Professional Documents
Culture Documents
السؤال الفلسفي (نموذج تطبيقي) -M.B
السؤال الفلسفي (نموذج تطبيقي) -M.B
يطرح السؤال النقاش حول موضوع الشخص كمفهوم فلسفي يعكس جزءا مهما عن حقيقة الوضع البشري ويبحث
في معيار هوية الشخص وقيمته كإشكالية عالجها الفالسفة بتأويالت مختلفة ،بحكم المفارقة التي تالزمها فمنهم من
ادعى أن الجسد كتنظيم بيولوجي هو المعيار المحدد لهوية الشخص والمصدر الذي منه يستمد قيمته ،وهو ادعاء يسند
"الهوية" الشخصية إلى أساس متغير ويجعل "القيمة" سمة متعلقة بالجسد ،ومنهم من اعترض على ذلك بدعوى أن
"الوعي" هو أنسب معيار لهوية الشخص ،في حين افترض آخرون معايير أخرى تكشف عن خلفيات فلسفية متنوعة
ساهمت في إثراء النقاش حول مسألة الهوية والقيمة ،إن هذه المفارقة وما انتجته من تأويالت ممكنة هو ما يبرر التساؤل
عن مبدأ هوية الشخص والمصدر الذي منه يستمد قيمته:
فما الشخص؟ وما الهوية؟ وما القيمة؟ وما الجسد ؟ ما مصدر هوية الشخص وقيمته ؟ هل تنحصر هوية
الشخص وقيمته في الجسد المتغير أم تمتد لتشمل الوعي ومحددات أخرى؟
ورد السؤال كصيغة استفهامية تفتتح بأداة استفهام "هل" التي تطلب الجواب بقبول األطروحة أو قبول ضدها .كما
انبنى على مجموعة من المفاهيم الشخص ،والهوية ،والقيمة والجسد ،أما الشخص فهو الكائن الواعي والمستقل
بإرادته والحر في اختيار أفعاله والمسؤول عن نتائج اختياراته .أما الهوية فتشير إلى مجموع الخصائص التي تجعل
الشخص دائم التطابق مع ذاته رغم ما يطرأ عليه من تغير بفعل تقلبات الزمن .وتعني القيمة صفة أو خاصية لتقويم
الشيء أو الفعل .وفي سياق السؤال تأخذ بعدا أخالقيا ترتبط بكيفية التعامل مع الذات والغير ،ويمثل الجسد الجانب
المادي المحسوس للمكائن البشري ،فهو يعبر عن تنظيم بيولوجي يتكون من أعضاء منظمة في أجهزة وظيفية تحكمها
قوانين تمنح للفرد شعوره بهويته الشخصية ،فللشخص هوية جسدية يشعر بوحدتها وتماسكها في إدرا كه لذاته وللعالم،
والعالقة التالزمية بين هذه المفاهيم تفضي بنا إلى أطروحة يتضمنها السؤال تفترض أن الجسد هو أساس هوية
الشخص ومصدر قيمته .من ثمة يكشف منطق هذه األطروحة على أن الشخص ال يدرك إال باعتباره جزء من هذا العالم
كنظام من الظواهر الطبيعية يتخذ صورة جسد ،وهو ما تبنته المذاهب الفلسفية المتأثرة بالفكر العلمي والتي تمتنع عن
االهتمام بالوعي بدعوى أنه قضية ميتافيزيقية ال تعطى للمالحظة والوصف ،فلزم عن ذلك أن الجسد هو المعيار المحدد
لهوية الشخص ومصدر قيمته .فالوعي بالجسد هو وعي محفوظ في الذا كرة ،والهوية هي إحساس وجودي بوحدة الجسم،
فاليد ،والرأس ،والعين ،أعضاء الجسد الواحد ،هو جسد األنا ،واستمرار الهوية هو استمرار للجسد ،رغم تغيراته ،في الزمان
والمكان.
نموذج تطبيقي لمنهجية السؤال الفلسفي االشكالي
ترتيبا على ما سبق ،وبالنظر إلى تأسيس هوية الشخص وقيمته على الجسد تكون األطروحة المفترضة قد أعادت
االعتبار إلى الجسد وحررته من سجن الوعي من زاوية أن الجسد هو الذي يتحرك ،يضحك ،يبكي ،يتألم ....ومن ثم ،تكمن
قيمة الطروحة في بعدها "العلمي والمعرفي" ،فمعها أصبح الجسد سيد األنا ،ذلك أنه يمكن التعرف على الهوية والقيمة
من خالل بعض السلوكات الجسدية ،فمثال قد يحدث التواصل بالتعبير الجسدي ،إذ أن الوعي عقل صغير يتحكم فيه
عقل أ كبر هو الجسد حسب تعبير "فريدريك نيتشه" ،تبعا لذلك تتضح حقيقة الجسد كجسد عام هو الجسم ،وجسد
خاص يحدد هوية وقيمة الذات ،هكذا أصبح الجسد مفهوما أساسيا في وجود اإلنسان ،وهو ما دفع بعض المدارس إلى
اعتماده لتحقيق معرفة بالشخص في هذا السياق استطاع "سيغموند فرويد" تأصيل الالشعور في عالقته بالبنية
الجسدية ،فاعتبر الجسد القاعدة والمنبع لكل المظاهر السيكولوجية ،بل إن األنا حسب فرويد ،هو أوال وبالذات أنا جسدي،
وهو ليس مجرد شيء على سطح الجسد ،وإنما هو شيء ينبعث من سطح الجسد .إن السؤال عن األنا وإدرا كها لهويتها
الخاصة ،هو سؤال تبلور أيضا بشكل واضح مع الفيلسوف اإلنجليزي "جون لوك" ،والذي اعتمد مقاربة ميتافيزيقية في
تفسير األساس الذي يحافظ على وحدة الهوية الشخصية ،إنه الشعور أو الوعي الذي يكون للشخص انطالقا من تجربة
جسده ،والتي هي تجربة حسية معيشة والوعي بالجسد هو وعي محفوظ في الذا كرة ،والهوية هي إحساس وجودي بوحدة
الجسد ،فاليد والرأس ،والعين أعضاء الجسد الواحد ،هو جسد األنا ،وتستمر الهوية مع استمرار الجسد مع فالسفة اإلرادة
ك"شوبنهاور" الذي يدافع عن اإلرادة الالواعية ،إذ ترتبط اإلرادة بالجسد وهي إرادة عفوية عمياء تدفع اإلنسان إلى البحث
المستمر والدائم عن إشباع رغباته .في هذا السياق تعبر حركات الجسد عن اإلرادة فإرادة المعرفة مثال تكمن في المخ،
وهذه اإلرادة تتمظهر جسديا وليس أساسها ألن الجسد يتغير باستمرار عبر الزمان .وتطور مفهوم الجسد من التأمل
الفلسفي إلى التأمل العلمي مع "المنظور البيولوجي" الذي يحدد الجسد كمركز العمليات بيولوجية محكوم بمنطق
االرتباط السببي .وإذا كانت الهوية الشخصية هي هوية جسدية ،فإن القيمة األخالقية تفترض احترام الكائن في أبعاده
الفكرية والجسدية ،فالكرامة مع "كانط" ،على سبيل المثال هي تقدير الذات تقديرا إيجابيا في بعدها المعنوي والجسدي،
ويعتبر الحق في الحياة حقا أساسيا من حقوق اإلنسان الذي يصون كرامة الجسد وحقه في الحياة.
رغم ما للتصورات السابقة من أهمية فقد ساهمت في إغناء النقاش حول معايير هوية الشخص وقيمته ،إال أنها
لم تنتبه إلى أن مفهوم الهوية يشير إلى ما هو أشمل وأعمق من التعبير الجسدي .فهو يحيل على الوعي المستقل
والفردي الدائم المميز .وأغفلت كذلك على أن الجسد قد يتغير مادة وصورة ويفقد مع مرور الوقت وحدته واستمراريته
دون أن يفقد الشخص هويته وقيمته ومنه فإرجاع هوية الشخص إلى الجسد قد يجرده من حريته ويجرده بالتالي من
هويته وقيمته فيصبح أقرب إلى األشياء منه إلى األشخاص ،ومنه اعترض "ديكارت" على فكرة اتخاذ الجسد معيارا للهوية
بحجة أن الجسم شيء مادي متحيز في مكان له شكل يدرك إدرا كا حسيا إال أنه ال يكف عن التغير ،وأن الشيء الوحيد
الذي يحافظ على وحدته وثباته واستمراريته في الشخص هو الفكر الخالص ،باعتباره نشاطا عقليا يضمن وحدة األنا كذات
مفكرة .لذلك لم يتردد في الرهان على الفكر كمعيار الهوية الشخص .وفي اتجاه آخر ،يختلف تماما عن األطروحات الفلسفية
السابقة من مسألة الهوية الشخصية والقيمة ،يرى "غوسدورف" أن الوجود األخالقي يقوم على المشاركة الجماعية،
فليست قيمة الشخص وهويته كامنة في عزلته أو في جسده الفردي ،بل تتحدد في انفتاحه ومشاركته الغير وتضامنه معه.
نموذج تطبيقي لمنهجية السؤال الفلسفي االشكالي
مجمل القول ،يمكن أن نستخلص من خالل التحليل والمناقشة أن إشكال معايير هوية الشخص وقيمته،
الفتح على إجابات مختلفة تختلف باختالف الفالسفة وتنوع خلفياتهم النظرية ومرجعياتهم الفلسفية ،فمن جهة تحصر
األطروحة المفترضة والمواقف المؤيدة لها الهوية والقيمة في الجسد ،ومن جهة ثانية تم االعتراض على ذلك من طرف
مواقف أخرى والتي أسست الهوية والقيمة على أبعاد أخرى كالعقل والوعي بحجة أن الجسد دائم التغير عبر الزمن.
رغم هذا االختالف يمكن القول أن هوية الشخص وقيمته تتمظهران أوال كجسد له تركيبة بيولوجية ويشاطر في مكوناتها
باقي الكائنات الحية لهذا لحصر الهوية والقيمة في هذا البعد يجعل الشخص أقرب إلى األشياء المادية .ومن ثمة البد من
استحضار العقل القاسم المشترك بين الناس ،لكن هذا التفكير بدون حساسية شعورية وبدون ذا كرة عدم ،فالوعي الذي
ال يحفظ شيئا من ماضيه وينسى ذاته باستمرار يتلف حسب الفيلسوف الفرنسي برغسون وعلى اعتبار أن الشخص
ليس ذاتا منغلقة على نفسها ،وإنما هو انفتاح على أشخاص آخرين .وبالتالي ،إن الحديث عن هوية الشخص وقيمته
يستدعي منا النظر إلى الشخص في عالقته بجسده ،وعالقته بمجتمعه وبالغير ...أي النظر إليه كوحدة ال تقبل التجزيء،
متعددة األبعاد ومتكاملة فيما بينها.