Professional Documents
Culture Documents
6 كــــتابة الشــتات وشـــتات الـــكتابة في الرواية المغاربية
6 كــــتابة الشــتات وشـــتات الـــكتابة في الرواية المغاربية
6 كــــتابة الشــتات وشـــتات الـــكتابة في الرواية المغاربية
org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
ع ــتيقة غازي
Ghazi ATIKA
ghaziatika@gmail.com
153
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
ملخص
في المحصلة النهائية ،إن تحديد أدب الشتات /الدياسبو ار يبدو سيزيفيا ،إنه مفروض ومرغوب،
يجري السعي وتفضيل اإلقامة فيه ،وكذلك ذمه بوصفه حالة من اإلبعاد واالغتراب الذي يدفع المرء إليه
ويجبره على عناقه .ولذلك يبدو بأن الشتات يقابل ما يمكن أن نطلق عليه"االنفصال واالبتعاد عن الوطن
األم أو عن األصل الثقافي أو العرقي".نوعا من حصر المفهوم ،وتصنيف حدوده ،صحيح أنهم يشيرون
إلى تمييز بعض نقاد ما بعد االستعمار بين الشتات/المنفى واالغتراب ،فاألول مفروض ،حيث ال يستطيع
الذي يعيش في الشتات والمنفى العودة إلى وطنه األم ،حتى لو رغب في ذلك .أما الثاني فهو اختيار
نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه ألي سبب من األسباب.لكن هذا التمييز بين هذين المفهوميين،
يجعل من الصعب التمييز بين من يعيش في الشتات والمنفى ،ويمكن اإلشارة في هذا السياق إلى التجربة
الفلسطينية التي تتضمن أنوعا عديدة من االبتعاد القسري ،والشتات ،والنفي العنيف واإلبعاد.
الكلمات المفتاحية :الشتات ،االغتراب ،المنفى ،اللقاء الحضاري ،كتابة الشتات ،الغير.
Abstract
Sisyphia, it is imposed and desirable, sought and preferred to reside in, as well as
its vilification as a state of alienation and alienation that pushes one to it and forces
one to embrace it. It is true that they point to the distinction of some post-colonial
154
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
and the second is a choice that arose as a result of one’s desire to leave one’s
homeland for any reason. But this distinction between these two concepts, makes
it difficult to distinguish between the diaspora and the exile, and we can refer in
this context to the Palestinian Experience These include many types of forced
مــقدمة
لقد جبل اإلنسان على التحول والحركة ،فحاجته إلى المعرفة والحرية كانتا دائما الحافز الخفي
وراء تغيير األمكنة باإلضافة إلى حاجته إلى البقاء ،واالستمرار والحفاظ على النوع البشري ،ومما يؤكد
ذلك االختالط والتنوع البشريان ،وحاجة اإلنسان إلى الهجرة طالت مدتها أو قصرت ،أو كانت بغرض
االستقرار الدائم أو الجزئي ،سواء طوعا أو قس ار ،إلى أصقاع مختلفة ،غربا وشرقا شماال وجنوبا ،من قبل
أفراد وجماعات ثقافية أو عرقية ،أو شعوب بكاملها ،والتي تختلف أسبابها بين سياسية في بعضها،
واقتصادية في بعضها اآلخر ،أو تعرضت للغزو نفيا وهروبا من بطش القوى االستعمارية .وهكذا فإنه
باإلمكان النظر إلى هذا "الشتات/المنفى/المهجر" ،في اتجاهين مختلفين ،كما يرى منظرو ما بعد
الكولونيالية ،فهناك شتات مفروض وقسري على الجماعات الثقافية والعرقية ،كما أن ثمة انتقاال كبي ار
لعدد من الرحالة الذين دفعتهم تجربة استكشاف أراضي جديدة والكتابة عنها.
155
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
-1إشكالية البحث
إن هذه الدراسة تحاول اإلجابة عن إشكالية معرفية أدبية يمكن صوغها كاآلتي :ما آثار هذا
الشتات /المنفى سواء الطوعي أو القسري على صاحبه الكاتب؟ ثم ماذا أضاف للنص السردي على
مستوى التيمات والموضوعات والمفاهيم؟ وما هي المفاهيم التي ترتبط بأدب "الشتات" أو "الدياسبورا"؟
وهل هناك خصوصية نوعية على مستوى الكتابة المغربية منها والعربية؟ .وما مبلغ تحكم الظرفيات
التاريخية والمنظومة المرجعية الثقافية بقيمها المعرفية والجمالية واألخالقية في رسم مالمح المغايرة وتلوين
معانيها ودالالتها ورموزها؟ وهل كان لهذه الصورة التي رسمها هؤالء الروائيون المغاربة -أو لبعض
-2أهمية البحث:
قبل أن نخوض في الحديث عن أدب الشتات وخصوصيته ،يجدر بنا في البداية الوقوف عند
النقطة التي أفردناها بالحديث انطالقا من دراستنا لرواية "البعيدون" لـ ـ"بهاء الدين الطود" ،فقد كان هدفنا
هو الدراسة المحايثة والدراسة النصية للرواية ،بالوقوف عند طبيعة العالقة بين "األنا واآلخر" هذه التيمة
التي أطرت النص ،فكانت السبيل لتحرير لغة الكتابة ومساحات تخييلها ،ومنحها الدينامية الضرورية
لخلق األشكال.
