Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 13

‫سلسلة المحاضرات الرمضانية (‪1445‬هـ)‬

‫ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي "يحفظه هللا"‬
‫المحاضرة الرمضانية الثامنة‬

‫الثالثاء ‪ 9‬رمضان ‪1445‬هـ ‪ 19‬مارس ‪2024‬م‬

‫َأُعـْو ُذ ِباِهَّلل ِم ْن الَّش ْيَطان الَّر ِج ْيِم‬

‫ِبـْس ـــِم ِهَّللا الَّرْح ـَم ـِن الَّرِح ـْيـِم‬


‫اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َرِّب اْلَعاَلِم يَن ‪َ ،‬و َأشَهُد َأَّن اَل ِإَلَه ِإاَّل ُهَّللا اْلَم ِلُك اْلَح ُّق الُم بين‪َ ،‬و أشَهُد أَّن َسِّيَدنا ُم َح َّم دًا َعبُد ُه وَرُسْو ُلُه َخ اَتُم الَّنِبِّيين‪.‬‬

‫الَّلُهَّم َص ِّل َعلى ُم َح َّم ٍد َو َع َلى آِل ُم َح َّم د‪َ ،‬و باِرْك َعلى ُم َح َّم ٍد َو َع َلى آِل ُم َح َّم د‪َ ،‬ك َم ا َص َّلْيَت َو َباَر ْك َت َع َلى ِإْبَر اِهيَم َو َع َلى آِل ِإْبَر اِهيَم‬
‫ِإَّنَك َح ِم يٌد َمِج يٌد‪َ ،‬و ارَض الَّلُهَّم ِبِرَض اَك َعْن َأْص َح اِبِه اَأْلْخ َياِر الُم نَتَج بين‪َ ،‬و َعْن َس اِئِر ِعَباِد َك الَّص اِلِح يَن َو الُم َج اِهِد ين‪.‬‬

‫اَّللُهَّم اْه ِد َنا‪َ ،‬و َتَقَّبل ِم َّنا‪ ،‬إَّنَك أنَت الَّسِم يُع الَعِليم‪َ ،‬و ُتْب َعلَيَنا‪ ،‬إَّنَك أنَت الَّتَّو اُب الَّرِح يْم ‪.‬‬

‫أُّيَها اِإل ْخ َو ُة َو اَألَخ َو ات‪:‬‬

‫الَّس ـاَل ُم َع َلْيُك ْم َو َر ْح َم ُة ِهَّللا َو َبَر َكاُتُه؛؛؛‬

‫قصة خلق آدم‪ ،‬وبداية الوجود اإلنساني‪ ،‬وموقف إبليس‪ ،‬وردت في سوٍر كثيرٍة في القرآن الكريم‪ ،‬وبتفصــيٍل‬
‫أكثر في‪( :‬سورة البقرة‪ ،‬واألعراف‪ ،‬والحجر‪ ،‬واإلسراء‪ ،‬وطه‪ ،‬وص)‪ ،‬وفي كل سورة تــأتي القصــة في إطــار‬
‫سياٍق معَّين‪ ،‬لها سياٌق معَّين‪ ،‬وتضيء اآليات القرآنية المباركة على جــوانب مهمــة ذات عالقــة بــذلك الســياق‪،‬‬
‫وبذلك تكتمل لإلنسان الصورة من جوانب متعددة‪ ،‬ويستفيد الكثــير والكثــير من الــدروس‪ ،‬وبــدأنا بالقصــة الــتي‬
‫وردت في (سورة البقرة)‪.‬‬

‫في محاضرة األمس تحدثنا بإيجاز عَّم ا قبل خلق اإلنسان‪ ،‬فاهلل "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" خلــق الســماوات واألرض‪،‬‬
‫وخلق المالئكــة‪ ،‬وبث في األرض من كــل دابــة‪ ،‬وهيــأ األرض في مراحــل متعــددة لحيــاة اإلنســان‪ ،‬منــذ بدايــة‬
‫تكوينها وخلقهـا وإيجادهـا‪ ،‬وخلـق الجـان أيضـًا من قبـل خلـق اإلنسـان‪ ،‬فمضـى وقٌت طويـل منـذ أن خلـق هللا‬
‫السماوات واألرض إلى حين خلق اإلنسان وأوجد اإلنسان‪ ،‬قال "جَّل شــأنه"‪َ{ :‬ه ْل َأَتى َع َلى اِإْل ْنَس اِن ِح يٌن ِم َن‬
‫الَّدْهِر َلْم َيُك ْن َشْيًئا َم ْذ ُك وًرا}[اإلنسان‪ :‬اآلية‪.]1‬‬

‫وخلق هللا المالئكة بأعداد كبيرة جدًا جدًا‪ ،‬بأعداد هائلة‪ ،‬ومهام متنوعة‪ ،‬وأسكنهم سماواته‪ ،‬وهم كمــا قــال عنهم‬
‫في القرآن الكريم‪َ{ :‬بْل ِعَباٌد ُم ْك َر ُم وَن (‪ )26‬اَل َيْس ِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِل َو ُهْم ِبَأْم ِر ِه َيْع َم ُلوَن }[األنبيـــاء‪ ،]27-26 :‬والمالئكة في‬
‫خلقهم وتكوينهم يختلفون عن البشر‪ ،‬وليسوا كالجن أيضًا‪ ،‬فهم مخلوقات خلقهــا هللا "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" من دون‬
‫نظــام الخلــق الــذي جعلــه في حيــاة البشــر‪ ،‬يعــني‪ :‬من دون توالــد‪ ،‬وال تناســل‪ ،‬وال وض ـٍع اجتمــاعٍي متراب ـٍط‬
‫باألنساب‪ ،‬هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" خلقهم دفعـات هائلـة جـدًا؛ ولــذلك ليسـت الحالـة عنـدهم كالحالـة عنـد البشـر‪:‬‬
‫(ذكور‪ ،‬وإناث؛ وتوالد‪ ،‬وتناسل)‪ ،‬الحالة بالنسبة لهم تختلف عن ذلك‪ ،‬وقد فَّند هللا في القرآن الكريم التصــورات‬
‫الجاهلية عنهم‪ ،‬حيث كانوا يعتقدون أنهم بنات‪ ،‬ويسيئون إليهم‪ ،‬وإلى هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬حينمــا يقولــون أنهم‬
‫إناث‪ ،‬وأنهم بنات هللا‪ ،‬تعالى هللا عَّم ا يقولون علوا كبيًرا‪َ{ ،‬و َجَع ُلوا اْلَم اَل ِئَكَة اَّلِذ يَن ُهْم ِع َباُد الَّرْح َمِن ِإَناًثا َأَش ِهُد وا‬
‫َخ ْلَقُهْم َس ُتْك َتُب َش َهاَد ُتُهْم َو ُيْس َأُلوَن }[الزخرف‪ :‬اآلية‪.]19‬‬

‫خلق هللا الجان أيضًا من قبل خلق اإلنسان‪ ،‬كما قال "جَّل شــأنه"‪َ{ :‬و اْلَج اَّن َخ َلْقَن اُه ِم ْن َقْب ُل ِم ْن َن اِر الَّس ُم وِم }‬
‫[الحجــر‪ :‬اآليــة‪]27‬؛ ولذلك فالجان أيضا يختلف في تكوينه وفي خلقــه عن اإلنســان‪ ،‬وســنأتي في الحــديث على نحـٍو‬
‫تفصيلي عن هذه المسألة‪ ،‬في المواضع األخرى للقصة في سورة الحجر‪.‬‬

‫منذ خلــق هللا األرض أعدها وهيأهــا لإلنســان‪ ،‬مع أن اإلنســان ُخ ِل َق متــأخرًا بــدهٍر طويـٍل ‪ ،‬لكن هللا "ُس ْبَح اَنُه‬
‫َو َتَع اَلى" منذ خلق األرض كان في تقديره وتدبيره أن يهيئهـا لإلنسـان‪ ،‬عنـدما يـأتي الـوقت الـذي سـيخلقه فيـه‪،‬‬
‫فهيئها هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" تهيئًة عجيبة‪ ،‬تتالءم مع حياة اإلنسان‪ ،‬ومع دوره الــذي سيســتخلفه هللا على أساســه‬
‫فيها؛ ولذلك يقول هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪{ :‬اَّلِذ ي َجَعَل َلُك ُم اَأْلْر َض ِفَر اًش ا َو الَّس َم اَء ِبَن اًء َو َأْن َز َل ِم َن الَّس َم اِء َم اًء‬
‫َفَأْخ َر َج ِبِه ِم َن الَّثَم َر اِت ِر ْز ًقا َلُك ْم }[البقرة‪ :‬من اآلية‪ ،]22‬وقال تعالى‪ُ{ :‬هَو اَّلِذ ي َخ َلَق َلُك ْم َم ا ِفي اَأْلْر ِض َجِم يًعا}[البقرة‪ :‬من‬

