Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 31

‫دروس الفصل الرابع‬

‫الفلسفة الحديثة‬
‫ديكارت‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫المحتو يات‬
‫أسس الفلسفة الحديثة‪ :‬الموقف الفلسفي العقلاني‪ .‬ديكارت ‪2 .................................................‬‬

‫بعض معالم سيرة ديكارت ‪2 ....................................................................................................‬‬


‫)‪1‬تواريخ دالة ‪2‬‬
‫‪5‬‬ ‫)‪2‬أبرز أعمال ديكارت مرتبة ترتيبا كرونولوجيا‬
‫العقلانية‪ :‬نحو تحديد إجرائي ‪7‬‬
‫‪)1‬الموقف من المعرفة القائمة ‪9‬‬

‫"أنا أفكر‪ ،‬إذن‪ :‬أنا موجود"‪ :‬مراحل تبلور أساس فلسفة ديكارت ‪17 .......................................‬‬

‫)‪1‬رهان الشك المنهجي‪ :‬مواجهة الشك المذهبي واستعادة الثقة في العقل الإنساني ‪17‬‬
‫(‪)1‬ألوان الشكانية ‪18........................................................................................................................‬‬
‫‪")2‬أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود"‪ :‬نقطة ارتكاز عقلانية ديكارت ‪24...........................................‬‬
‫ملخّ ص التأملات الستة‪28......................................................................................................‬‬

‫‪1‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫أسس الفلسفة الحديثة‪ :‬الموقف الفلسفي العقلاني‪ .‬ديكارت‬


‫بعض معالم سيرة ديكارت‬
‫في هذا المحور‪ ،‬سنعرض بعض الـمعالـم من سيرة ديكارت وأعماله‪ ،‬ثم نضع تحديدا‬
‫إجرائيا لمصطلح "العقلانية" من خلال الوقوف على بعض سمات العقلانية لدى ديكارت‪.‬‬
‫حيث نبين‪:‬‬

‫‪ ‬أن سلوكه العام إزاء المعرفة الموروثة والمعرفة القائمة في عصره قد اتسم بعدم‬
‫الرضا من جهة‪ ،‬وبالوعي بأن بناء المعرفة اليقينية إنما هو مشروع شخصي تنخرط‬
‫الذات في بلورته وإنجازه من جهة ثانية؛‬
‫‪ ‬وأن الشك الذي يُع َد أوضح علامات عقلانيته إنما كان القصد منه مواجهة‬
‫خطر الشكانية ورفع تحدي إمكان بلوغ معرفة يقينية؛‬
‫‪ ‬وأن الـكوجيطو كان المخر َج من دورة الشك من أجل تمهيد الطر يق لتشييد‬
‫المعرفة اليقينية المنشودة من أجل تصحيح النظر وتسديد العمل؛‬
‫‪ ‬وأن طر يقته "المستحدثة" في تناول عدد من المسائل الفلسفية قد فتحت للفكر‬
‫الفلسفي آفاقا غير مسبوقة سواء من لدن من شاركه المبادئ الفلسفية التي‬
‫وضع أسسها أو من خالفه في ذلك‪.‬‬

‫‪ )1‬تواريخ دالة‬
‫الغرض من هذه السرد الزمني أن نرصد بعض المعالـم الـم ُعينة على النظر في المساهمة‬
‫الفلسفية الديكارتية في إطارها التار يخي الخاص بديكارت أولاً‪ ،‬مع استحضار بعض ضروب‬
‫التفاعل الغني والمتنوع مع بعض أعلام عصره في تشكيل سيرته ومساهمته‪.‬‬

‫‪ :31-03-1596 ‬وُلد ديكارت‪ ،‬وتوفيت والدته بعد حوالي عام على ولادته‪.‬‬
‫‪ :1607-1615 ‬درس في مدرسة لافليش التابعة لجماعة اليسوعيين‪ ،‬وختم‬
‫برنامجها (الأعوام الثلاثة المخصصة للفلسفة والر ياضيات)‪ .‬كما نال عام ‪1616‬‬
‫إجازة في القانون من جامعة پواتيي‪.‬‬
‫‪ ‬وفي هذا العام أيضا‪ ،‬تمت إدانة الهيئة الفلـكية الـكپرنيكية وتقييد طر يقة‬
‫تدريسها بإدانة التمييز في الحديث عنها بين 'طر يقة فيلسوف الطبيعة' و'طر يقة‬

‫‪2‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫عالِم الإلهيات'‪ .‬ولم يتوقف ديكارت عن تتبع الأخبار المتعلقة بموقف الـكنيسة‬
‫الكاثليكية من الهيئة الفلـكية الجدية‪ ،‬واستحضرها مرارا سواء في مراسلاته‬
‫مع صديقه ماران ميرسين [‪ ،])Marin Mersenne (1588-1648‬أو في‬
‫رسالته إلى أساتذة اللاهوت التي تصدرت كتاب التأملات في الفلسفة الأولى‪.‬‬
‫‪ :1618 ‬التحق بجيش الأمير موريس د ُناسو [‪]Maurice of Nassau‬‬
‫بهولاندا‪ ،‬وهناك التقى بالعالـِم الهولندي إسحاق بيكمان [‪،]Isaac Beeckman‬‬
‫وأهداه كتابا في الموسيقى‪.‬‬
‫‪ :1618-1648 ‬حرب الثلاثين عاما بالأراضي الجرمانية‪ ،‬كانت فرنسا حليفة‬
‫البروتستانتيين ضد الكاثليكيين من حلفاء إسبانيا‪.‬‬
‫‪ :1620-1619 ‬سافر إلى ألمانيا‪ .‬كتب في كراس تذاكيره أنه رأى رؤى‬
‫عجيبة‪« ،‬وضعَت ْه على الطر يق القويم للحياة»‪ ،‬وأنه «بدأ يدرك أسس كشف‬
‫عجيب»‪ .‬وخلال هذه الفترة بدأ كتابة قواعد لتوجيه الفكر‪ ،‬وتركه غير مكتمل‬
‫عام ‪.1628‬‬
‫‪ :1627 ‬التقى رجل الدين بيير د ُبيرول [‪Pierre de Bérulle, 1575-‬‬
‫‪ ]1629‬في إقامة سفير البابا حيث ناظَر أح َد الـكيميائيين‪ ،‬فدعاه د ُبيرول‬
‫أثناءها إلى تفصيل منهجه الذي يتح َّ ّدث عنه‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتفر ّغ للكتابة في الميتافيز يقا وفي الآثار‬ ‫‪ :1628-1629 ‬رحل إلى هولاندا‪،‬‬
‫العلو ية وفي علم انكسار الضوء وكتاب العالـ َم‪.‬‬
‫‪ :1633 ‬إدانة گاليلي‪ ،‬ومنع تدريس الفلك الـكپرنيكي والدفاع عنه‪ .‬فأحجم‬
‫ديكارت عن نشر كتاب العالَم عقب علمه بالخ بر‪ .‬حيث كتب في إحدى‬
‫رسائله إلى صديقه ميرسين‪:‬‬
‫وقد هالني الأمر حتى أني عزمتُ على إحراق جميع أوراقي‪ ،‬أو على الأقل‬
‫طلِِع أحدا عليها‪ .‬فلا أت َّخي ّل أنه جُرّ ِم‪ ،‬مع كونه إيطاليا وم ُق َّر ّبا من‬
‫ألا ا ُ ِ‬
‫البابا كما سمعت‪ ،‬لا لسبب سوى إرادة إثبات حركة الأرض التي أعرف‬
‫حظ ِرت من لدن بعض الـكرادلة؛ مع أنه قد بلغني أن تدريسها علانية‬
‫أنها ُ‬
‫لم يُحظَر حتى بروما؛ و ُأق ِر أنه لو بط ُلت لكانت كل مبادئ فلسفتي باطلة ً‬
‫كذلك‪ ،‬إذ تتبره َن بها على نحو بديهي‪ .‬كما أنها مندمجة في كافة أقسام‬
‫كتابي بحيث لا وجه لفصلها عنه دون أن ُأخِل بالكل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫‪ :1635-1637 ‬أنهى جملة َ مقالات في علم الانكسارات والآثار العلو ية‬


‫والهندسة‪ ،‬وشرع في كتابة تمهيد لها دعاه حديث الطر يقة لقيادة العقل قيادة‬
‫حسنة والبحث عن الحقيقة في العلوم‪ ،‬ونشره عام ‪.1637‬‬
‫‪ :1640 ‬نشر كتاب تأملات في الفلسفة الأولى‪ .‬وشرع في قراءة الفلاسفة‬
‫السكولائيين ليهيئ الردود على الاعتراضات‪.‬‬
‫‪ :1641 ‬نشر الطبعة الثانية من كتاب التأملات‪ ،‬رفقة اعتراضات (جون دُكاتر‬
‫[‪ ،] Johann de Kater‬توماس هوبز [‪ ،]Thomas Hobbes‬أنطوان أرنو‬
‫[‪ ،]Antoine Arnauld‬پيير گاسندي [‪ ]Pierre Gassendi‬صديق ُه ماران‬
‫ميرسن [‪)]Marin Mersenne‬؛ والردود عليها‪ .‬ثم نشر عام ‪ 1642‬طبعة‬
‫جديدة من التأملات رفقة ردود على اعتراضات جديدة‪.‬‬
‫‪ :1643 ‬منعت جامعة أوتر يخت تدريس الفلسفة الجديدة‪.‬‬
‫‪ :1644 ‬عاد في رحلة خاطفة إلى فرنسا‪ ،‬ونشر كتاب مبادئ الفلسفة الذي‬
‫يعرض فيه فلسفته بكاملها في صيغةكتاب مدرسي أهداه إلى الأميرة إليزابيث‬
‫[‪.]Élisabeth de Bohême, 1618-1680‬‬
‫‪ :1647 ‬نشر الترجمة الفرنسية لكتاب َ ْي التأملات والمبادئ‪ .‬والتقى بگاسندي‬
‫[‪ ]Pierre Gassendi, 1592-1655‬وبليز پاسكال [ ‪Blaise Pascal,‬‬
‫‪ ]1623-1662‬وآخرين‪.‬‬
‫‪ :1648 ‬منعت جامعة ليدن تدريس أعماله‪.‬‬
‫‪ :1649 ‬رحل إلى السويد تلبية لدعوة الملـكة كريستينا‪ .‬ونشر كتاب انفعالات‬
‫النفس‪.‬‬
‫‪ :1650 ‬توفي بستوكهولم في ‪ 11‬فبراير‪.‬‬
‫‪ :1659 ‬شرع جاك روهو [‪ ]Jacques Rohault, 1618-1672‬في إلقاء‬
‫محاضرات حول الفلسفة الطبيعية الديكارتية بباريس‪.‬‬
‫‪ :1663 ‬وُضِعت كتب ديكارت على لائحة الـكتب الممنوعة‪« ،‬إلى حين‬
‫تصحيحها»‪.‬‬
‫‪ :1671 ‬صدر قرار بمنع تدريس الأطروحات المضادة للأرسطية بجامعة‬
‫باريس‪ ،‬أعقبته حملة ضد فلسفة ديكارت‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫‪ :1675 ‬نشر نيكولا مالبرانش [‪]Nicolas Malebranche, 1638-1715‬‬


‫كتابا عنوانه في البحث عن الحقيقة‪ :‬حيث يُنظَر في طبيعة فكر الإنسان‪ ،‬وفي‬
‫استعماله على النحو الأفضل الذي يجنبنا الزلل في العلوم‪ .‬وش َّ ّ‬
‫كل أحد أهم‬
‫الـكتب المعبرة عن الفلسفة الديكارتية‪.‬‬
‫‪ :1677 ‬ن ُش ِرت كتب سبينوزا (بعد وفاته)‪ ،‬بما فيها كتاب الأخلاق‪.‬‬
‫‪ :1680 ‬نشر لويس لاڤيل [‪ ]Louis La Ville‬كتاب آراء السيد ديكارت‪.‬‬
‫ومنع كتاب بيير ر يجيس [‪ ]Pierre-Sylvain Leroy, 1632-1707‬حول‬
‫فلسفة ديكارت‪.‬‬
‫‪ :1689 ‬نشر كتاب نقض الفلسفة الديكارتية من طرف بيير هويت [‪Pierre-‬‬
‫‪ ،]Daniel Huet, 1630-1721‬ولقي ردودا من لدن عدد من الديكارتيين‬
‫بفرنسا وهولاندا والأراضي الجرمانية‪.‬‬
‫‪ :1691 ‬نشر أدر يان بايلي [‪ ]Adrien Baillet, 1649-1706‬كتاب سيرة‬
‫حياة ديكارت‪ .‬وفي هذا العام َّ‬
‫وق ّعت كلية الفلسفة بجامعة باريس نصا يمنع‬
‫تدريس عدد من الأطروحات الديكارتية‪ ،‬وظل المنع مرعيا إلى غاية ‪.1715‬‬
‫‪ُ :1699 ‬أقيم استقبال لكل من نيكولا مالبرانش وسيلفان لوروا بأكاديمية‬
‫باريس للعلوم‪ ،‬وكان ذلك بمثابة المؤشر على انتشار الفلسفة الديكارتية بل‬
‫وهيمنتها طو يلا بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ُ :1720 ‬أدمِ جت كتابات ديكارت رسميا ضمن المنهاج الدراسي بجامعة باريس‪.‬‬

