :نقطة ارتكاز عقلانية ديكارت 24...........................................
ملخّ ص التأملات الستة28......................................................................................................
1
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أن سلوكه العام إزاء المعرفة الموروثة والمعرفة القائمة في عصره قد اتسم بعدم
الرضا من جهة ،وبالوعي بأن بناء المعرفة اليقينية إنما هو مشروع شخصي تنخرط
الذات في بلورته وإنجازه من جهة ثانية؛
وأن الشك الذي يُع َد أوضح علامات عقلانيته إنما كان القصد منه مواجهة
خطر الشكانية ورفع تحدي إمكان بلوغ معرفة يقينية؛
وأن الـكوجيطو كان المخر َج من دورة الشك من أجل تمهيد الطر يق لتشييد
المعرفة اليقينية المنشودة من أجل تصحيح النظر وتسديد العمل؛
وأن طر يقته "المستحدثة" في تناول عدد من المسائل الفلسفية قد فتحت للفكر
الفلسفي آفاقا غير مسبوقة سواء من لدن من شاركه المبادئ الفلسفية التي
وضع أسسها أو من خالفه في ذلك.
)1تواريخ دالة
الغرض من هذه السرد الزمني أن نرصد بعض المعالـم الـم ُعينة على النظر في المساهمة
الفلسفية الديكارتية في إطارها التار يخي الخاص بديكارت أولاً ،مع استحضار بعض ضروب
التفاعل الغني والمتنوع مع بعض أعلام عصره في تشكيل سيرته ومساهمته.
:31-03-1596 وُلد ديكارت ،وتوفيت والدته بعد حوالي عام على ولادته.
:1607-1615 درس في مدرسة لافليش التابعة لجماعة اليسوعيين ،وختم
برنامجها (الأعوام الثلاثة المخصصة للفلسفة والر ياضيات) .كما نال عام 1616
إجازة في القانون من جامعة پواتيي.
وفي هذا العام أيضا ،تمت إدانة الهيئة الفلـكية الـكپرنيكية وتقييد طر يقة
تدريسها بإدانة التمييز في الحديث عنها بين 'طر يقة فيلسوف الطبيعة' و'طر يقة
2
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
عالِم الإلهيات' .ولم يتوقف ديكارت عن تتبع الأخبار المتعلقة بموقف الـكنيسة
الكاثليكية من الهيئة الفلـكية الجدية ،واستحضرها مرارا سواء في مراسلاته
مع صديقه ماران ميرسين [ ،])Marin Mersenne (1588-1648أو في
رسالته إلى أساتذة اللاهوت التي تصدرت كتاب التأملات في الفلسفة الأولى.
:1618 التحق بجيش الأمير موريس د ُناسو []Maurice of Nassau
بهولاندا ،وهناك التقى بالعالـِم الهولندي إسحاق بيكمان [،]Isaac Beeckman
وأهداه كتابا في الموسيقى.
:1618-1648 حرب الثلاثين عاما بالأراضي الجرمانية ،كانت فرنسا حليفة
البروتستانتيين ضد الكاثليكيين من حلفاء إسبانيا.
:1620-1619 سافر إلى ألمانيا .كتب في كراس تذاكيره أنه رأى رؤى
عجيبة« ،وضعَت ْه على الطر يق القويم للحياة» ،وأنه «بدأ يدرك أسس كشف
عجيب» .وخلال هذه الفترة بدأ كتابة قواعد لتوجيه الفكر ،وتركه غير مكتمل
عام .1628
:1627 التقى رجل الدين بيير د ُبيرول [Pierre de Bérulle, 1575-
]1629في إقامة سفير البابا حيث ناظَر أح َد الـكيميائيين ،فدعاه د ُبيرول
أثناءها إلى تفصيل منهجه الذي يتح َّ ّدث عنه.
َّ
وتفر ّغ للكتابة في الميتافيز يقا وفي الآثار :1628-1629 رحل إلى هولاندا،
العلو ية وفي علم انكسار الضوء وكتاب العالـ َم.
:1633 إدانة گاليلي ،ومنع تدريس الفلك الـكپرنيكي والدفاع عنه .فأحجم
ديكارت عن نشر كتاب العالَم عقب علمه بالخ بر .حيث كتب في إحدى
رسائله إلى صديقه ميرسين:
وقد هالني الأمر حتى أني عزمتُ على إحراق جميع أوراقي ،أو على الأقل
طلِِع أحدا عليها .فلا أت َّخي ّل أنه جُرّ ِم ،مع كونه إيطاليا وم ُق َّر ّبا من
ألا ا ُ ِ
البابا كما سمعت ،لا لسبب سوى إرادة إثبات حركة الأرض التي أعرف
حظ ِرت من لدن بعض الـكرادلة؛ مع أنه قد بلغني أن تدريسها علانية
أنها ُ
لم يُحظَر حتى بروما؛ و ُأق ِر أنه لو بط ُلت لكانت كل مبادئ فلسفتي باطلة ً
كذلك ،إذ تتبره َن بها على نحو بديهي .كما أنها مندمجة في كافة أقسام
كتابي بحيث لا وجه لفصلها عنه دون أن ُأخِل بالكل.
3
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
4
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
5
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
6
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
7
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
لتحصيل العلم وتحسين العمل؛ فيكون التوجه العقلاني ،من هذه الجهة،
مباينا للتوجهات التصوفية أو الاتّباعية ،أو الباطنية ،أو السحر ية؛
التسليم ،في اللاهوت ،بأن العقل ميزان فهم و/أو قبول العقائد الإيمانية
الدينية ،أو على الأقل أن العقائد الإيمانية قابلة لأن تُف َهم بالعقل ،الذي هو
أصلا نور طبيعي وهبة إلهية .يندرج ضمن العقلانية ،بهذا المعنى ،توجهات
أعلام أمثال أگسطين البوني [ ]Augustin d’Hippone, 354-430وتوما
الأكويني [ ،]Thomas d’Aquin, 1225-1274لـكنها عقلانية محدودة
َّ
ومقي ّدة دوما بالوحي؛
وهذا خلافا لمن يتحفظ من دخول العقل مجال العقائد الإيمانية ،ويسلم بالعجز
الأصلي للعقل البشري عن تعقلها؛
وخلافا لمن ي َّ ّتخذ العقل وسيلة لانتقاد كافة الاعتقادات الدينية ،أو لانتقاد
المذاهب والمؤسسات الراعية لشؤون الدين ،كما فعل بعض عقلانيي القرن
الثامن عشر.
إضافة إلى هذه الدلالات المتنوعة التي يحملها لفظ "العقلانية" -وهي دلالات تظل
غير َّ
مفصّ لة ولا شاملة ،ينبغي أن ننتبه إلى أن وصف فلسفة ما أو فيلسوف ما بالعقلانية إنما
يتم من لدن الدارسين لتلك الفلسفة والباحثين المهتمين بأفكار هذا الفيلسوف أو ذاك؛ فيكون
وصف "العقلانية" أداة للتصنيف والفهم والمقارنة بين الفلسفات والفلاسفة .وككل
تصنيف ،فإنه تابع لمنظور الدارس ولإشكاليته ولرهاناته.
