Professional Documents
Culture Documents
البحث عن إمرأة مفقودة - عماد زكي
البحث عن إمرأة مفقودة - عماد زكي
عندما رأيتيا خفؽ قمبي بعنؼ ،وانبعثت الحياة في روحي دفعة واحدة ،وكأني طفؿ يولد اآلف..
إنيا ىي!..
إنيا أحبلـ!..
روحيا التي تشعشع حوليا أيقظت روحي ،وصوت خطواتيا الواثقة التي تطرؽ الرصيؼ في وقار تنساب إلى
سمعي كاإليقاع..
لقد عادت أحبلـ..
عادت إلى المدينة التي ىجرتيا ،عادت إلى الناي الذيف آمنوا بيا ،وأحبوىا..
كما يعود الصبح بعد ليؿ حالؾ..
كما تشرؽ الشمس يعد خريؼ طويؿ..
وانبثؽ األمؿ في أعماقي كمارد خرج لتوه مف قمقو الضيؽ ليعدني ببقية سعيدة ليذا العمر البائس الذي قضيتو
وأنا أعدو خمؼ أحبلـ..
وتحركت في القمب أشواؽ ظمأى ،وجعمت ترفرؼ بأجنحة رشيقة مف الفرح حتى كادت تحممني إلى فضاء بييج..
وانطمقت خمؼ أحبلـ بخطوات ليفى ،وأرسمت نحوىا النداء تمو النداء..
_أحبلـ ..توقفي يا أحبلـ..
لـ تقؼ! لـ تنتبو! ..صوتي المبحوح لـ يبمغ أذنييا ،ومضت بخطواتيا الواثقة وجبلليا القديـ ،وتابعت طريقيا
دوف أف تمتفت!..
كررت النداء غير عابئ بالعيوف التي حاصرتني متسائمة أو مستنكرة ،ودفعت خطواتي خمؼ النداء لتمحؽ بيا ..
أردت أف أمسؾ بيا قبؿ أف تضيع مني كما ضاعت أوؿ مرة ،قبؿ أف تنسؿ كالشعاع ،ناديتيا بحرقة المميوؼ
ولوعة المشتاؽ ،لكف ندائي أخفؽ مرة أخرى في إيقافيا..
ال أصدؽ أنيا ال تسمعني وخطواتيا تطرؽ سمعي كصوت المطر عندما يدؽ أبواب األرض؟!..
تميمت قميبل ..ىؿ تتجاىمني ؟ أـ أنيا وارتني حمؼ جدراف النسياف! ..ولسعني خاطر كالعقرب ..لعميا
تزوجت!.
لعؿ قمبيا قد اتصؿ بقمب رجؿ آخر ،فألغت كؿ إحساس بالغيرة!!..
وأليبت خطواتي بسياط الذعر والقمؽ بجنوف ،فاندفعت خمفيا أصدـ ىذا وأتجنب تمؾ..
-أحبلـ ..توقفي يا أحبلـ ..أنا صبلح.
تجاىمتني! ..أو أنيا لـ تسمعني! ..لعميا ساىمة ذاىمة عما حوليا ،تنبش الذكريات القديمة ،وتبحث فييا عف
قصص عاشتيا في ىذه المدينة ،وأطياؼ عايشتيا عبر رحمة الحب والعذاب التي أرىقت قمبيا المرىؼ الرقيؽ أو
أنيا تستخرج حبيا الخالص مف تحت أنقاض الماضي ،لتنفض عنو غبار السنيف ،وتقدمو لي طاى ار متوىجا
عميقا كما كاف..
وحثثت الخطا خمفيا حتى أدركيا ،ناديتيا بنبرة تقطر ليفة وشوقا..
إلي كالتي بوغتت ،ورمقتني بنظرات يعيث فييا التساؤؿ واإلنكار!..
التفتت َّ
شعرت فجأة وكأني أىوي مف شاىؽ إلى ببل قرار ،والنقبض قمبي فسحؽ بيف جدراف كؿ ما انبثؽ فيو مف آماؿ ،
واستحالت الفرحة الوشيكة دموعا تزدحـ في عينيف زائعتيف!..
إنيا ليست ىي ،إنيا ليست أحبلـ!!
رفعت الفتاة التي كنت أسعى خمفيا حاجبييا دىشة وحيرة ،وتحولت نظراتيا مف اإلنكار إلى الرثاء ،وىي ترى
ليفتي تتحوؿ إلى كآبة عميقة ،ىمست في إشفاؽ:
-سيدي ىؿ تشكو مف شيء؟..
حاولت أف أعتذر ،أو أوضح ليا سبب ما حصؿ ،لكف لساني المثقؿ بالخيبة خانني َّ ،
لكأف الماجأة المرة قد
أصابتو بالشمؿ!..
وأدركت الفتاة أف في األمر خطأ غير مقصود ،فيزت كتفييا بغير اكتراث ،ومضت في طريقيا ،وتركتني
ساىما غارقا في الحسرة واأللـ..
ووقفت جامدا كتمثاؿ ،أرمؽ الفراغ بعينيف ذاىمتيف ،فجعؿ المارة يعجبوف لوقوفي وجمودي ،ويتنحوف عني كما
يتنحوف عف جسـ ميمؿ ممقى عمى قارعة الطريؽ!..
واستيقظت مف ذىمتي عمى صوت طفمة متسولة تشدني مف يدي في إلحاح ،وىي تسألني أف أحسف لو بشيء..
انتزعت نفسي مف ثبلجة الذىوؿ ،ودسست يدي في جيبي ،فأخرجت قطعة نقدية صغيرة ،وألقيتيا في يد الطفمة
فالتقطتيا فرحة ،وانطمقت تعدو..
وركبني إحساس ثقيؿ بأني ضائع ببل غاية ..متشرد ببل مأوى ..تائو ببل جذور ..وىمت عمى وجيي في دروب
المدينة ألوؾ خيبتي وحزني..
وفردت خواطري أشرعة الذكرى ،فأبحرت في خضـ السنيف لترسو عمى شاطئ بعيد ..ووجدتني أغوص في
الماضي ،وكأني أق أر سطوره في كتاب مفتوح أمامي..
الفصل الثاني
..كنا ثبلثة ...أنا ،وىاني ،وأحبلـ ..وكاف قدرنا أف نجتمع بعد التخرج في مستشفى ابف النفيس الذي كاف
يستقطب المتفوقيف مف األطباء..
كنا يوميا مندفعيف متحمسيف لممينة التي أحببناىا وآمنا بيا ،وكنا نقبؿ عمى العمؿ بمتعة بالغة ،فنقوـ بـ يطمب
ون ْقدـ عمى أصعب الحاالت ،لنصقؿ خبراتنا ،ونحقؽ ذواتنا ،ونثبت قدراتنا كأطباء
منا ،وما ال يطمب ُ ،
متميزيف..
وذات ليمة مف ليالي الشتاء البارد ،كانت نوبتنا ػ نحف الثبلثة ػ في قسـ الطوارئ ،وكاف ليمة حافمة فمـ نخمد إلى
الراحة إال في الساعة الخامسة صباحا ،فاتجيت أنا وىاني إلى غرفة األطباء المقيميف ،وذىبت الدكتورة أحبلـ
إلى غرفة الطبيبات المقيمات.
كنت في حالة إرىاؽ شديد ،فمنيت نفسي النفس بساعة مف النوـ أتخفؼ خبلليا مف التعب واإلجياد ،ألسمح
بعدىا لياني بقسط مماثؿ ،لكف ىاني ػ كعادتو ػ وضعني أماـ األمر الواقع ،وأسرع فألقى بنفسو فوؽ السرير ،
وراح في نومو غير عابئ بمحاوالتي إلثنائو.
وسمعت شخير ىاني يتعالى ،فأدركت أنو لـ يعد لي خيار ،وكاف البد أف أبقى مستيقظا ،استعداد لكؿ طارئ.
وغالبني النوـ بقوة ،فيربت مف النعاس إلى القراءة ،فمـ تنجدني ،فمذت بالماء البارد ،وغسمت وجيي.
شعرت بشيء مف النشاط ،لكف منظر ىاني النائـ بجواري ،كاف يوىف عزيمتي ،ويحبط طؿ محاوالتي لمقاومة
النعاس.
"ليس أفضؿ مف قيوة العـ درويش".
عيني بشدة ،ثـ حممت جياو اإلنذار الذي ينقؿ إلينا عادة نداءات الطوارئ ،
َّ ىكذا قمت في نفسي ،وأنا أفرؾ
ومضيت إلى العـ درويش أنشد قيوتو الساخنة المذيذة.
وصمت إلى بداية الممر الذي يقوـ في نيايتو مقصؼ المستشفى المتواضع ،فممحت الدكتورة أحبلـ وىي تجمس
شارة ساىمة ،وقد نزلت مثمي لتدفف أرقيا عند العـ درويش نادؿ المقصؼ..
وارتحت لوجود أحبلـ ،لكني قررت بيني وبيف نفسي ،أال أترؾ ارتياحي يتمادى في الظيور ،ألكثر مف
سبب!..
ألقيت عمييا تحية الصباح ،وقمت ليا وأنا أرقب خيوط الفجر وىي تسمؿ مف نافذة قريبة:
-لـ أتوقع أف أجدؾ ىنا ،لو كنت مكانؾ لخمدت إلى النوـ بعد ليمة متعبة.
تساءلت في مرح:
-لماذا لـ تنـ إذا كنت متعبا إلى ىذا الحد؟!
-أناـ؟ وىؿ يترؾ ىاني دو ار ألحد؟
ابتسمت وقالت:
-عبلقتؾ بياني تثير دىشتي واعجابي في آف واحد!
-لـ أفيـ!
-أنت وىاني نقيضاف في الشخصية ،مختمفاف تماما في األفكار والطباع!
قمت ليا منك ار:
-ال .ال .ليس إلى ىذا الحد ،أنت تبالغيف بعض الشيء.
عمقت تدافع عف وجية نظرىا..
-قد أكوف مبالغة ،لكنكما تبدواف لي ىكذا..
-ومع ىذا نثير إعجابؾ!..
-ما يثير إعجابي ىو عبلقة الود والصداقة التي تجمعكما ،فألمحيا في أحاديثكما معا ،وفي دعابتكما الطريفة
التي أستمتع بمتابعتيا..
-نحف نجماف مضحكاف إذف!!.
ضحكت وىي تشيح بيدىا معتذرة ،ثـ قالت:
-عفوا لـ أقصد ،إنما أردت أف أقوؿ إف عبلقتكما مف العبلقات المطيفة التي أحبذىا بيف األصدقاء..
قمت وأنا أقاوـ التثاؤب الذي داىمني فجأة:
-أنا وىاني صديقاف قديماف ،قضينا المرحمة الثانوية في مقعد واحد ،ودخمنا كمية الطب معا ،وىا نحف نعمؿ
ىنا معا ،جمعت بيننا اآلماؿ والذكريات المطيفة ،فتوطدت بيننا صحبة حميمة ،نحف مختمفاف نعـ لكف الود
بيننا استطاع أف يطفو فوؽ كؿ خبلؼ..
وداىمني التثاؤب..
-لقد شغمنا الحديث ،ونسيت أف أطمب شيئا يساعدني عمى مقاومة النعاس.
والتفت إلى العـ درويش:
-أبف قيوتؾ يا عـ درويش؟ أدركني بفنجاف مف قيوتؾ السحرية المذيذة..
أفاؽ العـ درويش مف كبوة قد ألمت بو ،وىتؼ وىو ينيض في نشاط:
-تكرـ عينؾ يا دكتور ،سوؼ أصنع لؾ فنجانا لف تنسى طعمو أبد الدىر.
ثـ تابع بميجتو المرحة الغنية بالطيبة:
-قيوة عمؾ درويش ماركة عالمية ال تضاىى..
قالت أحبلـ وىي ترنو إلى العـ درويش في ود:
-العـ درويش فخور بقيوتو!
وأردفت:
-ىذا الرجؿ ،كـ ىو طيب ولطيؼ!
كانت أحبلـ تحب العـ درويش كثي ار ،لـ تكف وحدىا تحبو ،كمنا كنا نحبو ونرتاح إليو ..حتى الدكتور مأموف
صاحب المستشفى وجراح القمب المشيور ،كاف كثي ار ما ييرب مف أعبائو إلى مقصؼ العـ درويش ،ليجمس
معو ،يبثو ىمومو ومشاكمو ،ويستمتع بأحاديثو المطيفة التي تنساب إلى النفس في رفؽ ،وتمسح آالميا كالبمسـ.
في شخصيتو جانب مريح لطالما اختمفنا في تفسيره !..البعض كاؾ يقوؿ :بساطتو ،آخروف كانوا يقولوف:
طيبتو..
أحبلـ كانت تقوؿ بأنو إنساف عاطفي يممؾ حسا مرىفا يستطيع مف خبلؿ تعابير وجيؾ ،ونظرات عينيؾ!..
ىاني كاف يقوؿ مازحا :بأنو رجؿ يممؾ الحاسة العاشرة ويقصد الحاسة السادسة طبعا.
أما أنا فأعتقد أف الجانب المريح في شخصية العـ درويش ،جانب مركب ..إنو مزيج مف الطيبة والبساطة
والصراحة الظرافة ..مزيج لطيؼ قد أضيؼ إليو ذكاء فطري حاد ،صقمتو السنوف ،وزادتو تجاربيا قدرة عمى فيـ
الناس والتقاط إحساساتيـ الخفية ،ثمة شيء آخر كاف يجعؿ العـ درويش أشد إحساسا باآلخريف ،إنو المعاناة ،
فالعـ درويش يعاني مف عدـ اإلنجاب ،تؤرقو األبوة الجائعة إلى األطفاؿ ،كانوا يقولوف :إف امرأتو ىي السبب ،
وىكذا كانوا يقولوف دائما عندما كاف العقـ يضرب أسرة ما!..
عندما وصمنا إلى قسـ الطوارئ ،صدـ أسماعنا صوت بكاء شديد لطفؿ ،وتعمقت نظراتنا بشرطي يحتضف طفبل
ممفوفا بغطاء صوفي فد اتسخت بعض جوانبو بالطيف!..
تبادلت مع الدكتورة أحبلـ نظرة ،ثـ بادرت الشرطي بالسؤاؿ:
ػ خي ار.
تقدـ الشرطي خطوات وقاؿ:
ػ لقد وجدنا ىذه الطفمة ممقاة في حديقة مسجد اإلخبلص ،وجدىا أحد المصميف وىو خارج مف صبلة الفجر ،
وأحضرىا إلى قسـ الشرطة ،وقد أرسمت بيا لتفحصوىا وتعدوا تقري ار عف حالتيا الصحية ،ثـ تحولوىا عمى ممجأ
الحناف لؤليتاـ..
صدمني منظر الطفمة المقيطة ،وثقب صوت بكائيا الشديد فؤادي ،فشعرت بالحزف يتسرب إلى أقصى أعماقي ،
أما أحبلـ ،فقد طغى عمييا التأثر واالنفعاؿ ،فمـ تممؾ دموعيا التي انسابت في صمت..
تناولت أحبلـ الطفمة ،فضمتيا إلى صدرىا ،وراحت تيدىدىا حتى تسكت وتيدأ ،ثـ أمرت إحدى الممرضات
بتنظيفيا ،وشرعت بإجراء الفحوصات البلزمة ليا.
ووقفت أرقب الطفمة المقيطة في إشفاؽ ..كانت طفمة وديعة جميمة ،ورثت عف أبوييا براعـ جماؿ باىر بدت
طبلئعو في شعرىا الذىبي ،وعينييا الزرقاويف ،ومحجرييا الواسعيف ،وبشرتيا الناعمة البيضاء وقسماتيا الدقيقة
المنسقة..
ولفت نظري شيء ميـ ،فسألت الدكتورة أحبلـ:
ػ كـ تقدريف وزف الطفمة؟
ػ إني أدرؾ ما تفكر بو ..وزنيا ومبلمحيا يدالف عمى أف عمرىا يبمغ بضعة أشير.
ػ ىذا ما الحظتو فعبل ،إنيا لـ تولد لمتو كما يبدو!..
ػ لقد تأخروا بوأد الفضيحة!..
قمت وأنا غارؽ في الشرود:
ػ وراء ىذه الطفمة سر غامض أتمنى لو أكتشفو!..
ػ العالـ مميء باألسرار..
ػ لو كنت حاكما يممؾ ناصية األمور ،ألمرت بإعداـ أبوييا فو ار..
تمتمت أحبلـ وىي تضع الطفمة في الميزاف:
ػ لـ يعد الناس يفكروف إال بجيوبيـ وغرائزىـ!..
وأحضرت إحدى الممرضات طعاـ الطفمة ،فجعمت أحبلـ تطعميا ،بينما كنت موغبل في التأمؿ ،أفكر في
مستقبؿ طفمة فقدت جذورىا ،لتنمو وحيدة وسط رياح الحياة العاتية ،عرضة لمشقاء والضياع ،ولمعت في
خاطري مقارنة طريفة بيف أطفاؿ ربتيـ الوحوش في الغابة ،وبيف بشر يتخموف عف أطفاليـ بيذه السيولة
والبشاعة التي تترفع عنيا الوحوش..
وأثارني الحادث إلى حد الكآبو ،فغمى الغضب في عروقي ،وشعرت أماـ ضميري بأني مطالب بشيء أقوـ بو
مف أجؿ ىذه الطفمة البريئة ..مكمؼ بميمة خاصة تخولني مبلحقة الجناة ،وبدأت أسعى وراء التفاصيؿ..
كاف الشرطي الذي أحضر الطفمة ما زاؿ ينتظر ،فتقدمت منو ،وسألتو بعض األسئمة ،فشرح لي كؿ الظروؼ
إلي معمومة ميمة زادت القصة إثارة!..
التي أحاطت بالعثور عمى الطفمة المقيطة ،وأضاؼ َّ
قاؿ الشرطي :لقد وجدنا مع الطفمة مبمغا مف الماؿ ،وضعو الذيف تخموا عنيا في كيس مف القماش ،وعمقوه في
رقبتيا!..
مبمغ مف الماؿ؟! ..وىؿ تحركت في قمب الذيف تخموا عف الطفمة بقية مف عاطفة أو ضمير ،فتركوا لمطفمة ما
يساعد مف يعثر عمييا عمى االعتناء بيا؟!..
أـ أف وراء ىذه الطفمة قصة أعمؽ مف حادثة تقميدية لوليدة لقيطة تخمى عنيا الجناة خوفا مف الفضيحة؟!..
واقتحمت إحدى الممرضات أفكاري فجأة ،لتنبيني إلى حالة جديدة فد وردت إلى قسـ الطوارئ ،وىي تشير إلى
امرأة شابة تقؼ لدى الباب ،وتتمفت حوليا وكأنيا تبحث عف شيء!..
الفصل الرابع
ػ تفضمي..
ػ يدي يا دكتور..
ػ ما باليا؟..
ػ مجروحة..
ػ أرني..
بسطت المرأة راحة كفيا األيسر أمامي ،فوجدتيا قد أصيبت بجرح بسيط ،سألتيا في حيرة:
ػ ىؿ جئت مف أجؿ ىذا الجرح؟!..
أجابت في تمعثـ ،وعيناىا تجوباف أرجاء المكاف:
ػ أجؿ ،لقد خشيت أف يؤثر النزيؼ عمى صحتي ،فأنا مريضة..
ػ مريضة؟! ..بماذا؟!
ػ أقصد صحتي سيئة..
تأممتيا جيدا ،كانت امرأة في العشرينات مف العمر ،وصحتيا الظاىرة جيدة ،بؿ إف جسميا يميؿ إلى االمتبلء
،فأي سوء في الصحة تقصد؟
وخطر لي أنيا مريضة نفسية مصابة بالوىـ والوسوسة ،وقد ىرعت إلى المستشفى مذعورة ،عندما رأت بضع
قطرات مف الدـ تسيؿ مف يدىا الجريحة ،وخطر استمرار النزيؼ ،فجاءت إلى المستشفى تنشد المساعدة..
سألتيا وأنا أبمؿ قطعة مف القطف المعقـ بالكحوؿ:
ػ ىؿ سبؽ أف أصبت بمرض دموي.
ػ ال.
ػ مرض نفسي؟
ػ أبدا.
ػ يبدو أنؾ كثيرة الوىـ!..
لـ تكترث بمبلحظتي ،تركت يدىا في يدي ألعالج جرحيا ،وراحت ترنو إلى الطفمة المقيطة بنظرات الح فييا
اإلشفاؽ ،لـ أحفؿ بنظراتيا ،فالذي يمارس مينة الطب ،يستطيع أف يدرؾ معنى الفضوؿ الذي يطؿ مف عيوف
الناس عندما يزوروف عيادات الطوارئ..
ولفتت نظري مبلحظة طريفة! ..سألتيا وأنا أتأمؿ الجرح الذي يمتد عبر راحة كفيا األيسر:
ػ بأي شيء جرحت يدؾ.
كانت ذاىمة عني غارقة في الشرود ،ونظراتيا مازالت معمقة بالطفمة..
أعدت عمييا السؤاؿ فانتبيت وأجابت في ارتباؾ واضح:
ػ آه ،جرحتيا ...جرحتيا بسكيف..
تعجبت ليذه السكيف الكميمة التي يمكف أف تحدث مثؿ ىذا الجرح ،فالمعروؼ أف األدوات الحادة مثؿ الشفرات
والسكاكيف تحدث جرحا مستقيما منتظـ الحواؼ ،أما جرح يدىا فكاف مشرش ار ،وكأنو قد أحدث بأداة كميمة ،
كرأس مسمار أو...
عمي الفضوؿ:
سألتيا ثانية وقد استولى َّ
ػ ماذا كنت تعمميف في ىذا الوقت المبكر.
أجابت بميجة أكثر تماسكا:
ػ كنت أعمؿ في المطبخ..
ػ في المطبخ؟!..
ػ أجؿ.
ػ ىؿ أنت عاممة في فندؽ؟..
ػ بؿ ربة منزؿ.
تساءلت في سري عف السبب الذي يدعوىا لمعمؿ في المطبخ بعيد الفجر بقميؿ! ..خمنت أنيا زوجة عامؿ مف
الذيف ينطمقوف إلى أعماليـ مبكريف..
في الحقيقة لوال مظيرىا القمؽ ،لما تماديت في األسئمة ،ذلؾ القمؽ أثار فضولي ،ليس القمؽ وحده ،كانت
حزينة أيضا..
وفاجأتني بسؤاؿ أثار انتباىي ،قالت:بينما كنت أحكـ ربط الضماد حوؿ يدىشة:
ػ ما ىو مرض تمؾ الطفة؟..
تساءلت في دىشة:
ػ طفمة؟! ما أدراؾ أنيا طفمة!..
بوغتت بالسؤاؿ ،ابتسمت وقالت:
ػ مجرد تعبير عفوي ،ىؿ ىي طفمة حقا؟!..
ػ ىي طفمة فيبل ،لكف ما الذي دفعؾ لبلعتقاد بأنيا طفمة؟!..
ػ قمت لؾ لـ أقصد ،كؿ ما في األمر أف النساء عادة يميموف لتأنيث األشياء ،مثمما يميؿ الرجاؿ لتذكيرىا..
ػ ىؿ أنت جامعية؟..
كنت طالبة في كمية اآلداب ،لكني لـ أتـ تعميمي..
قمت ليا بعد أف انتييت مف تضميد جرحيا:
ػ سأكتب لؾ بعض المضادات الحيوية لوقاية الجرح مف االلتياب.
قالت وكأنيا تريد أف تتخمص مني:
ػ ال .ال داعي ،أنا بخير اآلف..
نظرت إلييا في دىشة..
ػ ال داعي!..
وانتبيت لنفسيا:
ػ اكتب ما تراه مناسبا.
وانتظرتني ريثما كتبت الوصفة ،ثـ تناولتيا ،ومضت مسرعة!..
الفصل الخامس
انتيت الدكتورة أحبلـ مف معالجة الطفمة ،وكتبت تقري ار مفصبل حوؿ حالتيا الصحية ،أبمغت الشرطي الذي
حممتو التقرير ،بأف الطفمة بحاجة إلى بعض الرعاية قبؿ تحويميا إلى الممجأ..
َّ
كانت آثار الحزف واإلرىاؽ بادية عمييا ،جمست كالمنيكة ،وأطرقت في كآبة ،ثـ راحت في تأمؿ عميؽ..
قمت ليا:
ػ بإمكانؾ أف ترتاحي إذا ِ
أردت..
ىمست بنبرة واىنة:
ػ اذىب أنت ،سأبقى ىنا حتى نياية الدواـ.
ػ كيؼ حاؿ الطفمة؟
ػ تشكو مف بعض المغص ،البرد أثر فييا..
ػ الجاني ترؾ مع الطفمة مبمغا مف الماؿ!..
ػ كيؼ عرفت؟
ػ سألت الشرطي.
ػ ابتسمت أحبلـ ابتسامة ساخرة ،ثـ قالت:
ػ ما زاؿ بعض األغبياء يظنوف أف الماؿ يمكف أف يكوف بديبل لمحناف..
قمت وأنا أمضي:
ِ
احتجت لشيء ،فأنا فوؽ. ػ إذا
كاف النوـ قد طار مف أجفاني ،لكني شعرت بحاجة ماسة ألف أكوف وحدي ،توجيت إلى غرفتي فوجدت ىاني
ما زاؿ نائما ،ألقيت نفسي عمى السرير ،ورحت أفكر في ىذه الطفمة المسكينة التي كانت والشقاء توأميف في
رحـ واحد..
وانتبيت لياني وىو يتقمب عمى فراشو ،ثـ ما لبث أف أفاؽ وقاؿ وىو يفرؾ عينيو بظاىر سبابتيو:
ػ نمت كثيرا؟..
ػ اسأؿ نفسؾ..
ػ ىؿ مف جديد؟
ػ طفمة لقيطة.
سأؿ وقد توقفت أصابعو عف العبث بشعره:
ػ ماذا؟..
ػ طفمة لقيطة وجدت عند الفجر ممقاة في حديقة جامع اإلخبلص القريب مف ىنا..
قاؿ وىو يعاود االستمقاء:
ػ يبدو أف أميا غير مدربة!..
ػ مدربة؟!..
ػ أقصد أنيا ال تتقف فنوف منع الحمؿ..
ػ ما الذي أودى بنا إلى ىذا االنحدار؟..
ػ ما أدراني ..أنا ال أفكر في األسباب مثمؾ ،أكتفي بالسماع..
خالي محاـ ،وأنا مغرـ بحكاياتو البوليسية..
قمت وقد غاظني البرود الذي استقبؿ بو ىاني الخبر:
ػ ىؿ يكفي أف تستمتع بما يحدث؟..
ػ ماذا نفعؿ؟
ػ ىذا يحيرني!
قاؿ وىو ينفض عنو الغطاء:
ػ يبدو عميؾ التعب ،خذ قسطا مف النوـ..
ػ ال أشعر بالنعاس..
ػ لماذا أنت ميموـ ىكذا؟..
ػ منظر الطفمة المقيطة يعذبني..
ػ تبدو روما نسيا ىذا الصباح!..
ػ أنت لـ ترىا يا ىاني..
ػ وال أريد أف أراىا ،ىذه الحوادث تبعث في نفسي القرؼ..
ػ ما يحيرني أف عمر الطفمة يبمغ بضعة شيور ،يزيد عف أربعة شيور..
ػ أربعة شيور؟! الحكاية فييا َّ
(إف)!..
َّ
(اإلف)؟.. ػ أريد أف أعرؼ ىذا
قاؿ ىاني وىو يبتسـ:
ػ فضولؾ الجارؼ يدىشني ،دائما تريد أف تعرؼ كؿ شيء..
ػ وأنت؟ ..أال تريد أف تعرؼ؟!..
ػ أنا يا صديقي أحب المعمومات الجاىزة ،قصة في رواية ،تحقيؽ في صحيفة ،دراسة في مجمة ،أمي تقدـ لي
الفواكو دائما مقشرة ،والجامعة لـ تكمفنا يوما بإجراء بحث أو دراسة ،دائما تطالبنا بحفظ المعمومات..
ال أدري مف تسربت إليؾ لوثة البحث والتنقيب؟ ،لعمؾ مف أحفاد الرازي أو ابف سينا!..
ضحكت رغما عني ،كبلـ ىاني فيو ظرافة وعمؽ ،وسمعتو يقوؿ:
ػ حاوؿ أف تنسى يا صديقي ،فبل شيء في ىذه الحياة ييـ..
أجبتو وأنا ساىـ:
ػ ال أصدؽ أنؾ تعني ما تقوؿ!..
الفصؿ السادس
جاءت الساعة الثامنة صباحا ،وانتيى وقت نوبتنا ،فارتديت مبلبسي استعداد لمغادرة المستشفى بصحبة ىاني.
قاؿ ىاني مداعبا:
الفصؿ السابع
قاؿ ىاني متذم ار وىو يدير المفتاح في المحرؾ:
ػ لقد تأخرت ،يبدو أف أحاديثكما كثيرة ىذه األياـ..
ػ أحاديثنا؟! ..مف تقصد؟!..
ػ أنت تعرؼ مف أقصد..
ػ الدكتورة أحبلـ؟
ػ أجؿ ..إنيا ميتمة بؾ!..
ػ حقا؟!..
إلي نظرة خاطفة ثـ تابع قائبل ،وىو يرقب الطريؽ أمامو:
نظر َّ
ػ يعني لـ تبلحظ!..
ػ الدكتورة أحبلـ ميذبة ولطيفة مع الجميع..
قاؿ ىاني وىو يمسؾ بطرؼ شاربو الكثيؼ الذي ييتـ بو كثي ار:
ػ أحمؽ شاربي ىذا إف لـ تكف قد الحظت..
ػ ماذا تريد أف تقوؿ؟..
ػ أريد أف أقوؿ مبروؾ..
ػ عمى ماذا؟..
ػ لقد أحسنت االختيار..
ػ ىاني ..أنت تتسرع في فيـ األمور.
تنيد ىاني متحس ار ،وقاؿ بنبرة باردة:
ػ ستكوف غبيا إذا خسرتيا..
ػ مف ىي حتى أخسرىا؟..
ضحؾ ىاني ضحكة غريبة ،وىو يحممؽ باألفؽ الممتد أمامو ،عبر نافذة السيارة األمامية ،ثـ قاؿ وىو يفخـ
الكممات كالساخر ،مستعينا بحركة يده وتعابير وجيو الممتعض:
ػ إنيا الدكتورة أحبلـ ابنة الممياردير عبد الغني الذىبي ..شركات وصفقات وعقارات وأرصدة ىائمة في البنوؾ..
ماؿ وجاه وقوة ونفوذ..
حاكـ ببل حكومة ،وممؾ ببل تاج ..أو كما يسمي نفسو اإلمبرطور!..
إلي متيكما وقاؿ:
ثـ التفت ىاني َّ
ػ ألـ تسمع باإلمبروطورية الذىبية؟
ابتسمت وقمت:
ػ معمومات ميمة! ..مف أيف حصمت عمييا؟
ػ تحريات خاصة..
ػ لعمؾ فكرت بالزواج منيا..
ػ ورفضت؟
ػ رفضت! ..ىؿ تقدمت إلييا ورفضت؟!..
ػ أجؿ ،فأنا ال أليؽ ببنت السمطاف..
ػ ىذه األسرار تنشر ألوؿ مرة.!..
ػ ال تقؿ بأنؾ ال تعمـ ،البد أنيا قد أخبرتؾ..
خرجت عف طوري قميبل ،وقمت معاتبا:
ػ ىاني أنت تتصور أمو ار غريبة ال وجود ليا إال في خيالؾ ،أنت تعمـ أني شديد التحفظ في تعااممي مع الجنس
اآلخر ،أرجوؾ أف تنظر إلى األمور بمنظار آخر..
إذا كنت قد سمعت منى تحوىا بعض الثناء واإلطراء فيذا ألنيا تستحقو ،وليس مناورة ألحيطيا بشباكي ،
الدكتورة أحبلـ بالذات ال أستطيع إال أف أكوف لطيفا معيا ،ألنيا تعاممني معاممة طيبة ،وتبدي نحوي كؿ
احتراـ..
ىتؼ ىاني وكأنو أمسؾ دليبل عمى أوىامو:
ػ ىا أنت تعترؼ ،في عبلقتكما شيء أكثر مف الزمالة ،ىناؾ خيط مف الود والتفاىـ المستور باالحتراـ..
قمت وقد نفذ صبري عمى اتياماتو:
ػ ىاني أرجوؾ ،لقد ضقت ذرعا بيذا النقاش ،أنت متوتر بعض الشيء لظروؼ قد ال أعرؼ تفاصيميا ،حاوؿ
أف تتخمص مف أوىامؾ حتى ال تعكر صفو ما بيننا..
ماؿ ىاني بسيارتو إلى جانب الطريؽ ،فأوقفيا ،ثـ ألقى برأسو عمى المقود في ىددوء حزيف ،واستمر كذلؾ
إلي وقاؿ في ندـ:
برىة ،ثـ التفت َّ
ػ صبلح إني أعتذر ،ىؿ تقبؿ اعتذاري؟
قمت وأنا أشد بكفي عمى كتفو مواسيا:
ػ لست مضط ار لبلعتذار ،أستطيع أف أتفيـ موقفؾ..
استرخى ىاني عمى كرسيو ،واستسمـ لتيار مف الكآبة ،ثـ ىمس بنبرة حزينة:
ػ نعـ ،مف الصعب أف تجد نفسؾ مرفوضا مف فتاة أحبلمؾ التي اخترتيا لتكوف شريكة لؾ في الحياة ،ال أخفيؾ
،لقد زلزلتني الصدمة ،وقوضت أحبلمي ،لشد ما أنا حزيف..
قمت في محاولة لمتخفيؼ عنو:
ػ ىاني تماسؾ ،أحبلـ ليست الفتاة األخيرة في العالـ..
ػ تصورت أف فتاة غنية مثميا البد أنيا تبحث عف شاب ثري مثمي ،والسيما أننا زميبلف في اختصاص واحد!..
ػ العواطؼ ال تخضع لحسابات العقؿ..
ػ ما آلمني أنيا ىي التي رفضتني!..
ػ ووافؽ أبوىا؟..
ػ قالت :إني أحترمو كأخ وزميؿ ،لكني أعتذر عف الزواج منو.
ػ حاوؿ أف تنساىا..
ػ أحاوؿ..
ػ ابتسـ اآلف..
إلي قائبل:
أضاءت مبلمحو نصؼ ابتسامة ،وغاب برىة في صمتو ،ثـ التفت َّ
ػ سأكوف سعيدا لو فزت بيا أنت..
ػ ىاني ،دعنا مف ىذه الحديث..
تابع ىاني وكأنو لـ يسمع رجائي:
عمي..
ػ أنا أعمـ أف أحبلـ ستذىب إلى غيري ،وأنت اإلنساف الوحيد الذي أرضى أف تفضمو َّ
ألنؾ أفضؿ مني فعبل..
شعرت بالخجؿ أماـ بوح ىاني وتواضعو الفريد ،وىزني إخبلصو مف األعماؽ ،ىمست في حياء:
ػ ىاني أرجوؾ ،ال تكرر ىذا الكبلـ عمى سمعي بعد اآلف..
ربت ىاني عمى كتفي ،ثـ أدار المفتاح ،وانطمؽ بسيارتو في ىدوء ،وقد راف عمينا صمت مفعـ بالمشاعر
الرقيقة..
ما حيرني فعبل ىو كتماف ىاني لميمو إلى أحبلـ عني ،وىو الذي ال يخفي عني س ار مف أس ارره!..
ىاني كاف يحبيا منذ زمف بعيد؟ أـ أف قرار مرتجبل دفعو إلى خطبتيا فجأة؟..
أحيانا ال أستطيع أف أفيمو! ..إنو شاب مزاجي ،لكنو طيب جدا ،أطيب شاب عرفتو في حياتي..
وداىمني سؤاؿ..
ىؿ أصبح اىتمامي بأحبلـ ،واىتماميا بي واضحا إلى الحد الذي جعؿ ىاني يفصح عف غيرتو مني..
وأنا أعز أصدقائو وأقربيـ إلى نفسو؟..
األشياء الكبيرة دائما تبدأ بسؤاؿ!..
الفصؿ الثامف
ضحؾ األستاذ سعيد وقاؿ وىو يسترخي بجسده فوؽ كرسيو الجمدي الدوار:
ػ ىؿ تقوماف حقا بحؿ لغز ىذه الطفمة؟
إلي:
حاوؿ ىاني أف يبرئ نفثو وقد أحس في كبلـ األستاذ سعيد سخرية مف خطوة كيذه ،قاؿ وىو يشير َّ
ػ إنو الدكتور صبلح ،ىو صاحب الفكرة..
كرر األستاذ سعيد سؤالو لي كمف فوجئ بمعرفة شيء ال يتوقع:
ػ ىؿ أنت ميتـ فعبل بحؿ لغز الطفمة إلى ىذا الحد يا دكتور صبلح؟
قمت وأنا مندىش لمسؤاؿ:
ػ نعـ ىؿ ىي ذلؾ خطأ؟
فرقعت ضحكة األستاذ سعيد في أرجاء الغرفة األنيقة ،ثـ قاؿ وىو يعبث بيده في جيوبو باحثا عف شيء:
ػ ال أصدؽ..
ػ ما الذي ال تصدقو؟
ال أصدؽ أف في شباب اليوـ مف يفكر مثمؾ ،كنت أظف أف زماننا قد انتيى ،ولكف..
ىا أنت تذكرني بشبابي..
ىمست في حيرة :
ػ أستاذي الكريـ ،أنا ال أفيمؾ!..
عثر األستاذ سعيد عما كاف يبحث عنو ،فأخرج غميونو األسود الفاخر وقاؿ ،وقاؿ وىو يحشو بالتبغ الذي فاحت
رائحتو في أرجاء المكاف:
ػ قصدت أف أقوؿ بأف موقفؾ ىذا ينسجـ تماما مع روح الشباب المتوثبة المشبعة بالفضوؿ ،الشباب المسؤوؿ
المتحمس قضية نبيمة..
شبابنا اليوـ لؤلسؼ مصاب باإلحباط المزمف ،ومف أخطر أعراض ىذا المرض البلمباالة التي ينظر بيا شبابنا
إلى األمور واألحداث التي تجري حولنا ،وأنت يا دكتور صبلح ظاىرة صحية مبشرة..
عندما كنت في سنؾ كنت ىكذا مثمؾ ،تثيرني األحداث ،وتدفعني لممبادرة ،كنت أحب أف يكوف لي موقؼ مف
كؿ حدث ميما كاف صغي ار ،وكنت أحب دائما أف أترجـ الموقؼ إلى فعؿ..
قاؿ ىاني ،وقد أحب أف يشممو األستاذ سعيد بمدحو:
ػ في الحقيقة ،لقد أثارنا لغز الطفمة المقيطة ،وأثرت فينا قصتيا المحزنة ،فأتينا نطمب مساعدتؾ في معرفة
األشخاص الذيف يقفوف وراء ىذه الجريمة..
قاؿ األستاذ سعيد في صراحة تشؼ عف مدى العبلقة الحميمة التي تربطو بوالد ىاني:
ػ اسكت أنت ،أنت انتيازي كأبيؾ ،منذ قميؿ كنت تتب أر مف اىتمامؾ بالطفمة ،وىا أنت تدعي اآلف أف لغز
الطفمة قد أثارؾ وحدا بؾ ألف تحضر إلى ىنا!..
أقطع ذراعي إف لـ يكف الدكتور صبلح ىو الذي قادؾ إلى ىنا..
ابتسمت لكممات األستاذ سعيد التي ال تخمو مف الدعابة ،وأدركت أنو إنساف ذكي قد عركتو التجارب وحدت
نظرتو لمناس..
سأؿ األستاذ سعيد ىاني وعمى شفتيو ابتسامة ماكرة:
ػ أما زاؿ أبوؾ صديقا لوزير التمويف والتجارة؟
ػ نعـ ،عبلقتيما طيبة كما تعرؼ!..
ػ قؿ ألبيؾ أال يسرؼ في الوالئـ ،فمعالي الوزير عمى وشؾ اإلقالة ،ىناؾ تعديؿ وزاري سوؼ يشممو عما
قريب..
ابتسـ ىاني في خبث والذ بالصمت ،إنو يدرؾ ما رمى إليو األستاذ سعيد ،فقد حدثني كثي ار فيما مضى عف
التكتيكات الوصولية التي يتبعيا أبوه مف أجؿ تطوير أعمالو التجارية ،والعبلقات الحميمة التي يسعى إلقامتيا
مع المسؤوليف طمعا بمساعدتيـ..
قاؿ األستاذ سعيد بعد أف أرسؿ تنييدة طويمة:
ػ ىذا زماف مختمؼ ،زماف عجيب ينطوي عمى تناقضات صارخة مثيرة ،في ىذا العصر الذي نعيشو ليس ىناؾ
مكاف لمحقيقة ،ال قيمة لممبادئ والمثؿ ،ال معنى ألف تكوف إنسانا..
ثـ بعد ابتسامة ساخرة:
ػ ألنؾ إذا أردت أف تكوف إنسانا فستكوف اإلنساف الوحيد وسط مجتمع مف الذئاب..
لكنو استدرؾ فجأة وقاؿ:
ػ ال أقصد أنؾ اإلنساف الوحيد ،أبدا ..فمجتمعنا ال يخمو مف النماذج الخيرة الرفيعة ،بؿ عنيت إنؾ إذا أردت أف
تكوف إنسانا نبيبل ،فسوؼ تبدو غريبا ،سينظر إليؾ المجتمع وكأنؾ كائف عجيب قادـ مف عالـ منقرض ،
ستكوف منبوذا ال يكاد يمتفت إليؾ أحد ،وستعيش غربة قاتمة..
وليت األمر يقؼ عند ىذا الحد! ..إذف لياف األمر ،لكف المصيبة أف الناس لف يتركوؾ في وحدتؾ تمارس
النظافة التي ترتاح إلييا ،بؿ سيمومونؾ ويثبطونؾ ويحذرونؾ مف مسمؾ النبيؿ ،ألف قدرتؾ عمى السمو ستعرييـ
وتكشؼ ضعفيـ ،سيتيمونؾ بالسذاجة والمثالية الفارغة..
ىكذا نحف اليوـ ،نسمي النبؿ والتطوع واإلحساس باآلخريف وااللتزاـ بالقيـ مثالية فارغة ،وتطمؽ عمى ىذا النوع
مف السموؾ "التعامؿ الرومانسي مع الواقع"..
أنا صرت أكره كممة الواقع ىذه ،لقد أصبحت تعني اليزيمة ،تعني االستسبلـ ليذا لفساد الذي يجتاحنا
كالطوفاف..
التفكير الواقعي قاموسنا المموث أصبح يعني االنصياع لمواقع المريض ،واتخاذه مقياسا لمسموؾ والتصرؼ ،صار
يعني أف تكوف كما يريد ىذا الواقع ال أف يكوف الواقع كما تريد..
حتى تكوف واقعيا في ىذه األياـ يجب أف تكوف (شاطرا)(..ممحمحا)(..فيمويا )..يجب أف تكوف ذئبا ..نعـ ،فيذا
العصر عصر الذئاب!..
كاف األستاذ سعيد يتحدث بم اررة ،وصمت لحظة ثـ تابع ،وىو ييز غميونو الذي كاف يحتضنو داخؿ قبضة يده
اليسرى:
ػ صار لي في ىذه المينة أكثر مف أربعيف عاما ،أربعيف عاما وأنا أراقب المجتمع ،وأسجؿ مبلحظاتي عميو ،
كنت أالحظ بداية االنييار وأقاوميا بقممي ،عاصرت االنييارات واليزائـ الكبرى التي تعرضت ليا األمة ،فوقفت
أعري أسبابيا وأحذر مف آثارىا ،كنت أؤمف أف الحياة موقؼ ،وكانت مواقفي واضحة صريحة..
ثـ ماذا كانت النتيجة؟ حاربتني الدنيا ..حاصرني الجوع ..خنقتني الغربة وذات يوـ تقيقرت ،وقعت أسي ار لميأس
،فكسرت سيفي وركعت ..وأجرت قممي ،وصرت أكتب ما أريد وما ال أريد ،وأصفؽ لمجميع..
كاف في كبلـ األستاذ سعيد نوع مف البوح ..شيء مف كاالعتراؼ ،وتأممت الشيب الذي توج رأسو ،فأدركت أف
تحت كؿ شعرة بيضاء قصة حزينة ،أو تجربة مريرة ،وشعرت بالرثاء لرجؿ يروي قصة سقوطو أماـ التحديات..
"ىؿ يمكف أف تكوف ىذه نياية المخمصيف؟!"..
شعرت بالفزع مف أماـ ىذا التساؤؿ الذي داىمني فجأة ،وأنا أنصت لؤلستاذ سعيد وىو يتابع بوحو المثير:
ػ لقد انتيى عصر المثؿ والمبادئ والقيـ العظيمة ،وبدأ عصر مختمؼ ،عصر يحكمو قائد واحد اسمو الدوالر..
كمنا نميث وراءه ونصفؽ لو بإعجاب ،إنو الوثنية الجديدة التي استعبدتنا وألغت عواطفنا وجردتنا مف القيـ..
أنا لو كنت اآلف مكانؾ لما ىزتني حادثة ىذه الطفمة! ..عفوا ..أنا لست متبمد الحس ،أرجو أال تفيمني خطأ..
لكف ،ما أردت قولو أف أطفالنا اليوـ يدمروف بألؼ طريقة ،وىذه الطفمة ليست أسوأىـ حظا..
ماذا تقوؿ مثبل في أطفاؿ يموتوف جوعا في الصوماؿ أو العراؽ؟..
ماذا تقوؿ في أطفاؿ تزىؽ أرواحيـ في األرحاـ بعمميات اإلجياض الظالمة التي يجرييا أطباء أقسموا اليميف
الطبي المغمظ؟..
ماذا تقوؿ في جيؿ كامؿ تدمره األفبلـ والمسمسبلت اليابطة ،ويستيمؾ فكره وابداعو الفف الرخيص؟..
ماذا تقوؿ في آباء وأميات يتركوف أطفاليـ لمخادمة الغربية مف ىنا وىناؾ ،مف أدؿ أف يستمتعوا بأوقاتيـ في
حفبلت الميو والثرثرة والمتعة الزائفة؟..
أطفالنا اليوـ يا دكتور يربييـ جيمة سريبلنكا والفمبيف..
ثـ أرسؿ تنييدة ساخرة وقاؿ:
ػ ماذا تقوؿ في أـ تحرـ طفميا مف حميب ثديييا الطبيعي خوفا عمى نيدييا مف الذبوؿ؟ ..إنيف يبعف الطفولة مف
أجؿ لحظة إغراء ..مف أجؿ كممة إطراء ..ىذا ىو البغاء الجديد الذي نمارسو اليوـ بعد أف أصبح جماؿ الجسد
عندنا قبؿ سبلمة الروح..
وأنت تعرؼ أكثر مني يا دكتور عف أىمية حميب األـ ألرواح األطفاؿ وأجسادىـ..
ومرت ىنيية صمت ،غاب األستاذ سعيد خبلليا في شرود عميؽ ،ولـ يمبث أف قاؿ:
ػ لقد ضاؽ بنا ىذا العالـ عمى رحابتو! ..ضاؽ بنا ولـ يعد يتسع لزفراتنا األليمة..
وأردؼ بنبرة ألـ:
ػ أحيانا أتمنى أف أصرخ ،أف أنزؿ إلى الشارع وأىتؼ كالمجانيف ،أللفت العالـ إلى تناقضاتنا الصارخة الغبية..
إلي وقاؿ كالمستدرؾ:
ثـ التفت َّ
ػ أنت يا عزيزي حزيف مف أجؿ طفمة تخمى عنيا أبواىا ،وتبنتيا الييئة االجتماعية ،حسنا ،لنقؿ إف ىذه الطفمة
ستعيش يتيمة وتشؽ طريؽ حياتيا متأقممة مع ىذه الحقيقة ،لكف..
ماذا عف أطفاؿ ينضجوف وسط جحيـ األسرة ،عندما تفقد األسرة إلى روح الحب والتفاىـ التي تبعث فييا
الحياة؟ ..يناموف عمى صراخ آبائيـ وأمياتيـ ،ويستيقظوف عمى صوتيـ اليادر بالشتائـ والمعنات..
ماذا عف أطفاؿ يربييـ آباء وأميات ال يعرفوف معنى التربية السميمة وال طرائقيا؟ ال يعرفوف مف التربية إال القمح
المرىؽ أو الدالؿ المفسد..يتبوءوف مقاعد األبوة واألمومة وىـ ال يعرفوف عف الزواج سوى أنو إطار المتعة الحبلؿ
،ووسيمة لمتناسؿ واإلنجاب..
ووسائؿ إعبلمنا غافمة عف ىذه األمراض المدمرة ..ال تكاد تجد فييا برنامجا أو حتى توجيا لتثقيؼ اآلباء ،أو
تربية األبناء..
وأطمؽ األستاذ سعيد آىة عميقة وشت بالكرب ،وقاؿ كمف يخاطب نفسو:
ػ لكـ ترىقني الحقائؽ! ..تجثـ عمى صدري كالكابوس ،تنشب أظافرىا في نفسي ،وكأني أنا الجاني الوحيد..
أي عالـ ىذا الذي نعيش فيو؟!..
ثـ صمت األستاذ سعيد ،وقد اعترتو كآبة واضحة ..تبادلت أنا وىاني نظرة حائرة ،ثـ عدنا بأعيننا إليو ،تبوح
نظراتنا بميفتنا لسماع بقية الحديث ..تستحثو أف يتابع سرد خبلصة تجاربو العميقة ،لكف األستاذ سعيد أوغؿ في
الصمت ،واغتسمت نظراتو الشاردة بأنداء مف الدمع..
تساءلت في سري عف المعنى الذي يختفي وراء ىذا الصمت الحزيف ..لكف األستاذ سعيد خرج عف صمتو فجأة
ليروي لنا قصة مؤلمة مف القصص التي عاصرىا أثناء حياتو الصحفية الحافمة..
قاؿ األستاذ سعيد وىو يعيد إشعاؿ النار في غميونو األنيؽ:
منذ سنوات ،أبمغني محرر صفحة الحوادث بأف طفمة صغيرة قد وجدت مغتصبة ومقتولة في بناء ميجور..
صعقني يوميا النبأ..
مف ىذا الوحش الذي يجرؤ عمى قتؿ طفمة؟!! ..قمت لو" :أعطني العنواف ..سأغطي ىذا الحادث بنفسي"..
وعرفت المحقؽ بنفسي ،وسألتو
أردت أف أعرؼ مبلبسات ىذه الجريمة الغريبة! ..وصمت إلى مكاف الحادث َّ ،
أف يريني الجثة..
رفع الضابط الغطاء عف جثة الطفمة ،فصدمني منظر فظيع ال أنساه! ..ىؿ رأيت الورد عندما يداس؟..
كانت طفمة وديعة ..جميمة كالزىر ..بريئة الطيؼ ..رقيقة كالنسمة ..طاىرة كالندى ..عمى شفتييا أشبلء
ابتسامة..
تجمدت نظراتي الثائرة عمى الجسد الغض الذي سحقو المجرـ تحت جسده القذر ،وأججت ثورتي تمؾ الدماء
الطاىرة التي كانت تغرؽ الطفمة ،وشعرت بالغثياف وأنا أرى أبشع صورة لبلنحطاط البشري..
كاف الغضب يغمي في عروقي كالبركاف ..نظرت إلى المحقؽ فمـ أجده أحسف مني حاال ،قاؿ لي وكأنو يجيب
عف سؤاؿ نطقت بو مبلمحي الشاحبة :لقد تـ اغتصابيا بوحشية ،والتقديرات األولى تشير إلى أنيا ماتت بسبب
النزيؼ الميبمي الحاد الذي خمفو االغتصاب الغادر..
سألتو :والجاني؟ ىؿ عرفتـ الجاني؟!..
أجاب وىو ييز رأسو في أسؼ :مازاؿ مجيوال ،لكننا نأمؿ أف يتـ اكتشافو عما قريب حتى يناؿ العقاب
المناسب..
قمت لو :تقصد اإلعداـ!..
أجاب :ىذا شيء تقرره المحكمة..
قمت لو وأنا في ذروة الغضب :إذا لـ تعدموه أنتـ ،فسأقتمو بنفسي مع سبؽ اإلصرار والترصد ،كف شاىدا عمى
ىذا الكبلـ..
عمي مف ثورة الغضب والحزف ،وظف أف كبلمي عف انفعاؿ طارئ ولِّده منطر ابتسـ المحقؽ يوميا ،وأشفؽ ِّ
الطفمة القتيمة ،لكني أؤكد لكما أني لـ أكف جادا في حياتي مثمما كنت جادا في تمؾ المحظة..
ثـ دار األستاذ بكرسيو ربع دورة ،وقاؿ:
ػ بعد أياـ اكتشفوا الجاني ،كاف واحدا مف شباب الحي ،شاب عاطؿ عف العمؿ ،يقضي وقتو متسكعا في
الطرقات ،يتردد عمى دور السينما اليابطة ليأخذ جرعت عالية مف اإلثارة وحمى الجنس ،ثـ يخرج منيا كالكمب
المسعور ليبلحؽ ىذه ويعتدي عمى تمؾ..
ذات يوـ كاف ىذا الشاب يتجوؿ في أزقة الحي كعادتو ،فداىمو المطر فجأة ،فمجأ إلى عمارة قريبة قيد اإلنشاء
ليحتمي مف األمطار الغزيرة التي انيمرت بشدة..
راح يتسمى بتدخيف سيكارة حشيش ،فمعب المخدر برأسو ،فانفصؿ عف عالـ الوعي ،وغاص في الوىـ والزيؼ ،
فماعت في خيالو األفكار والمدركات ،واختمطت ،وتحولت إلى ىبلـ ,وتربع عمى عرش النشوة الكاذبة ،فتراءى
لو الكوف وىو يركع عند قدميو..
ورأى ىذا المأفو الطفمة البريئة وىي تركض تحت المطر باحثة عف ممجأ ،وقد التصقت ثيابيا المبممة بجسدىا
الغض ،فبدت لو غانية حسناء كالمواتي أدمف عمى مشاىدتيف في األفبلـ الرخيصة المسمومة ،فبدد الدخاف
األزرؽ إرادتو ،وحرؾ غرائزه الكامنة ،فعربدت في أعماقو رغبة بييمية مجنونة ،وسولت لو نفسو السوء ،فدعا
الطفمة لتموذ بالمكاف الذي يحتمي بو مف المطر ،فاستجابت الطفمة المسكينة لدعوتو ،دوف أف تفيـ ما يراد بيا..
كاف وعييا ما زاؿ غضا لـ ينضج بعد ،كانت تنظر إلى العالـ ببراءة ،خياليا الصغير ما زالت أجنحتو ضعيفة
ال تقوى عمى الطيراف بعيدا في فيـ نوايا الناس ونزعاتيـ ،خياليا الطاىر لـ يتخط بعد أسوار الخير ،وحدود
الفرح ،ليحمؽ فوؽ مساحات الشر التي تتسع في النفوس المريضة عندما تفقد إنسانيتيا وأصالتيا..
وانقض الوغد عمييا كالوحش ،وافترسيا ببييمية منقطعة النظير..
كانت الفتاة تصرخ وتستغيث ،وىي ترى اإلنساف الوديع الذي يشبو أباىا وأخاىا يتحوؿ إلى ذئب مفترس ،
وضاعت صرخاتيا بيف ىدير الرعد وطرقا المطر ،وبدأت أفراحيا تنزؼ رويدا ...رويدا ،حتى ذوت منيا الروح
،وخبت ،وفارقت الحياة..
وعاد األستاذ سعيد إلى صمتو يحممؽ في المجيوؿ ،وترؾ العناف لدموعو الصامتة لتغسؿ نظراتو الزائعة
الكئيبة..
كاف في نظراتو حزف وثورة ،وغضب متوقد كالنار ،واجتاحتنا كآبة فظيعة ونحف نصغي ألبشع قصة يمكف أف
تدنس األسماع..
سألت األستاذ سعيد وأنا في ليفة لمعرفة نياية ىذا المجرـ:
ػ ىؿ أعدموه؟
أجاب األستاذ سعيد وىو ذاىؿ:
ػ نعـ ،كانت جريمة بشعة ىزت الرأي العاـ ،وكانت الظروؼ المحيطة بالقضية تحكـ حبؿ المشنقة حوؿ رقبتو ،
فأعدـ في ميداف عاـ ليكوف عبرة لغيره مف الشاذيف والمنحرفيف..
ثـ ارتسمت عمى شفتي األستاذ سعيد ابتسامة ساخرة ،قاؿ وىو يتذكر:
ػ حرصت عمى حضور كؿ جمسات المحكمة التي مثؿ أماميا ذلؾ المجرـ ،كنت أحاوؿ دراسة ىذه الشخصية
المنحرفة ،ورصد المدى الذي وصمت إليو الجريمة في ببلدنا ،وكاف مما أثار غيظي في ىذه المحاكمة ذلؾ
المحامي الذي وقؼ ليدافع عف المتيـ ،ويطالب المحكمة أف ترأؼ بحالو ،وتقدر دور الفراغ والبطالة في
الجريمة ،واتكأ عمى سيجارة الحشيش ليخفؼ الحكـ عمى المتيـ ،مدعيا أنو كاف مدفوعا إلى جريمتو تحت تأثيؤ
المخدر الذي لعب بعقمو وشؿ عنده القدرة عمى التمييز..