-3أهداف البحث
156
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
وال تخفى أهمية هذه الدراسات التي تسعى إلى "الكتابة عن اآلخر وكتابة اآلخر" في توضيح
طبيعة العالقات بين الشعوب ،في محاولة للتقريب بين األمم وربط جسور التواصل في إطار ما يسمى
بــ"حوار الحضارات والتفاعل بين الهويات الثقافية المختلفة" .من حيث إنها تثري تصور األنا لذاته ولغيره
من ناحية ،وتفسح باب المقارنة بين تصور الذات وتصور الغير من ناحية وتفتح باب المقارنة بين تصور
الذات وتصور الغير من ناحية ثانية ،ارتباطا بهذا المنطلق فمثل هذه البحوث ستحاول إلقاء الضوء
على الدور الذي يمكن أن يضطلع به األدب المقارن خصوصا في عصرنا الراهن الذي بدأت فيه المعرفة
اإلنسانية تدخل مرحلة من االندماج العالمي األعمق ،بفضل الشبكات الكونية لالتصاالت واإلعالم
والعالقات االقتصادية والتفاعالت الحضارية بين الشعوب والثقافات ،والتي تندرج في بعض الجوانب
-4فرضية البحث
لقد راعينا من أجل تحقيق ذلك ،في عميلة اختيارنا لهذه النموذج ،قدرته التمثيلية لهذا التوجه
األدبي -الفني ،وعلى إثبات مكانة اإلبداع الروائي المغاربي وخصوصيته ،وهو ما يشكل في مجمله
مسيرة النص اإلبداعي السردي وتحوالته عبر المتغيرات الزمنية والتاريخية التي ينشئها النص ذاته ،والتي
تختلف عن العصور الزمنية التي ينشئها اإلنسان .من هنا وكما يقول جيرار جنيت ،تصبح عملية البحث
عن الخصوصي موصلة إلى الكوني ،كما يصبح التحليل النصي في خدمة النظرية ،بقدر ما تصبح
النظرية في خدمته.
157
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
على هذا األساس ،جاءت حاجة البحث في اختيار أنموذج الرواية المغاربية المجسد لهذه
-5منهج البحث
وحتى تخترق الدراسة عالم الرواية الفسيفسائي في تشكيله البنائي ،والغامض في دالالته الخفية
وإيحاءاته المستعصية ،أفدنا من نتاجات "الشعرية البنيوية" ،المتخصصة في تحديد خصائص العمل
األدبي عن طريق آليات التأويل وجماليات التلقي األدبي ،واشتغالها على بعض الوحدات السردية المشكلة
للنظام السردي الروائي كبنية الزمان والمكان ،مع اكتشاف توحد النص وانفراديته في طرائقه الفنية
المنزاحة عن المألوف ،وكذا مدى إنتاجية فعل القراءة في كشف فضاءات النص وأبعاده الداللية.
وتتحقق غاية البحث عبر هذا التحليل النصي أفادت الدراسة من بعض الكتب المترجمة الباحثة
في تقنيات السرد الحديثة من مثل "مــقوالت في الحكاية األدبية" ،و"باختين :المبدأ الحواري" لتودوروف،
وكتاب" خطاب الحكاية" لـ"جيرار جينت" ،وأعمال "ميخائيل باختين" من خالل بعض كتبه ،ك ـ"الخطاب
الروائي "و"شعرية دستويفسكي" ،وكذا مجهودات كل من "روالن بارت" من خالل كتابه"التحليل البنيوي
للسرد" و"جوليا كريستيفا" "في كتابها" علم النص" و لوران جيني .باإلضافة إلى بعض األعمال األخرى
الباحثة في علم القراءة والتأويل من خالل السرد؛ وبمقتضاه فإن بحثنا يندرج ضمن النظرية الشعرية بوجه
عام ،وشعرية المتخيل السردي بوجه خاص بدل االلتصاق المحاري بموضوعاتية متقادمة .وخلفيتنا
أما األبحاث والدراسات العربية المقدمة في مجال التنظير للبناء السردي الحديث ،فقد اعتمدنا منها
158
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
ما كان ملما بما استجد ،فكانت بمثابة األصول األولى المستنِبطة للنظرية ،والمحاوالت الجادة إلعمالها
على النموذج الروائي العربي ،وقد تبنى هذه األبحاث ثلة من النقاد العرب الذين غربلوا التفكير السردي
الغربي وجمعوا شتاته ،وأقلموه مع ما يتناسب وطبيعة النص العربي الجديد ،ولعل أهم إنجاز نقدي يذكر
في مجال التأصيل للمصطلح السردي في النقد العربي كتاب "تحليل الخطاب الروائي ( الزمن _السرد _
التبئير) "لألستاذ سعيد يقطين ،باإلضافة إلى ما قدمه كل من األستاذ عبد الملك مرتاض " في نظرية
الرواية :بحث في تقنيات السرد" ،واألستاذ حميد لحميداني في كتابه"بنية النص السردي من منظور النقد
األدبي" وكذلك األستاذ "شعيب حليفي" من خالل كتابه "شعرية الرواية الفانتاستيكية" و"شعرية النص
سؤال المفاهيم
مما ال ريب فيه أن سؤال المفاهيم من أعقد وأصعب األسئلة التي تجابه الباحث في أي مضمار،
وبدون إثارته اإلثارة العلمية الحصيفة والرصينة ،ال يمكن صياغة طرح أو تصور سليم ألي مبحث من
المباحث ،فالجهاز المفاهيمي هو مفتاح التنظير ،وتقليب النظر فيه وإمعانه ،من شأنه أن يسعف الباحث
في انتقاد المبحث المشتغل عليه ،وفتح باب االجتهاد والتجديد ،ال أحد يستطيع إنكار فائدته في تحصيل
المعرفة.