‫اآليــة‪ ،]29‬وقال "جَّل شأنه"‪َ{ :‬و َلَقْد َم َّكَّن اُك ْم ِفي اَأْلْر ِض َو َجَع ْلَن ا َلُك ْم ِفيَه ا َم َع اِيَش }[األعــراف‪ :‬من اآليــة‪ ،]10‬وقــال "جــَّل‬
‫شأنه"‪َ{ :‬خ َلَق الَّس َم اَو اِت ِبَغْيِر َع َم ٍد َتَر ْو َنَه ا َو َأْلَقى ِفي اَأْلْر ِض َر َو اِس َي َأْن َتِم يــَد ِبُك ْم }[لقمــان‪ :‬من اآليــة‪ ،]10‬فحـتى في‬
‫خلق الجبال في األرض‪ ،‬لتكون أوتادًا لألرض‪ ،‬فال تكون مضطربة في حركتها‪ ،‬وهي مضغوطة بالمياه الهائلة‬
‫جــدًا (ميــاه المحيطــات والبحــار)‪ ،‬فحســب هللا حســاب اإلنســان‪ ،‬في تقــديره‪ ،‬وتــدبيره‪ ،‬وتكوينــه لخلــق األرض‬
‫وتكوينها‪.‬‬
‫{َو َبَّث ِفيَها ِم ْن ُك ِّل َد اَّبٍة َو َأْنَز ْلَنا ِم َن الَّس َم اِء َم اًء َفَأْنَبْتَنا ِفيَها ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر يٍم }[لقمان‪ :‬من اآلية‪ ،]10‬النباتات المتنوعة‪،‬‬
‫وبأعداد كبيرة جدًا‪ ،‬وذات منفعة عجيبة لإلنسان‪ ،‬منها ما هو منفعة لإلنسان في غذائه‪ ،‬ومنها ما هو منفع ـٌة لــه‬
‫في دوائه‪ ،‬ومنها ما هو منفعٌة له في مالبسه‪ ،‬إلى غير ذلك من المنافع المرتبطة‪ ،‬حتى باألكسجين الذي يتنفســه‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫وقال تعالى‪ُ{ :‬هَّللا اَّلِذ ي َجَعَل َلُك ُم اَأْلْر َض َقَر اًرا َو الَّس َم اَء ِبَناًء َو َص َّو َر ُك ْم َفَأْح َس َن ُص َو َر ُك ْم َو َر َز َقُك ْم ِم َن الَّطِّيَب اِت}‬
‫[غافر‪ :‬من اآلية‪ ،]64‬وقال "جَّل شأنه"‪ُ{ :‬قْل َأِئَّنُك ْم َلَتْكُفُروَن ِباَّلِذ ي َخ َلَق اَأْلْر َض ِفي َيْو َم ْيِن َو َتْج َع ُلوَن َلُه َأْنَداًدا َذ ِلَك َر ُّب‬
‫اْلَع اَلِم يَن (‪َ )9‬و َجَعَل ِفيَها َر َو اِس َي }[فصلت‪ ،]10-9 :‬قد بّين لنا كما قرأنا في اآلية المباركة السابقة؛ حتى ال تضــطرب‬
‫باإلنسان‪َ{ ،‬أْن َتِم يَد ِبُك ْم }؛ لكي تكون مستقرة لإلنسان‪ ،‬ال تكون في حالة اضطراب وارتعاش مستمر‪َ{ ،‬و َجَع َل‬
‫ِفيَها َر َو اِس َي ِم ْن َفْو ِقَها}‪ :‬الجبال الهائلة‪َ{ ،‬و َباَر َك ِفيَها َو َقَّد َر ِفيَها َأْقَو اَتَها ِفي َأْر َبَعِة َأَّياٍم َس َو اًء ِللَّس اِئِليَن }‬
‫[فصـــلت‪ :‬من‬

‫اآلية‪ ،]10‬قَّد ر فيها األقوات‪ ،‬ما يحتاجه البشر‪ ،‬وما تحتاجه كل الدواب‪ ،‬التي تكفل هللا برزقهـا‪ ،‬وأوجـدها‪ ،‬وخلقهـا‬
‫في األرض وبثها فيها‪.‬‬

‫وقال تعالى‪{ :‬اَّلِذ ي َجَع َل َلُك ُم اَأْلْر َض َم ْه ًدا َو َجَع َل َلُك ْم ِفيَه ا ُس ُباًل }[الزخــرف‪ :‬من اآليــة‪ ،]10‬فاهلل جعــل األرض مهــدًا‬
‫لإلنسان‪ ،‬مهيأًة له في كل متطلبات حياته‪ ،‬ومستقرًة له في حياته‪ ،‬مع أنها في حركتها ليست بالشكل الذي يظهر‬
‫لإلنسان وتؤِّثر فيه على حياته‪ ،‬وتضــطرب بــه‪ ،‬وإال فهي متحركــة ضــمن بقيــة األجـرام السـماوية‪ ،‬ويقــول هللا‬
‫"ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪{ :‬اَّلِذ ي َجَعَل َلُك ُم اَأْلْر َض َم ْهًدا َو َجَعَل َلُك ْم ِفيَها ُس ُباًل َلَع َّلُك ْم َتْهَتُد وَن }‪ ،‬وقال "جَّل شأنه"‪ُ{ :‬ه َو‬
‫اَّلِذ ي َجَعَل َلُك ُم اَأْلْر َض َذ ُلواًل َفاْم ُش وا ِفي َم َناِكِبَها َو ُك ُلوا ِم ْن ِر ْز ِقِه َو ِإَلْيِه الُّنُش وُر}[الملك‪ :‬من اآلية‪.]15‬‬

‫وكم في القرآن الكريم من آيات كثــيرة جدًا‪ ،‬تبِّين لنــا أن هللا هيــأ األرض‪ ،‬من بدايــة خلقهــا‪ ،‬ومراحــل تكوينهــا‬
‫وتهيئتها وإعدادها‪َ{ ،‬و َباَر َك ِفيَها} هــذه العبــارة العظيمــة المهمــة‪ ،‬مــا جعــل هللا في هــذه األرض من البركــات‪،‬‬
‫والخيرات‪ ،‬والمنافع الواسعة والمتنوعة جدًا لإلنسان‪ ،‬إضافًة إلى قوله‪َ{ :‬و َقَّد َر ِفيَها َأْقَو اَتَها}‪ ،‬بما يحتاجه البشر‬
‫ويفي باحتياجاتهم‪ ،‬واحتياجات الدواب المخلوقة في األرض‪.‬‬

‫فيما يتعلق بخلق اإلنسان‪ ،‬ما قبل خلق اإلنسان‪ ،‬واألرض مهجورٌة من هذا الكــائن البشــري‪ ،‬باســتثناء الــدواب‬
‫والكائنات التي قد خلقها هللا فيها‪ ،‬لكن هذا الكائن الذي سيكون له دوٌر أساسٌي في األرض‪ ،‬ومختلٌف عن غــيره‪،‬‬
‫مختلٌف بشكٍل كبير‪ ،‬فيما هيأ هللا له من الدور الواسع‪ ،‬واالنتفاع الواسع بما في األرض‪ ،‬والحركة الواسعة على‬
‫هذه األرض‪ ،‬وما يجري في حياته من متغيرات على هذه األرض‪ ،‬كان هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" قد أخبر المالئكة‬
‫قبل خلق اإلنسان بزمن‪ ،‬أخبرهم أنه سيخلق هذا اإلنسان‪ ،‬وأخــبرهم ال نعــرف عن التفاصيل‪ ،‬عن مســتوى مــا‬
‫أطلعهم هللا عليه‪ ،‬وأعلمهم إياه عن مستقبل هذا اإلنسان‪ ،‬لكنهم عرفوا مما أخبرهم هللا "جَّل شأنه" أنه سيحصــل‬
‫من بعض البشر إفساٌد في األرض‪ ،‬وسفٌك للدماء‪ ،‬ارتكاب جرائم رهيبة جدًا؛ ولهذا عندما أتى الــوقت المــؤقت‬
‫في تدبير هللا تعالى لخلق اإلنسان‪ ،‬أخبر المالئكة أيضًا أنه سيخلقه‪ ،‬والمالئكة لهم أدوار كثيرة مرتبطة بالبشــر؛‬
‫ولذلك من حكمة هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" أن يخــبرهم عن اإلنســان‪ ،‬وعن حيــاة اإلنســان ومســتقبل اإلنســان‪ ،‬وأن‬
‫يكون لهم عالقة منذ بداية خلق اإلنســان؛ ألن هنــاك مهــام منوطــة بهم‪ :‬في حفــظ اإلنســان‪ ،‬في إحصــاء أعمالــه‬
‫ورصد أعماله‪ ،‬في الــنزول بــالوحي‪ ...‬في أمــور كثــيرة من التــدبير اإللهي‪ ،‬وتفاصيل كثــيرة ليس المقــام مقــام‬
‫الحديث عنها‪.‬‬