‫‪ )2‬أبرز أعمال ديكارت مرتبة ترتيبا كرونولوجيا‬


‫‪ :1616-1619 ‬مختصر في الموسيقى؛‬
‫‪ :1620-1628 ‬قواعد لتوجيه الفكر؛‬
‫‪ :1629-1636 ‬العالَم‪ ،‬الإنسان؛‬
‫‪ :1637 ‬حديث الطر يقة لقيادة العقل قيادة حسنة والبحث عن‬
‫الحقيقة في العلوم؛‬
‫‪ :1640-1643 ‬تأملات في الفلسفة الأولى؛‬
‫‪ :1644 ‬مبادئ الفلسفة؛‬

‫‪5‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫‪ :1649 ‬انفعالات النفس؛‬


‫‪ ‬البحث عن الحقيقة‪ ،‬هناك اختلاف بين الباحثين في تعيين تاريخ‬
‫كتابته على نحو مضبوط‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وقد َّ‬


‫خل ّف ديكارت مراسلات كثيرة مع أعلام من كافة المشارب‪ :‬لاهوتيين‬
‫وعلماء ودبلوماسيين وأطباء‪ ،‬إضافة إلى المراسلات المكثفة التي كانت له مع الأميرة‬
‫إليزابيث‪ .‬وهذه المراسلات تشكل بالنسبة للدارسين معينا غنيا لفحص مسارات تبلور فلسفة‬
‫ديكارت‪ ،‬والتحولات التي لحقت صياغته لمواقفه الفلسفية والعلمية واللاهوتية‪ ،‬مما يعين على‬
‫تدقيق المعرفة بالسياق الفكري والعلمي العام الذي نشأت فيه الفلسفة الحديثة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫العقلانية‪ :‬نحو تحديد إجرائي‬


‫قبل تفصيل عناصر هذا القسم‪ ،‬يُست َحسَن‪ ،‬إجرائيا‪ ،‬تعيين حدود ما نقصد إلى معرفته‬
‫حينما ندرس "عقلانية ديكارت" بوصفها نموذجا للفلسفة الحديثة‪ .‬وسنعتمد في ذلك على ما‬
‫تمدنا به المعاجم والموسوعات الفلسفية المتخصصة في الموضوع‪.‬‬

‫يدل لفظ العقلانية [‪]Rationalisme‬على مذهب يتضمن جملة اعتقادات حول‬


‫طبيعة العقل ودوره بالنسبة للإنسان ومداه وحدوده‪ ،‬وهي اعتقادات تشكل المبادئ‬
‫والأسس التي عليها يشيد المنتسبون إلى العقلانية أنساقهم الفكر ية بشأن المسائل المدروسة‪،‬‬
‫في الميتافيز يقا‪ ،‬والإبستمولوجيا‪ ،‬واللاهوت‪ ،‬والسياسة‪ ،‬وغيرها‪ .‬ومن بينها‪:‬‬

‫‪ ‬الاعتقاد في أن لا شيء يوجد أو يحدث من دون علة أو سبب يوجده أو‬


‫يحدثه؛ الأمر الذي يجعل كمال المعرفة العقلية في معرفة أسباب الموجودات‪،‬‬
‫وتبيّن مراتبها وفحص إمكان العلم بالسبب الأول للوجود ككل؛‬
‫‪ ‬الاعتقاد في أن كل ظواهر العالَم "معقولة"‪ ،‬وبالتالي قابلة لأن تكون موضوع‬
‫معرفة عقلية لأنها ظواهر َّ‬
‫معل ّل َة‪ ،‬خاضعة لمنظومة من العلل المترابطة؛ فيكون‬
‫النزوع العقلاني‪ ،‬من هذه الجهة‪ ،‬مقابلا لنزوع من لا يعتقد في "معقولية‬
‫العالَم"‪ ،‬بل يفتح الباب لإمكان خروج قسم من الواقع عن دائرة الإدراك‬
‫العقلي؛‬
‫‪ ‬الاعتقاد في أن المعرفة اليقينية لا تتأتى إلا بالطرق العقلية‪ ،‬إذ العقل هو‬
‫وحده الضامن لليقين متى استند على مبادئه القب ْلية الضرور ية؛ فيكون النزوع‬
‫العقلاني‪ ،‬من هذه الجهة‪ ،‬مخالفا للنزوع التجرباني الذي لا ي َأمن إلا لما‬
‫يمتلك بشأنه معطيات حسية‪ .‬وهذا التقابل بين العقلانيين والتجربانيين‪،‬‬
‫الذي برز منذ القرن السابع عشر‪ ،‬يتجه اليوم نحو تصور إبستمولوجي يتجاوز‬
‫التقابل الحاد بين الطرفين اعتبارا للتفاعل الوثيق بين التجربة والتعقل في‬
‫الممارسة العلمية؛‬
‫‪ ‬الاعتقاد في ضرورة الثقة في أن العقل‪ ،‬والإعلاء من قيمة المعرفة الطبيعية‬
‫التي يكون العقل الإنساني وسيلتها‪ ،‬وكفاية النور الطبيعي في السعي الإنساني‬

‫‪7‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫لتحصيل العلم وتحسين العمل؛ فيكون التوجه العقلاني‪ ،‬من هذه الجهة‪،‬‬
‫مباينا للتوجهات التصوفية أو الاتّباعية‪ ،‬أو الباطنية‪ ،‬أو السحر ية؛‬
‫‪ ‬التسليم‪ ،‬في اللاهوت‪ ،‬بأن العقل ميزان فهم و‪/‬أو قبول العقائد الإيمانية‬
‫الدينية‪ ،‬أو على الأقل أن العقائد الإيمانية قابلة لأن تُف َهم بالعقل‪ ،‬الذي هو‬
‫أصلا نور طبيعي وهبة إلهية‪ .‬يندرج ضمن العقلانية‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬توجهات‬
‫أعلام أمثال أگسطين البوني [‪ ]Augustin d’Hippone, 354-430‬وتوما‬
‫الأكويني [‪ ،]Thomas d’Aquin, 1225-1274‬لـكنها عقلانية محدودة‬
‫َّ‬
‫ومقي ّدة دوما بالوحي؛‬
‫‪ ‬وهذا خلافا لمن يتحفظ من دخول العقل مجال العقائد الإيمانية‪ ،‬ويسلم بالعجز‬
‫الأصلي للعقل البشري عن تعقلها؛‬
‫‪ ‬وخلافا لمن ي َّ ّتخذ العقل وسيلة لانتقاد كافة الاعتقادات الدينية‪ ،‬أو لانتقاد‬
‫المذاهب والمؤسسات الراعية لشؤون الدين‪ ،‬كما فعل بعض عقلانيي القرن‬
‫الثامن عشر‪.‬‬

‫إضافة إلى هذه الدلالات المتنوعة التي يحملها لفظ "العقلانية" ‪-‬وهي دلالات تظل‬
‫غير َّ‬
‫مفصّ لة ولا شاملة‪ ،‬ينبغي أن ننتبه إلى أن وصف فلسفة ما أو فيلسوف ما بالعقلانية إنما‬
‫يتم من لدن الدارسين لتلك الفلسفة والباحثين المهتمين بأفكار هذا الفيلسوف أو ذاك؛ فيكون‬
‫وصف "العقلانية" أداة للتصنيف والفهم والمقارنة بين الفلسفات والفلاسفة‪ .‬وككل‬
‫تصنيف‪ ،‬فإنه تابع لمنظور الدارس ولإشكاليته ولرهاناته‪.‬‬

‫لقد تساءلنا‪ ،‬في القسم الأول من هذه الدروس عن ملامح وعي فلاسفة العصر الحديث‬
‫بـ"حداثتهم"‪ ،‬ثم رسمنا معالم عامة للسياق التار يخي والفكري والعلمي والفني الذي شهد تبلور‬
‫الفلسفة الحديثة‪ ،‬وقد آن الأوان – انسجاما مع أهداف هذه الوحدة – أن نقترب من بعض‬
‫ملامح الفلسفة عقلانية ديكارت‪ ،‬فنتساءل‪ :‬كيف َّ‬
‫تمث ّل ديكارت علاقته بالسابقين عليه؟ ما‬
‫هي سمات موقفه من قدرة الإنسان على المعرفة ومن أنجع السبل إلى نيل معرفة يقينية؟ ما‬
‫هي خصوصيات الشك الديكارتي؟ وكيف كان "الأنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود" (الـكوجيطو)‬
‫تح َ ُ ّ‬
‫ل‬ ‫المخرج من الشك؟ ما هي الحلول التي اقترحها للمسائل الفلسفية التي ظلت قرونا عديدة ُ‬
‫في نطاق علم اللاهوت؟‬

‫‪8‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫‪ )1‬الموقف من المعرفة القائمة‬


‫يتطلب رسم معالم موقف ديكارت من المعرفة‪ ،‬البدء بضبط موقفه من المعرفة الموروثة‬
‫َّ‬
‫يتطل ّع إليه و يجعله مشروعا لبحثه‬ ‫عن السابقين والمعرفة السائدة في زمنه‪ ،‬على ضوء ما‬
‫الفلسفي‪.‬‬

‫أ‪ .‬عدم الرضا بالموجود‪ :‬لا يُخطئ القارئ لكتابات ديكارت ملاحظة َ شعوره‬
‫الحاد بعدم الرضا بالمعرفة التي خلفها السابقون عليه‪ ،‬وبعدم التعو يل على‬
‫مناهجهم في النظر من أجل تشييد العلم اليقيني الذي لطالما تطل َّع إلى نيله‬
‫الإنسان من دون أن يتمكن من نيله‪ :‬الحكمة المحققة للسعادة‪ .‬وهذا ما يفسر‬
‫معاودة التعبير عن الانزعاج من واقع تقسيم العلوم بشكل يقطع الصلات فيما‬
‫بينها من جهة‪ ،‬و يحرم الساعي إلى تحصيلها من إدراك الوحدة السار ية في‬
‫كافة العلوم من جهة ثانية‪ ،‬وبالتالي إهدار المجهود في ما لا يؤدي إلى الحكمة‬
‫الحقيقية؛ كما يفسر نفوره من البناء على ما سبق وإدراكه للحاجة إلى إ يجاد‬
‫طر يقة يثق في أن اتباعها يضمن بلوغ غايته‪ .‬فكتب في القاعدة الأولى من‬
‫كتاب قواعد لتوجيه الفكر (‪ )28-27 .‬الذي انتهى من تحريره دون أن يتممه‬
‫‪1‬‬
‫عام ‪ ،1628‬ولم يُنش َر إلا بعد وفاته بأزيد من نصف قرن‪:‬‬

‫يجب أن يكون هدف الدراسات توجيه الفكر توجيها يمكنه من بناء أحكام‬
‫متينة حقيقية في كل ما يعرض له من مسائل‪)...( .‬‬
‫[يتصور الناس] أنه يجب دراسة كل علم على حدة والاستغناء عن العلوم‬
‫الأخرى‪ .‬ومن الأكيد أنهم أخطؤوا في ذلك‪ ،‬فليست العلوم جميعا سوى‬
‫الحكمة الإنسانية‪ ،‬وهي عينها تظل دوما واحدة مهما تنوعت المواضيع التي‬
‫تبحث فيها‪ ،‬فهي لا تتأثر بتغير هذه المواضيع أكثر مما يتأثر نور الشمس‬
‫بتنوع الأشياء التي يضيئها‪ .‬فليس من داع إلى فرض أي ح ّد على الفكر‬
‫الإنساني‪ ،‬ولا تصرفنا المعرفة ُ بحقيقة ما عن اكتشاف أخرى‪ ،‬بل تساعدنا‬
‫فعلا على تحقيق ذلك‪ ...‬فإذا ما أردنا مثلا اكتساب علوم نافعة لتحقيق‬
‫رف َه العيش في الحياة أو لبلوغ لذة تحصل عند تأمل ما هو حقيقي‪ ،‬والتي‬