وعندما انتيت المحاكمة وصدر الحكـ باإلعداـ عمى المجرـ ،سألت ذلؾ المحامي" :كيؼ سمح لؾ ضميرؾ بأف
تدافع عف ىذا الوغد؟" استغرب المحامي سؤالي وسألني عف اسمي وصفتي ،فعرفتو بنفسي..
فضحؾ ساخ ار وقاؿ " :أنت؟" قمت لو ":نعـ ،قؿ يبدو اسمي مضحكا إلى ىذا الحد؟" قاؿ":ال ،أبدا ،فقط
فاجأني سؤالؾ! ".نظرت إليو مشدوىا ،وقد أثارني تصرفو ،فسارع يقوؿ":في الماضي يا أستاذ كنت أق أر مقاالتؾ
بشغؼ ،وأعجب بصراحتؾ وحماسؾ ،لكني لـ أعد ألمس بمؾ الروح في مقاالتؾ األخيرة! لـ تعد تكتب يا
عزيزي ما تريد"..
ثـ أردؼ وىو يرمقني بخبث:
ػ "بيف المحامي والصحفي يا صديقي شبو واضح ،كبلىما يضطراف أحيانا لمدفاع عف الباطؿ مف أجؿ لقمة
العيش".
ىز األستاذ سعيد رأسو في م اررة ثـ امتص بعض الدخاف مف غميونو ،ونفثو كمف يزفر مف شدة األلـ ،وقاؿ:
ػ "كاف المحامي ذكيا ،صفعني بكمماتو ،ومضى ،وتركني فريسة لمذىوؿ! ..منذ ذلؾ التاريخ كسرت أقبلمي
وألقيتيا في بحر اليأس واليزيمة ،امتنعت عف كتابة مقالي اليومي ،وحولت صحيفتي إلي صحيفة حوادث
وقصص وتسميات ،صرت أنقؿ اخبار الفنانيف وأسعى وراء النجوـ ،خصصت صفحة لمتعارؼ ،وأخرى لمبحث
عف النصؼ اآلخر ،وثالثة لؤلبراج ،رابعة لؤلزياء وخامسة آلخر الصرعات ..وآلمني أف الناس أقبموا عمى
جريدتي بعد أف كانوا زاىديف فييا ،وارتفعت مبيعاتي مف خمسة آالؼ إلى خمسيف ألفا"...
كاف كبلـ األستاذ سعيد صريحا صادقا ،وكاف يقطر م اررة وألما ،وكأنو حديث إنساف ينعى نفسو ،ويعمف
ىزيمتو بشجاعة نادرة..
وتساءؿ ىاني كالمازح:
ػ أيؤلمؾ يا سيدي أف يقبؿ الناس عمى جريدتؾ؟
ابتسـ األستاذ سعيد في م اررة وقاؿ:
ػ ما آلمني ىو الحقيقة المرة التي تقؼ خمؼ ىذا اإلقباؿ ،فقد أكدت لي ىذه التجربة أننا أمة ىاربة ،ترىبيا
الحقائؽ ،وترىقيا الصراحة ،نحف مجتمع ال يريد أف يواجو نفسو ،يخشى أف يرى وجيو في المرآة حتى ال
تفجعو التشوىات الدميمة التي تتسع مساحتيا فينا يوما بعد يوـ ،نحف مجتمع يريد أف يبقى مخد ار نائما مغمض
العيوف ،مجتمع يخشى أف يسترد وعيو ..يخشى أف يصارحو المعالجوف بأنو مصاب بالسرطاف ،أنو بحاجة إلى
جراحة عاجمة الستئصاؿ األوراـ الخبيثة مف جسده المريض!..
ثـ أردؼ األستاذ سعيد بعد صمت قصير ،وىو يمقي نظراتو نحوي:
ػ اطمئف يا دكتور ،صحيح أني صحفي فقد حماسو ،لكني ما زلت إنسانا ،اطمئف سأتعاطؼ مع مشاعرؾ
النبيمة ,وسأنشر لؾ خبر الطفمة المقيطة عدا في الصفحة األولى..
ثـ أرسؿ األستاذ سعيد تنييدة طويمة ،وأغمض عينيو إغماضة مف ألـ بو ألـ حاد اخترؽ جسمو ،ولـ يمبث أف
قاؿ:
ػ أرجوكما أف تتركاني لوحدي اآلف ،فقد أثارت زيارتكما في نفسي شجنا كنت أظف أني قد برأت منو!..
كاف طمب األستاذ سعيد مفاجئا وغريبا ،أوحى لي بعمؽ الغربة التي يحياىا..
شكرناه ،وغادرناه في ىدوء ،تطاردنا تمؾ الصورة المخيفة التي رسميا لنا ليذا العصر الرديء..
قاؿ ىاني وىو يتأبط ذراعي:
ػ ىذا اإلنساف يخيفني..يرسـ أمامي صورة قاتمة لممستقبؿ!..
ػ لكف كبلمو ال يخمو مف الحقيقة!..
ػ عندما يزور ىذا اإلنساف والدي ،أتجنب الجموس مع ،أىرب مف البيت كمو حتى ال أسمع كبلمو ،الأدري
كيؼ سمعتو اليوـ حتى النياية..
قمت وأنا أستذكر كممات األستاذ سعيد:
ػ ألـ يقؿ لؾ األستاذ سعيد؟ ..أنت مف مجتمع ىارب ،ال يريد أف يسمع ،ال يريد أف يعرؼ ،يريد أف يظؿ نائما
مخد ار ممعنا في اليروب..
قاؿ ىاني كاليازئ:
ػ وأنت؟ مف أي مجتمع؟..
ػ أنا أريد أف أعرؼ..
ػ ستتألـ..
ػ األلـ مف عبلمات الحياة..
ػ ستتعذب..
ػ العذاب يزيدنا إحساسا بالواقع ،وتصميما عمى التغيير..
ػ يبدو أنؾ قد أصيب بالعدوى!..
ػ ممف؟
ػ مف سعيد الناشؼ..
ضحكت وقمت:
ػ أنت المسؤوؿ ،أنت الذي عرفتني بو..
ػ لـ أعرؼ أنؾ تستعذب التشاؤـ مثمو..
ػ تشخيص أمراض المجتمع ،والبحث عف أسباب السقوط ليس تشاؤما ،إنو الطريؽ إلى الخبلص..
ىتؼ ىاني في توسؿ وانكار:
ػ رحماكـ أييا المصمحوف ،ىؿ تريدوف مني أف أشخص أمراض المجتمع ،أـ أشخص أمراض الناس؟..
ثـ أردؼ في ضراعة ودعابة:
ػ أرجوؾ ..أرجوؾ يا صديقي المدود ،دعنا مف ىذا الحديث..
وكالعادة ،استطاع ىاني أف يزيؿ بدعابتو الجو الكئيب الذي وضعنا فيو األستاذ سعيد..
ومضينا نثرثر ونمزح ،ونمعف في اليروب...
الفصل العاشر
صدر العدد الجديد مف جريدة األياـ في اليوـ التالي ،ق أر الناس فيو خبر الطفمة المقيطة عمى الصفحة األولى ،
وتناقمت األلسنة قصة ىذه الطفمة البائسة باستنكار ،قاؿ ىاني وىو يقمب صفحات الجريدة:
ػ لقد وفى األستاذ سعيد بوعده ،وأورد الخبر بكؿ تفاصيمو ،وىا ىي الخطة تمضي كما رسمناىا..
ػإذا كانت والدة الطفمة بريئة مستغفمة كما توقعنا ،فسوؼ تأتي إلى ىنا ،لتسأؿ عف طفمتيا ،واال فسوؼ نعود
إلى نقطة البداية..
ػ تتحدث وكأنؾ محقؽ حاذؽ يقؼ أماـ قضية معقدة ،ال أدري كيؼ أقنعتني بيذه المعبة!..
ػ ولماذا أنسحب؟ أنا استمتع بالمعبة ،وأنت تؤدي واجبؾ كما تعتقد ،كبلنا في موقع واحد ،لكف كبل منا ينظر
إلى األمر مف زاويتو..
واستنفرنا لصد كؿ مف يسأؿ عف الطفمة ،وانضمت ِِإلينا أحبلـ ،بعد أف شرحت ليا الغاية مف الخبر الذي
نشرنيا ،ومضى النيار سريعا دوف أف يسأؿ عف الطفمة أحد ،قاؿ ىاني بعد أف انتيى دوامو:
ػ عفوا ،أنا ال ألعب في الوقت الضائع ،تابع ميمتؾ يا بطؿ ،وأخبرني بالنتائج..
ومضى ىاني ،فأشعرني انسحابو بأني أعبث ،وكدت أستسخؼ ما أقدمت عميو لوال أحبلـ التي أبدت تعاطفا
واىتماما ،فقررت أف تمد نوبتيا لتراقب نياية التجربة..
ومضى اليوـ األوؿ دوف أف نظفر بنتيجة ،فشعرت بخيبة مؤلمة ،لكني لـ أيأس ،استقبمت اليوـ التالي بحماس
شديد ،ورحت أترقب حضور األـ لتسأؿ عف طفمتيا ،لكف شيئا مف ىذا لـ يحدث!..
شعرت باإلحراج أماـ ىاني وأحبلـ ،وكؿ الذيف تعاطفوا معي ،وحاصرني شعور مزعج بأني إنساف مبالغ ينخ
االىتماـ في األمور الصغيرة فتكبر وتنو وتتورـ حتى تنفجر ،وتحدث حوليا دويا مزعجا يمفت نحوه األسماع
واألنظار..
عمي بتعميقاتو البلذعة ،يتيمني بالمراىقة تارة ،وبالبحث عف تسمية تارة ،ثـ راح يرثى لحالي ،
وانياؿ ىاني َّ
ويحذرني مف طيبتي الزائدة التي تورطني في مواقؼ محرجة..
وبعد أياـ ،تماثمت الطفمة المقيطة لمشفاء ،وأصبحت حالتيا الصحية تسمح ليا باالنتقاؿ إلى ممجأ األيتاـ..
قالت أحبلـ:
ػ لقد قدمت تقري ار مفصبل عف حالة الطفمة إلى مدير المستشفى ،ليقوـ بتحويميا رسميا إلى ممجأ الحناف لؤليتاـ..
قمت بنبرة آسفة:
ػ ال تؤنب نفسؾ ،أردت أف تقدـ شيئا مفيدا ،فكاف األمر يفوؽ طاقتؾ..
لـ تستطع كممات أحبلـ الرقيقة أف تخفؼ عني ،تركتيا وىي ترمقني في إشفاؽ ،وغادرت المكاف..
ػ إلى أيف؟
ػ كيؼ عر ِ
فت؟
ػ معؾ حؽ..
ومضيت مثقبل بالخيبة ،يجتاحني شعور بالتفاىة ،ولـ تمبث أحبلـ أف استوقفتني مرة أخرى:
ػ عمى فكرة...
ػ ماذا؟
حممقت في األرض ،وتصورت لمحظة كؿ المعاني التي تكمف خمؼ ىذه الزيارة ،أردفت أحبلـ:
سرت في جسد العـ درويش شحنة مف الحماس ،وأشرؽ وجيو بالبشر والحبور ،ىتؼ كالحالـ:
ػ سأربييا أحسف تربية ،وسأدلميا دالال تغار منو بنات القصور ،لكـ أنا في شوؽ إلى األطفاؿ يا دكتور!..
كاف المسكيف يتكمـ بحرقة وأسى ،وأحسست بمسع الحرماف الذي يعانيو ىو زوجتو فقمت أواسيو:
ػ ال تحزف يا عـ درويش لعؿ اهلل قد شاؽ الطفمة إلينا لتقر بيا عينا أنت وزجتؾ..
قاؿ العـ درويش في ليفة طاغية:
أطرؽ العـ درويش وىو ييز رأسو في حزف ،ثـ قاؿ بنبرة تنـ عف ليفتو وأشواقو الممتيبة:
ػ العمر يمضي يا دكتور ،ولـ يبؽ منو سوى القميؿ ،وأنا أريد أف أودع الدنيا عمى صوت طفؿ يقوؿ لي بابا...
بابا ،ماما ...أغنية جميمة تعطر البيوت الحزينة ،وترد إلييا الروح ..أغنية عذبة حرمناىا واشتقنا إلييا..
نريد أف نسمعيا ولو مف طفمة لـ ننجبيا ،وزوجتي يا دكتور صبلح امرأة طيبة ،قدمت لي الحب واإلخبلص وال
أستطيع أف أرفض ليا طمبا ،لقد ولعت بالطفمة وتعمؽ قمبيا بيا ،ويجب أف أحقؽ ليا أمنيتيا ،أرجو أال تفيـ
أني رجؿ ضعيؼ الشخصية أو كما يقوؿ أخي أبو رشيد :رجؿ محكوـ عمى أمري أصغي لكبلـ النساء ،األمر
ليس كذلؾ ،كؿ ما في األمر أني أحب زوجتي وأحترميا وأقد األياـ الطيبة التي عشناىا معا ،أريد أف أقدـ ليا
خدمة تكافئ تضحيتيا مف أجمي ،سأعترؼ لؾ بشيء..
في ،أعرؼ أني الذي ال أنجب ،وىي تعرؼ ،لكنيا امرأة وفية ،رفضت أف ننفصؿ وتتزوج
أنا أعرؼ أف العيب َّ
سني العمر محروميف مف رائحة األطفاؿ ،فحمدنا
غيري ،قالت لي يوميا والدموع في عينييا :لقد قضينا أجمؿ َّ
اهلل ،ورضينا بالمكتوب ،فمماذا تريد أف توقظ الجرح اآلف وقد كاد أف يمتئـ؟د
ومسح العـ درويش دمعة أفمتت منو رغما عنو ثـ أردؼ قائبل:
ػ يجب أف أكافئيا يا دكتور ،أليس كذلؾ؟..
أثار حديث العـ درويش مشاعري ،ىمست وأنا أرنو إليو بانفعاؿ:
ىتؼ في ضراعة:
تناولت رشفة أخرى مف فنجاني الذي كاد أف يبرد ،ثـ قمت موضحا:
ػ جرت العادة يا عـ درويش أف يبقى الطفؿ المقيط مدة في الممجأ حتى تكوف ىناؾ فرصة لمعرفة أبويو الشرعييف
،وقد تصؿ ىذه المدة إلى بضعة أشير ،ثـ يصبح الباب مفتوحا لمف أراد أف يتوؿ رعاية الطفؿ أو تربيتو..
ػ لماذا أنت واجـ؟ لو كاف أىميا حريصيف عمييا لما تخموا عنيا..
ػ نعـ سأسمييا أمؿ ،فيي األمؿ العذب الذي راودنا منذ زمف بعيد..
ثـ راح العـ درويش يردد االسـ وكأنو يختبر وقعو عمى األسماع:
ػ أمؿ ..أمؿ ..يا سبلـ ،إنو أسـ لطيؼ أليس كذلؾ؟ أمؿ سأسمييا أمؿ ،وسألحقيا بنسبي..
ػ لماذا؟
ػ أخدعيا؟ كيؼ؟..
ػ يكفي أف الطفمة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ،وليس مف العدؿ أف تعيش فيو ضحية كذلو ،أف تمحقيا
بنسبؾ يعني أنيا ستنشأ وىي تظف أنؾ أبوىا الحقيقي ،وسيتفتح وعييا عمى ىذا الوىـ ،وفي منتصؼ الطريؽ
تكتشؼ الحقيقة ،وتعرؼ أنؾ لست أباىا الشرعي ،وعندىا ستعيش الطفمة مأساة حقيقية ،ستبلحقيا الشكوؾ
وتحاصرىا التساؤالت ،وتخنقيا األوىاـ..
كف واضحا منذ البداية ،جرعيا الحقيقة رشفة رشفة ،وكف واثقا مف أف حنانؾ وحبؾ ورعايتؾ ليا في الوشيجة
الحقيقية التي ستجمع بينكما ،األنساب وحدىا يا عـ درويش ال تصنع الحب ،الحب ىو الذي يصنع األنساب..
ػ صدقت..
ػ تفضؿ..
قمت في دعابة:
ػ لقد بردت قيوتي قبؿ أنت أنيييا ،وأنا أحب أف أشرب قيوتؾ ساخنة ،كيؼ سنعالج ىذه المشكمة؟..
الفصل الثاني عشر
كفكفت السماء دموع الشتاء ،وأطمت عمى األرض بعيونيا الزرقاء ،كحسناء تحضف العالـ بنظرتيا الصافية
الحنوف ،وأزاحت الشمس بأشعتيا الدافئة بقايا الغيوـ ،وتدلت وسط القبة الزرقاء كالقنديؿ ،وراحت تضيء العالـ
باألفراح..
وبدأ الربيع يزحؼ بيدوء وجبلؿ ،فاستعدت الطبيعة الستقبالو بكؿ ما أوتيت مف فتنة وبياء وجماؿ..
وانضمت حديقة المستشفى إلى ميرجاف الربيع ،فاكتست برداء أخضر ،وزينت صدرىا بالزىور ،واغتسمت
بأريج فواح ،يمؤل النفس ببيجة فريدة ،ويزرعيا باألشواؽ..
وىبت نسائـ األصيؿ ناعمة رقيقة معطرة بعبؽ الطبية ،فأحسست في مداعبتيا المطيفة ىمسا خفيا يدعوني لزيارة
الحديقة الغناء التي تربطني بيا صداقة قديمة..
كاف النيار يتسرب رويدا رويدا مف جعبة الزمف ،فطفقت الشمس المتعبة تمممـ أشعتيا الذىبية استعداد لمرحيؿ ،
وتوىج األفؽ بألواف الغروب الرائعة ،وراف عمى الحديقة ىدوء شامؿ ،وصمت عميؽ..
ألقيت نفسي في أحضاف الحديقة الخضراء ،واسترخيت فوؽ بساطيا العشبي الطري ،كطفؿ يناـ عمى صدر أمو
،وأرسمت نظراتي إلى األفؽ الوردي ،ألمتعيا بموحة األصيؿ الساحرة التي رسمتيا يد القدر في أحسف صورة
وأروع تشكيؿ..
عمي عالمي ليزيده أنسا وبيجة..
لـ تدـ خموتي الحالمة طويبل ،ثمة ىمس رقيؽ اقتحـ َّ
ػ يا لمروعة! ..ىا ىي الحديقة تستعيد جماليا القديـ!..
التفت إلى أحبلـ في ليفة ،وحييتيا بابتسامة ،ثـ عدت بنظراتي إلى الشمس الغاربة وىي تغوص خمؼ األفؽ ،
وأقبمت أحبلـ تقوؿ:
ػ تبدو منسجما مع الطبيعة إلى أبعد حد لكأنكما صديقاف!..
نيضت جالسا ،ثـ قمت وأنا أجوب بنظراتي أرجاء الحديقة الغناء:
ػ الطبيعة عالمي ومبلذي..
ػ سألتني بميجة ال تخمو مف الدعابة:
ػ قؿ تسمح لي باالقتراب مف عالمؾ الجميؿ؟..
ابتسمت لدعابتيا المطيفة ،وقمت:
ػ الطبيعة لمجميع..
جمست أحبلـ عمى كرسي قريب وقالت:
ػ بـ تفكر؟..
ػ أشياء كثيرة..
ػ الطفمة؟..
ػ ممكف..
ػ أمازلت تفكر بيا؟
ػ آلمني أني لـ أستطع أف أقدـ ليا شيئا..
ػ إنما األعماؿ بالنيات..
ػ نعـ نممؾ النوايا الطيبة ،لكنا ال نعرؼ كيؼ نترجميا إلى عمؿ.
ػ عدت تؤنب نفسؾ!
ػ لكـ يعذبني العجز!
ػ لطاقة اإلنساف عتبة ال يممؾ أف يتجاوزىا..
ػ لكنا نممؾ أف نحاوؿ..
حاولت بما فيو الكفاية..
َ ػ
ػ أنسمـ الطفمة إلى الشقاء؟
ضحكت أحبلـ ،وقالت:
ػ تتحدث عف الطفمة وكأنؾ الذي أنجبتيا!
لـ أنبس ،زحفت إلى شجرة قريبة ،واستندت بظيري إلى جذعيا النحيؿ..
قالت أحبلـ وىي ترنو إلى األفؽ:
ػ ليتني أحمؿ ريشتي وألواني..
نظرت إلييا في دىشة:
ػ أتحبيف الرسـ؟
افتر ثغرىا عف ابتسامة عذبة ،وقالت:
ػ أنا رسامة ماىرة ،أال تعرؼ؟
ػ أجيؿ عنؾ الكثير؟
ػ وأنا أيضا..
ػ تجيميف نفسؾ!
ػ بؿ أجيؿ عنؾ الكثير..
عني أنا؟!
ػ َّ
ػ أجؿ ،مف أنت؟
ػ يا لو مف سؤاؿ!
ػ أىو محرج؟
ػ أبدا..
ػ مف أنت؟..
ػ شاب كسائر الشباب..
ضحكت وقالت كالمتوعدة:
ػ ال تفسر الماء بالماء..
إلي ،فأحببت أف أستغؿ الفرصة ألعطييا صورة صادقة
تذكرت مبلحظة ىاني عف اىتماـ أحبلـ بي ،وميمييا َّ
عني ،لتعرؼ مف أنا؟ وما حقيقة ظروفي؟ فبل تتمادى في االقتراب مف شاب قد ال يصمح ليا أو يستطيع
إسعادىا ،وعادت تقوؿ:
ػ إذا كاف سؤالي محرجا فبل تجب..
تنيدت وقمت:
ػ إذا كنت مصرة فبل بأس ..سأقوؿ لؾ مف أنا ..أنا شاب عادي جدا ..شاب مثؿ كؿ الشباب ..لو طموحاتو
وأحبلمو ،ولو ىمومو وآالمو ..قد أكوف جديا أكثر مما يروؽ لمبعض! وقد أكوف متمسكا بالقيـ العميا أكثر مما
صار يطمبو مجتمعنا في شبابو ..أو كما يقوؿ ىاني :أنا (حنبمي) أكثر مف البلزـ ..لكني أعتقد أني طبيعي جدا
،ولست معقدا كما يتيمني ىاني أيضا ،ىذا أنا ببساطة ..أما إذا أردت بسؤالؾ أف تعرفي شيئا عف بيئتي
وأسرتي فمؾ ذلؾ ..لقد ولدت وترعرت في أسرة بسيطة ..ربيا إنساف مكافح كرس حياتو مف أجؿ أبناءه الستة ،
وقضى عمره كالجندي المجيوؿ ..يعمؿ بصمت ليوفر ألسرتو العيش الرغيد ،ويممؾ قدرة عجيبة عمى كتـ آالمو
وأحزانو ،عمى شفتيو دائما ابتسامة وادعة ال تكاد تغيب ،ابتسامة صامدة في أوقات الحزف والفرح ،فعندما يكوف
حزينا يخفي حزنو وراء تمؾ االبتسامة وعندما يفرح يطمؽ العناف البتسامتو لتتسع وتشرؽ وتضيء ..يحب أف
يمارس حزنو سرا ..ضبطتو أكثر مف مرة في حديقة المنزؿ وىو يبكي ،لكني لـ أستطع أف أقترب منو ألسألو عف
سر حزنو ..كنت أتوارى بسرعة حتى ال أشعره بأني قد كشفت ضعفو ،والدي ال يحب أف يبدو أمامنا ضعيفا ،
يريد دائما أف يبدو أمامنا قويا صامدا حتى يشعرنا باألماف ..إنو قدوة لنا في كؿ شيء ،ما نيانا عف منكر قط
ثـ أتى مثمو ،حريص عمى سمعتنا ..حريص عمى سعادتنا ..يضحي بضرورياتو مف أجؿ رفاىيتنا ،ويوجينا
دائما باالبتساـ ..صورة فريدة لمتواضع وانكار الذات مؤلتنا دائما باالحتراـ ليذا األب المكافح الذي يذوب كالشمع
لينير لنا الدروب..
ىذا أبي ..أما أمي ،فيي سيدة طيبة فيمت الحياة عطاء وتضحية ..اتخذت مف أبنائيا الستة قضية نذرت ليا
العمر ،ورصدت ليا أمومتيا الفياضة بالحناف لتروي بيا براعميا الصغيرة ،ثـ راحت ترقبيا وىي تنمو وتنضج
وتستوي عمى عودىا وسط أعاصير الحياة..
فيمت أمي الزواج عمى أنو شراكة ،فتقاسمت مع زوجيا األدوار ،أعتقد أف أمي لـ تتزوج أبي بعد قصة قيس
وليمى ،لكف قصة الحب التي نشأت بينيما بعد الزواج أجمؿ مف قصة قيس وليمى ،وأروع مف حب روميو
لجولييت ،ألنو حب قائـ عمى التضحية واإلخبلص اإليثار ..حب قائـ عمى التكامؿ بيف رجؿ وامرأة ،والدي كاف
بالحب..
ب ,وأمي كانت تكافح داخؿ العش لتفرشو ُ الح ّ
يكافح في الخارج ليمتقط َ
بيتنا بسيط األثاث ،لكف أمي استطاعت أف تصنع منو أثاثا أنيقا متجددا ال تبمى أناقتو مع األياـ ،فإذا جربت أف
تزوري ىذا البيت شدتؾ رائحة النظافة الممزوجة برياحيف الزىور ونباتات الزينة التي تربييا أمي كما تربي أوالدىا
،واذا صادفت زيارتؾ لبيتنا وقت الغداء ،فتحت شييتؾ رائحة األصناؼ المذيذة التي تنيمؾ أمي في صناعتيا
كما ينيمؾ الفناف في تشكيؿ لوحتو ،أنا لست ضد عمؿ المرأة ضمف الشروط االجتماعية المناسبة ،لكني أعتقد
أف البيت الذي ال تخمع عميو المرأة اىتماميا ،بيت ببل روح ..بيت كالبيوت الميجورة التي تصفر فييا الريح ،
وتعيث فييا األشباح..
وانتبيت إلى أحبلـ فوجدتيا ترنو إل َّي بنظرات حالمة أحرجتني ،واشتبكت نظراتنا لمحظة ،فسحبت نظراتي برفؽ
،وأرسمتيا إلى األفؽ ألغسميا بألواف الشفؽ..
قالت أحبلـ وىي تمسد بأنامميا خصبلت شعرىا األشقر المنسدؿ عمى صدرىا كالوساـ:
ػ ال أدري لماذا أتمنى لو كنت أختؾ؟
فاجأتني كمماتيا بكؿ ما تفوح بو مف ود! .ىمست بنيرة تخنؽ باالنفعاؿ:
ػ أنت أختي فعبل يا أحبلـ ،ىؿ تشكيف في ذلؾ؟
أطرقت في حياء ،وتضجرت وجنتاىا بحمرة فاتنة ،ثـ قالت بنبرة كئيبة وىي ترنو بنظراتيا إلى لوحة الغروب:
ػ أما أنا فقد ولدت وفي فمي ممعقة مف ذىب ػ كما يحمو لوالدي أف يعبر دائما ػ ونشأت نشأة مدلمة مغرقة في
الترؼ ،فبل أذكر أني طمبت شيئا أو تمنيتو إال حصمت عميو..
كاف عندي مف األلعاب أصناؼ لـ يرىا طؼ في ببلدي ..ومف المبلبس األنيقة الجميمة ما يكفي أطفاؿ مدرسة
أبي مف جديد ..وكاف لي في قصر أبي جناح كامؿ خاص بي ..جناح واسع يتسع لعائمة مف عشرة أشخاص ،
وكاف مؤنثا بأجمؿ وأحدث أنواع األثاث المصمـ لؤلطفاؿ ،وقد استورده لي والدي خصيصا مف إيطاليا..
وكاف لي ثبلث خادمات ..واحدة تعنى بنظافتي ،وثانية تيتـ بطعامي ،وثالثة ممرضة تشرؼ عمى صحتي ،
وكانت لي مربية إنكميزية تدعى المس روز ..استوردتيا لي أمي لتربيني عمى أسس التربية الحديثة ،ألنيا ليست
عمى قناعة بطرائؽ التربية العربية ..وىكذا نشأت مدلمة مرفية ال ينقصني شيء سوى الحناف!..
ىتفت في إنكار:
ػ الحناف؟!..
ػ نعـ الحناف ..افتقدت الحناف الدافئ الندي منذ نعومة أظفاري ،وعشت في ىذه الدنيا كنباتات الصحراء ،ت ارىا
قوية صامدة في وجو الظروؼ العاتية ،لكنيا جافة خاوية مف داخميا ،ال تكاد تجد فييا قطرة ماء..
وأردفت أحبلـ:
ػ بعض اآلباء يظنوف أف الحناف بالنسبة لمطفؿ لعبة جميمة ،وغذاء كامؿ ،ومصروؼ وفير! ..ال يدركوف أف
أمواؿ الدنيا وكنوزىا ال تغني عف كممة ودودة مف أب أو قبمة غامرة مف أـ ..ال يدركوف معنى أف ينزؿ اآلباء مف
عميائيـ ،ويحنوا ىاماتيـ ليصغوا إلى ثرثرة أطفاليـ ،ويتفيموا مشاكميـ وحاجاتيـ ،ويشاركوىـ ىموميـ
وأحبلميـ ..ال يعرفوف معنى أف تروي األـ لطفميا حكاية المساء ،وىي تيدىده قبؿ أف يناـ ..ال يريدوف أف
يفيموا أف الطفؿ كائف كامؿ لو كيانو ومشاعره وأحاسيسو وحاجاتو العميقة التي تحتاج إلى تمبية واىتماـ ,ألنيا
إذا لـ تمب عمى الوجو السميـ تحولت إلى قنابؿ مدمرة ..قنابؿ مؤقتة مزروعة في خبايا النفوس ال يدري أحد متى
ستنفجر؟!..
نعـ ..نشأت وترعرعت في بيت كالجنة ،لكنيا جنة كاذبة ،أشجارىا وأزىارىا صناعية جامدة ببل روح ،ميتة ال
تجود بقطرة ندى ،وال تفوح برحيؽ شذي ..جنة خانقة ىواؤىا ساكف ساخف جاؼ ال تموح فيو نسمة رقيقة ،أو
يغرد فيو طير..
أبي تاجر مشيور ورجؿ أعماؿ ناجح ،وثري كبير مف األثرياء الذيف يعدوف عمى أصابع اليد الواحدة ،وأمي
سيدة مشيورة مف سيدات المجتمع الذيف يحمو لعشاؽ الثرثرة االجتماعية أف يسموه بالمجتمع الراقي..
أمي تقوؿ بأف أبي تزوجيا طمعا بثروتيا التي ورثتيا عف أبييا وزوجيا السابؽ ،وأبي يدافع عف نفسو أماـ
اتياماتيا الجارحة ،فيؤكد بأنو كاف يحبيا منذ أف كانت صبية في بيت أبييا ،وأنو كاد يعمـ خبر وفاة زوجيا في
حادث طائرة ،حتى سارع إلييا ليقؼ معيا في محنتيا ويحمييا مف الطامعيف ،وانتيى األمر بيما إلى الزواج..
أمي تقوؿ بأنيا قد رفعت أبي مف وضاعة األصؿ ،وحممتو بيدييا إلى صفوؼ الطبقة الراقية ،وأبي يقوؿ بأنو قد
حمى ليا ثروتيا مف الضياع ،ونماىا ليا أضعافا مضاعفة..
أمي تقوؿ وأبي يقوؿ ،وأنا ضائعة بيف والديف جمع بينيما الزواج ،وفرؽ بينيما الخصاـ ،ولـ تستطع األياـ أف
تشد أحدىما إلى اآلخر ،وكنت أنا القاسـ الوحيد بينيما..
وانيمؾ أبي في أعمالو الواسعة ،فكاف يقضي نياره في الشركات والصفقات واالجتماعات ،ويمضي ليمو ساى ار
مفك ار مقطبا قمقا مشغوؿ الباؿ بمستقبؿ مشاريعو التي ال تنتيي ،وأحيانا كاف يغيب في أسفاره فبل أره لمدة
طويمة..
وأسرفت أمي في عبلقاتيا وزياراتيا وحفبلتيا واىتماماتيا النسائية ،فكانت ال تكاد تحضر حتى تغيب ،وكأف
البيت وحش يطاردىا وتطارده..
عندما كنت في الصؼ الثاني االبتدائي تعمقت بالمعممة آنذاؾ تعمقا شديدا ،ألني وجدت عندىا عطفا واىتماما لـ
ألمسو عند أمي المشغولة بطقوس المجتمع الراقي ،أو أبي الذي تحوؿ إلى آلة حاسبة ،ال تنطؽ إال بالنسب
واألرقاـ..
الحظت أمي تعمقي بالمعممة ،وكثرة حديثي عنيا ،فدعتيا لزيارتنا ،ولما تيقنت مف شدة تعمقي بيا عرضت
عمييا أف تعمؿ مربية خاصة لي إلى جانب المس روز اإلنكميزية ،وعرضت عمييا أج ار يفوؽ أجرىا في مينة
التعميـ ،اعتذرت المعممة ألمي بأف ليا طفميف توفؽ بصعوبة بيف متطمبات تربيتيما ،ومينتيا كمعممة ،رفعت
أمي األجر إلى الضعؼ مرة أخرى ..لكف المعممة أصرت عمى موقفيا..
ذات يوـ الحظت المعممة أني أوزع النقود عمى بنات صفي ،فأدركت أني أشتري الحب والحناف واالىتماـ بالنقود
السخية التي تمنحيا لي أسرتي كمصروؼ يومي..
زارت المعممة أمي وأخبرتيا بيذه الظاىرة التي تكررت مني ،ونصحتيا أف توليني المزيد مف العطؼ واالىتماـ ،
شعرت أمي باإلىانة ،وقالت لممعممة بأنيا أـ مثالية ال تضف عمى ابنتيا بعطفيا وحنانيا ،وأنيا توفر لي ظروفا
تربوية خاصة ال تتوافر لغيري مف األطفاؿ ،حاولت المعممة أف توضح ليا وجية نظرىا ،لكف والدتي أنذرتيا
بأنيا ال تسمح ليا بالتدخؿ في شؤونيا الخاصة ،وأعممتيا بأف الزيارة قد انتيت..
بكيت بشدة وأنا أرى المعممة المسكينة ،تغادر البيت مطرقة كسيرة ،لحقت بيا ألتعمؽ بيا وأستبقييا ،لكف
الخادمة حجزتني كما يحتجز الشرطي أسيره عندما ييـ باليرب..
وبعد أياـ انتقمت المعممة مف المدرسة ،وانقطعت عني أخبارىا!..
ودارت السنوف بسرعة ،فـ تستطع أف تمحو تمؾ المعممة الطيبة مف ذاكرتي ،وشاءت األقدار أف ألتقييا أثناء
امتحانات الشيادة الثانوية حيث كانت مكمفة بمراقبة القاعة التي كنت أقدـ فييا امتحاناتي ،شاىدتيا وىي تدخؿ
القاعة بصحبة زميبلتيا مف المراقبات ،فخفؽ قمبي ،واندلع فيو الشوؽ والحنيف إلييا ،فتقدمت منيا والدموع
تترقؽ في عيني ،وذكرتيا بنفسي ،فاحتضنتني في ليفة وحب ،كما تحتضف األـ ابنتيا ،وىي تستقبميا بعد
ُّ
فالتفت إلييف وقمت :ىؿ تعرفف غربة طويمة ،وانتبيت لصديقاتي ،وىف يرقبف الموقؼ المؤثر في تساؤؿ وحيرة ،
مف ىذه؟ ..إنيا أروع وأعظـ معممة مرت في حياتي ،ثـ أردفت وأنا أرمقيا بود واكبار وقد خنقتني العبرات "إنيا
أمي الثانية"..
شدت المعممة عمى يدي وقالت كالخجمى :التفتي المتحانؾ اآلف ،وسنمتقي فيما بعد لنتحدث ..وجمسنا في
مقصؼ المدرسة ،تأممت وجييا الطيب ،فوجدتيا قد تقدمت في السف ولمحت في محياىا بعض األخاديد
الصغيرة ،التي نحتيا الزمف في بشرتيا الصافية بدقة ،فأضافت إلى مبلمحيا المطيفة وقا ار آس ار مريحا ،سألتيا
عف الماضي فأخبرتني بكؿ ما كاف..
ألوؿ مرة في حياتي اصطدمت بالوجو اآلخر ألبي ،عندما عممت أنو بنفوذه الواسع استطاع أف ينقؿ معممتي مف
المدرسة التي كنت فييا إلرضاء رغبة أمي وغرورىا..
داىمتني أحبلـ بالسؤاؿ ،فانتزعتني مف شرودي وأنا أصغي لذكرياتيا الحزينة ،ما باؿ القشور اليشة تتساقط
أمامي لتواجيني الحقائؽ المرة بوجييا القبيح !.أىذه ىي أحبلـ التي عاشت في خيالي أميرة سعيدة كأميرات
الحكايات واألساطير؟! ..ىؿ يمكف أف تتحوؿ جدراف القصور المنيفة إلى أسوار سجف كئيب؟ .وشعرت أف في
بوح أحبلـ رسالة خاصة لي يجب أف أستقبميا باىتماـ ،وأرد عمييا بمثؿ الصدؽ الذي وردتني بو..
قمت بنبرة ىادئة:
ػ دكتورة أحبلـ ،إني أتفيـ ما تعانيو مف آالـ أرجو أف تستمري في بوحؾ ىذا إف كنت تجديف فيو راحة لؾ ،
وتأكدي بأف ىذه األسرار ستبقى دفينة في ذاكرتي ال يطمع عمييا أحد..
إلى بنظرة دامعة:
ىمست أحبلـ وىي ترنو َّ
ػ ال أدري لماذا أنا مشدودة لمبوح لؾ؟ ..لؾ أنت بالذات!..
ىمست ليا بالشكر عمى ىذه الثقة ،بينما تابعت بوحيا اليادئ الحزيف..
قالت:
ػ اعتذرت لممعممة عف كؿ ما بدر مف أسرتي نحوىا ،ووعدتيا بأني سأقيـ الدنيا وأقعدىا مف أجميا ،فرجتني بكؿ
ما بيننا مف ود أال أنكأ جرحا قديما قد اندمؿ ،ثـ قالت لي وىي تحتضف يدي بيف راحتييا الحانيتيف:
"أريدؾ يا أحبلـ أف تحفظي عني ىذه الحكمة ،إف الماؿ والجاه والنفوذ ال يصنع السعادة ،السعادة يا ابنتي ال
تأتي مف حولنا إنيا تنبثؽ مف داخمنا عندما تكوف نفوسنا طاىرة نظيفة ،النفوس النبيمة يا ابنتي كالجوىر المشع ،
دائما تتوىج بالسكينة والرضى والسبلـ ،ىؿ فيمت ىذا الدرس يا أحبلـ؟ إنو الدرس األخير مف معممة نظرت
إليؾ دائما كواحدة مف بناتيا"..
قمت ليا وأنا في ذروة التأثر والنفعاؿ" :لقد فيمت جيدا ،سأتخذه شعا ار في حياتي ،سأحتفظ بو كذكرى ألـ
عظيمة لـ تمدني ،وصديقة غالية لف أنساىا"..
وتقاطرت الدموع مف عيني أحبلـ ،كما يتقاطر الندى مف عيوف الزىر ،فبدت كوردة غسمتيا السماء بماء المطر
فطيرتيا مف غبار األرض ،وأدركت أف ىذه الذكريات مغروسة في وجدانيا ،ضاربة الجذور في أعماقيا الطاىرة
،وتأثرت لمنظرىا الباكي فمؤلني الشجف ،وأطرقت مميا ،فانتظرتيا ريثما استوعبت دفقة الحزف التي أثارىا
حديث الذكريات القديمة ،ثـ أصغيت إلييا وىي تقوؿ بعد صمت قصير:
ػ منذ ذلؾ اليوـ وأصبح ىمي أف أكوف نظيفة مف الداخؿ ،احتقرت المظاىر الفارغة والبذخ المجنوف ،استعميت
عمى المادة بكؿ صورىا وأشكاليا..
وشعرت أمي بانقبلب مدىش في حياتي ،لـ أعد حريصة عمى آخر موضة ،لـ أعد ميتمة بموديؿ السيارة ،لـ
أعد متمسكة بالمظاىر ،صرت زاىدة بكؿ شيء..
ذات يوـ ازرنا ابف خالتي ،فقاؿ ألمي :تبديف يا خالتي أجمؿ مف ابنتؾ أحبلـ! نعـ ..أمي ما زالت شابة! كرست
حياتيا لجماليا ،وحافظت عميو بكؿ ما أوتيت مف وسائؿ ،وضحت في سبيمو بأمور أىـ بكثير مف الزيارة
اليومية لصالوف الحبلقة ،ونادي المياقة البدنية ،ومعارض األزياء ،أما أنا فقد كرست حياتي لمبحث عف السعادة
التي ال تزوؿ بزواؿ جماؿ البشرة وانيداـ الوجو وترىؿ الجسد وفقداف الرشاقة..
كرست حياتي لمبحث عف اإلنساف ..اإلنساف الذي تخفؽ داخمو المشاعر العميا ،وتسمو اىتماماتو عف حاجات
الغريزة ،وصرخات األنا ..ترى ىؿ أجد ىذا اإلنساف؟!..
ورنوت إلى أحبلـ ..ألوؿ مرة شعرت بأف القدر قد جمع بيني وبينيا لحكمة بدأت أدركيا!..
وىبطت العتمة عمى الحديقة اليادئة ،فمضينا إلى الداخؿ في صمت وقد غرؽ كؿ منا في خواطره..
كاف في أعماقي شيء يولد..
شيء مبيـ ،لكنو لذيذ!..
الفصل الثالث عشر
وصمت إلى البيت بعيد العاشرة بقميؿ ،فوجدت األسرة ممتفة حوؿ جياز التمفزيوف المعتاد .ألقيت تحية المساء ،
عمي الشفاه بحركة آلية ،بينما ظمت العيوف مشدودة إلى الشاشة الفضية تراقب ما يدور عمييا بشغؼ .ىذا فردت َّ
الجياز األناني المغرور بات يثير حنقي ،إنو يستطيع أف يمفت األنظار إليو بقوة ،ويستأثر بيا!! قديما ..عندما
كنت طفبل صغي ار ،كنت نجـ العائمة ،كاف الجميع يمتفوف حولي ،ويراقبوف حركاتي وتصرفاتي ..جدي وجدتي..
أبي وأمي ..وعمي ..حتى عني الثاني الذي كاف يدعي بأنو ال يحب مخالطة األطفاؿ ،كاف يستثني مف ىذا
الموقؼ ،ويقوؿ " :إال صبلح ، "..ثـ يمضي الوقت في محادثتي ومداعبتي..
وعندما ددخؿ التمفزيوف بيتنا انسحبت مف تحت األضواء وتركت الساحة لمنجـ الجديد الذي يممؾ قدرة عمى التسمية
واإلبيار تفوؽ تصرفاتي الطفولية البريئة ،وانضممت إلى حمقة المتفرجيف .أشاىد بباي وميكي ودونالد دؾ ،
وأتعدى عمى برامج الكبار ،فأشاىد التمثميات العربية وأفبلـ الكاوبوي ونشرات األخبار ،وكبرت قميبل ،فتوطدت
عبلقتي بصديقي الجديد ،وصرت أرافقو مف االفتتاح حتى الختاـ ،ثـ أوقظ جدي الذي كاف يكبو وىو جالس
أماـ الشاشة الصغيرة ،فينيض مف كبوتو ،ثـ يودعني ويمضي ليناـ..
منذ أف دخؿ بيتنا عصر التمفزيوف أصبحت الروابط العائمية فيو ضعيفة ،انحسرت مف حياتو سيرات األنس ،
وليالي السمر ،وغادرت منو أحاديث العائمة المفعمة بالحياة ،واختفت النقاشات المحببة التي كانت تدور حوؿ
الحي والمدينة والوطف الكبير ..حتى األقرباء عندما كانوا يزوروننا ،كانوا يتبادلوف معنا كممات الود والمجاممة
عمى عج ،ثـ ينضموف إلى حمقة المتفرجيف ،فيجمس الجميع أماـ التمفزيوف بصمت وىدوء ،وكأنيـ يؤدوف
الطقوس البوذية..
اخترت مكانا بيف أمي وأبي ،وكثي ار ما كنت أزاحميما ،ألجمس بينيما ،فيتكمؼ أبي التأفؼ مداعبا ،وتضحؾ
أمي وىي تفسح لي مكانا بينيما..
سألني والدي عما مر بي في المستشفى مف حوادث وحاالت ،شرعت أحدثو عف حالة طفؿ تناوؿ عمبة دواء
كاممة في غفمة مف والديو ،فأصيب بالتسمـ ،غير أف والدي لـ ينتظر حتى يستمع إلى بقية القصة ،فقد شده
مشيد مف مشاىد الفمـ العربي الذي كانت تعرضو الشاشة ،وىمت أمي بالنيوض لتعد لي طعاـ العشاء ،
فأمسكت بيدىا ،ورجوتيا أف تبقى..
قمت ليا وأنا أرتاح برأسي فوؽ كتفيا:
ػ ال أشعر بالجوع ،ابؽ بجانبي..
ربتت أمي عمى يدي في حناف ،وقالت وىي ترمقني بنظرات متفحصة:
ػ ما بؾ؟ ..تبدو ميموما مشغوؿ الباؿ!..
التفت أخي األوسط الذي يصغرني مباشرة ،وقاؿ بنبرة احتجاج:
ػ بعض الصمت يا جماعة ..دعونا نتابع الفمـ..
نظرت إليو وابتسمت ..إنو دائما مشدود إلى التمفاز ..تنتزعو المسمسبلت واألفبلـ مف محيط العائمة لتضعو في
أجوائيا الخاصة ،قمت ألمي:
ػ ابنؾ ميووس بيذه الشاشة ،ولف يتخمص مف شغفو حتى يتزوج..
ابتسمت أمي وقالت في حزـ وىي تشممني بنظرة ودوددة:
ػ لف يتزوج أحد قبمؾ..
التقط أخي األصغر كممات أمي فقاؿ مداعبا:
ػ أخي الكبير طيب القمب ،وسيمنحني دورة ببل شؾ..
لكزه أخي األوسط بمرفقو وقاؿ:
ػ اصمت ،دعنا نتابع الفمـ...
ػ إنو فمـ سخيؼ..
ػ إذا كاف ال يعجدبؾ فاذىب إلى الغرفة األخرى..
ػ أريد أف أسير في ىذه الغرفة..
واحتدـ بينيما النقاش ،وكاد يتفاقـ ،لوال أف تدخؿ والدي ،فحسمو بصرخة رادعة ،وقالت أمي في إنكار
غاضب:
ػ بدأت أكره ىذا الجياز الذي يثير الصراع بيف األشقاء!..
قمت ألمي ميدئا:
ػ دعييما وال تكترثي بمبلسناتيما ،إياؾ أف تظني بأف أوالدؾ نسخة واحدة..
عاد أخي األوسط يرجونا في ضراعة:
ػ أرجوكـ يا جماعة ،ىذا أوؿ فمـ ممتع أراه منذ أشير ،دعوني أشاىده بيدوء..
أشفقت عمى أخي ،وذىبت إلى غرفتي ،لحقت بي أمي بعد قميؿ وىي تحمؿ فنجانا مف الشاي ،قالت وىي
تغمؽ الباب خمفيا:
ػ أنت اليوـ لست أنت!..
ضحكت:
ػ ىؿ ىذه أحجية؟
ػ أتشكو مف شيء؟
ػ أبدا!
ػ أنت عاشؽ..
ػ عاشؽ؟!..
ػ ىؿ تنكر؟
جمست كالمستسمـ وقمت:
ػ قمب األـ أدؽ رادار في العالـ!
وضعت الشاي ،وأقبمت تقوؿ بنبرة فرحة:
ػ يعني كبلمي صحيح!
ػ ال أدري يا أماه ..قد تكونيف عمى حؽ ،لعمؾ تفيمينني أكثر مما أفيـ نفسي ،لعؿ روحي تبوح لؾ بما تخفيو
عني ..ال أدري يا أماه ،ال أدري ،الحيرة تأكمني! ..قد أكوف عاشقا ،وقد أكوف تائيا ،في الحقيقة أنا حائر!..
جمست بقربي ،وقالت:
ػ أخبرني مف ىي التي تشغمؾ ،وأنا سأبدد حيرتؾ..
ىمست وأنا أستحضر في خيالي طيؼ أحبلـ:
ػ فتاة جميمة تقتحـ قمبي بقوة ..فتاة رقيقة ليا نفس كبيرة وخمؽ نبيؿ َّ ..
لكأف كؿ المعاني السامية قد اجتمعت فييا ،
ي..
وشكمت جوىرىا الطاىر البر ْ
ػ ما اسميا؟
ػ أحبلـ.
ػ اسـ جميؿ.
ػ حقا؟
ػ كيؼ تعرفت عمييا؟
ػ زميمتي في المستشفى.
ػ ال أذكر أنؾ حدثتني عنيا!
قمت وأنا ألقي برأسي عمى مسند الكنبة:
ػ كنت ال أىتـ بيا كثي ار ،أو لعمي لـ أرد أف أىتـ بيا مف قبؿ! ..كنت أنظر إلييا عمى أنيا مجرد زميمة في العمؿ
،ألقاىا كؿ يوـ كما ألقى كؿ زمبلئي في المستشفى ،وأبادليا احتراما باحتراـ ،لكني انتبيت أخي ار إلى شيء ،
شعرت أنيا ميتمة بي إلى حد أكثر مف عادي..
الحظت أنيا تبلحقني بنظراتيا ،تراقب تصرفاتي ،تمتقط كمماتي ،تريد أف تعرؼ عني كؿ شيء!!.
حاولت أف أتيرب منيا ،لكني لـ أفمح ،ثمة شيء يشدني إلييا ،وآخر يشدني منيا ،ليتني لـ أعرفيا مف قبؿ!..
عاثت الحيرة في وجو أمي ،فقالت كالشاردة:
ػ أنا ال أفيمؾ ،لماذا تيرب منيا إذا كانت خموقة وجميمة؟ ماذا تريد أكثر مف ذلؾ؟
ػ ليست ىنا المشكمة..
ػ أال تجد في نفسؾ ميبل إلييا؟
ػ بؿ أميؿ إلييا بقوة..
ػ حيرتني معؾ!
ػ قد ال أكوف الئقا بيا ماديا..
ػ ماديا؟! ..أفصح بوضوح ،وكفاؾ ألغازا؟؟
رنوت إلييا وأنا أبتسـ:
ػ كبلمي واضح ،ظروؼ أىميا المادية أفضؿ مف ظروفنا ،وال أستطيع أف أوفر ليا العيش الرغيد الذي تعودت
عميو..
ػ لماذا؟ ىؿ ىـ أغنى منا بكثير؟
ػ أنعد نحف في األغنياء؟
ػ الحمد هلل عمى كؿ حاؿ..
ػ لو شعر الناس جميعا بأنيـ أغنياء لعاشوا في سعادة!
أردفت أمي فيما يشبو السؤاؿ:
ػ أغنى منا؟
ػ بكثير.
أطرقت متفكرة ،ثـ قالت فجأة ،وكأنيا وضعت يدىا عمى الحؿ:
ػ إذا كانت فتاة عاقمة وأصيمة ػ كما تصفيا ػ فستصبر عمى ظروفؾ ،وتكافح معؾ حتى تصنعا المستوى البلئؽ
الذي ترتاحاف إليو.
ابتسمت كالحالـ ،وقمت:
ػ في حديثيا اليوـ استعداد واضح لمصبر والكفاح..
ىتفت أمي وقد أضاءت وجييا ابتسامة عذبة:
ػ آه ..فيمت ما الذي أثار تفكيرؾ بيا الميمة ،ال شؾ أنؾ قد خضت معيا في حديث خاص..
أبدت مبلحظتيا بابتسامة ،ثـ تناولت فنجاف الشاي ،ورحت أرشؼ منو في صمت ،وأردفت أمي قائمة:
ػ ماذا كاف موضوع الحديث؟
ػ حدثتيا ِ
عنؾ ..عف أبي ..عف ظروفنا وأحوالنا ..أردت أف أضعيا في الصورة الصادقة حتى ال تذىب بعيدا في
تطمعاتيا ..قمت ليا بأننا عائمة بسيطة راضية مف ىذه الحياة بالحد األدنى مف السعادة المادية ،وتعوض عنو
بقدر كبير مف السعادة النفسية..
قالت أمي وىي ترمقني بنظرة فييا دعابة واختبار:
ػ ماذا قمت ليا عني؟
ػ قمت بيا بأنؾ أمير طباخة في العاـ..
ػ أال يعجبؾ في أمؾ سوى طبخيا؟!..
ػ بؿ يعجبني فييا كؿ شيء..
ػ ماذا قمت ليا أيضا.
ػ قمت ليا بأنؾ أـ مثالية ،وسيدة مف الطراز األوؿ ،تحبيف النظافة حتى وجو الوسوسة ،وتصنعيف مف بيتؾ
جنة صغيرة ،أزىارىا مف الحب ،وأنيارىا مف الحناف..
ضحكت أمي في فخر ،وتساءلت وىي تشير إلى نفسيا:
ػ أأنا أصنع كؿ ىذا؟
قمت في مكر:
ػ ىكذا أوىمتيا..
ػ تقصد أني لست ىكذا؟
ػ أنت التي ال تريديف أنت تصدقي..
ػ وماذا قالت لؾ؟
ضحكت فجأة ..ضحكة وأنا أجد نفسي أماـ تحقيؽ نسائي طريؼ..
سألت أمي وعمى شفتييا ابتسامة حائرة:
ػ ما الذي يضحكؾ؟..
ػ ال شيء.
ػ بؿ ىناؾ شيء!..
ػ مجرد خاطر..
ػ حدثني بو.
ػ ىؿ سيطوؿ ىذا التحقيؽ؟
ػ لـ تقؿ لي..
ػ ماذا؟
ػ ماذا قالت لؾ؟..
تنيدت وسرحت بخيالي ،وكأني أغيب في حمـ لذيذ ،قمت وأنا أسترجع األثر العذب الذي أحدثتو كممات أحبلـ
في نفسي:
ػ قالت :إنيا تتمنى لو كانت أختي..
ىتفت أمي في فرح ،وقد طغت عمى وجييا ابتسامة عميقة:
ػ البنت تحبؾ يا صبلح ،فماذا تنتظر؟
ػ ما أدراؾ؟
ػ كفاؾ تجاىبل وخبثا ،أنت تعرؼ ذلؾ ،لكنؾ ال تريد أف تعترؼ..
ودخمت عمينا أختي الكبرى في البنات ،فصمتنا ،تراجعت فجأة إلى الخمؼ ،وتوارت خمؼ الباب الموارب قميبل
،فمـ يعد يبدو منيا سوى رأسيا المائؿ إلى األماـ ،قالت وىي تيـ باالنسحاب:
ػ فيمت ..اجتماع مغمؽ!
ثـ أغمقت الباب ،فناديتيا:
ػ لماذا ال تدخميف؟
ػ مبلمحكما تشي بأنكما تتداوالف س ار!
ػ قالت أمي ضاحكة:
ػ األمر ليس س ار ،أخوؾ صبلح يخطط الستقباؿ أخت جديدة لكـ في البيت..
ىتفت أختي متظاىرة بالذعر ،كمف فوجئ بأمر صاعؽ:
ػ ىؿ كاف أبي متزوجا مف امرأة أخرى؟!..
دوت ضحكاتنا في أرجاء الغرفة ،وقالت لي أمي مف خبلؿ الضحكات:
ػ أختؾ ىذه ال تفكر غبل في األمور السيئة..
قالت أختي وىي تجمس عمى يميني:
سأكوف سعيدة لو عرفت مف ىي أختي الجديدة.
ثـ أردفت وىي تقرصني مف يدي:د
ػ البد أنيا مغرمة بأخي الكبير..
قبضت عمى شعرىا المتدلي خمؼ رأسيا كذيؿ الحصاف ،ثـ قمت وأنا أشده في رفؽ:
ػ ىؿ بدأت حرب التعميقات السخيفة؟
صاحت وىي تتظاىر باأللـ:
ػ اطمئف لف أبوح بالسر.
أطمقت خصبلت شعرىا الناعمة ،فنيضت وأسرعت خارجة ،وأنا أشيعيا بنظرات تفيض بالود ،وأرادت أمي أف
تعود بالحديث إلى مجراه ،وما كادت تفعؿ ،حتى أطبؽ أخوتي عمى الغرفة وىـ ييتفوف "مبروؾ ..مبروؾ"..
وأقبؿ والدي خمفيـ واالبتسامة تضيء وجيو الطيب ،قاؿ وىو يجمس عمى كرسي قرب الباب:
ػ أييا المتآمروف! ..أنت وأمؾ تتآمراف عمى صنع األخبار السعيدة ،ىؿ صحيح ما تناقمتو وكاالت األنباء؟
قمت وأنا أرمؽ أختي الواشية كالمتوعد:
ػ ال أعمـ في بيتنا سوى وكالة واحدة لؤلنباء ،ثـ نيضت إلييا ألمسؾ بيا ،لكنيا أفمتت مني والذت بأبييا وىي
تقوؿ:
ػ أنا أحب السبؽ الصحفي ،خشيت أف تسبقني أمؾ إلى إعبلف قرارؾ بالزواج..
ضحؾ أبي وسأؿ:
ػ مف ىي صاحبة الحظ السعيد؟
تبادلت مع أمي نظرة باسمة ،ثـ أجبت:
ػ األمر ما زاؿ فكرة فجة لـ تنضج بعد..
ػ أليس ليذه الفكرة بطمة معروفة؟
ػ إنيا الدكتورة أحبلـ زميمتي في المستشفى..
ػ ابنة مف؟
ػ والدىا رجؿ األعماؿ المعروؼ عبد الغني الذىبي..