لقد تساءلنا ،في القسم الأول من هذه الدروس عن ملامح وعي فلاسفة العصر الحديث
بـ"حداثتهم" ،ثم رسمنا معالم عامة للسياق التار يخي والفكري والعلمي والفني الذي شهد تبلور
الفلسفة الحديثة ،وقد آن الأوان – انسجاما مع أهداف هذه الوحدة – أن نقترب من بعض
ملامح الفلسفة عقلانية ديكارت ،فنتساءل :كيف َّ
تمث ّل ديكارت علاقته بالسابقين عليه؟ ما
هي سمات موقفه من قدرة الإنسان على المعرفة ومن أنجع السبل إلى نيل معرفة يقينية؟ ما
هي خصوصيات الشك الديكارتي؟ وكيف كان "الأنا أفكر ،إذن أنا موجود" (الـكوجيطو)
تح َ ُ ّ
ل المخرج من الشك؟ ما هي الحلول التي اقترحها للمسائل الفلسفية التي ظلت قرونا عديدة ُ
في نطاق علم اللاهوت؟
8
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أ .عدم الرضا بالموجود :لا يُخطئ القارئ لكتابات ديكارت ملاحظة َ شعوره
الحاد بعدم الرضا بالمعرفة التي خلفها السابقون عليه ،وبعدم التعو يل على
مناهجهم في النظر من أجل تشييد العلم اليقيني الذي لطالما تطل َّع إلى نيله
الإنسان من دون أن يتمكن من نيله :الحكمة المحققة للسعادة .وهذا ما يفسر
معاودة التعبير عن الانزعاج من واقع تقسيم العلوم بشكل يقطع الصلات فيما
بينها من جهة ،و يحرم الساعي إلى تحصيلها من إدراك الوحدة السار ية في
كافة العلوم من جهة ثانية ،وبالتالي إهدار المجهود في ما لا يؤدي إلى الحكمة
الحقيقية؛ كما يفسر نفوره من البناء على ما سبق وإدراكه للحاجة إلى إ يجاد
طر يقة يثق في أن اتباعها يضمن بلوغ غايته .فكتب في القاعدة الأولى من
كتاب قواعد لتوجيه الفكر ( )28-27 .الذي انتهى من تحريره دون أن يتممه
1
عام ،1628ولم يُنش َر إلا بعد وفاته بأزيد من نصف قرن:
يجب أن يكون هدف الدراسات توجيه الفكر توجيها يمكنه من بناء أحكام
متينة حقيقية في كل ما يعرض له من مسائل)...( .
[يتصور الناس] أنه يجب دراسة كل علم على حدة والاستغناء عن العلوم
الأخرى .ومن الأكيد أنهم أخطؤوا في ذلك ،فليست العلوم جميعا سوى
الحكمة الإنسانية ،وهي عينها تظل دوما واحدة مهما تنوعت المواضيع التي
تبحث فيها ،فهي لا تتأثر بتغير هذه المواضيع أكثر مما يتأثر نور الشمس
بتنوع الأشياء التي يضيئها .فليس من داع إلى فرض أي ح ّد على الفكر
الإنساني ،ولا تصرفنا المعرفة ُ بحقيقة ما عن اكتشاف أخرى ،بل تساعدنا
فعلا على تحقيق ذلك ...فإذا ما أردنا مثلا اكتساب علوم نافعة لتحقيق
رف َه العيش في الحياة أو لبلوغ لذة تحصل عند تأمل ما هو حقيقي ،والتي
بل يذهب بعض الدارسين إلى أن هذا الوعي قد بدأ منذ .1619روديس-لويس ،ديكارت والعقلانية.10 ، 1
9
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
تكاد تكون السعادة الوحيدة الخالصة في هذه الحياة التي لا يعكر صفو َها
أي ألم ،فتلك هي الثمار المشروعة التي باستطاعتنا أن نترقبها حقا من
العلوم.
إن الغرض من السعي في طلب المعرفة ،كما يتبين منذ الجملة الأولى من القاعدة الأولى،
هي الحصول على معرفة حقيقية قائمة على أسس قو ية وأدلة موثوقة لا تجعلها معرضة للانهيار
في مواجهة أي محاولة للنقض .ولهذا انتقد ديكارت مضامين التعليم وطرق التعلم وطرق
تداول العلوم ،كما لم يوفر مناسبة لإظهار نفوره من تعايش "أهل العلم" مع المعارف الظنية
القائمة على مجرد التخمين ،وتساكنهم مع التعبير عن مقاصدهم بلغة غامضة لا تعتني بالتفهيم
ولا بتحري عدم إيقاع المتعلم في الزلل .ولنا في إعلان ديكارت عدم الالتزام بالاستعمال
الجاري للكلمات ما يدل على وعيه الحاد بأنه لم يعد ينتمي إلى الإطار الفكري القائم .حيث
كتب ،في سياق وضعه لتعر يفه الخاص لكلمة الحدس:
هذا شاهد من الشواهد التي تساعدنا على بلورة الجواب على السؤال" :هل وعى فلاسفة
العصر الحديث حداثتهم مقارنة مع من سبقهم؟" إن ديكارت لا يسجل اختلافه عن هذا
الفيلسوف أو ذاك ،ولا يعبر عن عسر التواصل من خلال إعادة تدقيق دلالات الألفاظ
وفقا لما جرى الاصطلاح عليه من لدن هذا الفيلسوف أو ذاك ،بل يعلن أن الكلمات التي
يستعملها تحمل دلالات جديدة تماما .وهو إذ يفعل ذلك فإنما يدعو القارئ إلى يتتبع "الفهم
الجديد" الذي يبلوره ،وإلى أن لا يقيس ما يقرأه عنده على مقاس ما هو سائد في المدارس.
ب .البحث عن الحقيقة مشروع شخصي :إن عدم الرضا بالموجود من المعارف
الموروثة و/أو الشائعة لم يُحب ِط ديكارت عن التطلع إلى طلب الحقيقة في
العلوم ،بل كشف له أن لا سبيل إلى بلوغ غايته إلا بجعل بحثه العلمي مشروعا
10
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
شخصيا .وككل مشروع شخصي ،فإنه لم يفتأ عن تطويره وتنميته وتدقيقه على
ضوء قراءاته وتجاربه الحية وتفاعله مع كافة أهل العلم على اختلاف
تخصصاتهم ومواقعهم الاجتماعية .وهذا ما يفسر إصراره على "الجديد" .إن
البحث عن "الجديد" لا يُفه َم ،هنا ،بوصفه مجرد تقلب بين الـكتب وبين
التخصصات لا يقر لصاحبه فيه قرار ،وإنما يُفه َم باستحضار عدم الرضا الذي
تحدثنا عنه ،والشعور بعدم كفاية المعارف القائمة للجواب على الأسئلة التي
يثيرها .كتب في القاعدة العاشرة من كتاب قواعد لتوجيه الفكر ،1كتب:
ينبغي ،حتى يكتسب الفكر الفطنة ،أن ندربه على تحصيل ما كان قد
اكتشف الآخرون ،وأن ندرس ،وفق طر يقة ما ،كل فنون الناس
ومهنهم ،حتى أقلها أهمية ،وخاصة منها تلك التي يظهر فيها النظام أو
يفترض وجودها فيها .أعترف أنني ولدتُ وفي نفسي نزعة عقلية تجعلني
أعتبر أن أكبر لذة من الدراسة هي دوما بالنسبة إلي ،أن لا أصغي إلى
حجج الآخرين ،بل أن أكتشفها بوسائلي الخاصة .وهذا وحده ما دفعني،
وأنا ما أزال شابا ،إلى دراسة العلوم كلما أنبأني عنوان كتاب باكتشاف
جديد .وقبل أن أستغرق في قراءتي ،أسعى إذا لم أستطع بفطنتي الفطر ية
أن أتوصل إلى نتائج مشابهة ،أن أتجنب بعناية المتعة البريئة المتأتية من
قراءة متسرعة؛ وهو ما مكنني مرات عديدة في النهاية ،من إدراك أنني
أتوصل إلى الحقيقة على غير الوجه الذي ألفه الآخرون بمباحث غامضة
عمياء قائمة على الصدفة بدلا من الاستعانة بالطر يقة.
ولعل هذا المشروع الشخصي هو الذي جعل ديكارت يركز على إ يجاد المنهج الـكفيل
بأن يحقق غايته .إذ لا يمكن للإنسان أن يعول على نيل الحقيقة عبر تلقيها من هذا الكتاب
أو ذاك ،ولا باتباع هذا المذهب أو ذاك .فالـكتب كثيرة والمذاهب متباينة ،ولا يكفي عمر
الإنسان كله لقراءتها والاطلاع على مضامينها .فلا مناص من إ يجاد طر يقة واضحة آمنة من
شأن سلوكها أن يضمن بلوغ الحقيقة.