‫بل يذهب بعض الدارسين إلى أن هذا الوعي قد بدأ منذ ‪ .1619‬روديس‪-‬لويس‪ ،‬ديكارت والعقلانية‪.10 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪9‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫تكاد تكون السعادة الوحيدة الخالصة في هذه الحياة التي لا يعكر صفو َها‬
‫أي ألم‪ ،‬فتلك هي الثمار المشروعة التي باستطاعتنا أن نترقبها حقا من‬
‫العلوم‪.‬‬

‫إن الغرض من السعي في طلب المعرفة‪ ،‬كما يتبين منذ الجملة الأولى من القاعدة الأولى‪،‬‬
‫هي الحصول على معرفة حقيقية قائمة على أسس قو ية وأدلة موثوقة لا تجعلها معرضة للانهيار‬
‫في مواجهة أي محاولة للنقض‪ .‬ولهذا انتقد ديكارت مضامين التعليم وطرق التعلم وطرق‬
‫تداول العلوم‪ ،‬كما لم يوفر مناسبة لإظهار نفوره من تعايش "أهل العلم" مع المعارف الظنية‬
‫القائمة على مجرد التخمين‪ ،‬وتساكنهم مع التعبير عن مقاصدهم بلغة غامضة لا تعتني بالتفهيم‬
‫ولا بتحري عدم إيقاع المتعلم في الزلل‪ .‬ولنا في إعلان ديكارت عدم الالتزام بالاستعمال‬
‫الجاري للكلمات ما يدل على وعيه الحاد بأنه لم يعد ينتمي إلى الإطار الفكري القائم‪ .‬حيث‬
‫كتب‪ ،‬في سياق وضعه لتعر يفه الخاص لكلمة الحدس‪:‬‬

‫وخوفا من أن يصدمهم أحد بهذا الاستعمال الجديد لكلمة "الحدس"‬


‫ولغيرها من الكلمات التي سأجدني فيما بعد مج ب َرا‪ ،‬وبنفس الـكيفية‪ ،‬على‬
‫تغيير دلالاتها المألوفة‪ ،‬فإنني ههنا أعلن بصفة عامة أنني لا أنشغل البتة‬
‫بال كيفية التي است ُعمِلت بها هذه العبارات بالمدارس في هذه الأزمنة‬
‫الأخيرة‪ ،‬ذلك أنه سيكون من الصعب جدا أن نستعمل نفس الأسماء‬
‫في حين نحمل أفكارا شديدة الاختلاف‪( .‬قواعد لتوجيه العقل‪ ،‬صص‪.‬‬
‫‪).37-36‬‬

‫هذا شاهد من الشواهد التي تساعدنا على بلورة الجواب على السؤال‪" :‬هل وعى فلاسفة‬
‫العصر الحديث حداثتهم مقارنة مع من سبقهم؟" إن ديكارت لا يسجل اختلافه عن هذا‬
‫الفيلسوف أو ذاك‪ ،‬ولا يعبر عن عسر التواصل من خلال إعادة تدقيق دلالات الألفاظ‬
‫وفقا لما جرى الاصطلاح عليه من لدن هذا الفيلسوف أو ذاك‪ ،‬بل يعلن أن الكلمات التي‬
‫يستعملها تحمل دلالات جديدة تماما‪ .‬وهو إذ يفعل ذلك فإنما يدعو القارئ إلى يتتبع "الفهم‬
‫الجديد" الذي يبلوره‪ ،‬وإلى أن لا يقيس ما يقرأه عنده على مقاس ما هو سائد في المدارس‪.‬‬

‫ب‪ .‬البحث عن الحقيقة مشروع شخصي‪ :‬إن عدم الرضا بالموجود من المعارف‬
‫الموروثة و‪/‬أو الشائعة لم يُحب ِط ديكارت عن التطلع إلى طلب الحقيقة في‬
‫العلوم‪ ،‬بل كشف له أن لا سبيل إلى بلوغ غايته إلا بجعل بحثه العلمي مشروعا‬

‫‪10‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫شخصيا‪ .‬وككل مشروع شخصي‪ ،‬فإنه لم يفتأ عن تطويره وتنميته وتدقيقه على‬
‫ضوء قراءاته وتجاربه الحية وتفاعله مع كافة أهل العلم على اختلاف‬
‫تخصصاتهم ومواقعهم الاجتماعية‪ .‬وهذا ما يفسر إصراره على "الجديد"‪ .‬إن‬
‫البحث عن "الجديد" لا يُفه َم‪ ،‬هنا‪ ،‬بوصفه مجرد تقلب بين الـكتب وبين‬
‫التخصصات لا يقر لصاحبه فيه قرار‪ ،‬وإنما يُفه َم باستحضار عدم الرضا الذي‬
‫تحدثنا عنه‪ ،‬والشعور بعدم كفاية المعارف القائمة للجواب على الأسئلة التي‬
‫يثيرها‪ .‬كتب في القاعدة العاشرة من كتاب قواعد لتوجيه الفكر‪ ،1‬كتب‪:‬‬

‫ينبغي‪ ،‬حتى يكتسب الفكر الفطنة‪ ،‬أن ندربه على تحصيل ما كان قد‬
‫اكتشف الآخرون‪ ،‬وأن ندرس‪ ،‬وفق طر يقة ما‪ ،‬كل فنون الناس‬
‫ومهنهم‪ ،‬حتى أقلها أهمية‪ ،‬وخاصة منها تلك التي يظهر فيها النظام أو‬
‫يفترض وجودها فيها‪ .‬أعترف أنني ولدتُ وفي نفسي نزعة عقلية تجعلني‬
‫أعتبر أن أكبر لذة من الدراسة هي دوما بالنسبة إلي‪ ،‬أن لا أصغي إلى‬
‫حجج الآخرين‪ ،‬بل أن أكتشفها بوسائلي الخاصة‪ .‬وهذا وحده ما دفعني‪،‬‬
‫وأنا ما أزال شابا‪ ،‬إلى دراسة العلوم كلما أنبأني عنوان كتاب باكتشاف‬
‫جديد‪ .‬وقبل أن أستغرق في قراءتي‪ ،‬أسعى إذا لم أستطع بفطنتي الفطر ية‬
‫أن أتوصل إلى نتائج مشابهة‪ ،‬أن أتجنب بعناية المتعة البريئة المتأتية من‬
‫قراءة متسرعة؛ وهو ما مكنني مرات عديدة في النهاية‪ ،‬من إدراك أنني‬
‫أتوصل إلى الحقيقة على غير الوجه الذي ألفه الآخرون بمباحث غامضة‬
‫عمياء قائمة على الصدفة بدلا من الاستعانة بالطر يقة‪.‬‬

‫ولعل هذا المشروع الشخصي هو الذي جعل ديكارت يركز على إ يجاد المنهج الـكفيل‬
‫بأن يحقق غايته‪ .‬إذ لا يمكن للإنسان أن يعول على نيل الحقيقة عبر تلقيها من هذا الكتاب‬
‫أو ذاك‪ ،‬ولا باتباع هذا المذهب أو ذاك‪ .‬فالـكتب كثيرة والمذاهب متباينة‪ ،‬ولا يكفي عمر‬
‫الإنسان كله لقراءتها والاطلاع على مضامينها‪ .‬فلا مناص من إ يجاد طر يقة واضحة آمنة من‬
‫شأن سلوكها أن يضمن بلوغ الحقيقة‪.‬‬

‫‪ 1‬روني ديكارت‪ ،‬قواعد لتوجيه الفكر‪ ،‬ص‪.74 .‬‬

‫‪11‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫وفعلا‪ ،‬هذا ما ظهر في كتاب حديث الطر يقة‪ .‬وهو في الأصل تمهيد لمقالات علمية‬
‫ثلاث‪ ،‬عرض فيه المنهج الجديد الذي اتبعه فيها‪ .‬حيث ع َّب ّر من جديد‪ ،‬وعلى نحو أكثر‬
‫تركيزا‪ ،‬عن عدم رضاه بالمعرفة التي خلفها السابقون عليه‪ ،‬وبعدم إمكانية التعو يل على‬
‫مناهجهم في النظر من أجل تشييد العلم اليقيني الذي لطالما سعى إلى نيله الإنسان من دون‬
‫أن يتمكن منه‪ .‬لـكن عدم الرضا لم يُوَل ِّد لديه يأسا من نيل العلم اليقيني‪ ،‬بل أشعره بأن هناك‬
‫حاجة ماسة إلى تجويد عمل العقل وتأهيله لـكي يصير قادرا على نيل الحقيقة‪ ،‬وح َّ ّفزه على‬
‫أن يبادر شخصيا إلى وضع المنهج الذي يؤدي الالتزام به إلى بلوغ مرامه‪ .‬إن العنوان الفرعي‬
‫َّ‬
‫لمصن ّف حديث الطر يقة هو‪ :‬لقيادة العقل قيادة حسنة والبحث عن الحقيقة في العلوم‪.‬‬

‫لم يكتف ديكارت بتعيين المجال المعرفي الذي يحتاج إلى إصلاح أو تجديد‪ ،‬وإنما حكم‬
‫على كافة مجالات المعرفة‪ ،‬وعيَّ ّن موقعها بالنسبة إليه ومدى التعو يل عليها في إنجاح مشروعه‪:‬‬
‫بناء علم يقيني نافع في أمور الفكر والحياة معا‪ .‬فالآداب والبلاغة والشعر وكتب الأخلاق‬
‫والتاريخ واللاهوت والقانون والمنطق والر ياضيات والفلسفة‪ ،‬كلها نطاقات يقر ديكارت بأنه‬
‫تلقى منها ما تلقى‪ ،‬ولـكنه يقر في الوقت نفسه بأنها إما أنها لا تتعلق أصلا بطلب الحقيقة في‬
‫العلوم‪ ،‬أو أنها لا تشفي غليل من يضع نصب عينيه بلوغ تلك الحقيقة‪ .‬أنظر جرد ديكارت‬
‫للمعارف التي أتيح له تلقيها إما ضمن البرنامج الدراسي لمدرسة "لافليش"‪ ،‬أو من خلال قراءاته‬
‫المتعددة‪ ،‬حيث يقوم بتقويم لتلك المعارف ويتخذ منها موقفا على ضوء مشروعه الفلسفي‬
‫الأصلي‪ :‬كيف السبيل إلى تحصيل معرفة يقينية تُصحح النظر وتنفع في الحياة العملية وتحقق‬
‫السعادة الإنسانية؟ (حديث الطر يقة‪ ،‬صص‪ .)64-48 .‬كتب في خاتمة الجزء الأول من‬
‫هذا الكتاب‪:‬‬

‫هكذا تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة يمكن أن تخمد نورنا الطبيعي‬
‫ل قدرة على فهم لغة العقل‪ .‬إلا أنني بعد أن قضيتُ هكذا‬
‫وتجعلنا أق ّ‬
‫بعض السنين في الدراسة في كتاب العالم‪ ،‬وفي السعي إلى الحصول على‬
‫شيء من التجربة‪ ،‬عزمتُ يوما على أن أنظر في نفسي‪ ،‬وأن أسخر كل‬
‫قواي العقلية للبحث عن الطرق التي عليّ سلوكها‪ .‬صص‪.67-66 .‬‬

‫ج‪ .‬الطر يقة‪ :‬بين الخصوصية وال كونية‪ :‬إن حرص ديكارت على تبرير عدم‬
‫كفاية المعارف الموروثة والقائمة في تحقيق مرامه‪ ،‬ووعي َه بالطابع الشخصي‬
‫للبحث عن الحقيقة جعلا إسهام َه الفلسفي مسكونا بالمراوحة بين تطلع الذات‬