وجـ أبي ،وتقمصت مبلمحو ،قاؿ وىو يضع إبيامو تحت ذقنو ،ويطوي أصابعو فوقيا كالقبضة:
ػ ىؿ فكرت في ىذا األمر جيدا يا بني؟
ػ ما زلت أفكر..
ػ ىؿ تريد رأيي؟..
ػ ال غني لي عف رأيؾ..
قاؿ والدي بنبرة حاسمة:
ػ ىذا زواج لف تكتب لو الحياة..
ىزتني كممات أبي بشدة ،فانقبض ليا قمبي ،ىمست متوجسا:
ػ لماذا؟
ػ أنت تعرؼ.
ػ ىذا ما كنت أحدث فيو أمي!.
قالت أمي كالمغضبة:
ػ الماؿ ليس كؿ شيء ،خذوا األمر ببساطة ،نريد أف نفرح..
التفت إلييا والدي كالساخر ،وقاؿ:
ػ أنت دائما ىكذا ،كؿ شيء عندؾ ممكف.
ردت عميو أمي وىي تشيح بيدىا:
ػ أنت ال تعرؼ شيئا ،البنت تريده ،وىي مستعدة لمحياة معو ،والصبر عمى ظروفو.
ػ يبقى القرار بيد أبييا..
ػ أبوىا لف يقؼ في وجو رغبتيا.
ػ أبوىا معروؼ بجشعو ،وسيظف ابننا طامعا بثروتو..
تبادؿ الجميع نظرات ممؤىا الخيبة ،وشعروا نحوي باإلشفاؽ ،نيض والدي وقاؿ وىو يمضي:
ػ األمر ليس بيذه السيولة ،فكروا بو جيدا.
ولـ يمبث أخي األوسط أف خرج خمفو وىو يقوؿ:
ػ سأعود ألكمؿ الفيمـ ظننت أف األمر قد نضج عمى نار ىادئة!..
قاؿ أخي األصغر ،وىو يجمس بجانبي:
ػ لو أنؾ اخترت عروسا قميمة التكاليؼ ،لتزوجنا معا في آف واحد ،دوف أف نرىؽ األسرة بالمصاريؼ..
ضحكت أختي الوسطى ،وقالت لو:
ػ أييا االنتيازي ..دائما تبحث عف الفرص السيمة.
قالت الكبرى وقد أحست بأنيا تسرعت في إعبلف النبأ:
ػ كنت أظف أف أختي المرتقبة سيمة المناؿ..
ثـ أردفت في دعابة:
ػ قمت لؾ أكثر مف مرة دعني أخطب لؾ صديقتي ميادة ،فمـ ترض ،إنيا فتاة كالسكر.
وتسممت أختي الصغيرة ذات السبع سنوات إلى حضف أميا ،وسألتيا في براءة ،وكأنيا لـ تفيـ شيئا مما دار:
ػ ماما ،ماما ..ىؿ ستشتريف لي ثوبا جديدا في عرس أخي؟
رنوت إلى أختي الصغيرة في حناف ،ىمست وأنا أىـ بالنيوض:
ػ كـ ىو الشبو كبير بيني وبينؾ يا صغيرتي!..
كبلنا نحمـ كاألطفاؿ..
الفصل الرابع عشر
لـ أصدؽ ما رأيت! ..كانت مجزرة حقيقية ضحاياىا جميعا مف األطفاؿ..
ىرعنا إلى الجرحى الصغار نرمـ أجسادىـ الممزقة ..نتشبث بأرواحيـ البريئة حتى ال تفمت منا ،وتغادرنا إلى
العالـ اآلخر ،تسربت روح الطفؿ ألوؿ مف بيف أيدينا بسرعة ،ومضت إلى خالقيا تشكو لو عالمنا المجنوف ،
بكت أحبلـ وىي تسبؿ جفني الطفؿ الشييد فوؽ عينيو المتيف جاؿ فييما الرعب والذعر ،حضرت مجموعة أخرى
مف األطباء لتساىـ في إنقاذ ىذه الكائنات المسكينة ،واجتمع األىالي في الخارج ينوحوف ويولولوف ،وتعالى
نحيب األميات وىف يتدافعف أماـ غرفة العمميات ..يتسقطف األخبار حوؿ أطفاليف الذيف ذىبوا ضحية الطيش
والسرعة المجنونة..
ووصؿ الدكتور مأموف مدير المستشفى قادما مف سفر بعيد ،فانضـ إلينا عمى عجؿ في محاولة إلنقاذ ما يمكف
إنقاذه..
اةقؼ قمب طفؿ آخر عف الخفقاف ،وانسمت روحو مف بيف أيدينا ونخف ننظر في م اررة وعجز ،لـ تحتمؿ أحبلـ
ىذه المناظر المرىقة ،فسقطت مغشيا عمييا ،وىي الطبيبة التي ألفت أجواء غرؼ العمميات ،فالموقؼ كاف
مؤث ار صعب االحتماؿ ،ولـ تمبث أف عادت إلى وعييا بعد أف صفعتيا إحدى الممرضات ،فاستجمعت قواىا ،
وغسمت وجييا ،ثـ انضمت إلينا ثانية ،لتتابع أداء واجبيا في إنقاذ الجرحى مف األطفاؿ..
ثمة روح ثالثة تتممص مف بيف أيدينا ،تريد أف تياجر ،تريد أف تغادر ىذا العالـ الضيؽ الذي لـ يتسع ألفراحيا
،استنفرنا لمنعيا مف الرحيؿ ،استخدمنا الصدمات الكيربائية ،ومنحناىا قبمة الحياة ،لكنيا رفضت أف تبقى ،
ومضت في عناد ،تمعف عالمنا الذي لـ يعد يحترـ أرواح األطفاؿ..
وتراكـ التعب واإلرىاؽ في أوصالنا ،وتفاقـ الحزف في داخمنا حتى طفح مف عيوننا ومبلمحنا ،وقضينا يوما
ضاريا ،ونحف نصارع الموت الذي حاصر األجساـ الصغيرة ،وراح ينيشيا ويفترسيا جسدا بعد آخر..
وانتصؼ الميؿ ،فيدأت المعركة قميبل ،لكنيا لـ تحسـ بعد ،فما زالت بعض اإلصابات بالغة الخطورة ،وتحتاج
إلى حراسة شديدة..
قرر الدكتور مأموف أف يوزعنا إلى فئتيف ،فئة ترابط حوؿ األطفاؿ الجرحى ،وأخرى تخمد لمنوـ والراحة ،ألننا
قمنا بالعبء األكبر في غرفة العمميات..
قاؿ ىاني:
ػ دعونا نخرج مف الباب الخمفي ،فأنا ال أطيؽ رؤية وجوه األىالي المنكوبيف..
وىمست أحبلـ بعد أف مضينا خطوات:
ػ ال أصدؽ ،أ أريتما الذعر في عيوف األطفاؿ؟ أي مجرـ ىذا الذي كاف وراء الحادث؟!..
ىتفت في غيظ:
ػ مراىؽ في العشريف ،فعؿ فعمتو النكراء ،ثـ ىرب!..
تساءلت أحبلـ:
ػ كيؼ استطاع أف ييرب ،وىو يرى األطفاؿ أمامو يتحولف إلى كومة مف األشبلء؟ ألـ تتحرؾ فيو ذرة مف
الشيامة ،فينزؿ ويساىـ في إنقاذ الضحايا؟
ومضينا في الممر الطويؿ نفرغ شحنات الحزف والغضب ،ونتبادؿ انطباعاتنا األليمة ،ونحف نسعؼ الجرحى مف
األطفاؿ ،وسمت صوتا ينادينا مف الخمؼ..
صوت أذكر أني سمعتو مف قبؿ! ..والتفتنا إلى صاحب الصوت..
قاؿ ىاني:
ػ ىذا ىو األستاذ سعيد ..لقد جاء ليغطي الحادث بنفسو.
صافحنا األستاذ سعيد الناشؼ بح اررة ،وقاؿ في ليفة وقمؽ:
ػ طمئنوني ..ما ىي آخر األخبار؟..
قمت لو:
ػ ثبلثة قتمى ،واصابتاف خطيرتاف ،واألطفاؿ العشرة الباقوف تتراوح إصاباتيـ بيف الكسور والرضوض ،لكنيـ
جميعا يعانوف مف صدمة نفسية فظيعة أحدثيا الرعب الذي اندلع في قموبيـ الغضة ،وىـ يواجيوف الموت في
أبشع صوره..
قاؿ األستاذ سعيد:
ػ سأفرد ليذا الحادث البشع عددا خاصا ييز الرأي العاـ ،خبروني بربكـ ..كيؼ حدث ىذا؟
قاؿ ىاني:
ػ كؿ ما عممناه أف األطفاؿ كانوا عائديف إلى بيوتيـ في باص المدرسة ،كاف الباص يسير ضمف السرعة
القانونية ،وفجأة خرجت سيارة مسرعة مف شارع فرعي ،واستقرت وسط الباص كالقذيفة ،فانقمب الباص بمف فيو
،وتطايرت أجساد بعضيـ مف النوافذ ،وارتطـ اآلخروف بجدراف الباص المعدنية ،فأصيبوا برضوض وكسور
مختمفة ،واخترؽ الزجاج المحطـ أجساد عدد منيـ..
ىمست وأنا في ذروة األلـ:
ػ لقد كانت كجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..
قاؿ األستاذ سعيد وىو يمضي معنا متثاقبل:
ػ حوادث الطرؽ في ببلدنا تبتمع مف الضحايا أكثر مما تبتمع الكوارث والحروب..
عمقت أحبلـ بنبرة قاسية:
ػ لو ذىب ىؤالء األطفاؿ ضحية حرب أو زلزاؿ لكاف األمر أىوف ،لكف أف نقتؿ أطفالنا بأيدينا ،بطيشنا وغرورنا
،فيذا قمة الجنوف واإلجراـ!..
لفتت ليجة أحبلـ لمنفعمة انتباه األستاذ سعيد ،فقاؿ وىو يرمقيا باىتماـ:
ػ أنا أعرؼ الدكتور ىاني ،والدكتور صبلح ،لكني لـ أتشرؼ بمعرفتؾ بعد..
بادرت ،فعرفت كؿ منيما عمى اآلخر ،فبلحظت عمييما تغي ار ووجوما مثي ار ،تساءلت في حيرة:
ػ أتعرفاف بعضكما مف قبؿ؟
ىمس األستاذ سعيد وىو يبتسـ في غموض:
ػ إذا كانت الدكتورة أحبلـ ابنة رجؿ األعماؿ المشيور عبد الغني الذىبي ،فيي تعرفني ببل شؾ!..
سألتو أحبلـ بنبرة حائرة:
ػ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذىبي؟
أجاب كالواثؽ:
ػ كنت أعرؼ أف لو ابنة وحيدة تدرس الطب.
قمت في محاولة لفض الغموض:
ػ أنت تعرؼ أباىا إذف!
ىز األستاذ سعيد رأسو مؤكدا ،ثـ ىمس وىو يسد إلى أحبلـ نظرة غامضة:
ػ صديؽ قديـ..
أحرجت نظرة األستاذ سعيد أحبلـ ،فرمشت في ضيؽ ،واستأذنتنا في االنسحاب متعممة بالتعب ،وانسحب ىاني
خمفيا مبديا العذر نفسو ،سألني األستاذ سعيد ،وىو يشيع أحبلـ بنظرة شاردة:
ػ كيؼ تجدىا؟
ػ مف؟
ػ الدكتورة أحبلـ..
ػ إنيا فتاة طيبة وميذبة ،وذات شخصية جادة..
رفع حاجبية دىشة ،وقاؿ:
ػ أمتأكد أنت؟
ػ جدا..
ػ شوكة خمفت وردة!..
ػ ماذا تقصد؟
قاؿ متيربا مف اإلجابة:
ػ دعؾ مف قصدي ،وأخبري ..ما ىي أخبار طفمتؾ المقيطة؟
ػ النتائج سمبية..
ػ كما توقعت..
ػ لـ تقؿ لي..
ػ ماذا؟..
ػ ما رأيؾ بوالد أحبلـ؟..
ابتسـ في دىاء ،وسأؿ:
ػ ىؿ تيمؾ كثي ار.
ػ مجرد فضوؿ..
ػ لماذا ال تعمؿ معي؟
ػ أيف؟
ػ في الصحافة طبعا!
ابتسمت رغما عني..
ػ أنا؟
ػ سأجعؿ منؾ صحفيا مشيو ار.
ػ ولكف..
ػ لست أوؿ مف يقدـ عمى ىذه المغامرة.
ػ لماذا أقدـ عمييا؟
ػ ألنؾ تممؾ أىـ مقومات الصحفي الناجح :فضوؿ المحقؽ ،وحماس المؤمف..
قمت وأنا أنوء تحت أثقاؿ اليـ والنعس واإلرىاؽ:
ػ أستاذ سعيد ..كنت أتمنى لو كاف حديثا في غير ىذه المناسبة ،لكني مضطر لبلنسحاب اآلف ،فأمامي غدا
عمؿ طويؿ..
ربت األستاذ سعيد عمى كتفي وقاؿ:
ػ فكر باألمر ،تصبح عمى خير..
عندما وضعت رأسي عمى الوسادة ،تذكرت شيئا ..لقد استطاع األستاذ سعيد بدىائو أف يتيرب مف سؤالي عف
رأيو بوالد أحبلـ!..
ماذا يعرؼ عنو يا ترى؟..
الفصل الخامس عشر
ػ "محكمة"..
ضج الكوف فجأة بيذه الكممة ،وارتج ليا حتى كاد يميد ،وانتشر دوييا القاصؼ كالرعد في اآلفاؽ المترامية ،
فامتدت أصداؤىا إلى ما ال نياية ،حتى خفتت وتبلشت ،وحؿ مكانيا صمت رىيب مثقؿ بالخوؼ والقمؽ
والرعب..
ػ "ىؿ ىي القيامة المنتظرة قد قامت في غفمة مف البشر؟"..
والتفت حولي كالمأخوذ! ىذه دنيا غير الدنيا! ..عالـ عجيب كؿ ما فيو غريب غير مألوؼ .الغيوـ تحيط بالمكاف
كالجباؿ ،وقد حجبت خمفيا كؿ معالـ الكوف المألوفة! ..والسماء فوقنا ليست ىي السماء ..إنيا قبة ىائمة مف
الضباب الكثيؼ المفعـ بالغموض ..واألرض تحتنا! .أيف األرض؟ ..لكأني أقؼ فوؽ فراغ ،مدفوعا إلى األعمى
بقوة مجيولة كدافعة أرخميدس!..
وشعرت بجسمي يػرجح كريشة معمقة في اليواء ،وتساءلت في نفسي وأنا أرقب جسدي وىو يترنح فوؽ الفراغ ببل
وزف " :أأنا في رحمة فضائية أجوب أعماؽ الكوف السحيقة؟!!"..
وانتبيت فجأة إلى أني لست وحدي! ىا ىي أحبلـ تقؼ بجانبي ،وىي تتمفت حوليا مبيورة ..وذاؾ ىو ىاني
يقؼ قريبا مني وقد أغمض عينيو في خشوع ،ورفع كفيو إلى السماء في ضراعة ،وراح يسأؿ اهلل العفو والمغفرة
،وذلؾ ىو األستاذ سعيد وقد شخص ببصره الحائر إلى قمـ الغيوـ الشاىقة التي أحاطت بالمكاف كأسوار سجف
عظيـ..
والناس ..الناس حولنا قد ارتصوا في كتمة واحدة ،وشخصوا بأبصارىـ في كؿ اتجاه ،يرمقوف المكاف بعيوف قمقة
وقمب واجؼ..
ػ "محكمة!"..
وعادت الصرخة اليائمة تدوي في أرجاء الكوف ،فخفؽ اليمع في القموب وجمدت العيوف في المحاجر ،وراحت
تحممؽ في ذعر ،وكأنيا ترقب مجيوال مخيفا قد فغر فاه ليبتمعيا ويغيبيا في جوفو العظيـ.
وىتؼ ىاتؼ " :انظروا ىناؾ! "..فاتجيت األبصار الخائفة المترقبة إلى كائنات بيضاء تحمؽ في الفضاء ،وقد
سدت األفؽ بأسرابيا الكثيفة ،وجعمت تقترب في ىدوء ،ولـ تمبث ىوية ىذه الكائنات الغريبة أف انكشفت ،
فسرت في جموع الناس ىميمة غامضة ،ولغط كبير ،عندما تبيف ليـ أف ىذه المخموقات الطائرة ،ما ىي إال
أسراب ىائمة مف األطفاؿ المجنحيف..
وحط األطفاؿ المجنحوف فوؽ ذرى الغيوـ المحيطة بنا ،وضربوا حولنا حصا ار محكما ،بينما حمقت فوقنا
مجموعة منيـ ،يتقدميا طفؿ يضع فوؽ رأسو تاجا أحمر بموف الدـ ..طفؿ أذكر أني رأيتو مف قبؿ! ..آه ..إنو
أحد األطفاؿ الذيف ذىبوا ضحية لحادث باص األطفاؿ!..
التفت إلى أحبلـ وقمت وأنا أشير إلى الطفؿ المتوج:
ػ ىؿ تعرفيف ىذا الطفؿ ياأحبلـ؟..
قالت أحبلـ والدموع تغرؽ عينييا الوادعتيف:
ػ وكيؼ أنساه يا صبلح ..لقد أسدلت جفنيو بيدي ىاتيف!..
سألتيا وأنا غارؽ في الحيرة والذىوؿ:
ػ ىؿ قامت القيامة فعبل ،وبعث الناس مف جيد؟
ىمست أحبلـ بنبرة واىنة:
ػ لقد قامت في غمضة عيف!..
وقاؿ ىاني وىو ييز رأسو في حسرة وندـ:
ػ ليتني قضيت العمر فيما يفيد ..إذا لـ يغفر لنا اهلل ذنوبنا ،ويشممنا برحمتو ،فسنواجو نياية فظيعة..
ثـ أردؼ وىو يرتعش:
ػ سوؼ تشوى أجسادنا في نار جينـ يا جماعة ..ألـ تسمعوا بالنار؟..
حؾ األستاذ سعيد ذقنو متفك ار ،وقد استفز الموقؼ الغامض كؿ حواسو ،ثـ قاؿ:
ػ ال أظف أنيا القيامة! ..فممقيامة أشراط ومقدمات لـ تتحقؽ بعد ..أعتقد أنيا حرب النجوـ الممعونة قد دمرت
الكوف ،وحشرت ما تبقى مف البشر في ىذه المكاف..
قمت لو:
ػ وىؤالء األطفاؿ المجنحوف الذيف يحمقوف فوقنا كالعصافير ،مف أيف انبثقوا .وكيؼ نبتت ليـ ىذه األجنحة
البيضاء القوية التي يطيروف بيا؟
وعقبت أحبلـ:
ػ عذ ار يا أستاذ سعيد ،أنا ال أوافقؾ الرأي ،إنيا القيامة المرتقبة ،وقد حاف موعدىا ،والدليؿ عمى قياميا ىؤالء
األطفاؿ الذيف بعثوا مف جيد ،وعادت إلييـ الروح ،بعد أف ماتوا بيف أيدينا في غرفة العمميات!..
قاؿ األستاذ سعيد ساخ ار:
ػ إذا كانت القيامة قد قامت فعبل ،فسوؼ يواجو أبوؾ مصي ار أسوادا ال يحسد عميو.
صاحت بو أحبلـ غامضة:
ػ انشغؿ بمصيرؾ أييا العجوز ،وكؼ عف التجريح بوالدي ،تكفيؾ إساءتؾ البالغة لو في الحياة الدنيا!.
وعاد الصوت اليائؿ ييدر مف جديد..
ػ "محكمة!"..
عرفنا أخي ار مصدر الصوت ،إنو أحد األطفاؿ المجنحيف ،ولكف! ..ما باؿ صوتو الطفولي ىادر مجمجؿ إلى
ىذا الحد؟ ..ىؿ يساعد الفراغ الكوني عمى تضخيـ األصوات؟! ..وىذه الكممة التي رددىا لممرة الثالثة ،ماذا
تعني؟ ..محكمة؟! ..ىؿ نحف متيموف تجب محاكمتنا؟ أـ أنا متفرجوف حشرنا القاضي في ىذا الكوف الغريب ،
لنشاىد أحداث محاكمة غامضة ستجري؟ ..ورحنا نرقب الموقؼ في دىشة وفضوؿ مشفوع باليواجس والمخاوؼ..
اقتمعت مجموعة مف األطفاؿ المجنحيف قطعة مف الغيوـ ،وطارت بيا نحو الطفؿ المتوج ،فصفؽ بجناحيو ،
عؿ بنظرات صارمة مستطمعة فاحصة ،وكأنو قائد منتصر يستعرض وحط فوقيا بيدوء ،ووقؼ يرمقنا مف ٍ
أسراه!..
وىمس ىاني كمف اكتشؼ شيئا مثي ار:
ػ اآلف فيمت كؿ شيء! ..إنيا مسرحية أطفاؿ! ..نعـ مسرحية أطفاؿ!..
ثـ وىو ينظر حولو كمف يبحث عف شيء:
ػ لكني ال أرى المخرج! ..أيف ىو حتى أشكره عمى ىذه المسرحية الرائعة التي تأخذ باأللباب؟
لوى األستاذ سعيد شفتيو في حيرة وقاؿ:
ػ إذا كاف ما يجري أمامنا مسرحية أطفاؿ ،فيذا يعني أف مسرح الطفؿ في ببلدنا قد خرج مف أزمتو ،وتطور
تطو ار مدىشا يستحؽ التقدير ،سأفرد عددا خاصا عف ىذا الموضوع..
قمت وقد أوحى لي ىذا التفسير بفكرة مثيرة:
ػ ال ..ال ..ىذه ليست مسرحية أطفاؿ ،إنيا فمـ أطفاؿ عربي يضاىي بمستواه أفبلـ األطفاؿ األمريكية والغربية ،
ىذا أوؿ فمـ عربي يبرع في توظيؼ الخدع السنمائية ،وينجح في إطبلؽ خياؿ األطفاؿ..
إلي بسبابتو في شؾ:
قاؿ األستاذ سعيد وىو يشير َّ
ػ لست معؾ في ىذا يا صديقي ..ال يمكف أف يكوف ىذا فمما عربيا لؤلطفاؿ ،وال حتى تمثيمية تمفزيونية ..لقد
استأثر الكبار في ببلدنا بياتيف الوسيمتيف الخطيرتيف ،ووظفوىما لتسميتيـ وارضاء أنانيتيـ ،وتركوا أطفاليـ
فريسة ألفبلـ األطفاؿ المستوردة ،ومسمسبلت الكرتوف التجارية التي تجذب األطفاؿ باإلثارة الفارغة ،والعنؼ
المريض..
ىتفت أحبلـ في احتجاج غاضب:
ػ لقد ذىبتـ بعيدا يا سادة ..المسرحيات واألفبلـ ال يؤدييا أطفاؿ قتمى أو أشباح!..
إلي وقالت:
ثـ التفتت َّ
ػ وأنت يا صبلح ..تأمؿ وجو ىذا الطفؿ المتوج الذي يقؼ فوؽ غيمتو ،وبرمقنا بعيني صقر ،ألـ تقؿ لي بأنؾ
قد عرفتو؟ أـ أف ما يجري قد أفقدؾ قدرتؾ عمى التركيز؟!..
دلكت جبيني بأنامؿ أصابعي المشدودة ،ورحت أتأمؿ وجو الطفؿ وأنا أعتصر ذاكرتي بقوة..
قمت ألحبلـ بنبرة شؾ:
ػ أأنا قمت بأني أعرؼ ىذا الطفؿ؟! ..ال أذكر أني قمت شيئا كيذا!..
إلي نظرة غامضة قرأت فييا ريبة واتياما ،وأرادت أف تقوؿ
شيقت أحبلـ ،وفغرت فميا مشدوىة ،وىي تنظر َّ
شيئا ،لكف صوتا مباغتا اقتحـ عمينا حوارنا ،فالتفتنا مستطمعيف..
ػ أتنساني ييذه السرعة يا دكتور؟ أال تذكر ىذا الوجو عندما كاف مضرجا بدمو؟ ويمكـ أييا الكبار مف أنفسكـ..
لقد أدمنتـ عمى النسياف حتى أمسى خبزكـ ،تريدوف لو حتى أسماءكـ..
سرت في جسدي رعشة ،وأيقظت نبراتو العاتبة حزنا مكبوتا داخمي فبكيت ،وكاف ىاني يراقب ما يدور ،فقاؿ
بعد أف سمع الطفؿ يذكرنا بنفسو:
ػ إنيا القيامة إذف ،وال شيء غير القيامة ،ليتني عبدت اهلل حؽ العبادة!..
وجاءنا الصوت عميؽ مف الخمؼ ،فاستقر في أسماعنا كالقذيفة:
ػ ىكذا أنتـ أييا البشر ،ال تذكروف اهلل إال في المممات ،أيف كاف اهلل في حياتكـ عندما كنتـ قادريف عمى
طاعتو؟ ..انتظرو ا مصيركـ أييا الناس ،فاليوـ تنصب موازيف الحؽ ،ويمقى كؿ فرد منكـ جزاءه العادؿ..
ىتؼ ىاني وىو يصيخ السمع:
ػ أسمعتـ ،ىذا ىو صوت جبريؿ! ..جبريؿ الذي حمؿ رساالت ربو إلى األرض ،فرفضناىا ،ونسيناىا..
قاؿ األستاذ سعيد وىو يفرؾ يديو فرحا:
ػ لقد انتظرت ىذا اليوـ طويبل ألرى الظالميف وىـ عراة مف كؿ قوة..
ثـ تمفت حولو وتساءؿ في حيرة:
ػ ولكف ..أيف فرعوف ،وكسرى ,وقيصر؟ ..أيف بمفور وبف غوريوف وىتمر؟ ..أيف ستاليف وجونسوف وسوموزا؟..
أيف؟..
ولـ يكد يكمؿ حتى عاد الصوت المجمجؿ اليادر يطرؽ األسماع ويزلزؿ القموب:
ػ "محكمة!"..
ساد صمت وسكوف ،وتعمقت العيوف بالطفؿ المتوج ،وتميفت األسماع لمعرفة ما سيصدر عنو ،لكنو لـ ينبس ،
وراح يسدد إلينا نظرات قاسية وكأننا مجرمو حرب ،وطاؿ صمتو ،فسرى الرعب في النفوس ،وأيقنا باليبلؾ ،
خرج الطفؿ المتوج عف صمتو أخي ار وقاؿ:
ػ باسـ األطفاؿ المضطيديف والميمميف والمقتوليف ظمما وعدوانا ،باسـ األطفاؿ األبرياء الذيف ال حوؿ ليـ وال قوة
،أفتتح اليوـ محكمة األطفاؿ الكونية ،ليناؿ الكبار جزاءىـ العادؿ عمى ما اقترفوه في حؽ الصغار مف جرائـ ،
وأخطاء..
أفمتت مف ىاني ضحكة ىستيرية عالية ،ثـ قاؿ:
ػ ال تقنعوني بعد اآلف ،ىذه ليست القيامة ،إنيا مسرحية أطفاؿ ،مسرحية رائعة مف أنجح المسرحيات التي
شاىدتا في حياتي..
ثـ أخذ يصفؽ وييتؼ في حبور:
ػ (برافو)(..برافو)..
قمت لياني ،وقد أرىقتني ثرثرتو:
ػ أرجوؾ يا ىاني ،اصمت ودعنا نفيـ ما يجري..
أدخؿ ىاني سبابتو في زاوية فمو ،وأطمؽ صفي ار مزعجا ظؿ صداه يتردد مدة ،ثـ قاؿ وىو يعود إلى التصفيؽ:
ػ ارحمني مف مبلحظاتؾ السخيفة اآلف ،ودعني أعبر عف إعجابي بيذه الرائعة الفنية التي تفوؽ كؿ ما أبدعو
الكتاب مف مسرحيات وقصص وروايات..
طار الطفؿ إلى ىاني ،وقاؿ لو بميجة متوعدة ،وىو يمسؾ يناصيتو:
ػ إذا لـ تمتزـ اليدوء أييا الكبير المشاغب ،فسوؼ أحكـ عميؾ بالحرماف مف اإلنجاب مدى الحياة..
بيت ىاني وانتابو اليمع ،فربط التيديد لسانو والذ بالصمت..
عاد الطفؿ ذو التاج األحمر إلى مكانو ،ونادى في أصحابو:
ػ فمتتقدـ ىيئة المستشاريف..
تقدمت مجموعة مف األطفاؿ المجنحيف ،ووقفت فوؽ الغيمة التي يقؼ عمييا الطفؿ المتوج..
قاؿ الطفؿ المتوج ،وىو يشير إلى األطفاؿ الذيف انضموا إليو:
ػ ىؤالء األطفاؿ ىـ القضاة الذي سيساعدوني في إصدار األحكاـ العادلة ،وقد اخترتيـ مف بيف آخر األطفاؿ
الضحايا الذيف قتمتيـ الكبار عمى األرض..
الطفؿ األوؿ مات جوعا في الصوما..
والثاني قتؿ بقذيفة حمقاء ألقيت عميو أثناء حرب مف حروب األشقاء األعداء..
والثالث مات ضحية لجيؿ أـ حرمت ابنيا مف التطعيـ ضد األمراض السارية..
والرابع قتمو طبيب محترؼ في رحـ أمو تنفيذا لرغبة األـ التي قررت إجياض جنينيا ،وحرمانو مف حقو في
الحياة..
أما أنا ،فقد كنت أحد ضحايا مجزرة دامية كاف وراءىا شاب أرعف قاد سيارتو دوف أدنى شعور بالمسؤولية ،
فصدـ بيا باص المدرسة الذي كنت أستقمو أنا وأصحابي ،وحولنا إلى أشبلء..
ىمست أحبلـ:
ػ ألـ أقؿ لكـ؟ إنو أحد ضحايا باص األطفاؿ..
قاؿ ىاني محذ ار:
ػ اصمتي يا أحبلـ ،فقد يعاقبؾ قاضي األطفاؿ بعدـ اإلنجاب..
انتبو قاضي األطفاؿ إلى ىاني وىو يخطب أحبلـ ،فتعكرت مبلمحو بحمرة الغضب..
ىتؼ وىو بشير إلى ىاني بسبابتو:
ػ أنت ..أييا المشاغب الكبير ،لقد أنذرتؾ ،ووجب عميؾ العقاب..
ركع ىاني عمى ركبتيو فرقا وصاح متوسبل في ضراعة:
ػ الرحمة أييا القاضي ..لـ أكف أقصد الشغب..
أشار القاضي الصغير ألتباعو مف األطفاؿ المجنحيف بحركة مف رأسو ،ففيمنا لمتو بأنو قد أصدر حكمو الصارـ
،وسرعاف ما انقضت الكائنات المجنحة عمى ىاني ،وقبضت عميو ،وكادت تطير بو ،فتشبثنا بو ،ورحنا بشده
إلينا ،ونحف نرجو القاضي الصغير أف يرحمو ويعفو عنو ،وصاحت أحبلـ وىي تبكي بم اررة:
ػ أنا السبب أييا القاضي ..أنا التي بدأتو بالكبلـ ..عاقبني أنا إذا شئت..
وأردفت متوسبل:
ػ أرجوؾ أييا القاضي ..امنحو الفرصة األخيرة..
أشاح القاضي المجنح بوجيو عنا ،وقاؿ:
ػ أنتـ ال تمنحوف األطفاؿ فرصتيـ ،وليس مف العدؿ أف تنالوا أية فرصة..
قمت لمقاضي الصغير في محاولة أخيرة إلثنائو عف عزمو:
ػ لكف ىاني كاف مف األطباء الذيف شاركوا في إنقاذ أصدقائؾ مف الجرحى ،وقد بذؿ في سبيؿ إنقاذىـ كؿ
مستطاع..
إلي ،ورماني بنظرات قاسية زرعت قمبي بالخوؼ ،ثـ قاؿ بميجة ثائرة:
التفت القاضي الصغير َّ
ػ اعمموا أييا الكبار أف الظمـ الذي يوقعو بعضكـ باألطفاؿ ،لف يعود بالنتائج الوخيمة عمى مف ظمميـ فقط ،بؿ
إف نتائجة المدمرة ستطاؿ البقية الطبية منكـ ،وستدمر ثورة األطفاؿ حياتكـ ،وتحوليا إلى شقاء..
ثـ أردؼ وىو يشيح بوجيو عني ثانية:
ػ عندما تشوىوف أرواحنا الصغيرة ،بالتربية الخاطئة والممارسات الرعناء ،فيجب أف تنتظروا مف كؿ شيء..
ثـ صمت القاضي الصغير ،وىز رأسو بإيماءة صارمة ،فانتزع أتباعو ىاني منا ،وطاروا بو بعيدا..
وجعمت أصرخ وأنادي ممتاعا:
ػ ىاني ..ىاني..
ولـ ألبث أف شعرت بيد ىاني وىي تيزني برفؽ ،فاستيقظت مف حممي العصيب ،ورحت أفرؾ عيني ،وأنا
أليث ،ثـ نظرت حولي في قمؽ ،وكأني أطمئف عمى العالـ قبؿ أف ينيار!..
قاؿ ىاني وىو يبتسـ في دىشة:
ػ ىؿ كاف حمما جميبل؟
تنفست الصعداء ،وقمت:
ػ بؿ كاف كابوسا مزعجا!..
صفعني ىاني بالوسادة ،وقاؿ:
ػ ظننتؾ تناديني في الحمـ مف أجؿ شيء بييج!..
استرخيت عمى السرير ورحت أسترجع الحمـ الذي رأيت ،فضحكت بعد أف تذكرت كؿ ما كاف ،وقمت لياني وأنا
غارؽ في الضحكات:
ػ تصور يا ىاني ..أنت محكوـ عميؾ بعدـ اإلنجاب!..
ػ أنا؟ مف الذي أصدر الحكـ؟..
رئيس محكمة الثورة!..
ػ اقترب ىاني مني ،ووضع يده عمى جبيتي ،ثـ قاؿ:
ػ ح اررتؾ طبيعية! ..عف أي ثورة تتحدث؟!..
أجبتو وأنا أوغؿ في الضحؾ:
ػ ثورة األطفاؿ!..
ػ ثورة األطفاؿ؟!..
ػ أال ثصدؽ؟..
ػ ىذه أوؿ مرة أراؾ تضحؾ في أوقات الجد!..
لسعتني مبلحظة ىاني ،تذكرت فجأة ضحايا باص المدرسة ،فغارت الضحكات مف وجيي ،وحؿ مكانيا ىـ
وقمؽ عمى مصير البقية الباقية مف األطفاؿ.
الفصل السادس عشر
ضحكت أحبلـ عندما حدثتيا عف الحمـ الذي شاىدتو في الميمة السابقة ،وقالت:
ػ ىذا الحمـ يصمح ألف يكوف مسرحية أو فمما ،ينبو الناس إلى أخطار ممارساتيـ الخاطئة مع األطفاؿ..
قمت وأنا أمضي معيا خارجيف مف غرفة العمميات:
ػ يقولوف بأف األحبلـ مصدر مف المصادر التي يعتمد عمييا الكاتب في إثراء خيالو..
ىتفت أحبلـ في حماس وىي تقؼ قميبل:
ػ أما أنا فقد أثار حممؾ في خيالي موضوع لوحة رائعة..
ثـ تابعت وىي تمضي:
ػ سوؼ أذىب اليوـ ألرسـ األطفاؿ المجنحيف وىـ يحمقوف فوؽ رؤوس البشر ،ويرفرفوف بأجنحتيـ كالعصافير..
وسأرسـ القاضي الصغير وىو يقؼ فوؽ غيمة العدالة ،ويرمؽ البشر بنظرات صارمة فييا عتاب الطفولة وآالميا
ممزوجة باالتياـ الصارخ لآلباء الذيف شوىوا أرواح األبناء..
تذكرت الغموض الذي الحظتو في حديث األستاذ سعيد عف والد أحبلـ ،قمت في تردد:
ػ ثمة سؤاؿ يراودني ،لكني أشعر بالحرج في طرحو عميؾ..
تضاحكت وقالت:
ػ اسأؿ ما بدا لؾ..
ػ ىؿ كاف األستاذ سعيد حقا صديقا لوالدؾ؟..
فاجأىا السؤاؿ ،أطرقت قميبل ،ثـ قالت وىي تعبث بسماعتيا الطبية المتدلية عمى صدرىا كالقبلدة:
ػ ىؿ قاؿ لؾ شيئا؟
عرفتُ كبل
ػ في الحقيقة لـ يكف الوقت يتسع لمحديث ،لكني الحظت عمى وجييكما وجوما غامضا ،عندما َّ
منكما عمى اآلخر!..
تنيدت وقالت:
ػ تمؾ قصة قديمة..
ػ يبدو لي أف الحديث في ىذا األمر ال يريحؾ!..
ػ صدقت..
ػ ال داعي إذف لمخوض فيو..
ػ ىؿ تقبؿ دعوتي إلى فنجاف شاي؟..
ػ بكؿ سرور..
شعرت بأني قد تطفمت عمى أحبلـ ،واقتحمت بسؤالي حياتيا الخاصة ،فندمت عمى تسرعي وفضولي ،وقدرت
أف دعوتيا لي ما ىي إال تيرب لبؽ مف الجواب..
ووصمنا إلى مقصؼ العـ درويش ،فرحب بنا في استراحتو ،وسألنا عما نشتيي ،فطمبت أحبلـ منو أف يحضر
لنا فنجانيف مف الشاي المعطر بنكية النعناع ،ثـ اختارت ركنا قريبا مف النافذة ،وجمست ساىمة حزينة تكتسي
نظراتيا بكآبو عميقة..
جمست وأنا أكابد شعو ار بالذنب ،فمـ أكف أعمـ أف سؤالي سيعكر صفوىا إلى ىذا الحد..
وأدركت أف في األمر س ار مؤلما ال ينبغي لي نبشو ،ووجدت مف واجبي أف أخرج أحبلـ مف الجو الذي وضعتيا
فيو ،قمت وأنا أرسؿ نظراتي مف النافذة إلى حديقة المستشفى:
ػ الحديقة تزداد جماال ،بعد أف خمع عمييا الربيع فتنتو..
نظرت أحبلـ إلى الحديقة ،وأطالت النظر ،وىي تتأمؿ قمـ األشجار وأحواض الزىور ،ثـ لمممت نظراتيا
الكئيبة ،وألقتيا نحوي متوىجة بالحزف ،وقالت بنبرة ىادئة عميقة:
ػ منذ سبعة عشر عاما تقريبا ،انيارت عمارة سكنية فوؽ رؤوس ساكنييا ،وذىب ضحية ليذا الحادث ستة
أطفاؿ ،وتسع نسوة ورجؿ واحد ،ىذا غير الذي أعيقوا أو تشوىوا ..مف حسف الحظ أف العمارة لـ تكف مكتظة
بالسكاف ،فقد سقطت أثناء النيار ،حيث كاف معظـ السكاف خارجيا ،منصرفيف إلى شؤونيـ في أماكف العمؿ
والدارسة والتسوؽ ..لكنيا كانت كارثة عمى كؿ حاؿ..
ىؿ تعرؼ مف ىو المقاوؿ الذي قاـ ببناء ىذه العمارة؟..
لـ أجب ،ولـ أفيـ مناسبة ىذا الحديث الغامض عف العمارة المنيارة! ..تركتيا تتابع الحديث بانتظار معرفة ما
ستصؿ إليو ،أطرقت أحبلـ ،وقالت تجيب عف سؤاليا ،وىي تعبث بأصابعيا كمف أربكو أمر:
ػ لقد كاف والدي..
ثـ صمتت برىة ،وداومت اإلطراؽ كالخجمى ،ثـ أرسمت زفرة طويمة وشت بما يعتمؿ في صدرىا مف ألـ وىـ
وقالت:
ػ طبعا بدأ التحقيؽ القضائي في ىذه القضية ،واتجيت أصابع االتياـ إلى الميندس المسؤوؿ عف تنفيذ بناء
العمارة ،ألنو كاف قد وقع عمى عقد يمتزـ فيو بمسؤوليتو الكاممة عف أي خمؿ يحدث في البناء..
دافع الميندس عف نفسو بقوة ،ادعى بأف والدي ىو الذي أمره بأف يقتصد ويوفر في استيبلؾ المواد األولية..
رفض والدي ادعاء الميندس ،وذكره بأف العقد الذي وقع عميو معو ينص عمى أف تقدير كميات المواد البلزمة
لمبناء مف مسؤولية الميندس ،وأف والدي لـ يكف سوى مموؿ لممشروع ،يسدد الفواتير التي كاف يحوليا إليو..
وكاف رد الميندس بأف العقد الذي وقع عميو كاف مجرد خدعة ،وأنو كاف مميئا بالشروط المغرية التي وضعيا لو
والدي كطعـ يجذبو لمقبوؿ بالشروط القاسية األخرى ،وأف األمور سارت في كثير مف األحياف عمى غير ما جاء
في العقد ،وأف الميندس اضطر لمسكوت عف ىذه التجاوزات حتى ال يفقد االمتيازات التي حصؿ عمييا مف
خبلؿ العقد..
َّ
كذب والدي أقوؿ الميندس ،واتيمو بالمراوغة ،وقاؿ لو أماـ ىيئة المحكمة التي فصمت في األمر" :لـ تكف
مضط ار لمتوقيع عمى عقد تجد فيو شروطا ليست لصالحؾ"..
قاؿ القاضي كممتو :الميندس مذنب ،ويستحؽ اإلعداـ..
سألت أحبلـ وأنا أتابع القصة باىتماـ:
ػ ووالدؾ؟
قالت أحبلـ بنبرة غامضة توحي بأنيا غير مقتنعة بما تقوؿ:
ػ أثبت والدي أف دوره في عميمة البناء كاف مقصو ار عمى التمويؿ واالستثمار ،وشيد المحاسب الخاص بمشروع
العمارة إلى جانب والدي..
قاؿ المحاسب بأف الميندس كاف يشتري المواد األولية البلزمة لممشروع ،ثـ يقدـ الفواتير لوالدي ليسددىا ،ولـ
يكف والدي يتدخؿ في تحديد كميات ىذه المواد ،ومع ىذا لـ ينج والدي مف المسؤولية ،فقد حكمت عميو
المحكمة بتعويض المتضرريف عف خسائرىـ المادية..
وأقبؿ العـ درويش يحمؿ الشاي ،فوضعو أمامنا ،وقاؿ ببشاشتو المعيودة:
ػ الشاي يا دكاتره..
شكرناه وعندنا لمحديث ،قالت أحبلـ:
ػ كاف الميندس شابا حديث التخرج ،قميؿ الخبرة ،طموحا يبحث عف فرصة كبيرة تدر عميو الماؿ ،وتحرؽ أمامو
المراحؿ نحو القمة التي يحمـ بيا ،فوجد فرصتو في العرض الذي قدمو لو والدي ،ووافؽ عميو بكؿ شروطو..
عمقت منك ار:
ػ جميؿ أف يكوف اإلنساف طموحا ،متحمسا لموصوؿ إلى أىدافو بسرعة ،لكف أف يتسمؽ عمى أشبلء اآلخريف ،
فيذه قمة الدناءة واألنانية والجشع!..
تمقت أحبلـ كبلمي بتأثر واضح ،وكأني أعنييا بو ،فممعت عيناىا برقاقة مف الدمع ،وشعت نظراتيا ببريؽ
حزيف ،ىمست كالحائر:
ػ دكتورة أحبلـ ..ىؿ قمت كبلما أزعجؾ؟..
انتبيت أحبلـ لمبلحظتي ،فابتسمت لتخفي الحزف الذي ألـ بيا فجأة ،وقالت:
ػ أبدا ..كنت أفكربكبلمؾ فقط..
ػ وىؿ يحزنؾ التفكير بكبلمي إلى ىذا الحد؟.
ػ ما يحزنني أف كبلمؾ ال ينطبؽ عمى الميندس فقط!..
صمتت أحبلـ برىة ،ثـ قالت:
ػ لـ يكف الميندس وحده الذي تسمؽ عمى أشبلء اآلخريف..
ػ ما زلت لـ ال أفيـ..
ػ إذا عرفت بقية القصة ،فستفيـ كؿ شيء..
ػ ألـ تنتو القصة بإدانة الميندس؟..
تناولت أحبلـ رشفة مف فنجانيا ،ثـ قالت:
ػ كادت القصة تطوى عند ىذا الحد لوال أف فجرىا األستاذ سعيد الناشؼ مف جديد..
ػ سعيد الناشؼ!..
ػ أال تريد أف تعرؼ نوع العبلقة التي تربط والدي باألستاذ سعيد؟..
أدركت أخي ار أف لقصة العمارة المنيارة عبلقة بسؤالي ،وظننت أف أحبلـ تجيب عف السؤاؿ مكرىة ،قمت ليا:
ػ لست متمسكا بالسؤاؿ..
ػ لكني متمسكة باإلجابة..
ػ فيمت أف الحديث في ىذا الموضوع ال يريحؾ!..
أمالت أحبلـ رأسيا في ىدوء حزيف ،وعادت غبللة الدمع تممع في عينييا ،قالت وىي تزحزح فنجانيا بحركة
رتيبة وكأنيا تداعبو:
ػ ثمة أحاديث كثيرة ،ال يرتاح اإلنساف لمخوض فييا ،لكف ىذه األحاديث ال ينبغي أف تبقى مكتومة في الصدر
إلى ما ال نياية ..يجب أف تخرج إلى اليواء قميبل ،لتنفث آثارىا السامة خارج الجسد ،حتى ال تنفجر داخمو
فتدمره ..يجب أف نخرجيا مف خمؼ الضموع ليسمعيا إنساف قريب منا ،فيألـ أللمنا ،ويشاركنا أحزاننا ،ويحمؿ
معنا ىمنا الثقيؿ..
إلي عينيف مخضمتيف بالدموع ،وىمست:
ثـ رفعت أحبلـ َّ
ػ ىؿ ترضى أف تكوف ىذا اإلنساف يا دكتور؟..
تأثرت لمرآىا الحزيف ،سارعت وقدمت ليا منديبل تمسح بو دموعيا ،ثـ قمت مواسيا:
ػ إني أسمعؾ ..أرسمي ما يؤرؽ صدرؾ ،واعممي بأنو سيكوف محفوظا بيف جنبي صديؽ ..كمنا بحاجة إلى أف
نبوح بما يرىؽ صدورنا ،وكمنا بحاجة لمف يسمعنا في لحظات الضيؽ..
جففت أحبلـ دموعيا ،واستنشقت بعض اليواء الذي ىب مف النافذة معط ار بشذا الياسميف ،ثـ قالت:
ػ بعد انتياء المحاكمة بأشير طمع األستاذ سعيد الناشؼ عمى الناس بمقاؿ مثير ..قاؿ في مقالو :إف المحاسب
الذي شيد إلى جانب والدي لـ يقؿ الحقيقة ،وأنو قد زور شيادتو أماـ المحكمة ،بعد أف كاف قد شيد أماـ
الشرطة بأقواؿ مختمفة تديف والدي ،وتثبت مسؤوليتو المباشرة عف حادث سقوط العمارة ،وتابع األستاذ سعيد
سمسمة اتياماتو لوالدي ،فادعى أف الشيادة الحقيقة التي أدلى بو المحاسب قد سرقت مف ممفات التحقيؽ ،وأف
المحاسب قد اعترؼ في شيادتو األولى بأنو سمع والدي أكثر مف مرة وىو يطالب الميندس بعدـ اإلسراؼ في
تسميح البناء ،واالقتصاد في استيبلؾ المواد األولية ،حتى يقوـ البناء بأقؿ تكمفة ،ويباع بأربح ثمف ،مما جعؿ
الميندس يبالغ باالقتصاد والتوفير إرضاء لوالدي ،ويحرـ البناء مف الحد األدنى مف التسميح الذي يساعده عمى
الصمود ومقاومة السقوط..
ثـ أكد األستاذ سعيد أف المحاسب قد ىاجر إلى الواليات المتحدة ،وأنو يقوـ ىناؾ بمتابعة دراستو العميا في
إحدى الجامعات األمريكية ،واستدؿ مف ىذه المعمومات بأف المحاسب ما كاف ليستطيع متابعة دراستو العميا
وتكاليفيا الباىظة ،لوال أف قبض ثمنا غاليا لسكوتو!..
ػ وماذا كاف رد والدؾ عمى كؿ ىذه االتيامات؟
ند عني ىذا السؤاؿ دوف إرادة مني ،وأنا أصغي إلييا باىتماـ ..قالت أحبلـ:
ػ لـ يسكت والدي طبعا عمى اتيامات األستاذ سعيد ،فاتيمو بالطعف والقذؼ ،وطمب مف القضاء أف ينصفو ،
ونشبت بيف الطرفيف معركة قضائية حامية ،كسبيا والدي في النياية ،وتـ إيقاؼ جريدة األياـ التي يممكيا
األستاذ سعيد لمدة ثبلثة أشير ،ألنيا تنشر أنباء كاذبة تمس الجميور ،وتستغؿ صفحاتيا لمتشيير بالناس..
قمت ألحبلـ:
ػ إدانة المحكمة لؤلستاذ سعيد الناشؼ تعني أف والدؾ بريء مف كؿ ما نسب إليو..
قالت أحبلـ بميجة غاضبة:
ػ ىذا ما يبدو لمناس..
ػ ىذا ما يبدو لمناس؟!..
ىكذا قمت في دىشة ،بعد أف أثارت كمماتيا فضولي! ..ىؿ يبدو ليا األمر عمى غير الوجو الذي يبدو فيو
لمناس؟! ..وحرت في فيـ المعنى الغامض الذي يستتر خمؼ كمماتيا ،وانتظرت أف تستأنؼ أحبلـ بوحيا لتسكت
فضولي ،لكنيا صمتت ،وعادت إلى فنجانيا تيدىده ،قالت وىي تمعف النظر في الفنجاف الذي برد قبؿ أف
تكممو:
ػ ىؿ تعمـ ما أقسى شيء في الوجود؟
ابتسمت في م اررة وقمت:
ػ في ىذا العالـ ألواف مف القسوة ،فأييا تريديف؟
اغتسمت عيناىا ثانية بالدمع ،فتوىجت خضرتيما الصافية بأشعة حزينة تحرؾ قمبي ،وخفؽ إشفاقا عمى ىذه
الفتاة التي تقطر حزنا وكآبة ،قالت أحبلـ وىي تمسح دموعيا المنثالة فوؽ خدييا بيدوء:
ػ أقسى ما في الوجود أف تصدـ فيمف تحب ..أف ترسـ في خيالؾ صورة مشرقة إلنساف عزيز ،ثـ يأتي الواقع
القذر ليمطخ تمؾ الصورة الزاىية الجميمة باألوحاؿ ..فما بالؾ إذا كاف ىذا اإلنساف العزيز عميؾ ىو قدوتؾ
ومثالؾ؟ ..ما بالؾ إذا كاف ىذا اإلنساف أباؾ؟..
قمت وأنا أشفؽ عمييا مف آالـ االعتراؼ:
ػ دكتورة أحبلـ ..لعمؾ متعبة!..
قالت في توسؿ حازـ:
ػ أرجوؾ ..دعني أكمؿ ..منذ زمف بعيد وأنا أبحث عف إنساف أبوح لو بسري ..أريؽ أمامو ما في صدري ..أتكمـ
إليو بصدؽ وصراحة ..فكف ىذا اإلنساف ،ولو لمحظة ،ثـ انس ما سمعتو مني أو احتفظ بو ،ال فرؽ..
ىمست مستسمما:
ػ تفضمي وأكممي ..إني أحترـ بوحؾ ىذا ،وأصغي إليو..
أخذت أحبلـ نفسا عميقا ،ثـ أرسمت زفرة ممتيبة ،وقالت:
ػ عندما حدثت كارثة العمارة المنيارة كنت فتاة صغيرة ال أكترث بمثؿ ىذه األحداث ،وال ألقي ليا باال ،وعندما
كبرت ونضج وعيي وجدتني أحاوؿ فيـ ما حدث..
روت لي أمي قصة العمارة ،وما انتيت إليو المحاكمات بشأنيا ،وحدثتني بما كاف مف األستاذ سعيد ،وأقنعتني
بأف والدي كاف مظموما في ىذه القضية ،وأف الصحفي سعيد الناشؼ كاف مغرضا في اتياماتو لو ،وعممتني أف
قدر الناجحيف والمشيوريف أمثاؿ أبي أف يجدوا في طريقيـ الحاسديف والحاقديف واألعداء..
وبقيت ىذه القصة بكؿ تفاصيميا ىاجعة في ذاكرتي ،تستيقظ بيف الحيف والحيف في مناسبات عابرة ،ثـ تعود
إلي الشؾ يوما بأف والدي نظيؼ بريء
إلى أعماؽ الذاكرة ،وتغيب فييا كحدث عادي كاف ومضى ،ولـ يتطرؽ َّ
مف كؿ ما ألصقو بو اآلخروف مف اتيامات ،حتى قامت حرب حزيراف ،واكتشفت حقيقة أبي!..
ستسألني :ما عبلقة حرب حزيراف باكتشاؼ حقيقة أبي؟!..
عندما قامت إسرائيؿ بعدوانيا الغادر عمينا عاـ 7667ـ ،كاف والدي يعقد صفقة ميمة في الياباف ،وكنا نعيش
ىنا في ذعر ،خوفا مف القنابؿ اإلسرائيمية التي كانت الطائرات العدوة تمقييا عمى األحياء السكنية بوحشية..
قمت ألحبلـ وقد نالت ذكرى اليزيمة مف ىدوئي ،وأورثتني ألما وحسرة:
ػ أنت تذكرينني اآلف بأياـ سوداء ،امتزج فييا األلـ بالصدمة والذؿ واليزيمة..
تابعت أحبلـ بنبرة حزينة:
ػ اتصؿ بنا والدي أثناء الحرب ليطمئف عمى أحوالنا ،فتحدثت إليو ،وأخبرتو بأف إسرائيؿ تقصؼ السكاف اآلمنيف
،وتدمر البيوت فوؽ ساكنييا ،وال تميز بيف منزؿ أو مدرسة أو مستشفى ..تريد لو تستأصمنا بقذائفيا الحاقدة ،
وتمحونا عف الوجود..
ىدأ والدي مف روعي ،ونصحنا أف نحتاط جيدا مف الغازات اإلسرائيمية ،فبل نغادر الممجأ إال لمضرورة القصوى
،وطمب مني أف أفتح خزينتو ،وأخرج كؿ ما فييا مف أوراؽ وأمواؿ ،وأحتفظ بيا معي ،وأخفييا عف العيوف
جيدا ،فقد خاؼ والدي آنذاؾ أف تدمر قذائؼ األعداء بيتنا ،وتتمؼ أوراقو اليامة التي تحوي عمى عقود ،وأوراؽ
ممكية ،وسندات وايصاالت وغير ذلؾ مف الوثائؽ اليامة إضافة إلى مبمغ كبير كاف يحتفظ بو والدي في خزنتو
لمطوارئ العاجمة ..ثـ ذكر لي الرقـ السري الذي اختاره مفتاحا لخزنتو ،وحذرني مف أف تقع أوراقو في يد مخموؽ
،حتى لو كاف أمي..
ونفذت ما طمبو والدي بالحرؼ ،فجمعت أوراقو ونقوده في حقيبة ،وحفظتيا في مكاف أميف مف الممجأ ،وأخفيت
األمرعف والدتي ،حتى ال أكوف سببا في شجار مف الشجارات العنيفة التي كانت تندلع بيف أمي وأبي حوؿ
مصالحيما وأعماليما المشتركة..
وعشنا في الممجأ الفسيح الذي بناه أبي تحت منزلنا أياما قاسية ..نخوض في أخبار الحرب ،ونتمقى أنباء اليزائـ
بألـ وذىوؿ كمف يتمقى أنباء مصرع أفراد أسرتو واحدا بعد واحد..
وابتميت باألرؽ والسياد ،فمـ أعد أذوؽ لمنوـ طعما ،وجثمت اآلالـ عمى صدري كجبؿ مف الشوؾ ،ووجدت
نفسي ذات ليمة في حالة عارمة مف اليأس واأللـ والممؿ والضجر والضيؽ ..بحثت عمف يبدد وحشتي بحديث أو
حوار ،فألفيت الجميع قد ناموا بعد أف أرىقيـ السير الطويؿ والقمؽ المرىؽ ..فتحت المذياع ،فخدشت سمعي
أخبار اليزيمة ،واعتصرت فؤادي األغاني الحماسية التي تتحدث عف االنتصار في لحظات االنييار ،وتبشر
بالمد المتعاظـ في عصر االنحسار ..أغمقت المذياع بعصبية وحنؽ ،ولوال إشفاقي عمى النائميف ،لقذفت بو
عمى األرض ،وحولتو إلى حطاـ..
وخطر لي أف أتفقد أوراؽ والدي ونقوده ،فمضيت إلى المكاف األميف الذي أخفيتيا فيو ،ورحت أتسمى بقراءة
األوراؽ ،مدفوعة بفضوؿ عادي لمعرفة أمبلؾ أبي وحدود ثراءه..
وسألتني أحبلـ فجأة:
ػ ىؿ كاف تصرفي خاطئا؟..
ػ ال أعتقد..
ػ كاف فضولي بريئا مف أية نية سيئة..
ػ أتفيـ ذلؾ تماما..
ػ ليتني لـ أفعؿ..
ػ لماذا؟
أطرقت أحبلـ وقالت:
ػ ألني عثرت بيف أوراؽ والدي عمى شيادة المحاسب التي اتيـ األستاذ سعيد والدي بسرقتيا مف ممفات الشرطة!..