11
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
وفعلا ،هذا ما ظهر في كتاب حديث الطر يقة .وهو في الأصل تمهيد لمقالات علمية
ثلاث ،عرض فيه المنهج الجديد الذي اتبعه فيها .حيث ع َّب ّر من جديد ،وعلى نحو أكثر
تركيزا ،عن عدم رضاه بالمعرفة التي خلفها السابقون عليه ،وبعدم إمكانية التعو يل على
مناهجهم في النظر من أجل تشييد العلم اليقيني الذي لطالما سعى إلى نيله الإنسان من دون
أن يتمكن منه .لـكن عدم الرضا لم يُوَل ِّد لديه يأسا من نيل العلم اليقيني ،بل أشعره بأن هناك
حاجة ماسة إلى تجويد عمل العقل وتأهيله لـكي يصير قادرا على نيل الحقيقة ،وح َّ ّفزه على
أن يبادر شخصيا إلى وضع المنهج الذي يؤدي الالتزام به إلى بلوغ مرامه .إن العنوان الفرعي
َّ
لمصن ّف حديث الطر يقة هو :لقيادة العقل قيادة حسنة والبحث عن الحقيقة في العلوم.
لم يكتف ديكارت بتعيين المجال المعرفي الذي يحتاج إلى إصلاح أو تجديد ،وإنما حكم
على كافة مجالات المعرفة ،وعيَّ ّن موقعها بالنسبة إليه ومدى التعو يل عليها في إنجاح مشروعه:
بناء علم يقيني نافع في أمور الفكر والحياة معا .فالآداب والبلاغة والشعر وكتب الأخلاق
والتاريخ واللاهوت والقانون والمنطق والر ياضيات والفلسفة ،كلها نطاقات يقر ديكارت بأنه
تلقى منها ما تلقى ،ولـكنه يقر في الوقت نفسه بأنها إما أنها لا تتعلق أصلا بطلب الحقيقة في
العلوم ،أو أنها لا تشفي غليل من يضع نصب عينيه بلوغ تلك الحقيقة .أنظر جرد ديكارت
للمعارف التي أتيح له تلقيها إما ضمن البرنامج الدراسي لمدرسة "لافليش" ،أو من خلال قراءاته
المتعددة ،حيث يقوم بتقويم لتلك المعارف ويتخذ منها موقفا على ضوء مشروعه الفلسفي
الأصلي :كيف السبيل إلى تحصيل معرفة يقينية تُصحح النظر وتنفع في الحياة العملية وتحقق
السعادة الإنسانية؟ (حديث الطر يقة ،صص .)64-48 .كتب في خاتمة الجزء الأول من
هذا الكتاب:
هكذا تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة يمكن أن تخمد نورنا الطبيعي
ل قدرة على فهم لغة العقل .إلا أنني بعد أن قضيتُ هكذا
وتجعلنا أق ّ
بعض السنين في الدراسة في كتاب العالم ،وفي السعي إلى الحصول على
شيء من التجربة ،عزمتُ يوما على أن أنظر في نفسي ،وأن أسخر كل
قواي العقلية للبحث عن الطرق التي عليّ سلوكها .صص.67-66 .
ج .الطر يقة :بين الخصوصية وال كونية :إن حرص ديكارت على تبرير عدم
كفاية المعارف الموروثة والقائمة في تحقيق مرامه ،ووعي َه بالطابع الشخصي
للبحث عن الحقيقة جعلا إسهام َه الفلسفي مسكونا بالمراوحة بين تطلع الذات
12
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
الفردية المخصوصة إلى بناء المعرفة ،وبين النزوع إلى مشاركة طر يقته مع
الآخرين .ولعل هذا ما يفسر الإصرار على بيان وجاهة مشروعه من جهة،
والإحجام في الآن نفسه عن تقديم نفسه بوصفه نموذجا يُحتذى وي َُّت ّب َع .أليس
هو من لم يفتأ يدعو كل فرد إلى نبذ التقليد والاتباع وإلى استخدام النور
الطبيعي الذي يملـكه جميع الناس بدون استثناء؟
إن الصواب 1أ عدل أشياء ال كون توزعا بين الناس :إذ إن ك ًّ
ُلا ّ يعتقد أنه
قد أوتي منه الـكفاية ،بحيث إن أقل الناس قناعة بكل الأشياء الأخرى
قد ألفوا عدم الرغبة في الحصول منه على أكثر مما لديهم .وليس من الجائز
أن كلهم قد أخطأوا في ذلك ،بل هو دليل على أن المقدرة على الحكم
الجيد والتمييز بين الحقيقة والخطأ ،وهي ما يسمى على وجه التحديد صوابا
أو عقلا متكافئة بالطبع لدى جميع الناس ،وكذلك على أن تنوع آرائنا لا
يحصل من كون البعض أكثر تعقلا من البعض الآخر ،بل من كوننا
نسوق أفكارنا على دروب مختلفة ،ولا نعتبر الأشياء نفس َها .إذ لا يكفي
أن يكون الفكر جيدا ،بل أهم من ذلك أن َّ
يطبق تطبيقا حسنا .إن أكبر
النفوس لقادرة على أكبر الرذائل كقدرتها على أكبر الفضائل ،والذين لا
يسيرون إلا رويدا يستطيعون إذا اتبعوا السبيل السوي أن يتقدموا أكثر
بكثير من الذين يسرعون ويبتعدون عنه( .حديث الطر يقة.42-41 ،
يدل [ ]le bon sensهنا على الـم َلـَكة الطبيعة التي توجد في كل أفراد الجنس البشري،
وهي بمثابة قوة على تمييز الصواب من الخطأ .كما تدل أيضا ،في مواضع أخرى من كتابات
ديكارت ،على الحكمة ،بوصفها القوة على الحكم الجيد؛ ذلك "النور الطبيعي" الصافي الموهوب
لكافة الناس ويشتمل على المعاني المشتركة بينهم جميعا .وكما لاحظ إتيان جيلس ُن ،فإن الأمر
لا يتعلق هنا بثقة ساذجة عمياء في قدرة الإنسان على اكتشاف الحقيقة استنادا إلى المواهب
كِن الطبيعية الشخصية فقط .بل ،على العكس من ذلك تماما ،ينبغي أن يكون هناك ّ ٌّ
فن يم ّ
الإنسان من قيادة ذهنه ،عبر جعله ينتقل من بداهة إلى بداهة أخرى وهكذا ،سيرا نحو بناء
1ديكارت ،حديث الطر يقة ..،هذه ترجمة يقترحها المترجم لـ ،]bon sens[ :بينما كان محمود الخضيري قد ترجمها سابقا بوصفها
مقابلا للفظ "العقل".
13
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
علم يقيني .إن "النور الطبيعي" موجود في الناس كافة ،ولـكنه غير كاف من دون التسلح
بالمنهج.
هكذا ،وبقدر ما يجدر التشديد على الخطوة الحاسمة في النظر إلى الناس بوصفهم
ممتلـكين للشروط الأساسية لإدراك الحقيقة ،خلافا للنظرة السائدة خلال العصر الوسيط
خصوصا إلى الناس بوصفهم متفاوتين في ذلك بالطبع ،فإنه ينبغي التشديد أيضا على أن هذه
قوة النور الطبيعي معر ّضة لأن تخمدها حجب التربية والعادة ،وبالتالي فهي بحاجة إلى تأهيل،
وتحسين ،وصقل وتهذيب وتجويد .وهذا بالضبط هو دور الطر يقة التي يقترحها ديكارت،
والتي ما فتئ يذكر بأنه نذر عمره لبلورتها ولاستخلاص الثمار المرجوة منها في العلم والحياة.
وفيما يلي بعض المقتطفات الدالة في هذا الباب:
14
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أما بالطر يقة ،فأعني جملة قواعد يقينية سهلة تعصم كل من يراعيها
بصرامة ،من حمل الخطأ محمل الصواب ،فيتوصل إلى معرفة ما هو أهل
لمعرفته ،بتنمية علمه بكيفية متدرجة متواصلة دون أن يهدر أي جهد
ذهني.
