Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 24

‫‪www.rjsp.

org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫كــــتابة الشــتات وشـــتات الـــكتابة في الرواية المغاربية‬

‫‪Diaspora writing and writing in the Maghreb novel‬‬

‫ع ــتيقة غازي‬

‫‪Ghazi ATIKA‬‬

‫حاصلة على الدكتوراه ‪ -‬جامعة محمد الخامس‪-‬الرباط‪-‬المغرب‬

‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‬

‫‪Mohammed V University Agdal –Rabat- Morocco.‬‬

‫‪Faculty of Letters and Human Sciences,Agdal- Rabat.‬‬

‫‪ghaziatika@gmail.com‬‬

‫‪153‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫ملخص‬

‫في المحصلة النهائية‪ ،‬إن تحديد أدب الشتات‪ /‬الدياسبو ار يبدو سيزيفيا‪ ،‬إنه مفروض ومرغوب‪،‬‬

‫يجري السعي وتفضيل اإلقامة فيه‪ ،‬وكذلك ذمه بوصفه حالة من اإلبعاد واالغتراب الذي يدفع المرء إليه‬

‫ويجبره على عناقه‪ .‬ولذلك يبدو بأن الشتات يقابل ما يمكن أن نطلق عليه"االنفصال واالبتعاد عن الوطن‬

‫األم أو عن األصل الثقافي أو العرقي"‪.‬نوعا من حصر المفهوم‪ ،‬وتصنيف حدوده‪ ،‬صحيح أنهم يشيرون‬

‫إلى تمييز بعض نقاد ما بعد االستعمار بين الشتات‪/‬المنفى واالغتراب‪ ،‬فاألول مفروض‪ ،‬حيث ال يستطيع‬

‫الذي يعيش في الشتات والمنفى العودة إلى وطنه األم‪ ،‬حتى لو رغب في ذلك‪ .‬أما الثاني فهو اختيار‬

‫نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه ألي سبب من األسباب‪.‬لكن هذا التمييز بين هذين المفهوميين‪،‬‬

‫يجعل من الصعب التمييز بين من يعيش في الشتات والمنفى‪ ،‬ويمكن اإلشارة في هذا السياق إلى التجربة‬

‫الفلسطينية التي تتضمن أنوعا عديدة من االبتعاد القسري‪ ،‬والشتات‪ ،‬والنفي العنيف واإلبعاد‪.‬‬

‫الكلمات المفتاحية‪ :‬الشتات‪ ،‬االغتراب‪ ،‬المنفى‪ ،‬اللقاء الحضاري‪ ،‬كتابة الشتات‪ ،‬الغير‪.‬‬

‫‪Abstract‬‬

‫‪In the end, the identification of diaspora literature/Diaspora seems‬‬

‫‪Sisyphia, it is imposed and desirable, sought and preferred to reside in, as well as‬‬

‫‪its vilification as a state of alienation and alienation that pushes one to it and forces‬‬

‫‪one to embrace it. It is true that they point to the distinction of some post-colonial‬‬

‫‪154‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫‪critics between diaspora/exile and alienation. The mother, even if he so desires,‬‬

‫‪and the second is a choice that arose as a result of one’s desire to leave one’s‬‬

‫‪homeland for any reason. But this distinction between these two concepts, makes‬‬

‫‪it difficult to distinguish between the diaspora and the exile, and we can refer in‬‬

‫‪this context to the Palestinian Experience These include many types of forced‬‬

‫‪expulsion, diaspora, violent exile and deportation.‬‬

‫‪Keywords: Diaspora, Alienation, Exile, Civilized Encounter, Diaspora‬‬


‫‪Writing, the others.‬‬

‫مــقدمة‬

‫لقد جبل اإلنسان على التحول والحركة‪ ،‬فحاجته إلى المعرفة والحرية كانتا دائما الحافز الخفي‬

‫وراء تغيير األمكنة باإلضافة إلى حاجته إلى البقاء‪ ،‬واالستمرار والحفاظ على النوع البشري‪ ،‬ومما يؤكد‬

‫ذلك االختالط والتنوع البشريان‪ ،‬وحاجة اإلنسان إلى الهجرة طالت مدتها أو قصرت‪ ،‬أو كانت بغرض‬

‫االستقرار الدائم أو الجزئي‪ ،‬سواء طوعا أو قس ار‪ ،‬إلى أصقاع مختلفة‪ ،‬غربا وشرقا شماال وجنوبا‪ ،‬من قبل‬

‫أفراد وجماعات ثقافية أو عرقية‪ ،‬أو شعوب بكاملها‪ ،‬والتي تختلف أسبابها بين سياسية في بعضها‪،‬‬

‫واقتصادية في بعضها اآلخر‪ ،‬أو تعرضت للغزو نفيا وهروبا من بطش القوى االستعمارية‪ .‬وهكذا فإنه‬

‫باإلمكان النظر إلى هذا "الشتات‪/‬المنفى‪/‬المهجر"‪ ،‬في اتجاهين مختلفين‪ ،‬كما يرى منظرو ما بعد‬

‫الكولونيالية‪ ،‬فهناك شتات مفروض وقسري على الجماعات الثقافية والعرقية‪ ،‬كما أن ثمة انتقاال كبي ار‬

‫لعدد من الرحالة الذين دفعتهم تجربة استكشاف أراضي جديدة والكتابة عنها‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫‪ -1‬إشكالية البحث‬

‫إن هذه الدراسة تحاول اإلجابة عن إشكالية معرفية أدبية يمكن صوغها كاآلتي‪ :‬ما آثار هذا‬

‫الشتات‪ /‬المنفى سواء الطوعي أو القسري على صاحبه الكاتب؟ ثم ماذا أضاف للنص السردي على‬

‫مستوى التيمات والموضوعات والمفاهيم؟ وما هي المفاهيم التي ترتبط بأدب "الشتات" أو "الدياسبورا"؟‬

‫وهل هناك خصوصية نوعية على مستوى الكتابة المغربية منها والعربية؟‪ .‬وما مبلغ تحكم الظرفيات‬

‫التاريخية والمنظومة المرجعية الثقافية بقيمها المعرفية والجمالية واألخالقية في رسم مالمح المغايرة وتلوين‬

‫معانيها ودالالتها ورموزها؟ وهل كان لهذه الصورة التي رسمها هؤالء الروائيون المغاربة ‪ -‬أو لبعض‬

‫جوانبها على األقل ‪ -‬بعض التأثير على أهل البلد المتلقي؟‬

‫‪ -2‬أهمية البحث‪:‬‬

‫قبل أن نخوض في الحديث عن أدب الشتات وخصوصيته‪ ،‬يجدر بنا في البداية الوقوف عند‬

‫النقطة التي أفردناها بالحديث انطالقا من دراستنا لرواية "البعيدون" لـ ـ"بهاء الدين الطود"‪ ،‬فقد كان هدفنا‬

‫هو الدراسة المحايثة والدراسة النصية للرواية‪ ،‬بالوقوف عند طبيعة العالقة بين "األنا واآلخر" هذه التيمة‬

‫التي أطرت النص‪ ،‬فكانت السبيل لتحرير لغة الكتابة ومساحات تخييلها‪ ،‬ومنحها الدينامية الضرورية‬

‫لخلق األشكال‪.‬‬

‫‪ -3‬أهداف البحث‬

‫‪156‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫وال تخفى أهمية هذه الدراسات التي تسعى إلى "الكتابة عن اآلخر وكتابة اآلخر" في توضيح‬

‫طبيعة العالقات بين الشعوب‪ ،‬في محاولة للتقريب بين األمم وربط جسور التواصل في إطار ما يسمى‬

‫بــ"حوار الحضارات والتفاعل بين الهويات الثقافية المختلفة"‪ .‬من حيث إنها تثري تصور األنا لذاته ولغيره‬

‫من ناحية‪ ،‬وتفسح باب المقارنة بين تصور الذات وتصور الغير من ناحية وتفتح باب المقارنة بين تصور‬

