Professional Documents
Culture Documents
شرح صلاة المشيشية
شرح صلاة المشيشية
شرح صلاة المشيشية
من جملة صيغ الصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم الصالة المشيشية لموالنا العارف باهلل تعالى سيدي
( عبد السالم بن مشيش ) رضي هللا عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته وعلومه وأسراره ،فلكمالها ودقة
أسرارها شرحها كثير من العارفين والعلماء الربانيين تبركًا بها وإظهارًا لشأنها ،ولنوال القرب من
.صاحبها ،وبعث الهمة في قارئها وتاليها
.إنه على ما يشاء قدير وباإلجابة جدير ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (
اللهم صِّل على من منه انشقت األسرار وانفلقت األنوار ،وفيه ارتقت الحقائق ،وتنـَّز لت علوُم آدم(
فأعجز الخالئق ،وله تضاءلت الفهوُم فلم يدركه مَّنا سابٌق وال الحق ،فرياُض الملكوت بزهِر جماِلِه
مونقة ،وحياُض الجبروت بفيِض أنواِر ِه متدفقة ،وال شيء إال وهو به منوط ،إذ لوال الواسطُة لذهَب
( كما قيل ) الموسوط ،صالًة تليُق بك منك إليه كما هو أهله ،اللهم إَّنه سرَك الجامُع الَّد اُل عليك ،
وحجاُبَك األعظُم القائُم لك بين يديك ،اللهم ألحقني بنسبِه ،وحققني بحسبه ،وعرفني إياُه معرفًة أسلُم بها
من موارد الجهل ،وأكرُع بها من موارد الفضل ،واحملني على سبيله إلى حضرِتَك حمًال محفوفًا
بنصرتك ،واقِذ ف بي على الباطل فأدمغه ،وزَّج بي في بحار األحدية ،وانشلني من أوحال التوحيد ،
وأغرقني في عين بحر الوحدة ،حتى ال أرى وال أسمَع وال أجد وال أحس إال بها ،واجعِل الحجاَب
األعظَم حياَة روحي ،وروَح ُه ِس ُّر حقيقتي ،وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق األول ،يا أوُل يا آخُر يا
ظاهُر يا باطن اسمع ندائي بما سمعَت به نداء عبدك زكريا ،وانصرني بك لك ،وأيدني بك لك ،واجمع
بيني وبينك ،وحل بيني وبين غيرك ،هللا ،هللا هللا ( ،إن الذي فرض عليك القرآن لراُّد َك إلى معاد ) ،
)( ربنا آتنا من لدنك رحمًة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا)
اللهم :أي يا هللا ،واسم الجاللة هذا علم على الذات األقدس الواجب الوجود ،المستحق لكل كمال
.وجمال ،الدال علية تعالى داللًة جامعًة لمعاني أسمائه الحسنى كلها ما علم منها وما لم يعلم
.صِّل :أي ارحم رحمًة مقرونًة بالتعظيم والثناء والمغفرة والبركة والتشريف والتكريم
.وتعظيمه في الدنيا يكون :بإعالء ذكره ،وإظهار دينه ،وإبقاء شريعته
.وفي اآلخرة يكون :بجزيل مثوبته ،وتشفعه في أمته ،وإبداء فضله بالمقام المحمود وغيره
على من منه انشقت األسرار :أي على من انفتح واتضح وظهر بنوره صلى هللا عليه وسلم ما كان خفيًا
من العلوم والمعارف المستفادة منه عليه الصالة والسالم ،ومنها اطلع العارفون على أسرار الذات
والصفات واألفعال
.وانفلقت األنوار :أي انفتح بأصل خلقه باب األنوار الحسية والمعنوية من اإليمان واليقين والمعرفة
وفيه ارتقت الحقائق :أي بظهوره عليه الصالة والسالم ظهرت وارتفعت حقائق األشياء وعرف الحق من