‫‪12‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫الفردية المخصوصة إلى بناء المعرفة‪ ،‬وبين النزوع إلى مشاركة طر يقته مع‬
‫الآخرين‪ .‬ولعل هذا ما يفسر الإصرار على بيان وجاهة مشروعه من جهة‪،‬‬
‫والإحجام في الآن نفسه عن تقديم نفسه بوصفه نموذجا يُحتذى وي َُّت ّب َع‪ .‬أليس‬
‫هو من لم يفتأ يدعو كل فرد إلى نبذ التقليد والاتباع وإلى استخدام النور‬
‫الطبيعي الذي يملـكه جميع الناس بدون استثناء؟‬

‫إن الصواب‪ 1‬أ عدل أشياء ال كون توزعا بين الناس‪ :‬إذ إن ك ًّ‬
‫ُلا ّ يعتقد أنه‬
‫قد أوتي منه الـكفاية‪ ،‬بحيث إن أقل الناس قناعة بكل الأشياء الأخرى‬
‫قد ألفوا عدم الرغبة في الحصول منه على أكثر مما لديهم‪ .‬وليس من الجائز‬
‫أن كلهم قد أخطأوا في ذلك‪ ،‬بل هو دليل على أن المقدرة على الحكم‬
‫الجيد والتمييز بين الحقيقة والخطأ‪ ،‬وهي ما يسمى على وجه التحديد صوابا‬
‫أو عقلا متكافئة بالطبع لدى جميع الناس‪ ،‬وكذلك على أن تنوع آرائنا لا‬
‫يحصل من كون البعض أكثر تعقلا من البعض الآخر‪ ،‬بل من كوننا‬
‫نسوق أفكارنا على دروب مختلفة‪ ،‬ولا نعتبر الأشياء نفس َها‪ .‬إذ لا يكفي‬
‫أن يكون الفكر جيدا‪ ،‬بل أهم من ذلك أن َّ‬
‫يطبق تطبيقا حسنا‪ .‬إن أكبر‬
‫النفوس لقادرة على أكبر الرذائل كقدرتها على أكبر الفضائل‪ ،‬والذين لا‬
‫يسيرون إلا رويدا يستطيعون إذا اتبعوا السبيل السوي أن يتقدموا أكثر‬
‫بكثير من الذين يسرعون ويبتعدون عنه‪( .‬حديث الطر يقة‪.42-41 ،‬‬

‫يدل [‪ ]le bon sens‬هنا على الـم َلـَكة الطبيعة التي توجد في كل أفراد الجنس البشري‪،‬‬
‫وهي بمثابة قوة على تمييز الصواب من الخطأ‪ .‬كما تدل أيضا‪ ،‬في مواضع أخرى من كتابات‬
‫ديكارت‪ ،‬على الحكمة‪ ،‬بوصفها القوة على الحكم الجيد؛ ذلك "النور الطبيعي" الصافي الموهوب‬
‫لكافة الناس ويشتمل على المعاني المشتركة بينهم جميعا‪ .‬وكما لاحظ إتيان جيلس ُن‪ ،‬فإن الأمر‬
‫لا يتعلق هنا بثقة ساذجة عمياء في قدرة الإنسان على اكتشاف الحقيقة استنادا إلى المواهب‬
‫كِن‬ ‫الطبيعية الشخصية فقط‪ .‬بل‪ ،‬على العكس من ذلك تماما‪ ،‬ينبغي أن يكون هناك ّ ٌّ‬
‫فن يم ّ‬
‫الإنسان من قيادة ذهنه‪ ،‬عبر جعله ينتقل من بداهة إلى بداهة أخرى وهكذا‪ ،‬سيرا نحو بناء‬

‫‪ 1‬ديكارت‪ ،‬حديث الطر يقة‪ ..،‬هذه ترجمة يقترحها المترجم لـ‪ ،]bon sens[ :‬بينما كان محمود الخضيري قد ترجمها سابقا بوصفها‬
‫مقابلا للفظ "العقل"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫علم يقيني‪ .‬إن "النور الطبيعي" موجود في الناس كافة‪ ،‬ولـكنه غير كاف من دون التسلح‬
‫بالمنهج‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬وبقدر ما يجدر التشديد على الخطوة الحاسمة في النظر إلى الناس بوصفهم‬
‫ممتلـكين للشروط الأساسية لإدراك الحقيقة‪ ،‬خلافا للنظرة السائدة خلال العصر الوسيط‬
‫خصوصا إلى الناس بوصفهم متفاوتين في ذلك بالطبع‪ ،‬فإنه ينبغي التشديد أيضا على أن هذه‬
‫قوة النور الطبيعي معر ّضة لأن تخمدها حجب التربية والعادة‪ ،‬وبالتالي فهي بحاجة إلى تأهيل‪،‬‬
‫وتحسين‪ ،‬وصقل وتهذيب وتجويد‪ .‬وهذا بالضبط هو دور الطر يقة التي يقترحها ديكارت‪،‬‬
‫والتي ما فتئ يذكر بأنه نذر عمره لبلورتها ولاستخلاص الثمار المرجوة منها في العلم والحياة‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض المقتطفات الدالة في هذا الباب‪:‬‬

‫‪ ‬كتب في القاعدة الرابعة من قواعد لتوجيه الفكر‪ ،‬صص‪:40-39 .‬‬


‫الطر يقة ضرور ية في البحث عن الحقيقة‪.‬‬
‫إن البشر‪ ،‬وقد تملـكهم فضول أعمى‪ ،‬غالبا ما يزجون بعقولهم في مسالك‬
‫مجهولة‪ ،‬لا يرجى منها أمل‪ .‬فهم يخاطرون بأنفسهم من أجل العثور على‬
‫ما يبحثون عنه فحسب‪ ،‬مثلهم في ذلك مثل إنسان يت َّحر ّق للعثور على كنز‪،‬‬
‫فيهيم على وجهه دون انقطاع في الساحات العامة‪ ،‬لعله يعثر صدفة على‬
‫شيء أضاعه أحد المسافرين‪.‬‬
‫وعلى هذا النحو يدرس تقريبا كل الـكيميائيين وجل الهندسيين وكثير‬
‫من الفلاسفة‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬لا أنفي أنه رغم أخطائهم صادفهم الحظ‬
‫في العثور على بعض الحقائق‪ .‬غير أني لا أجزم أنهم بلغوها لمهارة يحذقونها‬
‫أفضل من غيرهم‪ ،‬وإنما لأنهم كانوا أسعد حظا منهم‪ ،‬لا غير‪.‬‬
‫إلا أن صرف النظر عن البحث في حقيقة ما أفضل من البحث فيها‬
‫دون طر يقة‪ .‬فمن الثابت حقا أن هذه الدراسات عديمة النظام‪،‬‬
‫والتأملات الغامضة تحجب النور الطبيعي وتعمي الفكر‪ .‬ومن اعتاد المشي‬
‫هكذا في الظلمات تتضاءل حدة بصره إلى حد لا يستطيع معه بعد ذلك‬
‫أن يتحمل ضوء النهار‪ ،‬وهو أمر تثبته التجربة أيضا‪ ،‬فغالبا ما نرى الأحكام‬
‫التي يصدرها أولئك الذين لم يعتنوا قط بدراسة الآداب‪ ،‬أوثق وأوضح من‬
‫الأحكام التي يصدرها الذين ارتادوا المدارس بانتظام‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫أما بالطر يقة‪ ،‬فأعني جملة قواعد يقينية سهلة تعصم كل من يراعيها‬
‫بصرامة‪ ،‬من حمل الخطأ محمل الصواب‪ ،‬فيتوصل إلى معرفة ما هو أهل‬
‫لمعرفته‪ ،‬بتنمية علمه بكيفية متدرجة متواصلة دون أن يهدر أي جهد‬
‫ذهني‪.‬‬
‫‪ ‬وكتب في مبادئ الفلسفة‪:‬‬
‫لقد انتبهتُ ‪ ،‬وأنا أفحص طبائع مفكرين كُثر‪ ،‬أنه لا يكاد يوجد منهم من‬
‫قد بلغت بهم الغلظة والتخلف درجة ً تجعلهم عاجزين عن امتلاك آراء‬
‫سديدة‪ ،‬بل وعن تحصيل أرفع العلوم متى و ُّجِهوا توجيها سليما‪ .‬وهذا‬
‫يمكن إثباته كذلك بدليل العقل‪ :‬لأنه إذا كانت المبادئ واضحة‪ ،‬وإذا‬
‫و َجب أن لا يُستنب َط منها شيء إلا عبر استدلالات بديهية للغاية‪ ،‬فلا‬
‫ريب أن يكون للمرء ما يكفي من قوة الذهن ما لـكي يفهم الأشياء التي‬
‫تترتب عليها‪ ".‬مبادئ الفلسفة‪ ،‬ترجمة عثمان أمين‪ ،‬صص‪.66-65 .‬‬
‫(بتصرف)‬

‫نختم هذا العنصر الذي وددنا أن ننبه فيه على أن الطابع الخاص والشخصي الذي‬
‫حرص ديكارت على إضفائه على طر يقته لا يعني أن هذه الطر يقة لا تصلح لباقي الأشخاص‪،‬‬
‫أو أن الطرائق كثيرة بكثرة السالـكين‪ .‬إذا كانت الحقيقة العلمية واحدة‪ ،‬فكيف نوفق بين‬
‫الدعوة إلى التفكير الشخصي المتحرر من التقليد والمعارف السائدة لبلوغها وبين اقتراح منهج‬
‫من شأن اتباعه أن يضمن بلوغها؟ ألا تكون الدعوة إلى التحرر من التقليد مجرد دعوة‬
‫للدخول في تقليد جديد؟ يبدو أن ديكارت قد ابتدع أسلوبا طر يفا للخروج من هذا الحرج‪.‬‬
‫ونجد لذلك شاهدا في اختيار عنوان كتاب حديث الطر يقة‪ ،‬ونعته هذا الكتاب عينه بـ"القصة"‬
‫[‪ ]histoire‬أو "الأحدوثة"[‪ :]fable‬فلقد تعمّد ديكارت عنونة التمهيد للمقالات العلمية التي‬
‫نشرها عام ‪ 1637‬بـ[‪ .1]discours‬وفضلا عن تفادي الظهور بمظهر الادعاء والجسارة‪ ،‬فإنه‬

‫هناك ن ُقول كثيرة اقترحها المترجمون إلى العربية للفظة [‪ ]discours‬من بينها‪" :‬مقال"‪" ،‬مقالة"‪" ،‬قول‪" ،‬حديث" و"خطاب"‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ونرى أن لفظ "الحديث" أقرب إلى الدلالة على ما نحن بصدد في هذا العنصر بالضبط‪ .‬كتب عمر الشارني تعليقا على اختياره‬
‫لفظ "حديث"‪" :‬حديث وليس "مقالة" ولا "خطاب"‪ ...‬معتمدا في ذلك على ما جاء في رسالة ديكارت إلى أحد أصدقائه‪' :‬إلا‬
‫أنني لم أفهم ما تعترض به على العنوان‪ ،‬إذ إنني لم أضع مصنف الطر يقة‪ ،‬بل حديث الطر يقة‪ ،‬وهو الشيء نفسه بوصفه مقدمة‬
‫أو نظرة حول الطر يقة‪ ،‬لأبين أنني لا أنوي تعليمها‪ ،‬بل الحديث عنها فقط [‪ ،"']Mais seulement d’en parler‬حديث‬
‫الطر يقة‪ ،‬ص‪ ،37 .‬هامش رقم‪ ،1‬وص‪ ،48 .‬هوامش رقم ‪.25-23‬‬

‫‪15‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫أحجم عن تقديمها كما لو كانت "وصفة" من م ُعلم يطالِب الآخرين بالعمل على تطبيقها والسير‬
‫على هديها‪ ،‬وإنما يعرضها فقط أمام أنظارهم‪ ،‬ويدعوهم إلى النظر فيها "كما لو كانت قصة‪،‬‬
‫‪ ...‬أو إن شئتم أحدوثة"‪ ،‬كما كتب في حديث الطر يقة‪:‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فليس غرضي هنا تدريس الطر يقة التي يجب على كل واحد أن‬
‫يتبعها ليقود عقله قيادة حسنة‪ ،‬بل إظهار ال كيفية التي بها سعيت إلى‬
‫قيادة عقلي فحسب‪ .‬والذين يدّعون إصدار الأوامر لابد من أن يعتبروا‬
‫أنفسهم أمهر ممن يصدرونها إليهم‪ ،‬وهم جديرون باللوم متى أخ َل ّوا بأبسط‬
‫الأمور‪ .‬ولـكنني إذ اكتفيتُ بتقديم هذا الكتاب كما لو كان مجرد قصة‪،‬‬
‫أو إن شئتم خيرا من ذلك كما لو كان أحدوثة‪ ،‬قد يجد فيها القارئ من‬
‫الأمثلة ما يمكنه الاحتذاء بها وأخرى يجدر به أن يحجم عن اتباعها‪،‬‬
‫فإني أرجو أن يكون نافعا للبعض دون أن يضر بأحد‪ ،‬وأن تفوز صراحتي‬
‫برضا الجميع‪ ".‬أصص‪.48-47 .‬‬