‫الذات وتصور الغير من ناحية ثانية‪ ،‬ارتباطا بهذا المنطلق فمثل هذه البحوث ستحاول إلقاء الضوء‬

‫على الدور الذي يمكن أن يضطلع به األدب المقارن خصوصا في عصرنا الراهن الذي بدأت فيه المعرفة‬

‫اإلنسانية تدخل مرحلة من االندماج العالمي األعمق‪ ،‬بفضل الشبكات الكونية لالتصاالت واإلعالم‬

‫والعالقات االقتصادية والتفاعالت الحضارية بين الشعوب والثقافات‪ ،‬والتي تندرج في بعض الجوانب‬

‫ضمن ظاهرة العولمة‪.‬‬

‫‪ -4‬فرضية البحث‬

‫لقد راعينا من أجل تحقيق ذلك‪ ،‬في عميلة اختيارنا لهذه النموذج‪ ،‬قدرته التمثيلية لهذا التوجه‬

‫األدبي ‪ -‬الفني‪ ،‬وعلى إثبات مكانة اإلبداع الروائي المغاربي وخصوصيته‪ ،‬وهو ما يشكل في مجمله‬

‫مسيرة النص اإلبداعي السردي وتحوالته عبر المتغيرات الزمنية والتاريخية التي ينشئها النص ذاته‪ ،‬والتي‬

‫تختلف عن العصور الزمنية التي ينشئها اإلنسان‪ .‬من هنا وكما يقول جيرار جنيت‪ ،‬تصبح عملية البحث‬

‫عن الخصوصي موصلة إلى الكوني‪ ،‬كما يصبح التحليل النصي في خدمة النظرية‪ ،‬بقدر ما تصبح‬

‫النظرية في خدمته‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫على هذا األساس‪ ،‬جاءت حاجة البحث في اختيار أنموذج الرواية المغاربية المجسد لهذه‬

‫الخصوصيات والمتغيرات الحاصلة على مستوى النص السردي‪.‬‬

‫‪ -5‬منهج البحث‬

‫وحتى تخترق الدراسة عالم الرواية الفسيفسائي في تشكيله البنائي‪ ،‬والغامض في دالالته الخفية‬

‫وإيحاءاته المستعصية‪ ،‬أفدنا من نتاجات "الشعرية البنيوية"‪ ،‬المتخصصة في تحديد خصائص العمل‬

‫األدبي عن طريق آليات التأويل وجماليات التلقي األدبي‪ ،‬واشتغالها على بعض الوحدات السردية المشكلة‬

‫للنظام السردي الروائي كبنية الزمان والمكان‪ ،‬مع اكتشاف توحد النص وانفراديته في طرائقه الفنية‬

‫المنزاحة عن المألوف ‪ ،‬وكذا مدى إنتاجية فعل القراءة في كشف فضاءات النص وأبعاده الداللية‪.‬‬

‫وتتحقق غاية البحث عبر هذا التحليل النصي أفادت الدراسة من بعض الكتب المترجمة الباحثة‬

‫في تقنيات السرد الحديثة من مثل "مــقوالت في الحكاية األدبية"‪ ،‬و"باختين‪ :‬المبدأ الحواري" لتودوروف‪،‬‬

‫وكتاب" خطاب الحكاية" لـ"جيرار جينت"‪ ،‬وأعمال "ميخائيل باختين" من خالل بعض كتبه‪ ،‬ك ـ"الخطاب‬

‫الروائي "و"شعرية دستويفسكي"‪ ،‬وكذا مجهودات كل من "روالن بارت" من خالل كتابه"التحليل البنيوي‬

‫للسرد" و"جوليا كريستيفا" "في كتابها" علم النص" و لوران جيني‪ .‬باإلضافة إلى بعض األعمال األخرى‬

‫الباحثة في علم القراءة والتأويل من خالل السرد؛ وبمقتضاه فإن بحثنا يندرج ضمن النظرية الشعرية بوجه‬

‫عام‪ ،‬وشعرية المتخيل السردي بوجه خاص بدل االلتصاق المحاري بموضوعاتية متقادمة‪ .‬وخلفيتنا‬

‫النظرية ستكون مرفودة ب ــ"مبدأ الحوارية" الباختيني‪.‬‬

‫أما األبحاث والدراسات العربية المقدمة في مجال التنظير للبناء السردي الحديث‪ ،‬فقد اعتمدنا منها‬

‫‪158‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫ما كان ملما بما استجد‪ ،‬فكانت بمثابة األصول األولى المستنِبطة للنظرية‪ ،‬والمحاوالت الجادة إلعمالها‬

‫على النموذج الروائي العربي‪ ،‬وقد تبنى هذه األبحاث ثلة من النقاد العرب الذين غربلوا التفكير السردي‬

‫الغربي وجمعوا شتاته‪ ،‬وأقلموه مع ما يتناسب وطبيعة النص العربي الجديد‪ ،‬ولعل أهم إنجاز نقدي يذكر‬

‫في مجال التأصيل للمصطلح السردي في النقد العربي كتاب "تحليل الخطاب الروائي ( الزمن _السرد _‬

‫التبئير) "لألستاذ سعيد يقطين‪ ،‬باإلضافة إلى ما قدمه كل من األستاذ عبد الملك مرتاض " في نظرية‬

‫الرواية‪ :‬بحث في تقنيات السرد"‪ ،‬واألستاذ حميد لحميداني في كتابه"بنية النص السردي من منظور النقد‬

‫األدبي" وكذلك األستاذ "شعيب حليفي" من خالل كتابه "شعرية الرواية الفانتاستيكية" و"شعرية النص‬

‫الروائي" لألستاذ بشير قمري‪.‬‬

‫سؤال المفاهيم‬

‫مما ال ريب فيه أن سؤال المفاهيم من أعقد وأصعب األسئلة التي تجابه الباحث في أي مضمار‪،‬‬

‫وبدون إثارته اإلثارة العلمية الحصيفة والرصينة‪ ،‬ال يمكن صياغة طرح أو تصور سليم ألي مبحث من‬

‫المباحث‪ ،‬فالجهاز المفاهيمي هو مفتاح التنظير‪ ،‬وتقليب النظر فيه وإمعانه‪ ،‬من شأنه أن يسعف الباحث‬

‫في انتقاد المبحث المشتغل عليه‪ ،‬وفتح باب االجتهاد والتجديد‪ ،‬ال أحد يستطيع إنكار فائدته في تحصيل‬

‫المعرفة‪.‬‬

‫ونحن بطرح سؤال المفاهيم في مستهل هذه الورقة‪ ،‬إنما نتوخى خلخلة العديد من التصورات التي‬

‫ارتكنت إلى وثوقيتها‪ ،‬مثلما نتوخى تأسيس مبحثنا على أسس قويمة صارمة ال تزيغ به عن اإلطار الذي‬

‫‪159‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫نرتئي أنه األليق به‪ .‬وإيمانا منا بهذا المبتغى والمطلب حاولنا رصد مجموعة من المفاهيم‪ ،‬كمفهوم‬

‫"الشتات‪ ،‬الدياسبوا‪ ،‬أدب الشتات"‪.‬‬

‫‪ -1‬الشتات‪/‬الدياسبو ار‬

‫وحين نعود إلى مفهوم "الشتات" في معجميته العربية‪ ،‬فإننا سنجده يحيل ‪ -‬ضمن معانيه العديدة‬

‫‪ -‬على البعثرة‪ ،‬اقتالع اإلنسان من جذوره ليعيش بعيدا عن تلك الجذور‪ ،‬وأحيانا بعيدا عن أهله‪ ،‬يعاني‬

‫التمزق واأللم بعد أن فقد كل شيء تقريبا‪..‬الذي اش ـ ــتق من الفعل "شـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت"‪ 1‬من ال ـ ـ ـش ـ ـ ــت االف ـ ـ ـ ــتراق‬

‫وال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتفريق‪َ .‬ش َّت َش ْعُبهم َي ِش ُّت َشتًّا َ‬


‫وشتاتا و ْان َش َّت وتَ َشتَّت‪ ،‬أَي تَـ ـ َـفـ ـ ـ َّـر َق جمعـ ـ ـ ـ ــُه‪.‬‬

‫وبعودتنا إلى معجم روبر نجد الشتات‪/‬الدياسبو ار‪ diaspora 2‬في اآلداب الغربية‪ ،‬نلحظ من‬

‫التعريف الفرنسي أن الشتات في أبسط معانية اللغوية مصطلح يطلق على أماكن تواجد شعوب مهجرة‬

‫من أوطانها في مناطق مختلفة من العالم ليصبحوا مشتتين فيها كمجموعات متباعدة‪ ،‬ويفاعلون فيما‬

‫بينهم بمختلف الوسائل واآلليات للتنسيق محاولة منها للعودة إلى أوطانها‪ ،‬هذا الملفوظ الذي يحيل على‬

‫أصل ومرجعية دينية يهودية (الشتات اليهودي وكل ما له عالقة بالتيه)‪ ،‬ثم سرعان ما رأيناه يمتد إلى‬

‫شتاتات مختلفة‪ ،‬ولعل ثمة ما يجمع بينها‪ ،‬من حروب وإبــادات وتسفير‪ ،‬لكن المثال المغربي ال ينساق‬

‫بسهولة إلى هذا االستدراج المصطلحي‪ .‬يضاف هذا المصطلح "دياسبورا" إلى مواضيع أخرى‪ ،‬من قبيل‬

‫‪1‬ابن منظور‪،‬لسان العرب‪،‬تحقيق مجموعة من األساتذة‪،‬دارالمعارف‪،‬مصر‪،‬مادة(ش‪،‬ت‪،‬ت)‪.‬‬


‫‪2- Dictionnaire Le Micro- Robert 1992.Alain Rey. p.370.‬‬

‫‪3- Ibid.,p370‬‬

‫‪160‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫"المنفى" و"المهجر"‪ ،‬ولعل قراءتها ومناقشتها في زمن العولمة يمنحها طعما آخر‪ .‬وقد شكلت األقطار‬

‫العربية نواة الش ـ ـ ــتات‪.‬‬

‫‪ -2‬أدب "الشتات" أو " الدياسبورا" محاولة في بناء المفهوم‬

‫يتحدد هذا النمط من الكتابة عالميا تح ـ ــت مسمى أدب "الـ ــدياسب ـ ــورا"(‪ )diaspora‬ويقصد به‬

‫اب الذين مارسوا ويمارسون فعل‬


‫الكتّ ُ‬
‫‪3‬‬
‫أدب "المجمـ ــوعات التي تعيش خارج أوطانها األم" ‪ ،‬وأصحابه هم ُ‬

‫ال ـ ـك ــتابة خ ـ ــارج أوطانهم‪ ،‬ولغاتهم األم‪ ،‬في وضعية الالستقرار‪ ،‬وبحس فجائعي‪ ،‬وإحساس باالض ــطهاد‬

‫والخوف واالقتالع‪ ،‬ألنهم يكتبون عن وطن في «الذاكرة» سيستـ ــوطن بدوره «الورق»‪ ،‬يكتبون عن أوطان‬

‫افتراضية‪ ،‬وبحس عنيف بالرفض وعدم القدرة على التالؤم واالندماج في المجتمعات المضيفة‪ ،‬وح ـ ـ ـ ـ ــنين‬

‫ممض إلى العودة‪ .‬والشك في أن الكتابة بهذه المشاعر ستؤثر في مضامين المكتوب‪ ،‬وفي صيغ الكتابة‪،‬‬

‫وفيلغتها‪ ،‬وأهدافها‪.‬‬

‫إن العديد من دارسي األدب يدركون ما الذي تعنيه كلمة "الدياسبورا‪ /‬أدب الدياسبورا‪ /‬أدب‬

‫المهجر‪ /‬أدب المنفى"‪ ،‬بوصفه الكتابة األدبية التي تمت كتابتها بعيدا عن الوطن الذي اضطر هذا‬

‫األديب أو ذاك إلى الرحيل منه قس ار‪ ،‬والمهجر أو المنفى هو البلد أو البلدان التي فر إليها عدد من‬

‫األدباء العرب‪ ،‬واستقروا فيها‪ ،‬كما حدث مع اللبنانيين الذين اضطرتهم الحروب األهلية والفتن الطائفية‬

‫إلى الرحيل القسري عن وطنهم األم بحثا عن األمان واالستقرار‪ ،‬فوجدوا مالذهم في المهجر الشمالي‬

‫‪161‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫‪4‬‬
‫التي استقر فيها أمثال جبران‪ ،‬أو المهجر الجنوبي حيث أمريكا الالتينية في‬ ‫حيث الواليات المتحدة‬

‫عدد من أقطارها التي استقر فيها المهاجرون اللبنانيون الذين وجدوا األمن واألمان‪ ،‬فأسسوا مجتمعا خاصا‬

‫بهم‪ ،‬وأنشأوا رابطة قلمية‪ ،‬وأصدروا جرائد عربية‪ .‬وبرز منهم شعراء عديدون هم الذين أصبحنا نطلق‬

‫عليهم لقب شعراء المهجر‪.‬‬

‫وعندما نتذكر هؤالء الشعراء اسما اسما‪ ،‬ال نتذكر وال نعرف منهم روائيا بار از‪ ،‬أو كاتبا مسرحيا‬

‫له إنجازاته المتميزة في مجال المسرح‪ .‬وفى النهاية‪ ،‬نكتشف أن أدب المهجر‪ /‬الشتات كان في المقام‬

‫األول أدب شعر‪ .‬وعندما نضم إلى شعراء المهجر ذوي األصل اللبناني غيرهم من أبناء األقطار األخرى‪،‬‬

‫ترد على خاطرنا األسماء المصرية‪ ،‬ابتداء من محمود سامي البارودي الذي نفاه االحتالل البريطاني‬

‫عقب فشل الثورة العرابية إلى سرنديب في جزيرة سيالن‪ ،‬وظل البارودي لسنوات طويلة إلى أن عاد إلى‬

‫مصر كهال محطما‪ .‬واألمر نفسه ينسحب على أحمد شوقي الذي نفاه اإلنجليز إلى إسبانيا التي ظل فيها‬

‫إلى انتهاء الحرب العالمية األولى‪ .‬وأدرك اإلنجليز أن ال خطر منه‪ ،‬فسمحوا له بالعودة إلى مصر‪.‬‬

‫ويعني هذا أن أواخر القرن التاسع عشر إلى الربع األول من القرن العشرين‪ ،‬لم يكن هناك نوع أدبي له‬

‫اعتباره سوى الشعر بالدرجة األولى‪.‬‬

‫لكن المعنى الثاني يرتبط بأن هناك تماثال وتباينا بين ما نسميه أدب الدياسبو ار أو أدب المهجر‬

‫أو أدب المنفى ‪ .‬كالهما يلتقي في أنه أدب اغتراب اضطر إليه أديب‪ ،‬فرض عليه أن يرتحل من وطنه‬

‫إلى غيره‪ .‬ولكن يفترق االثنان في أن المهجر ارتحال بقرار ذاتي من األديب لظروف اقتصادية أو غير‬

‫‪4‬شكري محمد عياد‪ ،‬المذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيين‪،‬سلسلة عالم المعرفة‪،‬عدد‪،177‬الكويت ‪.1993‬ص‪.87‬‬

‫‪162‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫اقتصادية‪ .‬وهذا هو الحال معشعراء المهجر‪ .‬أما المنفى فأمر مختلف فهو فعل خارج عن إرادة األديب‪،‬‬

‫ومفروض عليه إما من سلطة احتالل كما حدث مع البارودي وشوقي‪ ،‬أو من سلطة دولة قمعية‪ ،‬البقاء‬

‫فيها يعني إهدار دم األديب‪ ،‬كما حدث في القرن العشرين الذي تغير فيه المشهد األدبي وظهرت فيه‬

‫الرواية‪ .‬وهكذا أخذنا نألف اصطالح الشتات‪ /‬المنفى أكثر‪ ،‬ويتسع أدب الشتات ألنواع أدبية لم تعد‬

‫تقتصر على الشعر بل تجاوزته إلى الرواية التي أصبحنا نعرف اصطالح“ رواية الشتات أو الدياسبو ار”‬

‫بوصفه واحدا من مصطلحاتها أو مجاالتها بال فارق‪.‬‬

‫وهكذا فإنه باإلمكان النظر إلى الشتات‪ /‬المنفى في اتجاهين مختلفين‪ ،‬كما يرى منظرو ما بعد‬

‫الكولونيالية‪ ،‬فثمة نفي مفروض على الجماعات الثقافية والعرقية التي غدت الخطى باتجاه الغرب بتأثير‬

‫استعمار بالدها‪ ،‬كما أن ثمة انتقاال ألعداد كبيرة من الجنود وموظفي اإلدارات االستعمارية‪ ،‬إضافة إلى‬

‫بعض المغامرين الرحالة الذين دفعتهم تجربة االستعمار الستكشاف األراضي الجديدة والكتابة عنها‪.‬ولذلك‬

‫يبدو بأن الشتات مفروض‪ ،‬حيث ال يستطيع صاحبه العودة إلى وطنه األم حتى ولو رغب في ذلك‪ ،‬وتارة‬

‫أخرى يحيل على أنه اختيار نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه ألي سبب من األسباب‪ .‬لكن هذا‬

‫التمييز ليس دقيقا تماما‪ ،‬فثمة تداخل في تحديد المفهوم‪.‬لكن من الصعب أن بوضوح‪ ،‬في أحيان كثيرة‪،‬‬

‫أين هو"الوطن" بالنسبة لهذه المجموعات التي ارتحلت عن أوطانها‪ ،‬أو نفيت منها‪ ،‬أو جرى تهجيرها‬

‫بالتهديد والقسر عنها‪ ،‬أو اضط ارب بسبب القهر واالضطهاد السياسيين‪ ،‬أو الفقر والفاقة‪ ،‬للهجرة إلى‬

‫بلدان أخرى واالستقرار على هوامش مجتمعات تلك البلدان على األغلب‪ ،‬منتجة آدابا تستذكر في العادة‬

‫األوطان األصلية‪ ،‬وتقديم صالت نسب مع الثقافات التي تنتمي إليها‪.‬إن مفهوم أدب الدياسبورا‪ /‬الشتات‬

‫‪163‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫ذو طبيعة معقدة؛ إنه م ـ ــفروض وم ــرغوب‪ ،‬يجري السعي وتفضي اإلقامة فيه‪ ،‬وكذلك ذمه بوصفه حالة‬

‫من اإلبعاد واالغتراب ويجبر على عناقه‪.‬‬

‫‪ -3‬الشتات أو المهجرية في النص الروائي المغربي‬

‫إنه وبالنظر إلى الموقع الجغرافي للمغرب فقد كانت الهجرة بالنسبة ألبنائه أفقا للترحال والكتابة‪،‬‬

‫والمغامرة أيضا‪ .‬ولم يعد األدب المغربي من عصر إلى عصر‪ ،‬مهجرييه من الشعراء والكتاب والرحالة‪،‬‬

‫وكان هؤالء يهاجرون في بداية األمر‪ ،‬إلى المشرق ألسباب ترتبط بالعصر نفسه منها الحج أو الرحلة‬

‫واالستكشاف أو العمل المهني أو السياسي أو متابعة الدراسة‪.‬ابتداء من بن بطوطة الرحالة ووصوال إلى‬

‫عبد الكريم غالب‪ ،‬ورشيد يحياوي‪ ،‬وسواهم ممن عاشوا أجواء الحياة الثقافية في هذه البالد لفترة وتأثروا‬

‫بها‪ ،‬وقد كتب معظمهم عنها في روايات وسير ومذكرات وشهادات‪ ،‬ولم يعرف أدباء المغرب‪ ،‬في مهجرهم‬

‫«منفاهم األدبي» إال الذين في بحر السبعينيات من القرن منصرم‪ ،‬وال سيما أولئك الذين هاجروا أو نفوا‬

‫إلى فرنسا‪ ،‬بعد أن تعلموا لغتها في المغرب في زمن الحماية‪ .‬فاحتضنهم الوسط الثقافي هناك‪ ،‬ولعل من‬

‫أشهر هؤالء‪ :‬إدريس الشرايبي‪ ،‬محمد خير الدين الطاهر‪ ،‬وعبد اللطيف اللعبي‪.‬ومعظمهم كان يكتب في‬

‫سياق ثقافي وسوسيو‪-‬تاريخي ضاغط كانت ترهنه‪ ،‬باستمرار‪ ،‬العالقة االستعمارية بين فرنسا والمغرب‪.‬وإذا‬

‫كان هذا الرعيل األول من كتاب المهجر المغاربة يعاني من تلك العالقة المتوترة مع لغة اآلخر المستعمر‪،‬‬

‫متحوطا من أن تستدرجه إلى مواقعه الفكرية والسياسية‪ ،‬فإن هناك جيال جديدا هاجر إلى فرنسا أو نشأ‬

‫في فضاءاتها أو ولد بها‪ ،‬بدا مختلفا يكتب متحر ار من عقدة المستعمر األجنبي‪ ،‬وأصبحت الفرنسية لديه‬

‫أداة تعبير للبوح وارتياد الحرية‪ .‬ولقد خلق هذا الجيل المتكون من حساسيات ورؤى متعارضة بين الشعر‬

‫‪164‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫والسرد (محمد حمودان‪ ،‬محمد العمراوي‪ ،‬سهام بوهالل‪ ،‬عبد هللا الطايع‪ ،‬سليم الجاي‪ ،‬رجاء بشمسي‪)...‬‬

‫حراكا حقيقيا ومتناميا في أوساط المهاجرين والمشهد الثقافي الفرنسي على السواء‪.5‬‬

‫وبهذا‪ ،‬وفي تصور األستاذ مبارك ربيع‪ ،‬فقد حققت الرواية المغربية منذ عقود مكانتها واسترعت‬

‫االهتمام بأعالم ونماذج رائدة على المستوى المحلي والعالمي‪ ،‬متفاعلة مع أبعاد التحوالت طابع التشابه‬

‫والتكامل البشري الثقافي حول خصوصية تجربة"االتصال مع اآلخر"كما يتجسد في النموذج األوروبي‬

‫وهو"اتصال تاريخي جعل من جنوب أوروبا وشمال افريقيا منطقة تمازج ومن بحيرة األبيض المتوسط‬

‫جسر اتصال وتثاقف"‪.6‬‬

‫ويعتبر الروائي الطيب صالح‪ ،‬أن الرواية تضيء عالما كان بالنسبة لإلنسان معتما‪ ،‬فقد استطاع‬

‫الروائيون العرب أن يسلطوا الضوء على جوانب من حياة اإلنسان العربي في مناطق وتخوم بعيدة مت ارمية‪،‬‬

‫لقد استطاعت الرواية العربية عامة والمغربية خاصة أن تضيء في وعي اإلنسان العربي نقاطا كانت‬

‫معتمة‪.‬‬

‫وفي إطار هذا النوع األدبي‪ ،‬نجد دراسة رائدة للناقد المغربي رشيد بنحدو يستقصي من خاللها‬

‫قضية"الدياسبو ار والهجرة" في الرواية المغاربية‪ :‬حالة الرواية "البورية" و"الدياسبورية"‪ ،‬فقد عرفت الرواية‬

‫المغاربية حاالت وأشكال من الهجرة بنزعة تثاقفية أو عوامل تاريخية قسرية وهو ما ساهم في بروز‬

‫‪5‬عبد اللطيف الوراري‪":‬المهجرية في األدب المغربي"‪،‬جريدة أخبار اليوم ‪.11-05-2012‬‬


‫‪6‬المرجع نفسه‪.‬ص‪.2‬‬

‫‪165‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫ظاهرتين نصيتين لم تناال اهتماماَ نقدياَ هما الرواية "البورية" نسبة‪ 7‬إلى ‪( Beur‬أي عربي بالعامية‬

‫الفرنسية)‪ ،‬والتي كتبها بالفرنسية أبناء العمال المغاربيين المغتربين‪ .‬والرواية الدياسبورية نسبة إلى‬

‫‪ Diaspora‬أي الشتات‪ ،‬وهي التي كتبها بالفرنسية يهود مغاربيون مغتربون‪ ،‬وهما معا يصنفان ضمن‬

‫«أدب تنتجه أقلية» آتية من آفاق ثقافية أجنبية‪ ،‬داخل ثقافة تنتجها أغلبية أصلية أقوى منها‪ ،‬ويظل القاسم‬

‫المشترك هو حداثة عهد النصوص الروائية التي أفرزتها نصوص بول تابي‪ ،‬روالن بصري‪ ،‬سعدية ليفي‪،‬‬

‫ألبير سنوسان‪.‬واحتفت بأسطورة اليهودي التائه‪ ،‬أما في نصوص روائيي الجيل الثاني للهجرة أحمد كلواز‪،‬‬

‫ليلى هواري‪ ،‬غزوز بكاك‪ ،‬كمال الزموري‪،‬رمضان إسعاد‪ ،‬موسى لبكيري‪ ،‬فثمة إحساس مأساوي بعدم‬

‫االنتماء فال هي وال هي فرنسية هي كائنات "معلقة" بين ديمومتين متعارضتين‪.‬‬

‫إنه لمن الصعب بالفعل أن نرسم معنى للشتات ضمن هذه الظروف المعقدة من عمليات النزوح‬

‫والشتات واالغتراب واالقتالع والنفي والرحيل الطوعي أو الهجرة بحثا عن الحرية أو الرغبة في العصور‬

‫السابقة‪ ،‬أو أنه يتضمن مجموعات صغيرة‪ .‬صار هناك مجتمعات كاملة تبتعد عن طوعا أو كرها‪ ،‬عن‬

‫أوطانها األصلية‪ .‬ال على ترك أوطانها فقط بل على التخلي عن لغتها األم‪ ،‬وثقافاتها األصلية لتصبح‬

‫جزءا من المجتمعات والثقافات الجديدة‪ ،‬مثل األفارقة الذين يعيشون في فرنسا‪ ،‬والهنود الذين يعيشون في‬

‫بريطانيا‪ ،‬وهؤالء ينتجون آدابا مهجنة لكنهم يتخذون من الفرنسية واإلنجليزية لغة يعبرون عن أنفسهم‪،‬‬

‫بما يتضمنه ذلك من مصاعب في التعبير عن الذات وانشقاقات في الهوية‪.‬‬

‫‪ -4‬رواية "البعيدون" وكتابة الشتات‬

‫‪7‬المرجع نفسه‪.‬ص‪.2‬‬

‫‪166‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫في مرحلة شديدة التعقيد من السيطرة المباشرة للغرب على بلدان العالم الثالث‪ ،‬جرى تشييد نمط‬

‫من اإلنشاء األدبي يستهدف تكريس عالقة نوعية مع األهالي "المحليين" تتميز بعدم توازنها‪ ،‬وال عقالنيتها‬

‫السافرة؛ يتم إنتاج "الغير" أو اختالقه لضرورات البرهنة على عدالة النمط التحكمي الغربي‪ ،‬لتبرير العنف‬

‫الموضوعي الممارس بقوة‪ ،‬ولتمجيد المثال اإلنساني لحضارة اإلمبراطورية‪ ،‬ربما لهذا السبب األخير‬

‫سيظهر للوجود ‪ -‬في مراحل متالحقة ‪ -‬ما يمكن أن نسميه "متخيال نقيضا" يسعى لبث تأثيره الجمالي‬

‫المضاد لدى أوسع شريحة من المتلقين الغربيين‪ ،‬وتدريجيا ستصير أسماء "الطيب صالح"‪"،‬آسيا‬

‫جبار"‪"،‬عبد الكبير الخطيبي" و"أهداف سويف"‪ ،‬عالمة على وعي أدبي مختلف ينتهي لمواجهة التراث‬

‫الغربي‪ ،‬برؤية تصحيحية تنبعث من داخل لغة اآلخر ذاتها وعليه فإن الصوت االستعالئي النافذ عبر‬

‫حوارية وهمية‪ ،‬والهجانة السالبة لآلخر‪ ،‬ستشكل الهدف المركزي لنصوص "ما بعد الكولونيالية" المنتجة‬

‫للمتخيل النقيض‪.‬‬

‫وفي رواية "البعيدون"‪ 8‬لألديب المغربي "بهاء الدين الطود"‪ ،‬نعثر على حالة شديدة الخصوصية‪،‬‬

‫تتأسس على إنتاج غيرية مضادة للقوالب التصويرية االستعمارية‪ .‬ولما تطرحه من األسئلة المستفزة على‬

‫مستوى األطروحة المركزية ‪ -‬األنا واآلخر ‪ -‬أو على مستوى تركيبتها الفنية والجمالية‪.‬وهو ما حدا بروائي‬

‫كبير كمحمد شكري إلى تخصيصها بكلمة معبرة على غالفها تقول "هناك من يأتي إلى الكتابة عن طريق‬

‫اجترار الكتابة‪ ،‬وهناك من يأتي إليها عن طريق الحس والتجربة‪ ،‬وبينهما موهبة الكاتب بهاء الدين‬

‫الطود"‪.9‬‬

‫‪8‬بهاء الدين الطود‪:‬البعيدون‪،‬دار الهالل‪،‬القاهرة‪.2001‬‬


‫‪9‬بهاء الدين الطود‪:‬البعيدون‪،‬دار الهالل‪،‬القاهرة‪-2001‬على ظهر الغالف‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫وفي هذا السياق فإن نص"البعيدون"فضال عن كونه يقدم مسا ار اغترابيا نقيضا ومخالفا لما كان‬

‫عليه األمر في تجارب روائية عربية ومغربية سابقة‪ ،‬فإنه يستوحي شكال سرديا يفتح إمكانيات واسعة في‬

‫التراسل وتناول موضوعات الرحيل‪ ،‬والتيه‪ ،‬والشتات‪.‬وطيد الصلة بالمتخيل التراثي‪ ،‬حيث تتعدد فضاءات‬

‫االغتراب‪ ،‬وتتعاقب وقائع البطولة في حلقات دائرية تبتدئ في كل مرة بفتح‪ ،‬وتنتهي بهروب إلى فضاء‬

‫جديد ال لشيء إال لتوسيع مساحة التفاعل بين الذاتي والغيري‪.‬‬

‫تحكي الرواية رحلة إدريس عبر خيوط سردية تتداخل فيها غيرية الفضاء بغيرية الجنس‪ ،‬وتتداخل‬

‫فيها جغرافية المدينة بوصفها أنثى رمزية‪ ،‬فتصبح العالقات المركبة التي تصل البطل بالنماذج النسائية‬

‫وما تتضمنه من صور التخاطب والتفاعل‪ ،‬كناية عن أزمة االنتماء إلى الفضاء الحاضن‪ ،‬وتأكيد حالة‬

‫النفي واالغتراب‪ .‬وهكذا تنطلق مخيلة الرواية بكل مكوناتها الثقافية والحضارية والعقدية‪ ،‬في تفجير الطاقة‬

‫التخييلية إلبداع أحداث ووظائف تلتبس فيها طبائع الشخصيات ومالمحهم‪ ،‬وأنماط سلوكهم وردود أفعالهم؛‬

‫بتفاصيل األمكنة واألزمنة وخلفياتها‪ .‬فتخلق بؤ ار صورية صغرى تؤثث أفق المتخيل العام الذي ترمي إليه‬

‫رواية "البعيدون" اغتراب متجدد للجنوبي القادم من األطراف والهوامش إلى الغرب الذي أحكم مقومات‬

‫مركزيته في مختلف المجاالت‪ ،‬فك ار وخطابا وثقافة وجغرافية‪...‬اغتراب روائي يفضي في كل مرة يفضي‬

‫إلى هروب من المواجهة‪ ،‬مما يكرس االلتباس والغموض في التواصل‪ ،‬وهيمنة سوء الفهم‪ ،‬وغلبة التعميم‬

‫واألحكام النمطية‪ ،‬المفضية كلها إلى نتيجة متماثلة عبر الزمن وتجارب االغتراب والخروج؛ وهي "خيبة‬

‫واستحالة اللقاء الحضاري"‪.‬فمنذ اللحظات السردية األولى ينبري السارد في نص "البعيدون"‪ ،‬ومنذ الفصل‬

‫التمهيدي األول ليخبرنا بالنتيجة ذاتها‪.‬وهي "إعاقة التالقي" في الفضاء األندلسي‪ ،‬وذلك من خالل مشهد‬

‫تصويري غاية في اإليحاء‪ ،‬يقول السارد‪« :‬في تلك الليلة كنا في بيت صديق إسباني‪ ،‬فاقترحنا على‬

‫‪168‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫"لوليتا" أن تسمعنا من قديم بالينسيا‪ ،‬أخذت تغني‪ ،‬لكنها توقفت فجأة وصارت تبكي قبل أن تعترف بأنها‬

‫ابنة غير شرعية‪.‬أحس كل منا باقتراب فساد جلستنا‪ ،‬التقت أعيننا تستطلع وقع الخبر دون أن ندري ما‬

‫نقدم أو نؤخر‪ ،‬فصمتنا أنترك لها مجال تطويقنا بخبرها المحزن»‪.‬‬

‫نعم جئت إلى الدنيا ثمرة عشق محرم‪ ،‬والدي مغربي مسلم‪ ،‬كان جنديا في جيش الجنرال فرنكو‪،‬‬

‫التقى بوالدتي بعد الحرب األهلية‪ ،‬فبادلته الهيام نفسه‪ ،‬لكنه رفض اعتناق المسيحية كشرط للزواج بها‪،‬‬

‫واختفى عنها بعد أن تركني بذرة في أحشائها"‪.10‬‬

‫ليس المهم في هذا المشهد‪ ،‬أن الجندي المغربي هو الذي رفض الزواج برفضه المسيحية‪ ،‬وال‬

‫ألنه مادام قبل العشق من إسبانية‪ ،‬فقد أمد يده بيضاء للتالقي والتواصل‪.‬ولكن األهم في هذا المقطع‬

‫التصويري الدال‪ ،‬هو أن التالقي ال يمكن أن يولد بين الذوات المتغايرة إال على مستوى الشرعية‪" .‬فلوليتا"‬

‫اإلبنة غير الشرعية أفسدت على السارد جلسته مع أصدقائه‪ ،‬وبذلك يستمر "اآلخر" النائي‪ ،‬المختلف‬

‫جنسيا وعقديا ‪ ،‬في تعميق فجوة التنابذ بين الهويات الموزعة بين الضفتين‪.‬ومن ثم فإن الداللة الصورية‬

‫العامة التي ستسترسل الصور الروائية الجزئية في حبك تنويعاتها عبر الفصول العشرين للرواية‪ ،‬هي‬

‫االنكسار والخيبة واستحالة اللقاء‪ ،‬عبر تفاصيل وأحداث تتصادى وتتساند في ترسيخ بين البطل ومحيطه‬

‫الثقافي‪.‬‬

‫‪10‬رواية البعيدون‪.12-11،‬‬

‫‪169‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫أن دوائر االغتراب‪ /‬الشتات‬ ‫‪11‬‬


‫في تحليله لرواية "البعيدون" يرى األستاذ شرف الدين ماجدولين‬

‫في نص "البعيدون" تتوزع إلى لحظات مركزية‪ ،‬تشكل بالرغم من تقاطعهما الدرامية العديدة وحدة نصية‬

‫متجانسة‪ ،‬وبناء أسلوبيا بليغا في التقاطه لسير المدن ولغة الجسد ودينامية الحياة في السفر‪ .‬لحظات‬

‫يمكن اختزالها في ثنائيات مجازية هي (بيالر‪/‬مدريد)‪( ،‬كريستيان‪/‬أمستردام)‪( ،‬إيستر‪/‬لندن)‪ ،‬راسمة مسار‬

‫التطور الدرامي لمحاولة اختراق الغيرية‪ ،‬كما تنجح في تمثيل سمات اإلعاقة وعوامل االنكسار والنكوص‬

‫لصور وعي يبدو من المستحيل إعادة تأهيله‪ ،‬يقول السارد على لسان إدريس محددا قيم الثبات تلك‪":‬والدي‬

‫كدت ال أعرفه‪ ،‬فقد رحل وعمري ال يتجاوز التاسعة أو العاشرة‪ ،‬ال أذكره‪ ،‬أما والدتي فقد حجبني عنها‬

‫جدار أخالقي اعتلى واتسع مع مرور األيام‪.‬‬

‫ورحت أفكر‪ ،‬أيهما أفضل‪ ،‬حياتي مع والدتي‪ ،‬أم حياة خوصي مع والديه؟‬

‫معادل تبدو سهلة‪ ،‬لكنها ليست كذلك‪ ،‬فقيمي الموروثة ليست قميصا يمكن لي استبداله متى‬

‫شئت‪.‬أن أحمل ميراثا تراكم من سلف إلى خلف لينغرس في وعيي وال وعيي ألكون حصيلة تلك البذور‬

‫األولى"‪.12‬‬

‫نعتقد أن توظيف الحكي الروائي لهذا المونولوج الداخلي‪ ،‬ال يقف عند حدود إغناء التنوع الخطابي‬

‫في الرواية‪ ،‬بما هي بنية فنية تتعدد بداخلها األصوات بشكل اعتباطي‪ .‬ولكن لتؤصل التباسات الوعي‬

‫وتردداته أمام المجاالت الجديدة التي يفتحها في وجه الذات‪ /‬اآلخر‪.‬أي أن السجال الداخلي لـ"إدريس" في‬

‫‪11‬شرف الدين ماجدولين‪:‬اآلخر وسردية االستبعاد‪،‬مجلة الثقافة المغربية‪،‬ص‪.53‬‬


‫‪12‬رواية البعيدون‪،‬ص‪.44-43‬‬

‫‪170‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫هذا المقطع‪ ،‬جاء ليبرز حالة الفصام بين إرادة الذات االجتماعية في االنتماء الشكلي إلى حياة اآلخرين‪،‬‬

‫وبين رفض األنا العليا لمجرد التفكير في استبدال القيم المتحكمة في إيقاع التفاعل مع "الغير" أو قد‬

‫تكون حالة "ازدواجية الشخصية"‪.‬وربما هذا ما توصل إليه الكثير من دارسي هذا المتن الروائي‪ ،‬كما نجد‬

‫عند "علي القاسمي" في قراءته للمقطع الروائي الذي يصف فيه بيت إدريس بلندن وهو "شقة صغيرة‪،‬‬

‫لكنها مثيرة‪.‬زربية مغربية شاحبة استراحت في عقر صالون إنجليزي قديم‪ ،‬صورة متوسطة الحجم باألبيض‬

‫واألسود داخل إطار خشبي جميل‪ ،‬وضعت فوق الدوالب تجمع إدريس مع أعضاء ثالثة من فرقة البيلتز‬