.الباطل
وتنـزلت علوم آدم فأعجز الخالئق :أي جميع العلوم التي نزلت على آدم عليه السالم ،نزلت على
المصطفى صلى هللا عليه وسلم ،وزاد عليه علم حقائق المسميات وغيرها ،فأعجز جميع المخلوقات من
.األولين واآلخرين مالئكًة وغيرهم
وله تضاءلت الفهوم :أي تصاغرت وكلت وعجزت ووقفت عقول وأفهام الخالئق جميعًا عن التطاول لنيل
.معارفه وأسراره وما منحه هللا سبحانه وتعالى له صلى هللا عليه وسلم من العلوم
.فلم يدركوا كمالها ،وكذلك تصاغرت أفهام الخالئق عن إدراك حقيقته عليه الصالة والسالم
َفلْم ُيْد ِرْك ُه مّنا سابٌق وال الِح ٌق :أي جميع البشر السابقين له في الوجود كآدم عليه السالم واآلتين بعده
كالصحابة رضوان هللا تعالى عليهم ومن بعدهم إلى قيام الساعة لم ولن ندرك حقيقة مقامه أو مكانته أو
.علومه ،وال ُيدَر ُك ذلك إال في اآلخرة لكشف الحجاب عن الخالئق آنذاك
فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة :أي أن نور جمال المصطفى صلى هللا عليه وسلم َز ّين ونّضر
.وزركش عالم الملكوت وهو ( :ما غاب عنا من المحسوسات كالجنة والعرش والكرسي )
وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة :أي أن إمداد بحر علمه الممتلئ صلى هللا عليه وسلم من عالم
.األسرار والعلوم والمعارف ال ينقطع عن قلوب العارفين والعلماء الربانيين والفقهاء النجباء المخلصين
وال شيء إال وهو به منوط :أي ال يوجد شيء من األشياء من إنٍس وجن وملك وجماد ومحسوس ومعقول
وعالم سفلي وعالم علوي إال وهو مرتبط بالنبي صلى هللا عليه وسلم ومتعلق به من جملة الوجود واإلمداد
.
إذ لوال الواسطة لذهب كما قيل الموسوط :أي أنه صلى هللا عليه وسلم هو سبب النعمتين اللتين ما خال كل
.موجود عنهما ،وال بد لكل ُم كَّو ن منهما - :نعمة اإليجاد ونعمة اإلمداد
.إذ لوال أسبقية وجوده ما وجد موجود ،ولوال سريان نوره في الكون (الشريعة والقرآن) لهدمت دعائمه
فقد روى البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ( لما
اقترف آدم الخطيئة قال :يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ،فقال هللا :يا آدم وكيف عرفت محمدًا
ولم أخلقه ؟ قال :ألنك يا رب لما خلقتني بيدك ،ونفخت فَّي من روحك ،رفعت رأسي فرأيت على قوائم
العرش مكتوبًا ال اله إال هللا محمد رسول هللا ،فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إال أحب الخلق إليك .فقال
هللا تعالى :صدقت يا آدم إنه ألحب الخلق إلَّي ،وإذ سألتني بحقه قد غفرت لك ،ولوال محمد ما خلقتك )
قال في مجمع الزوائد رواه الطبراني في األوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم ،ورواه الحاكم وصححه
.والطبراني وزاد فيه ( وهو آخر األنبياء من ذريتك )
وذكر العالمة القسطالني في المواهب اللدنية ( 69 /1ـ ) 70أنه لما خلق هللا تعالى آدم ألهمه أن قال :يا
رب لَم كنيتني أبا محمد ؟ قال هللا تعالى :يا آدم ارفع رأسك ،فرفع رأسه فرأى نور محمد صلى هللا عليه