‫هل يدعو ديكارت القارئ فعلا إلى أن يعتبر مصنفه هذا مجرد "قصة" أو أكثر من‬
‫ذلك مجرد "أحدوثة" وهو الذي ما فتئ ينبهنا إلى أن غايته أن يجد طر يقة توصل إلى العلم‬
‫اليقيني على نحو مأمون من الزلل وضامن للتقدم المطرد؟ كلا‪ .‬إنه يدعو القارئ إلى أن يمنح‬
‫نفسه فرصة قراءة ما لم يتعود على قراءته‪ ،‬وما لم يسبق له أن رأى مثيلا له في المدرسة‪ .‬إنه‬
‫يدعوه إلى أن يدخل إلى العالم الفكري الجديد الذي يقترحه عليه‪ ،‬على سبيل الاستكشاف‬
‫والاستئناس قبل الحكم‪ ،‬ولذلك قال "كما لو"‪ .‬إن حديث الطر يقة ليس "قصة" ولا هو‬
‫بالأحرى "أحدوثة"‪ ،‬ولـكن الرهان من وراء الدعوة إلى اعتباره قريبا من "القصة" أو‬
‫"الأحدوثة" أن يهيئ له حيزا ضمن المشهد الفكري لعصره‪ :‬فيُقب ِل عليه من يشاركه التطل َع إلى‬
‫نمط مغاير في النظر والعمل‪ ،‬و يُحجِم عن محاربته من يرى فيه فكرا محد َثا ينذر بانهيار الفلسفة‬
‫القائمة وبإقامة فلسفة جديدة على أنقاضها‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫"أنا أفكر‪ ،‬إذن‪ :‬أنا موجود"‪ :‬مراحل تبلور أساس فلسفة‬


‫ديكارت‬
‫هناك نقاش بين الدارسين حول الـكثير من الأسئلة التي يثيرها البحث في مدى أصالة‬
‫'أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود'‪ 1،‬الذي ع ُ ّد أساس الفلسفة الحديثة؛ وذلك من خلال مراجعة‬
‫عدد من المفاهيم والأفكار الفلسفية المرتبطة بالـكوجيطو‪ ،‬ومن بينها‪ :‬الشك‪ ،‬إثبات انفصال‬
‫النفس عن البدن‪ ،‬الأفكار الفطر ية‪ ،‬إثبات وجود الله عن طر يق دليل الـكمال‪ .‬ولا يزال‬
‫البحث جار يا في وجوه تنقل المعارف وتداولها قبل العصر الحديث من أجل ترصد نصوص‬
‫الشكاك والفلاسفة السابقين ومسارات تنقلها وتناقلها‪ ،‬سعيا وراء إثبات الاتصال أو نفيه‬
‫بين ديكارت والسابقين عليه‪.‬‬

‫فلا بد من التنبيه‪ ،‬أولاً‪ ،‬إلى أن هذا النقاش ليس وليد اليوم‪ ،‬بل إنه بدأ منذ أيام‬
‫ُ‬
‫التعر ّف على الخصائص المميزة لـ'كوجيطو'‬ ‫ديكارت نفسه؛ ثم لا بد من الوعي‪ ،‬ثانيا‪ ،‬بأن‬
‫ديكارت قد لا يفيد فيه إثبات مدى اعتماده على هذا النص أو ذاك من نصوص السابقين‬
‫– رغم الأهمية التار يخية لهذا الأمر‪ ،‬وإنما يفيد فيه الوقوف على الغرض الذي توخاه من‬
‫وراء ذلك الاعتماد‪ ،‬والرهان الذي ابتغى ر بحه من السعي إلى جعله أصلا وأساسا لإقامة‬
‫فلسفته؛ أي تبيُّن موقعه ضمن المشروع الفلسفي الخاص الذي اختاره لنفسه‪ ،‬والذي يمكن‬
‫صياغة سؤاله الرئيس على الشكل التالي‪ :‬كيف السبيل إلى إنشاء علم يقيني مأمون من الزلل‬
‫لا ريب فيه‪ ،‬ومفتوح على تقدم مستمر؟‬

‫‪ )1‬رهان الشك المنهجي‪ :‬مواجهة الشك المذهبي واستعادة الثقة في العقل‬


‫الإنساني‬

‫سبقت الإشارة‪ ،‬في القسم الأول من هذه الدروس‪ ،‬إلى أن الفلسفة الحديثة قد‬
‫نشأت في ظل حركة بعث شاملة للإرث الفلسفي والعلمي والفني والأدبي القديم خصوصا‪،‬‬
‫على نحو فتح إمكانات تجديد النظر في مجمل الإطار الفكري القائم منذ القرن الثالث عشر على‬
‫الأقل‪ .‬وقد أشرنا إلى تزايد الاهتمام بنصوص الفلاسفة الشكاك من لدن مختلف الفاعلين‬

‫أي 'الـكوجيطو'‪ .‬وهو العبارة المختصرة المنقولة عن الأصل اللاتيني‪« cogito, ergo sum » :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪17‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫في المشهد الثقافي‪ ،‬من أدباء وفلاسفة وعلماء لاهوت ووعاظ وغيرهم‪ .‬لأجل ذلك‪ ،‬فإن‬
‫إدراك الدور الذي احتلّه الشك في فلسفة ديكارت‪ ،‬وكذا تقدير أهميته في بيان سمات الحداثة‬
‫الفلسفية قد لا يتحققان على نحو جيد ما لم تُستحض َر حالة انبعاث الشكانية خلال القرن‬
‫السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر‪ ،‬ثم تبيُ ّن وجه تفاعل ديكارت معها في بلورة‬
‫مشروعه الفلسفي‪-‬العلمي الذي استحق بموجبه أن يكون أحد رواد العصر الحديث‪.‬‬

‫(‪ )1‬ألوان الشكانية‬

‫لم تتخذ الشكانية التي جرى بعثها قبيل العصر الحديث شكلا واحدا ووحيدا‪ ،‬بل كانت‬
‫شكانيات متعددة تبعا لأغراض أصحابها ورهاناتهم‪ :‬فقد رفع لواء َ "الشك" من يطالب بالحق‬
‫في التفكير على نحو مخالف لما هو سائد‪ ،‬وينهض لمقاومة من يدّعي امتلاك الحقيقة؛ ورفعه‬
‫من يطالب بالتواضع والاعتراف بقصور العقل الإنساني عن نيل الحقيقة؛ كما َّ‬
‫وظّ فه آخرون‬
‫للخروج من المآزق النظر ية والعملية التي رافقت النقاشات اللاهوتية على إثر الانشقاق‬
‫المسيحي الذي أفرز نقاشا بين رواد الإصلاح الديني وأعلام الإصلاح المضاد‪ .‬وسوف‬
‫نعمل لأجل تبين الخصائص المميزة لشك ديكارت على فحص السؤال التالي‪ :‬ما هي أهم‬
‫سمات الشكانية التي رفضها ديكارت وجعل من التغلب عليها سبيلا إلى إ يجاد نقطة ارتكاز‬
‫يقيم عليها فلسفة جديدة؟‬

‫‪ o‬التقليد الشكاني القديم‬

‫المقصود هنا الشكانية التي تعود جذورها إلى العصر القديم الإغريقي والروماني‪،‬‬
‫سكتوس أمپير يكوس‪ 1.‬والراجح أن ديكارت اطّ لع على‬
‫وخاصة أفكار أبرز أعلامها‪ :‬پيرون و ِ‬
‫أفكارهما‪ ،‬سواء مباشرة أو بطر يق غير مباشر عبر كتب أخرى كانت في متناول يده؛ حيث‬
‫كتب في إحدى رسائله إلى أحد أصدقائه‪" :‬لقد رأيتُ الـكثير من الـكتب القديمة للأكاديميين‬
‫م عناوين‬
‫والشكاك حول هذا الموضوع (=دواعي الشك في الأمور الجسمانية)‪ ".‬ومع أنه لم يُس ِ ّ‬
‫َّ ّ‬
‫المرجح أنه قرأ بمدرسة لافليش نصوص شيشرون‪ 2‬الذي اشتهر عنه‬ ‫الـكتب التي قرأها‪ ،‬فمن‬
‫تفاعله مع الشكاك الذين سبقوه وكان عامل انتقال لأفكارهم من بعده‪.‬‬

‫‪]Pyrrhon d’Élis, (vers 365–275 av. J.-C[ 1‬؛ [‪]Sextus Empiricus, Vers 160-Vers 210‬‬
‫‪106[ 2‬ق‪.‬م‪42-‬ق‪.‬م ‪.]Cicéron,‬‬

‫‪18‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫ارتبط مذهب البيرونيين‪ ،‬على الأقل كما تمثله ديكارت‪ ،‬بالاعتقاد في استحالة معرفة‬
‫العالَم الخارجي‪ ،‬والدعوة إلى عدم التيه وراء أحكام باطلة‪ ،‬والاكتفاء ب "تعليق الحكم"‪ ،‬أو‬
‫"التوقف"‪ ،‬بحيث يمنع المرء نفسَه عن إصدار حكم بشأن أي شيء كيفما كان‪ ،‬وعدم الثقة‬
‫جدت بعض عناصر هذا المذهب لدى عدد من الفلاسفة المتأثرين‬
‫تماما في أي شيء‪ .‬وقد و ُ ِ‬
‫بالموقف الرواقي إزاء "حقيقة العلم" و"قيمته" و"الغاية الأخيرة من طلبه"؛ موقف من بين أهم‬
‫سماته‪ ،‬في السياق الذي يهمنا هنا‪ ،‬التحفظ من طلب العلم من أجل العلم‪ ،‬بالنظر إلى محدودية‬
‫الوضعية البشر ية التي تتسم أساسا بالضعف والقصور والفناء‪ .‬فحسب هذه الموقف‪ ،‬مهما‬
‫حصل الإنسان من علم‪ ،‬يظل نطاق معرفته ضئيلا مقارنة بما يمكن معرفته وبما يعجز عن‬
‫معرفته‪.‬‬

‫‪ ‬التقليد اللاهوتي المسيحي المتفاعل مع الفلسفة‪ :‬أگسطين البوني‬

‫َّ‬
‫سج ّل كثير من المفكرين والباحثين التشابه بين ديكارت وأگسطين‪ 1،‬سواء في ردّ سبب‬
‫الشك إلى خداع الحواس والاتفاق في أن تخليص الفكر من الحس هو الـكفيل بمجاوزة‬
‫الشك‪ ،‬أو في البناء على هذه النتيجة لإثبات الطابع غير المادي للنفس ثم الانطلاق من‬
‫داخل الذات لإثبات وجود الله‪ .‬وفيما يهم جعل الرد على الشكاك خطوة ضرور ية لبلورة‬
‫الحقيقة‪ ،‬فقد عمل أگسطين‪ ،‬الذي نشأ في ظل جو ثقافي متعدد المشارب والمذاهب‪ ،‬على‬
‫‪2‬‬
‫إدماج عناصر مهمة من الإرث الفلسفي الإغريقي‪ ،‬وخاصة في صيغته الأفلاطونية المحدثة‪،‬‬
‫وساهم على نحو أصيل في بلورة التوجه الفكري المسيحي لقرون من بعده‪ ،‬وانتشرت أفكاره‬
‫انتشارا واسعا قبيل العصر الحديث عند الكاثوليكيين والبروتستانت معا‪ .‬ولئن لم يكن أگسطين‬
‫رافضا لانشغال الإنسان بطلب الحكمة البشر ية‪ ،‬فقد َّ‬
‫عب ّر صراحة عن التحفظ من أن يصير‬
‫طلب العلم غاية في ذاته‪ ،‬والخشية من يؤدي ذلك إلى إلهاء الإنسان عن الاهتمام بالعمل‬
‫لحياة الآخرة‪.‬‬