وكتب في مبادئ الفلسفة:
لقد انتبهتُ ،وأنا أفحص طبائع مفكرين كُثر ،أنه لا يكاد يوجد منهم من
قد بلغت بهم الغلظة والتخلف درجة ً تجعلهم عاجزين عن امتلاك آراء
سديدة ،بل وعن تحصيل أرفع العلوم متى و ُّجِهوا توجيها سليما .وهذا
يمكن إثباته كذلك بدليل العقل :لأنه إذا كانت المبادئ واضحة ،وإذا
و َجب أن لا يُستنب َط منها شيء إلا عبر استدلالات بديهية للغاية ،فلا
ريب أن يكون للمرء ما يكفي من قوة الذهن ما لـكي يفهم الأشياء التي
تترتب عليها ".مبادئ الفلسفة ،ترجمة عثمان أمين ،صص.66-65 .
(بتصرف)
نختم هذا العنصر الذي وددنا أن ننبه فيه على أن الطابع الخاص والشخصي الذي
حرص ديكارت على إضفائه على طر يقته لا يعني أن هذه الطر يقة لا تصلح لباقي الأشخاص،
أو أن الطرائق كثيرة بكثرة السالـكين .إذا كانت الحقيقة العلمية واحدة ،فكيف نوفق بين
الدعوة إلى التفكير الشخصي المتحرر من التقليد والمعارف السائدة لبلوغها وبين اقتراح منهج
من شأن اتباعه أن يضمن بلوغها؟ ألا تكون الدعوة إلى التحرر من التقليد مجرد دعوة
للدخول في تقليد جديد؟ يبدو أن ديكارت قد ابتدع أسلوبا طر يفا للخروج من هذا الحرج.
ونجد لذلك شاهدا في اختيار عنوان كتاب حديث الطر يقة ،ونعته هذا الكتاب عينه بـ"القصة"
[ ]histoireأو "الأحدوثة"[ :]fableفلقد تعمّد ديكارت عنونة التمهيد للمقالات العلمية التي
نشرها عام 1637بـ[ .1]discoursوفضلا عن تفادي الظهور بمظهر الادعاء والجسارة ،فإنه
هناك ن ُقول كثيرة اقترحها المترجمون إلى العربية للفظة [ ]discoursمن بينها" :مقال"" ،مقالة"" ،قول" ،حديث" و"خطاب". 1
ونرى أن لفظ "الحديث" أقرب إلى الدلالة على ما نحن بصدد في هذا العنصر بالضبط .كتب عمر الشارني تعليقا على اختياره
لفظ "حديث"" :حديث وليس "مقالة" ولا "خطاب" ...معتمدا في ذلك على ما جاء في رسالة ديكارت إلى أحد أصدقائه' :إلا
أنني لم أفهم ما تعترض به على العنوان ،إذ إنني لم أضع مصنف الطر يقة ،بل حديث الطر يقة ،وهو الشيء نفسه بوصفه مقدمة
أو نظرة حول الطر يقة ،لأبين أنني لا أنوي تعليمها ،بل الحديث عنها فقط [ ،"']Mais seulement d’en parlerحديث
الطر يقة ،ص ،37 .هامش رقم ،1وص ،48 .هوامش رقم .25-23
15
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أحجم عن تقديمها كما لو كانت "وصفة" من م ُعلم يطالِب الآخرين بالعمل على تطبيقها والسير
على هديها ،وإنما يعرضها فقط أمام أنظارهم ،ويدعوهم إلى النظر فيها "كما لو كانت قصة،
...أو إن شئتم أحدوثة" ،كما كتب في حديث الطر يقة:
وهكذا ،فليس غرضي هنا تدريس الطر يقة التي يجب على كل واحد أن
يتبعها ليقود عقله قيادة حسنة ،بل إظهار ال كيفية التي بها سعيت إلى
قيادة عقلي فحسب .والذين يدّعون إصدار الأوامر لابد من أن يعتبروا
أنفسهم أمهر ممن يصدرونها إليهم ،وهم جديرون باللوم متى أخ َل ّوا بأبسط
الأمور .ولـكنني إذ اكتفيتُ بتقديم هذا الكتاب كما لو كان مجرد قصة،
أو إن شئتم خيرا من ذلك كما لو كان أحدوثة ،قد يجد فيها القارئ من
الأمثلة ما يمكنه الاحتذاء بها وأخرى يجدر به أن يحجم عن اتباعها،
فإني أرجو أن يكون نافعا للبعض دون أن يضر بأحد ،وأن تفوز صراحتي
برضا الجميع ".أصص.48-47 .
هل يدعو ديكارت القارئ فعلا إلى أن يعتبر مصنفه هذا مجرد "قصة" أو أكثر من
ذلك مجرد "أحدوثة" وهو الذي ما فتئ ينبهنا إلى أن غايته أن يجد طر يقة توصل إلى العلم
اليقيني على نحو مأمون من الزلل وضامن للتقدم المطرد؟ كلا .إنه يدعو القارئ إلى أن يمنح
نفسه فرصة قراءة ما لم يتعود على قراءته ،وما لم يسبق له أن رأى مثيلا له في المدرسة .إنه
يدعوه إلى أن يدخل إلى العالم الفكري الجديد الذي يقترحه عليه ،على سبيل الاستكشاف
والاستئناس قبل الحكم ،ولذلك قال "كما لو" .إن حديث الطر يقة ليس "قصة" ولا هو
بالأحرى "أحدوثة" ،ولـكن الرهان من وراء الدعوة إلى اعتباره قريبا من "القصة" أو
"الأحدوثة" أن يهيئ له حيزا ضمن المشهد الفكري لعصره :فيُقب ِل عليه من يشاركه التطل َع إلى
نمط مغاير في النظر والعمل ،و يُحجِم عن محاربته من يرى فيه فكرا محد َثا ينذر بانهيار الفلسفة
القائمة وبإقامة فلسفة جديدة على أنقاضها.
16
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
فلا بد من التنبيه ،أولاً ،إلى أن هذا النقاش ليس وليد اليوم ،بل إنه بدأ منذ أيام
ُ
التعر ّف على الخصائص المميزة لـ'كوجيطو' ديكارت نفسه؛ ثم لا بد من الوعي ،ثانيا ،بأن
ديكارت قد لا يفيد فيه إثبات مدى اعتماده على هذا النص أو ذاك من نصوص السابقين
– رغم الأهمية التار يخية لهذا الأمر ،وإنما يفيد فيه الوقوف على الغرض الذي توخاه من
وراء ذلك الاعتماد ،والرهان الذي ابتغى ر بحه من السعي إلى جعله أصلا وأساسا لإقامة
فلسفته؛ أي تبيُّن موقعه ضمن المشروع الفلسفي الخاص الذي اختاره لنفسه ،والذي يمكن
صياغة سؤاله الرئيس على الشكل التالي :كيف السبيل إلى إنشاء علم يقيني مأمون من الزلل
لا ريب فيه ،ومفتوح على تقدم مستمر؟
سبقت الإشارة ،في القسم الأول من هذه الدروس ،إلى أن الفلسفة الحديثة قد
نشأت في ظل حركة بعث شاملة للإرث الفلسفي والعلمي والفني والأدبي القديم خصوصا،
على نحو فتح إمكانات تجديد النظر في مجمل الإطار الفكري القائم منذ القرن الثالث عشر على
الأقل .وقد أشرنا إلى تزايد الاهتمام بنصوص الفلاسفة الشكاك من لدن مختلف الفاعلين
أي 'الـكوجيطو' .وهو العبارة المختصرة المنقولة عن الأصل اللاتيني« cogito, ergo sum » : 1
17
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
في المشهد الثقافي ،من أدباء وفلاسفة وعلماء لاهوت ووعاظ وغيرهم .لأجل ذلك ،فإن
إدراك الدور الذي احتلّه الشك في فلسفة ديكارت ،وكذا تقدير أهميته في بيان سمات الحداثة
الفلسفية قد لا يتحققان على نحو جيد ما لم تُستحض َر حالة انبعاث الشكانية خلال القرن
السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر ،ثم تبيُ ّن وجه تفاعل ديكارت معها في بلورة
مشروعه الفلسفي-العلمي الذي استحق بموجبه أن يكون أحد رواد العصر الحديث.