وسلم في سرادق العرش .فقال يا رب ما هذا النور ؟ قال :هذا نور نبي من ذريتك اسمه في السماء أحمد
وفي األرض محمد لواله ما خلقتك وال خلقت سماًء وال أرضًا .وعند ابن عساكر من حديث سلمان كما
ذكر العالمة القسطالني في المواهب اللدنية ( ) 1/83قال :هبط جبريل عليه السالم على النبي صلى هللا
عليه وسلم فقال :إن ربك يقول :إن كنُت اتخذت إبراهيم خليًال فقد اتخذتك حبيبًا ،وما خلقت خلقًا أكرم
.علَّي منك ،ولقد خلقت الدنيا وأهلها ألعرفهم كرامتك ومنـزلتك عندي ولوالك ما خلقت الدنيا
صالًة تليق بك منك إليه كما هو أهله :أي يا هللا صل بجنابك وإحسانك على سيدنا محمد صلى هللا عليه
وسلم صالًة كاملًة مخصوصًة موصولًة منك إليه بدون واسطة تناسب عظيم قدره ومقداره لديك إذ ال
.يعرف حق قدره ومقداره إال أنت
فقد أخرج الطبراني وأبو ُنعيم وابن النجار والخطيب بالسند عن ابن عباس رضي هللا عنهما أن رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم قال ( :من قال جزى هللا عنا محمدًا ما هو أهله أتعب سبعين كاتبًا ألف صباح ) وفي
.رواية ( ألفي صباح )
اللهم إنه سرك الجامع :أي يا هللا إن هذا الحبيب المصطفى عليه الصالة والسالم معدن سرك الجامع لما
تفرق في غيره ،إذ ما ّأعطيه غيره من األنبياء صلوات هللا تعالى وسالماته عليهم من الكماالت والمعارف
والعلوم والبركات والمعجزات مجموع فيه صلى هللا عليه وسلم و زاد عليهم بالمنح اإللهية والعطايا
.الربانية ما ال يعلمه إال صاحب المن والعطاء اللطيف الخبير
الدال عليك :لكونه صلى هللا عليه وسلم هاديًا للخالئق جميعًا ،ومرشدًا لهم ،ومعرفًا لهم الطريق
الموصلة إلى هللا تعالى بأقواله وأفعاله ،وكل دال على هللا تعالى إنما يدل عليه بداللته صلى هللا عليه وسلم
،فنبوته صلى هللا عليه وسلم جمعت سائر النبوات ،ونوره صلى هللا عليه وسلم جمع سائر األنوار ،
.وكتابه صلى هللا عليه وسلم جامع لجميع الكتب المنـزلة
وحجابك األعظم :أي المانع األعظم للعقول حيث عقلها بعقال شرعه عن النظر في حقيقة الذات اإللهية ،
لما رواه أبو الشيخ عن أبي ذر رضي هللا عنه قوله عليه الصالة والسالم ( تفكروا في خلق هللا وال تتفكروا
في هللا فتهلكوا ) وهو المانع األعظم للمؤمنين من العذاب بإرشادهم ودعائهم إلى اإليمان ،وهو حجاب
رحمة بين العبد وهيبة ربه ،وبواسطته تلَّقى المؤمنون شرع ربهم ،وهو مانع المضار الدنيوية
واألخروية عن أمته ( وما كان هللا ليعذبهم وأنت فيهم وما كان هللا معذبهم وهم يستغفرون ) ،وبما أن
األنبياء عليهم الصالة والسالم حجب ألممهم فرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أعظمهم ،فال يمكن ألحد
.الوصول إلى هللا تعالى إال عن طريق شرعه واتباع نبيه صلى هللا عليه وسلم
القائم لك بين يديك :أي القائم أتم قيام بتكاليف الرسالة وتوفية حقوقها ألجلك يا هللا تعظيمًا وإجالًال ،قيام
الخادم بين يدي المخدوم إذ شرعه الشريف صلى هللا عليه وسلم زاجر عن انتهاك حرماتك ،ومانع عظيم
عن إساءة األدب معك سبحانك ،فهو داعي الخلق إليك بك من غير واسطة بينك وبينه ،قائم بحضرة