‫‪ ‬ميشيل مونطينيْ‬

‫‪]Augustin d’Hippone, 354-430[ 1‬‬


‫‪ 2‬نسبة إلى أفلوطين [‪]Plotin, (205 - 270 apr. J.-C‬‬

‫‪19‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫كتب مونطيني‪ 1‬مقالات جمعها ضمن م َّؤ ّلف عنونه بـ‪ .Essais :‬وقد تع َّمّد فيه تناول‬
‫موضوعات متفرقة غاية التفرق‪ ،‬كما تع َّمّد تحريرها على نحو متفاوت في الدقة والضبط والعمق‪.‬‬
‫حيث ص َّرّح أنه لا يريد إيصال معرفة ما‪ ،‬ولا ي َّ ّدعي امتلاك حقائق تستحق أن ت ُ َّبل ّغ وتُع َّل ّم‬
‫بوصفها حقائق؛ بل أن غرضه الأخير تنبيه الإنسان إلى ضعفه وهوانه وقصوره ودناءة‬
‫منزلته‪ ،‬وتحذيره من الإمعان في الغرور والاعتداد بالنفس وادعاء العلم‪ ،‬وتذكيره بأن قيمته‬
‫لا تُنال من دون فضل الله ونعمته عليه‪ .‬ولا شك أن ديكارت كان مطلعا على أفكار‬
‫مونطيني الذي كانت كتاباته واسعة الانتشار خلال النصف الأول من القرن السابع عشر‪،‬‬
‫بل إن الـكثير من الفقرات التي كتبها ديكارت تبدو كما لو أنها تعليقات واستدراكات‬
‫وردود وتجاوز للإحراجات التي يضعها مونطيني أمام إمكانات الوصول إلى معرفة يقينية‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬يظهر أن هدم النسق الفلسفي‪-‬العلمي الموروث عن أرسطو لم يكن أهم وأصعب‬
‫على ديكارت من الرد على مونطيني‪ :‬ذلك أن الأول كان في طر يقه إلى الزوال بفعل تداعي‬
‫أركانه العلمية عقب منجزات كپرنيك وكپلر وگاليلي وقريبا مع نيوتن؛ أما الثاني فهو لا ي َّ ّدعي‬
‫أصلا امتلاك معرفة يقينية‪ ،‬ولا يع ِد بالطر يق الهادي إلى بلوغها‪ ،‬وإنما يشكك في إمكانية‬
‫وجود معرفة من هذا القبيل‪ ،‬و يجتهد لتيئيس الإنسان من طلبها‪.‬‬

‫مر بنا أن ديكارت قد أحجم عن نشر كتاب العال َم بعد علمه بمحاكمة گاليلي‪ ،‬إذ‬
‫لقد َّ ّ‬
‫كان مقتنعا بأن مشروعه الفلسفي‪-‬العلمي قائم على أساس الفرضية الفلـكية الـكپرنيكية‪ ،‬هاته‬
‫الفرضية التي ساهم الـكثير من أعلام الفلسفة والعلم الحديثين في إثبات صحتها ونجاعتها‪ .‬ولا‬
‫بأس أن نستعيد هنا العبارات التي حفظت موقفه من الفلك الـكپرنيكي في رسالته إلى‬
‫ميرسين‪ ،‬ثم نقارنها بالموقف الذي وقفه مونطيني منها‪ .‬فقد كتب ديكارت‪:‬‬

‫وقد هالني الأمر إلى درجة أني عزمت على إحراق جميع أوراقي‪ ،‬أو على‬
‫طلِِع أحدا عليها‪ .‬فلا أت َّخي ّل أنه جُرّ ِم‪ ،‬مع كونه إيطاليا وم َّ‬
‫ُقر ّبا‬ ‫الأقل ألا ا ُ ِ‬
‫من البابا كما سمعت‪ ،‬لا لسبب سوى إرادة إثبات حركة الأرض التي‬
‫حظ ِرت من لدن بعض الـكرادلة؛ مع أنه قد بلغني أن تدريسها‬
‫أعرف أنها ُ‬
‫علانية لم يُحظَر حتى بروما؛ ُّ‬
‫وأق ِر أنه لو بط ُلت لكانت كل مبادئ فلسفتي‬

‫‪]Michel de Montaigne, 1533-1592[ 1‬‬

‫‪20‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫باطلة كذلك‪ ،‬إذ تتبره َن بها على نحو بديهي‪ .‬كما أنها مندمجة في كافة‬
‫أقسام كتابي بحيث لا وجه لفصلها عنه دون أن ُّأخِل بالكل‪.‬‬

‫أما مونطيني‪ ،‬فقد كتب عن فلك كپرنيك ما يلي‪:‬‬

‫مح َ ُ ّ‬
‫ل السماء ولا محل النجوم طوال ثلاثة آلاف عام؛ وقد ص َّ ّدق‬ ‫لم يتغ َّي ّر َ‬
‫بذلك الناس قاطبة‪ ...‬وفي أيامنا هذه‪ ،‬أثبت كپرنيك ببراعة هذه النظر ية‬
‫واستخد َمها في كل الحسابات الفلـكية‪ .‬أفلا نفه َم من هذا شيئا سوى أنه‬
‫لا يهم أن نعرف أيّ واحدة من بين هاتين النظريتين صحيحة؛ وما يُدر يك‬
‫لعله في ألف عام تأتي نظر ية ثالثة لتبطل النظريتين السابقتين؟‬

‫قد يُفه َم من هذا النص أن مونطيني لربما كان "يستشرف" التطورات اللاحقة على‬
‫قيام علم الفيز ياء الحديث‪ ،‬في ُقال إن العلم فعلا يرى اليوم َ أمورا ما كان ليتوقعها كپرنيك‬
‫وگاليلي ونيوتن‪ ،‬وأن الفيز ياء المعاصرة قد اتسمت بالخروج عن الفيز ياء التي صارت تُدعى‬
‫اليوم كلاسيكية‪ ،‬فيز ياء نيوتن ! والحال أن حمل مقصد مونطيني على هذا النحو يسير عكس‬
‫ما كان يرمي إليه تماما؛ ذلك أن هذا النص ير ِد لديه في سياق ذم الولع بالجديد والتحذير من‬
‫تلقي الأفكار المحد َثة مهما بدت جذابة أو مقنعة‪ ،‬حيث كتب‪:‬‬

‫أنا لا َّ‬
‫أتغير بسهولة رغم جاذبية الجديد‪ ،‬وذلك مخافة أن أخسر من التغيير‪.‬‬
‫وحيث أني لا أستطيع الاختيار‪ ،‬فإني آخذ بما اختاره الآخرون‪ ،‬وأبقى‬
‫حيث شاء الله لي أن أكون‪ .‬وإلا‪ ،‬فلن أقوى على منع نفسي من الدوران‬
‫بلا توقف‪ .‬وبهذا النحو بقيتُ متشبثا أ َّي ّما تشبث‪ ،‬ولله الحمد‪ ،‬من دون‬
‫اضطراب ولا قلق ضمير‪ ،‬بما سل َف من عقائد ديننا‪ ،‬رغم كل ما حدَث‬
‫في قرننا هذا من الـمِلل والف ِر َق‪ .‬إن كُتب القدماء (وأنا أت َّحدث عن‬
‫ال كتب الجيدة) تجذبني وتأخذني إلى حيث تريد؛ وما أفهمه عنهم يبدو‬
‫لي دوما أقوى‪ .‬ويبدو لي أنها على حق جميعا وكلا على حدة‪ ،‬رغم أن‬
‫بعضها يناقض بعضا‪ .‬إن السهولة التي يُظهرها ذوو الأذهان الذكية وهم‬
‫يجع َلون كل ما يشاؤون قريبا من الحق‪ ،‬و يجتهدون في التوسل بكل غريب‬
‫ليصبغوه باللون الذي يخدع ذهنا بسيطا مثل ذهني‪ ،‬يُبيِن بجلاء أن الأدلة‬
‫التي يقدمونها واهية للغاية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫هذا نموذج من نماذج الشكانية التي سادت زمن ديكارت‪ .‬والواضح أن "المرونة" التي‬
‫يُظه ِرها مونطيني إزاء تعدد الآراء والمذاهب‪ ،‬و"الانفتاح" الذي يُبديه تُجاه تكاثر الحقائق لا‬
‫يدلان على "نسبية" تقر بتعدد السبل إلى الحقيقة فتجتهد لتمهيد الطر يق الأفضل مع الاستفادة‬
‫مما يعين على الاهتداء إليه‪ .‬كلا‪ .‬إنها "نسبية" الغرض منها تسفيه السعي الإنساني الطامح إلى‬
‫بلورة علم يستحق أن يُع ََّد علما يقينيا‪ ،‬ويمكن تطويره والبناء عليه بشكل ُّ‬
‫"تقدمي" َّ‬
‫مطرد‪ .‬ذلك‬
‫أنه لا يثق في قدرة الإنسان على نيل ذلك العلم‪ ،‬بل ولا يرى منفعة لذلك أصلا؛ ومهما بدت‬
‫النتائج التي يتوصل إليها العقل البشري متينة قائمة على أدلة نظر ية وملاحظات تجريبية‪ ،‬فإن‬
‫ذلك لا ينبغي‪ ،‬في نظره‪ ،‬أن "يخدع" الإنسان فيثق في إمكاناته و يطمع في نيل علم موثوق‪،‬‬
‫ل في تقدير قيمته بوصفه إنسانا قاصرا‪ ،‬وفي علمه بوصفه علما مشتتا متبدلا على الدوام‪.‬‬
‫وإلا ز ّ‬

‫‪ ‬بليز پاسكال‬

‫يُع َد بليز پاسكال‪ 1‬أحد كبار المفكرين المعاصرين لديكارت الذين لمحوا الطابع العقلاني‬
‫الجذري الذي ينطوي عليه موقف هذا الأخير من قدرات العقل الإنساني ومن الآفاق التي‬
‫يفتحها أمامه‪ .‬فعلى الرغم من تقديره وإعجابه بمؤهلاته الر ياضية‪ ،‬وإجلال كفاءته على صوغ‬
‫ُخف تحفظات تُبي ِ ّن للدارس‬
‫حقائق سبق أن التفت إليها عدد من المفكرين السابقين‪ ،‬فإنه لم ي ِ‬
‫الفروق الأكيدة بين توجهين فكر يين متباينين‪ ،‬حيث كتب في مقالته حول الذهن الهندسي‪:‬‬

‫وددتُ أن يُجيبني ثقات عدول بأن مبدأ خلو المادة ‪-‬بمقتضى الطبيعة‪-‬‬
‫من القوة على التفكير‪ ،‬والمبدأ القائل 'أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود' مبدآن‬
‫متطابقان في ذهن ديكارت وفي ذهن القديس أگسطين‪ ،‬الذي أفصح‬
‫سه منذ أزيد من اثني عشر قرنا‪ .‬والحق أني لا أروم القول‬
‫عن الشيء نف ِ‬
‫إن ديكارت ليس هو صاحب هذا المبدأ ولا بالأحرى أنه أفاده من‬
‫قراءة ذاك القديس العظيم؛ فأنا أعرف جيدا البون الشاسع بين أن تكتب‬
‫عبارة بالمصادفة‪ ،‬من دون أن تستغرق في تأملها‪ ...‬وبين أن تدرك تلك‬
‫العبارة بوصفها ‪ ...‬متوالية عجيبة من النتائج‪ ،‬تُثبت مباينة الطبيعة المادية‬
‫للطبيعة الروحانية‪ ،‬ثم تجعل من تلك المباينة مبدأ راسخا وعاليا للفيز ياء‬
‫بكاملها‪ ،‬كما زعم ديكارت‪ .‬ومن دون فحص ما إن كان قد نجح فعلا‬

‫‪]Blaise Pascal, 1623-1662[ 1‬‬

‫‪22‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫في زعمه‪ ،‬فإني أفترض أنه قد زعم ذلك‪ ،‬وهذا الزعم عينه هو الذي‬
‫يدفعني لأقول إن تلك العبارة التي وردت في كُتُبه مباينة تمام المباينة‬
‫للعبارة نفسها فيما كتبه غيره على سبيل الاتفاق فقط‪ ،‬مثلما يباين إنسان‬
‫تام الحيو ية والقوة إنسانا ميتا‪.‬‬

‫إن إعجاب پاسكال هنا متعلق بالـكفاءة الهندسية التي أعملها ديكارت في صياغة فكرته‪،‬‬
‫وكذلك في الوعي بالغرض المتوخى من صياغتها على ذاك النحو وإدراجها ضمن سياق جديد‬
‫ورهان مغاير‪ .‬وهذا بالضبط ما جعله لا يتفق مع الذين سارعوا إلى تبخيس مجهود ديكارت‬
‫من خلال "فضح الجذور القديمة" لأفكاره‪ ،‬والادعاء بأنه لم يفعل سوى إلباسها لباسا مغايرا‪.‬‬
‫لـكن ذاك الإعجاب ينطوي‪ ،‬كما يتبيَّ ّن من خلال إعادة قراءة هذا النص‪ ،‬على تشكيك في‬
‫مشروع ديكارت الفلسفي ككل‪ .‬فعبارة پاسكال "ومن دون فحص ما إن كان قد نجح‬
‫فعلا في زعمه" تترك ربما الانطباع بأنه لا يرى فقط أنه فشل في تحقيق غرضه‪ ،‬وإنما الحكم‬
‫حن‪ .‬وفعلا‪ ،‬فلطالما سخر پاسكال من فلسفة ديكارت واصفا‬
‫عليه بأنه لا يستحق حتى أن يـ ُمت َ‬
‫عددا من أفكاره بالأحلام والأحدوثات‪ ،‬حتى أنه ش َّبّهه بدون كيخوتي‪ ،‬حيث يُذك َر أنه‬
‫"كان يدعو الفلسفة الديكارتية بقصة الطبيعة‪ ،‬قريبة الشبه بقصة دون كيخوتي"‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن پاسكال ما كان ليوافق على ما بدا له توثبا بشأن إرادة المعرفة‬
‫على نحو يقيني لدى ديكارت‪ ،‬وطمعا في التراكم الدائم والمستمر للعلم الإنساني‪ .‬فذاك التوثب‬
‫وهذا الطمع يتعارضان مع التقويم الأخلاقي الذي ظل راسخا في التقليد المسيحي – الذي‬
‫يعود إلى أگسطين – بشأن الموقف العام من "محبة" المعرفة و"التوله" بها‪ ،‬إذ كانت تدخل في‬
‫عداد الرذائل التي يجدر بالمؤمن التقي أن يحذر من الاتصاف بها‪ .‬فمهما كان العلم مفيدا‪،‬‬
‫فلا ينبغي أن يصير طلب ُه تطلعا دائما لا َّ‬
‫حد يحده ولا قي ْد يضبطه‪ ،‬وإلا أمعن الإنسان في‬
‫نسيان المغزى من وجوده "المؤقت" في هذا العالَم‪ ،‬والمهمة ال كبرى التي يلزمه القيام بها على‬
‫أحسن وجه‪ :‬إعادة ربط العهد بالإله والاستعداد لحياة الآخرة‪ .‬هذا فضلا عما ينطوي عليه‬
‫موقف ديكارت تُجاه المعرفة من آفات الغلو في الاعتداد بالذات‪ ،‬وما ينجم عنه من عُجب‬
‫وغرور وتوهم الاكتفاء بالذات والاستقلال‪.‬‬

‫إنها اعتراضات وتحفظات المؤمن إزاء فكرة "العلم من أجل العلم"‪ ،‬وإزاء "التطلع الدائم"‬
‫الذي هو عينه خطيئة تذكر المؤمن بأب البشر آدم الذي كان السببَ في شقائه تطلع ُه إلى‬
‫الأكل من شجرة المعرفة‪ :‬معرفة الخ ير والشر‪ .‬وبالتالي فإن مهمة الإنسان تكمن في أن ي ُدرك‬

‫‪23‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫أصل ِية الشقاء في الوضع البشري‪ ،‬وعدم الجدوى من الطمع في مجاوزة هذا الشقاء‪ ،‬بل على‬
‫العكس من ذلك الوعي به والتعايش معه‪ .‬ومثلما عرضنا موقف مونطيني من فلك كپرنيك‪،‬‬
‫لا بأس من أن نعرض موقف پاسكال منه‪ ،‬فقد كتب‪:‬‬

‫إنه لمن الجدير‪ ،‬فيما أرى‪ ،‬ألا نستقصي حقيقة رأي كپرنيك؛ لـكن من‬
‫الأهمية بمكان للحياة كلها أن نعلم هل النفس فانية أم باقية‪.‬‬

‫إن هذه المقارنة بين مونطيني و پاسكال من جهة وبين ديكارت من جهة ثانية‪ ،‬فيما‬
‫يتصل بالموقف من التجديد العلمي‪ ،‬ومن مدى القدرة العقلية للإنسان على نيل الحقيقة‪ ،‬تدلنا‬
‫على وجه من أوجه "أصالة" الشك الديكارتي‪ ،‬أي وجه تفرده وخصوصيته‪ :‬دفع الشك إلى‬
‫أبعد نقطة يمكن أن يصل إليها‪ ،‬ثم الانقلاب عليه ومجاوزته‪ ،‬ومع مجاوزته "استرداد الثقة"‬
‫في العقل الإنساني‪ ،‬و"استئناف" الطموح إلى تحقيق تقدم علمي مأمون لا يتوقف‪ .‬إن‬
‫"أصالة" الشك الديكارتي هنا‪ ،‬حين نحملها على معاني التفرد والجدة والتأسيس‪ ،‬هي وجه من‬
‫وجوه "الحداثة" التي كان ديكارت أحد أعلامها‪.‬‬

‫‪" )2‬أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود"‪ :‬نقطة ارتكاز عقلانية ديكارت‬
‫يُتيح الوقوف على الثمار التي جناها ديكارت من هذا الاستعمال "الأصيل" للشك في‬
‫تحصيل المعرفة إدراك الأهمية التي يحتلها "الـكوجيطو" في فلسفته‪ ،‬بوصفه الحقيقة التي بلغت‬
‫درجة من الوضوح والتميز واليقين الراسخ بحيث لا يمكن الشك فيها‪ .‬لأجل ذلك وثق في‬
‫جعلها الأساس الجدير بأن يكون ركيزة يقيم عليها صرح مشروعه الفلسفي‪ ،‬والمبدأ القمين‬
‫بأن يكون المنطلق الآمن للسير نحو تحقيقه‪ .‬كتب في حديث الطر يقة‪:166-157 ،‬‬

‫ولـكني لـ َمّا لـم يكن غرضي إلا الانصراف إلى البحث عن الحقيقة‬
‫ل ما استطعتُ أن أت َّخي ّل فيه‬
‫فكرتُ أن الواجب عل َّيّ أن ‪ ...‬أرفض ك َّ ّ‬
‫أدنى شك‪ ،‬وأع َّ ّده أمرا خاطئا على الإطلاق‪ ،‬حتى أرى هل يبقى شيء‬
‫بعد ذلك في اعتقادي لا يكون بتاتا عرضة للشك‪ .‬وهكذا‪ ،‬فما دامت‬
‫حواسنا تخطئنا أحيانا‪ ،‬فقد أردت أن أفترض أن لا شيء [يوجد] كما‬
‫تجعلنا هي نتخيله‪ .‬وما دام هناك أناس يخطئون عندما يستدلون‪ ،‬حتى وإن‬
‫َّ‬
‫تعل ّق الأمر بأبسط مواضيع الهندسة‪ ،‬و يقعون بشأنها في أخطاء منطقية‪،‬‬
‫واعتقادا بأنني عرضة للخطأ مثلي مثل غيري‪ ،‬نبذتُ كل التي اعتبرتُها‬
‫من قبل براهين [صادقة] بوصفها حججا خاطئة‪ .‬وأخيرا‪ ،‬لما رأيتُ أن‬

‫‪24‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫الأفكار نفس َها التي تكون لنا في حال اليقظة يمكن أن تنتابنا ونحن نيام‪،‬‬
‫دون أن تكون من بينها [فكرة] واحدة صحيحة‪ ،‬عزمتُ على أن أعتبر أن‬
‫كل الأشياء التي تس َّرّ بت إلى ذهني لا تزيد حقيقة عن أضغاث الأحلام‪.‬‬
‫غير أنني سرعان ما تفطّنتُ إلى أنني إ ْذ كنتُ أسعى هكذا إلى التفكير‬
‫بأن كل شيء خاطئ‪ ،‬فإنه من الضروري حتما‪ ،‬أن أكون أنا الذي‬
‫فكرت ذلك‪ ،‬شيئا ما‪ .‬ول ما رأيتُ أن هذه الحقيقة‪ :‬أنا أفكر‪ ،‬إذن فأنا‬
‫[كائن]‪ ،‬على نحو من اليقين والثبات‪ ،‬بحيث لا تستطيع أن تزعزعها أكثر‬
‫افتراضات الريبيين شططا حكمتُ بأنني أستطيع قبولها‪ ،‬دون تحفظ‪،‬‬
‫بوصفها أول مبدأ للفلسفة التي كنتُ أبحث عنها‪( .‬بتصرف)‬

‫نلاحظ هنا أن ديكارت يربط ربطا وثيقا بين مقاومة الاعتراضات التي يقدمها‬
‫الشكانيون على اختلاف مشاربهم‪ ،‬سواء كانت الاعتراضات تستهدف إلقاء الريب في كل‬
‫ما قد يطمئن الذهن الإنساني إلى يقينه‪ ،‬أو تستهدف تسفيه َ السعي الإنساني إلى نيل معرفة‬
‫يقينية‪.‬‬

‫يجب‪ ،‬إذن‪ ،‬إثبات حقيقة أولى لا شك فيها بتاتا‪ .‬وسيكون الشك المنهجي بهذا المعنى‬
‫طر يقا للوصول إلى يقين لا يقين فوقه‪ ،‬ليُظه ِر الطابع "اله ّدام وغير المنتج" للشك من أجل‬
‫الشك (الشك المذهبي) أو للشك من أجل الإحجام عن طلب العلم‪ .‬هذا هو الرهان الذي‬
‫ينبغي ألا يغيب عن بالنا ونحن نسعى إلى فهم خصوصيات مساهمة ديكارت الفلسفية‪.‬‬
‫فعوض التشكيك في نزاهته‪ ،‬أو تسليط الضوء على الطابع غير الجدي لشكه‪ ،‬فالواجب النظر‬
‫إلى التحدي الذي أراد مواجهته‪ :‬كيف السبيل إلى إنشاء علم يقيني مأمون من الزلل لا‬
‫ريب فيه‪ ،‬ومفتوح على تقدم مستمر؟ لذلك كان عليه أن يجيب أولا على السؤال‪ :‬كيف‬
‫السبيل إلى استعادة الطموح الإنساني إلى بلورة معرفة موثوقة مأمونة ومفتوحة على التطور‬
‫المستمر؟ وما هو المبدأ الذي بمقدور الإنسان أن يطمئن للانطلاق منه في سبيل تحقيق هذه‬
‫الغاية؟‬

‫جوابا على هذا السؤال‪ ،‬إذن‪ ،‬نفه َم لماذا كان شك ديكارت شكا جذر يا ومنهجيا لا‬
‫شكا مذهبيا‪ :‬فهو جذري لأنه استجابة لإرادة ذاتية في التحرر من كل ما قد يحتمل الخطأ‬
‫وسعي إلى الظفر بالأصل الأول الذي عليه تنبني المعرفة اليقينية؛ وهو شك منهجي‪ ،‬لأنه‬
‫يجر يه على نحو إرادي متدرج‪ ،‬فلا ينقاد له وإنما يتحكم فيه و يقوده نحو الغاية التي يتوخاها‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫أي – مجدّدا – بناء المعرفة اليقينية‪ :‬ضد الشكانية وضد الدوغمائية في الآن عينه‪ .‬وهذا ما‬
‫يعطي للتشبه بأرشميدس‪ 1،‬عالِم الر ياضيات والميكانيكا‪ ،‬الحمولة الفلسفية َ العميقة َ التي كان على‬
‫وعي تام بها‪ ،‬حيث كتب في مطلع التأمل الثاني من تأملات في الفلسفة الأولى‪:‬‬

‫لـكني سأبذل جهدي للمضي في الطر يق الذي سلـكت ُه أمس‪ ،‬متجنبا كل‬
‫كـما لو كنتُ متحققا من بطلانه‪.‬‬
‫ما قد تسنح لي فيه بادرة من شك‪َ ،‬‬
‫وسأمضي في هذا الطر يق ق ُد ُما حتى أهتدي إلى شيء يقيني‪ ،‬فإ ْن لم يـَت َي َّس ّر‬
‫لي ذلك‪ ،‬لبثتُ على حالي على الأقل حتى أعلم علم َ اليقين أنه ليس في‬
‫العالـ َم شيء يقيني‪ .‬فإن أرشميدس لم يكن يطلب إلا نقطة ثابتة مضمونة‬
‫ل كي ينقل كرة الأرض من مكانها إلى مكان آخر‪ .‬وكذلك أنا‪ ،‬يحق لي‬
‫أن أعلق أكبر الآمال إن أسعدني الحظ فوجدتُ شيئا يقينيا لا شك فيه‪.‬‬

‫إن النقطة الثابتة المضمونة التي سيثق في جعلها ركيزة يقيم عليها فلسفته‪ ،‬والتي ستكون‬
‫في الآن نفسه نهاية َ الشك والمبدأ الأول لكل فلسفته هي ما يُدعى الـكوجيطو‪" :‬أنا أفكر‪،‬‬
‫إذن أنا موجود"‪ .‬حيث ص َّر ّح في التمهيد لكتاب المبادئ ب ِـما يلي‪:‬‬

‫وقد عزمتُ ‪ ...‬على إيراد الدلائل الـكفيلة بإثبات أن المبادئ التي‬


‫وضعتُها في هذا الكتاب هي المبادئ المعينة على الوصول إلى أعلى درجات‬
‫الحكمة التي يكمن فيها الخ ير الأسمى للحياة الإنسانية؛ و يكفي لأجل ذلك‬
‫ن منها يمكن‬
‫دليلان اثنان‪ :‬الأول أنها مبادئ واضحة للغاية؛ والثاني أ ّ‬
‫استنباط جميع الأمور الأخرى؛ إذ لا تقتضي إلا هذين الشرطين‪ .‬ومن‬
‫الميسور أن أثبت [‪ ]61‬أنها واضحة للغاية‪ :‬أولاً‪ ،‬استناد إلى كيفية ظفري‬
‫بها‪ ،‬أي أنني نبذتُ جميع الأمور التي قد يعرِض لي فيه أدنى شك؛ إذ‬
‫لا ريب أن التي لا قوة على نبذِها مع الانكباب على النظر فيها‪ ،‬إنما تكون‬
‫أبيَن وأوضح ما في طاقة الذهن الإنساني أن يعرف‪ .‬وعندما تأملتُ كيف‬
‫أن من يريد الشك في كل شيء لا يقوى مع ذلك على الشك في وجوده‬
‫حين يشك‪ ،‬وأن الذي يستدل على هذا النحو مع عدم القدرة على الشك‬
‫في ذاته ولو شكّ في كل ما سواه‪ ،‬ليس هو ما نقول عنه إنه بدننا‪ ،‬بل‬
‫ما نسميه نفس ُنا أو فكرنا‪ ،‬فإنني جعلتُ وجود هذا الفكر أو قوامه المبدأ‬

‫‪]Archimède de Syracuse, 287 av. J.-C. -212 av. J.-C[ 1‬‬

‫‪26‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫الأول الذي منه استنبطتُ بأوضح وجه ما يليه‪ ،‬أي أن ثمة إلها هو صانع‬
‫كل ما يوجد في العالم‪ ،‬وأنه لمّا كان نَب ْ َع كل حقيقة فإنه لم يخلق ذهننا‬
‫على طبع يجعله يخطئ في الحُكم على [‪ ]62‬الأشياء التي يدركها إدراكا‬
‫بالغ الوضوح والتميز‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫ملخص التأملات الستة‬


‫يُست َحسَن أن نضع نصب أعيننا التأملات الستة التي يتضمنها كتاب تأملات في الفلسفة‬
‫الأولى تشتمل البرهان على وجود الله وعلى خلود النفس‪ ،‬الذي نشره ديكارت أولا ً باللغة‬
‫اللاتينية عام ‪ .1641‬وليس أفضل في رأينا من َّ‬
‫الملخّ ص الذي قدّمه الفيلسوف نفسه للترجمة‬
‫الفرنسية عام ‪ ،1647‬لمساعدة القارئ على استحضار مضامين الكتاب ككل قبل العزم على‬
‫قراءته في كليته‪.‬‬

‫التأمل الأول‪ :‬في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع شك‬

‫أق ّدِم‪ ،‬في التأمل الأول‪ ،‬الأسباب الداعية لأن نشك في كل الأشياء‬
‫عموما‪ ،‬وفي الأشياء المادية خصوصا‪ ،‬على الأقل إن لم نحز من أسس في‬
‫العلوم غير هاته التي بحوزتنا إلى حد الآن‪ .‬ومع أن المنفعة من مثل هذا‬
‫الشك الع ام لا تظهر لأول وهلة‪ ،‬فإن له منفعة عظيمة إذ يُخلصنا من‬
‫كل ضروب الأحكام المسب َقة‪ ،‬وييسر لنا سبيلا ممه َدا لأجل تعويد ذهننا‬
‫على الانفصال عن الحواس؛ وأخيرا لأنه يقطع إمكان الشك بعد أن‬
‫نكتشف الحقيقة‪.‬‬

‫التأمل الثاني‪ :‬في طبيعة النفس الإنسانية‪ ،‬وأن معرفتها أيسر من معرفة الجسم‬

‫وفي التأمل الثاني‪ ،‬نجد الذهن يستعمل حريت َه الخاصة‪ ،‬فيفترض أن جميع‬
‫الأشياء التي يقع له عن وجودها أدنى شك‪ ،‬هي أشياء معدومة‪ ،‬لـكنه‬
‫يتبين أن من الممتنع إطلاقا حينئذ أن يكون هو نفسه غير موجود‪ .‬وفي‬
‫هذا الأمر أيضا نفع عظيم‪ :‬فإنه بهذا الوجه يتيسر له أن يميز الأشياء التي‬
‫تخصه‪ ،‬أي التي تخص الطبيعة الذهنية‪ ،‬من الأشياء التي تخص الجسم‪.‬‬
‫لـكن قد يتوقع بعض القراء مني أن أورد في ذاك الموضع أدلة ً لإثبات‬
‫بقاء النفس‪ .‬لأجل ذلك أرى لزاما عليّ ههنا تنبيههم إلى أني حاولت ألا‬
‫أكتب في هذه الرسالة كلها شيئا إلا ولديّ عنه براهين دقيقة جدا‪.‬‬
‫فوجدتُ نفسي مضطرا إلى اتباع ترتيب شبيه بالترتيب الذي يصطنعه‬
‫أهل الهندسة‪ ،‬وهو تقديم جميع الأشياء التي تتوقف عليها القضية التي‬
‫نبحث عنها قبل استنتاج أي شيء منها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫التأمل الثالث‪ :‬في الله‪ ،‬وأنه موجود‬

‫وفي التأمل الثالث‪ ،‬بينتُ – ببعض الإسهاب فيما يلوح لي – أهم دليل‬
‫استخدمته لإثبات وجود الله‪ ،‬ولـكني لم ُّأرِد أن أستخدم في هذا الموضع‬
‫تشبيهات مشتقة من الأشياء الجسمية‪ ،‬لـكي ُأبع ِد أذهان القراء بقدر ما‬
‫في وسعي عن استعمال الحواس وعن الاتصال بها‪ ،‬ولذلك فربما بقيت‬
‫هنالك مسائل كثيرة غامضة (أرجو أن أوضحها توضيحا تاما في ردودي‬
‫جه َت إلى الكتاب منذ فرغت من تحريره)‪ .‬ومنها‬
‫على الاعتراضات التي و ُ ّ ِ‬
‫المسألة التي أورِد ُها فيما يلي‪ :‬كيف أن فكرة موجود كامل إطلاقا‪ ،‬وهي‬
‫فكرة نجدها فينا‪ ،‬تشم َل قدرا من الحقيقة الموضوعية‪ ،‬أي تشارك بالتصور‬
‫في قدر من درجات الوجود وال كمال‪ ،‬بحيث يلز َم أن تصدر عن علة‬
‫كاملة على الإطلاق‪ :‬وهذا ما أوضحته في تلك الردود بإيراد التشبيه بآلة‬
‫في غاية البراعة والإتقان ترد فكرتها في ذهن صانع ما‪ ،‬فإنه كما أن لهذه‬
‫الفكرة من إتقان موضوعي لابد له من علة معينة‪ ،‬إما أن تكون علم ذلك‬
‫الصانع أو علم واحد غيره تلقى هو عنه تلك الفكرة‪ ،‬فكذلك يمتنع بالنسبة‬
‫إلى فكرة الله‪ ،‬التي هي فينا‪ ،‬أن لا يكون الله ذاته علة لها‪.‬‬

‫التأمل الرابع‪ :‬في الصواب والخطأ‬

‫وفي التأمل الرابع أقمتُ الد ّليل على أن جميع الأشياء التي نتصورها تصورا‬
‫واضحا جدا ومتميزا جدا هي كلها صحيحة‪ ،‬كما أوضحتُ طبيعة الخطأ أو‬
‫الباطل ‪ ،‬مما تلزم معرفته ضرورة لتوكيد الحقائق السابقة ولفهم الحقائق‬
‫التي تتلوها فهما صحيحا‪ .‬ولـكن ينبغي أن يُلاحَظ أني لا أنظر هنالك في‬
‫الخطيئة‪ ،‬أي في الخطأ الذي يقترف في طلب الخ ير والشر‪ ،‬بل في الخطأ‬
‫الذي يقع في الحكم وتمييز الحق من الباطل‪ .‬وليس قصدي أن أتكلم‬
‫هنالك في ما يهم الإيمان أو سلوك َ الإنسان في الحياة‪ ،‬وإنما في ما يتصل‬
‫بالحقائق العقلية التي يمكن معرفتها بمعونة النور الطبيعي وحده‪.‬‬

‫التأمل الخامس‪ :‬في ماهية الأشياء المادية؛ ومُج َ َّ ّددا‪ ،‬في أن الله موجود‬

‫وفي التأمل الخامس‪ ،‬شرح للطبيعة الجسمية على وجه العموم‪ ،‬ثم عود ٌ‬
‫إلى إثبات وجود الله بدليل جديد‪ .‬ربما وقعت فيه هو أيضا بعض‬
‫الصعوبات‪ ،‬ولـكن يجد القارئ حل ّها في الردود على الاعتراضات التي‬

‫‪29‬‬
‫شعبة الفلسفة‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬دروس في الفلسفة الحديثة‬
‫الأستاذ‪ :‬يوسف العمّاري‪2024-2023،‬‬

‫وجهت إليّ‪ .‬و يضاف إلى ما تقدّم أني أبيِّن على أي وجه يصح القول إن‬
‫يقين البراهين الهندسية نفسَه متوقف على معرفتنا بالله‪.‬‬

‫التأمل السادس‪ :‬في وجود الأشياء المادية‪ ،‬وفي التمييز الحقيقي بين نفس الإنسان وبدنه‬

‫وأنتهي في التأمل السادس بتمييز فعل الفهم من فعل المخيلة‪ ،‬وأصف‬


‫علامات هذا التمييز‪ ،‬وفيه أبين أن نفس الإنسان متميزة عن الجسم حقا‪،‬‬
‫وأنها مع ذلك ملتئمة معه التئاما‪ ،‬ومتحدة به اتحادا يجعلها وإياه شيئا‬
‫واحدا؛كما أبسط جمي َع ضروب الخطأ الناشئة من الحواس‪ ،‬مرشدا إلى‬
‫وسائل اجتنابها؛ ثم أورِد أخيرا جميع الأدلة التي يمكن منها استنتاج وجود‬
‫الأشياء المادية‪ ،‬لا لأني أراها مفيدة للغاية في إثبات ما تثبته – أعني أن‬
‫العالَم موجود وأن للناس أجساما‪ ،‬وما شابه ذلك من أشياء لم يشك فيها‬
‫قط إنسان ذو عقل سليم – بل لأن إمعان النظر فيها يطلعنا على أنها لم‬
‫تبلغ من المتانة والبداهة مرتبة الأدلة التي توصلنا إلى معرفة الله ومعرفة‬
‫النفس‪ ،‬وبهذا الاعتبار تكون الأدلة الأخيرة أوثق وأبين ما يمكن أن‬
‫يقع للذهن الإنساني من معرفة‪.‬‬

‫‪30‬‬

You might also like