لم تتخذ الشكانية التي جرى بعثها قبيل العصر الحديث شكلا واحدا ووحيدا ،بل كانت
شكانيات متعددة تبعا لأغراض أصحابها ورهاناتهم :فقد رفع لواء َ "الشك" من يطالب بالحق
في التفكير على نحو مخالف لما هو سائد ،وينهض لمقاومة من يدّعي امتلاك الحقيقة؛ ورفعه
من يطالب بالتواضع والاعتراف بقصور العقل الإنساني عن نيل الحقيقة؛ كما َّ
وظّ فه آخرون
للخروج من المآزق النظر ية والعملية التي رافقت النقاشات اللاهوتية على إثر الانشقاق
المسيحي الذي أفرز نقاشا بين رواد الإصلاح الديني وأعلام الإصلاح المضاد .وسوف
نعمل لأجل تبين الخصائص المميزة لشك ديكارت على فحص السؤال التالي :ما هي أهم
سمات الشكانية التي رفضها ديكارت وجعل من التغلب عليها سبيلا إلى إ يجاد نقطة ارتكاز
يقيم عليها فلسفة جديدة؟
المقصود هنا الشكانية التي تعود جذورها إلى العصر القديم الإغريقي والروماني،
سكتوس أمپير يكوس 1.والراجح أن ديكارت اطّ لع على
وخاصة أفكار أبرز أعلامها :پيرون و ِ
أفكارهما ،سواء مباشرة أو بطر يق غير مباشر عبر كتب أخرى كانت في متناول يده؛ حيث
كتب في إحدى رسائله إلى أحد أصدقائه" :لقد رأيتُ الـكثير من الـكتب القديمة للأكاديميين
م عناوين
والشكاك حول هذا الموضوع (=دواعي الشك في الأمور الجسمانية) ".ومع أنه لم يُس ِ ّ
َّ ّ
المرجح أنه قرأ بمدرسة لافليش نصوص شيشرون 2الذي اشتهر عنه الـكتب التي قرأها ،فمن
تفاعله مع الشكاك الذين سبقوه وكان عامل انتقال لأفكارهم من بعده.
]Pyrrhon d’Élis, (vers 365–275 av. J.-C[ 1؛ []Sextus Empiricus, Vers 160-Vers 210
106[ 2ق.م42-ق.م .]Cicéron,
18
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
ارتبط مذهب البيرونيين ،على الأقل كما تمثله ديكارت ،بالاعتقاد في استحالة معرفة
العالَم الخارجي ،والدعوة إلى عدم التيه وراء أحكام باطلة ،والاكتفاء ب "تعليق الحكم" ،أو
"التوقف" ،بحيث يمنع المرء نفسَه عن إصدار حكم بشأن أي شيء كيفما كان ،وعدم الثقة
جدت بعض عناصر هذا المذهب لدى عدد من الفلاسفة المتأثرين
تماما في أي شيء .وقد و ُ ِ
بالموقف الرواقي إزاء "حقيقة العلم" و"قيمته" و"الغاية الأخيرة من طلبه"؛ موقف من بين أهم
سماته ،في السياق الذي يهمنا هنا ،التحفظ من طلب العلم من أجل العلم ،بالنظر إلى محدودية
الوضعية البشر ية التي تتسم أساسا بالضعف والقصور والفناء .فحسب هذه الموقف ،مهما
حصل الإنسان من علم ،يظل نطاق معرفته ضئيلا مقارنة بما يمكن معرفته وبما يعجز عن
معرفته.
َّ
سج ّل كثير من المفكرين والباحثين التشابه بين ديكارت وأگسطين 1،سواء في ردّ سبب
الشك إلى خداع الحواس والاتفاق في أن تخليص الفكر من الحس هو الـكفيل بمجاوزة
الشك ،أو في البناء على هذه النتيجة لإثبات الطابع غير المادي للنفس ثم الانطلاق من
داخل الذات لإثبات وجود الله .وفيما يهم جعل الرد على الشكاك خطوة ضرور ية لبلورة
الحقيقة ،فقد عمل أگسطين ،الذي نشأ في ظل جو ثقافي متعدد المشارب والمذاهب ،على
2
إدماج عناصر مهمة من الإرث الفلسفي الإغريقي ،وخاصة في صيغته الأفلاطونية المحدثة،
وساهم على نحو أصيل في بلورة التوجه الفكري المسيحي لقرون من بعده ،وانتشرت أفكاره
انتشارا واسعا قبيل العصر الحديث عند الكاثوليكيين والبروتستانت معا .ولئن لم يكن أگسطين
رافضا لانشغال الإنسان بطلب الحكمة البشر ية ،فقد َّ
عب ّر صراحة عن التحفظ من أن يصير
طلب العلم غاية في ذاته ،والخشية من يؤدي ذلك إلى إلهاء الإنسان عن الاهتمام بالعمل
لحياة الآخرة.
ميشيل مونطينيْ
19
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
كتب مونطيني 1مقالات جمعها ضمن م َّؤ ّلف عنونه بـ .Essais :وقد تع َّمّد فيه تناول
موضوعات متفرقة غاية التفرق ،كما تع َّمّد تحريرها على نحو متفاوت في الدقة والضبط والعمق.
حيث ص َّرّح أنه لا يريد إيصال معرفة ما ،ولا ي َّ ّدعي امتلاك حقائق تستحق أن ت ُ َّبل ّغ وتُع َّل ّم
بوصفها حقائق؛ بل أن غرضه الأخير تنبيه الإنسان إلى ضعفه وهوانه وقصوره ودناءة
منزلته ،وتحذيره من الإمعان في الغرور والاعتداد بالنفس وادعاء العلم ،وتذكيره بأن قيمته
لا تُنال من دون فضل الله ونعمته عليه .ولا شك أن ديكارت كان مطلعا على أفكار
مونطيني الذي كانت كتاباته واسعة الانتشار خلال النصف الأول من القرن السابع عشر،
بل إن الـكثير من الفقرات التي كتبها ديكارت تبدو كما لو أنها تعليقات واستدراكات
وردود وتجاوز للإحراجات التي يضعها مونطيني أمام إمكانات الوصول إلى معرفة يقينية.
وعليه ،يظهر أن هدم النسق الفلسفي-العلمي الموروث عن أرسطو لم يكن أهم وأصعب
على ديكارت من الرد على مونطيني :ذلك أن الأول كان في طر يقه إلى الزوال بفعل تداعي
أركانه العلمية عقب منجزات كپرنيك وكپلر وگاليلي وقريبا مع نيوتن؛ أما الثاني فهو لا ي َّ ّدعي
أصلا امتلاك معرفة يقينية ،ولا يع ِد بالطر يق الهادي إلى بلوغها ،وإنما يشكك في إمكانية
وجود معرفة من هذا القبيل ،و يجتهد لتيئيس الإنسان من طلبها.
مر بنا أن ديكارت قد أحجم عن نشر كتاب العال َم بعد علمه بمحاكمة گاليلي ،إذ
لقد َّ ّ
كان مقتنعا بأن مشروعه الفلسفي-العلمي قائم على أساس الفرضية الفلـكية الـكپرنيكية ،هاته
الفرضية التي ساهم الـكثير من أعلام الفلسفة والعلم الحديثين في إثبات صحتها ونجاعتها .ولا
بأس أن نستعيد هنا العبارات التي حفظت موقفه من الفلك الـكپرنيكي في رسالته إلى
ميرسين ،ثم نقارنها بالموقف الذي وقفه مونطيني منها .فقد كتب ديكارت:
وقد هالني الأمر إلى درجة أني عزمت على إحراق جميع أوراقي ،أو على
طلِِع أحدا عليها .فلا أت َّخي ّل أنه جُرّ ِم ،مع كونه إيطاليا وم َّ
ُقر ّبا الأقل ألا ا ُ ِ
من البابا كما سمعت ،لا لسبب سوى إرادة إثبات حركة الأرض التي
حظ ِرت من لدن بعض الـكرادلة؛ مع أنه قد بلغني أن تدريسها
أعرف أنها ُ
علانية لم يُحظَر حتى بروما؛ ُّ
وأق ِر أنه لو بط ُلت لكانت كل مبادئ فلسفتي
20
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
باطلة كذلك ،إذ تتبره َن بها على نحو بديهي .كما أنها مندمجة في كافة
أقسام كتابي بحيث لا وجه لفصلها عنه دون أن ُّأخِل بالكل.