.القرب المعنوي منهمك في طاعتك
اللهم ألحقني بنسبه :أي أدم علَّي يا هللا نعمة الثبات على دينه صلى هللا عليه وسلم علمًا وعمًال قوًال
.وحاًال ،واختم لي بالحسنى على ذلك حتى أكون من رفقائه صلى هللا عليه وسلم في دار نعيم الوصال
وحققني بحسبه :أي وفقني يا هللا للتخلق بأخالقه صلى هللا عليه وسلم ،واجعلني من المهتدين بهديه ،
المقتفين للتقوى بكتابه وسنته في أقواله وأفعاله وأحواله ،إذ متابعته صلى هللا عليه وسلم موجبة للرحمة
.في الدنيا وموجبة للفالح في اآلخرة ،وموجبة للرفع إلى أعلى الجنان ،وموجبة للمحبة من هللا تعالى
وعرفني إياه معرفًة أسلم بها من موارد الجهل ،وأكرع بها من موارد الفضل :أي يا هللا عرفني على
مصطفيك معرفًة تامًة حتى ال أقع بالجهل المفسد لألديان ،ألنه صلى هللا عليه وسلم المرآة الكبرى
والواسطة العظمى ،فمعرفته موصلة إلى معرفة هللا تعالى ،وعلى حسب معرفته صلى هللا عليه وسلم
تكون معرفة هللا تعالى ،إذ هو باب هللا األعظم ،ومعرفته تثمر مقام المحبوبية عند هللا تعالى ،فان محبة
هللا تعالى لعبده على حسب محبة العبد للنبي صلى هللا عليه وسلم ومتابعته ،ومحبة العبد له على قدر
معرفته واطالعه على جماله ونواله وشرعه ،فان العلم فيه كالماء الزالل النافع لحياة القلوب واألرواح
.واألجساد واألشباح
واحملني على سبيله إلى حضرتك حمًال محفوفًا بنصرتك :أي يا هللا اسلك بي طريقته ،واجعلني عامًال
بشريعته وسنته ألنها سبيل الوصول إلى الحضرة العلية ،محفوظًا من كل عائق حتى أصل إليك بعنايتك (
.وهذا مقام السائرين إلى هللا تعالى المستدلين بالصنعة على الصانع )
واقذف بي على الباطل فأدمغه :أي اجعل الحق يا هللا معي ،ليخمد ويذهب الباطل ،واجعلني حجًة بالغًة
.ظاهرًة ليتم لي االهتداء ويصح بَي االقتداء حتى ينـزاح بَي الباطل ويظهر بَي الحق
وزَّج بي في بحار األحدية :أي يا هللا ارم بي في أنوار ال إله إال هللا ،وأدخلني في طائفة المتحققين
بالتوحيد الخالص ،حتى تفنى عندي الرسوم وال يبقى إال الحي القيوم ،وهذا مقام أهل الفناء المحض الذين
غرقوا في توحيد األحدية فلم يشهدوا سوى ذات هللا تعالى العلية ( ويسمى هذا المقام عين الجمع المعبر
.عنه بتجريد التوحيد )
وانشلني من أوحال التوحيد :أي خلصني يا هللا سريعًا من مخاوف ومزالق االعتقادات الرديئة الباطلة
ومن متشابهات األحكام التي زلت فيها أقدام الكثيرين إال من رحم هللا تعالى ومما يعرض للسالكين
المستدلين باألشياء على هللا تعالى من الشبهات ،فال تسلك بي مسلك من شطح في كالمه واصطلم ،أو
ممن ُلِّبَس عليه األمر فقال بالحلول واالتحاد ووحدة الوجود ،أو ممن غلبت عليه الحقيقة فادعى الجبر
ونفى الحكمة واألحكام ،ألن صاحب الفناء إن لم تدركه العناية اإللهية أنكر ثبوت اآلثار ومنها الرسل وما
.جاءوا به بل والعالم برمته ،وتخليصه من تلك األوحال نقله من مقام الفناء إلى مقام البقاء
وأغرقني في عين بحر الوحدة :أي رَّد ني إلى البقاء بعد الفناء ألصلح للخالفة في األرض وأكمل غيري ،