‫المالئكة اندهشوا‪ ،‬وكان اندهاشهم‪ ،‬وتساؤلهم‪ ،‬والعــرض الــذي قـَّد موه أن يقومــوا هم بمهمــة االســتخالف على‬
‫األرض‪ ،‬ليس اعتراضًا منهم على هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"؛ ألنهم كمــا ذكرنــا عنهم فيمــا ورد في القــرآن الكــريم‬
‫بشأنهم‪ ،‬أنهم‪ِ{ :‬عَباٌد ُم ْك َرُم وَن (‪ )26‬اَل َيْس ِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِل َو ُهْم ِبَأْم ِر ِه َيْع َم ُل وَن }‪ ،‬أنهم {ُيَس ِّبُحوَن الَّلْي َل َو الَّنَه اَر اَل‬
‫َيْفُتُروَن }[األنبيــاء‪ :‬اآليــة‪ ،]20‬ولكَّن المالئكة في إيمـانهم وتعظيمهم هلل "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" كُب ر عليهم وشـَّق عليهم أن‬
‫يكون في األرض مخلوٌق يعصي هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬ويرتكب تلك الجرائم الرهيبــة‪ ،‬الفظيعــة‪ ،‬الشــنيعة‪ ،‬من‬
‫إفساٍد في األرض وسفٍك للدماء‪ ،‬ومفهوم االستخالف بالنسـبة لهم نظـروا إليـه من زاويـة واحـدة؛ ولــذلك كـانوا‬
‫يتصورون أن باإلمكان أن يقوموا هم بمهمة االســتخالف في األرض؛ ألنهم يعرفــون أن أي مخلــوق يخلقــه هللا‬
‫"ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬ســيكون دوره في إطــار العبوديــة هلل‪ ،‬وســتكون مســؤوليته أن يعبــد هللا‪ ،‬ومهمتــه ودوره في‬
‫إطار العبودية هلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬ومفهــوم العبــادة بالنســبة لهم على ذلــك الحــال المعــروف بالنســبة لهم‪ ،‬من‬
‫التسبيح‪ ،‬والتعظيم‪ ،‬والتقديس هلل "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬فلم يكن لـديهم معرفـة تفصـيلية عن اإلنسـان‪ ،‬فيمـا يتعلـق‬
‫بطبيعة االستخالف له‪ ،‬وطبيعة حياته في بعض التفاصيل‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬كان مقتضى اإليمان والتســليم هلل "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ :‬أن ال يتساءلوا‪ ،‬وأن ال يندهشــوا؛ ألنــه وإن‬
‫خفي عليهم وجه الحكمة من االستخالف لإلنسان‪ ،‬فهم يؤمنــون أن هللا "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" هــو أحكم الحــاكمين‪،‬‬
‫وعالم الغيب والشهادة‪ ،‬وال يخفى عليــه شــيٌء في األرض وال في الســماء‪ ،‬فكــان مقتضــى التســليم هلل "ُس ْبَح اَنُه‬
‫َو َتَع اَلى"‪ :‬أن يذعنوا‪ ،‬وأن ال يتساءلوا‪ ،‬وأن يعودوا إلى هذا المبدأ العظيم المهم‪ ،‬وهو مبدأ اإليمــان؛ ألن هللا هــو‬
‫العليم الحكيم‪ ،‬هو الذي أعلمهم أصًال بما سيحصل من بعض البشر‪.‬‬
‫ولكن برحمة هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى"‪ ،‬وبحكمته‪ ،‬وبفضله‪ ،‬بّين لهم وجه الحكمة‪ ،‬بما أوصلهم إلى قناعــة تامــة‪،‬‬
‫وأيضًا في إطار الهداية لهم‪ ،‬وكان هذا درسـًا عظيمـًا للمالئكـة‪ ،‬درسـًا مهمـا لهم‪ ،‬والكـل بحاجـة إلى هدايـة هللا‬
‫"ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬ليس هناك من المخلوقين‪ ،‬من الكائنات الــتي خلقها هللا من يمكن أن يســتغني عن هدايــة‬
‫هللا‪ ،‬الكل بحاجة إلى هدى هللا‪ ،‬فاهلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" بــذلك االختبــار‪ ،‬في قصــة تعليم األســماء‪ ،‬وســؤالهم عن‬
‫األسماء‪ ،‬أوصلهم إلى قناعة تامة‪ ،‬وأذعنوا للموضوع بشكٍل تام‪ ،‬وكــان في ذلــك درس حــتى للمســتقبل بالنســبة‬
‫لهم‪ ،‬أكيد استفادوا منه استفادًة عظيمة‪.‬‬

‫خلــق هللا آدم أبا البشر "َع َلْي ِه الَّس اَل م"‪ ،‬وبخلقه بدأت حيــاة البشر‪ ،‬وقــد خلقــه من طينــة األرض‪ ،‬ومن‬
‫عناصرها‪ ،‬ونفخ هللا فيه من روحه‪ ،‬والروح سٌر عجيب‪ ،‬وكما قال هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" عنه‪ُ{ :‬ق ِل الــُّر وُح ِم ْن‬
‫َأْم ِر َر ِّبي}[اإلسراء‪ :‬من اآلية‪ ،]85‬وبالروح حياة اإلنسان‪ ،‬عندما ينفخ هللا من روحــه في اإلنســان يحيــا‪ ،‬ويبقى حي ـًا مــا‬
‫بقَي الروح فيه‪ ،‬وعندما ينزع منه الروح يمــوت وال تبقى لــه الحيــاة‪ ،‬فحيــاة جســد اآلدمي تكــون بــالروح الــذي‬
‫ينفخه هللا فيه‪ ،‬وتنتهي الحياة بفراق هذا الروح للجسد‪.‬‬

‫ثم إن هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" أيضًا خلق منه حواء "َع َليِهَم ا الَّس اَل ُم "‪ ،‬آدم وحواء هما العنصر البشري األول‪،‬‬
‫ومنهما توالد البشر‪.‬‬

‫فاإلنسان كائٌن أرضي‪ ،‬خلقه هللا من طينة األرض‪ ،‬ومن عناصرها‪ ،‬واستخلفه فيهــا‪ ،‬ومهمتــه هي‪ :‬االســتخالف‬
‫في األرض من البداية‪ ،‬فكما قلنا المفهوم المنتشر عند كثير من المثقفين‪ ،‬وكثير من العلماء‪ ،‬أن اإلنسان في هذه‬
‫األرض منفٌي فيهــا عقوب ـًة لــه‪ ،‬ليس مفهوم ـًا صحيحًا؛ ألن اإلنســان من بدايــة خلقــه أراد هللا أن يســتخلفه في‬
‫األرض‪ ،‬وهذه المهمة وهذا الدور هو دوٌر عظيم‪ ،‬إلى هذه الدرجة التي كان المالئكة قد عرضوا هم أن يقومــوا‬
‫بها (بهذه المهمة)‪ ،‬ليست انتقاصًا من شأن اإلنسان وال عقوبًة له‪ ،‬واألرض كذلك هي كوكٌب مميٌز ورائع‪ ،‬ليس‬
‫تواجد اإلنسان عليها عقوبًة له ومصيبًة عليه‪ ،‬بل نعمـة‪ ،‬نعمـة‪ ،‬هللا تمنن علينـا في القـرآن الكـريم كثـيرًا بنعمـة‬
‫األرض‪ ،‬عَّد ها من نعمه‪ ،‬وما أودع هللا لنا فيها من النعم المتنوعة جدًا‪ ،‬والهائلـة جـًدا‪ ،‬والكثـيرة جـًدا‪ ،‬والـتي ال‬
‫يزال البشر في انتفاعهم بها يكتشفون المزيد والمزيد منها جيًال بعد جيل‪ ،‬في كل جيل اكتشافات للبشر في كيفية‬
‫االنتفــاع بمــا أودع هللا لهم من النعم في هــذه األرض‪ ،‬ويتوســعون أكــثر وأكــثر‪ ،‬ووصلوا في هــذا العصــر إلى‬
‫مستوى عجيب جدًا‪ ،‬فيما اكتشفوه من نعم هللا لهم‪ ،‬وما هيأه هللا لهم‪ ،‬وما في هذه النعم من التسخير‪ ،‬الـذي يهـيئ‬
‫لإلنسان كيفية االستفادة بأشكال كثيرة‪ ،‬ومتنوعة‪ ،‬وعجيبة‪ ،‬وهذه مسألة معروفة‪ ،‬وتحــدث القــرآن الكــريم عنهــا‬
‫كثيرًا كثيرًا‪.‬‬
‫أيضًا أنعم هللا على اإلنسان في خلقه‪ ،‬خلقه هللا في أحسن تقويم‪ ،‬ومَّيزه عن كل الدواب الموجــودة على األرض‬
‫ميزًة عجيبة‪ ،‬في تركيبه‪ ،‬وخلقــه‪ ،‬وقامتــه‪ ،‬وشـكله‪ ،‬وجمالــه‪ ،‬وهــذه مسـألة معروفـة جـدًا‪ ،‬ومنحـه هللا مــدارك‪،‬‬
‫وطاقات‪ ،‬وقدرات‪ ،‬ومواهب‪ ،‬تتناسب مع المهمة الواسعة والدور الواسع له في االستخالف على األرض‪.‬‬