وفيمت كؿ شيء ،أدركت كـ كانت صدمة أحبلـ بحقيقة أبييا قاسية وأليمة ،سألتيا بميجة مترددة:
ػ وماذا جاء فييا؟
قالت أحبلـ ،وقد توىج وجييا بالحياء ،خجبل مما أتاه والدىا مف آثاـ:
ػ اعترؼ المحاسب في شيادتو بأف والدي كاف وراء شح المواد األولية التي رصدت لممشروع ،وأنو طمب مف
الميندس المنفذ أكثر مف مرة ،أال يسرؼ في تسميح البناء ،وروى المحاسب أنو سمع والدي يقوؿ لمميندس
بالحرؼ" :أجدادنا كانوا يعيشوف في بيوت مف الطيف ،فمـ تسقط عمييـ ،ال أدري لماذا يجب أف نحوؿ بيوتنا إلى
قبلع؟!" , ..أضاؼ المحاسب في شيادتو بأف الميندس صارحو ذات مرة بأنو غير مرتاح لمطريقة التي تسير بيا
األمور ،لكنو مضطر لبلستمرار في العمؿ حتى يجمع المير الباىظ ،وثمف الشقة والسيارة التي وضعتيا أسرة
فتاتو شروطا صارمة ال بد منيا لمرضاء بو كزوج البنتيـ المدلمة.
وصمتت أحبلـ مستسممة لتيار متدفؽ مف الدمع ،فرجوتيا أف تتمالؾ أعصابيا خشية أف يراىا أحد عمى ىذه
الصورة ،فيفيـ األمر عمى غير حقيقتو..
وال حظ العـ درويش بكاء أحبلـ ،فخؼ إلييا بميفة األب الحاني ،وىو يحمؿ كأسا مف الماء ،قاؿ العـ درويش
وىو يميؿ نحوىا برفؽ:
ػ خي ار يا ابنتي ،لماذا كؿ ىذه الدموع؟
جففت أحبلـ دموعيا ،وقالت:
ػ ال شيء يا عـ درويش ،اطمئف..
ػ كيؼ أطمئف وأنا أراؾ دامعة حزينة؟..
وأشرت لمعـ درويش أف اترؾ األمر لي ،فانصرؼ بيدوء ،ولـ يمبث أف عاد وىو يحمؿ كأسا مف الميموف ،
فوضعو أماـ أحبلـ ،ثـ مضى في صمت ،وجمس بعيدا يرمقنا في قمؽ ،قمت ألحبلـ:
ػ أرجو أف تممكي دموعؾ بعد اآلف ،نحف في مجتمع يحب الثرثرة ،ويصغي إلييا ،ولف يفيـ أحد حقيقة دموعؾ
الطاىرة..
لمست أحبلـ في كبلمي حرصا وحنانا ،فأومأت شاكرة ،وجعمت تمـ شتات مشاعرىا ،وتستعيد ىدوءىا ،
تماسكت وقالت بعد صمت قصير:
ػ منذ العاـ المشؤوـ ..عاـ اليزيمة ،وأنا أحمؿ ىذا السر في صدري ..لشد ما عذبتني الحقيقة ..فقدت احترامي
لوالدي ..فقدت إيماني بو ..انكسر داخمي كتمثاؿ مف الزجاج ،وتحوؿ إلى شظايا حادة ،تمزقني وتدميني مف
الداخؿ ..حاولت أف أنسى ..ضميري رفض أف يسكت ..ظؿ يمسعني بسياط الموـ والتعنيؼ ..ييتؼ بي أف أفع
شيئا ..أي شيء ،لكني ضعفت ..انيزمت ..عشت أيامي التالية كريشة تائية ..شعرت بأني غصف مكسور..
أحسست بأني لقيطة ..نعـ ،لقيطة ..كمقيطتؾ التي شغمتنا بو منذ أسابيع ..عندما كنت أعالج تمؾ الطفمة كنت
أحسدىا ألنيا أسعد مني حظا ،فيي لـ تعرؼ أباىا ،وقد ال تعرفو أبدا ،أما أنا فأعرؼ مف ىو أبي وأعرؼ ما
حقيقتو ..كاف في نظري مبلكا ثـ ىوى ..ىوى كما تيوي الشيب المضيئة ،وتنطفئ في قاع األرض..
وسألت أحبلـ:
ػ ألـ تفكري بمواجيتو بالحقيقة؟
ػ لـ أجرؤ..
ػ إلى متى ستسكتيف؟..
ػ ال أدري..
ػ معؾ حؽ ،إنو أبوؾ عمى كؿ حاؿ..
ػ يبدو أف ىناؾ فرقا بيف ما يجب أف يكوف ،وما يمكف أف يكوف..
ثـ تساءلت أحبلـ:
ػ لماذا لـ يعد الناس يطيقوف البراءة؟..
ابتسمت كالساخر ،وقمت:
ػ ألنيا سيء غير محسوس ..شيء ال يؤكؿ وال يشرب وال يمبس وال يصرؼ وال يوضع في البنؾ! ..لقد آمف
الناس بالمحسوس وكفروا بالمعاني..
شعورىـ بالحياة أمسى حسيا غميظا ..القيـ الجميمة لـ تعد تبعث األشواؽ في نفوسيـ ..إنيا العودة إلى البدائية
األولى عندما كنت مشاعر الناس بميدة جامدة قاسية كاألدوات الحجرية التي كانوا يستعممونيا..
وأرسؿ جياز اإلنذار الذي تحممو أحبلـ عدة إشارات ،فنيضت لتمبي النداء ،قمت ليا قبؿ أف تمضي:د
ػ اغسمي وجيؾ قبؿ أف تذىبي ،فالحزف ما زاؿ عالقا فيو..
ابتسمت ،ومضت ،وأنا أشيعيا بنظرات ممؤىا الحب واإلكبار..
ىذه ىي الفتاة التي تستحؽ أف يموت مف أجميا الرجاؿ ،ويقطعوا في سبيميا مفازات المستحيؿ!..
الفصل السابع عشر
بذرة الحب التي ألقتيا أحبلـ في قمبي بدأت تنفض عنيا غبار الحيرة والتردد ،وتشؽ طريقيا إلى النور ،وما
فتئت تنمو وتكبر حتى أورقت باألمؿ ،وأزىرت بالفرح ،وأفعمت أعماقي بعبؽ ساحر لذيذ ..بشيء كالنشوة..
كالحمـ ..شيء غامض يدغدغ النفس بأشواؽ مبيمة ،ويمنح الروح رقة وخفة وقدرة عمى التحميؽ ،وكأنيا طائر
رشيؽ يرفرؼ بأجنحتو في دنيا مسحورة ،كؿ ما فييا جميؿ وبييج..
ىذا ما راودني ،وأنا أستيقظ صباح اليوـ التالي عمى طيؼ أحبلـ ،وىو يمس روحي مسا لطيفا ،ليوقظيا مف
رقادىا ،ويطمقيا في عالـ مف الصفاء الحبور..
وانبثؽ في أغواري تفاؤؿ عارـ ،فشعرت برغبة لبلنطبلؽ ..لمعمؿ ..لمقاء الناس ..لمضحؾ ..لمطيراف ..دخمت
عمى أمي في المطبخ ،ورحت أساعدىا في تحضير الطعاـ ،ثـ حممت األطباؽ إلى المائدة في خفة ونشاط ،
وجمست مع والدي نتبادؿ األحاديث كاألصدقاء ..لكأني أتذوؽ الحياة لممرة األولى ،منذ متى لـ أشيد اجتماع
العائمة حوؿ مائدة اإلفطار!..
قالت أمي وىي تنضـ إلى المائدة :لو كنت أعمـ أنؾ ستكوف ضيفا عمينا ىذا الصباح ،ألعددت لؾ فطو ار يميؽ
بؾ يا دكتوري العزيز..
وأردؼ أبي :يا لؾ مف محظوظ ..تعيش في البيت كالضيؼ المدلؿ ،ونعامؿ نحف كمواطنيف مف الدرجة
الثانية..
ضحكت في زىو كاذب ،وأقبمت عمى األكؿ بشيية عجيبة أثارت دىشة أمي ،ولـ يمبث إخوتي أف توافدوا وىـ
عمي بتعميقاتيـ ودعاباتيـ..
يضحكوف ،وانيالوا َّ
ػ تبدو سعيدا ىذا الصباح! ..ىؿ منحؾ مدير المستشفى مكافأة جديدة؟
ػ بؿ قولوا :إنو مفمس ،وقد جاء يتقرب إلى أبيو مف أجؿ بعض النقود.
ػ أطباء آخر زمف ..تراىـ منفوشيف كالطاووس ،وجيوبيـ فارغة كجيوب الفقراء..
لـ أستسمـ لدعاباتيـ المفعمة بالود ،فكمت ليـ الصاع صاعيف ،وأمطرتيـ بمزاح ثقيؿ ،فتعالت الضحكات
البريئة الصافية ،وساد جو صاخب أليؼ مفعـ بالبيجة والسرور..
واقترب موعد دوامي في المستشفى ،فمضيت إلى غرفتي ،واخترت أجمؿ مبلبسي ،فارتديتيا ،وأسرفت في
التأنؽ حتى رضيت عف مظيري وىندامي ،ثـ أقبمت عمى أمي وأنا أصفر في مرح ،فقبمت يدىا ورجوتيا أف
تدعوا لي ،فضحكت ،ووضعت كفا عمى كؼ ،وعمى شفتييا ابتسامة حائرة ،وسؤاؿ صامت عف سر ىذا
التصرؼ المرح الذي قمت بو..
قاؿ والدي وىو يحتسي قيوتو :ما ىذا األدب الجـ الذي ىبط عميؾ مف السماء..
ردت عميو أمي :بني مؤدب دائما ،أتغار ألنو قبؿ يد أمو ،أىمؿ يد أبيو؟..
قمت لو أحاوره:
وانحنيت عميو ألقبؿ منو الجبيف ،فماؿ برأسو إلى الخمؼ متيربا ،وىو يضحؾ ،لكني قبمتو عنوة ،فارتسمت
عمى شفتيو ابتسامة فييا حياء وامتناف..
قمت كالمرتاب:
ػ أييا المئيماف ..أال تطيقاف أف تريا أخاكما الكبير سعيدا ىذا الصباح؟..
إلي في ود:
قالت أمي وىي ترنو َّ
ػ اهلل يسعد أيامؾ كميا ،اذىب إلى عممؾ وال تمؽ باال لدعاباتيـ السخيفة..
ػ ىذا حمؼ لف يدوـ ،غدا تأتي بنت الحبلؿ ،فتخطؼ صبلح وتجره إلى جانبيا ،وتضطر أمي لبلنحياز إلينا..
ػ أيتيا البومة ،كبلمؾ دائما يقطر بالتشاؤـ ..أعاذنا اهلل مف أفكارؾ السوداء..
وودعتيـ وىـ يضحكوف ،ثـ انطمقت بسيارتي في شوارع المدينة ،وأنا أحس في حياة لـ ألمحيا مف قبؿ!..
*************
وصمت إلى المستشفى ،وأسرعت إلى غرفتي في جناح األطباء المقيميف ،فارتديت ردائي األبيض عمى عجؿ ،
ثـ مضيت في حماس ،ورحت أىبط الدرج بخفة ومرح ،وفي أعماقي شوؽ جارؼ لرؤية أحبلـ..
واستقبمني ىاني ببشاشتو المعيودة ،وراح يثني عؿ أناقتي فيما يشبو الممز ،ويسألني في خبث عف سر اىتمامي
الزائد بنفسي!..
تجاىمت تعميقات ىاني ،ورحت أتجوؿ في الممرات والغرؼ باحثا عف أحبلـ ..ولكف أيف أحبلـ؟ لقد مضى عمى
بدء الدواـ أكثر مف نصؼ ساعة ،ولـ تظير! ..لو أنيا حضرت لصادفتيا وىي داخمة أو خارجة أو مشغولة
بالمرضى والمصابيف!..
وشعرت بانقباض ممض يقرصني مف الداخؿ ،وتحولت نظراتي مف التفاؤؿ إلى القمؽ ..سألت عنيا ،فأخبروني
بأنيا قد اتصمت بمدير شؤوف الموظفيف ،وأعممتو بأنيا لف تحضر ىذا اليوـ ،لماذا غابت يا ترى؟ شغمني ىذا
السؤاؿ برىة وأنا أفكر في أمر غيابيا ..ىؿ تشكو مف مرض؟ أـ شغمتيا مناسبة طارئة؟ إنيا طبيبة مثابرة وقمما
تغيب! لماذا غابت اليوـ بالذات؟..
ولسعني خاطر مزعج أثار حفيظتي ،وبدد ىدوئي ..لعميا نادمة ألنيا تسرعت بالبوح لي بما يؤرؽ صدرىا مف
حقائؽ وأسرار! ..ىذا ممكف جدا ..فأحبلـ الرقيقة المرىفة ،ال تستطيع أف تبدو أمامي ابنة مجرـ ..ىذا اإلحساس
البد أنو يعذبيا ..قد يجعميا تندـ عمى اعترافيا لي ،ولكف ..أنا لـ أجبرىا عمى االعتراؼ! ..كاف بإمكانيا أف
تحتفظ بالسر الخطير الذي أطمعتني عميو ،وتدفنو في صدرىا ،لكف أعماقيا الطاىرة لفظت ىذا السر ..لـ
تستطع أف تخفيو إلى ما ال نياية ،أرادت أف يحممو معيا إنساف آخر ،وكنت أنا ىذا اإلنساف..
وتفاقـ القمؽ في أعماقي ،وعصؼ غياب أحبلـ بكؿ األفراح التي كانت ترفرؼ داخمي ،فأظمـ المستشفى في
عيني ولـ أعد أطيؽ البقاء فيو..
عمي ،فراح يسألني عف سر اضطرابي ووجومي ،لـ يكف ىناؾ ما أجيب بو.ز
انتبو ىاني إلى التغير الذي ط أر َّ
قمت لو فجأة:
ػ لماذا اإلجازة؟ منذ قميؿ حضرت إلى المستشفى بنفس مفتوحة ،وحماس لمعمؿ!..
رمقت ىاني بغضب ،شعرت بأنو قد فيـ سر اضطرابي فأراد أف يحرجني بالسؤاؿ ،ىتفت بعصبية ظاىرة:
ػ صبلح ال تستطيع أف تغيب اليوـ ،بعد ثبلث ساعات سينتيي دواـ األطباء الذيف يعمموف معي ،ولف يبقى في
القسـ أحد غيري..
وغادرت المستشفى بغير الوجو الذي جئت بو إليو ،تطاردني وحشة خانقة ،أحسست ألوؿ مرة في حياتي أني
وحيد ،ال تربطني بيذا العالـ سوى فتاة واحدة اسميا أحبلـ..
وانطمقت بسيارتي في شوارع المدينة الصاخبة أبحث عف مخرج مف ىذه الوحدة القاتمة التي راحت تضيؽ ،
وتضيؽ ،حتى كادت تسحؽ فؤادي بيف جدارنيا المظممة..
لماذا غابت أحبلـ؟ ..أتكوف حقا نادمة عمى بوحيا لي؟ ..مسكينة ىذه الفتاة ،كـ تعاني!..
وقفزت إلى ذاكرتي كممات أحبلـ الحزينة ،فرحت أسترجعيا كممة كممة" ..حاولت أف أنسى لكني لـ أقدر..
ضميري رفض أف يسكت ..ظؿ يمسعني بسياط الموـ والتعنيؼ ..ييتؼ بي أف أفعؿ شيئا ..أي شيء ..لكني
ضعفت ..انيزمت ..عشت أيامي التالية كريشة تائية ..شعرت بأني غصف مكسور ..أحسست أني لقيطة! ..نعـ
لقيطة ..كمقيطتؾ التي شغمتنا بو منذ أسابيع"..
وتداعت خواطري فحممتني إلى الطفمة المقيطة التي شغمني لغزىا زمنا غير قصير ،وراودتني فكرة زيارة الطفمة
فتحمست ليا ،واتجيت بسيارتي إلى ممجأ الحناف لؤليتاـ ،ألطمئف عمييا..
وصمت إلى الممجأ ،ومضيت إلى مكتب اإلدارة ،فوجدت فيو امرأة كيمة تقوـ عمى إدارتو ،رمقتني المديرة مف
فوؽ نظارتيا المنكسة ،ثـ رفعت نظارتيا ،وأحكمت وضعيا فوؽ عينييا ،وىمست فيما يشبو السؤاؿ:
ػ تفضؿ..
ػ أريد أف ..في الحقيقة ..جئت في الواقع لمسؤاؿ عف طفمة لقيطة حدث أف حولناىا لكـ منذ أسابيع ،أريد
االطمئناف عمييا فقط!..
ػ ال .أبدا..
رمقتني بنظرة ال تخمو مف الشؾ ،فضولي ليس مف النوع المستساغ!..
ػ كؿ ما في األمر أني كنت موجودا عندما أحضروىا إلى المستشفى ،وكاف لقصتيا أثر في نفسي ،فجئت اليوـ
ألطمئف عمييا..
كمماتي لـ ترفع وشاح الشؾ عف نظراتيا ..قالت وىي تشممني بنظرة فاحصة:
ػ شعور طيب منؾ يا دكتور أف تسأؿ عف طفمة بريئة أىمميا أبواىا ..ىؿ تعرؼ اسميا؟
ػ في الحقيقة جئت إلى ىنا عفوا دوف سابؽ تخطيط ،لكني إذا راجعت استمارات النزالء لعرفتيا عمى الفور..
ػ لكف استمارات النزالء سر مف أسرار الممجأ ،ال يجوز ألحد اإلطبلع عمييا..
ػ عمى أية حاؿ ىي طفمة معروفة ،إنيا الطفمة التي وجدت ممقاة في حديقة مسجد اإلخبلص ،وقد أعمف عف
اكتشافيا في جريدة األياـ ،البد أنؾ تذكرينيا..
نظراتيا لـ تمنحني صؾ البراءة بعد ،لكنيا دخمت معي في ىدنة مؤقتة حتى تعرؼ نياية فضولي ،ضغطت
عمى زر كيربائي بجانبيا ،فانطمؽ مف خارج الغرفة رنيف قريب ،ما لبث أف جاء عمى صوتو رجؿ كيؿ يعمؿ
مستخدما في الدار..
ػ محمود ..دؿ الدكتور عمى الطفمة بارعة .إنيا في القاعة الثالثة عند اآلنسة نو ار..
تساءلت بغير قصد:
ػ ىؿ سميتموىا بارعة؟
ليجتيا لـ تعجبني ،شكرتيا ببرود ،ومضيت مع العـ محمود إلى المكاف الذي ذكرتو لو ،فقادني إلى قاعة
فسيحة ،تصطؼ عمى جانبييا أسرة األطفاؿ.
استقبمتنا اآلنسة نو ار المشرفة ،شيء ما تحرؾ داخمي نحو اآلنسة نورا! ..وجدت في مبلمح وجييا مبلمح
وتعابير مألوفة أذكر أني رأيتيا مف قبؿ! ..ولكف أيف؟ ال أدري! ..رحبت بنا اآلنسة نو ار بابتسامة لطيفة سرعاف ما
خبت عندما رأتني ،مما عزز عندي شعوري بأننا قد التقينا في مناسبة سابقة!..
ػ الدكتور يريد االطبلع عمى حالة الطفمة بارعة ،المديرة أوصت بذلؾ..
ػ بارعة؟
تدخمت موضحا:
ػ نعـ .الطفمة التي جاءتكـ مف مستشفى ابف النفيس ،لقد كنت أحد األطباء الذيف ساىموا في اإلشراؼ عمى
عبلجيا ،وقد أحببت أف أطمئف عمييا..
كاف استقباؿ اآلنسة نو ار لكمماتي غامضا! بدت مستاءة أو مضطربة ،استرجعت كمماتي ألتأكد إف كاف فييا ما
يسيء ،فمـ أجد أني قد تفوىت بكممة نشاز!..
ػ تفضؿ معي..
مضيت خمفيا وأنا أكابد حيرة مزعجة ،حممت اآلنسة نو ار الطفمة بارعة برفؽ ،وقدمتيا لي ،تناولت الطفمة ،
وجعمت أتأمميا بإعجاب ..لقد تحسنت صحتيا تحسنا واضحا ،وأشرؽ وجييا بوسامة فاتنة وجماؿ باىر.
رنت الطفمة بعينييا الزرقاويف وكأنيا ترنو إلى صديؽ ،ورفرفت عمى شفتييا ابتسامة عذبة ..لكأنيا تعرؼ مف أنا
،وتدرؾ مدى اىتمامي بيا! ..وانتظمني تيار مف الحناف ،فانحنيت عمى الطفمة وقبمتيا ،ثـ التفت إلى اآلنسة
نو ار ألشكرىا عمى رعايتيا الممتازة ألطفاؿ الممجأ ،فوجدتيا ترمقني بعينيف دامعتيف..
تعمقت نظراتي بدموع اآلنسة نورا ..ىذا الوجو ليس غريبا عني ،وىذا الجماؿ الذي يتوىج بأشعة الحزف لو جذور
في ذاكرتي !ولكف ..متى كاف المقاء وأيف؟ ..انتبيت اآلنسة نو ار لنفسيا ،فاستدارت ،ذات اليميف ،وكفكفت
دموعيا بصمت ،ىمست مثنيا:
ػ أنت رقيقة أكثر مما ينبغي يا آنسة ..شيء جيد أف توفر الدار مشرفات يممكف ىذا القدر مف الحناف ورىافة
الحس.
ثـ مضيت بصحبة العـ محمود إلى مكتب المديرة ،ألشكرىا ،وأودعيا..
طرقت باب المدرية ،ودخمت ،فوجدت اآلنسة نو ار عندىا ,شعرت بأف دخولي قد زرع الصمت في أرجاء الغرفة
،وقمع شفاىا كانت تتداوؿ حديثا خاصا ما كنت أللحظ أىميتو ،لوال االضطراب الذي ط أر عمى كمتا المرأتيف
لدى دخولي المفاجئ!..
فما إف دخمت حتى تشاغمت المديرة بالكتابة ،وراحت اآلنسة نو ار تداري ارتباكيا بتقميب صفحات مجمة التقطتيا
فجأة مف فوؽ منضدة قريبة!..
قالت المديرة:
ػ أريد أف أعبر عف تقديري لمعناية الفائقة التي يمقاىا األطفاؿ في ىذا الممجأ..
ػ الفضؿ يعود إلى المشرفات القديرات المواتي يقمف بواجبيف عمى أتـ وجو..
قمت وأنا أرمؽ اآلنسة نو ار باحتراـ:
انتيت إجازتي القصيرة ،فعدت إلى المستشفى وقد تخففت مف بعض الغـ الذي أصابني بو غياب أحبلـ..
وجدت ىاني يتجوؿ بيف المرضى ،ويتفقد أحواليـ ،فمما رآني ،أقبؿ نحوي ،وىو يبتسـ في مكر ،قاؿ
كالشامت:
ػ األمف مستتب في أرجاء المستشفى ،وعزرائيؿ في ىدنة مع البشر ،في ىذه النقطة مف العالـ عمى األقؿ..
ػ الموت حؽ يا عزيزي..
ػ أمازلت تذكرىا؟..
ػ أحيانا ال أستطيع فيـ تصرفاتؾ! ..أتيت ىذا الصباح فرحا ،وخرجت غاضبا ،وىا أنت تعود لتقوؿ لي بأنؾ
كنت في زيارة الطفمة المقيطة .وراءؾ قصة خطيرة يا فتى! ..أتمنى لو أعرفيا..
تضاحؾ وقاؿ:
ػ في الحقيقة أصبحت أشؾ فيؾ ..ثمة قاعدة عممية يتبعيا المحققوف لمعرفة الجاني ،تكاد تنطبؽ عميؾ..
ػ وما ىذه القاعدة أييا المحقؽ األريب؟
تييأت لبلنقضاض عميو لمي ذراعو واجباره عمى التوقؼ عف ىرائو ،لكنو أحس بنيتي فبلذ باليرب ،قاؿ وىو
يتراجع أمامي بخطوات حذرة:
ػ إياؾ أف تمجأ إلى العنؼ ،كف ديموقراطيا وتقبؿ النقد بروح رياضية .زيارتؾ لمطفمة تحمؿ أكثر مف تفسير!.
ضحكت وسألتو:
ػ في زماف كيذا ال ينفع الظف الحسف ،حتى تفيـ الناس يجب أف تسيء بيـ الظف.
ػ ال ،ال ليس كذلؾ ..الموضوع يتعمؽ بالمشرفة التي تتولى رعاية بارعة.
ػ لقد اضطربت كثي ار عندما عرفت أني أتيت لبلطمئناف عمى الطفمة ،كاف في عينييا قمؽ مبيـ ،شعرت وكأنيا
تتيرب مني ،كأنيا ال تريد أف أراىا أو أحادثيا..
سألني متخابثا:
ػ ىاؿ ىي جميمة؟
ىتفت مغتاظا:
ػ ال أنكر أنيا جميمة ورقيقة ،لكني مؤدب أكثر منؾ ،وال أحب محاصرة الفتيات الجميبلت بنظراتي مثمؾ.
ػ ما الذي يجعؿ إنسانو ال تعرفيا وال تعرفؾ تشعر باالضطراب لرؤيتؾ وتتيرب منؾ؟!..
ابتسمت وقمت:
ػ ليس األمر ىكذا تماما ،افيمني جيدا يا ىاني ،أعتقد أف ىذه الفتاة تعرفني ،أذكر أنا التقينا مف قبؿ!..
ػ مبمغ عممي أنؾ ال تقابؿ النساء إال في ىذا المستشفى ،إال أف تكوف قد..
لـ أدع ىاني يكمؿ ،فقد أيقظت كمماتو ذاكرتي ،ىتفت وأنا أمسؾ بياني مف كتفيو:
تساءؿ في حيرة:
ػ مف ىي؟
ػ عـ تتحدث؟
ػ إف صدؽ ظني فيذه الفتاة ليا عبلقة بالطفمة المقيطة ،يجب أف أتحقؽ مف ذلؾ.
ػ والدواـ؟
ػ لف أتأخر.
لـ أحفؿ بكممات ىاني .كاف ىمي الوحيد أف أصؿ إلى دار الحناف لؤليتاـ لمعرفة سر اآلنسة نورا ..إنيا ىي ببل
شؾ ،لقد تذكرتيا تماما ،ىي ذاتيا المرأة الشابة التي ازرتني في المستشفى بعيد قدوـ الطفمة المقيطة بدقائؽ,
نظارتيا يوـ ذاؾ لـ ترتفع عف الطفمة ،تزامف وصوليا إلى المستشفى مع وصوؿ الطفمة تقريبا ،والجرح البسيط
الذي تذرعت بو لمحضور إلى المستشفى قبؿ شروؽ الشمس ،وأنداء الدمع التي كانت ما تزاؿ عالقة بعينييا
الحزينتيف ،ثـ االضطراب الواضح الذي اعتراىا عندما رأتني في دار األيتاـ ،والتأثر الذي فاض بيا عندما
حنوي واشفاقي عمى الطفمة ..كؿ ىذه المبلحظات تحيط اآلنسة نو ار بدائرة قوية مف الشؾ!!.
الحظت ّ
وانطمقت بسيارتي أطوي المسافات إلى دار الحناف ،ألضع حد لمغز الطفمة المقيطة ،وأنيى دوامة الفضوؿ
الجارؼ الذي استغرؽ وقتي وتفكيري ،ثمة سؤاؿ داىمني وأنا في ذروة االندفاع ..افرض أنيا ىي ،ماذا ستفعؿ؟
ماذا ستستفيد مف مواجيتيا بالحقيقة؟ واذا أنكرت ..كيؼ ستدفعيا إلى االعتراؼ؟ رفعت قدمي عف دعسة البنزيف
،وتركت السيارة تتيادى عمى الطريؽ ،شعرت فجأة بأني أعبث ،أمارس لونا مف المراىقة ،أحشر نفسي في
أمور شائكة ليست مف شأني..
وخطرت لي فكرة..
لماذا ال أتجو إلى الشرطة ،وأضع شكوكي بيف يدييا ،وأترؾ ليا مسؤولية معالجة ىذا األمر بما تممكو مف
وسائؿ وسمطات؟..
وسرعاف ما تياوت ىذه الفكرة أماـ مبرر قوي ومقنع ..ماذا لو كانت شكوكي مجرد أوىاـ؟ ..في ىذه الحالة
سأنسب لآلنسة نو ار إساءة بالغة تمس سمعتيا وكرامتيا ،فالشبية في مجتمعنا أضحت إدانة ،والناس يبحثوف
عف قصة لمثرثرة ،وليس مف العدؿ أف أعرض سمعة ىذه اإلنسانة لمخطر قبؿ أف أتأكد مف حقيقتيا ،وترددت
طويبل ،وكدت أدور بسيارتي باتجاه العودة ،ولكف طيؼ الطفمة المقيطة لمع في خيالي فجأة ،تراءت لي وىي
إلي في توسؿ ،والدموع تغرؽ وجييا الباكي الحزيف ،ترجوني أف أنقذىا مف الشقاء الذي ينتطرىا ،
تمد يدىا َّ
تسألني أف أصميا بجذورىا المفقودة ،فبل أقسى مف أف يتفتح وعي ىذه الطفمة البريئة ،لتجد نفسيا ببل جذور!..
وصمت إلى دار الحناف لؤليتاـ ،واندفعت إلى الداخؿ بخطوات سريعة ،ألواجو اآلنسة نو ار بشكوكي ،وأفجر
االعتراؼ في فميا المغمؽ..
صادفت العـ محمود في طريقي فنظر إلي في دىشة ،ورحب بي ترحيبا باردا ال يخمو مف الدىشة! ..منذ قميؿ
كنت معو ،فماذا عدت؟ سؤاؿ منطقي ال ألومو عميو ،جاممتو بتحية سريعة ،وانعطفت إلى ممر جانبي حيث
تقع القاعة الثالثة التي تشرؼ عمييا نو ار ،دخمت القاعة ،فمـ أجدىا ،وجدت مشرفة أخرى!..
أدركت أف اآلنسة نو ار ما تزاؿ في غرفة المديرة ،الحديث الغامض الذي دفف بالصمت عندما دخمت عمى المديرة
آخر مرة ،أوحى لي بأف المديرة قريبة مف نو ار ومطمعة عمى أسرارىا..
طرقت باب المديرة ودخمت ،ال يوجد في الغرفة سوى المديرة! ..حدجتني المديرة بنظرة تفيض بالدىشة والغضب
،سألتيا دوف مقدمات:
ػ أيف أجد اآلنسة نورا؟
ػ ماذا تريد منيا؟
ػ موضوع خاص..
قالت بنبرة فييا جد وصرامة:
ػ دكتور ..أرجو أف تبلحظ بأف ىذه مؤسسة رسمية ،والتردد عمييا دوف مبررات واضحة شيء غير مستحب!.
صدمتني المديرة بكمماتيا ،ووقفت حائ ار لكف فضولي دفعني لممغامرة..
ػ سيدتي إني أتفيـ كؿ ما تقوليف ،لكني مصر عمى مقابمة اآلنسة نو ار..
ػ اآلنسة نو ار مجازة.
ػ مجازة؟! ..متى تعود؟.
ػ قد ال تعود..
ػ لكنؾ قمت بأنيا مجازة!
ػ ىي مجازة لدراسة إمكانية استمرارىا في الدار أو عدمو.
ػ لماذا؟..
نفذ صبر المديرة ،قالت وىي ترمقني بنظرة قاسية:
ػ لدييا ظروفيا ..ىؿ مف خدمة أخرى؟..
غادرت غرفة المديرة ميزوما ،أكابد شعو ار مزعجا بالخيبة واإلخفاؽ ،ىؿ أصؿ إلى طرؼ الخيط ثـ يضيع
مني؟ ..ال أستطيع التسميـ بيذه النتيجة! ..وجدت العـ محمود جالسا أماـ الباب يتفحصني بنظرة متطفمة تريد أف
تفيـ سر تصرفاتي..
"آه ..العـ محمود يمكف أف يساعدني"..
ىذا ما خطر لي ،وأنا أتجو نحوه ،قمت لو وأنا أقؼ أمامو كالحائر:
ػ عـ محمود ..أريد أف أقابؿ اآلنسة نو ار ،كيؼ السبيؿ إلى ذلؾ؟
أجاب العـ محمود بميجة صادقة:
ػ اآلنسة نو ار غادرت الدار منذ ساعة تقريبا ،بعد خروجؾ بقميؿ.
ػ ىؿ تعرؼ عنوانيا؟
ػ ال أحد يعرؼ عنوانيا ،إنيا مشرفة جديدة ،وال نعرؼ الكثير عف حياتيا خارج الممجا.
ىذه معمومة جديدة! .إذا كانت نو ار حديثة العيد بالدار ،فمماذا تفكر في ترؾ العمؿ .ىؿ أكوف أنا السبب في
خشية نو ار مف االستمرار؟..
أردت أف أكشؼ بعض الغموض الذي بدأ يزداد ،سألت العـ محمود وأنا أجمس بجانبو:
ػ ىؿ ىي قريبة المديرة؟
ػ ال ..ليست قريبتيا ..لكف المديرة تعامميا معاممة خاصة.
ػ لماذا؟!.
قاؿ العـ محمود وىو يبدي جيمو ببواطف األمور:
ػ كؿ ما أعرفو أف اآلنسة نو ار جاءتنا منذ أسابيع ،وطمبت مني أف أدليا عمى مكتب المديرة ،ثـ دخمت عمييا
وجمست معيا قرابة نصؼ ساعة ،نادتني المديرة بعدىا ،وطمبت مني أف أدؿ اآلنسة نو ار عمى القاعة الثالثة ،
لتستمـ فييا عمميا كمشرفة متطوعة.
أحسست أف المديرة تخفي أمو ار دقيقة ،وتصدني عف بوابة الحقيقة بقسوة..
ضربت فخذي بكفي ،والغيظ يأكؿ صدري ،قمت بنبرة قير:
ػ مديرتكـ ىذه قاسية وشديدة!..
قاؿ العـ محمود:
ػ ىي شديدة كما تقوؿ ،لكنيا طيبة جدا ..أطيب امرأة شاىدتيا في حياتي..
ىتفت حانقا:
ػ لكنيا ال تيضمني ..تضطيدني ..تعاممني بقسوة!.
ػ أنت مخطئ يا دكتور ،السيدة المديرة تحترمؾ جدا.
فاجأني بيذا القوؿ! كيؼ تسنى لمعـ محمود أف يبلحظ ىذا االحتراـ ويستنتجو ،ومعرفتي بمديرتو ال يتجاوز
عمرىا ساعات قميمة؟!..
ظننت أف العـ محمود مف النوع الطيب الذي يأخذ عمى عاتقو تبديد الشكوؾ بيف الناس ،والتقريب بيف النماذج
المتنافرة ،نظرت إليو في دىشة ،لكنو أمعف في التأكيد ،وقاؿ:
ػ بعد أف خرجت مف ىنا قبؿ ساعة تقريبا ،طمبت مني المديرة أف أحضر فنجاني قيوة ،ليا ولآلنسة نو ار ،
وعندما دخمت عمييما بالقيوة ،سمعت المديرة تقوؿ لآلنسة نو ار:
"ىذا الدكتور إنساف نبيؿ فعبل ،كيؼ تخطر لو طفمة كبارعة دوف أف تمت لو بقرابة أو صمة؟".
تساءلت في دىشة ،وأنا ال أكاد أصدؽ:
ػ أىي قالت ذلؾ حقا يا عـ محمود؟!.
رمقني العـ محمود في عتاب ،وقاؿ:
ػ سامحؾ اهلل ..ىؿ تعتقد بأني أخترع كبلما مف عقمي؟
ػ عفوا ..لـ أقصد.
قاطعني وتابع يروي:
ػ ردت اآلنسة نو ار عمى المديرة قائمة" :ألوؿ مرة في حياتي أصدؽ بأف ىناؾ رجبل طيبا في ىذا العالـ!".
تساءلت في حيرة:
ػ لماذا تظف اآلنسة نو ار بأني أوؿ رجؿ طيب تصادفو في حياتيا؟!..
ضحؾ العـ محمود وقاؿ:
ػ ىي ىكذا ..تكره الرجاؿ وتحقد عمييـ ،ولوال أني في سف والدىا لـ نجوت مف معاممتيا الفظة التي تعامؿ بيا
الرجاؿ!.
أطرقت مستسمما لتيار مف الفكر ،فانتيز العـ محمود فرصة صمتي ،وغاب قميبل ثـ عاد يحمؿ لي فنجانا مف
القيوة ،قاؿ وىو يصؿ ما انقطع مف حديثو:
ػ اطمئف يا دكتور ..المديرة طيبة جدا واآلنسة نو ار طيبة أيضا ،لكنيا مسكينة ..لقد قابمت في ىذه الدار مشرفات
كثيرات ،فمـ أجد فييف مف ىي أكثر عطفا وحنانا عمى ىؤالء األيتاـ ..إنيا بنت رقيقة ،دمعتيا غبلبة تبكي
ألبسط األمور ػ كما الحظتيا اليوـ ػ وىي تقضي وقتيا في رعاية األطفاؿ ،ترعاىـ وتيتـ بيـ وكأنيـ أبناء رحميا
،وتحنو عمييـ كأـ رؤوـ..
معمومات العـ محمود قدمت لي أجزاء ميمة مف الحقيقة ،ثمة بعض المعالـ الضائعة التي تنقصني حتى تكتمؿ
أمامي الصورة ،وتنسجـ أجزاؤىا المتناثرة ،وحضرني سؤاؿ:
ػ ألـ تبلحظ بأف اآلنسة نو ار كانت تيتـ بطفؿ أو طفمة دوف غيرىا مف األطفاؿ؟..
رفع العـ محمود حاجبيو دىشة ،وقاؿ:
ػ ىذا سؤاؿ لـ يخطر لي بباؿ..
ثـ أردؼ في حيرة وقد الحت في نظارتو بوادر شؾ:
ػ ولكف ..لماذا تسأؿ كؿ ىذه األسئمة؟
ػ أسئمتي تجاوزت حدود المعقوؿ .بدأت تثير فضوؿ العـ محمود وشكوكو ..شعرت بأف أزمة ثقة توشؾ أف تنشب
بيننا ،بيد أني ارتحت قميبل عندما أدركت أف تفكير العـ محمود ذىب باتجاه بعيد..
قاؿ العـ محمود وىو يميؿ نحوي كمف يناجي صديقو بسر:
ػ ىؿ في األمر موضوع خطبة أو زواج؟..
استفدت مف ىذا االتجاه الخاطئ ،الذي فكر بو العـ محمود ،فقمت وأنا أىـ بالنيوض:
ػ ال أحد يعرؼ أيف يكوف النصيب يا عـ محمود!.
انفرجت أسارير العـ محمود ،ورفت عمى شفتيو ابتسامة وادعة ،ثـ ىمس في أذني بنبرة ودودة:
ػ لقد أحسنت االختيار ،أنت تستحؽ كؿ خير.
شكرت العـ محمود ،وغادرتو بسرعة قبؿ أف يقذفني بسؤاؿ آخر..
بت اآلف أكثر اقتناعا بأف نو ار ىي والدة الطفمة المقيطة ،ولكف ..أيف نورا؟!..
الفصل العشرين
قضيت بقية النيار بنفس عاث فييا الكدر ،وتنازعتيا األسئمة واألفكار ،فتمزقت بيف الشوؽ إلى أحبلـ التي
غابت فجأة دوف سبب مفيوـ ،والتفكير بنو ار المغمقة بالغموض! .وشعرت بحاجة ممحة لموحدة والراحة واالسترخاء
،لكف كثرة الحاالت التي وردت إلى قسـ الطوارئ لـ تسمح لي بوقت ىادئ ،وحانت فرصة األصيؿ ،فحممت
جياز اإلنذار الذي يصمني بالمستشفى ،ومضيت إلى الحديقة ،أللقي بجسدي المتعب فوؽ صدرىا األخضر
الموشى باألزاىير
ثمة عصفور زاىي األلواف يمجأ إلى الحديقة مثمي ..يزورىا بيف الحيف والحيف ..ينتقؿ بيف أغصانيا المتعانقة ،
ويعزؼ ألحانا عذبة تنساب مف منقاره الدقيؽ لتطرب القموب واألسماع .أيف أنت يا عصفوري الجميؿ؟ ..ىمـ إلي
لتثري ىذا األصيؿ بمحف عذب مف ألحانؾ الرقيقة ..الصمت الثقيؿ يحوؿ ىدوء الحديقة إلى طقس مف طقوس
الموت ..ىمـ يا صديقي الطائر ،تعاؿ وغرد ،وبدد بألحانؾ الجميمة ىذا الصمت الذي يكتـ األنفاس!..
ػ وست وست..
ػ وست وست..
موافؽ إذف ،لكنؾ ػ لؤلػسؼ ػ لف تفيمني! ..ما قيمة الصديؽ إذا لـ يفيـ صديقو ،ويستشؼ ما وراء صدره مف
آالـ وأحبلـ!؟ ..إذا بحت لؾ أييا العصفور بما يثقؿ صدري ،لظننتني أغرد مثمؾ عمى طريقة البشر؟ ..ليت
العصافير تتكمـ مثمنا ..تحدثنا ونحدثيا ..نبثيا أحزاننا ،ونشكو ليا آالمنا ..نبوح ليا بما يؤرقنا ..نبوح بطبلقة
وحرية دوف أف تثقؿ بوحنا المخاوؼ والمحاذير واالعتبارات البشرية المعقدة ..نبوح وكأننا نتحدث مع أنفسنا
ونخاطب ذواتنا..
آه مف ىذا العالـ .نضب منو األصدقاء ،غاروا كالماء الذي ينسرب في رمؿ الصحراء ،ىؿ تفيـ يا عصفوري
معنى أف يبحث إنساف عف صديؽ لو في عالـ العصافير؟ لف تفيـ ..خير لؾ أف ال تفيـ ،فروحؾ الصغيرة لف
تتحمؿ الحقائؽ المرة التي تقذؼ بيا الحياة أرواحنا المتعبة ،لف تطيؽ ظمـ اإلنساف ألخيو اإلنساف ..روحؾ
الصغيرة أييا العصفور الصغير الوديع سترفض عالمنا المريض الذي سادتو الذئاب ..ستنفجر وتتمزؽ وىي ترى
الوجو اآلخر لحضارة المادة .ستستعذب الموت عمى حياة أقفرت مف القيـ ،وتحجرت فييا المشاعر ،ونعقب فييا
الغرباف..
ظف العصفور أني أداعبو بيذه الكممات ،فدب فيو المرح ،وجعؿ يقفز مف غصف إلى غصف ،وىو يغرد مزىوا
بنفسو ،فتركت مسامعي تغتسؿ بغنائو العذب وبالغت في االسترخاء..
ثمة صوت آخر غرد في سمعي فجأة ،فأيقظت ىمساتو الرقيقة قمبي ،وحركت في نفسي أشواقا لذيذة .نيضت
واستدرت برأسي نحو مصدر الصوت ،ثـ ىتؼ كالمموؼ الذي العطش:
ليفتي وجدت صداىا عمى الفور ،قالت وىي تداعب بيف أنامميا الرقيقة وردة حمراء الموف:
ػ لماذا ِ
غبت؟.
ػ حقا! ..فيمت ِ
أنؾ لف تأتي اليوـ.
اختارت أحبلـ كرسيا قريبا مف الكراسي المتناثرة في أرجاء الحديقة ،فجمست عميو..
ػ أما لماذا غبت اليوـ فمست أدري السبب !..شعرت ىذا الصباح بكآبة ممضة ،ولـ أجد في نفسي حماسا لمعمؿ
،فاعتذرت عف الحضور.
ػ ثـ قطعت إجاز ِ
تؾ فجأة!..
ػ ىذا ما حدث ..حاصرني ممؿ وضيؽ ،فأحسست بأف جدراف البيت تمفظني ،فمجأت إلى المستشفى ألبدد الفراغ
بعمؿ مفيد.
عمي أيضا.
ػ لقد كاف ىذا اليوـ صعبا َ
ػ قالوا لي :أنؾ غادرت المستشفى مرتيف ىذا الصباح ،وأخبروني بأف ىاني كاف غاضبا جدا.
ضحكت..
ػ لقد قسوت عميو فعبل ،اغتصبت مف وقت راحتو أكثر مف ساعتيف ،لكني وعدتو أف أناوب عنو في مناسبة
قادمة.
سألت أحبلـ:
ػ كاف الصباح ىادئا كما أخبرني ىاني ،لكف ساعات الظير كانت حافمة بالعمؿ ..استقبمنا ثبلث حوادث طرؽ
في أقؿ مف ساعة!.
إلي في إشفاؽ:
قالت وىي ترنو ّ
ػ أنت دائما تيرب إلى ىنا! .ما الذي يشدؾ إلى الطبيعة إلى ىذا الحد؟
ػ البحث عف السبلـ.
ػ وىؿ وجدتو؟
ػ وجدت منو قطرات ال تسمف وال تغني مف جوع.
ابتسمت أحبلـ ،وطافت بنظراتيا في أرجاء الحديقة ،كاف العصفور قد ابتعد ،والشمس قد توارت خمؼ جدار
األفؽ ،والصمت قد راف مف جديد..
قالت أحبلـ:
ػ ثمة عصفور لطيؼ يتردد إلى الحديقة مف حيف آلخر ،ويسميني بألحانو العذبة..
ػ عصفور واحد ال يكفي ..ميما غرد فستبقى ألحانو حزينة ،تمؤل النفس بالشجف ،وتحرؾ في األعماؽ الظمأ إلى
صديؽ أنيس..
ػ انظر حولؾ..
في كمماتيا رسالة واضحة التقطتيا بسرعة .ركبني حرج وارتباؾ .لكني تجاىمت المعنى الذي أرادتو أحبلـ ،
وتحايمت عميو بالدعابة ،فأخذت أتمفت حولي متصنعا السذاجة وعدـ اإلدراؾ ،فرنت إلي بنظرة باسمة:
ػ بقموبيـ!.
ت فجأة ،وخبت ومضات الفرح التي كانت تشع مف عينييا ، البسمة الوادعة التي كانت تضيء وجييا الجميؿ أَ َفمَ ْ
لـ تتوقع أف أقابؿ لعبتيا الذكية بيذا البرود .صمتت وأطرقت إطراقة المحزوف ،وتممممت فوؽ ثغرىا ابتسامة
باىتة تحتضر .وتشاغمت بتأمؿ وردتيا ،فاحتوتيا بنظراتيا الحزينة ،وكأنيا نظرات محب يودع حبيبو الوداع
األخير ..حزنيا أصابني بالغـ ،قمت في محاولة لتبديد األثر السيئ الذي خمفو الحديث السابؽ:
ػ ما شأنيا؟
قالت أحبلـ ،وىي تفسح الطريؽ البتسامتيا الفاتنة لكي تعود لتضيء أسنانا كالمؤلؤ:
ػ حقا؟!
ػ كيؼ ىي؟
ػ بصحة جيدة..
ووريت ألحبلـ قصة اآلنسة الغامضة نو ار ،وحدثتيا بآخر ما توصمت إليو مف استنتاجات..
ػ في زمف قؿ فيو حرص الناس عمى واجباتيـ ،يصبح مجرد أداء الواجب إنجا از رائعا يستحؽ التقدير..
ػ وىؿ وجدتِو؟!..
ػ وجدتو .وجدتو منذ زمف بعيد ،لكنو يمعف في اليروب مني ..يحاوؿ أف يضمؿ خطواتي ..أمد لو يدي ،فيخفي
يديو ..أعترؼ لو بودي ،فيصفعني بجفائو ..لكأنو يرفضني ،ويغمؽ قمبو في وجو روحي..
ما الذي يمكف لفتاة عفيفة أف تفعمو حتى تعمف حبيا دوف ابتذاؿ؟ ..ماذا تفعؿ فتاة رفضت كؿ الناس مف أجؿ
فتاىا الذي اختارتو وأغمقت قمبيا عمى حبو ،ثـ ال تجد منو سوى الصد واليروب والتجاىؿ؟!..
لقد ضاقت أحبلـ ذرعا بترددي وىروبي ،وىا ىي تتييأ لبلقتحاـ .تحاوؿ أف تدؾ أسوار الحيرة التي تفصؿ بيني
وبينيا .لـ أستطع أف أرفع نظراتي إلى عينييا المتيف كانتا تميباف لوما وعتابا ..ماذا أقوؿ ليا؟ ..ىؿ أعترؼ لو
بالحب الجارؼ العميؽ الذي يضطرـ في صدري؟ ..أـ أكتـ ىذا الحب وأقمعو حتى ال أتورط في شراكة غير
متكافئة وزواج يبدو لي أنو محكوـ بالموت؟! ..مف قاؿ بأف الحب يخضع لحسابات المادة؟ ..مف الذي زرع ىذه
الخرافة فينا؟.
أثارت كمماتيا في نفسي شعو ار غريبا فقمقؿ ىدوئي ..شعور مف أوشؾ عمى فقد عزيز ..وخشيت أف تكوف أحبلـ
قد يئست مني ،وفيمت مشاعري عمى نحو خاطئ ،سارعت إلى تبديد فيميا الخاطئ ،فقمت وأنا أتيرب مف
نظراتيا العاتبة الحزينة:
ػ أحبلـ .أنت تستعجميف األمور.
ػ ىؿ قرأت عف خديجة؟
ػ بنت خويمد؟
ػ قرأت.
قالت في إصرار:
ػ نعـ .نحف في عصر مختمؼ ،لكف المرأة والرجؿ ما زاال ىما كما كانا أوؿ مرة .الشفرات الوراثية ال تؤمف
بالعصور ..إنيا رسالة خالدة منذ األزؿ ..رسالة ثابتة تحمؿ خصائص األنثى وخصائص الذكر ..الظروؼ
تختمؼ ،ووسائؿ الحياة تتبدؿ ،لكف جوىر اإلنساف ثابت ال يتغير..
إنيا محاورة عنيدة تعرؼ ما تريد! ..ىذه المناظرة الفكرية بدأت تفسد جماؿ األصيؿ .البد أف يصؿ الحوار إلى
نياية مفيدة ،ولكف ..ىؿ ستنتصر عمي بالضربة القاضية ،وتعمف حبيا لي في صراحة حاسمة؟ ..ىؿ ستتراخى
إرادتي وتسمخ لمحب الذي يشتعؿ بيف ضموعي أف يفصح عف نفسو ،ويتحدى كؿ معادالت العقؿ الذي يقؼ
حاج از بيني وبيف مف أحب؟! ..أيتيا الفتاة الرقيقة التي وضعيا القدر في دربي ..دعيني أفكر في قراري بيدوء .ال
تمجئيني إلى ق اررات حظ القمب فييا يفوؽ حظ العقؿ..
ػ ماذا عف ىاني؟
ػ بؿ أستغني عف كؿ أمواؿ الدنيا وجواىرىا مف أجؿ أف أفوز بإنساف نبيؿ يفيـ الحياة كما أفيميا ..بمعانييا
السامية وآفاقيا الرحيبة ..الحياة النظيفة الرفيعة التي تميؽ بإنساف لو عقؿ وقمب وروح ..ال حياة الحيوانات الشاردة
في الغابة التي تحركيا الغرائز واألطماع .لقد ذقت سعادة المادة فمـ أجد ليا طعما! .خذ كؿ مبلييني وأمبلكي ،
وأعطني كممة حناف صادقة تشعرني بأف مف حولي بشر أسوياء ،وليسوا تماثيؿ أو آالت مبرمجة تؤدي دو ار
رتيبا محددا لـ يخمؽ لو اإلنساف ..نعـ ..البشر مف حولنا تحولوا اليوـ إلى آالت تتحرؾ وفؽ برنامج مرسوـ..
برنامج كبرامج الكمبيوتر التي يزود بيا اإلنساف اآللي ..ىذا البرنامج يحمؿ رسالة واحدة ..رسالة تتمخص
بكممتيف :اكسب أكثر ..اربح أكثر ..اجمع أكثر ..بأية وسيمة؟ ..ال ييـ ..عمى حساب مف؟ ..ال ييـ ..عمى
أشبلء مف؟ ..ال ييـ ..الحياة فرصة فاىتبميا ..احصد الفرص فقد ال تعود ..ال ييـ مف زرع ،الميـ مف يحصد
في النياية ..الشاطر مف يضحؾ في اآلخر ..ىكذا نحف اآلف ..حصادات بشرية عمياء ..ال تعرؼ عمى ماذا
تدوس ،لكنيا يجب أف تصؿ إلى نياية الشوط وقد جمعت أقصى ما أمكنيا مف الحصاد..
كانت أحبلـ تتحدث بتدفؽ وحماس ..وكاف جوىرىا النقي يتوىج بالصدؽ ويممع بالبراءة ..شعرت وأنا أستمع إلييا
بأني أماـ مبلؾ طاىر يحمؿ رسالة السماء إلى األرض ..أماـ داعية جميؿ ألقى الدنيا خمؼ ظيره ،وجاء يبشر
بعالـ فاضؿ ال تستعبده المادة ..رنوت إلييا بنظرات وليى تفيض بالوجد ،ورحت أصغي إلييا وىي تتابع ىدرىا
العذب.
ػ لو كانت المبلييف تصنع السعادة ،لكنت أسعد فتاة أنجبيا أب ،لكف كؿ المبلييف التي تنتظرني ..كؿ العقارات
والشركات واألمبلؾ التي ستؤوؿ إلي ..كؿ ىذه الثروة العريضة التي يجنييا لي أبي ،ال تساوي عندي كممة حب
خالصة منزىة عف المصالح والرغبات ..ثـ صمتت أحبلـ ،وجعمت ترتعش مف فيض التأثر واالنفعاؿ ،ولـ تمبث
أف انفجرت باكية ،فأخفت وجييا الباكي خمؼ كفييا ،وبقيت كذلؾ برىة ريثما ىدأت ،ثـ انزلقت بكفييا ،
فأسفرت عف وجو مخضؿ غسمتو الدموع ،وقد أغمضت عينييا إغماضة مف ينشد الراحة والخبلص ،وألقت
برأسيا إلى الخمؼ ،فبدت كعابدة متبتمة تستغرؽ في خشوع عميؽ..
أدركت أخي ار بأني أسير يحاوؿ عبثا أ ف ييرب مف قدره ..عاشؽ يقمع صوت قمبو بقسوة ..مكابر عنيد يذوب حبا
ويأبى أف يعترؼ ..مف يستطيع أف يصمد أما فتاة ليا رقة األنثى وروح المبلئكة؟!..
قالت وىي تستيقظ مف إغماضتيا الخاشعة:
أشرقت عيناىا بنظرة باسمة يتألؽ فييا الفرح ،فقد أدركت أني لـ أخذليا ،فاحمرت حتى حاكت حمرتيا الفاتنة
لوف وردتيا الجميمة ،قالت وىي توشح كمماتيا بابتسامة وادعة تنطؽ بالرضى:
ػ أنا ال أعرؼ رأي والدي ،لكني أنا التي سأتزوج وأنا صاحبة القرار..
ػ واذا رفض؟
ػ سأرفض رفضو..
ػ واذا رفض؟!..
رمقتني بطرؼ عينييا ،وتساءلت:
عمقت كالحالـ:
قالت في ضراعة:
ػ ماذا؟..
ػ صبلح ..إذا لـ يوافؽ والدي عمى زواجي منؾ ،فمف تجمعني الحياة برجؿ مف بعد..
ثـ استدارت نصؼ استدارة ،وجعمت تداعب غصنا قد تدلى مف إحدى األشجار ،وكأنيا تداري حياء وانفعاال
جديدا أججتو كمماتيا المفعمة باإلخبلص ،وراف عمينا صمت لذيذ ،وىبت عمى الحديقة نسمات ربيعية رقيقة ،
تيمس لنا بقصيدة لـ يمقيا شاعر ،ولـ يغرد بيا عصفور!..
الفصل الحادي والعشرون
أخرجت البطاقة التي أعطتني إياىا أحبلـ ،وأعدت قراءة عنواف شركة أبييا ..شركة عبد الغني الذىبي لمتجارة
العامة ػ شارع البرج ػ عمارة البرج األزرؽ .روحت أبحث عف البرج األزرؽ الذي يضـ مكاتب الشركة بعينيف
مستطمعتيف ،لـ أعرؼ في البداية سبب تسمية ىذه العمارة بالبرج لكني عندما وصمت إلييا ،أدركت سببا ليذه
التسمية!.
كانت عمارة شاىقة ترتفع كأسطوانة ىائمة مثمنة المحيط ،تصؿ بيف أضبلعيا الثمانية ألواح كبيرة مف زجاج
خاص .وكاف خياؿ السماء ينعكس عمى ألواح الزجاج ،فيشمميا بزرقة داكنة ،تعطي المبنى مظي ار بديعا وروعة
ال تنكر..
"البد أف الذي يستخدـ مثؿ ىذا البناء الفخـ مق ار لشركتو ،يدير أعماال واسعة تحتاج إلى جيش مف الموظفيف!..".
ىكذا حدثني نفسي وأنا أق أر اسـ الشركة الذي كتب بأحرؼ برونزية نافرة..
وقفز إلى ذاكرتي حديث أحبلـ عف مسؤولية والدىا عف حادث انييار العمارة السكنية ،فدخؿ في روعي أف ىذا
البناء العتيد يقوـ عمى أشبلء الضحايا وجماجـ األبرياء الذيف ذىبوا ضحية الجشع البغيض ،واألنانية الكريية..
أوقفت سيارتي في مكاف قريب ،ثـ ترجمت منيا ،ووقفت أتأكد مف سبلمة ىندامي ،ثـ تقدمت مف مدخؿ البرج
األزرؽ بخطوات بطيئة..
ثمة شيء كاف يجذبني إلى الخمؼ بقوة ،يعرقؿ خطواتي ،يزلزؿ كياني ،ييزني بعنؼ ،يسألني بميجة لوامة
تنطؽ باالتياـ " :إلى أيف أنت ذاىب؟ ..تضع يدؾ في يد مجرـ لتخطب منو ابنتو؟ ..أأعماؿ الحب عف حقيقة
ىذا الرجؿ؟ ..أـ ىو الطمع وبريؽ الثروة والغنى والماؿ؟..".
تسمرت في مكاني ،وكادت إرادتي تتياوى ،لكف طيؼ أحبلـ شد مف أزري ،وعزز ثقتي بما عزمت عميو ،
ىدرت في أغواري وكأني أحاجج خصما قاسيا يحدجني بنظرات ممؤىا الشؾ والريبة " :بؿ جئت ألنقذ أحبلـ مف
الوحؿ الذي نبتت فيو ..جئت ألحمي ىذه الفتاة الطاىرة الرقيقة مف الريح المجنونة التي تحطـ األغصاف الخضراء
وتعصؼ بيا ..جئت ألحمميا إلى عالـ الطير والبراءة الذي تحمـ بو ..فمتذىب مبلييف أبييا إلى الجحيـ ..ال أريد
منو سوى قمب ابنتو النبيؿ الذي يخفؽ بمشاعر اإلنساف ..ال أبتغي سوى أحبلـ التي لـ تستطع المادة أف تقتؿ
روحيا ،وتموث جوىرىا..".
عاد ذلؾ الخصـ العنيد يمطرني بأسئمتو ،وأطمؽ في أعماقي ضحكة مجمجمة تسخر مف كؿ المبررات التي
تدفعني لئلقداـ عمى خطبة أحبلـ ..كدت أضعؼ ثانية! ..راودتني نفسي عمى االنسحاب ،لكف كممات أحبلـ
اندلعت في ذاكرتي فجأة ،ووضعت حدا ليذا التردد الذي اعتراني" ..صبلح إذا لـ يوافؽ أبي عمى زواجي منؾ ،
فمف تجمعني الحياة برجؿ مف بعدؾ..".
مؤلتني كمماتيا بشحنة جديدة مف الثقة والحماس ،تخيمت نفسي فارسا عنيدا جاء ينقذ فتاة مف األسر ،وكدت
أىتؼ كما في الحكايات" لبيؾ يا أميرتي ..ىا أنا قد جئت عمى صيوة جوادي ألقتحـ ىذه األسوار ،وأحممؾ معي
إلى دنيانا الجديدة ."..لكف رجبل كاف قد خرج لتوه مف الشركة ،صدمني فجأة ،فانتشمني مف أوىاـ الخياؿ ،
وأعادني إلى دائرة الوعي ،ثـ ما لبث أف اعتذر قائبل وىو يعض عمى فوىة غميونو بأسنانو البيضاء" :سري ..
آسؼ"!.
ابتسمت ليذا االعتذار المشفوع بالترجمة العربية ،وتقدمت مف الباب ،فانفتح بشكؿ آلي .حكاية عمي بابا لـ تكف
خرافة إذف !!..كانت تنبؤ ذكيا بالمستقبؿ! ىاىو الباب يفتح لي حتى دوف أف أىمس لو بكممة السر ،انفتح دوف
أف أقوؿ لو " :افتح يا سمسـ".
اتجيت إلى مكتب االستعبلمات ،فوجدت فيو موظفا وسيما يرتدي بذلة أنيقة جعمتني أشعر بالخيبة ..متى يفرغ
الناس لشراء ىذه المبلبس المسرفة في األناقة؟ وأيف يجدونيا؟ لعميـ يستوردونيا خصيصا ..ما عمينا ..بذلتي أنيقة
أيضا ..ال تشكو مف شيء ،لكني أعترؼ بأنيا أقؿ أناقة مف بذلة موظؼ االستعبلمات! قمت في نفسي" :لعؿ
ميمة موظؼ االستعبلمات تستدعي ىذا المظير المسرؼ في األناقة ألنو أوؿ مف يستقبؿ العمبلء والزوار الذيف
يقصدوف الشركة".
سألتو عف مكتب السيد عبد الغني الذىبي صاحب الشركة ،فأجابني بمساف إنكميزي مبيف " :نمبر سفف" ..ما باؿ
الناس يستثقموف استعماؿ لغتيـ العريقة التي تتربع عمى عرش المغات! ..شكرت الموظؼ بإيمائة مجاممة ،
ومضيت إلى المصعد ،فانتظرت ىبوطو حتى يحممني إلى الطابؽ السابع ألقبؿ السمطاف ،وأسألو يد أميرتي
األسيرة ..ولكف ..لماذا اختار والد أحبلـ الشركة مكانا لمقائنا؟ ..ىذه المناسبات ػ فيما أعمـ ػ ال تناقش في أماكف
العمؿ ..تراه ىؿ سيوافؽ عمى زواجنا؟ أـ أنو ..آه ..لعمو اشترط أف يمقاني في الشركة ،ليصارحني يرفضو..
وشعرت برجة عنيفة بيف الضموع ..أتضيع مني أحبلـ بعد أف أودعت كؿ آمالي عمى أعتاب قمبيا الكبير؟!..
ورحت أرمؽ الموحة الرقمية التي تعمو بوابة المصعد بغيظ .كانت األرقاـ تمضي في عدىا التنازلي ببطء شديد.
... 4 ،5 ،6ىا ىو المصعد يتوقؼ عند الطابؽ الرابع ..أسرعوا أييا الركاب ،فيا ىنا قمب يتمزؽ بيف اليواجس
واآلماؿ ..ارحموا ىذا القمب الولياف الذي يتطمع إلى مصيره بقمؽ ،لـ يستجب المصعد لتوسبلتي ،قفز إلى
الطابؽ السابؽ فجأة ،في حركة غادرة ،لبث في السابع قميبل ثـ عاد ييبط ببطء مثير2 ،3 ،4 ،5 ،6 ،7 ...
.....آه ىا قد وصؿ .أسرعت إليو ،فانطمؽ بي عمى ميؿ .كانت مرآة المصعد وسيمة مفيدة لمتأكد مف سبلمة
ىندامي .كؿ شيء عمى ما يراـ ،عريس بدرجة مقبولة .ىذا قصارى ما كنت أحمـ بو ..ثمة راكب اعترض مسيرة
المصعد في الطابؽ الخامس ..أىبل وسيبل ..تابع المصعد طريقو إلى الطابؽ السابع ،فمفظني ىناؾ ،ثـ أغمؽ
بابو خمفي وعاد يتابع رحمتو المكوكية التي ال تنتيي..
اقتربت مف مكتب السيد عبد الغني بخطوات بطيئة يثقميا قدر مف الحياء ،ومقدار مف الرىبة والتردد ،استقبمتني
فتاة جميمة ،أنيقة الممبس ،فاتنة البسمة ،سألتني وىي تقضـ قطعة بسكويت وتغيبيا خمؼ شفتييا الغارقتيف في
حمرة كفثية:
ػ ىؿ مف خدمة؟
ػ أنا الدكتور صبلح الحكيـ ..أريد مقابمة األستاذ عبد الغني..
ىتفت السكرتيرة بميجة مرحبة أحسست أف فييا قد ار كبي ار مف المبالغة:
ػ أنت؟! ..أىبل ..أىبل وسيبل ..تفضؿ بالجموس..
جمست وأنا مندىش مف ىذا الترحيب الذي يشي بإطبلعيا عمى دقائؽ األمور ،قالت:
ػ أنت دقيؽ في مواعيدؾ كما وصفؾ لي السيد عبد الغني..
سررت ألف صورتي في ذىف والد أحبلـ صورة مشرقة ،البد أف أحبلـ ىي التي أوحت لو بيا..
شعرت بشيء مف االرتياح وجمست أنتظر..
غابت السكرتيرة قميبل ،ثـ عادت تحمؿ فنجانا مف الشاي ،وانحنت لتقدمو لي ..تناولت الفنجاف وشكرتيا ،وأنا
أغض الطرؼ عف صدرىا الذي بدا مف تحت سترتيا الواسعة عاريا صارخا الفتنة .لـ تعد مبلبس اليوـ كافية
لستر مفاتف المرأة! ..يبدو أف عباقرة الموضة يقتصدوف في استعماؿ القماش ،ليوفروا منو بعض ما يمزـ لتمديف
العراة في مجاىؿ أفريقية! ..صبرت عمى ما رأيت ،وقمعت شحنة اإلثارة التي سرت في جسدي إزاء ىذا المنظر
،ورحت أحتسي الشاي في صمت ،وأنا مشغوؿ الباؿ بالمقاء المرتقب..
قالت مضيفتي وىي تمؼ رجبل شبو عارية عمى رجؿ:
ػ لقد حدثني عنؾ السيد عبد الغني قبؿ قميؿ عف موعده معؾ ،وطمب مني أف أخبرؾ بأنو مشغوؿ مع بعض
الخبراء األجانب وأنو مضطر لتأخير موعده معؾ حوالي نصؼ الساعة..
أزعجني تأخير الموعد ،لكني عذرت الرجؿ ،فرجاؿ األعماؿ معرضوف لمثؿ ىذه االجتماعات الطارئة!.
كانت نظرات السكرتيرة الفاتنة تقتحمني بجرأة وقحة ،مما جعمني أشعر باالرتباؾ ،لكني تشاغمت عنيا بتأمؿ
لوحة جميمة معمقة عمى الحائط المغمؼ بورؽ الجدراف النفيس ،ابتدرتني السكرتيرة قائمة:
ػ أنت طبيب طبعا..
ػ ىذا صحيح.
ػ تعمؿ في نفس المستشفى الذي تعمؿ فيو أحبلـ.
ػ كيؼ عر ِ
فت؟
ػ السيد عبد الغني ال يخفي عني أمرا ..أنا سكرتيرتو وأمينة أس ارره .
ابتسمت ولـ أنبس ..ىذه اآلنسة أو السيدة ػ ال أدري ػ تحب الثرثرة ،وال أريد أف أخوض معيا في حديث ال طائؿ
وراءه ،فأنا بحاجة إلى بعض اليدوء والتركيز في ىذه المناسبة الحاسمة في حياتي.
لكنيا تابعت تقوؿ:
ػ قمت لي طبيب إذف..
ػ لعمؾ تشكيف بذلؾ!.
ضحكت في دالؿ ،وقالت:
ػ ال ،ال ،أبدا ..لكني أريد أف أستشيرؾ في أمر طبي.
قمت مجامبل:
ػ أنا في خدمتؾ.
قالت وىي تتظاىر بالقمؽ:
ػ في الحقيقة يا دكتور ..أشعر أحيانا بآالـ شديدة في الخاصرة اليمنى ..آالـ شديدة ال تطاؽ ،تداىمني فجأة دوف
سابؽ إنذار.
ػ لماذا لـ تراجعي طبيبا؟
ػ الحقيقة أني مشغولة ..مشغولة جدا ..السيد عبد الغني يمؤل وقتي باألعماؿ المرىقة.
قمت وأنا أستغرب ىذا اإلخبلص الزائد والمبالغة المختمقة:
ػ مع ذلؾ لف تعدمي ساعة في األسبوع تذىبيف فييا إلى الطبيب!..
ػ ما حاجتي إلى الطبيب وأنت ىنا؟
نظرت إلييا في دىشة:
ػ ماذا تقصديف؟
ػ أقصد أف تسدي لي خدمة كبيرة لو فحصت لي موضع األلـ اآلف ،وشخصت لي الداء في ىذا الوقت الضائع ،
ريثما يتفرغ السيد عبد الغني لؾ.
األمور تسير بطريقة ممتوية ،ىذا النوع مف النسوة المراوغات ليس غريبا عف طبيب مثمي .لقد صادفت مف
أمثاليا الكثيرات ،ولكف ،كيؼ أتخمص مف ىذه في ىذا الوقت الحرج؟! .واسترقت إلى الساعة المعمقة في صدر
الغرفة نظرة خاطفة ألرى إف كاف الوقت يساعدني عمى التخمص منيا ،لكنيا ضبطت نظرتي تمؾ ،فالتفتت إلى
الساعة في خبث وقالت وقد ارتسمت عمى شفتييا ابتسامة ماكرة:
ػ اطمئف يا دكتور ،نصؼ ساعة في عرؼ مديري قد تعني ساعة أو أكثر ،لكنو ميما تأخر في مواعيده فإنو
يفي بيا أخيرا ..ىو ماذا قمت؟
ػ في ماذا؟
أدركت بذكائيا أني أتجاىؿ طمبيا ،فما لبثت أف صرخت متظاىرة باأللـ:
ػ آه ..ىا ىي نوبة األلـ تعاودني ..آي ..يا ليا مف آالـ فظيعة!
تساءلت في سري إف كاف ىذا تمثيبل متقنا أـ حقيقة صادقة ،ضعت بيف الشؾ واليقيف ،واستنفر في أعماقي
الطبيب الذي أقسـ اليمني الطبي المغمظ ،فوضعت فنجاف الشاي ،واقتربت منيا ألقدـ ليا بعض العوف ،
فازدادت صرخاتيا حدة وقالت:
ػ أرجوؾ يا دكتور ..ساعدني ..مف حسف حظي أنؾ ىنا.
سألتيا أف تصؼ لي األلـ الذي تشعر بو ،فقالت:
ػ إنو ألـ شديد يبدأ مف خاصرتي اليمنى ،ثـ ينتشر إلى صدري وظيري ،فيضيؽ نفسي ،وأشعر بورـ كبير ينمو
في المنطقة التي يبدأ منيا األلـ.
تساءلت في حيرة:
ػ ورـ!!.
ػ أجؿ ..ورـ كبير ..أخشى أني مصابة بالسرطاف!..
ابتسمت رغما عني:
ػ ال تتوىمي كثيرا ..األمر أبسط مما تتصوري.
ىمست في ض ارعة:
ػ أرجوؾ يا دكتور ..بإمكانؾ أف تساعدني ..أليس كذلؾ؟
شعرت بالحيرة والحرج ،قمت وأنا أنظر حولي:
ػ المشكمة أف ىذا المكاف عاـ ..كيؼ يمكف أف أساعدؾ؟
ىتفت وىي تشير إلى أحد األبواب:
ػ ىنا توجد غرفة لبلجتماعات ،وىي فارغة اآلف ..تستطيع أف تعالجني فييا.
قمت في تردد:
ػ لكف السيد عبد الغني ..أليس مجتمعا مع ضيوفو فييا؟
قالت في ثقة:
ػ ال ،ال ..في غرفة مكتبو ،أرجوؾ ..لـ أعد أستطيع االحتماؿ.
لـ تترؾ لي فرصة لمتفكير ،سحبتني مف يدي وأدخمتني إلى الغرفة ،ثـ ألقت نفسيا عمى إحدى الكنبات ،وىي
تتموى مف األلـ ..ىدأت مف روعيا ،وطمبت منيا أف ترفع طرؼ سترتيا ألتبيف موضع األلـ ،ففعمت ،وما كدت
أنحني ألفحص منطقة الشكوى حتى طوقتني بذراعييا بقوة ،وقبمتني!..
تممصت مف بيف يدييا ،وبصقت عمييا في احتقار.
قمت ليا ،وأنا في ذروة الغضب:
ػ أنت أقذر امرأة صادفتيا في حياتي.
أطمقت ضحكة معربدة ،وقالت وىي تصمح مف شأنيا:
ػ يبدو أنؾ ما زلت عذراء!..
ىتفت في ثورة:
ػ كيؼ تجرئيف عمى ىذه التصرفات الداعرة في مكاف كيذا؟
قالت مستيزئة وىي تمدغ بحرؼ الراء:
ػ ألـ أقؿ لؾ يا عزيزي بأنؾ ما زلت عذراء؟
ثـ أطمقت ضحكة مجمجمة ،وخرجت غير عابثة بثورتي وغضبي ،وتركتني فريسة لمذىوؿ..
مف أيف جاءتني ىذه العاىرة؟ ..وكيؼ تجرأت عمي في ىذه المحظات الحرجة ،وىي تعمـ المناسبة التي جئت مف
أجميا؟! ..وتمفت حولي في قمؽ خشية أف يكوف أحدىـ قد رآني ،وفيـ موقفي عمى غير حقيقتو ،ماذا لو أف والد
أحبلـ قد رآني معيا ،وأنا الذي جئت ألخطب ابنتو؟
وخطر لي أف أغادر المكاف ببل رجعة ،لكني خشيت أف يفسر انسحابي تفسي ار خاطئا ،وأف يشوه صورتي أماـ
والد أحبلـ الذي حدد الموعد لمقائي ،لـ يكف أمامي خيار ،خرجت إلى غرفة االنتظار ،وجمست ،لـ تكف
السكرتيرة في الخارج كما توقعت! ..شعرت بشيء مف االرتياح ألف منظرىا كاف سيثير غضبي ويوتر أعصابي ،
وقد يدفعني إلى تصرؼ عنيؼ ال يناسب المكاف الذي أنا فيو ،وال يخدـ الغرض الذي جئت مف أجمو.
كظمت غيظي ،وأنا أغالب بركانا مف الغضب ،وجعؿ العرؽ يتحدر مف جبيتي بغ ازرة ،فرحت أجففو بمنديؿ
ورقي ..ال يوجد في الدنيا أكثر حرجا مف الموقؼ الذي وضعتني فيو ىذه المرأة الفاسدة!..
بعد دقائؽ قميمة فتح باب السيد عبد الغني ،فخرجت منو السكرتيرة بصحبة رجؿ يعمؽ عمى كتفو آلة تصوير ،
رمقتني السكرتيرة بطرؼ عينيا اليمنى في مكر ،وكأنيا تي أز بي ،فحدجتيا بنظرة متقززة ،وأنا أصر عمى
أسناني مف شدة الغيظ ،فأشاحت بوجييا عني بغير اكتراث ،والتقطت حقيبتيا الجمدية مف فوؽ مكتبيا بحركة
خاطفة ،وألقتيا خمؼ ظيرىا ،وقد عمقت طرؼ حمالتيا بسبابتيا ومضت وىي تتمايؿ في مشيتيا..
خرجت وأنا أنتفض مف الغضب ،وعندما أسممتني قدماي إلى الشارع ،أحسست بعمؽ الجرح الذي خمفو ىذا
المقاء العاصؼ في نفسي .ارتميت في سيارتي كالخائر ،وألقيت برأسي عمى المقود ،ورحت أستذكر كؿ ما
كاف ..اآلف فيمت كؿ شيء ..لقد وجد والد أحبلـ أف رفضو لرغبة ابنتو في الزواج مني ،سيزيدىا إص ار ار عمى
موقفيا وتمسكا برأييا ،فحاوؿ بدىائو أف يستوعبيا ،فأبدى استعداده لمقائي وبحث األمر معي ،وقد أعد في
خيالو خطة خبيثة لتشويو صورتي أماـ أحبلـ ..ظف أف كؿ الناس مثمو ..يسقطوف أماـ بريؽ الماؿ ،ويستسمموف
في سبيمو بسيولو ..صور لو خيالو المريض أني شاب سيؿ المناؿ ،لف تصمد مثمو وأخبلقو أماـ عرضو المغري
،فحاوؿ شرائي بمئتي ألؼ دوالر ،أبيع بيا ضميري ،وأستغؿ لقبي الطبي ألفتي لو بصبلحية األغذية الفاسدة ،
فيسوؽ بضاعتو الكاسدة ،وأسقط في نظر أحبلـ ..ىذا الذئب األنيؽ ..كـ أوتي مف الخبث والدىاء؟! ..كؿ حركة
عنده مرسومة ومحسوبة بدقة ..يريد دائما أف يربح ..حتى الخسارة يوظفيا ،ويستفيد منيا في تحقيؽ ربح أو فوز
جديد..
وعدت أدراجي إلى البيت ،فأغمقت عمي باب غرفتي ..واستمقيت فوؽ سريري منيكا ساخطا كئيبا ،وقد أرىقت
نفسي الصدمة التي تمقيتيا عمى يد والد أحبلـ ..ىذا الرجؿ القاسي الذي مؤله الماؿ غرو ار وغطرسة واستيانة
بمشاعر الناس ومصائرىـ! ..واستغرؽ تفكيري سؤاؿ كبير :كيؼ سأتمكف مف إنقاذ أحبلـ البريئة الرقيقة مف بيف
مخالب أبييا الذي يقؼ حاج از عنيدا بيني وبينيا؟ ..واعترض أفكاري طرؽ عمى الباب ،فاعتذرت عف فتحو
متذرعا بالتعب واإلرىاؽ ،عاد الطرؽ مشفوعا بصوت أمي وىي تقوؿ:
دفعني الفضوؿ لمعرفة مصدر الرسالة وفحواىا ،فنيضت متثاقبل ،وفتحت الباب ،قالت أمي وىي تراني أقطر
كآبة:
ػ كما تشاء..
ػ مف أحضر الرسالة؟
ػ افتحيا وستعمـ..
فضضت الرسالة , ،أخرجت ما فييا بسرعة ،فصفعتني المفاجأة ،وأذىمتني ،وقرأت أمي في وجيي غضبا
وانفعاال فسألتني عمى الفور:
ِ
تخؼ عني ،فأنا أمؾ ،وأستطيع أف أستشؼ ما بداخمؾ ،لقد أثارتؾ الرسالة إثارة بالغة!. ػ ال
ػ قمت لؾ ال شيء..
ػ بؿ ىناؾ شيء.
ػ أرجوؾ..
استسممت أمي لرغبتي ،وغادرتني قمقة متوجسة ..أغمقت الباب خمفيا ،وتيالكت عمى كنبة قريبة ،ورحت أتأمؿ
ما حممتو لي الرسالة..
مفاجآت الذئب األنيؽ عبد الغني الذىبي لـ تنتو بعد كما تصورت ،وخططو الدنيئة كانت أبعد مما أسأت بو
الظف ..حادثت السكرتيرة المعوب لـ يكف صدفة بحتو ،أو تصرفا عابثا مف امرأة سطت عمييا الرغبة ،وفقدت
كوابح اإلرادة ..بؿ كاف تصرفا مدب ار مرسوما بإتقاف! ..وىا ىي الصورة التي حممتيا لي الرسالة تثبت ذلؾ..
لقد استطاع المصور الذي قابمتو خارجا مف مكتب والد أحبلـ ،أف يخفي كاميرتو خمؼ األستار المخممية الزرقاء
،ويمتقط لي صو ار عديدة وأنا أحاوؿ مساعدة السكرتيرة ،واختار منيا لقطة مقنعة كما أوصاه سيده" ..أريد لقطة
مقنعة" ..وىؿ ىناؾ لقطة أكثر إقناعا وتشوييا لسمعتي مف صورة السكرتيرة المعوب وىي تطوقني بذراعييا ،
وتقبمني؟ !..األوغاد ..مف يرى الصورة ال يصدؽ أف ما جرى كاف خدعة قذرّة! ..في أي عالـ نعيش؟!..
وأمعنت التأمؿ في الصورة وأنا أرتج مف شدة الغيظ والغضب ..إنيا صورة محرجة تخيرىا والد أحبلـ بخبث
لمضغط عمي وابتزازي ،إنو محتاط لكؿ أمر ،ومصمـ عمى تشويو صورتي أماـ أحبلـ ،وقد توقع أال تفمح معي
سياسة الترغيب ،فابتكر وسيمة لمترىيب ..يا لو مف طاغية حقير..
وكدت أنيض مف فوري ،وأذىب إليو ألنشب أظافري في رقبتو ،وأحطـ جمجمتو التي يطبخ فييا مؤامراتو الدنيئة
،لكف صوت أمي عاد يناديني مف خمؼ الباب ،ألرد عمى مكالمة ىاتفية قد وردت لمتو .رجوتيا أف تعتذر عني
،ألني كنت في حالة نفسية ال تسمح لي بالحديث مع أحد ،فأخبرتني بأف المتحدث يقوؿ بأنو صاحب الرسالة ،
وأنو يريدني ألمر ىاـ ..عبد الغني يطاردني في بيتي! يريد أف يعرؼ ردة فعمي عمى مفاجآتو ،ويساومني
عمييا! ..القذر!!..
نقمت الياتؼ إلى غرفتي خشية أف يمحظ انفعالي أحد ،أو يمتقط كمماتي ويفسرىا عمى ىواه ،فـ أكف أدري بأية
ليجة سأخاطب بيا ىذا الوغد! ..قمت لو وأنا أتميز مف الغيظ:
ػ كاف بإمكانؾ أف ترفضني دوف المجوء إلى ىذه األساليب القذرة التي ال تقدـ عمييا إال عصابات المافيا وحثاالت
البشر.
ضحؾ ضحكة تفيض بالتشفي ،وقاؿ بصوت ىادئ ،وكأنو يمارس لعبة مسمية:
ػ أنت يا عزيزي لـ تترؾ لي خيا ار ،لقد اختطفت قمب البنت وارادتيا ،ولعبت برأسيا حتى جعمتيا تتحداني ،
وتفرض عمي رغبتيا ،التي ىي في الحقيقة رغبتؾ.
ػ لماذا تتصور أف أحبلـ خاضعة لتأثير مني؟ لماذا ال تريد أف تقتنع بأنيا تعبر عف رأييا ورغبتيا الخالصة؟!.
ػ دعؾ مف ىذا الكبلـ ،واستمع لما سأقولو لؾ ،أنت في ورطة جديدة وعميؾ أف تواجييا ،وأنا عمى استعداد
برغـ كؿ ما بدر نحوي منؾ.
لـ أفيـ ما يتحدث عنو ،لكني لـ أعد أستغرب منو أية مفاجأة ،فقد وصؿ ىذا الرجؿ المريض في تصرفاتو معي
إلى أسفؿ الدرؾ.
ػ مف سوسو؟
ػ آه ..سوسو ..تمؾ السكرتيرة الساقطة التي أمرتيا أف تمارس معي لعبتيا الدنيئة.
ػ األمر يا عزيزي لـ يعد لعبة ..سوسو تدعي أنؾ قد اغتصبتيا بعد أف وعدتيا بالزواج ،وىي تزمع أف تشكو إلى
العدالة ،وسوؼ تقدـ صورتؾ معيا دليبل عمى أياـ الغراـ واليياـ التي قضيتماىا معا!.
لـ أعد أتمالؾ أعصابي ،صرت أرغو وأزبد عمى الياتؼ ،أسب وأشتـ وألعف ،وألوح بقبضتي الثائرة ،وألكـ بيا
اليواء ..لـ أكف أتوقع أف في ىذا العالـ بشر منحطوف إلى ىذه الدرجة ..ألوؿ مرة في حياتي أرتطـ بالقاع ،
وأغوص في أوحالو القذرة ..ألوؿ مرة أقع فريسة لمذئاب البشرية التي تعبث في حياتنا ظمما وفسادا ..وىرعت أمي
إلى الغرفة تطرؽ الباب لتعرؼ سبب ثورتي وغضبي ،لكني لـ أستجب لطرقاتيا ..مف حسف حظي أنو ال يوجد
في بيتنا سوى جياز ىاتؼ واحد ،واال الستطاعت والدتي أف تفيـ طرفا مما جرى ويجري..
قاؿ الذئب عبد الغني في ىدوء مثير ،بعد أف استمع إلى حديثي الغاضب بغير اكتراث:
ػ إذا وعدتني بأنؾ ستبتعد عف طريؽ أحبلـ ،فسأعدؾ بأني سأمنع سوسو مف تقديـ الصورة لمعدالة.
ػ ابنتؾ فتاة ناضجة أكثر مما تظف ..وىي إنسانة ذكية وواعية ،وتحمؿ مؤىبل ثقافيا عاليا ،وليست صغيرة حتى
تعالج زواجيا بيذه الطريقة المؤسفة.
ضحؾ بنفس اليدوء المثير الذي بدأ حديثو بو معي ،وقاؿ كالشامت:
ػ الثقافة والشيادة ،ال تعني الوعي واإلدراؾ دائما ،ىا أنت مثقؼ مثميا ،ووقعت ضحية فخ بسيط.
ػ أكثر الناس يتصرفوف مثمي ،لكف ،لكؿ طريقتو ..ألـ تسمع عف توظيؼ نقاط الضعؼ؟
ػ ىذه قواعد المعبة ..إذا لـ يكف لخصمؾ نقطة ضعؼ تمسكو منيا ،فحاوؿ أف تجره إلى موقؼ ضعؼ تستعممو
لصالحؾ ..ألـ يعمموؾ يا دكتور أف الدنيا حرب وصراع..
صمت برىة أوحت لي بأنو يبتسـ ..لكممة إمبراطور وقع خاص في نفسو ،ولـ يمبث أف قاؿ:
ػ إني أحذرؾ لممرة األخيرة ،األفضؿ لؾ أف تبتعد عف أحبلـ ،واال سأشوه صورتؾ أماميا ،وأجعميا تكرىؾ
لؤلبد ..أنت تدرؾ كيؼ تكوف ردة فعؿ أحبلـ ،عندما تعرؼ أنؾ كنت عشيقا لمومس.
ػ المومس سكرتيرتؾ ،ويمكف إثبات ذلؾ بسيولة ،واكتشاؼ دورؾ الرخيص في ىذه المعبة.
ػ ألـ أقؿ لؾ بأنؾ ساذج؟ ..ىؿ تتصور أني يمكف أف أستخدـ أشخاصا تستطيع أف تصؿ إلييـ؟ ..سوسو يا
عزيزي ليست سكرتيرتي ،إنيا امرأة غريبة تتجر بجسدىا ،وتخمص لمف يدفع ليا أكثر ..وقد دفعت ليا أج ار
مجزيا لـ تكف تحمـ بو ،فسممتني مقابؿ ذلؾ قيادىا ،ألحركيا كيفما أشاء ..الماؿ يا دكتور كجياز التحكـ عف
بعد ..يحرؾ لؾ الناس كيفما تريد ،وكمما كاف الماؿ سخيا كمما كانت دائرة التحكـ أوسع ..ألوؿ مرة أمنح
خبلصة تجاربي لآلخريف ..عمؾ تصحو وتتعظ..
ثـ عاد إلى الضحؾ ،فوصمت ضحكاتو إلى سمعي كقيقيات شيطاف..
ػ ألوؿ مرة في حياتي أتمنى لو كنت كاتبا متمرسا حتى أعريؾ وأعري أمثالؾ ،ليعرؼ الناي أية ذئاب تمؾ التي
تتخفى بجمود البشر!..
ػ كف ما شئت ،وابتعد عف أحبلـ.
ػ أنت ال تحبيا ..أنت تحب ثروتيا ..أنت طامع في ثروتي التي ستؤوؿ إلييا..
ػ عندما يتقدـ مف أحبلـ غني شبعاف مثمي ،سأقتنع بأنو قد جاء رغبة بالزواج منيا ،وليس طمعا بثروتيا!.
ػ لقد أضعت وقتي بما فيو الكفاية ..أنت اآلف أماـ خياريف ..إما أف تنسحب مف حياة أحبلـ ،أو تركب رأسؾ ،
فتخسر سمعتؾ أماميا وأماـ المجتمع ..أنت تعرؼ كـ ىي سمعة الطبيب ميمة أماـ الناس الذيف يأتمنونو عمى
أسرارىـ وأعراضيـ!..
كدت أغمؽ السماعة في وجيو إعبلنا عف رفضي ليذا االبتزاز الرخيص ،لكني أصبت بالجبف ..إنو طاغية عات
يعني ما يقوؿ ،ولف يتوانى عف دفع مومستو المرتزقة لتقدـ شكواىا ،وتمطخ سمعتي بأكاذيبيا الممفقة ..والناس
لؤلسؼ يحفظوف الحكايات السيئة بسرعة ،وال يتثبتوف منيا ،واأللسنة المريضة تبحث عف قصة تثرثر بيا..
سيمتصؽ اسمي بأذىاف الناس كطبيب فاسد ،وسيمسي مستقبمي الطبي عمى كؼ عفريت ..حتى لو كافحت
وأظيرت براءتي ،فمف أجد مف يحفؿ بيذه البراءة ،أو يذكرىا أماـ الناس الذيف أساؤوا بي الظف ..ووجدتني
مضط ار لبلنحناء أماـ العاصفة ،ولو إلى حيف ،ريثما أمتمؾ وسائؿ الدفاع عف نفسي أماـ ابتزاز والد أحبلـ ،
وضغوطو الظالمة..
ىمست في يأس:
ػ لماذا؟
ثـ صفؽ السماعة في لؤـ ،فصفع صوتيا سمعي ،وزاد مف شعوري باليزيمة ..وألوؿ مرة في حياتي بكيت
بم اررة ..بكيت كما يبكي األطفاؿ ..أحسست بالذؿ واليواف ..فقدت احترامي لنفسي ..اىتزت ثقتي بالعالـ ،
احتضرت داخمي كؿ األحبلـ واآلماؿ ،فتكاثؼ الشؤـ ،وألقى بظمو األسود عمى كؿ شيء ،لف تخدعني
المظاىر بعد اآلف ،لف تخدرني البشاشة التي يمقاني بيا الناس ،األقنعة التي يرتدونيا لف تنجح في اصطياد
ثقتي..
وتمددت فوؽ سريري كالميت ،أحممؽ بنظراتي الذاىمة في السقؼ األبيض الناصع..
ال أذكر أني قضيت ليمة أطوؿ مف تمؾ الميمة! ..قضيتيا مؤرقا مسيدا ،تتناوشني األفكار واليواجس ،
وتعتصرني م اررة العجز واليزيمة ...وأعمنت حواسي استنفا ار شامبل ،فمـ يغمض لي جفف ،أو ييدأ لي فكر..
وجمدتني نفسي بقسوة ،فأليبتني بسياط الموـ والتأنيب ..وبدت لي كؿ المثاليات التي أحمميا كفقاعات متيافتة مف
اليواء ..تراىا جميمة براقة تسبح برشاقة وانسياب ،لكنيا تنفجر عند أوؿ صدمة ..تتبلشى ،وتمحى ،وكأنيا لـ
تكف..
وعاث الشؾ في أعماقي كمارد أحمؽ ،يحطـ كؿ الصور الحبيبة إلى نفسي ،ليبحث تحتيا عف الزيؼ والبشاعة
التي قد تخفييا ،وامتدت يد ىذا المارد إلى أقرب الناي إلي ،فأنشب أظافره في وجوىيـ ليختبرىا ،ويتأكد مف
أنيا وجوه حقيقة أصمية ،وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديو والد أحبلـ..
وشعرت أف العالـ داخمي يتداعي وينيار ،فيسحؽ تحتو كؿ األمثمة الطيبة التي كنت أرنو إلييا باحتراـ ،بيد أف
أحبلـ وقفت فوؽ أنقاض ىذا العالـ المتداعي كالمنارة ،تشع طي ار ونقاء ،فمـ يجرؤ مارد الشؾ أف يمد يده إلييا
أو أف يخترؽ ىالة الطير والوضاءة التي تحؼ بيا ،وطفؽ يدور حوليا مبيو ار بنبميا ووضاءتيا ،يحيره ذلؾ
الجوىر الكريـ الذي يتوىج داخميا ،ويسطع بكؿ ىذا األلؽ الفريد..
والتفت حوؿ رقبتي ضفيرة غميظة مف األسئمة ،وراحت تضغط عمييا بعنؼ ،حتى كادت تخنقني! ..كيؼ
ستواجو أحبلـ؟ ..ماذا ستقوؿ ليا؟ ..كيؼ ستعتذر إلييا؟ ...ىؿ ستعترؼ ليا بحبؾ واذعانؾ لبلبتزاز؟ ..أـ
ستخفي عنيا ما حدث ،وتدعي بأنؾ لـ تذىب لمقابمة أبييا في الموعد المقرر؟ ..ستسألؾ ،لماذا ،فماذا سيكوف
الجواب؟ وكيؼ ستبرر ليا ىذا االدعاء؟ ...كيؼ ستصمد أماـ عينييا وأنت تق أر فييما نعيؾ كرجؿ ،وكإنساف؟..
وانتبيت في ىدأة الميؿ إلى شيء! ..أصخت السمع ،ثـ تتبعت مصدر الصوت في قمؽ ،فقادني الصوت إلى
غرفة الجموس ،كانت أمي تجمس وحيدة في ركف الغرفة تغمب البكاء ..أضأت النور ،فأخفت وجييا المخضؿ
خمؼ كفييا ،قمت ليا ،وقد أثر بي منظرىا الباكي ،وزادني ألما عمى ألـ:
ػ أماه ..لماذا تبكيف؟..
أجابت بصوت متيدج خنقتو العبرات:
ػ وىؿ تريدني أف أضحؾ؟ ..تأتي إلى البيت واجما حزينا ،ثـ تغمؽ عميؾ الباب ..أسألؾ أف تصارحني بما يشغؿ
بالؾ ،فتأبى ..أدعوؾ إلى طعاـ الغداء ،فتعتذر بفظاظة ..آتيؾ بالطعاـ إلى غرفتؾ فتضرب عنو ..تقضي
الوقت في الغرفة وأنت تحممؽ في الجدراف كالممسوس ..تريدني أف أرى كؿ ىذا وال أبكي؟!..
تناولت راحتيا بيف يدي ،وطبعت عمى ظاىر كفيا قبمة اعتذار.
قمت في تأثر:
ػ أماه ..أنت تبالغيف في فيـ األمور ..ال شيء يدعو لمقمؽ ..قومي فاخمدي لمنوـ.
ػ لف أناـ حتى أعرؼ ما الذي يشغمؾ؟
ػ قمت لؾ ال شيء..
ػ أنت تكذب!..
ػ أماه!..
ػ أنت تخفي عني أم ار عظيما ال يسر.
أطرقت في صمت ..تستطيع أف تخفي كؿ شيء عف الناس ،لكنؾ ال تستطيع أف تخفي شيئا عف األـ..
سيكتشؼ العمماء ذات يوـ حاسة جديدة تدعى حاسة األمومة ،وسيجدوف عمييا ألؼ برىاف ..قمت ليا بنبرة
مستسممة:
ػ ال أنكر أني قد تعرضت اليوـ لتجربة مؤلمة ،لكني ال أجد ضرورة لمحديث عنيا ..الحديث فييا يؤلمني أكثر ،
وأنت ال تريديف لي المزيد مف األلـ.
ىدأت قميبل ،وقالت:
ػ أتخبرني بما يشغمؾ فيما بعد؟
ػ ستعرفيف يوما كؿ شيء.
ػ مازلت قمقة عميؾ!.
ػ أال تثقيف بقدرة ابنؾ عمى مواجية األزمات؟
صمتت ولـ تجب! ....بدت كأنيا ليست واثقة! ...عذبني صمتيا ،إنيا تعرؼ أف ابنيا ضعيؼ! ...أطرقت في
حياء ،قالت بعد تفكر:
ػ أمازلت تفكر في أحبلـ؟
مس ىذا السؤاؿ فؤادي المجروح كذرات مف الممح ،فالتيبت آالمو مف جديد ،قمت وأنا أتيرب مف نظرتيا:
ػ أحبلـ كانت فكرة ،واألمر لـ ينضج بعد.
ػ أنت تحبيا أليس كذلؾ؟
ػ ىذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..
صمتت ثانية ،وقد أدركت أف صدري مغمؽ أماـ محاوالتيا الكتشاؼ سري ،ومداواة جرحي ..قالت بعد تأمؿ
حزيف:
ػ إذا كنت مص ار عمى الزواج مف أحبلـ ،فأنا يمستعدة لبيع األرض التي ورثتيا عف والدي ،لتؤمف ليا المستوى
المادي الذي يميؽ بيا..
رنوت إلييا في ود وفخر ..كـ ىو الفارؽ بيف إنساف يضحي بكؿ ما يممؾ مف أجؿ سعادة ولده ،وبيف إنساف
يضحي بسعادة ولده مف أجؿ ما يممؾ !..
كـ ىو الفرؽ ىائؿ وبعيد!!..
الفصل الرابع والعشرون
استقبمت صباح اليوـ التالي برىبة ،كنت مشفقا مف لقاء أحبلـ ،وترددت! ..ىؿ أذىب إلى المستشفى أـ أبقى؟
ىؿ أقدـ عمى مواجية الموقؼ أو أحجـ؟ كاف السير واألرؽ والسياد قد تراكـ عمى أعصابي فأرىقيا .وسرى الوىف
في جسدي كالداء ،فوجدت فيو ذريعة لميروب.
اتصمت بالمستشفى ألطمب إجازة ،فأخبروني بأف الدكتور مأموف يحضر لعممية ميمة وقد طمب مف جميع
األطباء أف يكونوا حولو في غرفة العمميات ليطمعوا عمى الحالة الجديدة ،ويتعرفوا عمى التقنية الجراحية التي
سيستخدميا ...لـ يكف أمامي مفر مف الذىاب ،فالدكتور مأموف يغفر كؿ شيء في العمؿ إال الغياب عف مثؿ
ىذه العمميات!.
وذىبت .دلفت إلى المستشفى متثاقبل أقدـ رجبل وأؤخر أخرى ،خفؽ قمبي وأنا أصافح الوجوه بنظرات حذرة ..ماذا
لو ظيرت أحبلـ أمامي فجأة؟ وبأي وجو سأقابميا؟ ورقيت في الدرج كالخائؼ ،ثـ تسممت إلى غرفة األطباء
المقيميف .كاف ىاني ييندس شاربو الكث أماـ المرآة ..ألقيت عميو تحية الصباح ،فرد عمي خيالو المنعكس عمى
المرآة ،جمست عمى حافة السرير كاليدود ،وأخذتني سنة مف الشرود ..التفت إلي ىاني فجأة ،وقد لحظ وجومي
عبر المرآة ،قاؿ باىتماـ:
ػ صبلح ..ما بؾ؟
ػ ال شيء..
ػ أنت حزيف!
تكمفت بابتسامة واىنة وقمت متظاى ار باإلنكار:
ػ أنا؟
ػ نعـ ..أنت لست عمى ما يراـ..
ػ متعب قميبل ..لـ أنـ جيدا ىذه الميمة.
عاد إلى مرآتو ،وراح يشد أزرار ردائو األبيض إلى عراىا بإحكاـ ..قاؿ وىو يتأكد مف سبلمة ىندامو:
ػ ىو األرؽ إذف..
أومأت باإليجاب ،ونيضت إلى خزانتي ألرتدي ثوب العمؿ ..أردؼ ىاني وىو يدس جياز اإلنذار في جيب
ردائو المكوي بعناية:
ػ أرؽ المفمس أـ أرؽ العاشؽ؟
ػ بؿ أرؽ المفجوع!
ػ بمف؟
ػ بيذا العالـ..
ضحؾ ىاني ،وقاؿ:
ػ يا مسكيف ..سيظؿ ىذا العالـ جاثما فوؽ صدرؾ حتى يسحقؾ تحتو ،كفاؾ تفكي ار بيذا العالـ ،والتفت لنفسؾ..
روح عنيا بعض الشيء ،وانج بيا مف األرؽ والقمؽ ..روضيا عمى عدـ االكتراث ..افعؿ مثمي ،فأنا لـ يعد
ييزني شيء..
وكاف ييـ بالخروج ،فتوقؼ فجأة وىو يراني مازلت غارقا في ىمومي ال أحفؿ بتعميقاتو الساخرة ..قاؿ ناصحا:
ػ ال تنسى أف تزيف وجيؾ بابتسامة قبؿ أف تنزؿ ،فمنظرؾ المقطب قد يصيب المرضى باالكتئاب.
ثـ دس يده في جيبو ،ومضى وىو يصفر في مرح.
مازالت أعصابي مشدودة إلى لحظات المواجية ..تمنيت لو أف األرض تنشؽ وتبتمعني ،وال تراني أحبلـ ..كـ
سأبدو في نظرىا تافيا وضعيفا! ....سأبدو أخرقا مترددا ال يممؾ أف يأتي بقرار ،وسأبدو وغدا كرييا ال يحترـ
مشاعر اآلخريف..
ورف جرس الياتؼ ،فرفعت السماعة بيد ثقيمة ،كاف ىاني عمى الطرؼ اآلخر..
ػ صبلح ..نسيت أف أخبرؾ.
ػ ماذا؟
ػ الدكتور مأموف يريدنا في غرفة العمميات.
ػ أعمـ.
ػ أسرع إذف ..لقد دخؿ اآلف..
وىرعت إلى جناح العمميات كجندي جباف يحب الحرية ،ويياب الموت! ..غسمت يدي بالصابوف ،وارتديت
المبلبس المعقمة الخاصة بغرفة العمميات ،ثـ أحكمت وضع القناع الطبي فوؽ أنفي ...شعرت بشيء مف
االرتياح ألف ىذا القناع سيخفي تحتو تعابير وجيي المقطبة.
وانضممت إلى زمبلئي األطباء الذي التفوا حوؿ الدكتور مأموف في غرفة العمميات ..لـ أجرؤ في البداية عمى
رفع نظراتي ألطوؼ بيا عمى وجوه الزمبلء ،خشية أف تمتقي بأحبلـ! أخذت مكاني في الحمقة التي انفرجت قميبل
لتضمني ،وركزت بصري عمى جسد المريض الممدد أمامي بانتظار مبضع الجراح ..لكف الدكتور مأموف لـ
يرحمني ..قاؿ مداعبا:
ػ أراؾ اليوـ في ذيؿ القافمة يا دكتور صبلح ..عيدي بؾ دائما األوؿ!.
وأردؼ ىاني في محاولة ماكرة إلحراجي:
ػ لقد أخرتنا يا دكتور صبلح ..منذ متى ونحف ننتظر!..
ضحؾ الجميع لدعابة ىاني ،بينما قاؿ الدكتور مأموف لياني مازحا:
ػ اسكت أنت ..دائما تحب االصطياد في الماء العكر.
ػ ظننتؾ ستمنحني مكافأة!..
ػ لماذا؟
ػ ألني أوؿ مف حضر اليوـ إلى غرؼ العمميات..
ػ ستناؿ مكافأتؾ في الحاؿ..
ػ أرجو أف تكوف مجزية..
ػ ستقوـ بتجفيؼ الدماء أثناء إجراء العممية.
ابتسمت ليذا التكميؼ الذي ال يخمو مف دعابة ،بينما ضحؾ اآلخروف ،المعروؼ عف ىاني أنو يؤثر الراحة ،
وكثي ار ما كاف يتقصد التأخر عف مثؿ ىذه العمميات ،حتى تكوف األدوار قد وزعت ،فيكتفي بالمشاىدة ،وبدأت
المجزرة كما يسمييا ىاني عادة ،فأغمد الدكتور مأموف حافة مقبضو الحادة في بطف المريض ،وأخذ يفتح بو
مدخبل إلى أحشائو المصابة ..انتيزت فرصة انشغاؿ الجميع بما يجري ،فاختمست إلى أحبلـ نظرة متسممة ،
لكنيا ضبطت نظرتي الجبانة وىي تزحؼ إلى وجييا الشاحب ،سربمني منظرىا الشجي بمييب األسى والغـ ،
وقرأت في عينييا لوما موجعا ،وعتبا مري ار لـ أصمد لو ،فنكست بصري وتظاىرت باالنشغاؿ..
وفرغ الدكتور مأموف مف جراحتو ،فغادرت المكاف عمى عجؿ ،ولذت بمقصؼ العـ درويش ..جمست مرىقا
منيكا كالمحموـ ،تطاردني النظرات الموامة التي سددتيا إلي أحبلـ.
وجاء العـ درويش يسألني عما أشتيي ،فطمبت فنجانا مف القيوة ،فخؼ إلحضاره ،وقد الحظ ما أنا فيو مف
ضيؽ ..ولـ يمبث قمبي أف خفؽ وأنا أصغي إليقاع خطوات أحبلـ ،وىي تدؽ الممر الطويؿ المفضي إلى
االستراحة.
وقفت أحبلـ أمامي في كبرياء وسألتني بنبرة صارمة:
ػ لماذا لـ تحضر لمقابمة والدي باألمس؟
انفجر سؤاليا داخمي كقنبمة تتشظى بالم اررة ،لقد نفذ أبوىا دورة بدقة ،وعمي أف أتـ الفصؿ الثاني مف المسرحية.
رجوتيا أف تجمس ،لكنيا كررت السؤاؿ بنبرة أشد وطأة وايبلما ..
قمت ليا متجاىبل سؤاليا القاسي:
ػ ماذا تشربيف؟
جمست وقالت:
ػ كاف أولى بؾ أف تحزـ أمرؾ قبؿ أف أضرب لؾ موعدا مع أبي.
كدت أنفجر أماميا ضاحكا ،وأدلي ليا بكؿ ما كاف ،فأعري أبييا الماكر ،لكني تذكرت العواقب المحتممة ،
فضعفت ،وتنيدت:
ػ أحبلـ ...يبدو أننا لـ نخمؽ لبعضنا..
دمعت عيناىا وقالت:
ػ اآلف تقوؿ ىذا الكبلـ؟ ..أبعد أف خضت مع أمي وأبي معركة مف أجمؾ؟ .ىؿ أنا رخيصة عندؾ إلى ىذا
الحد؟ ..لماذا ىذا التردد؟ ..ما الذي غير رأيؾ بيذه السرعة؟..
اخترقتني كمماتيا كحزمة مف الرماح ،تضاءلت أماميا وأحسست بالصغار ..قمت متيربا مف نظراتيا الثائرة:
ػ فكرت في أمر ىذا الزواج ،فوجدت أنو ال يمكف أف يعيش!
ػ لماذا؟
ػ لدي أسبابي.
رمقتني بنظرات كسيرة ،وىمست:
ػ أنت تحكـ عمي بالعنوسة إلى األبد..
ػ ستنسيني عما قريب.
ىمست بنبرة ترتعش:
ػ كيؼ تجرؤ عمى ىذا الكبلـ؟..
ػ أنا عاجز عف القرار ..اآلف ،عمى األقؿ..
رفعت ىامتيا في كبرياء ،وقالت:
ػ أما أنا فقد اتخذت قراري ..إما أنت ،واما ال..
ىتفت في ضراعة:
ػ أحبلـ ..أحبلـ ..ال تكوني عنيدة ،لنتصرؼ بواقعية ..قد يكوف ما بيننا أعمؽ وأروع ما يمكف أف ينشأ بيف شاب
وفتاة ،لكف العواطؼ شيء ،والواقع شيء آخر..
قالت في حدة:
ػ ما قيمة ىذا الواقع إذا لـ نعشو كما نريد؟ ..إذا لـ نصغو وفؽ قناعاتنا وأفكارنا؟..
ػ لكف ىذه القناعات ستتبدؿ بعد الزواج ..بعد الزواج ستشعريف بالفرؽ بيف حياتؾ معي والحياة التي كاف يوفرىا
لؾ أبوؾ ..ستشعريف بأف الزواج قد حرمؾ مف أشياء كثيرة ،وستفقديف حياة الرفاىية والنعومة التي تعودت
عمييا ..ستتراكـ في نفسؾ مشاعر التأفؼ والممؿ ،وستشوه التفاصيؿ الصغيرة العبلقة الرومانسية الحالمة التي
تجمعنا ..سنكتشؼ أنا خدعنا أنفسنا ونغرؼ في الندـ ..لماذا ال نجنب أنفسنا ىذه التجربة الفاشمة منذ اآلف؟
حدجتني بنظرة قاسية وقالت:
ػ أنت تتحدث كوالدي تماما ..أصبحت تربط كؿ شيء بالمادة! ..ثمة شيء أجيمو قد غيرؾ!!..
ػ كؿ ما في األمر أني لـ أصؿ إلى قرار..
أطرقت كاسفة حزينة وقالت في يأس:
ػ أنت ال تريدني ..نعـ .ال تريدني ..كاف يجب أف أفيـ برودؾ نحوي منذ البداية ..ظننت ترددؾ خوفا واشفاقا مف
أف أخذلؾ ،فشجعتؾ وميدت لؾ الطريؽ ،فجاممتني دوف أف تممؾ نحوي نفس األحاسيس والمشاعر ،أنا
المبلمة عمى أية حاؿ ..أستطيع اآلف أف أتخذ قراري ..لف تجمعني الحياة بؾ بعد اآلف ،ولف تجمعني برجؿ مف
بعدؾ ..الوداع...
ثـ مضت ...مضت غاضبة حزينة بعد أف زرعت نفسي بوجد عارـ ،تمنيت أف ألحؽ بيا ألبوح ليا بالحب الذي
يضطرـ بيف ضموعي ،لكني لـ أجرؤ ..فالبوح سيزيد موقفي تناقضا وغموضا!..
ىؿ أدوس عمى قمبي وأرضخ لبلبتزاز ،أـ أبدأ المعركة مع والد أحبلـ؟
ما أقسى أف تجد في طريقؾ سؤاال ببل جواب!...
الفصل الخامس والعشرون
غربت أحبلـ مف حياتي كما يغرب القمر ،وتركتني وحيدا في بيداء مظممة كؿ ما فييا أسود شاحب وكئيب..
ومرت عمي األياـ التالية ببل طعـ أو روح ،فأغمقت صدري عمى ما حدث ،وانكفأت إلى داخمي أتابع حركة
اليزات والزالزؿ التي ضربتني بعنؼ ،فزعزعت أركاني ،ودمرت أحبلمي ،وأحاطت برؤيتي المسالمة لمحياة..
وأدمنت الصمت ،فبل أرى إال واجما ساىما غارقا في شرود عميؽ ،وحببت إلي الوحدة ،فوجدت راحتي في
العزلة واالبتعاد عف الناس..
قاؿ لي ىاني ذات مرة :أنت لـ تعد أنت ..إنساف ال أعرفو ،أراؾ وال أجدؾ ،ال أرى فيؾ سوى بقايا رجؿ! ..ما
الذي حدث لؾ بحؽ اإللو؟..
لـ يستفزني كبلمو ،ولـ أجد رغبة في الرد ،ابتسمت كاألبمو ،ورنوت إليو بنظرة باردة ال معنى ليا ،قاؿ وىو
يحدجني في تفكر:
ػ أنت تعاني مف صدمة نفسية قوية!..
لـ أعمؽ ..كأف حديثة ال يعنيني ..تابع قائبل:
ػ ال شؾ أنؾ قد مررت بتجرة مثيرة! ..نعـ ..تجربة غير مألوفة أفقدتؾ توازنؾ!!..
ثـ أردؼ في دعابة كالذي يحزر:
ػ لعمؾ قابمت كائنات غريبة قادمة مف الفضاء! ..شاىدت فيمما عف حالة مشابيو ..كاف البطؿ يتنزه في الحقوؿ ،
فحط قربو طبؽ طائة ،وخرج منو ثبلثة رجاؿ كالقرود ،فاختطفوه وطاروا بو بعيدا إلى أعماؽ الكوف البعيد..
وعندما عادوا بو إلى األرض كاف قد صار ىكذا مثمؾ ..يحممؽ في اليواء ،ويغرؽ في التأمؿ ،ويخشى الناس..
وضحؾ ىاني ليبعث الحياة في دعابتو ،لكف ضحكتو جاءت نشا از ،شعر باإلخفاؽ والخذالف ألني لـ أتجاوب
مع ضحكاتو ،غير أنو لـ ييأس ،قاؿ كمف وضع يده عمى أمر خطير:
ػ ال ..ال ..أنت مدمف مخدرات ،بعض المخدرات تفعؿ ىكذا! ..تصيب اإلنساف بالصمت والشرود ،وتنقمو إلى
عوالـ مبيمة ..تراه معؾ وىو ليس معؾ ..ىائـ في عالمو الغريب ..نظراتو بميدة ،وحركاتو واىنو ،وعقمو
مسافر ..إلى أيف؟ ..ال تدري! ..يؤسفني أنؾ تحولت مف مصمح إلى حشاش!..
ابتسمت رغما عني ..قمت وأنا أشيح بوجيي عنو:
ػ ىاني دعني وشأني..
ػ لف أدعؾ حتى تبوح لي بما غيرؾ!..
ػ لـ يغيرني شيء..
ػ صمتؾ يغيظني..
ػ الصمت خير مف الكبلـ..
ػ لـ تكف ىذه حكمتؾ مف قبؿ!..
وعشت في البيت كالغريب ..أضحؾ لمضحكات ،وأبسـ مع الباسميف ،أراقب ما يجري حولي كطفؿ لـ يمتمؾ
لغة التخاطب مع البشر بعد ..والحظ الجميع ما آلت إليو حالي ،ويئسوا مف اختراؽ صدري ليعرفوا ما الذي يدور
فيو؟ وأدركت أمي أني أمر بأزمة مف نوع غريب لـ تعيده مف قبؿ ،فانضمت إلى قائمة اليائسيف ،وىي تكابد
حيرة وعج از..
وافتقدت أحبلـ ..افتقدت حديثيا الحمو الذي ينساب كمحف عذب ..افتقدت ابتسامتيا الرقيقة التي كانت تمؤل الكوف
قرحا وبيجة ..افتقدت نظراتيا الوادعة الحالمة التي تطؿ مف عينييا عمى استحياء ،فتدعوؾ لتنطوي ككرة صغيرة
،تناـ في محجرييا الدافئيف ،وافتقدت روح أحبلـ تمؾ الروح الرقيقة التي تشؼ عف جوىرىا النفي ومعدنيا النبيؿ
،مف يستطيع أف يسكت ندائات الروح المشتاقة إلى توأميا الغائب الحزيف؟ مف يستطيع أف يقمع آالـ الروح عندما
يضنييا الفراؽ ويوجعيا الحنيف؟..
وصارت األحبلـ السوداء تغزوني في الميؿ ،تنقض عمي كالكوابيس ،وتقض مضجعي بمشاىدىا القاسية العنيفة
،رأيت أحبلـ ذات مرة تزؼ إلى آخر ،فأفقت كالمجنوف ،وقد روعني ىذا الحمـ الفظيع الذي حرمني مف
فتاتي..
ووجدتني ذات مناـ أصارع ثعبانا مخيفا لو جسد أفعى ورأس إنساف ..وسرعاف ما تبينت أف الرأس رأس عبد الغني
الذىبي ،فدىشت !..وكاد الثعباف العجيب يقضي عمى لوال أف ظير األستاذ سعيد الناشؼ فجأة ،وىو يحمؿ
فأسا غريبة ..في أحد رأسييا شفرة فأس ،وفي الطرؼ اآلخر رأس قمـ! ..ولـ يمبث األستاذ سعيد أف أغمد رأس
القمـ المدبب في جسد الثعباف ،فانشغؿ الثعباف عني ليواجيو الخطر الجديد ،فتناولت الفأس مف األستاذ سعيد
وىويت بيا عمى الثعباف ،ففصمت شفرة الفأس بيف رأسو وجسده ،لكف رأس عبد العني الذبيح ظؿ حيا ،وراح
يضحؾ ويقيقو ساخ ار مني ،ىازئا بمحاوالتي لمقضاء عميو ،وسرعاف ما نبت لو جسـ ثعباف جديد ،فمد ذيمو
نحوي ،ولفو حوؿ عنقي وراح يضغط عميو بقوة ،فأفقت وأنا أتخبط كالرغيؽ!..
وأفاؽ أىؿ الدار ذات ليمو عمى صوتي ،وأنا أىتؼ وأصيح :فميسقط الظمـ ..الموت لمظالميف ..وعندما أيقظوني
مف حممي ،تذكرت أني كنت أقود الجموع في المناـ ،وأحاصر بيا برج عبد الغني األزرؽ ،وأحرضيا عمى
تدمير ىذا الصرح الذي قاـ عمى جماجـ األبرياء..
وخطر لي مرة أف الذئب األنيؽ عبد الغني الذىبي قد يكوف نفذ خطتو في تسويؽ أغذية األطفاؿ الكاسدة التي
انتيى عمرىا المفيد ،وبدأ فعميا الساـ! ..نزلت إلى األسواؽ كالمجنوف ،وطفقت أطوؼ عمى محبلت بيع
األغذية والصيدليات التي أعرفيا ألتفقد ما لدييا مف أغذية أطفاؿ ،واضطرابات لشراء بعض العينات حتى ال
أنبو الباعة إلى غرضي ،لـ أعثر عمى أية عينية مخالفة ،جميعيا صالحة لبلستيبلؾ ،ال يمكف أف يسمـ عبد
الغني بخسارة مميوف دوالر بيذه السيولة ،البد أنو قد سوؽ األغذية الكاسدة في الريؼ ،ىناؾ مازاؿ الوعي بيذه
القضايا ضعيفا ،والذيف ييتموف بتاريخ االستيبلؾ قميموف ،توقفت عند أحد أصدقائي مف الصيادلة ،استغرب
صديقي وىو يراني أحمؿ أصنافا مف عمب أغذية األطفاؿ ،قاؿ مداعبا وىو يستقبمني في صيدليتو:
ػ أضاقت فرص العمؿ باألطباء حتى صرت تعمؿ مروجا تجاريا ألغذية األطقاؿ؟..
أرسمت تنييدة وابتسامة وقمت:
ػ مف يدري؟ قد تمجؤنا البطالة التي تتسع في صفوفنا إلى أكثر مف ذلؾ!.
ضحؾ وقاؿ:
ػ لعمؾ تزوجت وأنجبت! كيؼ تفعميا ،وال تدعوني؟
قمت ساخ ار:
ػ ال تتفاءؿ كثي ار ،األمر غير ىذا تماما..
ػ لماذا تحمؿ كؿ ىذه األصناؼ إذف؟
قمت موريا تفاصيؿ الحقيقة:
ػ سمعت أف أحد التجار الجشعيف قد طرح في األسواؽ كمية كبيرة مف أغذية األطفاؿ التي انتيى زمف استيبلكيا
،فأحببت أف أتأكد مف ذلؾ.
قاؿ صديقي بنبرة تعجب:
ػ أما زلت تحمؿ الدنيا فوؽ ظيرؾ؟ ..ظننت أف السنيف قد غيرتؾ!..
قمت في قمؽ:
ػ أتقوـ و ازرة الصحة بمراقبة دقيقة لمسوؽ؟
فتح صديقي ثبلجة صغيرة قرب المكتب ،فأخرج منيا عمبتي عصير.
قاؿ وىو يقدـ لي إحداىا:
ػ و ازرة الصحة تستطيع أف تراقب السوؽ ،لكنيا ال تستطيع أف تراقب الضمائر.
ثـ أردؼ وقد أحاطت بشفتيو ابتسامة ذات معنى:
ػ إنيـ يزوروف تاريخ االستيبلؾ يا صديقي ..وأحيانا يتواطئوف مع الشركات الصانعة مف أجؿ ذلؾ!
ػ الشركات الصانعة!.
تناوؿ صديقي الصيدلي كتابا أنيقا ،ودفعو إلي..
ػ اق أر ىذا العنواف..
تأممت غبلؼ الكتاب:
ػ (الجرائـ المنظمة في الصناعات الدوائية) تأليؼ "جوف بريثويت" قاؿ صديقي موضحا:
ػ ىذا الكتاب صدر في انكمت ار قبؿ سنوات وأحدث صدوره ضجة كبيرة ،وال سيما في العالـ الثالث..
ػ العالـ الثالث!..
ػ أجؿ ..مازالوا ينظروف ػ إلينا ػ بعيف المستعمر الذي ال يرى في ببلدنا إال منجما لمثروات أو سوقا لتصريؼ
البضائع ،نحف بالنسبة إلييـ مخموقات مف الدرجة الثانية لذلؾ يستيينوف بشعوبنا ويصدروف إلييا أغذية وأدوية
غير صالحة لبلستيبلؾ اآلدمي ..ستجد في ىذا الكتاب حقائؽ مذىمة عف شركات تصدر إلينا أدوية خالية نـ أي
تأثير ضار ..ستق أر عف أدورية تباع إلينا عمى أنيا عبلج ألمراض لـ تصمـ ىذه األدوية ليا أصبل.ستق أر عف
تزوير في الجرعات البلزمة لمقاومة المرض ..يزيدوف الجرعات أضعافا مضاعفة ،حتى تستيمؾ كميات أكبر
مف الدواء ،فيربحوف ىـ ،ونصاب نحف بالمناعة ضد مفعوؿ الدواء ،فبل يعود يؤثر فينا ،بعض الشركات
جربت أدويتيا الجديدة في ببلدنا ،وزعت أدويتيا الخطيرة عمى البسطاء والفقراء كيبات وعطايا ،لتختبر مفعوليا
فييـ ،عاممتيـ كما تعامؿ فئراف التجربة ،ولـ تحترـ إنسانيتيـ أو حقيـ في الحياة ..بعضيـ مات ،وبعضيـ
أصيب بأمراض خطيرة ،ولـ يرتفع ليؤالء صوت ألنيـ لـ يدركوا أف ما تـ جريمة!..
ىالني ما سمعت ..أيصؿ استخفاؼ الدنيا بنا إلى ىذا الحد؟ ..قمت في حماس:
ػ يجب أف تقوـ الصحافة بفضح ىذه األساليب البشعة ..يجب أف يطمع الجميور عمى ىذه الحقائؽ\..
قاطعني صديقي بنبرة ثقة وقاؿ:
ػ ىذا الموضوع ال ينفع معو ألؼ مقاؿ ،وال ألؼ كتاب ..الحؿ الوحيد ىو أف نتحرر مف التبعية االقتصادية
المذلة ..أف نصنع دواءنا بأيدينا ..أف نصنع غذائنا بأيدينا ..حتى السبلح يجب أف نصنعو ىنا ،ألف األمة التي
ال تصنع غذائيا وسبلحيا ال تستطيع أف تحمي استقبلليا أو تصنع مستقبميا..
قمت وأنا أىـ بالنيوض:
ػ ىذا الحديث ذو شجوف ..سنمتقي في فرصة أخرى ونتحدث...
وودعتو مثقبل باليموـ ،نحف أمة كتب عمييا التحدي ،وأمو كيذه يجب أال تناـ ،ولكف ...كيؼ تواجو التحدي
وعبد الغني الذىبي وأمثالو ينيشونيا مف الداخؿ؟ ..أيكوف عبد الغني قد زور تاريخ االستيبلؾ؟ يجب أف أتصرؼ
قبؿ أف تصؿ األغذية الفاسدة إلى أفواه األطفاؿ! ..وومضت لي فكرة فمذت بيا ..رفعت السماعة وطمبت و ازرة
الصحة..
ػ و ازرة الصحة معؾ ..نعـ..
ػ أريد قسـ المراقبة الغذائية ،المدير لو سمحت..
ػ لحظة مف فضمؾ..
وجاءني صوت المدير ىادئا وعميقا:
ػ نعـ..
ػ ثمة ببلغ ىاـ أريد أف أدلي بو.
ػ مف المتكمـ؟..
ػ ال داعي لذكر االسـ..
ػ تفضؿ..
ػ ىناؾ تاجر جشع يستعد لطرح كمية ىائمة مف أغذية األطفاؿ التي انتيت مدة استيبلكيا في السوؽ ..ىذا إف لـ
يكف قد طرحيا فعبل..
ػ مف ىو؟..
ػ أعتقد أنو يخطط لبيعيا في الريؼ مستفيدا مف تخمؼ الوعي الصحي ىناؾ ،ىو الذي حدثني بذلؾ ف وطمب
مني أف أساعده..
ػ قؿ لنا مف ىو ونحف سنتحقؽ مف األمر..
ػ قد ال يكوف تاج ار واحدا!..
صمت المدير برىة ثـ قاؿ:
ػ أخشى أنؾ مف ىواة العبث عمى الياتؼ!..
قمت في إصرار:
ػ سيدي أنا ال أعبث ،أنا أستند عمى حقائؽ..
ػ اذكر لنا اسـ التاجر إذف..
ػ لماذا ال تقوموف بحممة شاممة لمتحقؽ مف صبلحية األغذية الموجودة في السوؽ؟ إنو أمر يستحؽ االىتماـ..
ػ يبدو أنؾ تعبث ..إما أف تعطيني معمومات محدده تساعدني عمى سرعة التصرؼ ،أو تغمؽ السماعة
وتنصرؼ..
حط عمي الصمت فجأة ،وأنا أتخيؿ ما ينتظرني عمى يد والد أحبلـ ،سيدرؾ أني وراء الببلغ وسينفذ تيديده..
سيموث سمعتي وييز مستقبمي ..وسيقمب الموازيف ..سيجعؿ البريء مجرما والمجرـ حمبل ،ويرضي شيوتو
لبلنتقاـ..
وألمت بي لحظة مف ضعؼ ،فكدت أىوي بالسماعة ،ألكتـ أنفاس ىذه المكالمة التي ستفجر في حياتي
المتاعب ،لكف صوت المدير عاد يحثني عمى الكبلـ:
ػ مف ىو؟
قاومت ترددي وجبني بشدة:
ػ إنو عبد الغني الذىبي ..التاجر المعروؼ..
ػ يبدو لي إنؾ إنساف مغرض.
وصمتني كمماتو كالصفعة ..قمت غاضبا:
ػ أىكذا تقولوف لمف يحذركـ مف كارثة قد تودي بأرواح المئات مف األطفاؿ؟.ز
قاؿ بنبرة الساخر:
ػ ال ،ال نقوؿ ىكذا لكؿ الناس ،لكني أقوليا لؾ أنت بالذات ،ألنؾ إما مغرض فعبل ،أو عابث..
ػ لماذا تتحدث بيذه الثقة واإلصرار؟ ..ما الذي أوحى لؾ بأني مغرض أو عابث؟..
ػ ألف عبد الغني الذىبي إنساف نظيؼ ..رجؿ مف ألمع رجاالت البر واإلحساف في ىذه المدينة ،وال يمكف أف يقدـ
عمى عمؿ دنيء كالذي تتيمو فيو..
ضحكت ..وشر البمية ما يضحؾ! ..تذكرت رسما كريكاتيريا ألنثى الشمبانزي وىي تتربع عمى عرش ممكة جماؿ
العالـ ..يا زمف الزيؼ ..أطرؼ كذبة سمعتيا في حياتي! ...عبد الغني الذىبي رجؿ بر واحساف..
قاؿ المدير وقد أحس بالسخرية التي وشت بيا ضحكاتي:
ػ أنا ال أمزح ...عبد الغني الذىبي الذي تتيمو بالغش تبرع في الشير الماضي فقط بخمسيف ألؼ عمبة مف أغذية
األطفاؿ ،وقد وزعت عمى األحياء الفقيرة بإشراؼ إحدى الجمعيات الخيرية..
يا لو مف ماكر! ..إنو يتموف كالحرباء ،ويتقف فف التمويو ،يعطي القميؿ ويأخذ الكثير..يرتكب الموبقات في السر
،ويجير بالحسنات ..يخدر الناس بسخاء كاذب ،ويمتص دماءىـ بجشع فظيع ،وقمت في سخرية مريرة:
ػ ال تخدعؾ ىذه األريحية الطارئة يا سيدي ،فأنا أعرؼ منؾ بيذا الذئب ..معموماتي تؤكد..
لـ يميمني حتى أكمؿ ،أغمؽ في وجيي السماعة ،صوت النفاؽ بات أعمى !..استطاع عبد الغني الذىبي أف
يخدر الرأي العاـ بخمسيف ألؼ عمبة غذاء لـ يبؽ مف عمرىا الحقيقي سوى أياـ ،والكمية الباقية؟ ..اهلل أعمـ
كيؼ سوؽ ما بقي مف األغذية الفاسدة ..لعمو زور تاريخ استيبلكيا ،ولعمو باعيا كما ىي مستفيدا مف جيؿ
الجميور ..ىذا الماكر ..إنو يوظؼ كؿ شيء لصالحو ..يستفيد مف كؿ نقطة ضعؼ في ىذا المجتمع
المريض ...العشرة بالمئو التي كاف ينوي أف يرشيني بيا رشى بيا مجتمعا بأكممو!..
وألفيت نفسي أماـ مبنى جريدة األياـ ..ال ..ال ..ىذه ليست جريدة األياـ !وعدت أتأمؿ اليافطة األنيقة المعمقة
عمى صدر البناء" ..مجمة الديف لؤلطفاؿ"! ..ولكنيا كانت ىنا ..ىذا مبنى جريدة األياـ فمف أيف أتت مجمة
األطفاؿ؟! ..ال بد أف األستاذ سعيد قد فعميا أخي ار ،وطمؽ الصحافة طبلقا بائنا ال رجعة فيو ..كنت أتمنى أف
أجدؾ يا أستاذ سعيد ..عندي أشياء كثيرة كنت أريد أف أحدثؾ بيا..
وخرجت مف مبنى المجمة مجموعة مف األطفاؿ ..كانوا ثبلثة ،وكاف كؿ واحد منيـ يحمؿ مجمة ..يتصفحيا وىو
يسير عمى ميؿ ،وكأف ليفتو لمقراءة لـ تميمو حتى يصؿ إلى البيت فيق أر مجمتو بيدوء ..استيقظت في أعماقي
طفولتي القديمة..
"أروني ىذه المجمة يا أطفاؿ"..
تقدـ أحدىـ ،ومد لي يده بالمجمة بينما وقؼ صديقاه عمى بعد خطوات منا ،يرقباني بدىشة..
قمبت المجمة بسرور ..كـ تحركت ىذه الصور الممونة في خيالنا ونحف صغار !..كانت أحبلـ الطفولة المجنحة
الطميقة تبعث الحياة في ىذه الرسوـ الجميمة ،وتحمؽ بنا في عالـ مسحور! ..كـ طرت في طفولتي عمى بساط
الريح ،وكـ تجولت مع السندباد في أسفاره الممتعة المثيرة ،وكـ تقت لمصاحبة سمير..
ػ "عمو ،عمو "..ىؿ تعرؼ حؿ المسابقة؟
حضنت الطفؿ بنظرة ودودة وابتسمت:
ػ أيف ىي المسابقة؟..
خطؼ الطفؿ المجمة مف يدي ،وراح يقمب صفحاتيا ،حتى عثر عمى صفحة المسابقة..
ػ اق أر ىنا ..ىذه ىي المسابقة..
قرأت بصوت مسموع:
ػ "مدينة عربية يبدأ اسميا بحرؼ القاؼ ،فتحيا عمر وحررىا صبلح الديف ،ثـ احتميا الييود عاـ ، 7667
وحرقوا مسجدىا الشيير ،ىؿ تعرفوف ما ىي؟".
تفكر الطفؿ قميبل ،ثـ ىتؼ في حماس:
ػ القدس..
انحنيت نحو الطفؿ فيما يشبو الركوع ،فتقابمنا وجيا لوجو ،قمت مداعبا:
ػ ىا أنت تعرؼ الحؿ ،فمماذا تريدني أف أساعدؾ؟
ابتسـ الطفؿ وقاؿ في حياء:
ػ ظنتيا صعبة!..
ػ يجب أف تكوف واثقا بنفسؾ.
ػ ما معنى "واثقا بنفسؾ"؟..
ضحكت ،تذكرت أف لؤلطفاؿ لغتيـ وقاموسيـ الخاص ،حاولت أف أقرب لو المعنى:
ػ أف تكوف واثقا بنفسؾ يعني شأف تعتقد بأنؾ قادر عمى اإلجابة عف أسئمة المسابقات والدروس دوف أف تستعيف
بأحد ،حاوؿ دائما أف تعتمد عمى نفسؾ يا صديقي فأنت ذكي كما أرى!..
لـ يميمني حتى أتـ موعظتي ..بدا غير متحمس لسماع المزيد! ..انطمؽ نحو صديقيو بخفة ومرح ،وقاؿ ليما
بنبرة تشي بالفخر:
ػ لقد عرفت حؿ المسابقة ،إنو مدينة القدس..
نظر إليو أحدىما في شؾ ،وقاؿ لو وىو يشير إلي:
ػ ىو الذي حميا لؾ!..
ضرب الطفؿ األرض بقدمو الصغيرة ،وقاؿ وقد أثاره ىذا االستخفاؼ بقدراتو:
ػ بؿ أنا الذي حممتيا بنفسي ..أسألو إذا أردت!..
أسرع الطفؿ المرتاب إلي مستجيبا لمتحدي ،ثـ سألني وىو يشير إلى صديقو في شؾ:
ػ "عمو ،عمو" ..أصحيح أنو عرؼ حؿ المسابقة وحده..
أسعدني ىذا الحوار الطفولي الطريؼ ،وألوؿ مرة منذ مدة طويمة شعرت بأني أبتسـ مف الداخؿ ..ابتسـ ابتسامة
ليا جذور عميقة مف الفرح ..األطفاؿ ىـ الفرح الباقي في ىذا العالـ ..قمت لمطفؿ مطمئنا:
ػ نعـ ..ىو الذي حؿ المسابقة ..حميا وحده ودوف أف أساعده.
ثـ أردفت مشجعا:
ػ إنيا مسابقة سيمة ،تستطيعوف حميا جميعا والفوز بجائزتيا..
ىنا تدخؿ الطفؿ الثالث ..قاؿ لصاحبيو فجأة ،وقد اكتفى بمراقبة ما حدث:
ػ دعونا نعود إلى األستاذ سعيد ،ونخبره بأنا قد عرفنا الحؿ..
األستاذ سعيد؟
عدت بنظراتي إلى اليافطة المعمقة عمى صدر البناء ،ىؿ حوؿ األستاذ سعيد جريدتو إلى مجمة أطفاؿ؟..
وأسرعت إلى الداخؿ..
كاف األستاذ سعيد جالسا بيف مجموعة مف األطفاؿ ،يحادثيـ ويحادثونو ،يحاوؿ االقتراب مف عالميـ ،وفيـ
أفكارىـ وأحبلميـ..
وحانت منو التفاتو إلي فألفاني لدى الباب ،أرقبو بإكبار!..
ػ أىبل ..أىبل بالدكتور صبلح..
وىب الستقبالي ببشاشة وح اررة ،وقد أطمت مف عينيو نظرة متفائمة ،لـ أكف أراىا فيما مضى..
قاؿ وىو يشد عمي يدي:
ػ منذ متى لـ أرؾ! ..ما أخبارؾ ىذه األياـ؟
ىمست كالحائر ،وأنا أجوؿ بنظراتي الداىشة المستطمعة في وجوه األطفاؿ الذيف ممؤوا الغرفة:
ػ أريد أف أفيـ ما يجري!..
ػ ما كاف يجب أف يجري منذ زمف بعيد!..
ػ ما زلت ال أفيـ!..
ػ تعاؿ ،تعاؿ..
وقادني مف يدي إلى مكتبو ،قاؿ وىو يأخذ مكانو مقابمي:
ػ ألوؿ مرة في حياتي أشعر بأني أمضي في الطريؽ الصحيح!..
ثـ بعد إطراقة قصيرة:
ػ كاف عمي أف أفيـ ىذا منذ البداية ..المشكمة عند المنبع ..ىناؾ يبدأ التموث ومف ىناؾ يجب أف يبدأ العبلج..
مف العبث أف نحشد جيودنا عند المصب ونترؾ المنبع مكشوفا معرضا لجراثيـ الجيؿ والتخمؼ والفساد ..فيمت
ذلؾ متأخ ار لؤلسؼ ،لكني لـ أضيع الوقت ..تركت لمكبار عالميـ الموبوء ،وىرعت إلى عالـ األطفاؿ ألحميو
مف التموث..
وغمبو االبتساـ فأطرؽ كالحالـ ،ثـ تابع يقوؿ:
ػ لمعمؿ مع األطفاؿ متعة خاصة ال تدانييا متعة ..في عالميـ تجد اإلنساف بفطرتو األولى ..تجده بخصالو البكر
التي لـ تموثيا بعد أمراض الكبار ..عندما بدأت مشروع مجمة األطفاؿ ،كنت أنوي أف أعمـ األطفاؿ أشياء كثيرة
،لكني ما إف بدأت معيـ حتى شعرت بػأني أتعمـ منيـ ..تعممت منيـ الصدؽ ..الصراحة ..البراءة ..التفاؤ..
العدؿ ..اكتشفت أف اإلنساف يعشؽ العدؿ بفطرتو ..ويكره الظمـ ..حاوؿ أف تراقب األطفاؿ ..ال يرضى طفؿ أف
تدلؿ أخاه أو صديقو أكثر منو !..ينفر منؾ إف أنت ابتسمت لزميمو ولـ تبتسـ لو ..يكرىؾ إف أنت اعتديت عمى
حقوقو ،أو خدشت شخصيتو ،إنو إنساف كامؿ لو كيانو الخاص ،وال يقبؿ منؾ إال أف تعاممو باحتراـ.
ثـ ضحؾ األستاذ سعيد ..ضحؾ وقاؿ:
ػ لـ يخطر لي يوما أني سأتجو إلى صحافة األطفاؿ! ..كنت أظف أف الكبار ىـ ميداف التغيير ..تصوت أني
يمكف أف أغير بخطبة أو مقاؿ ..تخيمت كمماتي الصادقة عصا سحرية يمكف أف تصمح األوضاع الفاسدة بممسة
واحدة ..وبعد سنوات طويمة اكتشفت أني كنت أعبث ..ألعب ..أنفخ في قربة مثقوبة ..أثارت تفكيري مقولة خطيرة
لعالـ نفس مشيور":شخصية اإلنساف تتشكؿ في السنوات األولى مف عمره" ..وأخي ار اىتديت إلى الطريؽ ..عندما
تثقؼ األطفاؿ وتربييـ ،فإنؾ تصنع أمو ..تصنع المستقبؿ المشرؽ الذي تحمـ فيو..
واستدرؾ األستاذ سعيد فجأة ،فقاؿ:
ػ ما رأيؾ أف تعمؿ معي؟
ابتسمت كالحائر ،ىذه المرة الثانية التي يدعوني فييا األستاذ سعيد لمعمؿ معو!..
ػ أستاذ سعيد ..لماذا تريدني أف أعمؿ معؾ؟
ػ ألنؾ تممؾ ما تقولو لمناس..
ػ ال يكفي أف يجد اإلنساف ما يقولو ..يجب أف يعرؼ كيؼ يقولو؟
ػ سأعممؾ فف الكتابة.
ػ أنا يا سيدي طبيب ،وال أريد أف أكوف غير ذلؾ..
ػ الدكتورة أحبلـ أيضا طبيبة!..
أثارتني ىذه المبلحظة ..لـ أفيـ ما يقصده! ..ما دخؿ الدكتورة أحبلـ في حديثنا؟ ..قوست حاجبي في دىشة ،
وجاؿ في عيني سؤاؿ! ..أردؼ األستاذ سعيد وقد لمح الدىشة في نظراتي:
ػ طبيبة ورسامة..
ػ كيؼ عرفت؟..
ػ عرفت ماذا؟..
ػ أنيا رسامة..
ػ مف الصحؼ طبعا..
ػ الصحؼ؟!!..
ػ أال تق أر الصحؼ؟..
ماذا جاء في الصحؼ عف أحبلـ حتى عرؼ األستاذ سعيد عنيا أنيا رسامة ؟ ..تناوؿ األستاذ سعيد إحدى
الصحؼ مف فوؽ مكتبو ،وفتحيا عمى الصفحة الثقافية ،ثـ دفع الصحيفة إلي قاؿ:
ػ اق أر ىنا ..العمود األيمف في األسفؿ..
تناولت الجريدة بميفة ،ورحت ألتيـ السطور باىتماـ" ..تدعو الطبيبة الفنانة الدكتورة أحبلـ عبد الغني الذىبي
الجميور الكريـ إلى حضور معرضيا األوؿ الذي ستقيمو في قاعة المعارض في المركز الثقافي ..وسيتـ افتتاح
المعرض في الساعة السادسة مف مساء اليوـ ويستمر ثبلثة أياـ"..
خفؽ قمبي لمنبأ ..شعرت بشوؽ عارـ إلى أحبلـ ،ىا ىي تخرج أخي ار مف قوقعتيا الحزينة..
قاؿ األستاذ سعيد في حيرة:
ػ كيؼ تكوف زميميا في المستشفى ،وال تعمـ؟ ألـ تدعؾ إلى معرضيا؟..
ىسمت بنبرة أسؼ:
ػ لقد استقالت منذ أسابيع..
ػ استقالت؟ ..أو تفرغت لمفف؟..
نكأ الحديث جروحي ..نيضت فجأة ،قمت:
ػ أستاذي ..أرجو أف تسمح لي باالنصراؼ.
نيض األستاذ سعيد ،قد أثار دىشتو ىذا التغير الذي اعتراني! ..سدد إلي نظرة متفحصة وقاؿ مستوضحا:
ػ أأنت عمى ما يراـ؟..
ػ عمى ما يراـ..
ػ ال تبدو كذلؾ!..
ػ سأزورؾ في وقت آخر..
ػ أنت تعاني مف أزمة!..
لـ أرد أف يتشعب بنا الحديث ..مددت لو يدي مودعا ..قاؿ وىو يحتفظ بيدي بيف راحتيو:
ػ أتحبيا؟
أطرقت كمف يعترؼ ..ىمست وأنا أسحب يدي برفؽ:
ػ سيأتي يوـ نتحدث..
ػ ستجد بابي مفتوحا في كؿ وقت..
الفصؿ السابع والعشروف
ػ صبلح؟.
ػ أيز ِ
عجؾ حضوري؟..
ػ أبدا ..تفضؿ..
ػ أىنئؾ عمى المعرض.
ػ تعاؿ ألريؾ لوحاتي..
ػ أنت لوحتي األحمى واألغمى..
ػ اتفقنا عمى أف نبقى أصدقاء!..
ػ اكتشفت أف الصداقة بيف الرجؿ والمرأة كذبة..
ػ كذبة!..
ػ كذبة نسمي بيا قموبنا المحرومة..
ػ لـ يكف ىذا رأيؾ!..
ػ لـ أكف أعرؼ أني أحبؾ كؿ ىذا الحب!..
ػ لمحب نياية معروفة..
ػ الزواج؟
ػ وقد رفضتو!..
ػ أنا لـ أرفضو ..أنا...
ػ أنت ماذا؟..
ػ أحبلـ أرجوؾ ال تكوني قاسية..
ػ كنت أقسى..
ػ بؿ ىو أبوؾ ..إنو جبلد ببل رحمة ..ظالـ ببل رأفة ..إنساف ببل قمب ..لو تعمميف ما فعمو بي أبوؾ!..
وشعرت بيزة مباغتة ،ارتجت ليا السيارة رجة عنيفة ،وأفقت مف شرودي عمى صوت غاضب ينياؿ عمي مف
الخمؼ..
ػ أال تنتبو يا أستاذ؟ لقد أضيئت اإلشارة الخضراء ..وأنت سارح شارد غائب عف الدنيا ..إف كنتـ ال تستطيعوف أف
تسيطروا عمى أفكاركـ ،فبل تقودوا السيارات ،وتيددوا بيا الشوارع اآلمنة...
ركبني ارتباؾ وخجؿ ،فترجمت بسرعة ،واعتذرت لمرجؿ ،ثـ تفقدت سيارتو ،فوجدتيا سميمة ،أما سيارتي فقد
أصيبت ببعض األضرار ،قمت لمرجؿ مسمما بالنتيجة:
ػ ال ييـ.
ػ أضاءت اإلشارة الخضراء فانطمقت ..ظننتؾ ستنطمؽ أمامي ..لكنؾ لـ تتحرؾ!..
ػ آسؼ ..لـ أكف قاصدا...
ػ بسيطة..
وانفجرت أبواؽ السيارات التي تقؼ خمفنا ثائرة مزمجرة ،تدعونا لبلنطبلؽ بسرعة ،وتسوية األمر في مكاف آخر
،بعيدا عف فوىة الشارع الذي اكتظ بقافمة طويمة مف السيارات الغاضبة ،كررت اعتذاري لمسائؽ الذي يتموني ،
وانطمقت بسيارتي متوتر األعصاب معكر المزاج ،بقي عمى افتتاح المعرض قرابة ساعة ..لقد بكرت كثيرا!..
ولكف ..حقا ،كيؼ ستواجو أحبلـ؟ ..واندلعت األسئمة في خاطري ،فقاومتيا بشدة ،حتى ال يدىمني الشرود
ثانية ،وأرتكب خطأ جديدا ،قد ال يقتصر ضرره عمي وحدي ىذه المرة ،لكف األسئمة العنيدة عادت تساورني ..
كيؼ ستستقبمؾ أحبلـ؟ أما زالت عاتبة؟ أـ أنيا نسيت؟ نسيت؟! ..أحبلـ ال يمكف أف تنسى ..إنيا تحبني بصدؽ
واخبلص ..إذا كانت تحبؾ فمف تخذلؾ !..ستتمقاؾ بعيوف فرحة تشعشع بالميفة والشوؽ ،وسيشرؽ وجييا الجميؿ
،بتمؾ االبتسامة العذبة الوادعة التي كانت دائما بمسما لروحؾ ..لكنؾ جرحتيا أو عمى األقؿ لـ أقابؿ مبادراتيا
بموقؼ واضح ..الذنب ليس ذنبؾ ..لقد قمت بكؿ ما يتوجب عميؾ ..أبوىا ىو السبب ..ذلؾ العاتي الذي حجز
بينكما بقسوة ..لكنيا ال تعرؼ الحقيقة ..ال تعرؼ أني قابمت مبادرتيا بإخبلص ،فوقعت في الفخ الذي نصبو لي
أبوىا بمكر ..أنا المبلـ في نظرىا اآلف .كـ تبدو الحقائؽ مقموبة في ىذا العالـ .لكأف األضداد قد تبادلت المقاعد
في األذىاف ،فأصبح البرئ مدانا ،والمخمص جاحدا ،واألبيض أسود! ..لـ يكف جحا غبيا عندما كاف يفعؿ
دائما عكس ما يطمب منو .لعمو عاش مثمنا في عصر مقموب ،فأراد أف يقابؿ عصره بحكمتو الجحوية العميقة!..
ووصمت إلى المركز الثقافي بسبلـ ،فركنت السيارة في مكاف قريب ،وجمست أنتظر ..أخذت أعد الثواني واحدة
واحدة .أصحبيا في رحمتيا األزلية عبر دائرة الزمف ..تؾ ..تؾ ..تؾ ..ما أصعب االنتظار وأقساه! ..لكأنو رجؿ
متوحش ببل قمب يجمع األعصاب داخؿ قبضتو الحديدية ويسحقيا بقسوة وىدوء مثير ..تؾ ..تؾ ..تؾ ..كانت
الثواني تتجمع ببطء لتنظـ في دقائؽ ،وكانت الدقائؽ تتكاسؿ في مشيتيا ،فتثير حنقي وغيظي ،لكانيا قد
تآمرت عمى أعصابي العارية ،وقررت أف تشوييا بجحيـ القمؽ والضجر والميفة والضيؽ! ..حتى الدقائؽ والثواني
باتت ضدي ،تريد أف تحرمني مف أحبلـ!..
وجعمت أتمفت يمنة ويسره ،وأذرع المكاف بخطى قمقو ،أردت أف أكوف أوؿ مف يقوؿ ليا مبروؾ ،أحببت أف أف
تعانؽ ابتسامتي ابتسامتيا ،فتمحو بسمات الشوؽ والرضا ،ما تسرب إلى قمبيا نحوي مف الشكوؾ والظنوف,
ولكف ..انظروا مف ىناؾ! ..ىذا وجو أعرفو إنيا نورا!! تمؾ الم أرة الغامضة التي ىربت مني ،وحممت معيا سر
الطفمة المقيطة التي شعمتني لغزىا زمنا وما زاؿ ..ماذا تفعؿ نو ار في ىذا المكاف؟..
ومضيت نحوىا مدفونا برغبة جامحة لبلستطبلع ..يجب أف أحطـ قشرة الغموض التي تغمؼ تصرفات ىذه المرأة
المغز! ...وألفتني أماميا ،فندت عنيا شيقة ذعر ..ىمست كمف بوغت بشبح:
ػ أنت؟
ػ ىؿ فاجأتؾ؟
دمعت عيناىا ،وقالت بنبرة متيدجة تشي بالضيؽ.
ػ أنت تبلحقني في كؿ مكاف!
ػ أنا أبحث عف الحقيقة..
ػ أية حقيقة؟
ػ حقيقة الطفمة..
ػ اضطربت وقالت في تمعثـ:
ػ ال أفيـ عـ تتحدث!..
تنفست بعمؽ ،وقمت بميجة رفيقة:
ػ آنسة نوار ..عندي إحساس عميؽ بأنؾ مظمومة ..تصرفاتؾ تشي بأنؾ إنسانة مغموبة عمى أمرىا ،أو عمى
األقؿ امرأة ندمت عمى خطاياىا ،وتريد أف تتوب..
ىتفت في وجيي بنبرة احتجاج ىدجيا االنفعاؿ:
ػ أنا لست خاطئة.
ػ أدركت أف كبلمي قد جرحيا ،وخدش مشاعرىا ،قمت مواسيا:
ػ آنسة نوار ،أنا ال أريد أف أحاسبؾ أو أتيمؾ ،كؿ ما يعنيني ىو بارعة ،يجب أف نجنب ىذه الطفمة ما ينتظرىا
مف شقاء..
انثالت دموع اآلنسة نو ار بصمت ،وأطرقت لتخفي دموعيا عف عيوف العابريف ،فحاولت التخفيؼ عنيا عميا تيدأ
،فبل تمفت إلينا األنظار:
ػ آنسة نو ار اعتبريني صديقا ،كفكفي دموعؾ ودعينا نتحدث بيدوء ،ىؿ يمكف لنا أف نتحدث؟
ىزت رأسيا بالموافقة ،ومضت معي إلى مقصؼ المركز ،اخترت مكانا ىادئا يطؿ عمى قاعة المعارض حيث
سيفتتح معرض أحبلـ ،وانتظرت نو ار ريثما ىدأت وكاف النادؿ قد جاءنا بعصير الميموف ،فرشفت عصيرىا في
صمت ،وىي تبحر بأفكارىا في المجيوؿ ،وعادت مف رحمة الشرود فجأة لتقوؿ:
ػ يبدو أنؾ شاب طيب القمب! ..اىتمامؾ ببارعة جعمني أؤمف بؾ بعد أف كفرت بالرجاؿ ..تبدو لي رجبل أمينا..
رجبل مف العالـ الغابر ..عالـ المعتصـ الذي كاف ييتز ويثور مف أجؿ إنقاذ امرأة ميددة ،ال عالـ الوحوش الذي
يستضعؼ المرأة ،ويفترسيا بصمت..
أدىشني حديثيا ،عمقت في إعجاب:
ػ كمماتؾ فصيحة ورقيقة!..
ػ ىو األلـ يا سيدي يصير كمماتنا ويصقميا ،ثـ يرسميا بيذه الرقة والبياف..
ػ لكف حديثؾ يعكس ثقافة واسعة ،ىؿ أنت جامعية؟
ػ كنت..
ػ وراءؾ قصة كبيرة!..
ػ لكؿ منا قصة..
ػ قصتؾ حيرتني ..ليست قصة عادية فيما أظف!..
ندت عنيا آىة عميقة ،وقالت:
ػ نعـ ..لـ تكف قصتي كسائر القصص..
ػ أريد أف أعرفيا..
ػ أخشى أف ال تصدقيا..
ػ سأصدقيا ..كوني واثقة..
أطرقت في حزف ،وراحت في غيبوبة مف الصمت ،وكأنيا تغوص إلى أعماقيا السحيقة ،لترتب ذكرياتيا
األليمة ،ثـ ما لبثت أف قالت بصوت دامع:
ػ أسمو يا سيدي قصتي مف أوليا ،صدقيا أو ال تصدقيا ،انشرىا أو اكتميا ..تصرؼ بيا كما تشاء ..فمـ يعد
في ىذه الحياة شيء ييـ..
كانت يائسة حتى أعماؽ اليأس ،وكانت كئيبة كئيبة حتى الثمالة ف وكانت شاحبة كالخريؼ ..أردفت وىي تغالب
الدموع:
ػ قصتي يا سيدي قصة حزينة ..قصة الضعيؼ عندما يتوه في عالـ األقوياء ..قصة البريء الذي يظف أف كؿ
الناس مف حولو أبرياء ..قصة جذورىا في القرية ،وفروعيا في ىذه المدينة الواسعة التي تعج بالمتناقضات..
ىناؾ ..في قريتي الحبيبة ػ ولف تحتاج لمعرفة اسميا ػ ىناؾ ولدت وترعرعت ..تشبعت بيواء الريؼ النقي وعشقت
خضرتو الفاتنة ،وأدمنت عمى مائو الزالؿ ،فتحت عيني عمى الدنيا ،ألجد أمي األرممة بقربي ،تحضنني
وترعاني ،وسألت عف أبي فأخبروني بأنو قد سافر ،كبرت ،وكبر في فمي السؤاؿ ،وعرفت الحقيقة ..لقد مات
أبي وأنا ما زلت جنينا في بطف أمي ..أصابتو رصاصة طائشة ،وىو يشارؾ في أحد أعراس القرية ،فأردتو
قتيبل ،وكنت أنا وأمي ضحايا ىذه الرصاصة الغبية..
وكانت أمي وفية لزوجيا ،أو لنقؿ مصدومة ..فمـ تصدؽ أف حمميا في الزواج والحياة اليادئة الرغيدة قد ىوى
مع زوجيا القتيؿ ..عزفت عف الزواج ،ووأدت جماليا في أعماؽ الحزف ،فرفضت كؿ مف خطبوىا ،وىـ كثر ػ
وانكبت عمى رعايتي وتربيتي ،ومنحتني حنانا سابغا عوضني بعض حناف األب الفقيد الذي غادر الدنيا قبؿ أف
أصؿ إلييا..
وكانت أمي تيوى الخياطة وتتقنيا ،فوجدت في ىوايتيا تسمية مفيدة ،ودواء لمفراغ الذي تعانيو ،ومصدر دخؿ
يكفينا حاجة الناس مف األقارب واألباعد ..ومؤلت شيرة أمي القرية ،درت عمييا الخياطة دخبل معقوال ،فعشنا
سنوات جميمة ،ال يعكر صفوىا سوى ذكرى األب الفقيد..
ودارت األياـ ،فكبرت ونضجت ،انبثقت في أعماقي أحبلـ الم ارىقة وأشواقيا ،فرحت أرسـ في خيالي لوحة
المستقبؿ الباسـ الذي كنت أحمـ فيو..
وذات يوـ ،جمست أمي بقربي وقالت:
ػ ال يمكف لممرأة أف تحيا دوف رجؿ ،ىذه سنة الحياة..
فاجأتني بكمماتيا ،فأوحت لي أوىاـ المراىقة بأف نضجي وجمالي قد لفت إلي األنظار ،وأف أحدىـ قد تقدـ
لخطبتي ،ابتسمت في حياء ،وتشاغمت بكتاب كنت أقرؤه ،وأنا أتميؼ لسماع بقية الحديث ،تابعت أمي وىي
تسرح بخياليا فيما ال أدري:
ػ بعد أف مات أبوؾ ػ رحمو اهلل ػ قررت أال أتزوج ثانية ،خشية عميؾ مف قسوة زوج األـ وشح حنانو عمى فتاة لـ
ينجبيا ،لكنؾ اليوـ صرت صبية جميمة ،يتمنى ودىا كؿ شباب القرية ،ولـ تعودي بحاجة إلى أحد..
دغدغت كممات أمي مشاعري ،فانتشيت بيا ،وحدثتني نفسي بأني عمى أعتاب فرحة وشيكة ،فابتسمت رغما
عني .ورفعت الكتاب إلى وجيي ،ألخفي ابتسامتي الفرحة ،بانتظار المفاجأة التي تميد ليا أمي بمقدمتيا ،
سألتني أمي وىي تترقب ردة فعمي باىتماـ:
ػ ىؿ تعرفيف جارنا أبا سبلمة بائع األلباف؟..
كاف وقع االسـ عمى مفاجئا ومثي ار ،فدؽ قمبي بعنؼ ،وقمت وأنا أنتفض مف الذعر:
ػ لكنو كبير السف يا أماه!!..
رمشت أمي ،وقالت في دالؿ:
ػ لكنو ليس كبي ار عمى أمؾ..
دارت أفكاري وانتقمت مف أقصى الحمـ إلى أقصى المفاجأة..
فيمت ما أرادتو أمي مف كؿ ىذه المقدمات..
وأعمنت رفضي ليذا الزواج متذرعة بما سمعتو عف قسزة الرجؿ وشحو المعروؼ ،وحذرتيا مف الصداـ الذي
ينتظرىا مع زوجتو الفظة ،وأوالدىا اليافعيف الذيف سيتعاطفوف مع والدتيـ ،لكف ذرائعي تياوت أماـ إصرارىا
الممطؼ بالمبررات..
أدركت أف األمر قد نضج عمى نار ىادئة ،وأف صبر أمي عمى حياتيا الباردة ،المقفرة مف دؼء الشريؾ قد نفد
،فاستجابت لنداء األنثى المكبوتو داخميا ،فدبرت ،وقررت ،ثـ جاءت تفصح عف قرارىا ،ال لتستشيرني فيو ،
بؿ لتمزمني بو ،وكانت تعرؼ أني ال أرفض ليا طمبا ،فرضخت لرغبتيا وتييأت لحياتي الجديدة معيا في ظؿ
زوج األـ...
وانتقمت مع أمي إلى بيت زوجيا الواسع ،فظننت أف جدراف البيت الجديدة ستشع بالسعادة احتفاال بقدومنا ،
وقدرت أف أبا سبلمة ميما كاف شحيحا ،فمف يكوف شحيحا عمى زوجتو الثانية التي استمات في الوصوؿ إلييا ػ
كما عممت فيما بعد ػ مبيو ار بجماليا الذي كانت ما تزاؿ تحتفظ بو حتى ذلؾ الوقت..
لكف تقديري ػ لؤلسؼ ػ كاف مسرفا في التفاؤؿ ،وسرعاف ما بدأ حسف ظني بو يتعكر ..فمـ يمض عمى زواج أمي
يوماف حتى اندلعت الخبلفات بيف أمي وضرتيا ،ونشب بينيما صراع مرير ..ثـ بدأت معاناة أمي مع زوجيا
الذي تبيف أنو لـ يتزوجيا لجماليا فحسب ،بؿ ألنيا كانت خياطة ماىرة يمكف أف تدر عميو الماؿ الوفير ،وما
أف انتيى األسبوع األوؿ مف زواجيما ،حتى بدأ أبو سبلمة يطالب أمي بأف تمتفت إلى مينتيا وزبائنيا ،وصار
يحاسبيا عمى ما يأتييا مف دخؿ ،وكأنيا خياطة أجيرة تعمؿ لحسابو ،وعندما كاف يكتشؼ أف أمي قد ادخرت
بعض النقود ،وأخفتيا عنو ،كاف يقيـ الدنيا وال يقعدىا ،ويتذمر مف مصاريؼ البيت العالية التي زادت بسبب
قدومنا ػ أنا وأمي ػ إلى البيت..
وعرضت والدتي بيتنا القديـ لئليجار ،فاستولى أبو سبلمة عمى أجرتو الشيرية ،وقد ظف أف زواجو مف أمي
يعني أنيا صارت ممكا خاصا لو ،وكأنيا إحدى بقراتو الحموب التي كاف يربييا مف أجؿ أف تمده بالحميب البلزـ
لصناعة األلباف ،وصبرت أمي عمى حياتيا الجديدة ،فتمسكت بيا برغـ كؿ ما فييا مف ضنؾ وشقاء ،وآثرتيا
عمى حياة الوحدة الموحشة التي كانت تحياىا أرممة ببل زوج..
كنت آنذاؾ في الصؼ الثالث الثانوي العممي ،وكنت مجتيدة في دروسي ،تمؤل رأسي طموحات كبيرة بدخوؿ
الجامعة والتخرج منيا طبيبة أو ميندسة أو صيدالنية ،لكف جحيـ المشاكؿ الذي كاف يتفجر مف حولي باليموـ
والمنغضات ،أثر عمى دراستي تأثي ار سيئا ،وأروثني شقاء أمي ىما وحزنا مقيما ال يفارقني ..وليت األمر وقؼ
عند ىذا الحد! ..فمـ تمبث قسوة زوج أمي أف طالتني عمى يد ابنو سبلمة ،فقد كاف سبلمة شابا جاىبل أحمؽ ،
جعمت منو قسوة أبيو إنسانا مشوىا قاسيا ال يرحـ ،كاف عدائيا إلى درجة مخيفة ،وكاف فظا بذيئا ال يتوانى عف
استعماؿ األلفاظ الفاحشة مع أقرب الناس إليو..
ومنذ األياـ األولى لوجودي في بيت زوج أمي نصب سبلمة نفسو وصيا عمي ،فراح يراقب حركاتي وسكناتي ،
ويبلحقني في ذىابي إلى المدرسة وايابي منيا ،ويحاسبني عمى تصرفاتي ،مدعيا بأنو يغار عمي ،ثـ قاـ
بتحريض والده عمى منعي مف إتماـ دراستي ،بحجة أني فتاة جميمة ،ألفت انتباه الشباف في القرية ،وقد أجمب
ليـ العار إذا ما أقدمت عمى فعؿ طائش..
وذات يوـ نشب بيني وبيف سبلمة شجار عنيؼ ،فوجو لي كبلما قاسيا بذيئا ،واتيمني اتيامات ظالمة جرحتني
وآلمتني ،فثرت لكرامتي وانيمت عميو بالشتائـ ،وانفرجت بالبكاء..
وانتظرت أف يقؼ زوج أمي إلى جانبي أو يقؼ عمى الحياد ،لكنو انحاز إلى جانب ابنو ،وأعمف ارتيابو في
سموكي لمجرد أني منتظمة في المدرسة ،وىنا انبرت أمي لمدفاع عني وعف تربيتي العفيفة ،فما كاف مف زوج
أمي إال أف ىوى بيده عمى وجو أمي المسكينة وصفعيا صفعة قوية ،وىددىا بالطبلؽ إف ىي حاولت التدخؿ
ثانية ،فيو ػ كما ادعى ػ يربيني ويحافظ عمي بيذه الطريقة..
قرره حازما صارما ال
وأمعف زوج أمي في الظمـ والتعسؼ والطغياف ،فقرر أف يمنعني مف إكماؿ تعميمي ،وكاف ا
عودة فيو..
ونظرت إلى أمي بعيوف غائمة بالدموع ،فعضت طرفيا الحزيف ولـ تأت بكممة ،وقد بدا القير والخضوع في
وجييا المشوه ببصمات أصابع زوجيا اآلثمة ،وعينييا الكسيرتيف..
وتركت المدرسة مرغمة ،لكني لـ أترؾ الدراسة ،فالعمـ كاف يجري في عروقي مجرى الدماء ،وقررت أف
أستعيض عف الفرع العممي بالفرع األدبي الذي يسمح لي بالدراسة الحرة دوف االضطرار لمدواـ في المدرسة ،
وصارحت أمي بنيتي ،فتنيدت في حيرة ،ولـ تبد رأيا!..
وكانت لي خالة متزوجة في المدينة ،فراسمتيا بالسر ،وشكوت ليا الجحيـ الذي أحياه أنا وأمي ،ورجوتيا أف
تتوسط لدى زوج أمي ليسمح لي بتأدية امتحاف الشيادة الثانوية األدبية ،فخفت خالتي لنجدتي محممة باليدايا ،
واستطاعت بدىائيا وكياستيا أف تنتزع الموافقة منو..
وأديت االمتحاف بقرح ،واجتزتو بنجاح ،وحزت عمى معدؿ مرتفع يسمح لي بدخوؿ الجامعة ،لكف زوج أمي
رفض فكرة التحاقي بالجامعة ،وكاف صارما ىذه المرة إلى حد ال ينفع معو التوسؿ ،وال تجدي فيو الوساطة!..
وعشت قمقا نفسيا فظيعا ،وأف أرى موعد انتياء تقديـ الطمبات لمجامعة تقترب ،وقطار التحصيؿ العالي يكاد
يفوت ،ولـ ألبث أف حزمت أمري ،وقررت اليرب إلى المدينة ،لبللتحاؽ بالجامعة ،وليكف بعد ذلؾ ما يكوف!..
بكت أمي عندما أخبرتيا بقراري ،وحاولت إثنائي ،ولكنيا استجابت لرغبتي في النياية ،وىي ترى إلحاحي
ودموعي ،وأعطتني مبمغا نـ الماؿ كانت قد ادخرتو بالسر ف وأوصتني بالمجوء إلى خالتي لترعى شؤوني ،
وودعتني بالقببلت والدموع...
وصمتت نوار فجأة ،وقد تعمقت نظراتيا بشيء! ..التفت إلى حيث كانت تنظر ،فرأيت أحبلـ وىي تتقدـ الفتتاح
معرضيا بصحبة أبييا وأميا التي كنت أراىا ألوؿ مرة..
وخفؽ قمبي لرؤية أحبلـ ،وىي ترفؿ في ىدوءىا الجميؿ ،وقد ازدانت شفتاىا بابتسامة رقيقة ،لـ تكف كافية لستر
القمؽ والحزف الذي كاف يطؿ مف عينييا الخضراويف الغارفتيف في كآبة مفرطة ،وبدت ذاىمة بفكرىا عما حوليا ،
تقابؿ الناس بابتسامتيا الرزينة ،وكأنيا تريد أف تبكي ،لتريؽ ينابيع الحزف واألسى التي تتفجر داخميا ،
وأحسست بأني أتحمؿ جزءا مف المسؤولية عف ىذا الحزف والعذاب الذي تحممو داخميا في لحظة مف أروع
لحظات حياتيا ،فركبني شعور مؤلـ بالذنب..
وتأممت أباىا القاسي الذي يمضي إلى جانبيا ،وىو في غاية التأنؽ والمطؼ ،فشعرت بالغيظ يأكمني ،ورمقت
ابتسامتو الكاذبة التي يقابؿ الناس بيا باحتقار..
وأذكر أني سمعت نو ار تيميـ بكبلـ غامض أحسست فيو احتجاجا عمى شيء ،التفت إلييا ،فوجدتيا ترقب
موكب أحبلـ بنظرات غامضة ال تريح!..
سألتيا مستطمعا:
ػ ىؿ كنت تقوليف شيئا؟
غمغمت بميجة باف فييا االرتباؾ:
ػ ال ..ال ..لـ أقؿ شيئا..
ػ كأني سمعتؾ تتحدثيف!..
ػ الميـ ..إلى أيف وصمنا؟
ػ إلى أف ىربت إلى المدينة..
ػ نعـ ..ىربت إلى المدينة ،ولذت بيا مف ظمـ القرية ،فوجدت أف ظمـ القرية أخؼ وأرحـ..
عمقت مشفقا ،وأنا أرقب طبلئع الدمع وىي تغزو عينييا:
ػ يبدو أنؾ عانيت في ىذه المدينة كثي ار!..
نشجت ،وقالت بنبرات تختمج:
ػ ىذه المدينة ال ترحـ ،تبتمع الطيبيف ،وتركع لؤلقوياء ،ويؿ لمضعيؼ إذا تاه في مجاىميا..
وداىمتيا دفقة جديدة مف االنفعاؿ ،فصمتت ريثما استوعبتيا ،ثـ تابعت تقوؿ:
ػ بدأت معاناتي في ىذه المدينة ،منذ أف وضعت قدمي فييا أوؿ مرة ..
بدأت مع سائؽ تكسي كاف أوؿ مف قابمتو في ىذه المدينة ،فطمبت منو أف يقمني إلى بيت خالتي حسب العنواف
الذي وصفتو لو ،انطمؽ بي إلى حيث أردت ،وفي الطريؽ ،الحظ السائؽ أني أرمؽ المدينة بنظرات حالمة ،
وأرنو إلى معالميا الحديثة بإعجاب ،فأدرؾ أني فتاة غريبة أزور المدينة لممرة األولى ..ولمح في وجيي جماال
أساؿ لعابو ،فأغرتو غربتي وجمالي باالقتحاـ ..بدأ يقتحمني بنظراتو الوقحة ،فقطبت غاضبة ،وتجنبتو ،لـ
ييأس ،أدار مسجؿ السيارة ،فأرسؿ أغنيات فاحشة مف النوع الرخيص ،وعاد يقتحمني بنظراتو مف خبلؿ المرآة
ويعريني بعينية ،ظف أني فتاة ساذجة سيمة المناؿ ،فاستضعفني واندفع وراء أحبلمو المريضة ،لـ أسكت ،
وبختو وطمبت منو أف يخرس الشريط ،ففعؿ مغتاظا ،وقاؿ:
"مف حقي أف أضع الشريط الذي أريد" قمت لو بميجة حادة " :تفعؿ ذلؾ عندما تكوف وحدؾ ،أما عندما يشاركؾ
السيارة راكب ،فمف واجبؾ أف تحترـ مشاعره "ضحؾ وقاؿ" :أنت قوية الشخصية عمى ما يبدو ،مف يرى جمالؾ
وأنوثتؾ يظف بؾ رقة ولطفا يغريو بالتقرب إليؾ "..
لـ أحتمؿ سماجتو ووقاحتو المفرطة ،قمت لو" :توقؼ" فماطؿ ،ىددتو إف لـ يتوقؼ بأني سأمد رأسي مف النافذة
،وأصرخ في العابريف طالبة النجدة..
ىنا توقؼ وىو يرمقني بعيني وحش أفمتت منو الفريسة ،نقدتو أجرتو ،وغادرت السيارة ,وأنا ألعنو..
ووقفت عمى الرصيؼ بانتظار سيارة أخرى ،فما لبثت أف تيادت قربي سيارة حديثة يقودىا شاب ،فظننتيا ألوؿ
وىمة سيارة أجرة ،لـ أكف أعرؼ أف لسيارات التكسي لونا خاصا يميزىا ،ولوحة ضوئية تعموىا!..
اقتربت مف السيارة ،وكدت أصعد إلييا ،لكف السائؽ الشاب ماؿ نحوي ،وقاؿ وىو يحرؾ حاجبيو في حركة
راقصة ":منذ متى وأنا أبحث عف فتاة بيذا الجماؿ"!.
أدركت أني أماـ قناص آخر يبحث عف فريسة ،فأحجمت وتراجعت..
وداخمني خوؼ ،شعرت بأف المدينة مميئة بأسماؾ القرش! ...ووقفت في مكاني متوجسة حائرة ،ورحت أتفرس
في وجوه السائقيف الذيف يمروف بي ،أبحث عف وجو ال يثير المخاوؼ..
واستوقفت كيبل توسمت فيو النبؿ والطيبة ،فحممني إلى العنواف المطموب بسبلـ ،ولـ يضايقني بشيء ،فيدأ
روعي ،واستبشرت خي ار ،وفكرت أف ما واجيتو مف متاعب لـ يكف سوى صدفة مزعجة وسوء طالع..
واستقبمتني خالتي باألحضاف ،وقد ظنت أني جئتيا زائرة ألقضي عندىا بضعة أياـ ،لكنيا عندما عممت بقصة
ىروبي ،وجمت ،وتعكرت مبلمحيا ،ولـ تبد حماسا لمفكرة!..
واخترت دراسة المغة اإلنكميزية ،فسجمت نفسي في الجامعة ،وبدأت الدواـ فييا ،وأنا فرحة بتحقيؽ حممي في
التحصيؿ العالي ..لكف فرحتي كانت مشوبة بالقمؽ عمى أمي المسكينة التي تتمزؽ بيف ابنتيا الوحيدة ،وزوجيا
القاسي ،وحمؿ إلينا أحد القادميف مف القرية خب ار مفاده أف زوج أمي قد غضب مف تصرفي غضبا شديدا ،وقرر
أف يطردني إف أنا عدت إلى بيتو ،وىدد أمي بالطبلؽ إف ىي مدتني بقرش واحد..
ثـ ما لبث زوج خالتي أف ضاؽ ذرعا بوجودي في بيتو ،فبدأت ألمس فظاظة وجفافا في معاممتو لي ،وأفقت
ذات ليمة عمى شجار عنيؼ بينو وبيف خالتي ،وسمعتو يتذمر مف قمة ذات اليد ،وضيؽ المكاف ،ويعتبرني سببا
في الضائقة المالية التي يمر بو ،أحسست بأني ضيفة ثقيمة ،وبدأت أتييأ لمرحيؿ ،ولكف ..إلى أيف أمضي؟..
إلى قرية جاىمة أوصدت في وجيي األبواب؟ ..أـ إلى مدينة ظالمة ال أعرؼ فييا أحدا سوال خالة مغموبة عمى
أمرىا ،وزوج خالة ال يطيؽ احتماؿ عبء جديد؟
وصارحت خالتي بعد أياـ بأني قدمت طمبا لمحصوؿ عمى غرفة في بيت الطالبات ،ورجوتيا أف تحتمؿ وجودي
معيا ريثما أحصؿ عمى السكف الجامعي ،فأنشأت تبكي وتعتذر ،وتشرح لي ظروؼ زوجيا المادية الصعبة ،
فأبديت تفيمي لوضعيا ووضع زوجيا ،ورحت أنتظر حصولي عمى السكف الجامعي بفارغ الصبر\..
وحصمت أخي ار عمى نصؼ غرفة في سكف الطالبات ،وكانت شريكتي في السكف فتاة مرحة طيبة القمب ،خففت
عني بعض آالـ الغربة ،وىموميا ،وأقبمت عمى الدراسة بحماس وتصميـ ،وحظيت بإعجاب أساتذتي منذ
الشيور األولى ،فتنبؤا لي بمستقبؿ عظيـ..
بيد أف اآلماؿ الكبيرة التي نمت وازدىرت داخمي ،أخذت تتضاءؿ يوما بعد يوـ ،وأنا أرى المبمغ الذي أصرؼ
منو يتناقص بسرعة ،فمـ أكف أتوقع أف حياة الجامعة ومتطمباتيا ستأتي عمى كؿ ما معي في وقت قصير!..
وطاردني القمؽ ببل ىوادة ،فجثـ اليـ عمى صدري ،واسودت الدنيا في عيني ..والحظت شريكتي في الغرفة ما
آلت إليو أحوالي ،فاستطاعت بأسموبيا المطيؼ أف تعرؼ سبب تعاستي ،فرثت لحالي ونصحتني بالعمؿ ،ولكف
ماذا أعمؿ؟ ومتى سأعمؿ؟ ..وكيؼ سأوفؽ بيف الدراسة والعمؿ؟ ولـ يكف أمامي خيار ..الماؿ أوال ،ثـ الدراسة..
عممت سكرتيرة في إحدى الشركات الصغيرة بأجر زىيد ،وكاف صاحب الشركة طيبا ،فتساىؿ معي في أوقات
الدواـ ،مقد ار وضعي كطالبة في الجامعة ،واستطعت الجمع بيف العمؿ والدراسة بمزيد مف الدأب والصبر ،
واجتزت امتحانات السنة األولى بنجاح ،وعادت اآلماؿ الباسمة تداعبني..
كانت عطمة الصيؼ فرصة ثمينة لي حتى أجمع مصروؼ السنة التالية ،وكاف البد مف البحث عف عمؿ جديد
يدر عمي دخبل أفضؿ ،فتابعت إعبلنات الجرائد ترقبا لفرصة مناسبة ،واستجبت ألوؿ إعبلف صادفتو..
"شركة أدوية بحاجة إلى سكرتيرة ذات خبرة براتب جيد ،العنواف :كذا"
مضيت إلى الشركة ،فوجدت طابو ار مف المتقدمات وعرفت منيف أف أكثرىف مف خريجات معيد السكرتارية ،
ويحممف شيادات خبرة طويمة في ىذا المجاؿ تصؿ إلى عدة سنوات ،سخرت مف حظي ،ويئست مف الفوز ،
لكني تقدمت مع المتقدمات خجبل مف االنسحاب ،وكانت المفاجأة أني فزت بالفرصة ،وخسرنيا جميعا ،لماذا
نستغرب؟! ..نعـ ..فزت ألني أممؾ مؤىبل ميما ال تتمتع بو األخريات ..مؤىؿ الجماؿ ..كنت أجمميف عمى
اإلطبلؽ ،قاؿ لي صاحب الشركة الشاب يوميا" :أنا بحاجة إلى سكرتيرة جميمة ،فشركتي ناشئة ،وىي بحاجة
إلى وجو لطيؼ يشد الزبائف والزوار" ..ىكذا بكؿ بساطة! ..كاف الرجؿ يبحث عف دمية جميمة تزيف مكتبو ،
وتصطاد بفتنتيا عمبلءه ..واعتذرت ..اعتذرت ألني شعرت باإلىانة ..رفضت أف أكوف مجرد ديكور في مكتبو
األنيؽ ..مجرد قطعة لحـ لذيذة تجذب الفرائس لمصياد ..ال أدري كيؼ واتتني الشجاعة عمى االعتذار رغـ أني
كنت بحاجة إلى فرصة كيذه!!!..
وحانت فرصة ثانية ،فعممت قرابة شير في شركة مقاوالت ،لكف زوجة المدير خافت عمى زوجيا مف فتنتي ،
فأمرتو بطردي ،ففعؿ ..ىكذا دائما ..جمالي لعنة ال تفارقني ..يسبب لي المشاكؿ ّأنى ذىبت! ..الويؿ لمجميمة
في ىذا المجتمع إف أرادت أف تحيا حياتيا الكاممة بشرؼ وسبلـ!..
وحانت فرصة ثالثة في شركة لمستحضرات التجميؿ ،وكاف الراتب مغريا ،فعممت فييا بدأب واخبلص ،ونمت
رضا مديري ،فتمسؾ بي إلى ما بعد العطمة الصيفية ،ورتب لي برنامجا لمتوفيؽ بيف عممي عنده ودارستي في
الجامعة ،استبشرت خي ار ،وتوىمت أني قد وصمت إلى شاطئ األماف ،ولكف ..التاجر كالسياسي ..ال يكشؼ
أوراقو مرة واحدة ..إنو يماطؿ ويداىف ويناور ،ثـ ينقض عميؾ بالضربة القاضية..
وىكذا فعؿ مدير الشركة معي ..عاممني في البداية باحتراـ ،ثـ حؿ لي مشكمة التوفيؽ بيف الدراسة والعمؿ ،ثـ
انياؿ عمي بالمكافآت ،ثـ! ..ثـ آف وقت سداد الديف ...فكؿ شيء ثمف!..
ناداني المدير ذات يوـ ،وفاجأني بطمب غريب ،قاؿ لي وىو في غاية الثقة":لقد دعوت اليوـ بعض الخبراء
األجانب إلى حفمة عشاء ،وأريدؾ أف تكوني معي"..
توجست ،وسألتو في حيرة":ما حاجتؾ لي في حفمة عشاء؟!".
نظر إلي وقد أغضبو سؤالي ،ثـ قاؿ":إنو عشاء عمؿ".
قمت لو متعممو":لقد بدأ العاـ الدراسي منذ أشير واقترب موعد االمتحانات ،وأنا بحاجة لكؿ ثانية لتعويض ما
يفوتني مف الوقت بسبب العمؿ ،أرجو أف تعذرني".
ضحؾ وقاؿ":دراستؾ يا عزيزتي لف تنفعؾ! ...إذا تعاونت معي الميمة ،فستناليف أج ار عظيما ال يطالو أساتذتؾ
في الجامعة".
اعتذرت ثانية ،فاعتبر اعتذاري تمردا ،اتيمني بعدـ الحرص عمى مصمحة الشركة ،وخاطبني بميجة فظة
أزعجتني ،وكأنو ولي أمري ،المالؾ لقيادي ،ولـ أرضخ لرغبتو ،فكررت رفضي لطمبو ،قمت غاضبة:
"اعتبرني مستقيمو ،فبل حاجة لؾ بموظفة فاشمة".
ىنا غير مف ليجتو الجافة ،ولجأ إلى الميف ..ابتسـ ابتسامة ناعمة وقاؿ مداعبا":يا مجنونة ..أنا أريد مصمحتؾ..
لقد ىيأت لؾ فرصة ثمينة ال تتكرر!".
ثـ أردؼ كمف يموح بورقة رابحة":أنا أعرؼ أف ظروفؾ المادية ليست عمى ما يراـ"!
ارتبكت وقمت":مستورة والحمد هلل ..ال أطمح لمكثير".
ىز رأسو يائسا ،وقاؿ":ماذا أفعؿ بؾ؟! ..مازلت صغيرة! ..فيمؾ بطيء ،وطموحؾ ضامر ..رأسؾ الجميؿ لـ
يستوعب حقائؽ الحياة بعد"!
أثارت كمماتو حيرتي ..لـ أفيـ أي معنى يقؼ وراء ىذه المحاورة الغامضة العنيدة لجري إلى سيرة أرفضيا ..تنيد
المدير وقاؿ في محاولة أخيرة إلقناعي":ىؿ تذكريف رجؿ األعماؿ اإليطالي الذي ازرني ىذا الصباح! تذكرينو ببل
شؾ ،بصراحة ىو معجب بؾ ،وقاؿ لي بالحرؼ الواحد :أنت تممؾ في مكتبؾ ممكة جماؿ ،أنثى كالشيد ،
مارليف مونرو عربية ،أىنئؾ عمى ىذا االختيار"..
نظرت إلى المدير غاضبة ،وكدت أحتج عمى جرأتو ،لكنو سارع إلى إتماـ حديثو قبؿ أف أرد عميو وقاحتو ،قاؿ
متصنعا البراءة":ىكذا قاؿ ،وال دخؿ لي فيما قالو ،عمى فكرة ..ىو إيطالي ،لكنو ينحدر مف أصؿ عربي..
أجداده مف عرب صقمية ىؿ سمعت بصقمية.؟ كانت جزيرة عربية أياـ كاف لمعرب صولة وجولة ،الميـ ..السيد
جيوفاني ىو صاحب الدعوة ..رجاني أف أدعوؾ معي إلى العشاء ،وقد حجز لنا طاولة في فندؽ مف أرقى فنادؽ
المدينة".
نظرت إليو في غيظ ،وقمت حانقة":أنا أرفض دعوتو وأسموبو ،وأرفض طريقتؾ في الكبلـ معي ،إف لمعمؿ
حدودا يا سيدي ،فأرجو أال نتخطاىا".
ابتسـ المدير ابتسامة ماكرة ،ثـ تناوؿ سيكا ار ،وقاؿ وىو يتشاغؿ بإشعالو":أنت ترفضيف بيذا مكافأة مقدارىا ألؼ
دوالر".
تساءلت مرتابة":ألؼ دوالر؟ مقابؿ ماذا؟"!..
أجاب المدير وىو يقترب مني ويتفحصني بعينيف وقحتيف":مف أجؿ ليمة واحدة".
أذىمتني وقاحتو وأثارتني ،فاستحمت كتمة مف الغضب ،وفقدت سيطرتي عمى نفسي فمـ أشعر إال وكفي تيوي
عمى وجيو القبيح ،فرنت الصفعة في المكتب كأزيز الرصاص ،ليت الصفعة كانت رصاصة حقيقية ،ألراحت
العالـ مف رجؿ وغد تحوؿ فجأة مف رجؿ أعماؿ إلي قواد وضيع يبيع إحدى موظفاتو إلى طبلب اليوى والمتعة ،
يحاوؿ اصطيادىا بمخالب غيره ،حتى إذا ما سقطت أوؿ مرة أصبح طريؽ االنحدار أماميا مفتوحا حتى نياية
الدرؾ ،وأصبحت فرصة استغبلليا واالتجار بيا سانحة لو وألمثالو مف تجار الرقيؽ األبيض ومروجي الدعارة..
ومضيت ال أكاد أتبيف طريقي ،والدموع تنيمر مف عيني كالمطر في تمؾ المحظة التيبت كؿ جروحي ..تذكرت
يتـ الطفولة ،ومعاناة الشباب ..تذكرت زوج أمي القاسي وابنو الجاىؿ ..تذكرت أمي المقيورة ،وخالتي المغموبة
عمى أمرىا ..وارتسمت أيامي المرة التي قضيتيا بالمدينة عمى شريط مف الخياؿ ،فألبت صورة مواجعي ،
وأججت أحزاني..
وغادرت الشركة غير آسفة ..زاىدة بأجرة ثبلثة أسابيع مف العمؿ والدأب ..وترسبت في أعماقي قناعة راسخة بأف
عمؿ المرأة في مجتمع ال يحترـ المرأة ،وال يراعي مشاعرىا عبث وانتحار..
وعادت اآلنسة نو ار إلى دموعيا ،وقد فاض بيا التأثر ،فخففت عنيا ورجوتيا أف تيدأ ،ثـ تابعت اإلصغاء إلى
قصتيا باىتماـ ،قالت بعد فترة مف الصمت المفعـ باالنفعاؿ:
ػ قررت أال أعمؿ سكرتيرة مرة أخرى ،بؿ عزفت عف العمؿ ،وعكفت عمى دراستي فنذرت ليا جؿ وقتي ،
وصممت أف أفوز بالمرتبة األولى عمى الكمية ،طمعا بالمكافأة المالية العالية التي تمنحيا الكمية لمثبلثة األوائؿ
كؿ عاـ ،واقتصدت في مصروفي إلى حد التقتير ،حتى ال تمجئني الحاجة عمى العمؿ ،لكني أخفقت في
مسعاي ،ولـ أنؿ سوى المرتبة السابعة..
وكاف البد أف أعيد النظر في قراري بالعزوؼ عف العمؿ ..فرحت أبحث عف عمؿ ال يضطرني لبلحتكاؾ الزائد
بالرجاؿ..
ووجدت ضالتي أخي ار في شركة كبيرة بحاجة إلى طابعة آلة كاتبة بالمغة اإلنجميزية ،فتحمست ليذه الفرصة ،
وتقدمت ليا ،ففزت بالوظيفة ،ويا ليتني ما فزت ..جرت األمور في البداية عمى ما يراـ ،فميمتي كانت واضحة
ومحددة ،وغرفتي مستقمة ،والعمؿ ال يشكؿ عبئا مرىقا ،فما كاف عمي سوى طباعة الرسائؿ غير المستعجمة
الموجية لمشركات األجنبية في الخارج ،أما الرسائؿ المستعجمة فكانت ترسؿ عف طريؽ التمكس..
ولعبت الصدفة دورىا ،فكانت عاممة التمكس تدعى نو ار أيضا عمى اسمي ،وكانت مقربة جدا مف مدير الشركة ،
وذات يوـ مشؤوـ حمؿ إلي أحد المستخدميف في الشركة رسالة مف المدير وقاؿ لي":المدير يريدؾ أف ترسمي ىذه
الرسالة بسرعة ،وتنتظري رد الشركة األجنبية عمييا".
نظرت إليو في دىشة ،وخمنت بأف ىناؾ خطأ ما! ..فأنا أقوـ بطبع الرسائؿ وعنونتيا ،لكف ال شأف لي بإرساليا
،فكيؼ يطمب مني المدير أف أرسميا ،ثـ أنتظر الرد عمييا؟!..
تناولت الرسالة ،وقمت لممستخدـ الذي حمميا إلي وأنا أتصفحيا:
"أمتأكد مف أف المدير قد أرسمؾ إلي؟".
وما كدت أكمؿ ،حتى لفت انتباىي أمر خطير! ..كانت الرسالة تثبت بأف الشركة تمارس أعماال غير مشروعة ،
وتتجر بالبضائع الفاسدة!..
وطار صوابي..
ىؿ تعمـ ماذا جاء في الرسالة؟..
مف أيف لي أف أعرؼ! ..نظرت إلييا مترقبا ،فمـ تمبث أف أجابت عف سؤاليا بنفسيا..
ػ كانت الرسالة تتضمف رد المدير عمى عرض قدمتو لو شركة أجنبية تقوـ بتصنيع المحاقف الطبية الببلستيكية
التي تستعمؿ لمرة واحدة ،وفيو تعرض الشركة األجنبية عمى المدير شراء خمسة مبلييف محقنة انتيى تاريخ
استعماليا بأسعار زىيدة ،شريطة أف تمددوا تاريخ االستعماؿ إلى سنتيف إضافيتيف حتى نتمكف مف تسويقيا!...
تممممت في مكاني وأنا أصغي لنو ار ،رائحة الذئب األنيؽ تفوح في حديثيا !..وقفز إلى ذاكرتي دفاع عبد الغني
عف األغذية التي انتيت مدة استيبلكيا ،وعزمو عمى تسويقيا ،نفس األسموب التجاري الرخيص!...
أيكوف عبد الغني الذىبي وراء ىذه الجريمة أيضا؟!..
قمت ليا كمف يتحزر:
ػ كنت تعمميف في شركة عبد الغني الذىبي..
تقمصت مبلـ نو ار فجأة ،وباف اليمع في عينييا وكأنيا قد أصيبت بصعقة كيربائية عنيفة! ..ىمست وقد غار
لوف الحياة مف وجييا:
ػ كيؼ عرفت؟
كيؼ عرفت! ..ىو إذف ..ولكف ..ما معنى ىذا التغير الذي اعتراىا؟ ..وأردت أف أوضح ليا السبب الذي دعاني
الكتشاؼ اسـ الشركة التي تعمؿ فييا نو ار ،لكنيا لـ تميمني! ..وقفت مذعورة وقالت:
ػ أنت منيـ!
تساءلت في حيرة:
ػ ميـ! ..ممف؟
غمغمت وىي تمـ حقيبتيا بارتباؾ:
ػ ال أدري..
ػ لحظة أرجوؾ..
ػ كمكـ ذئاب..
وانطمقت ىاربة ال تموي عمى شيء!..
حدث كؿ شيء بسرعة ،فأعاقتني المفاجأة عف التصرؼ ،ولـ ألبث أف تحررت مف ذىولي ،فانطمقت خمفيا
ألستوقفيا وأىدئ مف روعيا ،لكنيا إذا السير أمامي ،وأمعنت في اليرب..
لكأنيا تيرب أماـ وحش!...
الفصؿ الثامف والعشروف..
اندفعت خمؼ نو ار بقوة ،الحقتيا مف شارع إلى شارع ،ومف حارة إلى حارة ،لكنيا أفمتت مني ،ضاعت خمؼ
جدراف المدينة ،ابتمعتيا األزقة الضيقة وغيبتيا في جوفيا المتخـ باألسرار ،ووقفت عند مدخؿ أحد األزقة حائ ار
يائسا مثقبل بالخيبة! ..كاف الزقاؽ مقف ار وممتدا ،تدؿ نيايتو المضيئة التي تموح خمؼ أعشاش العتمة عمى أنو
يفضي إلى شارع مزدحـ ،وترامى إلى سمعي صوت مذيع أجش يتمو نشرة أخبار ،وقد اختمطت أخباره بجمبة
أطفاؿ يمرحوف قبؿ أف يأووا إلى الفراش ،أيف ذىبت أيتيا الظبية الشاردة التي امتزج الخوؼ والشؾ بدميا ،
فأصبحت تنفر مف رائحة البشر ،وتخشى أطياؼ الرجاؿ!...
وىويت عمى أحد الجدراف بقبضة مشحونة بالغيظ ..أنت ثانية أييا الذئب األنيؽ! ..أييا العاتي الذي يستوطف في
حياتنا كالداء ..متى ترحؿ؟ متى يسقط عف وجيؾ القناع؟ واستبدت بي الحسرة ،ألني لـ أستطع أف أعرؼ بقية
المأساة التي عاشتيا نوار وىي تحارب في المدينة وحيدة ،تقاوـ الذئاب والوحوش ،وتدافع عف نفسيا بشجاعة
المحارب الذي تكالب عميو األعداء ،ليكشروا مقاومتو ،ويطفئوا عنفوانو ،ماذا كاف عمي لو اعتصمت بالصمت؟
لكف ما أدراني بأف ذكر عبد الغني الذىبي سيفزعيا؟ أنت منيـ! كمكـ ذئاب! ..لكأنيا تتحدث عف عصابة!! ..عف
جيش مف الوحوش! ..ترى؟ ..ما عبلقة عبد الغني الذىبي بكؿ ىذا؟ أيمكف أف يكوف ىو الػ؟! ..عبد العني
الذىبي لممرة الثالثة بعد ما ال أدري مف المرات ،يقؼ أمامي بطبل مف أبطاؿ الشر والقسوة عمى مسرح الواقع
المريض..
وانفجر عبد الغني الذىبي داخمي كالسرطاف الذي ال يزوؿ إال بالجراحة ،استقر في أعماقي وجعا نابضا باأللـ ،
كالناسور الحاد ،وسولت لي نفسي بالمجوء إلى العنؼ ألوؿ مرة! .إنو رجؿ يستحؽ القتؿ في كؿ الشرائع ،وما
اكتشفتو فيو مف المساوئ يؤىمو لمموت خنقا أو ورميا بالرصاص! ...فكيؼ لو استطعت أف أحصي ما خفي مف
جرائمو ومكائده وآثامو؟ ..إذف ،الستحؽ القتؿ ألؼ مرة ومرة ...إذا كانت ابنتو قد أدانتو ،واكتشفت ظممو
واجرامو وبشاعتو ،فماذا بقي بعد؟ ..إنو مجرـ محترؼ ،وطاغية مستبد ،يستخؼ بأرواح الناس ومشاعرىـ ،
ويستغؿ نفوذه ومالو لتركيع البشر ،وارغاميـ عمى التنحي مف طريقة ،إنو يمضي في الحياة كالديناصورات
المتوحشة ،كالبمدوزر الغبي الذي يدمر كؿ ما يقؼ في طريقو فيحولو إلى حطاـ!...
وركبتني فكرة مجنونة بقتؿ عبد الغني الذىبي! ..نعـ ،قتمو ،واراحة الناس مف آثامو وشروره ..ال يفؿ الحديد إال
الحديد ،والج ازء مف جنس العمؿ ،البد مف الردع في معالجة ىذا الثعباف ،إنو عضو فاسد ،والبد لو مف البتر
،قبؿ أف يسري سمو الزعاؼ إلى أعضاء جديدة فيقتميا ،الحؽ والعدؿ يقوالف بأف القاتؿ يقتؿ ،وعبد الغني قاتؿ
،قتؿ الرجاؿ والنساء واألطفاؿ ،وتربع فوؽ جماجميـ...
وأفقت مف أفكاري عمى ىدير العقؿ وىو ينبثؽ في أغواري المدليمة ،فيزجرني ويثنيني..
ػ تقتمو؟! ..تقتمو أييا المجنوف؟! ..ىذا ليس تصرفا حضاريا يميؽ بطبيب!...
ػ نعـ إني أعترؼ ..العنؼ أسموب ىمجي أرعف ال يميؽ بمثقؼ مثمي ،لكني إنساف قبؿ كؿ شيء! ..إنساف لو
عواطؼ ومشاعره ،ال يستطيع أف يقؼ ساكتا يشارؾ المجرـ في جريمتو بصمتو وسكوتو..
ػ الجأ إلى القانوف..
ػ القانوف! ..القانوف حبالو طويمة ،وعبد الغني مجرـ ذكي ال يترؾ خمفو أث ار يدؿ عميو ،سيمر وقت طويؿ قبؿ
أف تكتمؿ حمقة االتياـ حوؿ رقبتو الناعمة ،الدليؿ الصارخ الوحيد بيد أحبلـ ،وأحبلـ ابنتو ،ميما كاف فيي
ابنتو ،وليس مف السيؿ أف تقؼ في وجو أبييا ،إنيا إنسانة مف لحـ ودـ ،واإلنساف ال يضحي بأبيو عادة ميما
كاف السبب قاى ار وقويا..
ػ إذا قتمتو إذف ،فستخسر أحبلـ ..ىؿ تريد أف تخسر أحبلـ؟..
ػ أحبلـ؟! ..سأخسرىا عمى كؿ حاؿ ،إنو يقؼ بيني وبينيا بقسوة ،ويموح لي بالفضيحة التي لفقيا وحبكيا
حولي ..حتى لو تحديتو وبحت ألحبلـ بكؿ ما كاف ،فمف يزداد إال إص ار ار وعنادا ،وقد يمجأ إلى أساليب جديدة
أكثر دناءة وغد ار مف األسموب الذي اتبعو إلبعادي عف ابنتو ..إنو يقؼ بيننا كسور الصيف ،وسيقؼ بيننا حيا
وميتا ،فؤلقتمو وأريح العالـ مف شره..
ػ ستساؽ إلى السجف ،وتحاكـ كقاتؿ ،وتنتيي مدانا ،ألـ تفكر في ىذه النياية يا دكتور؟ يجب أف تعترؼ بأنؾ
تمضي باتجاه خاطئ..
ػ لف أعترؼ ،ولف أرجع ،سأقضي عميو دوف أف أترؾ خمفي أث ار يد عمي تماما ..بنفس الحرص والذكاء الذي
يقضي بيما عبد الغني عمى ضحاياه ..رصاصة في الظبلـ ..رصاصة واحدة كفيمة بتفجير رأسو المحتقف بقيح
المكر والخبث والخداع ..رصاصة واحدة تكفي إليقاؼ كؿ ىذه الجرائـ والمآسي ..رصاصة واحدة وينتيي الظالـ
،فينتصؼ المظموـ وتيدأ أرواح الضحايا..
ػ لكنو ليس ظالما واحدا! ..إنيـ ظبلـ كثيروف ،فيؿ تكفي رصاصتؾ ليـ جميعا؟..
ػ آه ..غمبتني أييا العقؿ ..رصاصة واحدة ال تكفي ..وال ألؼ رصاصة ..إذا مات عبد الغني ..فمف يموت معو
الباقوف ..بؿ سيمكثوف كالوباء ..يعيثوف ويفسدوف ويظمموف ويقتموف ..وسيحتاطوف لمرصاصة العادلة ..سيغطوف
وجوىيـ بأقنعة جديدة أكثر غموضا وجماال مف قناع الذىبي ،قد تجدىـ في ثياب المصمحيف ،وقد تراىـ في
محاريب الصالحيف ،قد يرتدوف أسماؿ الفقراء الزاىديف ،وقد يستشيدوف بآيات مف الذكر الحكيـ ..نعـ..
الظالموف الذيف أخشاىـ ليسوا جميعا واضحيف ظاىريف! ..واألخطر مف الظالميف ..الميندس الذي تواطأ مع عبد
الغني عمى الغش في كميات المواد البلزمة لبناء العمارة ،والمحاسب الذي زور شيادتو مف أجؿ تحقيؽ طموحاتو
في الشيرة والثراء ..والخائف الذي اشتراه عبد الغني ليسرؽ شيادة المحاسب مف ممفات التحقيؽ ،والمصور الذي
استخدمو عبد الغني ليمتقط لي تمؾ الصورة المخجمة ..مقابؿ مبمغ مف الماؿ ،والغانية الداعرة التي مثمت عمي
دورىا بإتقاف ،وقبضت ثمنو خاتما مف الذىب أو عقدا مف المؤلؤ ..نعـ ..الظالموف كثيروف ،واألرض بحاجة
إلى طوفاف جديد كطوفاف نوح ،يطيرىا مف الظمـ والفساد ويعقـ العالـ مف لوثة المادة ،التي أحالت القموب إلى
حجارة ،صدقت أييا العقؿ ..عبد الغني ليس ىو المشكمة ..المشكمة في الضمير الغائب ،والتربية الفاسدة ،
والحب المفقود ..المشكمة في الوثنية الجديدة التي تجتاحنا كالوباء ..في العبودية لمدرىـ والدينار ..الماؿ ىو الذي
منح عبد الغني قوتو وسطوتو وقدرتو عمى الظمـ ،وعبدة الماؿ مف أصحاب النفوس الخائرة الضعيفة ىـ األيادي
التي يبطش بيا عبد الغني وأمثالو ..لقد كثر في حياتنا المرتزقة واالنتيازيوف ،وارتفع صوت الذىب فأعمى بريقو
العيوف..
وعدت أدراجي إلى المركز الثقافي يحدوني الحنيف إلى أحبلـ ..كنت في حاجة إلييا لتغسمني مف أحزاني ،
وتمنحني فرحا جيدا يبدد بعض الشجف الذي زرعتو في نفسي مأساة نو ار المسكينة ،ومضيت إلى قاعة المعارض
بخطوات ليفى ،وما إف دلفت إلييا حتى التقت عيناي بعيني الذئب األنيؽ عبد الغني ..ىذا الرجؿ البغيض
يطاردني في الحمـ واليقظة! ..يقؼ في طريقي أنى ذىبت! ..متى تسقط أوراقؾ أييا الخريؼ؟!..
الفصؿ التاسع والعشروف
مادت بي األرض ،وسحقتني المفاجأة تحت وقعيا الثقيؿ ..يا ليذا الصباح األسود! ..أأساؽ إلى السجف
كالمجرميف؟ ...ونظرت حولي في جنوف ،رجاؿ األمف ينتشروف في باحة المستشفى وحديقتو حسب خطة
مدروسة ،وىا ىي حمقتيـ تضيؽ حولي ،لتحبط أمامي كؿ محاولة لميرب! لكأنيـ يحاصروف قاتبل محترفا مف
رجاؿ العصابات المنظمة! ..وأطمت الوجوه مف النوافذ واألبواب ذاىمة مستغربة ..األطباء والممرضات
والموظفوف ..ينظروف إلي في حيرة وكأف عمى رؤوسيـ الطير ..لـ يخطر بباليـ يوما أني يمكف أف آتي بفعؿ
شائف يستحؽ تدخؿ رجاؿ الشرطة !أتكوف ىذه ىي النياية؟ ..ىزني ىذا السؤاؿ بعنؼ ،فاعتراني شعور ىائؿ
بالظمـ ،ونفرت مف عيني دمعة ساخنة تتمظى بميب األسى الذي انبثؽ في فؤادي كالطمقة!..
واندفع العـ درويش نحوي كالممتاع ،فحركت ليفتو كوامف نفسي ،قاؿ لمضابط بميجة متيدجة وشفتاه تختمجاف :
ػ ىناؾ خطأ يا حضرة الضابط ..ىذا الدكتور صبلح ..أخبرني مف تريد بالضبط ..وأنا أدلؾ عميو..
ابتسـ الضابط ساخ ار وقاؿ:
ػ نريد الدكتور صبلح الحكيـ..
نظر العـ درويش إلي بعنيف مغرورقتيف ،وىو ال يكاد يصدؽ ،قمت مدافعا عف نفسي:
ػ إنيـ يموثوف األبرياء يا عـ درويش..
حدجني الضابط بنظرة مؤنبة وأشار إلى أحد رجالو فاقترب مني وىو يحمؿ القيد الحديدي المييف ،فأقفؿ إحدى
حمقتيو حوؿ معصمي ،وأقفؿ األخرى حوؿ معصمو ،ودعاني لممسير..
ومضيت معيـ مطأطأ الرأس ،مكموـ الوجداف ،تطاردني العيوف بأسئمة كالسياـ ،تريد لو تنكت لحمي لتعرؼ ما
الذي يخفيو ىذا اإلرىاب تحتو مف أسرار!..
وألفيت ىاني لدى الباب وىو يدلؼ بسيارتو إلى باحة المستشفى ،فكبح فرامؿ سيارتو فجأة ،وقد تسمرت يداه
عمى المقود ،وحطت نظراتو عمي في ذىوؿ ،واستمر ينظر إلي برىة كمف أصابو مس ،لكنو سرعاف ما أفاؽ
مف ذىمتو ،فترجؿ وأقبؿ نحوي مندىشا يتساءؿ:
ػ صبلح ،ماذا يجري؟
ػ كما ترى..
ػ ال أصدؽ..
ػ يجب أف تصدؽ كؿ شيء بعد اآلف..
وسأؿ ىاني الضابط بانفعاؿ :
ػ ماذا فعؿ حتى تعتقموه بيذه الصورة؟..
ػ ىذا ليس مف شأنؾ..
ػ أنا صديقو وأعرفو أكثر منكـ..
ػ عندما سنحتاج إلى شيادتؾ سنستدعيؾ..
ػ كاف بإمكانكـ أف تعتقموه بطريقة أفضؿ!..
ػ أرجو أف ال تعيقنا أكثر..
ػ أنتـ ال تعرفوف ماذا تفعموف؟ أنتـ تشوىوف صورة أنبؿ إنساف عرفتو في حياتي..
نظر إليو الضابط مقطبا ،وقاؿ بحده:
ػ اىتـ بنفسؾ ،وتنح عف الطريؽ..
ىتؼ ىاني غاضبا:
ػ إىانة الدكتور صبلح إىانة لكؿ األطباء..
رمقو الضابط في غيظ ،وقاؿ في ىدوء عاصؼ:
ػ إما أف تسكت ،أو تمضي معو..
أردؼ ىاني غير عابئ بالتيديد:
ػ المتيـ برئ حتى يداف ،والدستور ال يسمح بإىانة األبرياء بيذه الصورة..
ػ أثر بي إنفعاؿ ىاني ،ألوؿ مرة أراه يتحدث بيذه الجرأة والحماس ،ورجوتو أف يكؼ فقاؿ لي بنبرة مشجعة:
ػ صبلح ..اطمئف ..سنثير القضية في نقابة األطباء ..سنقيـ الدنيا مف أجمؾ..
أومأت لو شاك ار ،ونظرت إلى الضابط مستسمما ،فمضى بنا موكب االعتقاؿ في ىدوء ،وأردؼ ىاني وىو
يشيعني بنظرات تفيض بالتعاطؼ والمواساة:
ػ صبلح ..ال تيتـ ..كمنا معؾ..
الفصؿ الثبلثوف
ػ انتظر ىنا..
وغاب الضابط ساعة ثـ عاد..
ػ تعاؿ معي..
مضى أمامي بخطوات رشيقة ،فتبعتو حانقا متأججا كمرجؿ وتحسست مكاف القيد كمف ابتمي بالوسواس ،مازلت
أشعر بو يمتؼ حوؿ معصمي كاألفعى ،رغـ أف الجندي الطيب الذي أمر بإحكامو قد فكو منذ أف وصمنا إلى
دائرة التحقيقات الجنائية ،سيبقى أثرؾ القذر أييا القيد الظالـ عالقا في يدي إلى األبد ..يذكرني بالظمـ الذي ناؿ
مني وأثخف نفسي بالجراح ،وصعد الضابط أمامي درجا بعد درج ،وظؿ يرقى حتى وصؿ إلى الطابؽ الرابع ،
فانعطؼ ذات اليميف وقادني إلى أقصى الممر ،ثـ دخؿ قاعة واسعة يقؼ ببابيا حارساف..
ػ اجمس ىنا..
جمست ،وأنا ألوؾ القمؽ المر ،واليواجس السوداء ،طرؽ الضابط بابا في صدر القاعة ،ثـ دلؼ بيدوء ،
وأغمؽ خمفو ،شيء غامض ال أدري كنيو انبثؽ في صدري فجأة ،ومد ذراعو القوية كاألخطبوط ،وراح يضغط
بيا عمى أنفاسي حتى كاد أف يزىقيا ،وشعرت بعجمة الحياة داخمي وىي تتباطأ حتى كادت تتوقؼ عف الدوراف ،
وكأنيا آلة انحسر عنيا التيار الذي يمدىا بالطاقة ،ونيضت كغريؽ ينتشؿ نفسو مف الماء بحثا عف دفقة ىواء
تمنحو الحياة ،ورآني أحد الحارسيف أنيض في حركة مفاجئة ،فتحفز لؤلمر ويده عمى قبضة مسدسو المتدلي
فوؽ وركو األيمف ،وانضـ إليو صاحبو في استنفاره الطارئ ،وجعبل يحدقاف بنظرات متوجسة ترصد ما قد سآتي
بو مف فعؿ ،لكف نظراتيما الصارمة المتجيمة سرعاف ما تراخت وىما يراياني أتنفس بعمؽ وأخفي وجيي خمؼ
كفيف متشنجتيف ،شدت اآلالـ أعصابيا حتى كادت تمزقيما ،وتبادال نظرة قاؿ بعدىا األوؿ:
ػ ىؿ تشكو مف شيء؟!..
نظرت إليو بعينيف مغرورقتيف تفيضاف ألما واستعبلء عمى أدنى مساعدة ،ثـ تيالكت في مكاني مرىقا كئيبا أقاوـ
الظممة التي شاعت داخمي كالعمى..
ولبثت كذلؾ دقائؽ قميمة خرج بعدىا الضابط وىو يحمؿ رزمة مف األوراؽ ،ثـ أقبؿ نحوي قائبل:
ػ سيستدعيؾ المحقؽ بعد قميؿ..
ػ أريد أف أعرؼ لماذا أنا ىنا؟!..
ػ ال تستعجؿ ..ليس ىناؾ ما يسر!
ػ أتعذبوف الناس بالقمؽ؟..
رماني بنظرة ساخرة ،ثـ مضى غير مكترث ،وتركني أغوص في قمقي حتى القاع..
ومر وقت ليس بالقصير ،استحضرت خبللو ذكريات الماضي والحاضر ،وخنقت فيو كؿ اآلماؿ دفعة واحدة ثـ
ألقيتيا في وىدة عميقة مف اليأس ،وحدقت في الباب الموصد بنظرات متوقدة كالنار ،تريد لو تحرقو بمييبيا ،
لتعرؼ مف ىو المحقؽ الذي سيمسي مصير في يده!..
وخرج المحقؽ ..أطؿ كالشمس المحرقة في ظييرة آب ..نظراتو صارمة ،ووجيو غارؽ في الجد ،أشار إلي
بسبابتو ،ثـ استدار متجيا نحو مكتبو ،تقدمت خمفو بخطى وئيدة ،وكأني أخوض في حقؿ ألغاـ..
ػ تفضؿ..
جمس وجمست ..تفحصني بنظراتو برىة ،ثـ تناوؿ سيكارة ،فأشعميا ،وراح ينفث دخانيا وىو صامت جامد
يعيث بنظراتو المرتابة في وجيي المربد ..أىبل وسيبل ..ماذا تريد مني أييا المحقؽ األريب؟ خرج عف صمتو
أخيرا ..قاؿ بنبرة مباغتو:
ػ أنت قمؽ!..
ابتسمت ساخ ار ،وتساءلت:
ػ كيؼ ال أقمؽ؟
ػ البريء ال يقمؽ؟
ػ في مجتمع يحترـ الفرد ،ال يمكف لمبريء أف يقمؽ..
ػ أأساء إليؾ أحد؟
ػ وىؿ تريد إساءة أكبر مف أف أساؽ أماـ الناس مكببل وكأني قاتؿ أو قاطع طريؽ؟!
ػ مف يدري؟ قد تكوف قاتبل؟
أطاحت كمماتو بتماسكي وىدوئي ..انفجرت مف شدة الغيظ ،وىتفت في وجيو:
ػ ال أسمح لؾ بإىانتي كائنا مف كنت! أنا مواطف شريؼ ،وأعرؼ حقوقي جيدا..
ابتسـ كاليازئ ،وقاؿ دوف أف ييتز:
ػ كؿ الذيف يجمسوف مكانؾ يقولوف كبلمؾ ..الفرؽ الوحيد ىو أني أحقؽ اآلف مع متيـ مثقؼ ..مع طبيب!
قمت ،وقد نفذ صبري:
ػ أريد أف أعرؼ لماذا أنا ىنا؟
ػ ال نعرفؾ مف قبؿ حتى نمزح معؾ..
ػ أال تريد أف تبدأ التحقيؽ؟
ػ ليس قبؿ أف تيدأ.
ػ سيدي الكريـ أنا ىادئ ،ىادئ أكثر مما تتصور..
ػ مبلمحؾ تقوؿ غير ىذا..
ػ ال أعتقد أني في نزىة..
ػ ىؿ تعرؼ امرأة تدعى نوار؟..
خفؽ قمبي بشدة! ..نورا؟ ..لـ يخطر ببالي أف اعتقالي بسبب نورا! ..أيمكف أف تكوف نو ار قد اتيمتني بشيء؟!..
وأجبت في قمؽ:
ػ نعـ ..أعرفيا..
ػ ما عبلقتؾ بيا؟
ػ عبلقتي؟ ال عبلقة لي بيا!..
ػ كيؼ تعرفيا إذف؟
ػ أعرؼ شكميا ،واسميا ..أعرؼ جزءا مف قصتيا لكف ،ال عبلقة لي بيا!..
ػ كيؼ عرفت قصتيا..
ػ روتيا لي..
ػ ىؿ تصدؽ أف امرأة في الدنيا تروي قصة حياتيا إلنساف ال تعرفو؟
ػ ال طبعا ..لكف..
ػ لكف ماذا؟..
لذت بالصمت ىؿ أبوح لممحقؽ بقصة الطفمة المقيطة؟ أـ أحتفظ بسرىا حتى أعرؼ نوع التيمة الموجية إلي؟ ولـ
يترؾ لي المحقؽ فرصة لمتفكير ،داىمني قائبل:
ػ صمتؾ لف يفيدؾ ،نحف نعرؼ كؿ شيء..
ػ كؿ شيء؟! مثؿ ماذا؟.
ػ نعرؼ أنؾ عمى عبلقة مع نوار!
ػ عبلقة! ..عبلمة مف أي نوع!!..
ػ عبلقة جنسية طبعا..
ػ ىذا غير صحيح..
ػ ال تنكر ..ثمة أدلة..؟
ػ أنت ال تممؾ أي دليؿ..
زفر سحابة جديدة مف سيكارتو ،ثـ قاؿ وىو يكتـ لييبيا في قعر صحف السجائر:
ػ حسنا..
ثـ أردؼ وىو يمقي إلي بصورة ممونة استميا مف درجو عمى حيف غرة:
ػ أليست ىذه صورتؾ؟
بيت وأنا أرى الصورة ،إنيا صورتي أنا ونو ار ،عندما كنت جالسا أصغي إلى قصتيا في المركز الثقافي! ..مف
ىو الذي التقط ىذه الصورة؟ ..أيقؼ عبد الغني الذىبي خمؼ ىذه الجريمة أيضا؟ ..إني أشـ رائحتو النتنة مف
خبلؿ الصورة !..ىذا أسموبو في العمؿ ..التمفيؽ والتزوير واالبتزاز!
ودفع إلي المحقؽ ورقة مطوية مف أوراؽ الرسائؿ الممونة ،نظرت إليو في دىشة ،ثـ فتحت الرسالة فوجدت فييا
كممات مطبوعة عمى اآللة الكاتبة ،وأذىمني ما جاء فييا..
"عزيزتي نوار ،سنمتقي الميمة في منتزه الغابة ،أرجو أال تتأخري ألني أنتظرؾ عمى أحر مف الجمر ،حبيبؾ إلى
األبد الدكتور صبلح الحكيـ"..
ولـ أكد أنتيي مف قراءة الرسالة الكاذبة ،حتى داىمني المحقؽ باتياـ جديد ،قاؿ بنبرة صاعقة ،وكأنو ييوي
عمى بالضربة القاضية:
ػ دكتور صبلح ..أنت متيـ باغتصاب وقتؿ المغدورة نو ار..
وقفت فجأة كمف قذفو بركاف ..ثـ ىويت عمى الكرسي ككرة ممتيبة تدحرجت مف شاىؽ ،ىمست بصوت واىف
كالموت:
ػ أنا؟!!!....
ىتؼ المحقؽ وىو يتابع ىجومو دوف رحمة:
ػ نعـ اغتصبتيا وضحكت عمييا ،وعندما طالبتؾ بالزواج رفضت ،ثـ عمدت إلى قتميا حتى ال تفضح غمطتؾ
وتيدد سمعتؾ البراقة التي تخدع بيا الناس ..إياؾ أف تنكر..
ىمست وأنا أصارع مشاعر الصدمة بأعصاب عارية:
ػ ىذا ليس صحيحا ،ولكف..
ػ كؿ األدلة ضدؾ ..الصورة صورتؾ ..والرسالة تفضح طبيعة العبلقة التي كانت تجمعؾ بالقتيمة..
ػ ولكف متى قتمت؟..
ػ أجب وال تراوغ..
ػ الصورة صورتي ،لكف الرسالة ممفقة!
ػ ما دليؾ؟.
ػ أنا ال أممؾ آلة كاتبة ،وال أستعمميا في تدويف رسائمي..
ػ لكنؾ تستطيع أف تحصؿ عمى آلة كاتبة بألؼ طريقة..
ػ ولماذا أطبع رسالة كيذه عمى اآللة الكاتبة؟..
ػ لتنفي نسبة الرسالة إليؾ ..فيما لو وقعت في يدنا ..وتدعي أنيا ممفقة ..لذلؾ تجنبت أف تكتب الرسالة بخط يدؾ
،ولـ تترؾ عمى ورقة الرسالة أية بصمات تدؿ عميؾ..
ػ أنت تبالغ في االستنتاج..
ػ أنصحؾ باالعتراؼ..
ػ اآلف عرفت كـ جمس مكاني مف المظموميف!..
ػ إذا كنت بريئا ،فدافع عف نفسؾ..
ػ إليؾ دفاعي إذف ،وستعمـ أني بريء مما تقوؿ..
ورويت لو قصة نو ار مف أوليا إلى آخرىا ..منذ أف جاءت خمؼ طفمتيا إلى المستشفى لتطمئف عنيا ،إلى أف
ضاعت مني في أزقة المدينة..
وسألني المحقؽ عف السبب الذي جعمني أحزر اسـ الشركة التي كانت تعمؿ فييا نو ار دوف أف تذكره لي ،فحدثتو
عف تجربتي المريرة مع عبد الغني الذىبي ،وكيؼ عرض عمي التواطؤ معو لتسويؽ أغذية فاسدة لؤلطفاؿ ،مما
جعمني أشؾ في أنو ىو نفسو الذي يقؼ وراء صفقة المحاقف الفاسدة التي حدثتني عنيا نو ار..
واستغرقت طويبل في تحميؿ شخصية الذئب األنيؽ عبد الغني وأساليبو الممتوية ،واتيمتو بأنو وراء الصورة التي
التقطت لي س ار ،وأنا أجمس مع نو ار في المركز الثقافي ،وأبديت شكوكي في أف عبد الغني الذىبي يقؼ وراء
حادثة مقتؿ نو ار بشكؿ أو بآخر ،لكني لـ أجرؤ عمى إببلغ المحقؽ بما حدثتني بو أحبلـ عف ضموع أبييا في
حادثة العمارة المنيارة ،احتراما لمشاعرىا ،وصونا لمسر الذي باحت لي بو دوف سائر الناس..
وكاف المحقؽ قد استدعى كاتبا ليسجؿ اعترافاتي ،فدوف أقوالي حرفا حرفا ،وعندما انتييت مف الحديث رفع
الرجؿ رأسو في إعياء ،وبسط يده فوؽ األوراؽ ليريحيا مف عناء الكتابة المتبلحقة ،فقد كاف حديثي مسيبا
وطويبل..
ورانت فترة مف الصمت كاف المحقؽ خبلليا غارقا في خواطره..
بدت لي مبلمحو وكأنيا تبعث عمى االرتياح ،وقد يكوف ذلؾ ألني تخففت مف بعض األسرار التي كانت تؤرؽ
صدري ،أو لعؿ المحقؽ قد عاد إلى طبيعتو بعد أف مثؿ دور اليجوـ ليفتت صمتي ،ويدفعني لبلنييار أماـ
اتيامو السافر ،فأعترؼ بالحقيقة ،لكنو اآلف ،بعد أف سمع مني كؿ ىذه التفاصيؿ ،البد أنو يحاوؿ فرز
الخيوط المتشابكة ،ليصؿ إلى الخيط الذي يوصمو إلى الحقيقة..
نيض المحقؽ فجأة ودار حوؿ كرسيو ،ثـ قاؿ يممي عمى الكاتب وىو يستند بكمتا يديو عمى الكرسي:
ػ ىذا ،وقد تقرر إجراء تحقيؽ عاجؿ مع مديرة ممجأ الحناف لؤليتاـ ،حيث نظف بأنيا تممؾ معمومات ىامة حوؿ
المجني عمييا ػ نو ار سندياف ػ التي اكتشفت جثتيا فجر ىذا اليوـ المدوف تاريخو أعبله..
ثـ رفع المحقؽ سماعة الياتؼ واستدعى أحد معاونيو ،وطمب منو أف يرافقو في زيارة إلى ممجأ األيتاـ..
ىتفت وأنا أرى المحقؽ ينطمؽ بحماس:
ػ وأنا؟
نظر إلي متفك ار ،ثـ قاؿ بنبرة حاسمة:
ػ تعاؿ معي..
الفصؿ الحادي والثبلثوف
سجموا في أوراقكـ ..نو ار ماتت شييدة .نعـ ..إنيا اآلف ىناؾ ..في الجنة ..ترفرؼ بأجنحة مف الطير ،وترفؿ في
ثياب مف النور ..إنيا اآلف ىناؾ ..في السماء ..تروي لخالقيا قصة مآساتيا الدامية األليمة ،وتشكر إليو الذيف
ظمموىا وافترسوىا ..تريدوف أف تعرفوا مف ىي نو ار!..
سأقوؿ لكـ ..إنيا شاىدة عمى جيؿ القرية وظمـ المدينة ..شاىدة عمى القسوة التي استشرت فينا ..شاىدة عمى ىذا
الفساد الذي حوؿ مجتمعنا إلى غابة ..غابة مف الوحوش التي ال ترأؼ أو ترحـ..
وتيدج صوت المديرة ،فانفجرت باكية ،وغرؽ صوتيا في خضـ االنفعاؿ ..رجاىا المحقؽ أف تيدأ ،وأف تروي
لو كؿ ما تعرفو عف نو ار ،فتماسكت وبدأت تدلي بشيادتيا ،قالت مف بيف الدموع:
ػ بدأت عبلقتي بنو ار منذ أشير ..عندما حضرت إلي وطمبت مني أف أسمح ليا بالعمؿ في الممجأ ،اعتذرت ..لـ
يكف مف الممكف أف أوافؽ ،فميزانية الدار محدودة ،ونحف ال نكاد نوازف بيف ما يأتينا مف منح وتبرعات ،وبيف
ما نقدمو لؤلطفاؿ األيتاـ مف خدمات ،لـ يقنعيا اعتذاري ،كانت المسكينة حزينة ،وكانت نظراتيا كسيرة ،
ومبلمحيا تدعو لمرثاء ،قالت بأنيا تحب ممارسة األعماؿ القريبة مف األطفاؿ ورجتني أف أحقؽ ليا رغبتيا ،لـ
أستطع ،فكررت اعتذاري وشرحت ليا ظروؼ الدار ،لكنيا ألحت في الطمب ،ورجتني متوسمة أف أساعدىا ،
رؽ ليا قمبي ..في نفسي لعميا في ضائقة مادية تدفعيا لمبحث عف عمؿ ،ووجدت مف واجبي أف أساعدىا..
سألتيا عف مؤىبلتيا ،فأخبرتني بأنيا طالبة لغة إنكميزية ،لكنيا تركت الجامعة قبؿ التخرج ألسباب لـ تفصح
عنيا !..تذكرت صديقة قديمة تممؾ روضة أطفاؿ ،فعرضت عمى نو ار أف تذىب لتعمؿ لدييا مدرسة ،ووعدتيا
بأني سأزورىا بكتاب توصية يميد ليا األمور ..قدرت أنيا ستفرح ليذه المبادرة ،لكنيا وجمت ،وبدت الخيبة في
عينييا ،كانت مصرة عمى العمؿ في الدار! ..ىنا ساورتني الشكوؾ!! ما معنى ىذا اإلصرار؟
مف الميـ أف أذكر ىنا أف نو ار جاءتني بعد يوميف فقط مف تحويؿ الطفمة المقيطة إلينا ،وكانت جريدة األياـ قد
اىتمت بقصة الطفمة المقيطة ،وتابعت أخبارىا ،فذكرت أنو قد تـ نقؿ الطفمة مف المستشفى ابف النفيس إلى دار
الحناف لؤليتاـ..
في الحقيقة ..لـ تكف نو ار أوؿ أـ تمح عمييا أمومتيا ،فتأتي إلى الدار لتحوـ حوؿ طفميا أو طفمتيا التي تخمت
عنيا لسبب أو آلخر ،وأردت أف أختبر نوار ..قمت ليا إذا كنت مصرة عمى تقديـ المساعدة ألطفاؿ الممجأ ،
فميس أمامؾ سوى فرصة العمؿ التطوعي في الدار ،ىؿ تعمميف متطوعة ببل أجر؟ انفرجت أساريرىا فجأة ،
ودمعت عيناىا مف شدة الفرح وأبدت حماسا بالغا لمفكرة!!
ازدادت شكوكي لكني أخفيتيا! ..أظيرت إعجابي بحماسيا وأريحيتيا ،واىتماميا باألطفاؿ اليتامى ،وطمبت مف
المسؤولة عف المشرفات أف ترتب معيا الزماف والمكاف الذي ستتبرع فيو بجيودىا ،وأوصيت المسؤولة بأف تترؾ
لنو ار حرية االختيار..
ومر أسبوع ..كنت أراقب خبللو تصرفات نو ار وأحمميا بيدوء وروية..
الحظت أنيا اختارت العمؿ في جناح األطفاؿ الرضع ،وأنيا كانت تقضي في الدار أوقاتا طويمة تزيد أحيانا عف
دواـ المشرفات المنتظمات لدينا ،والحظت أيضا أنيا كانت تسبغ عطفا واىتماما خاصا عمى الطفمة بارعة ،عمى
درجة جعمت طبيب الممجأ يشكو مف استدعاء نو ار لو ثبلث مرات خبلؿ األسبوع ليتفقد الطفمة بدوف سبب واضح!
ومر أسبوع آخر ..عممت خبللو أف نو ار قد استدانت مف إحدى الموظفات مبمغا مف الماؿ! ..إذا كانت بحاجة إلى
الماؿ ،فمماذا تتطوع بالخدمة في الدار ،وترفض فرصة العمؿ المأجور في مكاف آخر؟..
وأصبحت الصورة لدي واضحة جمية..
استدعيت نو ار ذات صباح ،وأثنيت عمى بذليا وتفانييا ،قمت ليا بعد أف شاع بيننا جو مف األلفة والمودة :
"اعممي يا ابنتي بأف الصداقة التي توطدت بيننا صارت تسمح لي باإلطبلع عمى سرؾ الذي تخفينو عني ،
فأرجو أف تبحي لي بقصتؾ الحقيقية فقد أستطيع مساعدتؾ"..
بوغتت بكبلمي ،ارتبكت وتمعثمت ،تجاىمت وأنكرت ،ثـ انخرطت في بكاء مرير..
وأجج الحديث مشاعر المديرة ،فبكت وىي تتذكر بكاء نو ار بيف يدييا ،فتركيا المحقؽ تفرغ انفعاالتيا ،وتشاغؿ
بمراجعة آخر ما دونو كاتبو مف أقواؿ ،قاؿ المحقؽ لكاتبو:
ػ إياؾ أف تغفؿ عف حرؼ ،ىذه القضية عمى ما يبدو معقدة ومتشعبة الخيوط!
أومأ الكاتب برأسو مستجيبا لمبلحظة سيده ،وانكب عمى أوراقو استعدادا اللتقاط كؿ كممة تصدر عف المديرة..
وتابعت المديرة سرد أقواليا ،فوجدت تطابقا كبي ار بيف ما روتو لي نو ار عف حياتيا ،وبيف ما روتو مديرة الممجأ ،
والتفت المحقؽ إلي في نظرة عابرة ػ كمف يعترؼ بصدؽ أقوالي ،فمـ أحفؿ بنظرتو ،ألف اىتمامي كاف مرك از
عمى رواية المديرة ،باحثا عف الحمقة المفقودة التي ضاعت نو ار قبؿ أف أعرفيا..
ووصمت المديرة إلى الفصؿ الضائع مف الرواية ،فقالت:
ػ ...ثـ عممت نو ار في شركة عبد الغني الذىبي ،وىناؾ بدأت مأساتيا الحقيقية..
لـ أستطع صب ار ،أفمتت مني غضبة كظيمة ،وىتفت بنبرة المتألـ المظموـ الذي وجد دليبل عمى براءتو:
ػ ألـ أقؿ لكـ ..إنو عبد الغني الذىبي ..رمز المصائب والببليا! ..إنو يقؼ خمؼ كؿ جريمة ببصماتو المموثة..
رائحتو الكريية تفوح منو عمى الرغـ مف كؿ العطور التي يغتسؿ بيا ليزور حقيقتو..
حدجني المحقؽ بطرؼ عينيو احتجاجا عمى تسرعي في الكبلـ ،بينما قالت المديرة في محاولة لمتوضيح:
ػ عفوا ..يبدو أف ىناؾ التباسا في األمر ..صحيح أف صاحب الشركة التي عممت فييا نو ار ىو السيد عبد الغني
الذىبي ،لكف الذي اغتصب نو ار وكاف وراء مأساتيا ىو الدكتور شريؼ مدير الشركة!
ػ الدكتور شريؼ!!..
أفمت مني ىذا التساؤؿ رغما عني ..ىذه أوؿ مرة أعرؼ فييا أف لشركة عبد الغني الذىبي مدي ار يدعى الدكتور
شريؼ!