وهو المعبر عنه بجمع الجمع ،إذ يكون الجمع في باطنه موجودًا والفرق على ظاهره مشهودًا ،ولذلك
كان مقصوده الزج في بحار األحدية الدفع ال على سبيل اإلغراق بل على سبيل الركوب والمرور ليعلم ما
فيها من الذخائر ،وهو مقام الفناء ثم االستغراق في عين بحر الوحدة ( وهي مدد البحر ) حتى يكون ممدًا
لمن خاض لججه ،وال يكون ذلك إال في مقام البقاء ،إذ التوحيد الخالص الكامل هو شهود الذات مّتصفًة
بالصفات ،فيستدل على الصنعة بالصانع لكونه ال يشهد إال هللا تعالى وصفاته ،والصنعة آثار صفاته
( .وهذا مقام العارفين )
حتى ال أرى وال أسمع وال أجد وال أحس إال بها :هذا غاية االستغراق المذكور وهو الغيبة عن األكوان
بشهود المكِّو ن ،أي ال أرى وال أسمع وال أجد وال أحس أي أثر من آثار خلق هللا تعالى إال بعد شهوده ،
.فال يوجد شيء إال وهو قائم به سبحانه ،وبقاؤه مستمد بتقدير بقاء هللا تعالى له
ولما كان كمال العبودية وكمال التوحيد والمعرفة ال يتم لصاحبه إال باالستقاء من يد المصطفى صلى هللا
:عليه وسلم قال
واجعل الحجاب األعظم حياة روحي :أي يا هللا مد روحي من النبي صلى هللا عليه وسلم كما تمد العود
األخضر بالماء ،ألنه صلى هللا عليه وسلم حياتها ،فاألرواح التي ال تشاهده وال تستقي منه كأنها أموات ،
وهذه إشارة إلى أن العارف باهلل تعالى ال غنى له عن واسطة النبي عليه الصالة والسالم وإن وصل إلى
حضرة القدس ،وفني عن وجوده وفنائه وعن كل شيء في هيبة شهوده ،واجعله يا هللا حاجبًا لروحي عما
فيه هالكها فتكون حيًة متمتعًة في معرفتك يا هللا بسببه ،فاَّن من لم يحتجب بالنبي صلى هللا عليه وسلم
.وقع في المهالك وابتدع وضل وماتت روحه
وروحه سر حقيقتي :أي يا هللا اجعل شهود روحه عليه الصالة والسالم تنقل سر حقيقتي بأن تصير
حقيقتي سرًا بواسطة ذلك الشهود ،ألن حقيقة اإلنسان هي اللطيفة الربانية التي كان بها اإلنسان إنسانًا ،
فتسمى نفسًا في مقام اإلسالم ،وقلبًا في مقام اإليمان ،وروحًا في أول مرَتَبَتي اإلحسان وهي المراقبة في
.أوالها ،والسر في ثانيها وهي المشاهدة
وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق األول :أي أسألك يا هللا بوجودك الحق السابق على كل شيء أن
تجعل حقيقتي متوجهًة إلى شهود حقيقته صلى هللا عليه وسلم مع عدم الغفلة عن شهود الربوبية
واالستغراق فيها ،حتى ال أقع كمن غلط في شهود الواسطة فجعلها مقصدًا ،إذ لوال تعريف هللا تعالى
عباده به ما عرفوه ( وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا ) وأسألك يا هللا أن تكون عوالمي كلها ( النفس
والقلب والروح والسر ) منصرفًة ومتوجهًة إلى شهود النبي عليه الصالة والسالم الصادقة بعوالمه
الشريفة ،واجعل كل أجزائي مشغولًة به ظاهرًا وباطنًا ،تابعًة له في كل ما أمر به ونهى عنه ،وأعني يا
هللا على شهوده اآلن في عالم األجساد بعد أن شهد قلبي التوحيد في عالم األرواح يوم ( ألست بربكم ) إذ