‫بعد خلق هللا "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" آلدم "َع َلْي ِه الَّس اَل م" عَّلمــه هللا األســماء‪ ،‬وعَّرفه على المســميات‪ ،‬قــال هللا‬
‫"ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪َ{ :‬و َع َّلَم آَد َم اَأْلْس َم اَء ُك َّلَه ا ُثَّم َع َرَض ُهْم َع َلى اْلَم اَل ِئَك ِة َفَق اَل َأْنِبُئ وِني ِبَأْس َم اِء َه ُؤاَل ِء ِإْن ُكْنُتْم‬
‫َص اِدِقيَن }[البقرة‪ :‬اآلية‪ ،]31‬عَّلم آدم أسماء األجناس الموجودة على األرض؛ ألنه بحاجة إلى معرفــة ذلــك‪ ،‬ليعرفهــا؛‬
‫ألنه بحاجة إلى معرفة هذه المسميات‪ ،‬المسميات التي أطلقت عليها تلــك األسـماء‪ ،‬وعالقتــه بهــا‪ ،‬وكيــف ينتفــع‬
‫منها‪ ،‬مثًال‪:‬‬

‫عَّر فه عن الماء‪ :‬عن اسمه‪ ،‬وعن كيف ينتفع به‪ ،‬وعن حاجته إليه‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عَّر فه على األشجار‪ ،‬على النباتات‪ ،‬والنباتات عالٌم واسٌع جدًا‪ ،‬لكن سيعرف عنها‪ ،‬ويعرف عن بعضــها‬ ‫‪-‬‬
‫بالتفصيل‪ ،‬ويعرف عن خواصها ومنافعها‪ ،‬وما هو غذاٌء له منها‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫يعرف عن المعادن‪ ،‬وكيفية االنتفاع بها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كذلك فيما يتعلق باألرض‪ :‬أن تلك جبال‪ ،‬وتلك سهول‪ ،‬تلك وديان‪ ،‬تلك صحاري‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫تعريف على ما يحتاج إلى معرفته لمهمته واستخالفه في األرض‪ ،‬فهذا يشمل عناوين كثــيرة عَّرفــه هللا عليهــا؛‬
‫ألنه بحاجة إلى أن يعرفها‪ ،‬ويعرفها ذريته‪.‬‬

‫{ُثَّم َع َر َض ُهْم }‪ ،‬يعني‪ :‬المسميات تلك‪َ{ ،‬ع َلى اْلَم اَل ِئَك ِة َفَقاَل َأْنِبُئوِني ِبَأْس َم اِء َه ُؤاَل ِء ِإْن ُكْنُتْم َص اِدِقيَن }‪ ،‬إن كنتم‬
‫صادقين في أنكم األنسب في االستخالف في األرض‪ ،‬وأن آدم والبشر ليســوا هم األنســب لهــذه المهمــة بحســب‬
‫تصوركم‪.‬‬

‫{َقاُلوا ُسْبَح اَنَك اَل ِع ْلَم َلَنا ِإاَّل َم ا َع َّلْم َتَنا}[البقــرة‪ :‬من اآليــة‪ ،]32‬أدركـوا على الفـور بجهلهم بمعرفـة تلـك األشـياء الـتي‬
‫عرضــها هللا عليهم‪ ،‬أنهم ليســوا هم المتناســبين مــع تلــك المهمــة بالتحديــد؛ ألنهم حــتى في خلقهم وتكــوينهم لن‬
‫ينتفعوا بما في هذه األرض‪ ،‬اإلنسان كائن يعتمــد على الغذاء‪ ،‬والطعــام‪ ،‬والشــراب‪ ،‬المالبس‪ ،‬كــائن في ماديــة‬
‫جسمه‪ ،‬وتجويفه‪ ،‬وخلقه‪ ،‬وبنيته‪ ،‬مرتبط باألرض في كل ما فيهــا‪ ،‬وهم على العكس منــه تمام ـًا؛ ولــذلك لم يكن‬
‫لديهم معرفة بتلك األشياء‪ ،‬وما فيها من المنافع‪ ،‬وكيفية االنتفــاع بهــا‪ ،‬ومــا هي أســماؤها؛ فــاعترفوا‪ ،‬وأدركــوا‬
‫على الفور أنه لم يكن ينبغي لهم أن يتساءلوا‪ ،‬كان يكفيهم التذُّك ر لما هم مؤمنــون بــه؛ ألنهم يؤمنــون أن هللا هــو‬
‫عــالم الغيب والشــهادة‪ ،‬وهــو العليم الحكيم‪ ،‬وأحكم الحــاكمين؛ وبالتالي عنــدما اختــار أن يجعــل اإلنســان هــو‬
‫المستخلف في األرض‪ ،‬فهو "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" األعلم بأن اإلنسان هو فعًال األنسب لهذه المهمـة‪ ،‬ولهـذا الـدور‪،‬‬
‫فقدسوا هللا وسبحوه واعترفوا على أنفسهم بالجهل بذلك‪{ ،‬اَل ِع ْلَم َلَنا ِإاَّل َم ا َع َّلْم َتَنا ِإَّنَك َأْنَت اْلَعِليُم اْلَحِكيُم }‪.‬‬

‫والدرس يعود إلى‪ :‬مسألة أن يتذكر المخلوق‪ ،‬أن يتذكر القاعدة التي يؤمن بها‪ ،‬المبدأ الذي يؤمن به‪ ،‬عنــدما‬
‫نؤمن بأن هللا هو العليم الحكيم‪ ،‬ثم ُيْش ِكُل علينــا شــيٌء مــا في تــدبير هللا‪ ،‬أو في تشــريعة‪ ،‬فلنحمــل المســألة على‬
‫جهلنا‪ ،‬ولنتذكر أن هللا هو العليم الحكيم‪.‬‬

‫{َقاَل َيا آَد ُم َأْنِبْئُهْم ِبَأْس َم اِئِهْم َفَلَّم ا َأْنَبَأُهْم ِبَأْس َم اِئِهْم }‪ ،‬وتجَّلى بذلك؛ ألنه تجَّلى بجهلهم هم أنهم ليسوا هم المناســبين‬
‫لهذه المهمة‪ ،‬وتجَّلى بإعالم آدم لهم باألسماء‪ ،‬بما اتضح من ذلك أنه يعــرف تلــك المســميات‪ ،‬اتضــح لهم أيضــا‬
‫كفاءة وتناسب آدم والبشر مع هذه المهمة‪.‬‬

‫{َقاَل َأَلْم َأُقْل َلُك ْم ِإِّني َأْع َلُم َغْيَب الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َو َأْع َلُم َم ا ُتْب ُد وَن َو َم ا ُكْنُتْم َتْك ُتُم وَن }[البقــرة‪ :‬اآليــة‪ ،]33‬ولربمـا‪-‬‬
‫وهللا أعلم‪ -‬أن هذه اإلشكالية كانت في أنفس المالئكة من زمن‪ ،‬يعني‪ :‬منـذ أن أعلمهم بدايـًة‪ ،‬منـذ أن أعلمهم في‬
‫أول ما أخبرهم عن اإلنسان‪ ،‬واستخالفه في األرض‪ ،‬وما سيحصل من بعض البشر‪ ،‬فكتموا ذلــك إلى حين أتى‬
‫وقت خلق هذا اإلنسان‪ ،‬ليقوم بدوره في االستخالف في األرض بالفعل‪ ،‬فحينها أظهروا استشكالهم؛ فــأتت هــذه‬
‫المعالجة بطريقة فيها هدايٌة لهم‪ ،‬وهم بعظيم إيمــانهم اهتــدوا وارتقــوا في الهدايــة ارتقــاًء عظيمـًا‪ ،‬وكــان درسـًا‬
‫عظيمًا لهم‪.‬‬

‫ما بعد ذلك‪ ،‬ما بعد هذا االختبار‪ ،‬الذي وصل المالئكــة فيــه إلى قناعـٍة تامــة بــاألمرين‪ -‬تــذكروا واستحضــروا‬
‫حكمة هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وأنه اختار ما هو األنسب فعًال لالستخالف على األرض‪ ،‬وهو آدم "َع َلْي ِه‬
‫الَّس اَل م"‪ ،‬وصالحية آدم والبشر لهذه المهمة‪ -‬أتى من هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" أمٌر آخر‪ ،‬وفي الواقع لو لم يكونوا‬
‫قد استفادوا ذلك الدرس؛ لربما كان أمرًا عجيبًا‪ ،‬لو كان اإلشكال باقيًا في أنفسهم‪ ،‬لو كان ذلك التساؤل مســتمرًا‬
‫في أنفسهم‪َ{ :‬و ِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم اَل ِئَك ِة اْسُج ُد وا آِل َد َم َفَس َج ُد وا ِإاَّل ِإْبِليَس َأَبى َو اْس َتْك َبَر َو َك اَن ِم َن اْلَك اِفِر يَن }[البقــرة‪ :‬اآليــة‪،]34‬‬
‫أمر هللا المالئكة بعد ذلك االختبار‪ ،‬الذي تجَّلت لهم به الحقائق‪ ،‬أمرهم بالسجود آلدم‪ ،‬فكان السجود آلدم تكريم ـًا‬
‫له‪ ،‬وعبادًة وخضوعًا هلل‪ ،‬هو إلى هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" عبادًة هلل‪ ،‬وخضوعًا هلل؛ ألنه تسليٌم ألمره‪ ،‬وطاع ـٌة لــه‪،‬‬
‫فكان سجودهم آلدم خضوع هلل‪ ،‬وتســليم ألمــر هللا‪ ،‬وأيضـًا طاعــة هلل "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"؛ فهو عبــادٌة هلل "جــَّل‬
‫شأنه"‪ ،‬وتكريمًا آلدم "َع َلْيِه الَّس اَل م"‪.‬‬
‫فالمالئكة امتثلوا أمر هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" دون تردد‪ ،‬ودون تساؤل‪ ،‬خالص انتهت التساؤالت‪ ،‬كــان مــا قــد‬
‫حصل سابقًا درسًا عظيمًا لهم‪ ،‬وكافيًا بالنسبة لهم؛ ولذلك سجدوا بدون أي تردد‪.‬‬

‫وبرز موقف غــريب‪ ،‬ومخــالف‪ :‬كان موقــف إبليس‪ ،‬إبليس كما قــال هللا عنــه في (ســورة الكهــف)‪َ{ :‬ك اَن ِم َن‬
‫اْلِج ِّن }[الكهف‪ :‬من اآلية‪ ،]50‬إبليس عنصره ليس من عنصر المالئكة‪َ( ،‬ك اَن ِم َن اْلِج ِّن )‪ ،‬ولكنه كان قــد ارتقى بعبادتــه‪،‬‬
‫وتقُّر به إلى هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬كان قد ارتقى إلى أن بقي في السماوات بين أوســاط المالئكــة‪ ،‬متعبــدًا بينهم‪،‬‬
‫ومستقرًا بينهم‪ ،‬وباقيًا معهم‪ ،‬ويعبد هللا معهم؛ ولذلك أصبح في جملتهم‪ ،‬يخاطب معهم‪ ،‬يــؤمر معهم‪ ،‬فــبرز منــه‬
‫موقٌف مخالف‪ ،‬موقف المعصية هلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬حصــلت تلــك المعصــية قبــل أن تــأتي معصــية من جهــة‬
‫البشر‪.‬‬

‫معصية إبليس‪ ،‬وموقف إبليس فيه دروٌس كثــيرة‪ ،‬كثـيٌر منهـا سـنتحدث عنـه في الحـديث على ضـوء اآليـات‬
‫المباركة (في سورة األعراف‪ ،‬في سورة الحجر‪ )...‬في بقية السور‪ ،‬التي ذكرت القصة بشــكٍل تفصــيلي؛ ألنها‬
‫وَّسعت حول هذا الموضوع؛ ألنه في كل سياق وردت فيه القصة‪ ،‬يأتي تركـيز على نقطـة معينـة بشـكٍل أكـثر‪،‬‬
‫هنا اختصار في القصة (في سورة البقرة)‪ ،‬لكن (في سورة األعراف‪ ،‬في سورة اإلسراء‪ ،‬في سورة ص) هناك‬
‫توُّسع أكثر‪.‬‬

‫فإبليس (َأَبى)‪ :‬امتنع من السجود‪ ،‬وعصى أمر هللا‪َ( .‬و اْس َتْك َبَر )‪ :‬كان عصــيانه منشــؤه التكــبر‪ ،‬ودافعــه التكــبر‪،‬‬
‫وكان عصيانه بنفسه تكبرًا‪ ،‬فكان منشؤه التكبر‪ ،‬وكان ممارسة فعلية للتكبر والعياذ باهلل؛ ألنه اعتبر نفسه أكــبر‬
‫من أن يخضع لهذا األمر اإللهي في السجود آلدم‪ ،‬محتقرًا آلدم من جهة‪ ،‬ومعتقدًا أَّن مقامه فوق أن يؤَّم ر بمثــل‬
‫هذا األمر؛ ولذلك أساء إلى هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬واَّتهم هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"؛ فكان كــافرًا بــذلك‪َ{ ،‬و َك اَن ِم َن‬
‫اْلَك اِفِر يَن }[البقرة‪ :‬من اآلية‪ ،]34‬كافرًا بعقدته تلك‪ ،‬باتهامه هلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" في حكمته وعدله‪ ،‬وأيضـًا في احتقــاره‬
‫آلدم "َع َلْيِه الَّس اَل م"‪ ،‬في عصيانه ألمر هللا‪ ،‬ورفضه ألمر هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬كل ذلك يعتــبر من الكفــر؛ ألن‬
‫الرفض ألمر هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" هو قس ـٌم من أقســام الكفــر‪ ،‬وإبليس في معصيته كــان رفضــه من منطلــق‬
‫االِّتهام هلل في عدله وحكمته؛ ولذلك كان شنيعًا‪ ،‬وكانت معصيته معصية شنيعة ورهيبة‪.‬‬

‫ما بعد موقف العصيان من إبليس‪ -‬سيأتي في السور األخرى كيف أَّن هللا طرده من السماء‪ -‬وما بعــد الســجود‪،‬‬
‫ومــا بعــد هــذا االختبــار‪ ،‬وتعليم األســماء‪ ،‬واإلنبــاء باألســماء‪ ،‬أتت بدايــة االســتخالف آلدم "َع َلْي ِه الَّس اَل م" في‬
‫األرض‪ ،‬وقد خلق هللا له حواء "َع َليِهَم ا الَّس اَل ُم "‪َ{ ،‬و ُقْلَنا َيا آَد ُم اْس ُك ْن َأْنَت َو َز ْو ُجَك اْلَج َّنَة َو ُك اَل ِم ْنَه ا َر َغ ًدا َح ْيُث‬
‫ِش ْئُتَم ا َو اَل َتْقَر َبا َهِذِه الَّش َجَر َة َفَتُك وَنا ِم َن الَّظاِلِم يَن }[البقــرة‪ :‬اآليــة‪ ،]35‬أسكنهما هللا في بدايــة االســتخالف في األرض‪،‬‬
‫أسكنهما هللا الجنة‪ ،‬هذه الجنة ليست جنة اآلخرة‪ ،‬التي تأتي في حياة اآلخرة بعد الحساب والجـزاء؛ إنمــا لحكمــة‬
‫هللا وبرحمته أراد أن تكون بداية االستخالف آلدم "َع َليِهَم ا الَّس اَل ُم " هــو وحـواء‪ ،‬وبدايــة مشـوارهما في الحيــاة‪،‬‬
‫في إطار نعيٍم في هذه الدنيا‪ ،‬واستقرار‪ ،‬وأاَّل يباشرا العناء‪ ،‬والكد‪ ،‬والجهــد‪ ،‬والتعب‪ ،‬من بدايــة مشــوار الحيــاة‪،‬‬
‫ينفخ فيه الروح ويحييه‪ ،‬ويعطيه المنجل أو المسحاة‪ ،‬ويرسله ليشتغل ويكد في هذه األرض‪ ،‬أراد هللا أاَّل يباشــرا‬
‫العنــاء‪ -‬كالهمــا آدم وحــواء‪ -‬منــذ بدايــة مشــوارهما في هــذه الحيــاة‪ ،‬وأن يبتــدئاها في جـٍو مســتقٍر ‪ ،‬تتــوفر فيــه‬
‫احتياجاتهما توفرًا واسعًا‪ ،‬ومتطلبات حياتهما‪ ،‬فيبدأا حياتهمــا وهمــا في حالــة من االســتقرار وتــوفر المتطلبــات‬
‫واالحتياجات‪ ،‬إلى أن يتناسال‪ ،‬أن يحصل لهما النســل والذريــة‪ ،‬ويتفــرع منهمــا النســل والذريــة‪ ،‬ويبــدأ انتشــار‬
‫البشر في بقية أقطار األرض‪ ،‬فاهلل أعطاهما تلك الجنة‪ ،‬واسعة‪ ،‬وفيها مما يحتاجان إليه من متطلبات الحيــاة مــا‬
‫هو متوفر ويغطي كل احتياجاتهما‪ :‬للطعام‪ ،‬للغذاء‪ ،‬للمالبس‪ ،‬للمشروبات‪ ...‬لغير ذلك‪.‬‬

‫{َو ُك اَل ِم ْنَها َر َغًدا َح ْيُث ِش ْئُتَم ا}[البقــرة‪ :‬من اآليــة‪ ،]35‬فالمأكوالت متــوفرة‪ ،‬وعلى نحــو تــرفيهٍي ومــريح لهمــا‪ ،‬بــدون‬
‫عناء‪َ{ ،‬ح ْيُث ِش ْئُتَم ا}؛ ألنها واسعة تلك الجنة‪ ،‬في أي جهة‪ ،‬في أي مكان يريدان الــذهاب إليــه‪ ،‬وأن يــأكال ممــا‬
‫فيه‪ ،‬المجال مفتوح أمامهما‪.‬‬

‫{َو اَل َتْقَر َبا َهِذِه الَّش َجَر َة َفَتُك وَنا ِم َن الَّظاِلِم يَن }[البقرة‪ :‬من اآليــة‪ ،]35‬وبهذا بدأ التمرين لهمــا على االلــتزام بالمســؤولية‪،‬‬
‫ومسؤولية اإلنسان ارتبطت تجاه حركته في هذه األرض‪ ،‬فيما هو مأذوٌن له به من هللا‪ ،‬فيما لم يأذن هللا لــه بــه‪،‬‬
‫فيما هو حالل‪ ،‬فيما هو حرام‪ ،‬فيما عليه من التزامــات عمليــة؛ فلــذلك بدأ مشوارهما في المســؤولية مرتبطًا‬
‫بهذه المسألة‪ :‬أَّن هللا نهاهما عن أكل شجرة‪ ،‬عن شجرٍة واحدة‪ ،‬أاَّل يــأكال من تلــك الشــجرة‪ ،‬وأذن هللا لهمــا في‬
‫بقية ما في تلك الجنة‪ ،‬وهو كثيٌر جدًا‪ ،‬وواسٌع‪ ،‬يعيشان فيه برفاهيــة‪ ،‬وتتــوفر لهمــا فيــه مــا يكفيهمــا وأكــثر ممــا‬
‫يكفيهما بكثير‪ ،‬فكان الذي لم يأذن هللا لهم فيه‪ :‬األكل من تلك الشجرة على وجه الخصوص‪ .‬هــذا كــان اختبــارًا‬
‫لهما‪ ،‬وتمرينًا على االلتزام بالمسؤولية‪.‬‬

‫{َو ُك اَل ِم ْنَها َر َغًدا َح ْيُث ِش ْئُتَم ا َو اَل َتْقَرَبا َهِذِه الَّش َجَر َة َفَتُك وَنا ِم َن الَّظاِلِم يَن }؛ ألنهمــا ســيتناوالن شــيئًا لم يــأذن هللا‬
‫لهما‪ ،‬وهو المالك‪ ،‬المالك للسماوات‪ ،‬والمالك لألرض‪ ،‬والمالك لإلنسان‪ ،‬وما يحّل لإلنســان التصــرف فيــه هــو‬
‫الذي قد أذن هللا له فيه‪ ،‬وما لم يأذن له فيه‪ ،‬ليس لإلنسان أن يتصرف فيــه؛ ألن هللا هــو المالــك الحقيقي لألرض‬
‫وما في األرض‪ ،‬وللسماوات ولإلنسان‪.‬‬
‫{َفَتُك وَنا ِم َن الَّظاِلِم يَن }‪ ،‬فيكون هذا تعديًا وتجــاوزًا إلى مــا ليس لهمــا؛ ألنها ُاســتثنيت تلــك الشــجرة‪ُ ،‬اســتثنيت‪،‬‬
‫ليست لهما‪ ،‬وال ُأبيحت لهما كبقية ما في تلك الجنة‪ ،‬فيكون هذا ظلمًا‪ ،‬إضافًة إلى مــا يــترتب على مــا سيحصــل‬
‫من نتائج من الظلم للنفس‪.‬‬

‫فاهلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" حينما أسكنهما في تلك الجنة‪ ،‬هو "جـَّل شـأنه" حـَّذ رهما ونهاهمــا من األكــل من تلــك‬
‫الشجرة‪ ،‬وحتى من أن يقربا تلك الشجرة‪ ،‬هذا التعبير مهم‪َ{ :‬و اَل َتْقَر َبا َهِذِه الَّش َجَر َة}؛ ألن قربهــا‪ ،‬ومالمســتها‪،‬‬
‫والتركيز عليها؛ سينشأ معه التفاعل النفسي‪ ،‬والداعي النفسي‪ ،‬والفضول النفسي‪ ،‬إلى تناول شــيٍء منهــا‪ ،‬فكــان‬
‫االبتعاد عنها هو الصواب‪.‬‬

‫وحَّذ رهما هللا أيض ـًا‪ -‬كمــا ســيأتي في ســورة األعــراف وغيرهــا‪ -‬حَّذ رهما هللا من الشيطان‪ ،‬وأنــه سيســعى‬
‫إلخراجهما من تلك الجنة‪ ،‬وفعًال هذا ما رَّك ز عليه الشيطان‪ ،‬الشيطان بعد الذي حصل‪ ،‬وُطِر د من السماء‪ ،‬بعــد‬
‫عصيانه‪ ،‬وتكبره‪ ،‬اغتاظ جدًا‪ ،‬وحمل عقدة العداء الشديد جدًا‪ ،‬عقدة هائلة رهيبة جدًا من العداء الشديد‪ ،‬والكــره‬
‫الشديد آلدم وحواء‪ ،‬ولذريتهما إلى آخـر الـدهر‪ ،‬إلى نهايـة البشـر‪ ،‬يعـني‪ :‬حقـد عجيب جـدًا‪ ،‬فهـو اَّتجـه للتـآمر‬
‫عليهما‪ ،‬واالستهداف لهما‪ ،‬وسعى إلخراجهما من تلك الجنة‪ ،‬ورَّك ز على موضوع تلك الشجرة‪ ،‬الشيطان رَّك ز‬
‫على موضوع تلك الشجرة‪َ{ ،‬فَأَز َّلُهَم ا الَّش ْيَطاُن َع ْنَها َفَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َك اَنا ِفيِه }[البقرة‪ :‬من اآلية‪.]36‬‬

‫كان تركيز الشيطان على تلك الشجرة أن يسعى لخداعهما‪ ،‬وأن يوسوس لهما بشأنها‪[ :‬لماذا منعت عنهما تلــك‬
‫الشجرة؟ لماذا نهاهم هللا عن األكل منها‪ ،‬دون بقيــة األشــجار الــتي في تلــك الجنــة؟ مــا هــو ســرها؟]‪ ،‬يبــدأ هــذا‬
‫التساؤل‪ ،‬وهذا الفضول‪ ،‬ثم يوسوس لهما الشيطان ويعطيهما تفسيرات مخادعة تمام ـًا‪َ{ :‬م ا َنَهاُك َم ا َر ُّبُك َم ا َع ْن‬
‫َهِذِه الَّش َجَر ِة ِإاَّل َأْن َتُك وَنا َم َلَك ْيِن َأْو َتُك وَنا ِم َن اْلَخاِلِد يَن }[األعراف‪ :‬من اآلية‪َ{ ،]20‬قاَل َيا آَد ُم َهْل َأُد ُّلَك َع َلى َش َجَر ِة اْلُخ ْل ِد‬
‫َوُم ْلٍك اَل َيْبَلى}[طه‪ :‬من اآلية‪ ،]120‬حاول الشيطان أن يقِّدم لهما تصورًا خاطئًا عن تلك الشجرة‪ ،‬بأَّن لها ســر عجيب‪،‬‬
‫وسر غريب‪ ،‬وسر مهم جدًا‪ ،‬سـر الخلـود‪ ،‬الـذي يقي اإلنسـان من المـوت‪ ،‬يحيـا ويبقى حيـًا بـدون مـوت‪ ،‬سـر‬
‫الملك‪ ،‬سر الترقي‪ِ{ ،‬إاَّل َأْن َتُك وَنا َم َلَك ْيِن }‪ ،‬فحاول بهذا أن يوجد لديهما الرغبة والدافع لألكل منها‪ ،‬وهذا يكشف‬
‫لنا‪ -‬منذ البداية‪ -‬كيف هي طريقة الشيطان في استهدافه لإلنسان‪ ،‬ومن أين يـدخل لهـذا اإلنسـان‪ ،‬وكيـف يحـاول‬
‫بدايًة أن يضل اإلنسان‪ ،‬بتقديم تصُّو ر خاطئ‪ ،‬ومفهوم خاطئ يالمس رغبـًة في نفس اإلنسـان‪ ،‬أو اهتمامـًا لـدى‬
‫اإلنسان؛ ليؤثر عليه به‪.‬‬
‫واستمر الشيطان في مسعاه لإليقاع بهما‪ ،‬وتوريطهما في األكل من الشجرة‪ ،‬وسوس لهما‪ ،‬ومرًة بعد أخــرى‪،‬‬
‫وصوًال إلى أن أقسم لهما أنه ناصٌح لهما‪ ،‬وهناك ما يفيد في المرويــات عن الرســول "َص َلَو اُت ِهَّللا َع َلْي ِه َو َع َلى‬
‫آِلِه "‪ ،‬وفي اآلثار اإلسالمية‪ ،‬أَّنه من اللحظة الــتي في األخــير أقســم لهمــا‪ ،‬تشــجعا أكــثر‪ ،‬ولم يتصــورا أَّن أحــدًا‬
‫َس ُيْقِد م على مثل هذا الجرم‪ :‬الحلف كاذبًا‪ ،‬اليمين الغموس‪ ،‬اليمين الفاجرة‪ ،‬ونسيا ما قد فعله الشــيطان في تكــبره‬
‫في البداية‪ ،‬حالة النسيان والذهول من جهة‪ ،‬وحالة الرغبة الشديدة‪ ،‬نتيجة لذلك التصــور الخــاطئ عن ســر تلــك‬
‫الشجرة‪ ،‬اجتمعا؛ فدفعا آدم وحواء إلى تناول الشجرة‪ ،‬كما قال هللا عن آدم (في سورة طه)‪َ{ :‬فَنِس َي َو َلْم َنِج ْد َل ُه‬
‫َع ْز ًم ا}[طه‪ :‬من اآليــة‪ ،]115‬نسَي وفقد العزم‪ ،‬واشتدت الرغبــة‪ ،‬وأتت التصــورات الخاطئة؛ ولــذلك لم يكن إقــدامهما‬
‫على تناول األكل منها‪ ،‬على تناول الشجرة واألكل منها‪ ،‬لم يكن بمثل إقدام إبليس‪ -‬لعنه هللا‪ -‬في عصــيانه ألمــر‬
‫هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" بالسجود آلدم‪ ،‬هو أقدم على عصيانه ألمر هللا جرأًة‪ ،‬وكبرًا‪ ،‬واِّتهامًا هلل "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‬
‫في حكمته وعدله؛ أَّم ا هما فكــان إقــدامهما نســيانًا‪ ،‬وذهــوًال‪ ،‬وخضــوعًا لتلــك الرغبــة‪ ،‬ولتــأثير ذلــك الحجم من‬
‫الخداع الكبير من جهة الشيطان؛ حتى سقط بهما‪ ،‬وورطهمــا في تنــاول الشــجرة‪ ،‬ومخالفــة النهي‪ ،‬فكــان هنــاك‬
‫دوافــع ومــؤثرات‪ ،‬ونســيان‪ ،‬وعوامــل تجمعت فأوصلتهما إلى مــا وصال إليــه‪ ،‬فكــانت النتيجــة مؤلمــة لهمــا‪:‬‬
‫{َفَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َكاَن ا ِفيـِه}‪ ،‬أخرجهمـا الشـيطان؛ ألن هللا كـان قـد حـَّذ رهما أنهمـا إن تنـاوال من تلـك الشـجرة‪،‬‬
‫فسيخرجا من تلك الجنة‪ ،‬وهذا الذي حصل‪ :‬عندما تناوال منها ُأخرجا من الجنة‪ ،‬وكان الشيطان ُنِس َب اإلخــراج‬
‫إليه؛ ألنه السبب في ذلك‪ ،‬والذي سعى وراء ذلك‪َ{ ،‬فَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َك اَنا ِفيِه}‪ ،‬من الحياة الهنيئة‪ ،‬المستقرة‪ ،‬التي‬
‫تتوفر فيها احتياجاتهم بدون عناء‪ ،‬وال كد‪ ،‬وال جهد‪.‬‬

‫{َو ُقْلَنا اْهِبُطوا َبْعُض ُك ْم ِلَبْع ٍض َع ُد ٌّو َو َلُك ْم ِفي اَأْلْر ِض ُم ْسَتَقٌّر َو َم َتاٌع ِإَلى ِح يٍن }[البقــرة‪ :‬من اآليــة‪ ،]36‬أتى من هللا األمــر‬
‫لهم جميعًا‪ :‬آدم وحواء‪ ،‬وللشيطان كذلك‪ ،‬وُس ِّم ي هنا منذ أن مارس هذه الجريمة في اإلغواء‪ ،‬أول عملية إغــواء‬
‫اشتغل عليها‪ُ ،‬س ِّم َي شيطانًا؛ ألن ذلك هو دور الشــيطان‪ :‬اإلغــواء للنــاس عن طريــق الحــق‪ ،‬بأســلوب الخــداع‪،‬‬
‫يستخدم أسلوب الخداع لإلغواء عن طريق الحق‪ ،‬فهو العمل الشيطاني‪ ،‬الذي من أصبح يقــوم بهــذا الــدور‪ ،‬من‬
‫أصبح ذلك دوره‪ ،‬يمارسه‪ ،‬يشتغل عليه‪ ،‬يسمى شيطانًا‪ ،‬سواًء كان من الجن‪ ،‬أو من اإلنس أيضًا‪.‬‬

‫{َفَأَز َّلُهَم ا الَّش ْيَطاُن َع ْنَها َفَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َكاَن ا ِفيـِه َو ُقْلَن ا اْهِبُط وا َبْعُض ُك ْم ِلَبْع ٍض َع ُد ٌّو َو َلُك ْم ِفي اَأْلْر ِض ُم ْس َتَقٌّر‬
‫َو َم َتاٌع ِإَلى ِح يٍن }[البقرة‪ :‬اآليــة‪ ،]36‬المستقر في األرض للجميع‪ :‬آلدم وحواء‪ ،‬والبشــر من جهــة‪ ،‬وللشــياطين أيضـًا‪،‬‬
‫مستقٌر في األرض‪ ،‬ومتاع إلى مرحلة مؤقتة؛ ألن الوجود في هذه الحياة وجــود مــؤقت‪ ،‬والوجــود على كــوكب‬
‫األرض بنفسه وجوٌد مؤقت إلى أجٍل مسمى‪ ،‬ينتهي بانتهاء حياة اإلنسان‪ ،‬وينتهي بقيامة القيامــة‪ ،‬واالنتقــال إلى‬
‫دار الجزاء‪.‬‬