‫يقول علي القاسمي «وهكذا يؤدي االقتراب من البعيدون إلى تالقح األفكار وتمازج الثقافات‬ ‫‪13‬‬
‫الغنائية"‬

‫بل وإلى ازدواجية في الذوق والسلوك‪.‬إنها االزدواجية التي يعانيها المثقف العربي‪ :‬جذور لصيقة التربة‬

‫العربية كالتصاق الزربية المغربية بأرض الشقة‪ ،‬وآراء محلقة مرتفعة في فضاء الغرب ارتفاع صورة فرقة‬

‫البيلتز الغنائية فوق الدوالب»‪.14‬وربما تكون هذه التي تجسر الهوة بين الواقع والمتخيل‪ ،‬على حد تعبير‬

‫الباحث واألكاديمي المغربي‪ ،‬شرف الدين ماجدولين "تنحو لإليهام بهيمنة الحسي والشكلي والخارجي في‬

‫تخييل الحوارات بين إدريس ومقابالته األنثوية‪ ،‬وفي تأثيت مجاالت الفعل بظالل النزعة الذكورية‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫المنغرسة في الوعي والالوعي"‪.‬‬

‫ال يمكن إلدريس‪ -‬إذن ‪ -‬إال أن يخلد الرؤية المونولوجية للواقع والكالم والفعل السجالي‪ ،‬حيث‬

‫يعسر التخلص من نزعة التنميط والقولبة إزاء مقابالته الروائية‪ ،‬سواء تشكلت في أطراف أنثوية أو ذكورية‪،‬‬

‫‪13‬رواية البعيدون‪،‬ص‪.20‬‬
‫‪14‬علي القاسمي‪:‬رواية البعيدون‪،‬بهاء الدين الطود‪،‬مجلة نزوى‪،‬العدد‪.36‬ص‪.42‬‬
‫‪15‬شرف الدين ماجدولين‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.53‬‬

‫‪171‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫كما يصعب على السارد في هذا النوع من المتخيل الروائي‪ ،‬عدم اإلذعان لرغبة تكييف صورة اآلخرين‪.‬‬

‫وإعادة تمثل خطاباتهم ومقوالتهم ومؤسساتهم الذهنية فالرواية في نهاية المطاف توق إلى تصفية الحساب‬

‫مع الذات والغير واللغة والتاريخ‪ ...‬ولذا لن يكون غريبا أن يرى إدريس في كل إبدال من اإلبداالت‬

‫النسائية تنويعا جسديا‪ ،‬قد يشد إليه‪ ،‬وينبهر بإيحاءاته للوهلة األولى‪ .‬غير أن يبقى مجرد تنويع شكلي‪،‬‬

‫ال تلبث أن تتالشى فتنته العارضة فيرتد الوعي بعد اغترابه الطويل إلى مدار ألفته وسكونه‪ ،‬ففي النهاية‬

‫تتساوى بيالر‪ ،‬كريستيان‪ ،‬وإيستر في كيان واحد رمزي‪ ،‬يحيل على نموذج للقيم ثابت ومتماثل‪.‬كما‬

‫تتماهى المدن األوروبية الثالث ليجد البطل نفسه في النهاية أمام أبواب مغلقة تتنامى حجما فتنقبض‬

‫على هويتها الخالصة‪ ،‬التي تبقى الغريب والهجين‪ .‬ومن ثم فإن مشاهد الوصف العاطفي والوقفات التأملية‬

‫ذات البعد الفني واألدبي داخل الرواية‪ ،‬ستشكل هي األخرى مكونا إضافيا لترسيخ صورة التباعد واستحالة‬

‫اللقاء‪ ،‬وهو ما يجد تجليه الواضح في مشهد المحاورة بين إدريس وكريستيان؛ تقول الرواية‪« :‬جمدت‬

‫كريستيان في مكانها وأخذت تحملق في وجهي‪ ،‬أنا أيضا سكنني زهو حين رأيت أنني أخطو إلى عقلها‪،‬‬

‫ومنه إلى قلبها‪ .‬وردت في شبه استسالم‪- :‬قد يكون ما تقوله صحيحا‪ ،‬لكنني أعتقد أن عطيل لم يكن‬

‫يحب بعلقه‪ ،‬وإنما بإحساسه ووجدانه‪ ،‬هي أمور إنسانية عاطفية ال دخل للثقافة في توجيهها‪ ...‬في لحظة‬

‫واحدة انقلبت مشاعري من الفرح إلى الخيبة‪ .‬فالصبية ذكية وعلى اطالع‪ .‬لكن ال بد من مواصلة الشوط‬

‫إلى نهايته‪ ،‬فقلت محاوال أن أنهي لفائدتي‪:‬‬

‫‪172‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫حتى تفهمي ما أرمي إليه‪ ،‬يجب أن تطلعي على ثقافة عطيل التي سادت عصره‪ ،‬وفي جميع األحوال‬

‫فإن العقل والوجدان والعاطفة وحتى األحاسيس‪ ،‬كلها تتحدد تبعا لثقافة صاحبها"‪.16‬‬

‫ليس المهم أن يكون عطيل محبا بعقله‪ ،‬أم بوجدانه في المبنى الروائي لهذه المحاورة‪ .‬إنما المهم‬

‫أنه بات مصدر تشكيك في عبقرية شكسبير‪ ،‬وصورة لألجنبي الذي أسيء فهم ثقافته‪ .‬ومن ثم نموذجا‬

‫للتأويل واألسطرة الخاطئين‪ .‬وعليه‪ ،‬أصبح بمقدورنا أن نلمس التدرج الواضح لمسار الجدل بين إدريس‬

‫وغيره وبالتالي جدل ثنائية شرقي‪ /‬غربي‪ ،‬حيث تحتل العالقة مع كريستيان منزلة وسطى بين الحسية‬

‫والعاطفية الصرفة التي طبعت عالقة البطل ببيالر‪ ،‬وانصهار الحسي العاطفي بالعقلي في عالقته المركبة‬

‫مع إيستر‪ .‬حيث تبدو هنا نزعة البطل "إدريس" واضحة إلخراج مشهد التشكيك والتضليل والغواية المتأصلة‬

‫في وعيه والوعيه‪ ،‬من الطابع التنميطي لمظهرية الجسد‪ ،‬إلى نوع من الغواية "الكيفية" التي تشخص‬

‫الكيان األنثوي بوصفه مظه ار يلتقي في مركزه مصدر المتعة الظاهرة والخفية‪.‬‬

‫وفي مستوى الحق من مسار البناء"الغيري"في الرواية‪ ،‬نجد الثوابت ذاتها تتكرر في المشاهد‬

‫النصية التي تجمع البطل ب ـ ـ "إيستر" الشخصية اليهودية التي تمتلك بدورها بالغة اإلتقان للكمال الشكلي‪،‬‬

‫فضال عن ارتكازها على خلفية ذهنية مميزة عن سابقاتها‪.‬وتجمعها بالبطل منذ الوهلة األولى روابط‬

‫عاطفية تتداخل فيها الشهوة الجسدية باالنجذاب الذهني‪ ،‬مشتركة في اختراق دائرة االغتراب ومجاوزة‬

‫التعصب العرقي والديني‪ ،‬بيد أن العالقة بينهما ستظل محكومة بعوامل تتجاوز ذاتيهما‪.‬عوامل ضاربة‬

‫جذورها في محيط من الصراع‪ ،‬ال يمكن إال أن يكرس التباعد‪ .‬ولذا ستتحول حتى رغبة التوحد الغريزي‬

‫‪16‬رواية البعيدون‪،‬ص‪.82‬‬

‫‪173‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫بين الجسدين إلى لحظة غامضة‪ ،‬بل وإلى ممارسة ثأرية تستوعب كل دالالت اإلخضاع واالمتالك‬

‫الحسي‪ /‬الذهني‪ ،‬يقول السارد في صورة دالة من مشاهد التفاعل مع "إيستر" «أحسست بقوة تحثني أن‬

‫أطلب الثمن من"إيستر"‪ ،‬ليكون لي منها ما أريده في هذه اللحظة الحانية‪ ،‬لحظة دفاعي عن كياني‪،‬‬

‫والدفاع ال يخطط له‪ ،‬وإال صار انتقام‪ ،‬علي أن أنال على قدر ما أستطيع‪ .‬فأنتصر بشجاعة أو أنهزم‬

‫فأنسحب بشجاعة‪ .‬والتفتت نحوي مندهشة بعد أن قلت لها بجرأة غير معهودة في حديثي‪-:‬أنت أشهى‬

‫ما في هذا البيت‪ ،‬وأشهى ما تضمنته جميع الكتب‪.‬اتسعت حدقتا عينيها وأخذت تتأملني مبهورة وكأنها‬

‫ال تصدق ما أقوله‪.‬لكن عساكري كانت متأهبة للذود عن شرفي‪ ،‬وكما ينطلق العيار من رشاش في حالة‬

‫هجوم مباغت انطلقت الكلمات تنزلق من لساني»‪.17‬‬

‫تشكل هذه الصورة مع مثيالتها مشهدا تخيليا متجانسا في مبناه المجازي‪ ،‬وفي إحاالته على‬

‫التباعد المتنامي بين البطل ونقيضه األنثوي‪ .‬بحيث ال يمكن للحظة الغواية‪ ،‬إال أن تواكب لحظة الصدام‬

‫الوجداني والجسدي‪ ،‬الذي يشمل الزمان والمكان وبنية التخاطب‪ .‬فكل شيء في الصورة يستوحى من‬

‫ذاكرة العنف الذي يطبع مخيلة الهويتين‪ ،‬وهو بمثابة تشكل نوعي من المفردات والمجازات الحربية‪،‬‬

‫وسياق تخاطبي مشحون بنوازع الهيمنة واإلخضاع‪ ،‬وإطار صوري أشبه ما يكون بلعبة تجاذب بين‬

‫وضعي "الفوق" و"التحت" بالنسبة للمتحاورين‪ ،‬والنتيجة أن العالقة المركبة بين البطل المرشح للسقوط‪،‬‬

‫ونقيضه الجنسي والحضاري "إيستر" ستتجاوز غاية التواصل والتماثل القيمي‪ ،‬وتنتهي إلى التنابذ وبالتالي‬

‫االغتراب‪.‬‬

‫‪17‬رواية البعيدون‪،‬ص‪.161-160‬‬

‫‪174‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫الخاتمة‬

‫تلك كانت المحصلة الروائية لوضع االغتراب والثنائي بين األهواء واألجساد والمتخيالت الفردية‬

‫والجماعية‪ .‬كما صاغت تفصيالتها رواية "البعيدون"‪ ،‬بكشف قاس وعنيف للقيم واألحاسيس والعقائد‬

‫المتقاطبة التي تباعد بين األعراف‪ ،‬كما تنأى بالجغرافيات عن موضع التالقي والحوار مفرغة موضوعي‬

‫السياحة في الفضاء‪ ،‬والسفر في الزمان من معناهما المحسوس ورمزيتهما اإلنسانية‪ .‬فتصير "استحالة‬

‫اللقاء" و"خيبة األمل"‪ ،‬الحقيقة الوحيدة التي تمارس عنفها في متخيل اغتراباتنا‪ ،‬تماما كالقدر األسود الذي‬

‫جرف مصير إدريس بعد اكتمال دائرة الرحيل بالوطن األم‪.‬‬

‫وبهذا تبقى مسألة أثارتها رواية "البعيدون" هي أن العالقة بين الشرق والغرب ليست (دائما) وإن‬

‫كانت (غالبا) حالة تقاطع على اعتبار (أن الشرق شرق والغرب غرب ويتعذر عليهما أن يلتقيا)‪.‬‬

‫فإذا كان بطل رواية بهاء الدين الطود "إدريس" غادر لندن مرغما‪ ،‬أو أبعد قس ار‪ ،‬أخذوا منه ابنته‬

‫وجواز سفره ورموه خارج حدود بلدهم‪ ،‬ولم يعد له في وطنه األصلي أي رابط غير االسم والسحنة وربما‬

‫الدين‪ ،‬فقد يكون غير كل شيء ليكون كما أراد المجتمع الصحفي الذي انخرط فيه سواء عن طريق‬

‫المستر كورت (جاكوب) مدير مجلة "فواصل" التي تكتب فيها مقاالته‪.‬وابنة أخته "إيستر" التي لم يفصح‬

‫لنا الكاتب إلى أي حد وصلت عالقته بها‪ .‬وربما من هنا اسم رواية "البعيدون" وأحدهم "إدريس" الذي‬

‫صادره العالم الذي هاجر إليه لقد ابتعد تماما‪ .‬لكن إدريس ظل قريبا حتى في بعده وابتعاده بدليل أنه عاد‬

‫إلى أرضه األم ووطنه الذي ولد فيه إلى الوطن اآلخر الذي خرج منه وهو مصاب بالبرص‪.‬وقد انتزعت‬

‫منه ابنته وجواز سفره "هذا حصاده من الغرب حلمه"‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫‪www.rjsp.org‬‬ ‫مجلة ريحان للنشر العلمي تصدر عن مركز ِفكر للدراسات والتطوير‬
‫‪2021/11/28‬‬
‫العدد السادس عشر‪176-153 :‬‬ ‫‪ISSN:2709-2097‬‬

‫المراجع‬

‫ابن منظور‪،‬لسان العرب‪،‬تحقيق مجموعة من األساتذة‪،‬دارالمعارف‪،‬مصر‪،‬مادة(ش‪،‬ت‪،‬ت)‪.‬‬ ‫‪.i‬‬


‫شكري محمد عياد‪ ،‬المذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيين‪،‬سلسلة عالم المعرفة‪،‬عدد‪،177‬الكويت‬ ‫‪.ii‬‬
‫‪.1993‬ص‪.87‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‪":‬المهجرية في األدب المغربي"‪،‬جريدة أخبار اليوم ‪.11-05-2012‬‬ ‫‪.iii‬‬
‫المرجع نفسه‪.‬ص‪.2‬‬ ‫‪.iv‬‬
‫المرجع نفسه‪.‬ص‪.2‬‬ ‫‪.v‬‬
‫بهاء الدين الطود‪:‬البعيدون‪،‬دار الهالل‪،‬القاهرة‪.2001‬‬ ‫‪.vi‬‬
‫بهاء الدين الطود‪:‬البعيدون‪،‬دار الهالل‪،‬القاهرة‪-2001‬على ظهر الغالف‪.‬‬ ‫‪.vii‬‬
‫رواية البعيدون‪.12-11،‬‬ ‫‪.viii‬‬
‫شرف الدين ماجدولين‪:‬اآلخر وسردية االستبعاد‪،‬مجلة الثقافة المغربية‪،‬ص‪.53‬‬ ‫‪.ix‬‬
‫رواية البعيدون‪،‬ص‪.44-43‬‬ ‫‪.x‬‬
‫رواية البعيدون‪،‬ص‪.20‬‬ ‫‪.xi‬‬
‫علي القاسمي‪:‬رواية البعيدون‪،‬بهاء الدين الطود‪،‬مجلة نزوى‪،‬العدد‪.36‬ص‪.42‬‬ ‫‪.xii‬‬
‫شرف الدين ماجدولين‪،‬المرجع السابق‪،‬ص‪.53‬‬ ‫‪.xiii‬‬
‫رواية البعيدون‪،‬ص‪.82‬‬ ‫‪.xiv‬‬
‫رواية البعيدون‪،‬ص‪.161-160‬‬ ‫‪.xv‬‬

‫‪xvi.‬‬ ‫‪Dictionnaire Le Micro- Robert 1992.Alain Rey. p.370.‬‬


‫‪xvii.‬‬ ‫‪Ibid.,p370‬‬

‫‪176‬‬

You might also like