ونحن بطرح سؤال المفاهيم في مستهل هذه الورقة ،إنما نتوخى خلخلة العديد من التصورات التي
ارتكنت إلى وثوقيتها ،مثلما نتوخى تأسيس مبحثنا على أسس قويمة صارمة ال تزيغ به عن اإلطار الذي
159
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
نرتئي أنه األليق به .وإيمانا منا بهذا المبتغى والمطلب حاولنا رصد مجموعة من المفاهيم ،كمفهوم
-1الشتات/الدياسبو ار
وحين نعود إلى مفهوم "الشتات" في معجميته العربية ،فإننا سنجده يحيل -ضمن معانيه العديدة
-على البعثرة ،اقتالع اإلنسان من جذوره ليعيش بعيدا عن تلك الجذور ،وأحيانا بعيدا عن أهله ،يعاني
التمزق واأللم بعد أن فقد كل شيء تقريبا..الذي اش ـ ــتق من الفعل "شـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت" 1من ال ـ ـ ـش ـ ـ ــت االف ـ ـ ـ ــتراق
وبعودتنا إلى معجم روبر نجد الشتات/الدياسبو ار diaspora 2في اآلداب الغربية ،نلحظ من
التعريف الفرنسي أن الشتات في أبسط معانية اللغوية مصطلح يطلق على أماكن تواجد شعوب مهجرة
من أوطانها في مناطق مختلفة من العالم ليصبحوا مشتتين فيها كمجموعات متباعدة ،ويفاعلون فيما
بينهم بمختلف الوسائل واآلليات للتنسيق محاولة منها للعودة إلى أوطانها ،هذا الملفوظ الذي يحيل على
أصل ومرجعية دينية يهودية (الشتات اليهودي وكل ما له عالقة بالتيه) ،ثم سرعان ما رأيناه يمتد إلى
شتاتات مختلفة ،ولعل ثمة ما يجمع بينها ،من حروب وإبــادات وتسفير ،لكن المثال المغربي ال ينساق
بسهولة إلى هذا االستدراج المصطلحي .يضاف هذا المصطلح "دياسبورا" إلى مواضيع أخرى ،من قبيل
3- Ibid.,p370
160
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
"المنفى" و"المهجر" ،ولعل قراءتها ومناقشتها في زمن العولمة يمنحها طعما آخر .وقد شكلت األقطار
يتحدد هذا النمط من الكتابة عالميا تح ـ ــت مسمى أدب "الـ ــدياسب ـ ــورا"( )diasporaويقصد به
ال ـ ـك ــتابة خ ـ ــارج أوطانهم ،ولغاتهم األم ،في وضعية الالستقرار ،وبحس فجائعي ،وإحساس باالض ــطهاد
والخوف واالقتالع ،ألنهم يكتبون عن وطن في «الذاكرة» سيستـ ــوطن بدوره «الورق» ،يكتبون عن أوطان
افتراضية ،وبحس عنيف بالرفض وعدم القدرة على التالؤم واالندماج في المجتمعات المضيفة ،وح ـ ـ ـ ـ ــنين
ممض إلى العودة .والشك في أن الكتابة بهذه المشاعر ستؤثر في مضامين المكتوب ،وفي صيغ الكتابة،
وفيلغتها ،وأهدافها.
إن العديد من دارسي األدب يدركون ما الذي تعنيه كلمة "الدياسبورا /أدب الدياسبورا /أدب
المهجر /أدب المنفى" ،بوصفه الكتابة األدبية التي تمت كتابتها بعيدا عن الوطن الذي اضطر هذا
األديب أو ذاك إلى الرحيل منه قس ار ،والمهجر أو المنفى هو البلد أو البلدان التي فر إليها عدد من
األدباء العرب ،واستقروا فيها ،كما حدث مع اللبنانيين الذين اضطرتهم الحروب األهلية والفتن الطائفية
إلى الرحيل القسري عن وطنهم األم بحثا عن األمان واالستقرار ،فوجدوا مالذهم في المهجر الشمالي
161
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
4
التي استقر فيها أمثال جبران ،أو المهجر الجنوبي حيث أمريكا الالتينية في حيث الواليات المتحدة
عدد من أقطارها التي استقر فيها المهاجرون اللبنانيون الذين وجدوا األمن واألمان ،فأسسوا مجتمعا خاصا
بهم ،وأنشأوا رابطة قلمية ،وأصدروا جرائد عربية .وبرز منهم شعراء عديدون هم الذين أصبحنا نطلق
وعندما نتذكر هؤالء الشعراء اسما اسما ،ال نتذكر وال نعرف منهم روائيا بار از ،أو كاتبا مسرحيا
له إنجازاته المتميزة في مجال المسرح .وفى النهاية ،نكتشف أن أدب المهجر /الشتات كان في المقام
األول أدب شعر .وعندما نضم إلى شعراء المهجر ذوي األصل اللبناني غيرهم من أبناء األقطار األخرى،
ترد على خاطرنا األسماء المصرية ،ابتداء من محمود سامي البارودي الذي نفاه االحتالل البريطاني
عقب فشل الثورة العرابية إلى سرنديب في جزيرة سيالن ،وظل البارودي لسنوات طويلة إلى أن عاد إلى
مصر كهال محطما .واألمر نفسه ينسحب على أحمد شوقي الذي نفاه اإلنجليز إلى إسبانيا التي ظل فيها
إلى انتهاء الحرب العالمية األولى .وأدرك اإلنجليز أن ال خطر منه ،فسمحوا له بالعودة إلى مصر.
ويعني هذا أن أواخر القرن التاسع عشر إلى الربع األول من القرن العشرين ،لم يكن هناك نوع أدبي له
لكن المعنى الثاني يرتبط بأن هناك تماثال وتباينا بين ما نسميه أدب الدياسبو ار أو أدب المهجر
أو أدب المنفى .كالهما يلتقي في أنه أدب اغتراب اضطر إليه أديب ،فرض عليه أن يرتحل من وطنه
إلى غيره .ولكن يفترق االثنان في أن المهجر ارتحال بقرار ذاتي من األديب لظروف اقتصادية أو غير
4شكري محمد عياد ،المذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيين،سلسلة عالم المعرفة،عدد،177الكويت .1993ص.87
162
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
اقتصادية .وهذا هو الحال معشعراء المهجر .أما المنفى فأمر مختلف فهو فعل خارج عن إرادة األديب،
ومفروض عليه إما من سلطة احتالل كما حدث مع البارودي وشوقي ،أو من سلطة دولة قمعية ،البقاء
فيها يعني إهدار دم األديب ،كما حدث في القرن العشرين الذي تغير فيه المشهد األدبي وظهرت فيه
الرواية .وهكذا أخذنا نألف اصطالح الشتات /المنفى أكثر ،ويتسع أدب الشتات ألنواع أدبية لم تعد
تقتصر على الشعر بل تجاوزته إلى الرواية التي أصبحنا نعرف اصطالح“ رواية الشتات أو الدياسبو ار”
وهكذا فإنه باإلمكان النظر إلى الشتات /المنفى في اتجاهين مختلفين ،كما يرى منظرو ما بعد
الكولونيالية ،فثمة نفي مفروض على الجماعات الثقافية والعرقية التي غدت الخطى باتجاه الغرب بتأثير
استعمار بالدها ،كما أن ثمة انتقاال ألعداد كبيرة من الجنود وموظفي اإلدارات االستعمارية ،إضافة إلى
بعض المغامرين الرحالة الذين دفعتهم تجربة االستعمار الستكشاف األراضي الجديدة والكتابة عنها.ولذلك
يبدو بأن الشتات مفروض ،حيث ال يستطيع صاحبه العودة إلى وطنه األم حتى ولو رغب في ذلك ،وتارة
أخرى يحيل على أنه اختيار نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه ألي سبب من األسباب .لكن هذا
التمييز ليس دقيقا تماما ،فثمة تداخل في تحديد المفهوم.لكن من الصعب أن بوضوح ،في أحيان كثيرة،
أين هو"الوطن" بالنسبة لهذه المجموعات التي ارتحلت عن أوطانها ،أو نفيت منها ،أو جرى تهجيرها
بالتهديد والقسر عنها ،أو اضط ارب بسبب القهر واالضطهاد السياسيين ،أو الفقر والفاقة ،للهجرة إلى
بلدان أخرى واالستقرار على هوامش مجتمعات تلك البلدان على األغلب ،منتجة آدابا تستذكر في العادة
األوطان األصلية ،وتقديم صالت نسب مع الثقافات التي تنتمي إليها.إن مفهوم أدب الدياسبورا /الشتات
163
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
ذو طبيعة معقدة؛ إنه م ـ ــفروض وم ــرغوب ،يجري السعي وتفضي اإلقامة فيه ،وكذلك ذمه بوصفه حالة
إنه وبالنظر إلى الموقع الجغرافي للمغرب فقد كانت الهجرة بالنسبة ألبنائه أفقا للترحال والكتابة،
والمغامرة أيضا .ولم يعد األدب المغربي من عصر إلى عصر ،مهجرييه من الشعراء والكتاب والرحالة،
وكان هؤالء يهاجرون في بداية األمر ،إلى المشرق ألسباب ترتبط بالعصر نفسه منها الحج أو الرحلة
واالستكشاف أو العمل المهني أو السياسي أو متابعة الدراسة.ابتداء من بن بطوطة الرحالة ووصوال إلى
عبد الكريم غالب ،ورشيد يحياوي ،وسواهم ممن عاشوا أجواء الحياة الثقافية في هذه البالد لفترة وتأثروا
بها ،وقد كتب معظمهم عنها في روايات وسير ومذكرات وشهادات ،ولم يعرف أدباء المغرب ،في مهجرهم
«منفاهم األدبي» إال الذين في بحر السبعينيات من القرن منصرم ،وال سيما أولئك الذين هاجروا أو نفوا
إلى فرنسا ،بعد أن تعلموا لغتها في المغرب في زمن الحماية .فاحتضنهم الوسط الثقافي هناك ،ولعل من
أشهر هؤالء :إدريس الشرايبي ،محمد خير الدين الطاهر ،وعبد اللطيف اللعبي.ومعظمهم كان يكتب في
سياق ثقافي وسوسيو-تاريخي ضاغط كانت ترهنه ،باستمرار ،العالقة االستعمارية بين فرنسا والمغرب.وإذا
كان هذا الرعيل األول من كتاب المهجر المغاربة يعاني من تلك العالقة المتوترة مع لغة اآلخر المستعمر،
متحوطا من أن تستدرجه إلى مواقعه الفكرية والسياسية ،فإن هناك جيال جديدا هاجر إلى فرنسا أو نشأ
في فضاءاتها أو ولد بها ،بدا مختلفا يكتب متحر ار من عقدة المستعمر األجنبي ،وأصبحت الفرنسية لديه
أداة تعبير للبوح وارتياد الحرية .ولقد خلق هذا الجيل المتكون من حساسيات ورؤى متعارضة بين الشعر
164
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
والسرد (محمد حمودان ،محمد العمراوي ،سهام بوهالل ،عبد هللا الطايع ،سليم الجاي ،رجاء بشمسي)...
حراكا حقيقيا ومتناميا في أوساط المهاجرين والمشهد الثقافي الفرنسي على السواء.5
وبهذا ،وفي تصور األستاذ مبارك ربيع ،فقد حققت الرواية المغربية منذ عقود مكانتها واسترعت
االهتمام بأعالم ونماذج رائدة على المستوى المحلي والعالمي ،متفاعلة مع أبعاد التحوالت طابع التشابه
والتكامل البشري الثقافي حول خصوصية تجربة"االتصال مع اآلخر"كما يتجسد في النموذج األوروبي
وهو"اتصال تاريخي جعل من جنوب أوروبا وشمال افريقيا منطقة تمازج ومن بحيرة األبيض المتوسط
ويعتبر الروائي الطيب صالح ،أن الرواية تضيء عالما كان بالنسبة لإلنسان معتما ،فقد استطاع
الروائيون العرب أن يسلطوا الضوء على جوانب من حياة اإلنسان العربي في مناطق وتخوم بعيدة مت ارمية،
لقد استطاعت الرواية العربية عامة والمغربية خاصة أن تضيء في وعي اإلنسان العربي نقاطا كانت
معتمة.
وفي إطار هذا النوع األدبي ،نجد دراسة رائدة للناقد المغربي رشيد بنحدو يستقصي من خاللها
قضية"الدياسبو ار والهجرة" في الرواية المغاربية :حالة الرواية "البورية" و"الدياسبورية" ،فقد عرفت الرواية
المغاربية حاالت وأشكال من الهجرة بنزعة تثاقفية أو عوامل تاريخية قسرية وهو ما ساهم في بروز
165
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
ظاهرتين نصيتين لم تناال اهتماماَ نقدياَ هما الرواية "البورية" نسبة 7إلى ( Beurأي عربي بالعامية
الفرنسية) ،والتي كتبها بالفرنسية أبناء العمال المغاربيين المغتربين .والرواية الدياسبورية نسبة إلى
Diasporaأي الشتات ،وهي التي كتبها بالفرنسية يهود مغاربيون مغتربون ،وهما معا يصنفان ضمن
«أدب تنتجه أقلية» آتية من آفاق ثقافية أجنبية ،داخل ثقافة تنتجها أغلبية أصلية أقوى منها ،ويظل القاسم
المشترك هو حداثة عهد النصوص الروائية التي أفرزتها نصوص بول تابي ،روالن بصري ،سعدية ليفي،
ألبير سنوسان.واحتفت بأسطورة اليهودي التائه ،أما في نصوص روائيي الجيل الثاني للهجرة أحمد كلواز،
ليلى هواري ،غزوز بكاك ،كمال الزموري،رمضان إسعاد ،موسى لبكيري ،فثمة إحساس مأساوي بعدم
إنه لمن الصعب بالفعل أن نرسم معنى للشتات ضمن هذه الظروف المعقدة من عمليات النزوح
والشتات واالغتراب واالقتالع والنفي والرحيل الطوعي أو الهجرة بحثا عن الحرية أو الرغبة في العصور
السابقة ،أو أنه يتضمن مجموعات صغيرة .صار هناك مجتمعات كاملة تبتعد عن طوعا أو كرها ،عن
أوطانها األصلية .ال على ترك أوطانها فقط بل على التخلي عن لغتها األم ،وثقافاتها األصلية لتصبح
جزءا من المجتمعات والثقافات الجديدة ،مثل األفارقة الذين يعيشون في فرنسا ،والهنود الذين يعيشون في
بريطانيا ،وهؤالء ينتجون آدابا مهجنة لكنهم يتخذون من الفرنسية واإلنجليزية لغة يعبرون عن أنفسهم،
7المرجع نفسه.ص.2
166
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
في مرحلة شديدة التعقيد من السيطرة المباشرة للغرب على بلدان العالم الثالث ،جرى تشييد نمط
من اإلنشاء األدبي يستهدف تكريس عالقة نوعية مع األهالي "المحليين" تتميز بعدم توازنها ،وال عقالنيتها
السافرة؛ يتم إنتاج "الغير" أو اختالقه لضرورات البرهنة على عدالة النمط التحكمي الغربي ،لتبرير العنف
الموضوعي الممارس بقوة ،ولتمجيد المثال اإلنساني لحضارة اإلمبراطورية ،ربما لهذا السبب األخير
سيظهر للوجود -في مراحل متالحقة -ما يمكن أن نسميه "متخيال نقيضا" يسعى لبث تأثيره الجمالي
المضاد لدى أوسع شريحة من المتلقين الغربيين ،وتدريجيا ستصير أسماء "الطيب صالح""،آسيا
جبار""،عبد الكبير الخطيبي" و"أهداف سويف" ،عالمة على وعي أدبي مختلف ينتهي لمواجهة التراث
الغربي ،برؤية تصحيحية تنبعث من داخل لغة اآلخر ذاتها وعليه فإن الصوت االستعالئي النافذ عبر
حوارية وهمية ،والهجانة السالبة لآلخر ،ستشكل الهدف المركزي لنصوص "ما بعد الكولونيالية" المنتجة
للمتخيل النقيض.
وفي رواية "البعيدون" 8لألديب المغربي "بهاء الدين الطود" ،نعثر على حالة شديدة الخصوصية،
تتأسس على إنتاج غيرية مضادة للقوالب التصويرية االستعمارية .ولما تطرحه من األسئلة المستفزة على
مستوى األطروحة المركزية -األنا واآلخر -أو على مستوى تركيبتها الفنية والجمالية.وهو ما حدا بروائي
كبير كمحمد شكري إلى تخصيصها بكلمة معبرة على غالفها تقول "هناك من يأتي إلى الكتابة عن طريق
اجترار الكتابة ،وهناك من يأتي إليها عن طريق الحس والتجربة ،وبينهما موهبة الكاتب بهاء الدين
الطود".9
167
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
وفي هذا السياق فإن نص"البعيدون"فضال عن كونه يقدم مسا ار اغترابيا نقيضا ومخالفا لما كان
عليه األمر في تجارب روائية عربية ومغربية سابقة ،فإنه يستوحي شكال سرديا يفتح إمكانيات واسعة في
التراسل وتناول موضوعات الرحيل ،والتيه ،والشتات.وطيد الصلة بالمتخيل التراثي ،حيث تتعدد فضاءات
االغتراب ،وتتعاقب وقائع البطولة في حلقات دائرية تبتدئ في كل مرة بفتح ،وتنتهي بهروب إلى فضاء
تحكي الرواية رحلة إدريس عبر خيوط سردية تتداخل فيها غيرية الفضاء بغيرية الجنس ،وتتداخل
فيها جغرافية المدينة بوصفها أنثى رمزية ،فتصبح العالقات المركبة التي تصل البطل بالنماذج النسائية
وما تتضمنه من صور التخاطب والتفاعل ،كناية عن أزمة االنتماء إلى الفضاء الحاضن ،وتأكيد حالة
النفي واالغتراب .وهكذا تنطلق مخيلة الرواية بكل مكوناتها الثقافية والحضارية والعقدية ،في تفجير الطاقة
التخييلية إلبداع أحداث ووظائف تلتبس فيها طبائع الشخصيات ومالمحهم ،وأنماط سلوكهم وردود أفعالهم؛
بتفاصيل األمكنة واألزمنة وخلفياتها .فتخلق بؤ ار صورية صغرى تؤثث أفق المتخيل العام الذي ترمي إليه
رواية "البعيدون" اغتراب متجدد للجنوبي القادم من األطراف والهوامش إلى الغرب الذي أحكم مقومات
مركزيته في مختلف المجاالت ،فك ار وخطابا وثقافة وجغرافية...اغتراب روائي يفضي في كل مرة يفضي
إلى هروب من المواجهة ،مما يكرس االلتباس والغموض في التواصل ،وهيمنة سوء الفهم ،وغلبة التعميم
واألحكام النمطية ،المفضية كلها إلى نتيجة متماثلة عبر الزمن وتجارب االغتراب والخروج؛ وهي "خيبة
واستحالة اللقاء الحضاري".فمنذ اللحظات السردية األولى ينبري السارد في نص "البعيدون" ،ومنذ الفصل
التمهيدي األول ليخبرنا بالنتيجة ذاتها.وهي "إعاقة التالقي" في الفضاء األندلسي ،وذلك من خالل مشهد
تصويري غاية في اإليحاء ،يقول السارد« :في تلك الليلة كنا في بيت صديق إسباني ،فاقترحنا على
168
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
"لوليتا" أن تسمعنا من قديم بالينسيا ،أخذت تغني ،لكنها توقفت فجأة وصارت تبكي قبل أن تعترف بأنها
ابنة غير شرعية.أحس كل منا باقتراب فساد جلستنا ،التقت أعيننا تستطلع وقع الخبر دون أن ندري ما
نعم جئت إلى الدنيا ثمرة عشق محرم ،والدي مغربي مسلم ،كان جنديا في جيش الجنرال فرنكو،
التقى بوالدتي بعد الحرب األهلية ،فبادلته الهيام نفسه ،لكنه رفض اعتناق المسيحية كشرط للزواج بها،
ليس المهم في هذا المشهد ،أن الجندي المغربي هو الذي رفض الزواج برفضه المسيحية ،وال
ألنه مادام قبل العشق من إسبانية ،فقد أمد يده بيضاء للتالقي والتواصل.ولكن األهم في هذا المقطع
التصويري الدال ،هو أن التالقي ال يمكن أن يولد بين الذوات المتغايرة إال على مستوى الشرعية" .فلوليتا"
اإلبنة غير الشرعية أفسدت على السارد جلسته مع أصدقائه ،وبذلك يستمر "اآلخر" النائي ،المختلف
جنسيا وعقديا ،في تعميق فجوة التنابذ بين الهويات الموزعة بين الضفتين.ومن ثم فإن الداللة الصورية
العامة التي ستسترسل الصور الروائية الجزئية في حبك تنويعاتها عبر الفصول العشرين للرواية ،هي
االنكسار والخيبة واستحالة اللقاء ،عبر تفاصيل وأحداث تتصادى وتتساند في ترسيخ بين البطل ومحيطه
الثقافي.
10رواية البعيدون.12-11،
169
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
في نص "البعيدون" تتوزع إلى لحظات مركزية ،تشكل بالرغم من تقاطعهما الدرامية العديدة وحدة نصية
متجانسة ،وبناء أسلوبيا بليغا في التقاطه لسير المدن ولغة الجسد ودينامية الحياة في السفر .لحظات
التطور الدرامي لمحاولة اختراق الغيرية ،كما تنجح في تمثيل سمات اإلعاقة وعوامل االنكسار والنكوص
لصور وعي يبدو من المستحيل إعادة تأهيله ،يقول السارد على لسان إدريس محددا قيم الثبات تلك":والدي
كدت ال أعرفه ،فقد رحل وعمري ال يتجاوز التاسعة أو العاشرة ،ال أذكره ،أما والدتي فقد حجبني عنها
ورحت أفكر ،أيهما أفضل ،حياتي مع والدتي ،أم حياة خوصي مع والديه؟
معادل تبدو سهلة ،لكنها ليست كذلك ،فقيمي الموروثة ليست قميصا يمكن لي استبداله متى
شئت.أن أحمل ميراثا تراكم من سلف إلى خلف لينغرس في وعيي وال وعيي ألكون حصيلة تلك البذور
األولى".12
نعتقد أن توظيف الحكي الروائي لهذا المونولوج الداخلي ،ال يقف عند حدود إغناء التنوع الخطابي
في الرواية ،بما هي بنية فنية تتعدد بداخلها األصوات بشكل اعتباطي .ولكن لتؤصل التباسات الوعي
وتردداته أمام المجاالت الجديدة التي يفتحها في وجه الذات /اآلخر.أي أن السجال الداخلي لـ"إدريس" في
170
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
هذا المقطع ،جاء ليبرز حالة الفصام بين إرادة الذات االجتماعية في االنتماء الشكلي إلى حياة اآلخرين،
وبين رفض األنا العليا لمجرد التفكير في استبدال القيم المتحكمة في إيقاع التفاعل مع "الغير" أو قد
تكون حالة "ازدواجية الشخصية".وربما هذا ما توصل إليه الكثير من دارسي هذا المتن الروائي ،كما نجد
عند "علي القاسمي" في قراءته للمقطع الروائي الذي يصف فيه بيت إدريس بلندن وهو "شقة صغيرة،
لكنها مثيرة.زربية مغربية شاحبة استراحت في عقر صالون إنجليزي قديم ،صورة متوسطة الحجم باألبيض
واألسود داخل إطار خشبي جميل ،وضعت فوق الدوالب تجمع إدريس مع أعضاء ثالثة من فرقة البيلتز
يقول علي القاسمي «وهكذا يؤدي االقتراب من البعيدون إلى تالقح األفكار وتمازج الثقافات 13
الغنائية"
بل وإلى ازدواجية في الذوق والسلوك.إنها االزدواجية التي يعانيها المثقف العربي :جذور لصيقة التربة
العربية كالتصاق الزربية المغربية بأرض الشقة ،وآراء محلقة مرتفعة في فضاء الغرب ارتفاع صورة فرقة
البيلتز الغنائية فوق الدوالب».14وربما تكون هذه التي تجسر الهوة بين الواقع والمتخيل ،على حد تعبير
الباحث واألكاديمي المغربي ،شرف الدين ماجدولين "تنحو لإليهام بهيمنة الحسي والشكلي والخارجي في
تخييل الحوارات بين إدريس ومقابالته األنثوية ،وفي تأثيت مجاالت الفعل بظالل النزعة الذكورية،
15
المنغرسة في الوعي والالوعي".
ال يمكن إلدريس -إذن -إال أن يخلد الرؤية المونولوجية للواقع والكالم والفعل السجالي ،حيث
يعسر التخلص من نزعة التنميط والقولبة إزاء مقابالته الروائية ،سواء تشكلت في أطراف أنثوية أو ذكورية،
13رواية البعيدون،ص.20
14علي القاسمي:رواية البعيدون،بهاء الدين الطود،مجلة نزوى،العدد.36ص.42
15شرف الدين ماجدولين،المرجع السابق،ص.53
171
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
كما يصعب على السارد في هذا النوع من المتخيل الروائي ،عدم اإلذعان لرغبة تكييف صورة اآلخرين.
وإعادة تمثل خطاباتهم ومقوالتهم ومؤسساتهم الذهنية فالرواية في نهاية المطاف توق إلى تصفية الحساب
مع الذات والغير واللغة والتاريخ ...ولذا لن يكون غريبا أن يرى إدريس في كل إبدال من اإلبداالت
النسائية تنويعا جسديا ،قد يشد إليه ،وينبهر بإيحاءاته للوهلة األولى .غير أن يبقى مجرد تنويع شكلي،
ال تلبث أن تتالشى فتنته العارضة فيرتد الوعي بعد اغترابه الطويل إلى مدار ألفته وسكونه ،ففي النهاية
تتساوى بيالر ،كريستيان ،وإيستر في كيان واحد رمزي ،يحيل على نموذج للقيم ثابت ومتماثل.كما
تتماهى المدن األوروبية الثالث ليجد البطل نفسه في النهاية أمام أبواب مغلقة تتنامى حجما فتنقبض
على هويتها الخالصة ،التي تبقى الغريب والهجين .ومن ثم فإن مشاهد الوصف العاطفي والوقفات التأملية
ذات البعد الفني واألدبي داخل الرواية ،ستشكل هي األخرى مكونا إضافيا لترسيخ صورة التباعد واستحالة
اللقاء ،وهو ما يجد تجليه الواضح في مشهد المحاورة بين إدريس وكريستيان؛ تقول الرواية« :جمدت
كريستيان في مكانها وأخذت تحملق في وجهي ،أنا أيضا سكنني زهو حين رأيت أنني أخطو إلى عقلها،
ومنه إلى قلبها .وردت في شبه استسالم- :قد يكون ما تقوله صحيحا ،لكنني أعتقد أن عطيل لم يكن
يحب بعلقه ،وإنما بإحساسه ووجدانه ،هي أمور إنسانية عاطفية ال دخل للثقافة في توجيهها ...في لحظة
واحدة انقلبت مشاعري من الفرح إلى الخيبة .فالصبية ذكية وعلى اطالع .لكن ال بد من مواصلة الشوط
172
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
حتى تفهمي ما أرمي إليه ،يجب أن تطلعي على ثقافة عطيل التي سادت عصره ،وفي جميع األحوال
فإن العقل والوجدان والعاطفة وحتى األحاسيس ،كلها تتحدد تبعا لثقافة صاحبها".16
ليس المهم أن يكون عطيل محبا بعقله ،أم بوجدانه في المبنى الروائي لهذه المحاورة .إنما المهم
أنه بات مصدر تشكيك في عبقرية شكسبير ،وصورة لألجنبي الذي أسيء فهم ثقافته .ومن ثم نموذجا
للتأويل واألسطرة الخاطئين .وعليه ،أصبح بمقدورنا أن نلمس التدرج الواضح لمسار الجدل بين إدريس
وغيره وبالتالي جدل ثنائية شرقي /غربي ،حيث تحتل العالقة مع كريستيان منزلة وسطى بين الحسية
والعاطفية الصرفة التي طبعت عالقة البطل ببيالر ،وانصهار الحسي العاطفي بالعقلي في عالقته المركبة
مع إيستر .حيث تبدو هنا نزعة البطل "إدريس" واضحة إلخراج مشهد التشكيك والتضليل والغواية المتأصلة
في وعيه والوعيه ،من الطابع التنميطي لمظهرية الجسد ،إلى نوع من الغواية "الكيفية" التي تشخص
الكيان األنثوي بوصفه مظه ار يلتقي في مركزه مصدر المتعة الظاهرة والخفية.
وفي مستوى الحق من مسار البناء"الغيري"في الرواية ،نجد الثوابت ذاتها تتكرر في المشاهد
النصية التي تجمع البطل ب ـ ـ "إيستر" الشخصية اليهودية التي تمتلك بدورها بالغة اإلتقان للكمال الشكلي،
فضال عن ارتكازها على خلفية ذهنية مميزة عن سابقاتها.وتجمعها بالبطل منذ الوهلة األولى روابط
عاطفية تتداخل فيها الشهوة الجسدية باالنجذاب الذهني ،مشتركة في اختراق دائرة االغتراب ومجاوزة
التعصب العرقي والديني ،بيد أن العالقة بينهما ستظل محكومة بعوامل تتجاوز ذاتيهما.عوامل ضاربة
جذورها في محيط من الصراع ،ال يمكن إال أن يكرس التباعد .ولذا ستتحول حتى رغبة التوحد الغريزي
16رواية البعيدون،ص.82
173
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
بين الجسدين إلى لحظة غامضة ،بل وإلى ممارسة ثأرية تستوعب كل دالالت اإلخضاع واالمتالك
الحسي /الذهني ،يقول السارد في صورة دالة من مشاهد التفاعل مع "إيستر" «أحسست بقوة تحثني أن
أطلب الثمن من"إيستر" ،ليكون لي منها ما أريده في هذه اللحظة الحانية ،لحظة دفاعي عن كياني،
والدفاع ال يخطط له ،وإال صار انتقام ،علي أن أنال على قدر ما أستطيع .فأنتصر بشجاعة أو أنهزم
فأنسحب بشجاعة .والتفتت نحوي مندهشة بعد أن قلت لها بجرأة غير معهودة في حديثي-:أنت أشهى
ما في هذا البيت ،وأشهى ما تضمنته جميع الكتب.اتسعت حدقتا عينيها وأخذت تتأملني مبهورة وكأنها
ال تصدق ما أقوله.لكن عساكري كانت متأهبة للذود عن شرفي ،وكما ينطلق العيار من رشاش في حالة
تشكل هذه الصورة مع مثيالتها مشهدا تخيليا متجانسا في مبناه المجازي ،وفي إحاالته على
التباعد المتنامي بين البطل ونقيضه األنثوي .بحيث ال يمكن للحظة الغواية ،إال أن تواكب لحظة الصدام
الوجداني والجسدي ،الذي يشمل الزمان والمكان وبنية التخاطب .فكل شيء في الصورة يستوحى من
ذاكرة العنف الذي يطبع مخيلة الهويتين ،وهو بمثابة تشكل نوعي من المفردات والمجازات الحربية،
وسياق تخاطبي مشحون بنوازع الهيمنة واإلخضاع ،وإطار صوري أشبه ما يكون بلعبة تجاذب بين
وضعي "الفوق" و"التحت" بالنسبة للمتحاورين ،والنتيجة أن العالقة المركبة بين البطل المرشح للسقوط،
ونقيضه الجنسي والحضاري "إيستر" ستتجاوز غاية التواصل والتماثل القيمي ،وتنتهي إلى التنابذ وبالتالي
االغتراب.
17رواية البعيدون،ص.161-160
174
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
الخاتمة
تلك كانت المحصلة الروائية لوضع االغتراب والثنائي بين األهواء واألجساد والمتخيالت الفردية
والجماعية .كما صاغت تفصيالتها رواية "البعيدون" ،بكشف قاس وعنيف للقيم واألحاسيس والعقائد
المتقاطبة التي تباعد بين األعراف ،كما تنأى بالجغرافيات عن موضع التالقي والحوار مفرغة موضوعي
السياحة في الفضاء ،والسفر في الزمان من معناهما المحسوس ورمزيتهما اإلنسانية .فتصير "استحالة
اللقاء" و"خيبة األمل" ،الحقيقة الوحيدة التي تمارس عنفها في متخيل اغتراباتنا ،تماما كالقدر األسود الذي
وبهذا تبقى مسألة أثارتها رواية "البعيدون" هي أن العالقة بين الشرق والغرب ليست (دائما) وإن
كانت (غالبا) حالة تقاطع على اعتبار (أن الشرق شرق والغرب غرب ويتعذر عليهما أن يلتقيا).
فإذا كان بطل رواية بهاء الدين الطود "إدريس" غادر لندن مرغما ،أو أبعد قس ار ،أخذوا منه ابنته
وجواز سفره ورموه خارج حدود بلدهم ،ولم يعد له في وطنه األصلي أي رابط غير االسم والسحنة وربما
الدين ،فقد يكون غير كل شيء ليكون كما أراد المجتمع الصحفي الذي انخرط فيه سواء عن طريق
المستر كورت (جاكوب) مدير مجلة "فواصل" التي تكتب فيها مقاالته.وابنة أخته "إيستر" التي لم يفصح
لنا الكاتب إلى أي حد وصلت عالقته بها .وربما من هنا اسم رواية "البعيدون" وأحدهم "إدريس" الذي
صادره العالم الذي هاجر إليه لقد ابتعد تماما .لكن إدريس ظل قريبا حتى في بعده وابتعاده بدليل أنه عاد
إلى أرضه األم ووطنه الذي ولد فيه إلى الوطن اآلخر الذي خرج منه وهو مصاب بالبرص.وقد انتزعت
175
www.rjsp.org مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير
2021/11/28
العدد السادس عشر176-153 : ISSN:2709-2097
المراجع
176