والتفت إلي المحقؽ غاضبا ،وقاؿ بنبرة وشت بنفاذ الصبر:
ػ دكتور صبلح ..لقد اصطحبتؾ معي عمى مسؤوليتي الشخصية ،إيمانا مني ببراءتؾ ،واحتراما لمشاعرؾ التي
جرحناىا باعتقالؾ ىذا الصباح ،لكني ال أسمح لؾ أبد أف تتدخؿ في التحقيؽ ،أو تفسد مجراه..
انسكبت كممات المحقؽ عمي كشبلؿ مف الماء البارد ،وبعثت في نفسي ارتياحا عميقا رغـ الميجة الجافة التي
حممتيا ،المحقؽ مقتنع ببراءتي شخصيا عمى األقؿ ،ونظرت إليو بامتناف واذعاف ..وصمت ..لـ يكف أمامي
سوى الصمت إف أنا أردت أف أعرؼ بقية ىذه القصة التي حشرتني بيف خيوطيا المتشابكة..
وعاد المحقؽ باىتمامو إلى المديرة..
مت :إف الذي اغتصبيا يدعى الدكتور شريؼ؟.. ػ ُق ِ
ػ نعـ ..الدكتور شريؼ الطيب ،المدير التنفيذي لشركة الذىبي..
ػ أجؿ..
ػ وحممت منو؟
ػ نعـ ..وقد طالبتو بأف يتزوجيا ليجنبيا الفضيحة ،لكنو رفض ،واختمؽ حوليا األقاويؿ ,ثـ فصميا مف العمؿ..
ػ وعبد الغني الذىبي ..ىؿ عمـ باألمر؟
ػ عمـ عندما شكت لو نو ار الدكتور شريؼ..
ػ ماذا كانت ردة فعمو؟.
ػ لـ يصدقيا ..طردىا مف مكتبو ،وىددىا بأنو سيبحث عف أىميا ،ويحدثيـ عف سوء أخبلقيا ،إف ىي كررت
شكواىا أو ذكرت شركتو وموظفييا بسوء..
ػ لماذا يظف عبد الغني الذىبي أف نو ار فتاة سيئة األخبلؽ؟..
ػ لعؿ الدكتور شريؼ وسوس لو بيذه الفكرة..
ػ لماذا لـ تتقدـ نو ار بشكواىا إلى العدالة؟..
ػ خافت مف الفضيحة..
ػ الحمؿ أمر ال يمكف إخفاءه ،والفضيحة كانت وشيكة عمى كؿ حاؿ..
ػ لقد احتاطت لؤلمر..
ػ كيؼ؟..
ػ استطاعت نو ار أف تجد غرفة عند سيدة عجوز تقيـ في أحد األحياء الفقيرة ..كانت العجوز طيبة وحكيمة ،
فعطفت عمييا ،وتفيمت ظروفيا ..وىكذا عاشت نو ار في كنفيا آمنة مستورة ،حتى وضعت وأنجبت طفمتيا..
تفكرالمحقؽ ىنية ،ثـ قاؿ:
ػ إذا كانت نو ار قد وجدت المكاف اآلمف الذي تربي فيو طفمتيا ،فمماذا تخمت عنيا؟
أجابت المديرة:
ػ بعد أف وضعت نو ار طفمتيا ببضعة أشير اختار اهلل العجوز الطيبة إلى جواره ،وجاء الورثة يطالبوف بمنزؿ
فقيدتيـ ،فاضطرت نو ار لمرحيؿ ،وخرجت مف مأمنيا ىائمة تائية ال تعرؼ إنسانا تموذ بو ،أو مكانا تأوي إليو ،
واستبد بيا اليأس ،فقررت أف تتخمص مف الحياة ،وكاف عمييا قبؿ ذلؾ أف تحد لطفمتيا مف يرعاىا ،فيداىا
فكرىا إلى وضع الطفمة أماـ أحد المساجد ،ليمتقطيا أحد الصالحيف ،فيتولى أمرىا ،واختارت مسجدا تعرفو ،
فتسممت إليو أثناء صبلة الفجر ،ووضعت طفمتيا في حديقتو ،ثـ توارت بعيدا ،وجعمت تنتظر..
وخرج المصموف مف مسجدىـ ،فترامى إلى سمعيـ بكاء طفؿ ،فيرعوا إلى مصدر الصوت دىشيف ،فوجدوا
الطفمة ممفوفة بدثارىا ،وىي تمزؽ بصراخيا ىدأة الفجر ،وبادر أحدىـ ،فحمؿ الطفمة ومضى بيا إلى شرطة
الحي ليضع القضية بيف أيدييـ ،فقاـ ىؤالء بدورىـ باتخاذ اإلجراءات المعتادة ،وكانت الخطوة األولى تحويؿ
الطفمة إلى المستشفى لبلطمئناف عمى صحتيا ،وتقدير وزنيا وعمرىا ،ومعرفة زمرتيا الدموية..
وكانت نو ار تتابع طفمتيا وىي تنتقؿ مف يد إلى يد ،وعندما رأت الشرطي يتجو بيا إلى المستشفى طر صوابيا ،
وقمب الخوؼ والقمؽ كيانيا ،وأخذت تحوـ حوؿ المستشفى كالحمامة الكسيرة التي سرؽ العابثوف صغارىا ،ولـ
تصبر ،فصممت أف تطمئف عمى ابنتيا ،لكنيا كانت بحاجة إلى عذر تدخؿ بو المستشفى في تمؾ الساعة
المبكرة ،ولـ تمبث أف تناولت أحد دبابيس الشعر التي تشكؿ بيا شعرىا ،وأحدثت بطرفو الحاد جرحا في يدىا ،
لتتذرع بو ،وقد كاف قدرىا أف يستقبميا الدكتور صبلح ،ويعالجيا..
وىكذا حفظ الدكتور صورتيا ،واستطاع أف يربط بيف تصرفاتيا عندما صادفيا ىنا في الممجأ..
قاؿ المحقؽ بميجة المتسائؿ:
ػ ىذا يعني أف نو ار لـ تقدـ عمى االنتحار!
ػ ىذا ما حصؿ ..كانت مشاعر األمومة عندىا أقوى مف اليأس ،فقررت أف تبقى مف أجؿ طفمتيا البريئة ،وتكابد
في سبيميا كؿ المصاعب واآلالـ..
ػ لكف الذي التقطوا الطفمة وجدوا معيا مبمغا مف الماؿ! ..مف أيف حصمت نو ار عمى الماؿ؟
ػ مف الدكتور شريؼ..
ػ الدكتور شريؼ؟!..
ػ نعـ ..فعندما ذىبت نو ار إلى الدكتور شريؼ ترجوه أف يتزوجيا ويجنبيا الفصيحة ،رفض كما ذكرت لكـ في
البداية ،فأخبرتو بأنيا حامؿ ،وطمبت منو أف يتحمؿ مسؤوليتو نحو الجنيف الذي أثمرتو جريمتو ..لكنو أمعف في
الرفض ،وطمب منيا أف تسقط جنينيا ،وعرض عمييا مبمغا كبي ار مف الماؿ يغطي تكاليؼ عممية اإلجياض..
ظنت نو ار في البداية أف اإلجياض قد يكوف مخرجا معقوال مف الفضيحة التي تنتظرىا ،فأخذت المبمغ ووافقت
واحتفظت بالمبمغ ،وقررت أف توفره لمطوارئ ،وعندما تخمت عف طفمتيا ،وضعت المبمغ معيا حتى يستعيف بو
مف يجدىا عمى رعايتيا..
قطب المحقؽ متفك ار ،واستغرقتو برىة مف التأمؿ ،ثـ ما لبث أف قاؿ لممديرة:
ػ بقيت نقطة غامضة بحاجة إلى توضيح..
ػ ما ىي؟..
ػ أقوالؾ تفيد بأف نو ار كانت فتاة ذات ضمير يقظ ،وسموؾ مستقيـ..
ػ ىذا ما أشيد بو ،وأصر عميو..
ػ كيؼ تكوف فتاة بيذا السموؾ ،ثـ تسمح لشاب مستيتر كالدكتور شريؼ باغتصابيا؟
ػ اغتصبيا عنوة!
ػ عنوة؟
ػ أفقدىا وعييا ،ثـ اغتصبيا..
ػ أريد القصة بالتفصيؿ..
وشرعت المديرة تروي قصة اغتصاب نوار بالتفصيؿ ..كنت أصغي إلييا بألـ ،وأنا أغالب مشاعر الغضب
والثورة التي اجتاحتني كاإلعصار ..لـ أتوقع أف في العالـ نفوسا قذرة بيذا الخبث وىذه الدناءة! تذكرت فمما وثائقيا
شاىدتو عف التكاثر عند الحيوانات ..في تمؾ المحظة ،لـ أجد فرقا كبي ار بيف حياة الغابة وحياة المدينة!...
كـ يبدو اإلنساف تافيا وحقي ار عندما يتخفؼ مف إنسانيتو ويتحرؾ مف الحياة كحيواف البراري ..يأكؿ حتى التخمة ،
ويمارس الجنس مع أي عابر ،ثـ يسترخي ،ويغط في نوـ غميظ ،ال توقظو منو إال الرغبة والجوع..
ثمة معمومات ميمة أقمقتني ..ورد في كبلـ المدية أف الدكتور شريؼ كاف قد تقدـ لخطبة أحبلـ قبؿ أسبوع مف
مقتؿ نو ار ،وىذا ما دفع نو ار لمذىاب إلى المركز الثقافي يوـ افتتاح معرض أحبلـ ،فقد كانت تريد أف تفضحو
أماـ الفتاة التي يفكر بالزواج منيا ،وبذلؾ تنتقـ مف الدكتور شريؼ ،وتزلزؿ أحبلمو ،ما أقمقني وأقض مضجعي
،أف المديرة قد ذكرت في حديثيا أف والد أحبلـ قد وافؽ عمى الخطبة ،ووزع الحموى في شركتو بيذه المناسبة ،
أيكوف قد بنى موافقتو عمى موافقة أحبلـ؟!..
وأحسست بشيء غامض يعتصر قمبي داخؿ قبضتو ،ال أستطيع أف أرى أحبلـ زوجة لغيري كائنا مف كاف!..
فكيؼ وأنا أراىا تزؼ إلى وغد؟!!!...
الفصؿ الثاني والثبلثوف
ػ "حكمت المحكمة حضوريا عمى المتيـ الدكتور شريؼ عبد الجبار الطيب باإلعداـ شنقا حتى الموت بتيمة
االغتصاب والقتؿ العمد مع سبؽ اإلصرار والترصد ،وقد تمت إحالة أوراقو إلى سماحة المفتي..".
لـ يكد القاضي أف ينتيي مف اإلدالء بحكمو األخير ،حتى انبثؽ مف بيف الحضور صوت قاصؼ كالرعد..
ػ ىذا ظمـ ..ظمـ ..ظمـ كبير ال يجوز!..
والتفتت الرؤوس المستطمعة نحو مصدر الصوت في فضوؿ وحيرة ،وقد انفمتت مف شفاىيا عاصفة التساؤالت!..
ػ مف ىو صاحب الصوت؟..
ػ وماذا يريد؟
ػ وما عبلقتو بالقضية؟..
ػ وماذا يعرؼ؟..
وجمدت النظرات الحائرة عمى فتاة تقؼ في الصفوؼ الخمفية مف الحضور ،وىي تنتفض غضبا وحزنا وثورة ،
وقد تشنجت أصابعيا فوؽ رأسيا كمف يشكو مف صداع مدمر ،وتقمصت مبلمحيا في كآبة مؤثرة..
وسرت في القاعة ىميمة تتعالى ،فيرع القاضي إلى مطرقتو الخشبية ،وأرسؿ طرقات التحذير لتمجـ الجمبة التي
سادت المكاف ،فصمتت األلسنة مرغمة ،لكف العيوف ظمت تصرخ بالسؤاؿ..
وأدركت أف قنبمة موقوتة ستنفجر ..قنبمة مف نوع فريد ،لـ يتعرؼ عمييا العالـ إال في أزمنة نادرة مف التاريخ..
قنبمة آدمية مف النوع الرىؼ الذي يثير الظمـ طاقتو الكامنة ،فيتفجر بالعدؿ ،وينبش الحقائؽ مف الجذور..
وىتفت الفتاة بصوت الىث يتسارع إيقافو وىو يسعى نحو لحظة االنفجار:
اسمي أحبلـ ..الدكتورة أحبلـ الذىبي ..ابنة عبد الغني الذىبي ،رجؿ األعماؿ المشيور الذي ورد اسمو في ىذه
القضية ،وبرأت المحكمة ساحتو..
ثـ أردفت أحبلـ بنبرة متيدجة مزقيا االنفعاؿ:
ػ أرجو أف تسمعني أييا القاضي حتى النياية ،فأنا أممؾ معمومات مثيرة ،سوؼ تحوؿ مجرى القضية ،أرجو أف
تسمعوني جميعا ،فما سأقولو ميـ وخطير..
ولـ تستطع أحبلـ أف تسيطرعمى انفعاالتيا ،فانفجرت باكية وسط دىشة الجميور وذىولو ،فأثار بكاؤىا النفوس
،وحرؾ المدامع..
واقترب والد أحبلـ مف ابنتو كالذاىؿ ،وحاوؿ أف ييدئ مف روعيا ،لكنيا دفعتو عنيا بعنؼ ،وأخفت وجييا
المخضؿ خمؼ كفييا ،وكأنيا ال تريد أف تراه!..
تبادؿ أعضاء المحكمة نظرة يعيث فييا التساؤؿ والوجوـ ،وفغر القاضي فاه دىشة وحيرة ،وقد تسمرت نظراتو
التائية فوؽ ىذه الفتاة المغز التي تتصرؼ بغموض مثير!..
وراف عمى المحكمة صمت ثقيؿ ،فحبس الحاضروف أنفاسيـ ،وقد غاصوا بخواطرىـ في دوامة مف التساؤالت
الممحة التي تريد أف تفيـ ما يجري ،وأرىفت األسماع بانتظار ما ستدلي بو أحبلـ مف مفاجآت..
وسرعاف ما كبحت أحبلـ مشاعرىا ،فكفكفت دموعيا ،وتماسكت ،ثـ تقدمت مف منصة الشيادة لتدلي بأقواليا ،
فرفعت يدىا فوؽ المصحؼ وألقت اليميف..
ػ أقسـ باهلل العظيـ أف أقوؿ الحؽ ميما كاف م ار ،ولو اتيمني الناس بالجحود أو الخيانة أو الجنوف!..
لـ يعمؽ القاضي عمى صيغة اليميف! ..بؿ لعمو لـ ينتبو إلييا ،فقد كاف غارقا في أفكاره وتوقعاتو ..ماذا تريد ىذه
الفتاة أف تقوؿ؟ وما المعمومات التي تدعي أنيا ستغير مجرى القضية؟ أيكوف كؿ ىذا الجيد الذي بذلو ليفتي في
ىذه القضية الشائكة ،قد أىدر في اتجاه خاطئ ..أيكوف القاتؿ الحقيقي غير الدكتور شريؼ الذي ما فتئ ينفي
عنو تيمة القتؿ منذ بداية القضية؟ ..واستند القاضي بمرفقو فوؽ منضدتو ،ثـ ألقى برأسو المثقؿ باألسئمة فوؽ
راحتو ،وراح يصغي إلى أحبلـ ،وىو يحدؽ فييا بنظرات يفيض منيا الترقب والقمؽ..
أرسمت أحبلـ تنييدة مرة ،ثـ قالت وىي تنتصب بقامتيا كخطيب مفوه يقؼ فوؽ بركاف مف الكممات الممتيبة:
ػ سيدي القاضي ..اآلف حصحص الحؽ ،وآف لمحقيقة أف تعمو فوؽ كؿ اعتبار ،وآف لمضمير الغافي أف يستيقظ
مف سباتو ليمزؽ الصمت الذليؿ ،ويصدع بكممة الحؽ رغـ كؿ األنوؼ..
عذ ار أييا القاضي ،فأنا لـ آت إلى ىنا ألقؼ فيكـ خطيبة ،أو محاضرة ..لكني جئت ألطمؽ صرخة مدوية
سيزلزؿ صداىا أولئؾ الذيف قدسوا المادة ،واستيانوا بالقيـ ..أولئؾ الذيف يعيشوف بيننا كالبشر ،ويتصرفوف
كالذئاب ..الذيف يتكئوف عمى القانوف ليعيشوا فوؽ القانوف ..أولئؾ الذيف يظمموف الناس بضمير مرتاح ،
ويسحقونيـ بأعصاب باردة ،ويشربوف دمائيـ بكؤوس مف الفضة..
قد تتساءؿ أييا القاضي الوقور لماذا انتظرت حتى نياية المحكمة ،ثـ تقدمت ألبوح بما سيغير اتجاه التحقيؽ ،
ويكشؼ الجاني الحقيقي في ىذه القضية؟
سؤاؿ وجيو يستحؽ اإلجابة..
كنت يا سيدي ػ أمتحف عدالتكـ! ..اختبر قوانينكـ! ..أرقب عجزكـ في الوصوؿ إلى المجرـ ،وىو يخطر
لقد ُ
أمامكـ كالطاووس!..
عذ ار أييا القاضي ،فأنا ال أسخر منكـ أو أطعف في نزاىتكـ ،لكني أريد أف أبيف لكـ أم ار عمى غاية مف
الخطورة..
ال قيمة يا سيدي لقانونكـ في غياب الضمير ..ألف اإلنساف عندما يمغي ضميره يستطيع أف يحتاؿ عمى القانوف ،
وأف يقفز فوقو ،وقد يتدرع بو ،فيحولو مف سبلح في وجو الشر إلى سبلح في خدمة الشر ..نعـ ..قانونكـ ال
يكفي لتحقيؽ األمف واألماف ..البد معو مف التربية ..مف األخبلؽ ..مف الضمير ..ألف الضمير عندما يثور
يحاكـ النفس قبؿ أف تحاكموىا ..يؤنبيا بقسوة ..يجمدىا ..يطيرىا ..يدفعيا إلى مواجية الحقائؽ ميما كانت مرة
وأليمة..
تريدوف دليبل عمى ثورة الضمير؟..
أنا ىو الدليؿ ..فأنا ما كنت ألبوح لكـ بما ستذىموف لو ،لوال أف كابدت داخمي سياط الضمير وىي تجمدني
صباح مساء ،وتعذبني عذابا أليما يفوؽ كؿ احتماؿ ..نعـ ..لقد أرقتني الحقيقة المرة حتى عجزت عف كتمانيا ،
وأنا أرى العدالة البشرية تائية ضائعة مخدوعة تديف البريء ،وتبرئ المداف..
وعذاب الضمير أييا القاضي لـ يداىمني وأنا أتابع ىذه القضية عمى صفحات الجرائد وفي أروقة المحاكـ ..بؿ
داىمني منذ عيد بعيد ..عندما اكتشفت بيف أوراؽ والدي شيادة خطيرة تثبت تورطو في جريمة بشعة تذكرونيا
جيدا ..تمكـ ىي حادثة العمارة التي انيارت فوؽ رؤوس ساكنييا ،وسحقت تحتيا عددا مف األبرياء ..يوميا قالوا
:عبد الغني الذىبي ال ذنب لو ،المسؤولية كميا تقع عمى الميندس الذي تبلعب بالمواصفات ،واقتصد في
المواد األولية ،ليختمس ثمف ما وفره منيا ،وكاف المحاسب المسؤوؿ عف حسابات العمارة قد اعترؼ أثناء
التحقيؽ بأف والدي ىو الذي كاف يأمر الميندس المنفذ بالتوفير واالقتصاد في المواد البلزمة لتسميح البناء ،لكف
ىذا المحاسب غير أقوالو أماـ المحكمة ،وأنكرىا ..وعندما عادت المحكمة إلى ممفات التحقيؽ لـ تجد االعترافات
األولى التي أدلى بيا المحاسب الحقيقية اختفت مف ممفات التحقيؽ بفعؿ خائف ،وشاءت األقدار أف أكتشفيا ،
وىاؾ صورة عنيا..
ودفعت أحبلـ برزمة مف األوراؽ إلى القاضي ،فراح يقرؤىا بإمعاف ،ثـ نحاىا جانبا ،وعاد بنظراتو إلى أحبلـ ،
وكأنو يرجوىا أف تكمؿ ،ولـ تمبث أحبلـ أف قالت بنبرة حزينة:
ػ عندما اكتشفت ىذه األوراؽ صدمت ..ذىمت ..فقدت احترامي لوالدي ،وفقدت احترامي لنفسي ،والزمني شعور
فظيع بأني ابنة مجرـ ..مجرـ جشع يستييف بأرواح األبرياء ،وال يتورع عف ارتكاب أفظع الجرائـ مف أجؿ
مصالحو وأطماعو ..ورحت أرقب تصرفات والدي بعيوف ممؤىا الشؾ والريبة ،فحيرتني شخصيتو المزدوجة التي
يحيا بيا بيف الناس ..يفترسيـ في الميؿ ،ويضحؾ ليـ في النيار..
ال تنظروا إلي ىكذا أرجوكـ ،فأنا لست جاحدة ،أو شاذة! ..ال تظنوا أني أستعذب البوح لكـ بيذه االعترافات..
فأنا أعترؼ لكـ كمف يمفظ مف جوفو جم ار ونا ار ،لكني يجب أف أعترؼ ..لـ أعد أحتمؿ وجوه الضحايا وىي
تحاصرني في الصحو والمناـ! ..لـ أعد أطيؽ أف أصغي إلى أرواحيا وفي تشكو لي ظمـ أبي ،وتشكو مني
صمتي وجبني ..لف أرضى بعد اليوـ أف أكوف شريكة أبي في جرائمو ،فالسكوت عف الظمـ جريمة..
لف أطيؿ ..فأنا ما جئتكـ ألحدثكـ عف نفسي! ..بؿ جئتكـ ألكشؼ تفاصيؿ جريمة حبكيا أبي ..الدكتور شريؼ
اغتصب نو ار صحيح لكنو لـ يقتميا ..القاتؿ رجؿ آخر أعرفو! ..رجؿ غريب كاف يتردد عمى والدي في فترات
متباعدة ..رجؿ غامض ..وجيو دائما مقطب ،ومبلمحو قاسية كالجميد ..وفي عينيو بريؽ وحشي يتطاير كالشرر
،ويشع بالرىبة والرعب! ..ىذا الرجؿ كاف قريبا جدا مف والدي ،لكنو لـ يكف يظير في السيرات أو الحفبلت
التي كاف يقيميا أبي لمعارفو وأصدقائو ..كاف دائما يأتي في أعماؽ الميؿ ،ويتستر بالظبلـ ..ال يتكمـ إال ىمسا..
ال يعرؼ ما ىو االبتساـ ..دائما متجيـ صامت كأبي اليوؿ ..يأتي بحركات ثابتة ال يغيرىا ..يتحرؾ كاآللة..
لكأنو رج آلي يتحرؾ وفؽ برنامج مرسوـ ..
كنت أتشاءـ منو كثيرا!! فما رأيتو مرة إلى وحدثت مصيبة! ..لحظة مف فضمكـ !..إني أتذكر اآلف ..لقد ازرنا ىذا
الرجؿ ليمة اليزيمة ..ىزيمة الخامس مف حزيراف ..سألني يوميا عف أبي بميجة جافة وصوت غميظ ..فأخبرتو
بأنو قد سافر ..رمقني بنظرة جامدة ،ولـ ينبس ،ثـ مضى ،وتوارى في الظبلـ..
ىذا الرجؿ زار والدي قبؿ مقتؿ نو ار بميمة واحدة ..كاف الوقت متأخ ار ،وكنت منيمكة في رسـ لوحة جديدة ألحت
عمي فكرتيا ،شاىدت والدي يستقبمو بالترحاب ،فاستبد بي الفضوؿ ..مف ىذا الرجؿ؟ ما الذي يجمعو بوالدي كؿ
ىذه السنيف؟ !..اقتربت مف مكتب والدي واستمعت لما يدور..
قاؿ والدي " :طمبتؾ ألمر ىاـ..".
تساءؿ الرجؿ " :ميمة جديدة؟".
أجاب والدي " :الفتاة التي طمبت منؾ أف تصورىا مع الدكتور صبلح ليمة افتتاح معرض أحبلـ..".
سأؿ الرجؿ " :ما شأنيا؟".
أجاب والدي " :إنيا تثرثر كثي ار..".
قاؿ الرجؿ " :يجب أف ترفع السعر..".
ىمس والدي " :تبدو فقي ار ىذه األياـ..".
قاؿ الرجؿ " :ثمف المخدر يرتفع..".
ضحؾ والدي " :كف مطمئنا ..أنا ال أبخؿ عميؾ بشيء..".
سأؿ الرجؿ " :ىؿ تريد شيئا آخر؟..".
أجاب والدي " :ضع ىذه الصورة في حقيبتيا وىذه الرسالة!..".
قاؿ الرجؿ " :تريد اصطياد عصفوريف في آف واحد!..".
ضحؾ والدي طويبل وقاؿ " :بؿ ثبلثة عصافير ..ثبلثة عصافير مف النوع المزعج..".
لـ أفيـ مف ىذا الحوار ،ولـ أسمع كبلما بعد ذلؾ ! سمعت حركة وجمبة في الداخؿ ..صوت خزنة والدي تفتح
ثـ تغمؽ ،وصوت سعاؿ شديد كالذي يصاب بو المدمنوف عمى التدخيف ،ثـ اقتربت األقداـ مف الباب ،فتواريت
،ورحت أرقب ما يحدث مف بعيد ..خرج الرجؿ ،وخرج والدي خمفو..
قاؿ لو والدي " :لف أوصيؾ"..
ىز الرجؿ رأسو في ثقة ،ثـ مضى..
وأطرقت أحبلـ برىة ثـ تابعت بصوت مختمج:
وعندما عممت بمقتؿ نو ار ،وقرأت تفاصيؿ الجريمة ،فيمت معنى ىذا الحوار ،وعرفت ألوؿ مرة أف أبي يستعمؿ
رجبل لمميمات القذرة!..
وفاض بيا التأثر ،فاندفعت الدموع مف عينييا في صمت ،فكانت دموعيا الصامتة الكئيبة أبمغ مف كؿ ما قالتو
مف كممات..
الفصؿ الرابع والثبلثوف
ألجـ الموقؼ المثير لساف القاضي ،فتجمدت نظراتو فوؽ أحبلـ ..ىذه الفتاة العظيمة التي قمبت قوانيف األرض ،
وسجمت باعترافاتيا المتفجرة ،قصة نادرة لـ يسبؽ أف شيدت مثميا أروقة المحاكـ!..
واىتزت القموب اعجابا بيذه الفتاة الطاىرة النبيمة ،التي ارتفعت فوؽ روابط الدـ والنسب ،وتوىجت بالحقيقة
الساطعة كنجـ ممتيب يضيء ظممة الكوف العميقة..
احتضنت أحبلـ بنظرات وليى ،يشعشع منيا الوجد ..كانت تقؼ مطرقة كالخجمى ،وقد أمالت رأسيا الجميؿ
ُ و
في حياء دامع ،وكأنيا ممثمة متواضعة أدت دور البطولة في مسرحية صفؽ ليا العالـ مف أقصاه إلى أقصاه!!..
أيتيا الفتاة الوادعة النقية ..متى يأذف القدر ،فتنيار بيننا الحواجز والسدود ،وتؤلـ الفرحة قمبينا العاثريف ،ال
أستطيع أف أتصور العالـ دوف أحبلـ! ..لكأنيا روحو التي تخمع عميو الحياة ..لكأنيا ماؤىا وىواؤه وأزىاره ..لكأنيا
الحؽ والخير والجماؿ قد اتحدوا واستحالوا امرأة! ..لكأنيا نساء العالـ قد جمعف أجمؿ ما فييف في باقة واحدة ،
وسمينيا أحبلـ..
وجعمت أنوس بنظراتي بيف االبنة وأبييا ،فحرت في ىذه الزىرة البرية الرقيقة ،كيؼ نبتت عمى غصف مف
الشوؾ الساـ؟!..
كاف عبد الغني الذىبي يقؼ ساىما ذاىبل غارقا في لجة مف السكوف ،وكأنو تمثاؿ مف الشمع ألقاه صانعو وسط
ىذا الجميور ليعرؼ رأيو فيما نحت ،وتشابكت األنظار حولو ناظقة باإلدانو ،صارخة باإلنكار ،فياضة
باالحتقار ..ورمقو القاضي كالمفجوع ،ثـ انتظره ريثما أفاؽ مف ذىمتو العميقة .وبدأت الحياة تعود إلى أوصالو
المتجمدة ،فأسبؿ جفنيو كمف يحاوؿ ىضـ ما حدث ،ثـ تنفس بعمؽ ،فانتزع نفسو مف إسار الصدمة ،وجعؿ
يجر قدميو باتجاه ابنتو!..
وحبس الحاضروف أنفاسيـ ،وىـ يروف عبد الغني يترنح في مشيتو ،وقد أطمت مف عينيو نظرة وحشية مجنونة
أخذت تتقد وتتقد ،كمما اقترب خطوة مف ابنتو ،وتسارعت خطواتو فاندفع نحو أحبلـ كثور ذبيح قد احتدـ حبو
لمحياة في القطرات األخيرة مف دمو ،وسرى في القاعة صمت وترقب ،وتحفز أكثر مف واحد إليقافو ،وداىـ
الحاضريف قمؽ عاصؼ ،وىـ يروف يد عبد الغني ترتفع عاليا في اليواء ،وتيوي عمى وجو ابنتو ،لكف القموب
الواجفة لـ تمبث أف ىدأت عندما تسممت قوة مجيولة إلى يد األب العاتي ،وأوقفتيا قبؿ أف تمس أحبلـ بسوء!..
طوى عبد الغني أصابعو المرتعشة اآلثمة ،ثـ ضميا عمى صدره في ندـ ،وىو يرنو إلى ابنتو بطرؼ دامع ،ولـ
يمبث أف ىوى عمى األرض ،وخر عند قدمييا ،وىو يبكي وينتحب ،وانحت أحبلـ نحو أبييا المنيار ،لتنتشمو
مف األرض ،فتناوؿ يدىا الممدوة إليو ،وأغرقيا بالقببلت والدموع ،وكأنو يستجدي منيا العفو والرضا ،لكف
أحبلـ سحبت يدىا في حياء ،وانيارت فوؽ أبييا وىي تنشج بم اررة..
واستدر الموقؼ المؤثر دموع الحاضريف ،فأجيشت امرأة بصوت مرتفع ،وحوقؿ رجؿ يقؼ في أقصى الصفوؼ
،وخرج القاضي عف وجومو وصمتو ،فنزؿ مف منصتو العالية ،وتقدـ مف أحبلـ فأنيضيا في حنو واحتراـ ،ثـ
أجمسيا عمى كرسي قريب ،وطمب ليا كأس ماء..
لبث عبد الغني راكعا برىة ،وىو ينتحب ،وبعد أف أفرغ شحنات الندـ التي احتقف بيا صدره ،حاوؿ أف ينتشؿ
نفسو مف األرض لكف قواه الخائرة خانتو ،فسقط ..فتقدـ منو أحدىـ ،ومد لو يد العوف ،فرفضيا ،ثـ استجمع
قواه الخائرة ونيض ،ووقؼ أماـ القاضي مخضؿ الوجو ،كسير النظرات ،مائؿ البنية ،وكأنو جبؿ شاىؽ
مادت بو األرض ،وىشـ الزلزاؿ ىامتو..
قاؿ عبد الغني بنبرة غابت منيا تمؾ الجعجعة الفارغة التي كانت تممؤىا:
ػ سيدي القاضي ..أعترؼ سمفا بكؿ ما أوردتو ابنتي أحبلـ مف حقائؽ ..أعترؼ بأني غششت وسرقت وقتمت..
أعترؼ بأني تبلعبت بالقانوف ،وخدعت القضاء ،وضممتو في كؿ مرة ،أعترؼ بأني تصرفت في ىذا العالـ
كالوحوش الشاردة في أعماؽ الغابات ،وتسمقت عمى أشبلء اآلخريف حتى وصمت إلى ما أنا فيو مف شيرة وجاه
وثراء ..وىا ىي النتيجة ..ممكت كؿ ما يحمـ اإلنساف بامتبلكو ،وخسرت ابنتي الوحيدة ،التي لـ أحب في ىذا
الوجود إنسانا غيرىا ..خسرت احتراميا لي ،وخسرت اعترافيا بي كأب وانساف ،فخسرت بذلؾ كؿ شيء لكف ،
اسمح لي أييا القاضي أف أروي لؾ القصة مف أوليا ،فمكؿ قصة بداية ،ولبدايتي قصة يجب أف تروى ،ويجب
أف يصغي إلييا الناس ..أنا يا سيدي لست شيطانا ،ولست كتمة خالصة مف الشر ،كما أبدو لكـ اآلف ..اإلنساف
يا سيدي ال يولد شري ار ،والشر ليس أصيبل فينا ..نحف الذيف نزرع الشر ،ونحف الذيف نحصده ..وقد عممتني
الحياة أف الظمـ ىو التربة العفنة التي يضرب الشر فييا جذوره ،ويطرح ثماره المسمومة ..أعرؼ أف أسماعكـ
تأنؼ أف تصغي لحكمة يمقييا عميكـ رجؿ فاسد ،لكنيا الحقيقة ..الحقيقة المرة التي تجرعتيا قطرة ،قطرة ..وأنا
أشعر بأقداـ الظمـ والشقاء تدوسني وتسحقني بقسوة..
عبد الغني الذي تعرفونو اآلف ػ أييا السادة ػ بدأ حياتو ماسح أحذية ..ينحني فوؽ األقداـ فينظفيا ،ويممعيا..
يأكؿ الخبز ممزوجا باألصبغة واألوساخ ،ثـ يأوي إلى غرفة حقيرة ،فيقضي الميؿ فوؽ حصيرة ميترئة ،وىو
يحمـ ..يحمـ بحياة أخرى خالية مف الذؿ والشقاء ..يحمـ بالثروة الواسعة والقصر المنيؼ ..يحمـ بالعز والجاه
والرفاء ..وعندما كاف يشرؽ عميو فجر اليوـ التالي ،كاف ىذا الفتى الكادح الطموح ،يحمؿ صندوقو الخشبي ،
ويمضي بو إلى الشوارع والساحات ،ليعرض خدماتو عمى الناس مقابؿ قروش قميمة..
عبد الغني الذىبي ػ أييا السادة ػ نشأ يتيما ،وعاش محروما ..عاش حياة باردة ال دؼء فييا ،أو حناف ..تنكر
لو األقرباء ،وبتروه مف حياتيـ كما يبتر اإلنساف قبلمة أظفاره ،وقذفوه في العراء ،ليمتقط رزقو كما تمتقط القطط
والفئراف ..مف أكواـ القمامة ،ومخمفات المطاعـ ،وصدقات المحسنيف ..نعـ ..عشت طفولة مرة كالعمقـ ،وفتوة
بائسة كالجحيـ ،وشبابا ضائعا ذليبل ال أطيؽ ذكراه..
وركبني ىاجس مجنوف بأف الحياة ال معنى ليا ببل ثروة ،فبدأت رحمة كفاح مضنية ،حرمت نفسي خبلليا مف
أشياء كثيرة ،ورحت استثمر كؿ دقيقة وثانية ،وأجمع القرش فوؽ القرش ،حتى كونت مبمغا متواضعا يصمح
كبداية..
واستأجرت بالمبمغ دكانا في الجزء الجنوبي مف السوؽ الكبير ،فاتخذت منو صالونا متواضعا لمسح األحذية..
كانت الفكرة جديدة ،لـ يسبقني إلييا أحد ،فنجحت ،ودرت عمي ربحا وفي ار مكنني مف شراء المحؿ ،وتطوير
الصالوف..
وشعرت بأف الدنيا قد بدأت تبتسـ لي ،فاستبشرت ،وتفاءلت ،واندفعت نحو أسوار الجنة التي رسمتيا في خيالي
،بيد أف فرحتي لـ تكتمؿ! ..فقد قررت الحكومة فجأة أف تزيؿ الطرؼ الجنوبي مف السوؽ إلقامة مبنى البمدية
فيو..
طار صوابي وأنا أرى الجرافات تزيؿ الصالوف ،وتسد بأنقاضو بوابة أحبلمي ..وكانت صدمتي أكبر عندما
عممت بأف التعويض الذي صرفتو الحكومة لممتضرريف ظالـ زىيد ..جف جنوني وأنا أرى الحمـ يتسرب مف بيف
أصابعي ،ووجدت نفسي أعود إلى نقطة البداية ،بعد كؿ ما حققتو مف نجاح ،فانتابني إحساس عميؽ بالظمـ
والجور ،ففقدت شعوري باألماف ،وامتؤلت نفسي بالحقد عمى كؿ شيء!..
ولـ أرضخ لمواقع ،فقررت أف أعوض خسارتي بأسرع وسيمة ،وأقصر طريؽ ..قامرت ..ربحت وخسرت ..لـ
أحتمؿ الخسارة الجديدة ..استدنت مبمغا وقامرت بو ..خسرت في المرة التالية ،فجننت ،وخضت شجا ار عنيفا مع
الذي غمبني ،وانتيى األمر بنا إلى السجف ،ىناؾ ،تعممت فنوف الجريمة ،وخرجت مسمحا بالخبرات المحرمة ،
وانزلقت خطوة بعد أخرى ..سرقت وغششت وضربت وقتمت ..تاجرت بالتيريب والمخدرات ،وعشت في ىذا
العالـ كقرصاف ألقى عواطفو في المحيط ،واستؿ سيفو المسموـ ليحكـ بو البحار..
وتدفقت األمواؿ بيف يدي ،فبدأت أصنع لي اسما وسمعة ،أسست شركة استيراد وتصدير ،ثـ قفزت قفزة أخرى
،فتزوجت أرممة ثرية ،وأنجبت منيا أحبلـ ..وكاف لممكانة المرموقة التي وصمت إلييا مظيرىا الرفيع ،فمـ يعد
بإمكاني أف أتابع أسموبي القديـ في الغش والنصب واالحتياؿ ،وصار البد لي مف أشخاص موثوقيف ،يقفوف في
الواجية دائما ،ويتحركوف وفؽ إرادتي ،كالدمى في مسرح األطفاؿ ،فإذا ما سقطوا أفمت الخيط الرفيع الذي
يربطيـ بي مف يدي ،وتركتيـ يسقطوف وحدىـ دوف أف أصاب بأذى..
ووجدت ضالتي في شريحة مف الشباب المندفع الطموح ،الذي يستعجؿ الوصوؿ إلى الثروة ،فأغريتيـ بالرواتب
العالية ،وقربت ليـ طموحاتيـ الحالمة إلى الثروة ،فأغريتيـ مف أجؿ قفزة واسعة تحقؽ ليـ أحبلميـ الكبيرة
وتريحيـ مف عناء الكدح والكفاح..
ومضيت في المعبة بحذر شديد ،اصطاد الفرص عف بعد ،ثـ أوحي إلى أعواني ممف اخترتيـ بعناية ليمتقطوا
الفرائس ويعودوا بيا غانميف ..أما رجؿ الميمات القذرة ،فيو صديؽ قديـ عرفتو أياـ الضياع ،وكاف مدمنا عمى
نوع غاؿ مف المخدرات القوية ،فكنت أوفر لو ثمف المخدر وألجأ إليو في األزمات ألستعيف بو في حسـ األمور
المعقدة..
وقد كانت نو ار بالنسبة لي مشكمة تحتاج إلى حسـ ،فقد أخفؽ الدكتور شريؼ في الضغط عمييا ،فأخذت تثرثر
بقصتيا في كؿ مكاف ،مما جعمني أقمؽ عمى سمعة الشركة ،وعندما شاىدتيا مع الدكتور صبلح في مقصؼ
المركز الثقافي ليمة افتتاح معرض أحبلـ ،أوحت لي أفكاري بأف الفرصة قد حانت لمتخمص مف ثبلثة مزعجيف
في وقت واحد..
نو ار التي تيدد سمعتي ومستقبؿ أعمالي ..والدكتورصبلح الذي استولى عمى قمب ابنتي أحبلـ ،فشغفت بو ،
ورفضت أف ترتبط برجؿ غيره ،وأخي ار الدكتور شريؼ الذي تمادت بو أطماعو فأقدـ عمى خطبة ابنتي أحبلـ وىو
يموح لي بما يعرفو عف الشركة مف أسرار ،ظنا منو أني قد أرىبو وأرضخ لرغبتو ،فأزوجو ابنتي ،وأورثو ثروتي
،فوافقت مجامبل ،ورحت أتحيف الفرص لئليقاع بو..
ىذه قصتي أييا القاضي ..قصة إنساف ظمـ فظمـ ،وانتقـ لنفسو مف العالـ الذي ضف عميو بالرحمة والعدؿ
واالحتراـ..
ما إف انتيى عبد الغني الذىبي مف اإلدالء باعترافاتو ،حتى نيض األستاذ سعيد الناشؼ ،واستأذف القاضي في
إيراد معمومة ميمة ،قاؿ األستاذ سعيد:
ػ سيدي القاضي ..أنا أذكر الواقعة التي أوردىا عبد الغني الذىبي حوؿ إزالة الحكومة في ذلؾ الوقت لمطرؼ
الجنوبي مف السوؽ الكبير ،الحكومة آنذاؾ لـ تعوضيـ التعويض العادؿ ..لكني أحب أف أضيؼ ىنا أف
الحكومة التي جاءت بعدىا مباشرة ،أعادت النظر في ظبلمة ىؤالء التجار ،ومنحتيـ حقوقيـ كاممة ،وليذا فأنا
أعتقد أف مبرر الظمـ الذي اتكأ عميو المتيـ عبد الغني مبرر زائؼ قصده تضميؿ القضاء..
ىتؼ عبد الغني في حنؽ ،وقد أخرجو تدخؿ األستاذ سعيد عف طوره:
ػ أجؿ ..لقد عوضتني الحكومة التالية عف الظمـ الذي أنزلتو بي الحكومة التي سبقتيا ،لكف ،متى؟ ..بعد أف
انزلقت قدماي إلى عالـ الشر ،وتوغمت في دنيا الجريمة ..بعد أف لوث الحقد دمائي ،وشوه الظمـ نفسي ،وفقد
إيماني بكؿ شيء..
وأردؼ عبد الغني الذب\ىبي ،وىو يشير إلى األستاذ سعيد ،وقد انتفخت أوداجو ،وازدادت نبرتو حدة وعنفا:
ػ وأنت أييا الصحفي البارع ..أيف كاف قممؾ الناري عندما وقع الظمـ عمي وعمى أصحابي؟ ..أتذكر؟ ..أتذكر
يوميا كيؼ جئناؾ شاكيف متظمميف ،ورجوناؾ أف تثير قضيتنا في صحيفتؾ؟ ..فماذا قمت؟ ..قمت لنا يوميا بأف
ىذه القضية حساسة ،وأنؾ ال تستطيع أف تخوض فييا ،ألف جريدتؾ جريدة ناشئة ،وتريد أف تشؽ طريقؾ بيا
دوف عقبات! ...كيؼ تنسى ىذه أييا الصحفي النزيو ،وتذكر تمؾ؟ ..أـ أنؾ نسيتيا ألف عبد الغني الذىبي لـ
يكف آنذاؾ رجبل مشيو ار يدر عميؾ التشيير بو الربح الوفير ،ويشد القراء إلى جريدتؾ ليقرؤوا فضائحو؟!..
أنتـ يا عزيزي ال تتذكروف الناس إال عندما يكبروف ويشتيروف ،ألف الحديث عنيـ آنذاؾ ،واالقتراب مف
خصوصياتيـ ،يثير فرقعة عالية تمفت االنتباه إلى أقبلمكـ ..أنا الصغار! ..أما البسطاء! ..فبل ييمكـ منيـ سوى
قروشيـ التي يشتروف بيا منشوراتكـ وصحفكـ!..
وتابع عبد الغني قائبل ،بميجة الح فييا التيكـ:
ػ صحيح أييا الصحفي المحترؼ أني بدأت مجرما ،لكني انتييت تاج ار ،أفيـ كؿ ألواف التجارة ..حتى التجارة
بالكممة!..
صمت األستاذ سعيد ،ولـ يعمؽ ،وعاد إلى مكانو مطرقا ،وكأف ثورة عبد الغني قد نالت منو!..
أما عبد الغني الذىبي ،فقد التفت إلى ابنتو بعيني دامعتيف ،وغمرىا بنظرة ودودة ،ثـ قاؿ القاضي دوف أف يرفع
عنيا عينيو:
ػ سيدي القاضي ..أرجو أف تفتحوا ممؼ التحقيؽ مف جديد ،ألعترؼ لكـ بكؿ ذنب اقترفتو ،وكؿ سر أخفيتو مف
أجؿ ىذه اإلنسانة الطاىرة فقط ..وأشار إلى أحبلـ..
الفصؿ الخامس والثبلثوف
**************
وقالت لي أمي ذات يوـ :أنت تعشؽ امرأة مفقودة ..لو كانت في المريخ لعادت ..ليزىا الحنيف إلى أميا
المسكينة ..إلى الرجؿ الذي صحى مف أجميا وعانى ..لعادت إلى المدينة التي أنجبتيا..
وأردفت أمي في حذر:
-أغمب الظف أنيا...
ىمست في قمؽ:
ػ ماذا ؟
تشجعت وقالت:
ػ لعميا قد انتحرت أو ماتت!
شعرت بكمماتيا تغوص في أعماقي كسكيف..
ػ ال ..ال تقولي ىذا يا أماه ..أحبلـ ال يمكف أف تموت!..
تساءلت أمي في دىشة:
ػ لماذا أليست بش ار مثمنا ؟!!..
ىمست وأنا أرمؽ طيفيا بعينيف حالمتيف:
ػ نعـ ..بشر مثمنا ،لكنيا ليست كالبشر ..روحيا أقوى مف أرواح البشر ..أنبؿ مف أرواح البشر ..لكأنيا مف
المبلئكة ..ألـ يتحدثوا عف مبلئكة زاروا األرض في ىيئة البشر ..لكأنيا منيـ ..جاءت األرض عمى ىيئة
امرأة ..جاءت تحمؿ إلينا حكمة السماء ..وبعد أف أدت األمانة اختفت ..تحولت إلى طيؼ ..طيفيا ال يفارقني يا
أماه..
**************
**************
وقالوا ذات مرة :ثمة طبيبة في الريؼ ..نذرت نفسيا لمعالجة الناس في القرى البعيدة ،وبث الوعي بينيـ وقالوا
:إنيا طبيبة فريدة ،تعالج المرضى في النيار ،وعندما يأتي المساء ،تجمع األمييف في مدارس خاصة ،
وتعمميـ القراءة والكتابة! ..ىمست في فرح ..ىذه أحبلـ ..ال يقدـ عمى ىذه التضحية إال ىي! ..ألـ تضحي بأبييا
ومستقبميا مف أجؿ كممة حؽ؟!..
وسافرت إلييا ..جبت األرياؼ باحثا عنيا ..وأخي ار وجدتيا ..وجدتيا تكافح الكولي ار في قرية نائية ..لكنيا لـ تكف
ىي! ..لـ تكف أحبلـ!..
قالت الطبيبة بعدما سمعت قصتي:
ػ أتحبيا إلى ىذا الحد؟د
بكيت كطفؿ صغير ،حبي ليا ال يقؼ عند حد!..
**************
وأعمنت الدولة عف جائزة تقديرية لطبيبة موىوبة تركت مينة الطب ،وعممت رسامة في مجمة أطفاؿ ،وابتكرت
ليـ شخصيات خالدة ،وفاقت في سحرىا ،وجاذبيتيا شخصيات والت ديزني الشييرة!..
قمت ىي ..طبيبة ورسامة ..ظني ىذه المرة لف يخيب ..وبحثت عنيا حتى التقيتيا ،فوجدتيا امرأة أخرى ..لـ
تكف أحبلـ..
**************
**************
و ازرنا العـ درويش في المستشفى ذات يوـ ..جاء يتكئ عمى عصاه ،وىو يحمؿ صرة في يده ..قاؿ وىو يبش لنا
باسما:
ػ لقد جئتكـ بتمر الحجاز ،وماء زمزـ..
استقبمناه باألحضاف ،وأجمسناه في مقصفو القديـ ،الذي تخمى عنو بعدما زحفت إليو الشيخوخة ،ودب في
أوصالو المرض ..وطمبنا لو فنجانا مف القيوة ،فجعؿ يحتسي القيوة رشفة رشفة ،ويتذوقيا مختب ار طعميا
ونكيتيا ،ثـ أخذ يدلي بمبلحظاتو عمى قيوة النادؿ الجديد نسبة إلى البف إلى الييؿ ،ونسبة الييؿ ،ونسبة القيوة
إلى السكر ،ونسبة المسحوؽ إلى الماء ،ومدة الغمياف ..باختصار أراد أف يذكرنا بقيوتو التي امتزجت بدمائنا ،
وعشعش طعميا في أفواىنا ..قاؿ ىاني لمعـ درويش مداعبا ومجامبل:
ػ اهلل يرحـ أيامؾ يا عـ درويش ،كانت القيوة عمى زمانؾ قيوة! ..ليتؾ تعود إلينا ،لتمتعنا بقيوتؾ الفريدة..
ػ اسكت يا دكتور ىاني ..لوال لطؼ اهلل بي ،لكاف عمؾ درويش اآلف في عداد األموات..
ىمست مشفقا:
ػ خير يا عـ درويش ،ماذا حدث؟
أطرؽ العـ درويش برىة كالساىـ ،ثـ أنشأ يقوؿ:
ػ بينما كنت أنا وزوجتي نطوؼ في البيت العتيؽ ،نشب شجار بيف بعض الحجاج ،ولـ يمبث الشجار أف
اتسع! ..ال تدري كيؼ امتد واتسع؟! ..وساد ىرج شديد ،فاندفعت كتؿ البشر في كؿ اتجاه ،وكادت األقداـ
المذعورة تسحقنا ،لوال امرأة ..امرأة ىرعت إلى مكبرات الصوت ،وصاحت بالمتشاجريف أف يرعوا ويكفوا..
قاطعت العـ درويش متسائبل:
ػ امرأة؟!..
قاؿ العـ درويش مؤكدا:
ػ أجؿ امرأة ..امرأة عاقمة وحكيمة ..وقفت بنا خطيبة ،وخاطبتنا بكممات قوية مؤثرة ال أنساىا ،قالت بصوت
ىادر مجمجؿ:
ػ ألجموا قبضاتكـ المكورة أييا الناس ،ووفروىا لعدوكـ الذي يتربص بكـ الدوائر ،ىذا البيت عنواف وحدتكـ ،فبل
تدنسوه بأحقادكـ ،لقد آف لكـ أف تفيموا أف الجيؿ والتخمؼ واألنانية الكريية ىي سر ذلكـ وىوانكـ ..أفيقوا مف
ضياعكـ ،وعودوا إلى المبلييف النائمة في ببلدكـ فأيقظوىا ووحدوىا ،وال تقربوا البيت بعد اليوـ إال قمبا واحدا
وقبضة واحدة ..قبضة شريفة تنتزع المجد مف براثف الميؿ ،لتتوج بو ىامة لوثناىا ومزقناىا بأيدينا..
لـ أنتظر ..قاطعت العـ درويش ثانية رغما عني ..ىمست بنبرة تترواح بيف اليأس والرجاء:
ػ لعميا أحبلـ!..
التفت العـ درويش ،وقد حرؾ ذكر الغائبة الغالية مدامعو ،قاؿ في عتاب رقيؽ:
ػ سامحؾ اهلل يا دكتور ..وىؿ أنسى صوت أحبلـ؟!..
**************
ووجدت مف واجبي أف أطمئف عف والدة أحبلـ ،طرقت الباب ففتحت لي خادمة عجوز ،سألتيا عف سيدتيا ،
قالت إنيا في الداخؿ تؤدي الصبلة!..
سبحاف مقمب األحواؿ! ..أمف سيدة صالونات صاخبة إلى ناسكة في المحراب؟!..
وشدني عبؽ المكاف ..ىنا عاشت أحبلـ ..رائحتيا الطيبة مزروعة في كؿ ذرة مف ذرات ىذا القصر ،وطيفيا
الوادع يتراءى لي أني التفت..
ليتني شاعر حتى أبكي ىذه األطبلؿ..
وجاءت أـ أحبلـ ترفؿ في ثيابيا البيضاء ..ولسانيا يميج بالذكر والتسبيح ..قالت مرحبة:
ػ أىبل بؾ يا والدي ..لقد اشتقنا إليؾ ..لماذا ال تزورنا؟..
أطرقت في حياء ..كاف يجب أف أتفقدىا بيف الحيف والحيف ..وقمت معتذ ار:
ػ أنتـ في الباؿ دائما يا خالة..
ثـ أردفت مستدركا:
ػ تقبؿ اهلل..
اعترتيا كآبة ظاىرة ،واحتقنت مبلمحيا بالحسرة والندـ ،قالت وىي ساىمة تضع كفا عمى كؼ:
ػ ليتو يقبؿ ..لقد جحدناه كثي ار..
وصمتت برىة وىي مطرقة ،ثـ رفعت إلي وجيا مخضبل بالدموع ،وسألت بنبرة تتوىج باألسى واليأس:
ػ أال توجد أخبار؟
وخزني سؤاليا ماذا أقوؿ لؾ أيتيا األـ المموعة؟ ..كبلنا في اليـ سياف..
**************
واتصمت بي أـ أحبلـ منذ أياـ ..رجتني أف أمر بيا وأنا عائد مف المستشفى ..سألتيا إف كاف ىناؾ ما يدعو
لمقمؽ ،لكنيا طمأنتني إلى أف األمر ليس بعاجؿ ،وال بأس مف التريث في القدوـ ،لـ أصبر ..ىرعت إلييا عمى
جناح السرعة..
ػ أماه ..ماذا ىناؾ؟..
قادتني إلى غرفة في أعماؽ القصر ،قالت وىي تفتح الباب:
ػ ىذه غرفة أحبلـ..
أحسست بروحيا ترفرؼ في المكاف ..فتحرؾ في أعماقي شوؽ يتمظى ..وتدحرجت فوؽ وجيي دمعتاف ،طاؼ
الحزف والتأثر في عينييا ،وىي ترى دموعي ،قالت وىي تصارع أمواج البكاء المتبلطمة تحت مبلمحيا اليادئة
الكئيبة:
ػ إني أزور غرفتيا كؿ صباح ..أناجي صورتيا الجميمة ،وأعانؽ أشياءىا ..أبحث عف رائحتيا الطيبة في األثاث
والجدراف ،وأتأمؿ تمؾ الموحة العزيزة عمييا..
التفت إلى الخمؼ حيث أشارت والدة أحبلـ ،فطالعتني لوحة رائعة فجرت ينابيع الحزف والحسرة في نفسي ..ىذا
ىو قاضي األطفاؿ ،وىو يقؼ عمى غيمة العدالة ،ويشير بإصبع االتياـ إلى الكبار الذي شوىوا أرواح الصغار
ولوثوىا ،لقد وعدتني أف ترسـ ىذا المشيد عندما حدثتيا عف الحمـ الغريب الذي رأيتو ليمة مجزرة باص
األطفاؿ! ..ما أصدؽ ىذه الموحة وأقربيا إلى ما رأيتو في الحمـ ،لكأف روحينا كانتا معا في حمـ واحد!..
قالت والدة أحبلـ ،وىي تمسح إطار الموحة بأنامميا في رفؽ بالغ:
ػ لقد نالت ىذه الموحة إعجابا منقطع النظير ،فتيافت الجميور عمى شرائيا ،وقد دفع بيا أحد الزوار األجانب
مبمغا طائبل يفوؽ ثمف كؿ ما باعتو أحبلـ مف لوحات ،لكنيا اعتذرت لو ،وقالت :ىذه الموحة ذكرى ،وأنا ال
أبيع ذكرياتي..
خفؽ قمبي وأنا أصغي لوالدة أحبلـ ..أحبلـ أيتيا الحبيبة الغائبة ..كـ أنت وفية وعظيمة! ..وأردفت والدة أحبلـ:
ػ كنت اليوـ قد أنزلت الموحة ألوؿ مرة ألرفع عنيا ما لحؽ بيا مف غبار ،فقرأت خمؼ الموحة عبارة غريبة أردت
أف أطمعؾ عمييا..
أثارتني ىذه المبلحظة ..ماذا تركت أحبلـ مف آثار؟!..
تناولت الموحة في ليفة وقمبتيا ،فقرأت عمييا ىذه الكممات..
"ىذه الموحة ذكرى عزيزة لمرجؿ الوحيد الذي أحببتو في حياتي ،فإذا مت أو فارقت ىذا العالـ ،فادفعوا بيا إلى
الدكتور صبلح الحكيـ ،ألنو ىو الرساـ الحقيقي ليذه الموحة ،وىو مبدعيا األوؿ ...أحبلـ.."..
تأممت كمماتيا بعينيف دامعتيف ،وقمب مكموـ ..متى تعودي أيتيا الغالية ،وتمؤلي حياتنا باألفراح؟
قالت األـ في قمؽ ووجوـ:
ػ أال يوحي لؾ ىذا الكبلـ بشيء..
فيمت ما أرادتو األـ ..ال يمكف أف تقدـ أحبلـ عمى االنتحار ..امرأة تممؾ كؿ ىذا النبؿ ال يمكف أف تعتدي عمى
الحياة ،ولو كانت ىذه الحياة حياتيا التي تمور بيف جنبييا ،وقمت بنبرة مطمئنة:
ػ أبعدي عف بالؾ ىذه األفكار يا خالة ..أحبلـ إنسانة تحب الحياة ،لكنيا ترفض األسموب الذي نحياىا بو ..ليذا
غادرتنا ..عندما نغير الطريقة التي نمارس بيا حياتنا ستعود إلينا أحبلـ ..كوني واثقة مف أنيا ستعود..
الفصؿ األخير