.هو أول من أجاب بـقوله ( بلى ) ودعا إليه فاستجب لي ما دعوتك به يا هللا
ثم استغاث في سؤال شهوده صلى هللا عليه وسلم بهذه األسماء الحسنى لما فيها من الداللة على اإلحاطة
:والقيومية والتنـزيه ،وأدخَل حرف النداء في أولها تأدبًا بإظهار نفسه
يا أول :وهو السابق على كل شيء لقدمه ،كان هللا تعالى وال شيء معه وهو اآلن على ما عليه كان
.سبحانه
.يا آخر :وهو الباقي الذي يستحيل عدمه ( كل شيء هالك إال وجهه )
.يا ظاهر :وهو الواضح الربوبية بالدالئل ،والذي ليس فوقه شيء وظهر بصنعه وأفعاله سبحانه
ياباطن :وهو الذي ليس دونه شيء ،والذي تحجب عنا بجالله ،المحتجب عن األفهام الذي ال يحيط به
تكييف ،فال يحيط به عقل فيدركه ،جل المهيمن عن اإلدراك إذ تاهت عقول ذوي األلباب فيه ،وكَّلت
وضَّلت بحار العقل والفكر في ذاته سبحانه ،وإذا كان اإلنسان ال يحيط بصفات ذاته فكيف بباريه تعالى ؟
.فال يعرف ذات هللا تعالى إال هو سبحانه وتعالى
ولهذه األسماء األربعة خواص عظيمة إذ قالوا :من قال بعد صالة ركعتين خمسًا وأربعين مرًة ( هو
.األول واآلخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) حصل له مطلوبه أَّيًا كان
اسمع ندائي :أي يا هللا اسمع دعائي ومناجاتي سماع قبول وإجابة بطلبي الوارث لسري حتى ينتفع به
.المؤمنون ويكونوا في ميزانه ،والمرء في ميزانه من اتبعه
بما سمعت به نداء عبدك زكريا :أي أقسم عليك يا هللا باالسم الذي سمعت به نداء عبدك زكريا عليه
السالم وهو ( المجيب الرحيم ) بطلبه أمرًا عظيمًا وهو يحيى عليه السالم ليرثه في النبوة والعلوم
والمعارف ( رب ال تذرني فردًا وأنت خير الوارثين ) ( فهب لي من لدنك وليًا يرثني ) ( يا زكريا إَّنا
نبشرك بغالم اسمه يحيى ) ،فأعطاه هللا تعالى القطب الكبير سيدي أبا الحسن الشاذلي رضي هللا عنه
.فورثه في الطريق والعلوم والمعارف وكان على يديه الفتح واالنتشار
وانصرني بك لك :أي باسمك المعين النصير قوني بحولك وقوتك ال باألسباب والوسائط من أجل أن أقوم
بأداء ما كلفتني به من األمور الدينية والوظائف الشرعية مخلصًا لوجهك الكريم ال ألغراض نفسي حتى
.أكون عبدًا على الحقيقة لك فهو منك وإليك
وأيدني بك لك :أي باسمك القوي المتين قوني من أجل أن أقوم بقهر أعدائك وردهم إلى القيام بحقك ،
وأعطني سرًا من عندك ألزداد قوة إيمان ويقين وصبر على البالء بحيث تصير الباليا عطايا ،فأصبر
.شاكرًا على السراء حامدًا على الضراء وكل ذلك لمرضاتك
واجمع بيني وبينك :أي يا هللا أزل حجاب الغفلة عن قلبي وكل شاغل يشغلني عنك ،وال تحجبني عن نور
.مشاهدتك طرفة عين ( وهذه تحلية )
وحل بيني وبين غيرك :أي أدم يا هللا الحيلولة بيني وبين كل قاطع يقطعني أو يحجبني أو يبعدني عنك ،
.وصن قلبي من األغيار واحرسه بدوام األنوار ( وهذه تخلية )
هللا ،هللا ،هللا :أتى باالسم الجامع األعظم مجردًا عن حرف النداء لئال ُيشعر بالبعد استغراقا في هللا تعالى
وفناًء فيه ،وجعل ذكره ثالثًا تبركًا واستلذاذًا ،وإشارًة إلى الخروج عن العوالم الثالثة :عالم األفعال ،