‫{َفَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه َك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْي ِه}[البقــرة‪ :‬من اآليــة‪ ،]37‬آدم "َع َلْي ِه الَّس اَل م"‪ -‬كمــا قلنــا‪ -‬هــو وحــواء أقــدما على‬
‫المعصــية‪ ،‬أزلهمــا الشــيطان‪ ،‬أســقطهما إســقاطًا‪ ،‬بالخــداع‪ ،‬والمكــر‪ ،‬والكــذب‪ ،‬والوسوســة‪ ،‬واليمين الفــاجرة‪،‬‬
‫والتصوير الخاطئ لسر تلك الشجرة‪ ،‬ونسيا‪ ،‬نسيا التحذير اإللهي وغفال عنه‪ ،‬فحصــل مــا حصــل؛ ولــذلك همــا‬
‫ندما بعد الذي حصل‪ ،‬لم يكن حالهما كحال الشيطان‪ ،‬ال في دافع المعصية‪ ،‬أو دافع المخالفــة‪ ،‬وال في أيض ـًا مــا‬
‫وراء ذلك‪ :‬طريقـة اإلقـدام على المعصـية‪ ،‬ثم مـا بعـد المعصـية والمخالفـة‪ ،‬همـا فيمـا بعـد ذلـك رجعـا إلى هللا‬
‫"ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪َ{ ،‬فَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه َك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْيِه}؛ ألن هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" ذكرهما‪َ{ :‬أَلْم َأْنَهُك َم ا َع ْن‬
‫ِتْلُك َم ا الَّش َجَر ِة َو َأُقْل َلُك َم ا ِإَّن الَّش ْيَطاَن َلُك َم ا َع ُد ٌّو ُم ِبيٌن }[األعــراف‪ :‬من اآليــة‪ ،]22‬فاهلل قد ذَّك رهما بمــا سـبق منــه لهمــا من‬
‫التحذير‪ ،‬بما سبق من النهي‪ ،‬بما سبق من التبيين لعواقب تلك المخالفة إن حصلت‪ ،‬إن حصــلت المخالفــة‪ ،‬فــآدم‬
‫"َع َلْي ِه الَّس اَل م" رجــع إلى هللا "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى" بالتوبــة‪ ،‬واإلنابــة‪َ{ ،‬فَت اَب َع َلْي ِه}‪ ،‬تــاب هللا عليــه‪ ،‬واجتبــاه‪،‬‬
‫واصطفاه‪ ،‬وهو من عظماء األنبياء "َع َلْيهُم الَّس اَل م"‪.‬‬

‫{ِإَّنُه ُهَو الَّتَّواُب الَّر ِح يُم (‪ُ )37‬قْلَنا اْهِبُطوا ِم ْنَها َجِم يًعا َفِإَّم ا َيْأِتَيَّنُك ْم ِم ِّني ُهًدى َفَم ْن َتِبَع ُهَداَي َفاَل َخ ْو ٌف َع َلْيِهْم َو اَل‬
‫ُهْم َيْح َز ُنوَن (‪َ )38‬و اَّلِذ يَن َكَفُروا َو َك َّذ ُبوا ِبآَياِتَنا ُأوَلِئَك َأْص َح اُب الَّن اِر ُهْم ِفيَه ا َخ اِل ُد وَن }[البقــرة‪ ،]39-37 :‬أتى أيض ـًا‬
‫األمر بالهبوط منها‪ ،‬يعني‪ :‬حتى التوبة لم يترتب عليها أن يبقى آدم في تلك الجنــة‪ ،‬بــل نــزل من تلــك الجنــة في‬
‫األرض‪ ،‬عبارة‪{ :‬اْهِبُطوا} ‪ ،‬تأتي في األرض نفسها‪ ،‬من الذهاب من منطقة إلى أخرى‪{ ،‬اْهِبُطوا ِم ْص ًرا}‬
‫[البقــرة‪:‬‬

‫من اآلية‪ ،]61‬في بعض اآليات المباركة؛ ولذلك فهي ال تعني جنــة اآلخــرة؛ ألن آدم ُخ ِل َق ومهمتــه أن ُيســتخلف في‬
‫هذه األرض‪ ،‬ودوره كذلك‪ ،‬ولكن الخروج من تلك الجنة ليواجه هو وحواء صعوبات الحياة في مرحلة مبكــرة‪،‬‬
‫هو الشقاء‪ ،‬الشقاء هو‪ :‬العسر والشدة‪ ،‬الشــقاء هــو‪ :‬العســر والشــدة‪ ،‬فكــان خروجهمــا من تلــك الجنــة في وقٍت‬
‫مبكر‪ ،‬قبل أن تستقر حياتهما لفترة أطول‪ ،‬ويرزقهما هللا الذرية‪ ،‬ويكون لهما من ذريتهمــا من يعينهمــا‪ ،‬ويعمــل‬
‫معهما‪ ،‬ومباشرة السعي لتوفير متطلبات الحياة بجهد ومشقة‪ ،‬كان هو العقوبة لتلك المخالفة‪.‬‬

‫{َفِإَّم ا َيْأِتَيَّنُك ْم ِم ِّني ُهًدى َفَم ْن َتِب َع ُه َداَي َفاَل َخ ْو ٌف َع َلْيِهْم َو اَل ُهْم َيْح َز ُن وَن (‪َ )38‬و اَّل ِذ يَن َكَف ُروا َو َك َّذ ُبوا ِبآَياِتَن ا‬
‫ُأوَلِئَك َأْص َح اُب الَّناِر ُهْم ِفيَها َخ اِلُد وَن }[البقرة‪َ{ ،]39-38 :‬و اَّلِذ يَن َكَفُروا َو َك َّذ ُبوا ِبآَياِتَنا ُأوَلِئَك َأْص َح اُب الَّن اِر ُهْم ِفيَه ا‬
‫َخ اِلُد وَن }‪ ،‬فتحدد مصير اإلنسان في الدنيا واآلخرة على ضوء موقفــه من هــدى هللا وتعليماتــه‪ ،‬وكــذلك الجــان‪،‬‬
‫اإلنس والجن مصيرهم ومستقبلهم في نجاتهم أو هالكهم‪ ،‬في فوزهم أو خسرانهم‪ ،‬مرتب ـٌط بمــوقفهم تجــاه هــدى‬
‫هللا "ُس ْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬هــدى هللا الــذي يــأتي في كتبــه مــع رســوله وأنبيائــه‪ ،‬ومن يســيرون على دربهم‪ ،‬وفي‬
‫طريقهم‪ ،‬وعلى نهجهم‪َ{ ،‬فَم ْن َتِبَع ُهَداَي َفاَل َخ ْو ٌف َع َلْيِهْم َو اَل ُهْم َيْح َز ُنوَن }‪.‬‬

‫فنجد الفارق الكبير بين مخالفة آدم تجاه النهي‪ ،‬والتي كانت دافعها مختلفًا عن دافع الشيطان‪ ،‬وكذلك فيما بعد‪،‬‬
‫آدم وحواء بادرا إلى التوبة إلى هللا‪ ،‬والندم الشديد‪ ،‬والرجوع إلى هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَع اَلى"‪ ،‬وكان مــا حصــل درس‬
‫مهم جدًا آلدم‪ ،‬في بداية ذلك الدور واالستخالف في األرض‪ ،‬درسًا مهمًا لــه في بقيــة حياتــه‪ ،‬تعامــل فيمــا بعــده‬
‫بيقظة‪ ،‬بانتباه‪ ،‬بجدية‪ ،‬بحذر شديد من الشيطان‪ ...‬وغير ذلك‪.‬‬

‫بقية الدروس والعبر نستكملها‪ -‬إن شاء هللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى"‪ -‬في المحاضرات القادمة‪.‬‬

‫َنْس أُل َهَّللا "ُسْبَح اَنُه َو َتَعاَلى" َأْن ُيَو ِّفَقَنا َو ِإَّياُك م ِلَم ا ُيْر ِض يِه َع َّنا‪َ ،‬و َأْن َيْر َح َم ُش َهَداَء َنا اَألْبَر ار‪َ ،‬و َأْن َيْش ِفَي‬
‫َج ْر َح اَنا‪َ ،‬و َأْن ُيَفِّر ج َعْن َأسَر اَنا‪َ ،‬و َأْن َيْنُصَر َنا ِبَنْص ِر ه‪ِ ،‬إَّنُه َسِم يُع الُّدَعاء‪.‬‬

‫َو الَّس ـاَل ُم َع َلْيُك ْم َو َر ْح َم ُة ِهللا َو َبَر َكاُتُه؛؛؛‬

You might also like