مح َ ُ ّ
ل السماء ولا محل النجوم طوال ثلاثة آلاف عام؛ وقد ص َّ ّدق لم يتغ َّي ّر َ
بذلك الناس قاطبة ...وفي أيامنا هذه ،أثبت كپرنيك ببراعة هذه النظر ية
واستخد َمها في كل الحسابات الفلـكية .أفلا نفه َم من هذا شيئا سوى أنه
لا يهم أن نعرف أيّ واحدة من بين هاتين النظريتين صحيحة؛ وما يُدر يك
لعله في ألف عام تأتي نظر ية ثالثة لتبطل النظريتين السابقتين؟
قد يُفه َم من هذا النص أن مونطيني لربما كان "يستشرف" التطورات اللاحقة على
قيام علم الفيز ياء الحديث ،في ُقال إن العلم فعلا يرى اليوم َ أمورا ما كان ليتوقعها كپرنيك
وگاليلي ونيوتن ،وأن الفيز ياء المعاصرة قد اتسمت بالخروج عن الفيز ياء التي صارت تُدعى
اليوم كلاسيكية ،فيز ياء نيوتن ! والحال أن حمل مقصد مونطيني على هذا النحو يسير عكس
ما كان يرمي إليه تماما؛ ذلك أن هذا النص ير ِد لديه في سياق ذم الولع بالجديد والتحذير من
تلقي الأفكار المحد َثة مهما بدت جذابة أو مقنعة ،حيث كتب:
أنا لا َّ
أتغير بسهولة رغم جاذبية الجديد ،وذلك مخافة أن أخسر من التغيير.
وحيث أني لا أستطيع الاختيار ،فإني آخذ بما اختاره الآخرون ،وأبقى
حيث شاء الله لي أن أكون .وإلا ،فلن أقوى على منع نفسي من الدوران
بلا توقف .وبهذا النحو بقيتُ متشبثا أ َّي ّما تشبث ،ولله الحمد ،من دون
اضطراب ولا قلق ضمير ،بما سل َف من عقائد ديننا ،رغم كل ما حدَث
في قرننا هذا من الـمِلل والف ِر َق .إن كُتب القدماء (وأنا أت َّحدث عن
ال كتب الجيدة) تجذبني وتأخذني إلى حيث تريد؛ وما أفهمه عنهم يبدو
لي دوما أقوى .ويبدو لي أنها على حق جميعا وكلا على حدة ،رغم أن
بعضها يناقض بعضا .إن السهولة التي يُظهرها ذوو الأذهان الذكية وهم
يجع َلون كل ما يشاؤون قريبا من الحق ،و يجتهدون في التوسل بكل غريب
ليصبغوه باللون الذي يخدع ذهنا بسيطا مثل ذهني ،يُبيِن بجلاء أن الأدلة
التي يقدمونها واهية للغاية.
21
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
هذا نموذج من نماذج الشكانية التي سادت زمن ديكارت .والواضح أن "المرونة" التي
يُظه ِرها مونطيني إزاء تعدد الآراء والمذاهب ،و"الانفتاح" الذي يُبديه تُجاه تكاثر الحقائق لا
يدلان على "نسبية" تقر بتعدد السبل إلى الحقيقة فتجتهد لتمهيد الطر يق الأفضل مع الاستفادة
مما يعين على الاهتداء إليه .كلا .إنها "نسبية" الغرض منها تسفيه السعي الإنساني الطامح إلى
بلورة علم يستحق أن يُع ََّد علما يقينيا ،ويمكن تطويره والبناء عليه بشكل ُّ
"تقدمي" َّ
مطرد .ذلك
أنه لا يثق في قدرة الإنسان على نيل ذلك العلم ،بل ولا يرى منفعة لذلك أصلا؛ ومهما بدت
النتائج التي يتوصل إليها العقل البشري متينة قائمة على أدلة نظر ية وملاحظات تجريبية ،فإن
ذلك لا ينبغي ،في نظره ،أن "يخدع" الإنسان فيثق في إمكاناته و يطمع في نيل علم موثوق،
ل في تقدير قيمته بوصفه إنسانا قاصرا ،وفي علمه بوصفه علما مشتتا متبدلا على الدوام.
وإلا ز ّ
بليز پاسكال
يُع َد بليز پاسكال 1أحد كبار المفكرين المعاصرين لديكارت الذين لمحوا الطابع العقلاني
الجذري الذي ينطوي عليه موقف هذا الأخير من قدرات العقل الإنساني ومن الآفاق التي
يفتحها أمامه .فعلى الرغم من تقديره وإعجابه بمؤهلاته الر ياضية ،وإجلال كفاءته على صوغ
ُخف تحفظات تُبي ِ ّن للدارس
حقائق سبق أن التفت إليها عدد من المفكرين السابقين ،فإنه لم ي ِ
الفروق الأكيدة بين توجهين فكر يين متباينين ،حيث كتب في مقالته حول الذهن الهندسي:
وددتُ أن يُجيبني ثقات عدول بأن مبدأ خلو المادة -بمقتضى الطبيعة-
من القوة على التفكير ،والمبدأ القائل 'أنا أفكر ،إذن أنا موجود' مبدآن
متطابقان في ذهن ديكارت وفي ذهن القديس أگسطين ،الذي أفصح
سه منذ أزيد من اثني عشر قرنا .والحق أني لا أروم القول
عن الشيء نف ِ
إن ديكارت ليس هو صاحب هذا المبدأ ولا بالأحرى أنه أفاده من
قراءة ذاك القديس العظيم؛ فأنا أعرف جيدا البون الشاسع بين أن تكتب
عبارة بالمصادفة ،من دون أن تستغرق في تأملها ...وبين أن تدرك تلك
العبارة بوصفها ...متوالية عجيبة من النتائج ،تُثبت مباينة الطبيعة المادية
للطبيعة الروحانية ،ثم تجعل من تلك المباينة مبدأ راسخا وعاليا للفيز ياء
بكاملها ،كما زعم ديكارت .ومن دون فحص ما إن كان قد نجح فعلا
22
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
في زعمه ،فإني أفترض أنه قد زعم ذلك ،وهذا الزعم عينه هو الذي
يدفعني لأقول إن تلك العبارة التي وردت في كُتُبه مباينة تمام المباينة
للعبارة نفسها فيما كتبه غيره على سبيل الاتفاق فقط ،مثلما يباين إنسان
تام الحيو ية والقوة إنسانا ميتا.
إن إعجاب پاسكال هنا متعلق بالـكفاءة الهندسية التي أعملها ديكارت في صياغة فكرته،
وكذلك في الوعي بالغرض المتوخى من صياغتها على ذاك النحو وإدراجها ضمن سياق جديد
ورهان مغاير .وهذا بالضبط ما جعله لا يتفق مع الذين سارعوا إلى تبخيس مجهود ديكارت
من خلال "فضح الجذور القديمة" لأفكاره ،والادعاء بأنه لم يفعل سوى إلباسها لباسا مغايرا.
لـكن ذاك الإعجاب ينطوي ،كما يتبيَّ ّن من خلال إعادة قراءة هذا النص ،على تشكيك في
مشروع ديكارت الفلسفي ككل .فعبارة پاسكال "ومن دون فحص ما إن كان قد نجح
فعلا في زعمه" تترك ربما الانطباع بأنه لا يرى فقط أنه فشل في تحقيق غرضه ،وإنما الحكم
حن .وفعلا ،فلطالما سخر پاسكال من فلسفة ديكارت واصفا
عليه بأنه لا يستحق حتى أن يـ ُمت َ
عددا من أفكاره بالأحلام والأحدوثات ،حتى أنه ش َّبّهه بدون كيخوتي ،حيث يُذك َر أنه
"كان يدعو الفلسفة الديكارتية بقصة الطبيعة ،قريبة الشبه بقصة دون كيخوتي".
ومن جهة أخرى ،فإن پاسكال ما كان ليوافق على ما بدا له توثبا بشأن إرادة المعرفة
على نحو يقيني لدى ديكارت ،وطمعا في التراكم الدائم والمستمر للعلم الإنساني .فذاك التوثب
وهذا الطمع يتعارضان مع التقويم الأخلاقي الذي ظل راسخا في التقليد المسيحي – الذي
يعود إلى أگسطين – بشأن الموقف العام من "محبة" المعرفة و"التوله" بها ،إذ كانت تدخل في
عداد الرذائل التي يجدر بالمؤمن التقي أن يحذر من الاتصاف بها .فمهما كان العلم مفيدا،
فلا ينبغي أن يصير طلب ُه تطلعا دائما لا َّ
حد يحده ولا قي ْد يضبطه ،وإلا أمعن الإنسان في
نسيان المغزى من وجوده "المؤقت" في هذا العالَم ،والمهمة ال كبرى التي يلزمه القيام بها على
أحسن وجه :إعادة ربط العهد بالإله والاستعداد لحياة الآخرة .هذا فضلا عما ينطوي عليه
موقف ديكارت تُجاه المعرفة من آفات الغلو في الاعتداد بالذات ،وما ينجم عنه من عُجب
وغرور وتوهم الاكتفاء بالذات والاستقلال.
إنها اعتراضات وتحفظات المؤمن إزاء فكرة "العلم من أجل العلم" ،وإزاء "التطلع الدائم"
الذي هو عينه خطيئة تذكر المؤمن بأب البشر آدم الذي كان السببَ في شقائه تطلع ُه إلى
الأكل من شجرة المعرفة :معرفة الخ ير والشر .وبالتالي فإن مهمة الإنسان تكمن في أن ي ُدرك
23
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أصل ِية الشقاء في الوضع البشري ،وعدم الجدوى من الطمع في مجاوزة هذا الشقاء ،بل على
العكس من ذلك الوعي به والتعايش معه .ومثلما عرضنا موقف مونطيني من فلك كپرنيك،
لا بأس من أن نعرض موقف پاسكال منه ،فقد كتب:
إنه لمن الجدير ،فيما أرى ،ألا نستقصي حقيقة رأي كپرنيك؛ لـكن من
الأهمية بمكان للحياة كلها أن نعلم هل النفس فانية أم باقية.
إن هذه المقارنة بين مونطيني و پاسكال من جهة وبين ديكارت من جهة ثانية ،فيما
يتصل بالموقف من التجديد العلمي ،ومن مدى القدرة العقلية للإنسان على نيل الحقيقة ،تدلنا
على وجه من أوجه "أصالة" الشك الديكارتي ،أي وجه تفرده وخصوصيته :دفع الشك إلى
أبعد نقطة يمكن أن يصل إليها ،ثم الانقلاب عليه ومجاوزته ،ومع مجاوزته "استرداد الثقة"
في العقل الإنساني ،و"استئناف" الطموح إلى تحقيق تقدم علمي مأمون لا يتوقف .إن
"أصالة" الشك الديكارتي هنا ،حين نحملها على معاني التفرد والجدة والتأسيس ،هي وجه من
وجوه "الحداثة" التي كان ديكارت أحد أعلامها.
" )2أنا أفكر ،إذن أنا موجود" :نقطة ارتكاز عقلانية ديكارت
يُتيح الوقوف على الثمار التي جناها ديكارت من هذا الاستعمال "الأصيل" للشك في
تحصيل المعرفة إدراك الأهمية التي يحتلها "الـكوجيطو" في فلسفته ،بوصفه الحقيقة التي بلغت
درجة من الوضوح والتميز واليقين الراسخ بحيث لا يمكن الشك فيها .لأجل ذلك وثق في
جعلها الأساس الجدير بأن يكون ركيزة يقيم عليها صرح مشروعه الفلسفي ،والمبدأ القمين
بأن يكون المنطلق الآمن للسير نحو تحقيقه .كتب في حديث الطر يقة:166-157 ،
ولـكني لـ َمّا لـم يكن غرضي إلا الانصراف إلى البحث عن الحقيقة
ل ما استطعتُ أن أت َّخي ّل فيه
فكرتُ أن الواجب عل َّيّ أن ...أرفض ك َّ ّ
أدنى شك ،وأع َّ ّده أمرا خاطئا على الإطلاق ،حتى أرى هل يبقى شيء
بعد ذلك في اعتقادي لا يكون بتاتا عرضة للشك .وهكذا ،فما دامت
حواسنا تخطئنا أحيانا ،فقد أردت أن أفترض أن لا شيء [يوجد] كما
تجعلنا هي نتخيله .وما دام هناك أناس يخطئون عندما يستدلون ،حتى وإن
َّ
تعل ّق الأمر بأبسط مواضيع الهندسة ،و يقعون بشأنها في أخطاء منطقية،
واعتقادا بأنني عرضة للخطأ مثلي مثل غيري ،نبذتُ كل التي اعتبرتُها
من قبل براهين [صادقة] بوصفها حججا خاطئة .وأخيرا ،لما رأيتُ أن
24
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
الأفكار نفس َها التي تكون لنا في حال اليقظة يمكن أن تنتابنا ونحن نيام،
دون أن تكون من بينها [فكرة] واحدة صحيحة ،عزمتُ على أن أعتبر أن
كل الأشياء التي تس َّرّ بت إلى ذهني لا تزيد حقيقة عن أضغاث الأحلام.
غير أنني سرعان ما تفطّنتُ إلى أنني إ ْذ كنتُ أسعى هكذا إلى التفكير
بأن كل شيء خاطئ ،فإنه من الضروري حتما ،أن أكون أنا الذي
فكرت ذلك ،شيئا ما .ول ما رأيتُ أن هذه الحقيقة :أنا أفكر ،إذن فأنا
[كائن] ،على نحو من اليقين والثبات ،بحيث لا تستطيع أن تزعزعها أكثر
افتراضات الريبيين شططا حكمتُ بأنني أستطيع قبولها ،دون تحفظ،
بوصفها أول مبدأ للفلسفة التي كنتُ أبحث عنها( .بتصرف)
نلاحظ هنا أن ديكارت يربط ربطا وثيقا بين مقاومة الاعتراضات التي يقدمها
الشكانيون على اختلاف مشاربهم ،سواء كانت الاعتراضات تستهدف إلقاء الريب في كل
ما قد يطمئن الذهن الإنساني إلى يقينه ،أو تستهدف تسفيه َ السعي الإنساني إلى نيل معرفة
يقينية.
يجب ،إذن ،إثبات حقيقة أولى لا شك فيها بتاتا .وسيكون الشك المنهجي بهذا المعنى
طر يقا للوصول إلى يقين لا يقين فوقه ،ليُظه ِر الطابع "اله ّدام وغير المنتج" للشك من أجل
الشك (الشك المذهبي) أو للشك من أجل الإحجام عن طلب العلم .هذا هو الرهان الذي
ينبغي ألا يغيب عن بالنا ونحن نسعى إلى فهم خصوصيات مساهمة ديكارت الفلسفية.
فعوض التشكيك في نزاهته ،أو تسليط الضوء على الطابع غير الجدي لشكه ،فالواجب النظر
إلى التحدي الذي أراد مواجهته :كيف السبيل إلى إنشاء علم يقيني مأمون من الزلل لا
ريب فيه ،ومفتوح على تقدم مستمر؟ لذلك كان عليه أن يجيب أولا على السؤال :كيف
السبيل إلى استعادة الطموح الإنساني إلى بلورة معرفة موثوقة مأمونة ومفتوحة على التطور
المستمر؟ وما هو المبدأ الذي بمقدور الإنسان أن يطمئن للانطلاق منه في سبيل تحقيق هذه
الغاية؟
جوابا على هذا السؤال ،إذن ،نفه َم لماذا كان شك ديكارت شكا جذر يا ومنهجيا لا
شكا مذهبيا :فهو جذري لأنه استجابة لإرادة ذاتية في التحرر من كل ما قد يحتمل الخطأ
وسعي إلى الظفر بالأصل الأول الذي عليه تنبني المعرفة اليقينية؛ وهو شك منهجي ،لأنه
يجر يه على نحو إرادي متدرج ،فلا ينقاد له وإنما يتحكم فيه و يقوده نحو الغاية التي يتوخاها،
25
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أي – مجدّدا – بناء المعرفة اليقينية :ضد الشكانية وضد الدوغمائية في الآن عينه .وهذا ما
يعطي للتشبه بأرشميدس 1،عالِم الر ياضيات والميكانيكا ،الحمولة الفلسفية َ العميقة َ التي كان على
وعي تام بها ،حيث كتب في مطلع التأمل الثاني من تأملات في الفلسفة الأولى:
لـكني سأبذل جهدي للمضي في الطر يق الذي سلـكت ُه أمس ،متجنبا كل
كـما لو كنتُ متحققا من بطلانه.
ما قد تسنح لي فيه بادرة من شكَ ،
وسأمضي في هذا الطر يق ق ُد ُما حتى أهتدي إلى شيء يقيني ،فإ ْن لم يـَت َي َّس ّر
لي ذلك ،لبثتُ على حالي على الأقل حتى أعلم علم َ اليقين أنه ليس في
العالـ َم شيء يقيني .فإن أرشميدس لم يكن يطلب إلا نقطة ثابتة مضمونة
ل كي ينقل كرة الأرض من مكانها إلى مكان آخر .وكذلك أنا ،يحق لي
أن أعلق أكبر الآمال إن أسعدني الحظ فوجدتُ شيئا يقينيا لا شك فيه.
إن النقطة الثابتة المضمونة التي سيثق في جعلها ركيزة يقيم عليها فلسفته ،والتي ستكون
في الآن نفسه نهاية َ الشك والمبدأ الأول لكل فلسفته هي ما يُدعى الـكوجيطو" :أنا أفكر،
إذن أنا موجود" .حيث ص َّر ّح في التمهيد لكتاب المبادئ ب ِـما يلي:
26
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
الأول الذي منه استنبطتُ بأوضح وجه ما يليه ،أي أن ثمة إلها هو صانع
كل ما يوجد في العالم ،وأنه لمّا كان نَب ْ َع كل حقيقة فإنه لم يخلق ذهننا
على طبع يجعله يخطئ في الحُكم على [ ]62الأشياء التي يدركها إدراكا
بالغ الوضوح والتميز.
27
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
أق ّدِم ،في التأمل الأول ،الأسباب الداعية لأن نشك في كل الأشياء
عموما ،وفي الأشياء المادية خصوصا ،على الأقل إن لم نحز من أسس في
العلوم غير هاته التي بحوزتنا إلى حد الآن .ومع أن المنفعة من مثل هذا
الشك الع ام لا تظهر لأول وهلة ،فإن له منفعة عظيمة إذ يُخلصنا من
كل ضروب الأحكام المسب َقة ،وييسر لنا سبيلا ممه َدا لأجل تعويد ذهننا
على الانفصال عن الحواس؛ وأخيرا لأنه يقطع إمكان الشك بعد أن
نكتشف الحقيقة.
التأمل الثاني :في طبيعة النفس الإنسانية ،وأن معرفتها أيسر من معرفة الجسم
وفي التأمل الثاني ،نجد الذهن يستعمل حريت َه الخاصة ،فيفترض أن جميع
الأشياء التي يقع له عن وجودها أدنى شك ،هي أشياء معدومة ،لـكنه
يتبين أن من الممتنع إطلاقا حينئذ أن يكون هو نفسه غير موجود .وفي
هذا الأمر أيضا نفع عظيم :فإنه بهذا الوجه يتيسر له أن يميز الأشياء التي
تخصه ،أي التي تخص الطبيعة الذهنية ،من الأشياء التي تخص الجسم.
لـكن قد يتوقع بعض القراء مني أن أورد في ذاك الموضع أدلة ً لإثبات
بقاء النفس .لأجل ذلك أرى لزاما عليّ ههنا تنبيههم إلى أني حاولت ألا
أكتب في هذه الرسالة كلها شيئا إلا ولديّ عنه براهين دقيقة جدا.
فوجدتُ نفسي مضطرا إلى اتباع ترتيب شبيه بالترتيب الذي يصطنعه
أهل الهندسة ،وهو تقديم جميع الأشياء التي تتوقف عليها القضية التي
نبحث عنها قبل استنتاج أي شيء منها.
28
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
وفي التأمل الثالث ،بينتُ – ببعض الإسهاب فيما يلوح لي – أهم دليل
استخدمته لإثبات وجود الله ،ولـكني لم ُّأرِد أن أستخدم في هذا الموضع
تشبيهات مشتقة من الأشياء الجسمية ،لـكي ُأبع ِد أذهان القراء بقدر ما
في وسعي عن استعمال الحواس وعن الاتصال بها ،ولذلك فربما بقيت
هنالك مسائل كثيرة غامضة (أرجو أن أوضحها توضيحا تاما في ردودي
جه َت إلى الكتاب منذ فرغت من تحريره) .ومنها
على الاعتراضات التي و ُ ّ ِ
المسألة التي أورِد ُها فيما يلي :كيف أن فكرة موجود كامل إطلاقا ،وهي
فكرة نجدها فينا ،تشم َل قدرا من الحقيقة الموضوعية ،أي تشارك بالتصور
في قدر من درجات الوجود وال كمال ،بحيث يلز َم أن تصدر عن علة
كاملة على الإطلاق :وهذا ما أوضحته في تلك الردود بإيراد التشبيه بآلة
في غاية البراعة والإتقان ترد فكرتها في ذهن صانع ما ،فإنه كما أن لهذه
الفكرة من إتقان موضوعي لابد له من علة معينة ،إما أن تكون علم ذلك
الصانع أو علم واحد غيره تلقى هو عنه تلك الفكرة ،فكذلك يمتنع بالنسبة
إلى فكرة الله ،التي هي فينا ،أن لا يكون الله ذاته علة لها.
وفي التأمل الرابع أقمتُ الد ّليل على أن جميع الأشياء التي نتصورها تصورا
واضحا جدا ومتميزا جدا هي كلها صحيحة ،كما أوضحتُ طبيعة الخطأ أو
الباطل ،مما تلزم معرفته ضرورة لتوكيد الحقائق السابقة ولفهم الحقائق
التي تتلوها فهما صحيحا .ولـكن ينبغي أن يُلاحَظ أني لا أنظر هنالك في
الخطيئة ،أي في الخطأ الذي يقترف في طلب الخ ير والشر ،بل في الخطأ
الذي يقع في الحكم وتمييز الحق من الباطل .وليس قصدي أن أتكلم
هنالك في ما يهم الإيمان أو سلوك َ الإنسان في الحياة ،وإنما في ما يتصل
بالحقائق العقلية التي يمكن معرفتها بمعونة النور الطبيعي وحده.
التأمل الخامس :في ماهية الأشياء المادية؛ ومُج َ َّ ّددا ،في أن الله موجود
وفي التأمل الخامس ،شرح للطبيعة الجسمية على وجه العموم ،ثم عود ٌ
إلى إثبات وجود الله بدليل جديد .ربما وقعت فيه هو أيضا بعض
الصعوبات ،ولـكن يجد القارئ حل ّها في الردود على الاعتراضات التي
29
شعبة الفلسفة ،الفصل ،4دروس في الفلسفة الحديثة
الأستاذ :يوسف العمّاري2024-2023،
وجهت إليّ .و يضاف إلى ما تقدّم أني أبيِّن على أي وجه يصح القول إن
يقين البراهين الهندسية نفسَه متوقف على معرفتنا بالله.
التأمل السادس :في وجود الأشياء المادية ،وفي التمييز الحقيقي بين نفس الإنسان وبدنه
30