:وعالم الصفات ،وعالم الذوات ،فان مراتب الفناء ثالثة
.فناء في األفعال :بدوام رؤية أن ال معز وال مذل وال مانع وال معطي إال هللا تعالى 1-
.وفناء في الصفات :بدوام رؤية أن ال عاِلم وال قادر وال مريد وال حي إال هللا تعالى 2-
.وفناء في الذات :بدوام رؤية أن ال موجود إال هللا تعالى 3-
فأتى بهذا االسم العظيم إيقاظًا لألرواح ،وتنبيها لها على التعلق به والتخلي عما سواه ،وتكراره تثبيت
معناه في الباطن وتأكيده في القلوب ،وقد قيل :الحكمة في ذلك التكرار أن النبي عليه الصالة والسالم كان
يلقن أصحابه الذكر ثالثًا ،وأن هللا وتر ،وأن منبره صلى هللا عليه وسلم ثالُث درجات كلما صعد على
.واحدة قال :هللا ،ـ فاقتدى به ـ ،وأن النفوس ثالثة :أمارة ولوامة ومطمئنة
.فإذا قال االسم الجليل أوًال خرج من األمارة ،وخرج ثانيًا من اللوامة ،ووصل ثالثًا إلى المطمئنة
الحكمة من ذكره هذه اآلية الكريمة والتي قيلت للنبي } :إن الذي فرض عليك القرآن لراَّد ك إلى معاد {
عليه الصالة والسالم في تأكيد مراده عليه الصالة والسالم مما يريد ويتمنى ومما أراده هللا تعالى له من
المقامات والعطيات ومما ال يعلمه إال هللا سبحانه وتعالى ،فالحكمة هي مناجاته تعالى بقوله :صدقت يا
.هللا وعد حبيبك فاصدق وعدي بكل ما سبق ذكره ،وأنلني ما طلبته
وأراد الشيخ رحمه هللا تعالى تنبيه المريد إلى أنه سبحانه هو المعاد الذي ترجع إليه األمور دنيا وأخرى ،
فكن أيها المريد مستغرقًا فيه سبحانه وتعالى ،وِلهًا به ،لتأمن جميع المخاوف وتنهال عليك من جنابه
.سبحانه جميل اللطائف ،فهو الموجود الخالق المعبود ،والكل يرجع إليه خلقًا وافتقارًا
الحكمة من إيثار هذا الدعاء القرآني ألصحاب } :ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا {
الكهف على غيره ليناسب ما تقدم ،فان من أوى إلى كهف الفردانية ،ولجأ إلى معاد حرم الصمدانية ،
يصير متناسيًا كل القواطع واألغيار ،فيسأل من فضل ربه العلي الكبير الذي شاهده ما يريد ،ويستمد منه
المساعدة والتيسير ،وفي هذا تنبيه للذاكر والمصلي على الحبيب عليه أفضل الصالة وأتم التسليم على أن
المقصود األعظم من ذكره تعالى هو القيام بحق العبودية ،والوقوف تحت أكناف الربوبية ،وأن يكون
دائمًا متوجهًا بوجه قلبه لحضرة ربه مستمدًا منه جميع مطالبه ،سائًال من نواله سبحانه ما ينفعه في جميع
شؤونه وأحواله ليحصل له األنس به سبحانه ،وبحصول األنس به تعالى ُيقبل على خطابه والتوجه إليه ،
ويطلب زيادة الهداية والثبات عليها ،ونبذ جميع األغيار ،ويطرح كل ما سوى الواحد القهار ،طالبًا أن
تهَّب عليه نفحات الرحمة من ربه ،وأن يكون أمره كله رشدًا وخيرًا وأن يكون له حظ من حال أهل
.الكهف في الخفاء عن األضداد واألغيار لكون ذلك اعتناًء من الحق بهم وإعزازًا لهم
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وقلل نسياننا وزدنا علمًا وفقهنا في الدين وأصلحنا والمسلمين لما
.تحبه وترضاه
وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين