Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 201

‫الفصل األول‬

‫عندما رأيتيا خفؽ قمبي بعنؼ ‪ ،‬وانبعثت الحياة في روحي دفعة واحدة ‪ ،‬وكأني طفؿ يولد اآلف‪..‬‬
‫إنيا ىي‪!..‬‬
‫إنيا أحبلـ‪!..‬‬
‫روحيا التي تشعشع حوليا أيقظت روحي ‪ ،‬وصوت خطواتيا الواثقة التي تطرؽ الرصيؼ في وقار تنساب إلى‬
‫سمعي كاإليقاع‪..‬‬
‫لقد عادت أحبلـ‪..‬‬
‫عادت إلى المدينة التي ىجرتيا ‪ ،‬عادت إلى الناي الذيف آمنوا بيا ‪ ،‬وأحبوىا‪..‬‬
‫كما يعود الصبح بعد ليؿ حالؾ‪..‬‬
‫كما تشرؽ الشمس يعد خريؼ طويؿ‪..‬‬

‫وانبثؽ األمؿ في أعماقي كمارد خرج لتوه مف قمقو الضيؽ ليعدني ببقية سعيدة ليذا العمر البائس الذي قضيتو‬
‫وأنا أعدو خمؼ أحبلـ‪..‬‬

‫وتحركت في القمب أشواؽ ظمأى ‪ ،‬وجعمت ترفرؼ بأجنحة رشيقة مف الفرح حتى كادت تحممني إلى فضاء بييج‪..‬‬
‫وانطمقت خمؼ أحبلـ بخطوات ليفى ‪ ،‬وأرسمت نحوىا النداء تمو النداء‪..‬‬
‫_أحبلـ ‪ ..‬توقفي يا أحبلـ‪..‬‬
‫لـ تقؼ! لـ تنتبو!‪ ..‬صوتي المبحوح لـ يبمغ أذنييا ‪ ،‬ومضت بخطواتيا الواثقة وجبلليا القديـ ‪ ،‬وتابعت طريقيا‬
‫دوف أف تمتفت‪!..‬‬
‫كررت النداء غير عابئ بالعيوف التي حاصرتني متسائمة أو مستنكرة ‪ ،‬ودفعت خطواتي خمؼ النداء لتمحؽ بيا ‪..‬‬
‫أردت أف أمسؾ بيا قبؿ أف تضيع مني كما ضاعت أوؿ مرة ‪ ،‬قبؿ أف تنسؿ كالشعاع ‪ ،‬ناديتيا بحرقة المميوؼ‬
‫ولوعة المشتاؽ ‪ ،‬لكف ندائي أخفؽ مرة أخرى في إيقافيا‪..‬‬
‫ال أصدؽ أنيا ال تسمعني وخطواتيا تطرؽ سمعي كصوت المطر عندما يدؽ أبواب األرض؟‪!..‬‬

‫تميمت قميبل ‪ ..‬ىؿ تتجاىمني ؟ أـ أنيا وارتني حمؼ جدراف النسياف!‪ ..‬ولسعني خاطر كالعقرب ‪ ..‬لعميا‬
‫تزوجت‪!.‬‬
‫لعؿ قمبيا قد اتصؿ بقمب رجؿ آخر ‪ ،‬فألغت كؿ إحساس بالغيرة‪!!..‬‬
‫وأليبت خطواتي بسياط الذعر والقمؽ بجنوف ‪ ،‬فاندفعت خمفيا أصدـ ىذا وأتجنب تمؾ‪..‬‬
‫‪-‬أحبلـ‪ ..‬توقفي يا أحبلـ‪ ..‬أنا صبلح‪.‬‬
‫تجاىمتني!‪ ..‬أو أنيا لـ تسمعني!‪ ..‬لعميا ساىمة ذاىمة عما حوليا ‪ ،‬تنبش الذكريات القديمة ‪ ،‬وتبحث فييا عف‬
‫قصص عاشتيا في ىذه المدينة ‪ ،‬وأطياؼ عايشتيا عبر رحمة الحب والعذاب التي أرىقت قمبيا المرىؼ الرقيؽ أو‬
‫أنيا تستخرج حبيا الخالص مف تحت أنقاض الماضي ‪ ،‬لتنفض عنو غبار السنيف ‪ ،‬وتقدمو لي طاى ار متوىجا‬
‫عميقا كما كاف‪..‬‬
‫وحثثت الخطا خمفيا حتى أدركيا ‪ ،‬ناديتيا بنبرة تقطر ليفة وشوقا‪..‬‬
‫إلي كالتي بوغتت ‪ ،‬ورمقتني بنظرات يعيث فييا التساؤؿ واإلنكار‪!..‬‬
‫التفتت َّ‬
‫شعرت فجأة وكأني أىوي مف شاىؽ إلى ببل قرار ‪ ،‬والنقبض قمبي فسحؽ بيف جدراف كؿ ما انبثؽ فيو مف آماؿ ‪،‬‬
‫واستحالت الفرحة الوشيكة دموعا تزدحـ في عينيف زائعتيف‪!..‬‬
‫إنيا ليست ىي ‪ ،‬إنيا ليست أحبلـ!!‬

‫رفعت الفتاة التي كنت أسعى خمفيا حاجبييا دىشة وحيرة ‪ ،‬وتحولت نظراتيا مف اإلنكار إلى الرثاء ‪ ،‬وىي ترى‬
‫ليفتي تتحوؿ إلى كآبة عميقة ‪ ،‬ىمست في إشفاؽ‪:‬‬
‫‪-‬سيدي ىؿ تشكو مف شيء؟‪..‬‬
‫حاولت أف أعتذر ‪ ،‬أو أوضح ليا سبب ما حصؿ ‪ ،‬لكف لساني المثقؿ بالخيبة خانني ‪َّ ،‬‬
‫لكأف الماجأة المرة قد‬
‫أصابتو بالشمؿ‪!..‬‬
‫وأدركت الفتاة أف في األمر خطأ غير مقصود ‪ ،‬فيزت كتفييا بغير اكتراث ‪ ،‬ومضت في طريقيا ‪ ،‬وتركتني‬
‫ساىما غارقا في الحسرة واأللـ‪..‬‬
‫ووقفت جامدا كتمثاؿ ‪ ،‬أرمؽ الفراغ بعينيف ذاىمتيف ‪ ،‬فجعؿ المارة يعجبوف لوقوفي وجمودي ‪ ،‬ويتنحوف عني كما‬
‫يتنحوف عف جسـ ميمؿ ممقى عمى قارعة الطريؽ‪!..‬‬
‫واستيقظت مف ذىمتي عمى صوت طفمة متسولة تشدني مف يدي في إلحاح ‪ ،‬وىي تسألني أف أحسف لو بشيء‪..‬‬
‫انتزعت نفسي مف ثبلجة الذىوؿ ‪ ،‬ودسست يدي في جيبي ‪ ،‬فأخرجت قطعة نقدية صغيرة ‪ ،‬وألقيتيا في يد الطفمة‬
‫فالتقطتيا فرحة ‪ ،‬وانطمقت تعدو‪..‬‬
‫وركبني إحساس ثقيؿ بأني ضائع ببل غاية‪ ..‬متشرد ببل مأوى‪ ..‬تائو ببل جذور‪ ..‬وىمت عمى وجيي في دروب‬
‫المدينة ألوؾ خيبتي وحزني‪..‬‬
‫وفردت خواطري أشرعة الذكرى ‪ ،‬فأبحرت في خضـ السنيف لترسو عمى شاطئ بعيد ‪ ..‬ووجدتني أغوص في‬
‫الماضي ‪ ،‬وكأني أق أر سطوره في كتاب مفتوح أمامي‪..‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫‪..‬كنا ثبلثة‪ ...‬أنا ‪ ،‬وىاني ‪ ،‬وأحبلـ‪ ..‬وكاف قدرنا أف نجتمع بعد التخرج في مستشفى ابف النفيس الذي كاف‬
‫يستقطب المتفوقيف مف األطباء‪..‬‬
‫كنا يوميا مندفعيف متحمسيف لممينة التي أحببناىا وآمنا بيا ‪ ،‬وكنا نقبؿ عمى العمؿ بمتعة بالغة ‪ ،‬فنقوـ بـ يطمب‬
‫ون ْقدـ عمى أصعب الحاالت ‪ ،‬لنصقؿ خبراتنا ‪ ،‬ونحقؽ ذواتنا ‪ ،‬ونثبت قدراتنا كأطباء‬
‫منا ‪ ،‬وما ال يطمب ‪ُ ،‬‬
‫متميزيف‪..‬‬
‫وذات ليمة مف ليالي الشتاء البارد ‪ ،‬كانت نوبتنا ػ نحف الثبلثة ػ في قسـ الطوارئ ‪ ،‬وكاف ليمة حافمة فمـ نخمد إلى‬
‫الراحة إال في الساعة الخامسة صباحا ‪ ،‬فاتجيت أنا وىاني إلى غرفة األطباء المقيميف ‪ ،‬وذىبت الدكتورة أحبلـ‬
‫إلى غرفة الطبيبات المقيمات‪.‬‬

‫كنت في حالة إرىاؽ شديد ‪ ،‬فمنيت نفسي النفس بساعة مف النوـ أتخفؼ خبلليا مف التعب واإلجياد ‪ ،‬ألسمح‬
‫بعدىا لياني بقسط مماثؿ ‪ ،‬لكف ىاني ػ كعادتو ػ وضعني أماـ األمر الواقع ‪ ،‬وأسرع فألقى بنفسو فوؽ السرير ‪،‬‬
‫وراح في نومو غير عابئ بمحاوالتي إلثنائو‪.‬‬
‫وسمعت شخير ىاني يتعالى ‪ ،‬فأدركت أنو لـ يعد لي خيار ‪ ،‬وكاف البد أف أبقى مستيقظا ‪ ،‬استعداد لكؿ طارئ‪.‬‬

‫وغالبني النوـ بقوة ‪ ،‬فيربت مف النعاس إلى القراءة ‪ ،‬فمـ تنجدني ‪ ،‬فمذت بالماء البارد ‪ ،‬وغسمت وجيي‪.‬‬
‫شعرت بشيء مف النشاط ‪ ،‬لكف منظر ىاني النائـ بجواري ‪ ،‬كاف يوىف عزيمتي ‪ ،‬ويحبط طؿ محاوالتي لمقاومة‬
‫النعاس‪.‬‬
‫"ليس أفضؿ مف قيوة العـ درويش‪".‬‬
‫عيني بشدة ‪ ،‬ثـ حممت جياو اإلنذار الذي ينقؿ إلينا عادة نداءات الطوارئ ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ىكذا قمت في نفسي ‪ ،‬وأنا أفرؾ‬
‫ومضيت إلى العـ درويش أنشد قيوتو الساخنة المذيذة‪.‬‬
‫وصمت إلى بداية الممر الذي يقوـ في نيايتو مقصؼ المستشفى المتواضع ‪ ،‬فممحت الدكتورة أحبلـ وىي تجمس‬
‫شارة ساىمة ‪ ،‬وقد نزلت مثمي لتدفف أرقيا عند العـ درويش نادؿ المقصؼ‪..‬‬
‫وارتحت لوجود أحبلـ ‪ ،‬لكني قررت بيني وبيف نفسي ‪ ،‬أال أترؾ ارتياحي يتمادى في الظيور ‪ ،‬ألكثر مف‬
‫سبب‪!..‬‬
‫ألقيت عمييا تحية الصباح ‪ ،‬وقمت ليا وأنا أرقب خيوط الفجر وىي تسمؿ مف نافذة قريبة‪:‬‬
‫‪-‬لـ أتوقع أف أجدؾ ىنا ‪ ،‬لو كنت مكانؾ لخمدت إلى النوـ بعد ليمة متعبة‪.‬‬
‫تساءلت في مرح‪:‬‬
‫‪-‬لماذا لـ تنـ إذا كنت متعبا إلى ىذا الحد؟!‬
‫‪-‬أناـ؟ وىؿ يترؾ ىاني دو ار ألحد؟‬
‫ابتسمت وقالت‪:‬‬
‫‪-‬عبلقتؾ بياني تثير دىشتي واعجابي في آف واحد!‬
‫‪-‬لـ أفيـ!‬
‫‪-‬أنت وىاني نقيضاف في الشخصية ‪ ،‬مختمفاف تماما في األفكار والطباع!‬
‫قمت ليا منك ار‪:‬‬
‫‪-‬ال‪ .‬ال‪ .‬ليس إلى ىذا الحد ‪ ،‬أنت تبالغيف بعض الشيء‪.‬‬
‫عمقت تدافع عف وجية نظرىا‪..‬‬
‫‪-‬قد أكوف مبالغة ‪ ،‬لكنكما تبدواف لي ىكذا‪..‬‬
‫‪-‬ومع ىذا نثير إعجابؾ‪!..‬‬
‫‪-‬ما يثير إعجابي ىو عبلقة الود والصداقة التي تجمعكما ‪ ،‬فألمحيا في أحاديثكما معا ‪ ،‬وفي دعابتكما الطريفة‬
‫التي أستمتع بمتابعتيا‪..‬‬
‫‪-‬نحف نجماف مضحكاف إذف‪!!.‬‬
‫ضحكت وىي تشيح بيدىا معتذرة ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫‪-‬عفوا لـ أقصد ‪ ،‬إنما أردت أف أقوؿ إف عبلقتكما مف العبلقات المطيفة التي أحبذىا بيف األصدقاء‪..‬‬
‫قمت وأنا أقاوـ التثاؤب الذي داىمني فجأة‪:‬‬
‫‪-‬أنا وىاني صديقاف قديماف ‪ ،‬قضينا المرحمة الثانوية في مقعد واحد‪ ،‬ودخمنا كمية الطب معا ‪ ،‬وىا نحف نعمؿ‬
‫ىنا معا ‪ ،‬جمعت بيننا اآلماؿ والذكريات المطيفة ‪ ،‬فتوطدت بيننا صحبة حميمة ‪ ،‬نحف مختمفاف نعـ لكف الود‬
‫بيننا استطاع أف يطفو فوؽ كؿ خبلؼ‪..‬‬
‫وداىمني التثاؤب‪..‬‬
‫‪-‬لقد شغمنا الحديث ‪ ،‬ونسيت أف أطمب شيئا يساعدني عمى مقاومة النعاس‪.‬‬
‫والتفت إلى العـ درويش‪:‬‬
‫‪-‬أبف قيوتؾ يا عـ درويش؟ أدركني بفنجاف مف قيوتؾ السحرية المذيذة‪..‬‬
‫أفاؽ العـ درويش مف كبوة قد ألمت بو ‪ ،‬وىتؼ وىو ينيض في نشاط‪:‬‬
‫‪-‬تكرـ عينؾ يا دكتور ‪ ،‬سوؼ أصنع لؾ فنجانا لف تنسى طعمو أبد الدىر‪.‬‬
‫ثـ تابع بميجتو المرحة الغنية بالطيبة‪:‬‬
‫‪-‬قيوة عمؾ درويش ماركة عالمية ال تضاىى‪..‬‬
‫قالت أحبلـ وىي ترنو إلى العـ درويش في ود‪:‬‬
‫‪-‬العـ درويش فخور بقيوتو!‬
‫وأردفت‪:‬‬
‫‪-‬ىذا الرجؿ ‪ ،‬كـ ىو طيب ولطيؼ!‬
‫كانت أحبلـ تحب العـ درويش كثي ار ‪ ،‬لـ تكف وحدىا تحبو ‪ ،‬كمنا كنا نحبو ونرتاح إليو‪ ..‬حتى الدكتور مأموف‬
‫صاحب المستشفى وجراح القمب المشيور ‪ ،‬كاف كثي ار ما ييرب مف أعبائو إلى مقصؼ العـ درويش ‪ ،‬ليجمس‬
‫معو ‪ ،‬يبثو ىمومو ومشاكمو ‪ ،‬ويستمتع بأحاديثو المطيفة التي تنساب إلى النفس في رفؽ ‪ ،‬وتمسح آالميا كالبمسـ‪.‬‬
‫في شخصيتو جانب مريح لطالما اختمفنا في تفسيره ‪!..‬البعض كاؾ يقوؿ‪ :‬بساطتو ‪ ،‬آخروف كانوا يقولوف‪:‬‬
‫طيبتو‪..‬‬
‫أحبلـ كانت تقوؿ بأنو إنساف عاطفي يممؾ حسا مرىفا يستطيع مف خبلؿ تعابير وجيؾ ‪ ،‬ونظرات عينيؾ‪!..‬‬
‫ىاني كاف يقوؿ مازحا‪ :‬بأنو رجؿ يممؾ الحاسة العاشرة ويقصد الحاسة السادسة طبعا‪.‬‬
‫أما أنا فأعتقد أف الجانب المريح في شخصية العـ درويش ‪ ،‬جانب مركب‪ ..‬إنو مزيج مف الطيبة والبساطة‬
‫والصراحة الظرافة‪ ..‬مزيج لطيؼ قد أضيؼ إليو ذكاء فطري حاد ‪ ،‬صقمتو السنوف ‪ ،‬وزادتو تجاربيا قدرة عمى فيـ‬
‫الناس والتقاط إحساساتيـ الخفية ‪ ،‬ثمة شيء آخر كاف يجعؿ العـ درويش أشد إحساسا باآلخريف ‪ ،‬إنو المعاناة ‪،‬‬
‫فالعـ درويش يعاني مف عدـ اإلنجاب ‪ ،‬تؤرقو األبوة الجائعة إلى األطفاؿ ‪ ،‬كانوا يقولوف‪ :‬إف امرأتو ىي السبب ‪،‬‬
‫وىكذا كانوا يقولوف دائما عندما كاف العقـ يضرب أسرة ما‪!..‬‬

‫قالت أحبلـ فجأة بصوت كاليمس‪:‬‬


‫‪-‬ما رأيؾ بالعـ درويش؟‬
‫‪-‬إنساف طيب‪.‬‬
‫‪-‬لو أنو أنجب ‪ ،‬لشعر أبناؤه بدؼء وحناف لـ يبذلو أب ألبنائو!‬
‫‪-‬الحرماف يبعث في النفس رقة فريده‪.‬‬
‫صمتت مميا ثـ قالت‪:‬‬
‫‪-‬ىؿ أبوح لـ بشيء؟‬
‫‪-‬تفضمي‪...‬‬
‫ترددت قميبل ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫‪-‬أحيانا أتمنى لو كاف العـ درويش أبي‪!..‬‬
‫أدىشتني كمماتيا ‪ ،‬وحرت في تفسيرىا ‪ ،‬ووجدتني أسأليا ألوؿ مرة‪:‬‬
‫‪-‬أليس الوالد عمى‪.....‬‬
‫‪-‬بمى ‪ ..‬إنو حي يرزؽ‪..‬‬
‫‪-‬عذ ار ‪ ..‬كبلمؾ أوحى لي بالسؤاؿ‪!..‬‬
‫ابتسمت في سخرية وقالت‪:‬‬
‫‪-‬ال يكفي لؤلب أف يكوف أبا ‪ ،‬أف يكوف عمى قيد الحياة‪!.‬‬
‫كبلميا غامض وحزيف ‪ ،‬أحسست أنيا تمر بأزمة‪!.‬‬
‫‪-‬تبديف متعبة‪!.‬‬
‫‪-‬أبدا‪.‬‬
‫بإمكانؾ أف تنامي إذا ِ‬
‫أردت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬ىؿ يضايقؾ وجودي؟‬
‫لسعني سؤاليا ‪ ،‬أجبت كمف يدافع عف نفسو‪:‬‬
‫‪-‬أبدا‪ ..‬أبدا‪ ..‬كؿ ما في األمر أني أريد راحتؾ‪.‬‬
‫‪-‬ليت النوـ يريح ‪ ،‬لنمت ليؿ نيار‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫لست سعيدة فيما أرى‪!.‬‬
‫‪-‬أنت عمى حؽ‪.‬‬
‫‪-‬غريب‪!!.‬‬
‫‪-‬فيـ الغرابة؟‬
‫‪-‬مبمغ عممي أنؾ تممكيف أسباب السعادة‪.‬‬
‫‪-‬تقصد الماؿ والثروة؟‬
‫‪-‬مثبل‪.‬‬
‫صمتت وأطرقت ‪ ،‬وزحفت الكآبة إلى عينييا‪ .‬قالت في م اررة‪:‬‬
‫‪-‬عندما ال يممؾ اإلنساف ماال ‪ ،‬يظف أف السعادة تكمف في الماؿ والقصر والسيارة‪ ..‬لكنو عندما يمتمؾ كؿ ىذه‬
‫الوسائؿ ال يجد السعادة فييا ‪ ،‬يشعر بالخيبة ‪ ..‬يشعر بالغربة ‪ ..‬يفقد ثقتو بالحياة ‪ ،‬وليذا ينتحر بعض الناس‪...‬‬
‫حديثيا عف االنتحار لـ يرحني! ساورني القمؽ ‪ ..‬ألوؿ مرة أراىا بيذه الكآبة ‪ ،‬وىذا الحزف!‪ ..‬وأردت أف أخفؼ‬
‫عنيا ‪ ،‬لكني لـ أعرؼ ماذا أقوؿ؟‪!!..‬‬
‫وأقبؿ العـ درويش بقيوتو الشيية وىو يختاؿ ‪ ،‬وما كاد يضعيا أمامي حتى أطمؽ جياز اإلنذار إشارات متقطعة‬
‫تدعونا لبللتحاؽ بعيادات الطوارئ فيرعنا نمبي ‪ ،‬وكؿ غارؽ في أفكاره وأس ارره‪!..‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫عندما وصمنا إلى قسـ الطوارئ ‪ ،‬صدـ أسماعنا صوت بكاء شديد لطفؿ ‪ ،‬وتعمقت نظراتنا بشرطي يحتضف طفبل‬
‫ممفوفا بغطاء صوفي فد اتسخت بعض جوانبو بالطيف‪!..‬‬
‫تبادلت مع الدكتورة أحبلـ نظرة ‪ ،‬ثـ بادرت الشرطي بالسؤاؿ‪:‬‬
‫ػ خي ار‪.‬‬
‫تقدـ الشرطي خطوات وقاؿ‪:‬‬
‫ػ لقد وجدنا ىذه الطفمة ممقاة في حديقة مسجد اإلخبلص ‪ ،‬وجدىا أحد المصميف وىو خارج مف صبلة الفجر ‪،‬‬
‫وأحضرىا إلى قسـ الشرطة ‪ ،‬وقد أرسمت بيا لتفحصوىا وتعدوا تقري ار عف حالتيا الصحية ‪ ،‬ثـ تحولوىا عمى ممجأ‬
‫الحناف لؤليتاـ‪..‬‬
‫صدمني منظر الطفمة المقيطة ‪ ،‬وثقب صوت بكائيا الشديد فؤادي ‪ ،‬فشعرت بالحزف يتسرب إلى أقصى أعماقي ‪،‬‬
‫أما أحبلـ ‪ ،‬فقد طغى عمييا التأثر واالنفعاؿ ‪ ،‬فمـ تممؾ دموعيا التي انسابت في صمت‪..‬‬
‫تناولت أحبلـ الطفمة ‪ ،‬فضمتيا إلى صدرىا ‪ ،‬وراحت تيدىدىا حتى تسكت وتيدأ ‪ ،‬ثـ أمرت إحدى الممرضات‬
‫بتنظيفيا ‪ ،‬وشرعت بإجراء الفحوصات البلزمة ليا‪.‬‬
‫ووقفت أرقب الطفمة المقيطة في إشفاؽ‪ ..‬كانت طفمة وديعة جميمة ‪ ،‬ورثت عف أبوييا براعـ جماؿ باىر بدت‬
‫طبلئعو في شعرىا الذىبي ‪ ،‬وعينييا الزرقاويف ‪ ،‬ومحجرييا الواسعيف ‪ ،‬وبشرتيا الناعمة البيضاء وقسماتيا الدقيقة‬
‫المنسقة‪..‬‬
‫ولفت نظري شيء ميـ ‪ ،‬فسألت الدكتورة أحبلـ‪:‬‬
‫ػ كـ تقدريف وزف الطفمة؟‬
‫ػ إني أدرؾ ما تفكر بو‪ ..‬وزنيا ومبلمحيا يدالف عمى أف عمرىا يبمغ بضعة أشير‪.‬‬
‫ػ ىذا ما الحظتو فعبل ‪ ،‬إنيا لـ تولد لمتو كما يبدو‪!..‬‬
‫ػ لقد تأخروا بوأد الفضيحة‪!..‬‬
‫قمت وأنا غارؽ في الشرود‪:‬‬
‫ػ وراء ىذه الطفمة سر غامض أتمنى لو أكتشفو‪!..‬‬
‫ػ العالـ مميء باألسرار‪..‬‬
‫ػ لو كنت حاكما يممؾ ناصية األمور ‪ ،‬ألمرت بإعداـ أبوييا فو ار‪..‬‬
‫تمتمت أحبلـ وىي تضع الطفمة في الميزاف‪:‬‬
‫ػ لـ يعد الناس يفكروف إال بجيوبيـ وغرائزىـ‪!..‬‬
‫وأحضرت إحدى الممرضات طعاـ الطفمة ‪ ،‬فجعمت أحبلـ تطعميا ‪ ،‬بينما كنت موغبل في التأمؿ ‪ ،‬أفكر في‬
‫مستقبؿ طفمة فقدت جذورىا ‪ ،‬لتنمو وحيدة وسط رياح الحياة العاتية ‪ ،‬عرضة لمشقاء والضياع ‪ ،‬ولمعت في‬
‫خاطري مقارنة طريفة بيف أطفاؿ ربتيـ الوحوش في الغابة ‪ ،‬وبيف بشر يتخموف عف أطفاليـ بيذه السيولة‬
‫والبشاعة التي تترفع عنيا الوحوش‪..‬‬
‫وأثارني الحادث إلى حد الكآبو ‪ ،‬فغمى الغضب في عروقي ‪ ،‬وشعرت أماـ ضميري بأني مطالب بشيء أقوـ بو‬
‫مف أجؿ ىذه الطفمة البريئة ‪..‬مكمؼ بميمة خاصة تخولني مبلحقة الجناة ‪ ،‬وبدأت أسعى وراء التفاصيؿ‪..‬‬

‫كاف الشرطي الذي أحضر الطفمة ما زاؿ ينتظر ‪ ،‬فتقدمت منو ‪ ،‬وسألتو بعض األسئمة ‪ ،‬فشرح لي كؿ الظروؼ‬
‫إلي معمومة ميمة زادت القصة إثارة‪!..‬‬
‫التي أحاطت بالعثور عمى الطفمة المقيطة ‪ ،‬وأضاؼ َّ‬
‫قاؿ الشرطي ‪ :‬لقد وجدنا مع الطفمة مبمغا مف الماؿ ‪ ،‬وضعو الذيف تخموا عنيا في كيس مف القماش ‪ ،‬وعمقوه في‬
‫رقبتيا‪!..‬‬
‫مبمغ مف الماؿ؟!‪ ..‬وىؿ تحركت في قمب الذيف تخموا عف الطفمة بقية مف عاطفة أو ضمير ‪ ،‬فتركوا لمطفمة ما‬
‫يساعد مف يعثر عمييا عمى االعتناء بيا؟‪!..‬‬
‫أـ أف وراء ىذه الطفمة قصة أعمؽ مف حادثة تقميدية لوليدة لقيطة تخمى عنيا الجناة خوفا مف الفضيحة؟‪!..‬‬
‫واقتحمت إحدى الممرضات أفكاري فجأة ‪ ،‬لتنبيني إلى حالة جديدة فد وردت إلى قسـ الطوارئ ‪ ،‬وىي تشير إلى‬
‫امرأة شابة تقؼ لدى الباب ‪ ،‬وتتمفت حوليا وكأنيا تبحث عف شيء‪!..‬‬

‫الفصل الرابع‬

‫ػ تفضمي‪..‬‬
‫ػ يدي يا دكتور‪..‬‬
‫ػ ما باليا؟‪..‬‬
‫ػ مجروحة‪..‬‬
‫ػ أرني‪..‬‬
‫بسطت المرأة راحة كفيا األيسر أمامي ‪ ،‬فوجدتيا قد أصيبت بجرح بسيط ‪ ،‬سألتيا في حيرة‪:‬‬
‫ػ ىؿ جئت مف أجؿ ىذا الجرح؟‪!..‬‬
‫أجابت في تمعثـ ‪ ،‬وعيناىا تجوباف أرجاء المكاف‪:‬‬
‫ػ أجؿ ‪ ،‬لقد خشيت أف يؤثر النزيؼ عمى صحتي ‪ ،‬فأنا مريضة‪..‬‬
‫ػ مريضة؟!‪ ..‬بماذا؟!‬
‫ػ أقصد صحتي سيئة‪..‬‬
‫تأممتيا جيدا ‪ ،‬كانت امرأة في العشرينات مف العمر ‪ ،‬وصحتيا الظاىرة جيدة ‪ ،‬بؿ إف جسميا يميؿ إلى االمتبلء‬
‫‪ ،‬فأي سوء في الصحة تقصد؟‬
‫وخطر لي أنيا مريضة نفسية مصابة بالوىـ والوسوسة ‪ ،‬وقد ىرعت إلى المستشفى مذعورة ‪ ،‬عندما رأت بضع‬
‫قطرات مف الدـ تسيؿ مف يدىا الجريحة ‪ ،‬وخطر استمرار النزيؼ ‪ ،‬فجاءت إلى المستشفى تنشد المساعدة‪..‬‬
‫سألتيا وأنا أبمؿ قطعة مف القطف المعقـ بالكحوؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ سبؽ أف أصبت بمرض دموي‪.‬‬
‫ػ ال‪.‬‬
‫ػ مرض نفسي؟‬
‫ػ أبدا‪.‬‬
‫ػ يبدو أنؾ كثيرة الوىـ‪!..‬‬
‫لـ تكترث بمبلحظتي ‪ ،‬تركت يدىا في يدي ألعالج جرحيا ‪ ،‬وراحت ترنو إلى الطفمة المقيطة بنظرات الح فييا‬
‫اإلشفاؽ ‪ ،‬لـ أحفؿ بنظراتيا ‪ ،‬فالذي يمارس مينة الطب ‪ ،‬يستطيع أف يدرؾ معنى الفضوؿ الذي يطؿ مف عيوف‬
‫الناس عندما يزوروف عيادات الطوارئ‪..‬‬
‫ولفتت نظري مبلحظة طريفة!‪ ..‬سألتيا وأنا أتأمؿ الجرح الذي يمتد عبر راحة كفيا األيسر‪:‬‬
‫ػ بأي شيء جرحت يدؾ‪.‬‬
‫كانت ذاىمة عني غارقة في الشرود ‪ ،‬ونظراتيا مازالت معمقة بالطفمة‪..‬‬
‫أعدت عمييا السؤاؿ فانتبيت وأجابت في ارتباؾ واضح‪:‬‬
‫ػ آه ‪ ،‬جرحتيا ‪ ...‬جرحتيا بسكيف‪..‬‬
‫تعجبت ليذه السكيف الكميمة التي يمكف أف تحدث مثؿ ىذا الجرح ‪ ،‬فالمعروؼ أف األدوات الحادة مثؿ الشفرات‬
‫والسكاكيف تحدث جرحا مستقيما منتظـ الحواؼ ‪ ،‬أما جرح يدىا فكاف مشرش ار ‪ ،‬وكأنو قد أحدث بأداة كميمة ‪،‬‬
‫كرأس مسمار أو‪...‬‬
‫عمي الفضوؿ‪:‬‬
‫سألتيا ثانية وقد استولى َّ‬
‫ػ ماذا كنت تعمميف في ىذا الوقت المبكر‪.‬‬
‫أجابت بميجة أكثر تماسكا‪:‬‬
‫ػ كنت أعمؿ في المطبخ‪..‬‬
‫ػ في المطبخ؟‪!..‬‬
‫ػ أجؿ‪.‬‬
‫ػ ىؿ أنت عاممة في فندؽ؟‪..‬‬
‫ػ بؿ ربة منزؿ‪.‬‬
‫تساءلت في سري عف السبب الذي يدعوىا لمعمؿ في المطبخ بعيد الفجر بقميؿ!‪ ..‬خمنت أنيا زوجة عامؿ مف‬
‫الذيف ينطمقوف إلى أعماليـ مبكريف‪..‬‬
‫في الحقيقة لوال مظيرىا القمؽ ‪ ،‬لما تماديت في األسئمة ‪ ،‬ذلؾ القمؽ أثار فضولي ‪ ،‬ليس القمؽ وحده ‪ ،‬كانت‬
‫حزينة أيضا‪..‬‬
‫وفاجأتني بسؤاؿ أثار انتباىي ‪ ،‬قالت‪:‬بينما كنت أحكـ ربط الضماد حوؿ يدىشة‪:‬‬
‫ػ ما ىو مرض تمؾ الطفة؟‪..‬‬
‫تساءلت في دىشة‪:‬‬
‫ػ طفمة؟! ما أدراؾ أنيا طفمة‪!..‬‬
‫بوغتت بالسؤاؿ ‪ ،‬ابتسمت وقالت‪:‬‬
‫ػ مجرد تعبير عفوي ‪ ،‬ىؿ ىي طفمة حقا؟‪!..‬‬
‫ػ ىي طفمة فيبل ‪ ،‬لكف ما الذي دفعؾ لبلعتقاد بأنيا طفمة؟‪!..‬‬
‫ػ قمت لؾ لـ أقصد ‪ ،‬كؿ ما في األمر أف النساء عادة يميموف لتأنيث األشياء ‪ ،‬مثمما يميؿ الرجاؿ لتذكيرىا‪..‬‬
‫ػ ىؿ أنت جامعية؟‪..‬‬
‫كنت طالبة في كمية اآلداب ‪ ،‬لكني لـ أتـ تعميمي‪..‬‬
‫قمت ليا بعد أف انتييت مف تضميد جرحيا‪:‬‬
‫ػ سأكتب لؾ بعض المضادات الحيوية لوقاية الجرح مف االلتياب‪.‬‬
‫قالت وكأنيا تريد أف تتخمص مني‪:‬‬
‫ػ ال‪ .‬ال داعي ‪ ،‬أنا بخير اآلف‪..‬‬
‫نظرت إلييا في دىشة‪..‬‬
‫ػ ال داعي‪!..‬‬
‫وانتبيت لنفسيا‪:‬‬
‫ػ اكتب ما تراه مناسبا‪.‬‬
‫وانتظرتني ريثما كتبت الوصفة ‪ ،‬ثـ تناولتيا ‪ ،‬ومضت مسرعة‪!..‬‬

‫الفصل الخامس‬

‫انتيت الدكتورة أحبلـ مف معالجة الطفمة ‪ ،‬وكتبت تقري ار مفصبل حوؿ حالتيا الصحية ‪ ،‬أبمغت الشرطي الذي‬
‫حممتو التقرير ‪ ،‬بأف الطفمة بحاجة إلى بعض الرعاية قبؿ تحويميا إلى الممجأ‪..‬‬
‫َّ‬
‫كانت آثار الحزف واإلرىاؽ بادية عمييا ‪ ،‬جمست كالمنيكة ‪ ،‬وأطرقت في كآبة ‪ ،‬ثـ راحت في تأمؿ عميؽ‪..‬‬
‫قمت ليا‪:‬‬
‫ػ بإمكانؾ أف ترتاحي إذا ِ‬
‫أردت‪..‬‬
‫ىمست بنبرة واىنة‪:‬‬
‫ػ اذىب أنت ‪ ،‬سأبقى ىنا حتى نياية الدواـ‪.‬‬
‫ػ كيؼ حاؿ الطفمة؟‬
‫ػ تشكو مف بعض المغص ‪ ،‬البرد أثر فييا‪..‬‬
‫ػ الجاني ترؾ مع الطفمة مبمغا مف الماؿ‪!..‬‬
‫ػ كيؼ عرفت؟‬
‫ػ سألت الشرطي‪.‬‬
‫ػ ابتسمت أحبلـ ابتسامة ساخرة ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫ػ ما زاؿ بعض األغبياء يظنوف أف الماؿ يمكف أف يكوف بديبل لمحناف‪..‬‬
‫قمت وأنا أمضي‪:‬‬
‫ِ‬
‫احتجت لشيء ‪ ،‬فأنا فوؽ‪.‬‬ ‫ػ إذا‬

‫كاف النوـ قد طار مف أجفاني ‪ ،‬لكني شعرت بحاجة ماسة ألف أكوف وحدي ‪ ،‬توجيت إلى غرفتي فوجدت ىاني‬
‫ما زاؿ نائما ‪ ،‬ألقيت نفسي عمى السرير ‪ ،‬ورحت أفكر في ىذه الطفمة المسكينة التي كانت والشقاء توأميف في‬
‫رحـ واحد‪..‬‬
‫وانتبيت لياني وىو يتقمب عمى فراشو ‪ ،‬ثـ ما لبث أف أفاؽ وقاؿ وىو يفرؾ عينيو بظاىر سبابتيو‪:‬‬
‫ػ نمت كثيرا؟‪..‬‬
‫ػ اسأؿ نفسؾ‪..‬‬
‫ػ ىؿ مف جديد؟‬
‫ػ طفمة لقيطة‪.‬‬
‫سأؿ وقد توقفت أصابعو عف العبث بشعره‪:‬‬
‫ػ ماذا؟‪..‬‬
‫ػ طفمة لقيطة وجدت عند الفجر ممقاة في حديقة جامع اإلخبلص القريب مف ىنا‪..‬‬
‫قاؿ وىو يعاود االستمقاء‪:‬‬
‫ػ يبدو أف أميا غير مدربة‪!..‬‬
‫ػ مدربة؟‪!..‬‬
‫ػ أقصد أنيا ال تتقف فنوف منع الحمؿ‪..‬‬
‫ػ ما الذي أودى بنا إلى ىذا االنحدار؟‪..‬‬
‫ػ ما أدراني‪ ..‬أنا ال أفكر في األسباب مثمؾ ‪ ،‬أكتفي بالسماع‪..‬‬
‫خالي محاـ ‪ ،‬وأنا مغرـ بحكاياتو البوليسية‪..‬‬
‫قمت وقد غاظني البرود الذي استقبؿ بو ىاني الخبر‪:‬‬
‫ػ ىؿ يكفي أف تستمتع بما يحدث؟‪..‬‬
‫ػ ماذا نفعؿ؟‬
‫ػ ىذا يحيرني!‬
‫قاؿ وىو ينفض عنو الغطاء‪:‬‬
‫ػ يبدو عميؾ التعب ‪ ،‬خذ قسطا مف النوـ‪..‬‬
‫ػ ال أشعر بالنعاس‪..‬‬
‫ػ لماذا أنت ميموـ ىكذا؟‪..‬‬
‫ػ منظر الطفمة المقيطة يعذبني‪..‬‬
‫ػ تبدو روما نسيا ىذا الصباح‪!..‬‬
‫ػ أنت لـ ترىا يا ىاني‪..‬‬
‫ػ وال أريد أف أراىا ‪ ،‬ىذه الحوادث تبعث في نفسي القرؼ‪..‬‬
‫ػ ما يحيرني أف عمر الطفمة يبمغ بضعة شيور ‪ ،‬يزيد عف أربعة شيور‪..‬‬
‫ػ أربعة شيور؟! الحكاية فييا َّ‬
‫(إف‪)!..‬‬
‫َّ‬
‫(اإلف)؟‪..‬‬ ‫ػ أريد أف أعرؼ ىذا‬
‫قاؿ ىاني وىو يبتسـ‪:‬‬
‫ػ فضولؾ الجارؼ يدىشني ‪ ،‬دائما تريد أف تعرؼ كؿ شيء‪..‬‬
‫ػ وأنت؟‪ ..‬أال تريد أف تعرؼ؟‪!..‬‬
‫ػ أنا يا صديقي أحب المعمومات الجاىزة ‪ ،‬قصة في رواية ‪ ،‬تحقيؽ في صحيفة ‪ ،‬دراسة في مجمة ‪ ،‬أمي تقدـ لي‬
‫الفواكو دائما مقشرة ‪ ،‬والجامعة لـ تكمفنا يوما بإجراء بحث أو دراسة ‪ ،‬دائما تطالبنا بحفظ المعمومات‪..‬‬
‫ال أدري مف تسربت إليؾ لوثة البحث والتنقيب؟ ‪ ،‬لعمؾ مف أحفاد الرازي أو ابف سينا‪!..‬‬
‫ضحكت رغما عني ‪ ،‬كبلـ ىاني فيو ظرافة وعمؽ ‪ ،‬وسمعتو يقوؿ‪:‬‬
‫ػ حاوؿ أف تنسى يا صديقي ‪ ،‬فبل شيء في ىذه الحياة ييـ‪..‬‬
‫أجبتو وأنا ساىـ‪:‬‬
‫ػ ال أصدؽ أنؾ تعني ما تقوؿ‪!..‬‬
‫الفصؿ السادس‬
‫جاءت الساعة الثامنة صباحا ‪ ،‬وانتيى وقت نوبتنا ‪ ،‬فارتديت مبلبسي استعداد لمغادرة المستشفى بصحبة ىاني‪.‬‬
‫قاؿ ىاني مداعبا‪:‬‬

‫ػ أما زالت سيارتؾ في التصميح؟‬


‫ػ لـ تب أر مف أمراضيا بعد‪..‬‬
‫ػ سأحممؾ معي لميوـ الثاني عمى التوالي ‪ ،‬ليت معروفي ينفع معؾ‪..‬‬
‫عمي بالمساعدة ‪ ،‬سيارات األجرة تمؤل البمد‪..‬‬
‫ػ ال تمف َّ‬
‫مد ىاني كفو كالمتسوؿ ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ اعتبرني سائؽ أجرة يوميف‪..‬‬
‫قمت ‪ ،‬دوف أف أستجيب لدعابتو‪:‬‬
‫ػ انتظرني في السيارة ‪ ،‬سألحؽ بؾ بعد قميؿ‪..‬‬
‫ػ إلى أيف ستذىب؟‬
‫ػ سأطمئف عمى الطفمة‪..‬‬
‫استوقفني ىاني وقاؿ في ضيؽ‪:‬‬
‫ػ لف أنتظر‪..‬‬
‫ػ سأغيب دقائؽ فقط‪..‬‬
‫ػ مالؾ وليذه الطفمة؟‬
‫ػ قمت لؾ لف أتأخر‪..‬‬
‫تأفؼ ىاني وقاؿ‪:‬‬
‫أنت تضخـ األمور دائما ‪ ،‬آالؼ األطفاؿ يقذفوف في العراء كؿ يوـ ‪ ،‬المبلييف منيـ يتضوروف جوعا في أفريقية‬
‫ىذه الطفمة ليست أفضميـ‪!..‬‬
‫قمت محاوال إقناعو‪:‬‬
‫ػ ليست أفضميـ طبعا ‪ ،‬لكنيا واحدة منيـ ‪ ،‬وعمى كؿ مف يصادؼ ىذه المخموقات البريئة أف يقوـ بواجبو نحوىا ‪،‬‬
‫وييتـ بيا ‪ ،‬ليعوضيا بعض العطؼ والرعاية التي حرمت منيا‪..‬‬
‫قاؿ ىاني وىو يطامف مف ليجتو الحادة‪:‬‬
‫ػ أنا يا عزيزي ليت ضد اىتمامؾ بالطفمة ‪ ،‬لكنؾ متعب اآلف ‪ ،‬ويمكنؾ أف تراىا فيما بعد‪..‬‬
‫قمت ‪ ،‬وأنا أسبقو بخطوات حاسمة‪:‬‬
‫ػ قمت لؾ ‪ :‬لف أتأخر‪..‬‬
‫ثـ توقفت والتفت إليو مستدركا‪:‬‬
‫ػ تعاؿ معي لو أردت‪..‬‬
‫ىز رأسو في يأس وىتؼ وىو يصر عمى أسنانو‪:‬‬
‫ػ أنت عنيد كالمتنبي ‪ ،‬سيقتمؾ أحدىـ ذات يوـ مف شدة الغيظ ‪ ،‬وسيجتث رأسؾ بسيؼ مأجور‪..‬‬
‫ػ ىؿ ستأتي؟‬
‫ػ سآتي ‪ ..‬سآتي وأمري هلل‪..‬‬
‫وصمنا إلى جناح األطفاؿ ‪ ،‬فوجدنا الدكتورة أحبلـ عند الطفمة تقدـ ليا وجبتيا الصباحية ‪ ،‬خفؽ قمبي وأنا أرى‬
‫أحبلـ وىي تحتضف الطفمة كأـ رؤوـ ‪ ،‬وقد أمسكت زجاجة الحميب بيدىا ‪ ،‬ومالت برأسيا الجميؿ ذات اليميف‬
‫وتركت نظراتيا الوادعة تدثر الطفمة بحناف سابغ ‪ ،‬وعطؼ يتوىج مف عينييا كأشعة الشمس الدافئة‪..‬‬
‫قمت لياني وأنا ألكزه بكوعي‪:‬‬
‫ػ انظر كيؼ تيتـ أحبلـ بالطفمة؟‬
‫والتفت إلى ىاني في نظرة خاطفة ‪ ،‬فممحت في وجيو تعبي ار غامضا ‪ ،‬وظننت أنو مازاؿ غاضبا ألني أخرتو ‪،‬‬
‫فقمت لو مازحا‪:‬‬
‫ػ ابتسـ ‪ ،‬والتكف نكدا إلى ىذا الحد‪..‬‬
‫قاؿ ىاني بميجة تطفح بالضيؽ‪:‬‬
‫ػ صبلح أرجوؾ ‪ ..‬ألؽ نظرة عمى طفمتؾ ودعنا نمضي‪..‬‬

‫تقدمت مف أحبلـ وجعمت أنظر إلى الطفمة مف خمؼ كتفيا األيسر‪..‬‬


‫كانت الطفمة تمتص حممة الرضاعة في شيية ‪ ،‬وتنظر إلى أحبلـ نظرة بريئة ‪ ،‬وكأنيا تقدـ ليا الشكر عمى ما‬
‫تبديو نحوىا مف رعاية‪!..‬‬
‫ووجدتني أقوؿ ليا دوف أف تشعر بوجودي‪:‬‬
‫ػ مف ال يعرؼ أنؾ طبيبة ‪ ،‬يظنؾ أـ الطفمة‪..‬‬
‫التفتت أحبلـ ‪ ،‬وقد ارتسمت عمى شفتييا ابتسامة رقيقة ‪ ،‬لكنيا ما إف رأت ىاني يقؼ عند الباب حتى طوت‬
‫ابتسامتيا العذبة ‪ ،‬وقالت وىي تتكمؼ الجد‪:‬‬
‫ػ حالة الطفمة مرضية اآلف‪!..‬‬
‫التفت نحو ىاني وقد مر بخاطري شيء فوجدتو يتمممؿ في مكانو ‪ ،‬ولـ يمبث أف قاؿ وىو ييـ بالمضي‪:‬‬
‫ػ أنا بانتظارؾ في السيارة‪..‬‬
‫ثـ مضى بعصبية ظاىرة‪!..‬‬
‫ىذا الفتور بيف ىاني وأحبلـ يقمقني منذ أياـ!‪ ..‬ثمة شسء ال أدريو قد حدث ‪ ،‬وخمؼ في نفسييما جمودا ونفو ار‬
‫بدأ يتمادى بالظيور‪..‬‬
‫شيء غامض ال يسر استطاع أف يمتص روح البساطة والمرح التي كانت تخيـ عمى عبلقة الزمالة التي جمعتنا‬
‫في مينة واحدة ومستشفى واحدة‪!..‬‬
‫واستأذنت أحبلـ مودعا ‪ ،‬ثـ مضيت خمؼ ىاني‪..‬‬
‫ماذا وراءؾ مف يا ىاني مف أسرار؟‪!..‬‬

‫الفصؿ السابع‬
‫قاؿ ىاني متذم ار وىو يدير المفتاح في المحرؾ‪:‬‬
‫ػ لقد تأخرت ‪ ،‬يبدو أف أحاديثكما كثيرة ىذه األياـ‪..‬‬
‫ػ أحاديثنا؟!‪ ..‬مف تقصد؟‪!..‬‬
‫ػ أنت تعرؼ مف أقصد‪..‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ؟‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬إنيا ميتمة بؾ‪!..‬‬
‫ػ حقا؟‪!..‬‬
‫إلي نظرة خاطفة ثـ تابع قائبل ‪ ،‬وىو يرقب الطريؽ أمامو‪:‬‬
‫نظر َّ‬
‫ػ يعني لـ تبلحظ‪!..‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ ميذبة ولطيفة مع الجميع‪..‬‬
‫قاؿ ىاني وىو يمسؾ بطرؼ شاربو الكثيؼ الذي ييتـ بو كثي ار‪:‬‬
‫ػ أحمؽ شاربي ىذا إف لـ تكف قد الحظت‪..‬‬
‫ػ ماذا تريد أف تقوؿ؟‪..‬‬
‫ػ أريد أف أقوؿ مبروؾ‪..‬‬
‫ػ عمى ماذا؟‪..‬‬
‫ػ لقد أحسنت االختيار‪..‬‬
‫ػ ىاني ‪ ..‬أنت تتسرع في فيـ األمور‪.‬‬
‫تنيد ىاني متحس ار ‪ ،‬وقاؿ بنبرة باردة‪:‬‬
‫ػ ستكوف غبيا إذا خسرتيا‪..‬‬
‫ػ مف ىي حتى أخسرىا؟‪..‬‬
‫ضحؾ ىاني ضحكة غريبة ‪ ،‬وىو يحممؽ باألفؽ الممتد أمامو ‪ ،‬عبر نافذة السيارة األمامية ‪ ،‬ثـ قاؿ وىو يفخـ‬
‫الكممات كالساخر ‪ ،‬مستعينا بحركة يده وتعابير وجيو الممتعض‪:‬‬
‫ػ إنيا الدكتورة أحبلـ ابنة الممياردير عبد الغني الذىبي‪ ..‬شركات وصفقات وعقارات وأرصدة ىائمة في البنوؾ‪..‬‬
‫ماؿ وجاه وقوة ونفوذ‪..‬‬
‫حاكـ ببل حكومة ‪ ،‬وممؾ ببل تاج‪ ..‬أو كما يسمي نفسو اإلمبرطور‪!..‬‬
‫إلي متيكما وقاؿ‪:‬‬
‫ثـ التفت ىاني َّ‬
‫ػ ألـ تسمع باإلمبروطورية الذىبية؟‬
‫ابتسمت وقمت‪:‬‬
‫ػ معمومات ميمة!‪ ..‬مف أيف حصمت عمييا؟‬
‫ػ تحريات خاصة‪..‬‬
‫ػ لعمؾ فكرت بالزواج منيا‪..‬‬
‫ػ ورفضت؟‬
‫ػ رفضت!‪ ..‬ىؿ تقدمت إلييا ورفضت؟‪!..‬‬
‫ػ أجؿ ‪ ،‬فأنا ال أليؽ ببنت السمطاف‪..‬‬
‫ػ ىذه األسرار تنشر ألوؿ مرة‪.!..‬‬
‫ػ ال تقؿ بأنؾ ال تعمـ ‪ ،‬البد أنيا قد أخبرتؾ‪..‬‬
‫خرجت عف طوري قميبل ‪ ،‬وقمت معاتبا‪:‬‬
‫ػ ىاني أنت تتصور أمو ار غريبة ال وجود ليا إال في خيالؾ ‪ ،‬أنت تعمـ أني شديد التحفظ في تعااممي مع الجنس‬
‫اآلخر ‪ ،‬أرجوؾ أف تنظر إلى األمور بمنظار آخر‪..‬‬
‫إذا كنت قد سمعت منى تحوىا بعض الثناء واإلطراء فيذا ألنيا تستحقو ‪ ،‬وليس مناورة ألحيطيا بشباكي ‪،‬‬
‫الدكتورة أحبلـ بالذات ال أستطيع إال أف أكوف لطيفا معيا ‪ ،‬ألنيا تعاممني معاممة طيبة ‪ ،‬وتبدي نحوي كؿ‬
‫احتراـ‪..‬‬
‫ىتؼ ىاني وكأنو أمسؾ دليبل عمى أوىامو‪:‬‬
‫ػ ىا أنت تعترؼ ‪ ،‬في عبلقتكما شيء أكثر مف الزمالة ‪ ،‬ىناؾ خيط مف الود والتفاىـ المستور باالحتراـ‪..‬‬
‫قمت وقد نفذ صبري عمى اتياماتو‪:‬‬
‫ػ ىاني أرجوؾ ‪ ،‬لقد ضقت ذرعا بيذا النقاش ‪ ،‬أنت متوتر بعض الشيء لظروؼ قد ال أعرؼ تفاصيميا ‪ ،‬حاوؿ‬
‫أف تتخمص مف أوىامؾ حتى ال تعكر صفو ما بيننا‪..‬‬

‫ماؿ ىاني بسيارتو إلى جانب الطريؽ ‪ ،‬فأوقفيا ‪ ،‬ثـ ألقى برأسو عمى المقود في ىددوء حزيف ‪ ،‬واستمر كذلؾ‬
‫إلي وقاؿ في ندـ‪:‬‬
‫برىة ‪ ،‬ثـ التفت َّ‬
‫ػ صبلح إني أعتذر ‪ ،‬ىؿ تقبؿ اعتذاري؟‬
‫قمت وأنا أشد بكفي عمى كتفو مواسيا‪:‬‬
‫ػ لست مضط ار لبلعتذار ‪ ،‬أستطيع أف أتفيـ موقفؾ‪..‬‬
‫استرخى ىاني عمى كرسيو ‪ ،‬واستسمـ لتيار مف الكآبة ‪ ،‬ثـ ىمس بنبرة حزينة‪:‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬مف الصعب أف تجد نفسؾ مرفوضا مف فتاة أحبلمؾ التي اخترتيا لتكوف شريكة لؾ في الحياة ‪ ،‬ال أخفيؾ‬
‫‪ ،‬لقد زلزلتني الصدمة ‪ ،‬وقوضت أحبلمي ‪ ،‬لشد ما أنا حزيف‪..‬‬
‫قمت في محاولة لمتخفيؼ عنو‪:‬‬
‫ػ ىاني تماسؾ ‪ ،‬أحبلـ ليست الفتاة األخيرة في العالـ‪..‬‬
‫ػ تصورت أف فتاة غنية مثميا البد أنيا تبحث عف شاب ثري مثمي ‪ ،‬والسيما أننا زميبلف في اختصاص واحد‪!..‬‬
‫ػ العواطؼ ال تخضع لحسابات العقؿ‪..‬‬
‫ػ ما آلمني أنيا ىي التي رفضتني‪!..‬‬
‫ػ ووافؽ أبوىا؟‪..‬‬
‫ػ قالت ‪ :‬إني أحترمو كأخ وزميؿ ‪ ،‬لكني أعتذر عف الزواج منو‪.‬‬
‫ػ حاوؿ أف تنساىا‪..‬‬
‫ػ أحاوؿ‪..‬‬
‫ػ ابتسـ اآلف‪..‬‬
‫إلي قائبل‪:‬‬
‫أضاءت مبلمحو نصؼ ابتسامة ‪ ،‬وغاب برىة في صمتو ‪ ،‬ثـ التفت َّ‬
‫ػ سأكوف سعيدا لو فزت بيا أنت‪..‬‬
‫ػ ىاني ‪ ،‬دعنا مف ىذه الحديث‪..‬‬
‫تابع ىاني وكأنو لـ يسمع رجائي‪:‬‬
‫عمي‪..‬‬
‫ػ أنا أعمـ أف أحبلـ ستذىب إلى غيري ‪ ،‬وأنت اإلنساف الوحيد الذي أرضى أف تفضمو َّ‬
‫ألنؾ أفضؿ مني فعبل‪..‬‬
‫شعرت بالخجؿ أماـ بوح ىاني وتواضعو الفريد ‪ ،‬وىزني إخبلصو مف األعماؽ ‪ ،‬ىمست في حياء‪:‬‬
‫ػ ىاني أرجوؾ ‪ ،‬ال تكرر ىذا الكبلـ عمى سمعي بعد اآلف‪..‬‬
‫ربت ىاني عمى كتفي ‪ ،‬ثـ أدار المفتاح ‪ ،‬وانطمؽ بسيارتو في ىدوء ‪ ،‬وقد راف عمينا صمت مفعـ بالمشاعر‬
‫الرقيقة‪..‬‬
‫ما حيرني فعبل ىو كتماف ىاني لميمو إلى أحبلـ عني ‪ ،‬وىو الذي ال يخفي عني س ار مف أس ارره‪!..‬‬
‫ىاني كاف يحبيا منذ زمف بعيد؟ أـ أف قرار مرتجبل دفعو إلى خطبتيا فجأة؟‪..‬‬
‫أحيانا ال أستطيع أف أفيمو!‪ ..‬إنو شاب مزاجي ‪ ،‬لكنو طيب جدا ‪ ،‬أطيب شاب عرفتو في حياتي‪..‬‬
‫وداىمني سؤاؿ‪..‬‬
‫ىؿ أصبح اىتمامي بأحبلـ ‪ ،‬واىتماميا بي واضحا إلى الحد الذي جعؿ ىاني يفصح عف غيرتو مني‪..‬‬
‫وأنا أعز أصدقائو وأقربيـ إلى نفسو؟‪..‬‬
‫األشياء الكبيرة دائما تبدأ بسؤاؿ‪!..‬‬

‫الفصؿ الثامف‬

‫ػ ما الذي دفع الجناة ألف يمقوا بالطفمة في العراء؟‬


‫قؿ ىاني وىو يرتدي راءه األبيض‪:‬‬
‫ػ أما زلت نفكر في تمؾ الطفمة؟‬
‫ػ لغزىا يتحدى كؿ طاقاتي العقمية‪..‬‬
‫ػ آرسيف لوبيف في ثياب طبيب‪!..‬‬
‫ػ يقولوف ‪ :‬إف آرسيف لوبيف خرافة ال وجود ليا إال في خياؿ المؤلؼ الذي اخترعيا‪..‬‬
‫ابتسـ ىاني وقاؿ في دعابة‪:‬‬
‫ػ وأنت خرافة ال تصدؽ ‪ ،‬أريد أف أسألؾ سؤاال ‪ ،‬وأرجو أف تجبني عنو بصراحة‪!..‬‬
‫ػ أسأؿ؟‬
‫ػ مف الذي نصبؾ مسؤوال عف ىذا العالـ؟‬
‫ػ ىؿ أبدو ىكذا حقا؟‪..‬‬
‫ػ ماذا تقوؿ إذف في طبيب يحقؽ في جريمة التقى صدفة بأحد عناصرىا؟‪..‬‬
‫ػ سـ ذلؾ فضوال‪..‬‬
‫ػ فضولؾ يتعبني ‪ ،‬يرىقني بالتساؤالت ‪ ،‬تسألني وكأني أنا الذي أنجبت تمؾ الطفمة وألقيتيا فريسة لممجيوؿ‪..‬‬
‫قمت أستفزه‪:‬‬
‫ػ كيؼ لـ يخطر ىذا ببالي؟‪..‬‬
‫لماذا ال تكوف أنت والد الطفمة؟‬
‫ىتؼ في إنكار ‪:‬‬
‫ػ أنا؟‪!..‬‬
‫ثـ ابتسـ ساخ ار وأردؼ‪:‬‬
‫ػ أنا كثي ار األخطاء ‪ ،‬نعـ ‪ ،‬ولكني أتحمؿ مسؤولية أخطائي‪..‬‬
‫أعدت عميو السؤاؿ‪:‬‬
‫ػ ما الذي دفع بالجناة ألف يتخمصوا مف الطفمة؟‬
‫ػ ىا أنت تعود إلى السؤاؿ نفسو!‪ ، ..‬حسنا ‪ ،‬سأجيبؾ‪..‬‬
‫ثـ تابع وىو يجمس عمى حافة السرير‪:‬‬
‫ػ االحتماؿ األوؿ ىو الخوؼ مف الفضيحة‪.‬‬
‫ػ ىذا االحتماؿ ضعيؼ ‪ ،‬ألف عمر الطفمة يزيد عف أربعة أشير‪..‬‬
‫ػ ميما يكف ‪ ،‬يظؿ الخوؼ مف الفضيحة دافعا واردا‪..‬‬
‫ػ فكر بدافع آخر‪..‬‬
‫ػ الفقر والجوع إذف‪!..‬‬
‫ػ ال أعتقد أف في مجتمعنا فق ار يجعؿ األسرة تمفظ أطفاليا وتمقييـ فريسة لمشقاء بيذه الوحشية‪..‬‬
‫ػ ال تكف متفائبل ‪ ،‬الفقر والجوع في لبناف دفع بعض العائبلت يوما ألف تعمف عف حاجتيا لبيع أبنائيا مف أجؿ‬
‫ثمف الخبز‪..‬‬
‫ػ ىذه حاالت خاصة ومحدودة‪!..‬‬
‫ػ ما أدراؾ أنيا تتسع؟‬
‫نظرت إلى ىاني في قمؽ ‪ ،‬ىؿ عاد الفقر ليضرب مجتمعاتنا مف جديد؟‬
‫أفي عصر الثروات العربية يوجد مف يجوع ويعرى ويضطر لبيع أطفالو مف أجؿ لقمة طعاـ؟‪..‬‬
‫وقمت بعد صمت وتأمؿ‪:‬‬
‫ػ ال أعتقد أف الجوع أو الفقر يمكف أف يكوف دافعا لمتخمي عف ىذه الطفمة بالذات ‪ ،‬ال تنس المبمغ الذي وجد‬
‫بحوزتيا ‪ ،‬إنو مبمغ ال يتوافر لفقير يضطره الجوع ألف يتخمى عف أطفالو‪..‬‬
‫قاؿ ىاني كالحائر‪:‬‬
‫ػ أنت عمى حؽ‪..‬‬
‫ثـ أردؼ كمف يريد التخمص‪:‬‬
‫ػ ىذا كؿ ما عندي ‪ ،‬فبل تسألني بعد اآلف‪..‬‬
‫ضحكت ثـ قمت‪:‬‬
‫ػ ىاني ‪ ،‬أنا ال أريد أف أشغمؾ بقضية ال تيمؾ ‪ ،‬لكني أحاوؿ التفكير بصوت مسموع‪..‬‬
‫ثـ أردفت بعد صمت قصير‪:‬‬
‫ػ أال يعقؿ أف يكوف وراء ىذه المقيطة قصة إرث كبير ضف بو الطامعوف عمييا حتى ال تشاركيـ الميراث؟‬
‫ىتؼ ىاني ‪ ،‬وقد راقت لو الفكرة‪:‬‬
‫ػ آه ‪ ..‬ىذه ىو ‪ ،‬بدأت أعتنؽ أفكارؾ كمحقؽ ذكي ‪ ،‬القصة أصبحت واضحة اآلف‪..‬‬
‫رجؿ ثري عجوز تزوج مف صبية جميمة طمعا باإلنجاب ‪ ،‬بعد أف يئس مف إنجاب زوجتو األولى ‪ ،‬وعندما أنجبت‬
‫الزوجة الثانية طار صواب الزوجة األولى وقررت أف تتخمص مف ابنة ضرتيا التي جاءت تزاحميا عمى التركة‬
‫الثمينة ‪ ،‬فتسممت تحت جنح الظبلـ وخطفت الطفمة ثـ ألقتيا في حديقة المسجد بعد أف تركت قربو مبمغا مف‬
‫الماؿ‪..‬‬
‫لقد تابعت مسمسبل عربيا حوؿ قصة كيذه‪..‬‬
‫فكرت قميبل ‪ ،‬ثـ قمت‪:‬‬
‫ػ قد ال يكوف األمر بيذه الصورة تماما ‪ ،‬لكف قضية الصراع عمى الميراث ‪ ،‬قد تدفع بعض مف أعمى بريؽ الماؿ‬
‫بصائرىـ ‪ ،‬ألف يمغوا إنسانيتيـ ويقترفوا إثما كيذا‪..‬‬
‫ثـ استدركت وقد لمعت في بالي فكرة‪:‬‬
‫ػ لكف األـ الحقيقة في ىذه الحالة ستسأؿ عف طفمتيا بكؿ وسيمة ‪ ،‬ستطرؽ أبواب المستشفيات وأقساـ الشرطة‬
‫ومبلجئ األيتاـ ‪ ،‬ستقمب الدنيا بحثا عف طفمتيا‪..‬‬
‫األـ عندما تفقد أحد أطفاليا تصبح كالمبؤة الجريحة التي ال يقؼ في وجو ثورتيا شيء‪..‬‬
‫فكرىاني وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ تريد أف تقوؿ‪...‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬إف األـ تبحث اآلف عف أي خيط يقودىا إلى طفمتيا المفقودة‪..‬‬
‫جمس ىاني قربي ‪ ،‬وقاؿ في حماس‪:‬‬
‫ػ لقد بدأت أستمتع بمعبتؾ البوليسية‪!..‬‬
‫ػ ىاني أنا ال ألعب‪..‬‬
‫ػ حسنا حسنا ‪ ،‬ماذا تريد أف تفعؿ اآلف؟‪..‬‬
‫ػ يجب أف نعمـ خبر وجود الطفمة عندنا في المستشفى بأية وسيمة‪..‬‬
‫ػ مف خبلؿ الصحافة مثبل‪..‬‬
‫ػ ىؿ تعرؼ أحد يعمؿ في الصحافة؟‪..‬‬
‫ػ أعرؼ صحفيا مشيو ار ال يشؽ لو غبار‪..‬‬
‫ػ مف ىو؟‬
‫ػ األستاذ سعيد الناشؼ ‪ ،‬صاحب جريدة األياـ‪..‬‬
‫ػ أمعرفتؾ بو قوية؟‪..‬‬
‫ػ إنو صديؽ قديـ لوالدي ‪ ،‬وىو يزورنا باستمرار‪..‬‬
‫وقفت وقمت بنبرة متفائمة‪:‬‬
‫ػ سنزوره بعد انتياء الدواـ‪..‬‬
‫ػ ولكف عمى شرط‪..‬‬
‫ػ ما ىو؟‬
‫قاؿ ىاني في مكر‪:‬‬
‫ػ تمؤل خزاف سيارتي بالبنزيف‪..‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫ضحؾ األستاذ سعيد وقاؿ وىو يسترخي بجسده فوؽ كرسيو الجمدي الدوار‪:‬‬
‫ػ ىؿ تقوماف حقا بحؿ لغز ىذه الطفمة؟‬
‫إلي‪:‬‬
‫حاوؿ ىاني أف يبرئ نفثو وقد أحس في كبلـ األستاذ سعيد سخرية مف خطوة كيذه ‪ ،‬قاؿ وىو يشير َّ‬
‫ػ إنو الدكتور صبلح ‪ ،‬ىو صاحب الفكرة‪..‬‬
‫كرر األستاذ سعيد سؤالو لي كمف فوجئ بمعرفة شيء ال يتوقع‪:‬‬
‫ػ ىؿ أنت ميتـ فعبل بحؿ لغز الطفمة إلى ىذا الحد يا دكتور صبلح؟‬
‫قمت وأنا مندىش لمسؤاؿ‪:‬‬
‫ػ نعـ ىؿ ىي ذلؾ خطأ؟‬
‫فرقعت ضحكة األستاذ سعيد في أرجاء الغرفة األنيقة ‪ ،‬ثـ قاؿ وىو يعبث بيده في جيوبو باحثا عف شيء‪:‬‬
‫ػ ال أصدؽ‪..‬‬
‫ػ ما الذي ال تصدقو؟‬
‫ال أصدؽ أف في شباب اليوـ مف يفكر مثمؾ ‪ ،‬كنت أظف أف زماننا قد انتيى ‪ ،‬ولكف‪..‬‬
‫ىا أنت تذكرني بشبابي‪..‬‬
‫ىمست في حيرة ‪:‬‬
‫ػ أستاذي الكريـ ‪ ،‬أنا ال أفيمؾ‪!..‬‬
‫عثر األستاذ سعيد عما كاف يبحث عنو ‪ ،‬فأخرج غميونو األسود الفاخر وقاؿ ‪ ،‬وقاؿ وىو يحشو بالتبغ الذي فاحت‬
‫رائحتو في أرجاء المكاف‪:‬‬

‫ػ قصدت أف أقوؿ بأف موقفؾ ىذا ينسجـ تماما مع روح الشباب المتوثبة المشبعة بالفضوؿ ‪ ،‬الشباب المسؤوؿ‬
‫المتحمس قضية نبيمة‪..‬‬
‫شبابنا اليوـ لؤلسؼ مصاب باإلحباط المزمف ‪ ،‬ومف أخطر أعراض ىذا المرض البلمباالة التي ينظر بيا شبابنا‬
‫إلى األمور واألحداث التي تجري حولنا ‪ ،‬وأنت يا دكتور صبلح ظاىرة صحية مبشرة‪..‬‬
‫عندما كنت في سنؾ كنت ىكذا مثمؾ ‪ ،‬تثيرني األحداث ‪ ،‬وتدفعني لممبادرة ‪ ،‬كنت أحب أف يكوف لي موقؼ مف‬
‫كؿ حدث ميما كاف صغي ار ‪ ،‬وكنت أحب دائما أف أترجـ الموقؼ إلى فعؿ‪..‬‬
‫قاؿ ىاني ‪ ،‬وقد أحب أف يشممو األستاذ سعيد بمدحو‪:‬‬
‫ػ في الحقيقة ‪ ،‬لقد أثارنا لغز الطفمة المقيطة ‪ ،‬وأثرت فينا قصتيا المحزنة ‪ ،‬فأتينا نطمب مساعدتؾ في معرفة‬
‫األشخاص الذيف يقفوف وراء ىذه الجريمة‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد في صراحة تشؼ عف مدى العبلقة الحميمة التي تربطو بوالد ىاني‪:‬‬
‫ػ اسكت أنت ‪ ،‬أنت انتيازي كأبيؾ ‪ ،‬منذ قميؿ كنت تتب أر مف اىتمامؾ بالطفمة ‪ ،‬وىا أنت تدعي اآلف أف لغز‬
‫الطفمة قد أثارؾ وحدا بؾ ألف تحضر إلى ىنا‪!..‬‬
‫أقطع ذراعي إف لـ يكف الدكتور صبلح ىو الذي قادؾ إلى ىنا‪..‬‬
‫ابتسمت لكممات األستاذ سعيد التي ال تخمو مف الدعابة ‪ ،‬وأدركت أنو إنساف ذكي قد عركتو التجارب وحدت‬
‫نظرتو لمناس‪..‬‬
‫سأؿ األستاذ سعيد ىاني وعمى شفتيو ابتسامة ماكرة‪:‬‬
‫ػ أما زاؿ أبوؾ صديقا لوزير التمويف والتجارة؟‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬عبلقتيما طيبة كما تعرؼ‪!..‬‬
‫ػ قؿ ألبيؾ أال يسرؼ في الوالئـ ‪ ،‬فمعالي الوزير عمى وشؾ اإلقالة ‪ ،‬ىناؾ تعديؿ وزاري سوؼ يشممو عما‬
‫قريب‪..‬‬
‫ابتسـ ىاني في خبث والذ بالصمت ‪ ،‬إنو يدرؾ ما رمى إليو األستاذ سعيد ‪ ،‬فقد حدثني كثي ار فيما مضى عف‬
‫التكتيكات الوصولية التي يتبعيا أبوه مف أجؿ تطوير أعمالو التجارية ‪ ،‬والعبلقات الحميمة التي يسعى إلقامتيا‬
‫مع المسؤوليف طمعا بمساعدتيـ‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد بعد أف أرسؿ تنييدة طويمة‪:‬‬
‫ػ ىذا زماف مختمؼ ‪ ،‬زماف عجيب ينطوي عمى تناقضات صارخة مثيرة ‪ ،‬في ىذا العصر الذي نعيشو ليس ىناؾ‬
‫مكاف لمحقيقة ‪ ،‬ال قيمة لممبادئ والمثؿ ‪ ،‬ال معنى ألف تكوف إنسانا‪..‬‬
‫ثـ بعد ابتسامة ساخرة‪:‬‬
‫ػ ألنؾ إذا أردت أف تكوف إنسانا فستكوف اإلنساف الوحيد وسط مجتمع مف الذئاب‪..‬‬
‫لكنو استدرؾ فجأة وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ال أقصد أنؾ اإلنساف الوحيد ‪ ،‬أبدا‪ ..‬فمجتمعنا ال يخمو مف النماذج الخيرة الرفيعة ‪ ،‬بؿ عنيت إنؾ إذا أردت أف‬
‫تكوف إنسانا نبيبل ‪ ،‬فسوؼ تبدو غريبا ‪ ،‬سينظر إليؾ المجتمع وكأنؾ كائف عجيب قادـ مف عالـ منقرض ‪،‬‬
‫ستكوف منبوذا ال يكاد يمتفت إليؾ أحد ‪ ،‬وستعيش غربة قاتمة‪..‬‬
‫وليت األمر يقؼ عند ىذا الحد!‪ ..‬إذف لياف األمر ‪ ،‬لكف المصيبة أف الناس لف يتركوؾ في وحدتؾ تمارس‬
‫النظافة التي ترتاح إلييا ‪ ،‬بؿ سيمومونؾ ويثبطونؾ ويحذرونؾ مف مسمؾ النبيؿ ‪ ،‬ألف قدرتؾ عمى السمو ستعرييـ‬
‫وتكشؼ ضعفيـ ‪ ،‬سيتيمونؾ بالسذاجة والمثالية الفارغة‪..‬‬
‫ىكذا نحف اليوـ ‪ ،‬نسمي النبؿ والتطوع واإلحساس باآلخريف وااللتزاـ بالقيـ مثالية فارغة ‪ ،‬وتطمؽ عمى ىذا النوع‬
‫مف السموؾ "التعامؿ الرومانسي مع الواقع‪"..‬‬
‫أنا صرت أكره كممة الواقع ىذه ‪ ،‬لقد أصبحت تعني اليزيمة ‪ ،‬تعني االستسبلـ ليذا لفساد الذي يجتاحنا‬
‫كالطوفاف‪..‬‬
‫التفكير الواقعي قاموسنا المموث أصبح يعني االنصياع لمواقع المريض ‪ ،‬واتخاذه مقياسا لمسموؾ والتصرؼ ‪ ،‬صار‬
‫يعني أف تكوف كما يريد ىذا الواقع ال أف يكوف الواقع كما تريد‪..‬‬
‫حتى تكوف واقعيا في ىذه األياـ يجب أف تكوف (شاطرا)‪(..‬ممحمحا)‪(..‬فيمويا ‪)..‬يجب أف تكوف ذئبا‪ ..‬نعـ ‪ ،‬فيذا‬
‫العصر عصر الذئاب‪!..‬‬

‫كاف األستاذ سعيد يتحدث بم اررة ‪ ،‬وصمت لحظة ثـ تابع ‪ ،‬وىو ييز غميونو الذي كاف يحتضنو داخؿ قبضة يده‬
‫اليسرى‪:‬‬
‫ػ صار لي في ىذه المينة أكثر مف أربعيف عاما ‪ ،‬أربعيف عاما وأنا أراقب المجتمع ‪ ،‬وأسجؿ مبلحظاتي عميو ‪،‬‬
‫كنت أالحظ بداية االنييار وأقاوميا بقممي ‪ ،‬عاصرت االنييارات واليزائـ الكبرى التي تعرضت ليا األمة ‪ ،‬فوقفت‬
‫أعري أسبابيا وأحذر مف آثارىا ‪ ،‬كنت أؤمف أف الحياة موقؼ ‪ ،‬وكانت مواقفي واضحة صريحة‪..‬‬
‫ثـ ماذا كانت النتيجة؟ حاربتني الدنيا‪ ..‬حاصرني الجوع‪ ..‬خنقتني الغربة وذات يوـ تقيقرت ‪ ،‬وقعت أسي ار لميأس‬
‫‪ ،‬فكسرت سيفي وركعت‪ ..‬وأجرت قممي ‪ ،‬وصرت أكتب ما أريد وما ال أريد ‪ ،‬وأصفؽ لمجميع‪..‬‬

‫كاف في كبلـ األستاذ سعيد نوع مف البوح‪ ..‬شيء مف كاالعتراؼ ‪ ،‬وتأممت الشيب الذي توج رأسو ‪ ،‬فأدركت أف‬
‫تحت كؿ شعرة بيضاء قصة حزينة ‪ ،‬أو تجربة مريرة ‪ ،‬وشعرت بالرثاء لرجؿ يروي قصة سقوطو أماـ التحديات‪..‬‬
‫"ىؿ يمكف أف تكوف ىذه نياية المخمصيف؟‪!"..‬‬
‫شعرت بالفزع مف أماـ ىذا التساؤؿ الذي داىمني فجأة ‪ ،‬وأنا أنصت لؤلستاذ سعيد وىو يتابع بوحو المثير‪:‬‬
‫ػ لقد انتيى عصر المثؿ والمبادئ والقيـ العظيمة ‪ ،‬وبدأ عصر مختمؼ ‪ ،‬عصر يحكمو قائد واحد اسمو الدوالر‪..‬‬
‫كمنا نميث وراءه ونصفؽ لو بإعجاب ‪ ،‬إنو الوثنية الجديدة التي استعبدتنا وألغت عواطفنا وجردتنا مف القيـ‪..‬‬
‫أنا لو كنت اآلف مكانؾ لما ىزتني حادثة ىذه الطفمة!‪ ..‬عفوا‪ ..‬أنا لست متبمد الحس ‪ ،‬أرجو أال تفيمني خطأ‪..‬‬
‫لكف ‪ ،‬ما أردت قولو أف أطفالنا اليوـ يدمروف بألؼ طريقة ‪ ،‬وىذه الطفمة ليست أسوأىـ حظا‪..‬‬
‫ماذا تقوؿ مثبل في أطفاؿ يموتوف جوعا في الصوماؿ أو العراؽ؟‪..‬‬
‫ماذا تقوؿ في أطفاؿ تزىؽ أرواحيـ في األرحاـ بعمميات اإلجياض الظالمة التي يجرييا أطباء أقسموا اليميف‬
‫الطبي المغمظ؟‪..‬‬
‫ماذا تقوؿ في جيؿ كامؿ تدمره األفبلـ والمسمسبلت اليابطة ‪ ،‬ويستيمؾ فكره وابداعو الفف الرخيص؟‪..‬‬
‫ماذا تقوؿ في آباء وأميات يتركوف أطفاليـ لمخادمة الغربية مف ىنا وىناؾ ‪ ،‬مف أدؿ أف يستمتعوا بأوقاتيـ في‬
‫حفبلت الميو والثرثرة والمتعة الزائفة؟‪..‬‬
‫أطفالنا اليوـ يا دكتور يربييـ جيمة سريبلنكا والفمبيف‪..‬‬
‫ثـ أرسؿ تنييدة ساخرة وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ماذا تقوؿ في أـ تحرـ طفميا مف حميب ثديييا الطبيعي خوفا عمى نيدييا مف الذبوؿ؟‪ ..‬إنيف يبعف الطفولة مف‬
‫أجؿ لحظة إغراء‪ ..‬مف أجؿ كممة إطراء‪ ..‬ىذا ىو البغاء الجديد الذي نمارسو اليوـ بعد أف أصبح جماؿ الجسد‬
‫عندنا قبؿ سبلمة الروح‪..‬‬
‫وأنت تعرؼ أكثر مني يا دكتور عف أىمية حميب األـ ألرواح األطفاؿ وأجسادىـ‪..‬‬

‫ومرت ىنيية صمت ‪ ،‬غاب األستاذ سعيد خبلليا في شرود عميؽ ‪ ،‬ولـ يمبث أف قاؿ‪:‬‬
‫ػ لقد ضاؽ بنا ىذا العالـ عمى رحابتو!‪ ..‬ضاؽ بنا ولـ يعد يتسع لزفراتنا األليمة‪..‬‬
‫وأردؼ بنبرة ألـ‪:‬‬
‫ػ أحيانا أتمنى أف أصرخ ‪ ،‬أف أنزؿ إلى الشارع وأىتؼ كالمجانيف ‪ ،‬أللفت العالـ إلى تناقضاتنا الصارخة الغبية‪..‬‬
‫إلي وقاؿ كالمستدرؾ‪:‬‬
‫ثـ التفت َّ‬
‫ػ أنت يا عزيزي حزيف مف أجؿ طفمة تخمى عنيا أبواىا ‪ ،‬وتبنتيا الييئة االجتماعية ‪ ،‬حسنا ‪ ،‬لنقؿ إف ىذه الطفمة‬
‫ستعيش يتيمة وتشؽ طريؽ حياتيا متأقممة مع ىذه الحقيقة ‪ ،‬لكف‪..‬‬
‫ماذا عف أطفاؿ ينضجوف وسط جحيـ األسرة ‪ ،‬عندما تفقد األسرة إلى روح الحب والتفاىـ التي تبعث فييا‬
‫الحياة؟‪ ..‬يناموف عمى صراخ آبائيـ وأمياتيـ ‪ ،‬ويستيقظوف عمى صوتيـ اليادر بالشتائـ والمعنات‪..‬‬
‫ماذا عف أطفاؿ يربييـ آباء وأميات ال يعرفوف معنى التربية السميمة وال طرائقيا؟ ال يعرفوف مف التربية إال القمح‬
‫المرىؽ أو الدالؿ المفسد‪..‬يتبوءوف مقاعد األبوة واألمومة وىـ ال يعرفوف عف الزواج سوى أنو إطار المتعة الحبلؿ‬
‫‪ ،‬ووسيمة لمتناسؿ واإلنجاب‪..‬‬
‫ووسائؿ إعبلمنا غافمة عف ىذه األمراض المدمرة‪ ..‬ال تكاد تجد فييا برنامجا أو حتى توجيا لتثقيؼ اآلباء ‪ ،‬أو‬
‫تربية األبناء‪..‬‬
‫وأطمؽ األستاذ سعيد آىة عميقة وشت بالكرب ‪ ،‬وقاؿ كمف يخاطب نفسو‪:‬‬
‫ػ لكـ ترىقني الحقائؽ!‪ ..‬تجثـ عمى صدري كالكابوس ‪ ،‬تنشب أظافرىا في نفسي ‪ ،‬وكأني أنا الجاني الوحيد‪..‬‬
‫أي عالـ ىذا الذي نعيش فيو؟‪!..‬‬

‫ثـ صمت األستاذ سعيد ‪ ،‬وقد اعترتو كآبة واضحة‪ ..‬تبادلت أنا وىاني نظرة حائرة ‪ ،‬ثـ عدنا بأعيننا إليو ‪ ،‬تبوح‬
‫نظراتنا بميفتنا لسماع بقية الحديث ‪..‬تستحثو أف يتابع سرد خبلصة تجاربو العميقة ‪ ،‬لكف األستاذ سعيد أوغؿ في‬
‫الصمت ‪ ،‬واغتسمت نظراتو الشاردة بأنداء مف الدمع‪..‬‬
‫تساءلت في سري عف المعنى الذي يختفي وراء ىذا الصمت الحزيف‪ ..‬لكف األستاذ سعيد خرج عف صمتو فجأة‬
‫ليروي لنا قصة مؤلمة مف القصص التي عاصرىا أثناء حياتو الصحفية الحافمة‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد وىو يعيد إشعاؿ النار في غميونو األنيؽ‪:‬‬
‫منذ سنوات ‪ ،‬أبمغني محرر صفحة الحوادث بأف طفمة صغيرة قد وجدت مغتصبة ومقتولة في بناء ميجور‪..‬‬
‫صعقني يوميا النبأ‪..‬‬
‫مف ىذا الوحش الذي يجرؤ عمى قتؿ طفمة؟!!‪ ..‬قمت لو‪" :‬أعطني العنواف‪ ..‬سأغطي ىذا الحادث بنفسي‪"..‬‬
‫وعرفت المحقؽ بنفسي ‪ ،‬وسألتو‬
‫أردت أف أعرؼ مبلبسات ىذه الجريمة الغريبة!‪ ..‬وصمت إلى مكاف الحادث ‪َّ ،‬‬
‫أف يريني الجثة‪..‬‬
‫رفع الضابط الغطاء عف جثة الطفمة ‪ ،‬فصدمني منظر فظيع ال أنساه!‪ ..‬ىؿ رأيت الورد عندما يداس؟‪..‬‬
‫كانت طفمة وديعة‪ ..‬جميمة كالزىر‪ ..‬بريئة الطيؼ‪ ..‬رقيقة كالنسمة‪ ..‬طاىرة كالندى‪ ..‬عمى شفتييا أشبلء‬
‫ابتسامة‪..‬‬
‫تجمدت نظراتي الثائرة عمى الجسد الغض الذي سحقو المجرـ تحت جسده القذر ‪ ،‬وأججت ثورتي تمؾ الدماء‬
‫الطاىرة التي كانت تغرؽ الطفمة ‪ ،‬وشعرت بالغثياف وأنا أرى أبشع صورة لبلنحطاط البشري‪..‬‬

‫كاف الغضب يغمي في عروقي كالبركاف‪ ..‬نظرت إلى المحقؽ فمـ أجده أحسف مني حاال ‪ ،‬قاؿ لي وكأنو يجيب‬
‫عف سؤاؿ نطقت بو مبلمحي الشاحبة‪ :‬لقد تـ اغتصابيا بوحشية ‪ ،‬والتقديرات األولى تشير إلى أنيا ماتت بسبب‬
‫النزيؼ الميبمي الحاد الذي خمفو االغتصاب الغادر‪..‬‬
‫سألتو ‪ :‬والجاني؟ ىؿ عرفتـ الجاني؟‪!..‬‬
‫أجاب وىو ييز رأسو في أسؼ‪ :‬مازاؿ مجيوال ‪ ،‬لكننا نأمؿ أف يتـ اكتشافو عما قريب حتى يناؿ العقاب‬
‫المناسب‪..‬‬
‫قمت لو ‪ :‬تقصد اإلعداـ‪!..‬‬
‫أجاب‪ :‬ىذا شيء تقرره المحكمة‪..‬‬
‫قمت لو وأنا في ذروة الغضب‪ :‬إذا لـ تعدموه أنتـ ‪ ،‬فسأقتمو بنفسي مع سبؽ اإلصرار والترصد ‪ ،‬كف شاىدا عمى‬
‫ىذا الكبلـ‪..‬‬
‫عمي مف ثورة الغضب والحزف ‪ ،‬وظف أف كبلمي عف انفعاؿ طارئ ولِّده منطر‬ ‫ابتسـ المحقؽ يوميا ‪ ،‬وأشفؽ ِّ‬
‫الطفمة القتيمة ‪ ،‬لكني أؤكد لكما أني لـ أكف جادا في حياتي مثمما كنت جادا في تمؾ المحظة‪..‬‬
‫ثـ دار األستاذ بكرسيو ربع دورة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ بعد أياـ اكتشفوا الجاني ‪ ،‬كاف واحدا مف شباب الحي ‪ ،‬شاب عاطؿ عف العمؿ ‪ ،‬يقضي وقتو متسكعا في‬
‫الطرقات ‪ ،‬يتردد عمى دور السينما اليابطة ليأخذ جرعت عالية مف اإلثارة وحمى الجنس ‪ ،‬ثـ يخرج منيا كالكمب‬
‫المسعور ليبلحؽ ىذه ويعتدي عمى تمؾ‪..‬‬
‫ذات يوـ كاف ىذا الشاب يتجوؿ في أزقة الحي كعادتو ‪ ،‬فداىمو المطر فجأة ‪ ،‬فمجأ إلى عمارة قريبة قيد اإلنشاء‬
‫ليحتمي مف األمطار الغزيرة التي انيمرت بشدة‪..‬‬
‫راح يتسمى بتدخيف سيكارة حشيش ‪ ،‬فمعب المخدر برأسو ‪ ،‬فانفصؿ عف عالـ الوعي ‪ ،‬وغاص في الوىـ والزيؼ ‪،‬‬
‫فماعت في خيالو األفكار والمدركات ‪ ،‬واختمطت ‪ ،‬وتحولت إلى ىبلـ ‪ ,‬وتربع عمى عرش النشوة الكاذبة ‪ ،‬فتراءى‬
‫لو الكوف وىو يركع عند قدميو‪..‬‬
‫ورأى ىذا المأفو الطفمة البريئة وىي تركض تحت المطر باحثة عف ممجأ ‪ ،‬وقد التصقت ثيابيا المبممة بجسدىا‬
‫الغض ‪ ،‬فبدت لو غانية حسناء كالمواتي أدمف عمى مشاىدتيف في األفبلـ الرخيصة المسمومة ‪ ،‬فبدد الدخاف‬
‫األزرؽ إرادتو ‪ ،‬وحرؾ غرائزه الكامنة ‪ ،‬فعربدت في أعماقو رغبة بييمية مجنونة ‪ ،‬وسولت لو نفسو السوء ‪ ،‬فدعا‬
‫الطفمة لتموذ بالمكاف الذي يحتمي بو مف المطر ‪ ،‬فاستجابت الطفمة المسكينة لدعوتو ‪ ،‬دوف أف تفيـ ما يراد بيا‪..‬‬
‫كاف وعييا ما زاؿ غضا لـ ينضج بعد ‪ ،‬كانت تنظر إلى العالـ ببراءة ‪ ،‬خياليا الصغير ما زالت أجنحتو ضعيفة‬
‫ال تقوى عمى الطيراف بعيدا في فيـ نوايا الناس ونزعاتيـ ‪ ،‬خياليا الطاىر لـ يتخط بعد أسوار الخير ‪ ،‬وحدود‬
‫الفرح ‪ ،‬ليحمؽ فوؽ مساحات الشر التي تتسع في النفوس المريضة عندما تفقد إنسانيتيا وأصالتيا‪..‬‬
‫وانقض الوغد عمييا كالوحش ‪ ،‬وافترسيا ببييمية منقطعة النظير‪..‬‬
‫كانت الفتاة تصرخ وتستغيث ‪ ،‬وىي ترى اإلنساف الوديع الذي يشبو أباىا وأخاىا يتحوؿ إلى ذئب مفترس ‪،‬‬
‫وضاعت صرخاتيا بيف ىدير الرعد وطرقا المطر ‪ ،‬وبدأت أفراحيا تنزؼ رويدا‪ ...‬رويدا ‪ ،‬حتى ذوت منيا الروح‬
‫‪ ،‬وخبت ‪ ،‬وفارقت الحياة‪..‬‬
‫وعاد األستاذ سعيد إلى صمتو يحممؽ في المجيوؿ ‪ ،‬وترؾ العناف لدموعو الصامتة لتغسؿ نظراتو الزائعة‬
‫الكئيبة‪..‬‬
‫كاف في نظراتو حزف وثورة ‪ ،‬وغضب متوقد كالنار ‪ ،‬واجتاحتنا كآبة فظيعة ونحف نصغي ألبشع قصة يمكف أف‬
‫تدنس األسماع‪..‬‬
‫سألت األستاذ سعيد وأنا في ليفة لمعرفة نياية ىذا المجرـ‪:‬‬
‫ػ ىؿ أعدموه؟‬
‫أجاب األستاذ سعيد وىو ذاىؿ‪:‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬كانت جريمة بشعة ىزت الرأي العاـ ‪ ،‬وكانت الظروؼ المحيطة بالقضية تحكـ حبؿ المشنقة حوؿ رقبتو ‪،‬‬
‫فأعدـ في ميداف عاـ ليكوف عبرة لغيره مف الشاذيف والمنحرفيف‪..‬‬

‫ثـ ارتسمت عمى شفتي األستاذ سعيد ابتسامة ساخرة ‪ ،‬قاؿ وىو يتذكر‪:‬‬
‫ػ حرصت عمى حضور كؿ جمسات المحكمة التي مثؿ أماميا ذلؾ المجرـ ‪ ،‬كنت أحاوؿ دراسة ىذه الشخصية‬
‫المنحرفة ‪ ،‬ورصد المدى الذي وصمت إليو الجريمة في ببلدنا ‪ ،‬وكاف مما أثار غيظي في ىذه المحاكمة ذلؾ‬
‫المحامي الذي وقؼ ليدافع عف المتيـ ‪ ،‬ويطالب المحكمة أف ترأؼ بحالو ‪ ،‬وتقدر دور الفراغ والبطالة في‬
‫الجريمة ‪ ،‬واتكأ عمى سيجارة الحشيش ليخفؼ الحكـ عمى المتيـ ‪ ،‬مدعيا أنو كاف مدفوعا إلى جريمتو تحت تأثيؤ‬
‫المخدر الذي لعب بعقمو وشؿ عنده القدرة عمى التمييز‪..‬‬
‫وعندما انتيت المحاكمة وصدر الحكـ باإلعداـ عمى المجرـ ‪ ،‬سألت ذلؾ المحامي" ‪ :‬كيؼ سمح لؾ ضميرؾ بأف‬
‫تدافع عف ىذا الوغد؟" استغرب المحامي سؤالي وسألني عف اسمي وصفتي ‪ ،‬فعرفتو بنفسي‪..‬‬
‫فضحؾ ساخ ار وقاؿ ‪" :‬أنت؟" قمت لو ‪":‬نعـ ‪ ،‬قؿ يبدو اسمي مضحكا إلى ىذا الحد؟" قاؿ‪":‬ال ‪ ،‬أبدا ‪ ،‬فقط‬
‫فاجأني سؤالؾ!‪ ".‬نظرت إليو مشدوىا ‪ ،‬وقد أثارني تصرفو ‪ ،‬فسارع يقوؿ‪":‬في الماضي يا أستاذ كنت أق أر مقاالتؾ‬
‫بشغؼ ‪ ،‬وأعجب بصراحتؾ وحماسؾ ‪ ،‬لكني لـ أعد ألمس بمؾ الروح في مقاالتؾ األخيرة! لـ تعد تكتب يا‬
‫عزيزي ما تريد‪"..‬‬
‫ثـ أردؼ وىو يرمقني بخبث‪:‬‬
‫ػ "بيف المحامي والصحفي يا صديقي شبو واضح ‪ ،‬كبلىما يضطراف أحيانا لمدفاع عف الباطؿ مف أجؿ لقمة‬
‫العيش‪".‬‬
‫ىز األستاذ سعيد رأسو في م اررة ثـ امتص بعض الدخاف مف غميونو ‪ ،‬ونفثو كمف يزفر مف شدة األلـ ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ "كاف المحامي ذكيا ‪ ،‬صفعني بكمماتو ‪ ،‬ومضى ‪ ،‬وتركني فريسة لمذىوؿ!‪ ..‬منذ ذلؾ التاريخ كسرت أقبلمي‬
‫وألقيتيا في بحر اليأس واليزيمة ‪ ،‬امتنعت عف كتابة مقالي اليومي ‪ ،‬وحولت صحيفتي إلي صحيفة حوادث‬
‫وقصص وتسميات ‪ ،‬صرت أنقؿ اخبار الفنانيف وأسعى وراء النجوـ ‪ ،‬خصصت صفحة لمتعارؼ ‪ ،‬وأخرى لمبحث‬
‫عف النصؼ اآلخر ‪ ،‬وثالثة لؤلبراج ‪ ،‬رابعة لؤلزياء وخامسة آلخر الصرعات ‪..‬وآلمني أف الناس أقبموا عمى‬
‫جريدتي بعد أف كانوا زاىديف فييا ‪ ،‬وارتفعت مبيعاتي مف خمسة آالؼ إلى خمسيف ألفا"‪...‬‬

‫كاف كبلـ األستاذ سعيد صريحا صادقا ‪ ،‬وكاف يقطر م اررة وألما ‪ ،‬وكأنو حديث إنساف ينعى نفسو ‪ ،‬ويعمف‬
‫ىزيمتو بشجاعة نادرة‪..‬‬
‫وتساءؿ ىاني كالمازح‪:‬‬
‫ػ أيؤلمؾ يا سيدي أف يقبؿ الناس عمى جريدتؾ؟‬
‫ابتسـ األستاذ سعيد في م اررة وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ما آلمني ىو الحقيقة المرة التي تقؼ خمؼ ىذا اإلقباؿ ‪ ،‬فقد أكدت لي ىذه التجربة أننا أمة ىاربة ‪ ،‬ترىبيا‬
‫الحقائؽ ‪ ،‬وترىقيا الصراحة ‪ ،‬نحف مجتمع ال يريد أف يواجو نفسو ‪ ،‬يخشى أف يرى وجيو في المرآة حتى ال‬
‫تفجعو التشوىات الدميمة التي تتسع مساحتيا فينا يوما بعد يوـ ‪ ،‬نحف مجتمع يريد أف يبقى مخد ار نائما مغمض‬
‫العيوف ‪ ،‬مجتمع يخشى أف يسترد وعيو‪ ..‬يخشى أف يصارحو المعالجوف بأنو مصاب بالسرطاف ‪ ،‬أنو بحاجة إلى‬
‫جراحة عاجمة الستئصاؿ األوراـ الخبيثة مف جسده المريض‪!..‬‬
‫ثـ أردؼ األستاذ سعيد بعد صمت قصير ‪ ،‬وىو يمقي نظراتو نحوي‪:‬‬
‫ػ اطمئف يا دكتور ‪ ،‬صحيح أني صحفي فقد حماسو ‪ ،‬لكني ما زلت إنسانا ‪ ،‬اطمئف سأتعاطؼ مع مشاعرؾ‬
‫النبيمة ‪ ,‬وسأنشر لؾ خبر الطفمة المقيطة عدا في الصفحة األولى‪..‬‬
‫ثـ أرسؿ األستاذ سعيد تنييدة طويمة ‪ ،‬وأغمض عينيو إغماضة مف ألـ بو ألـ حاد اخترؽ جسمو ‪ ،‬ولـ يمبث أف‬
‫قاؿ‪:‬‬
‫ػ أرجوكما أف تتركاني لوحدي اآلف ‪ ،‬فقد أثارت زيارتكما في نفسي شجنا كنت أظف أني قد برأت منو‪!..‬‬
‫كاف طمب األستاذ سعيد مفاجئا وغريبا ‪ ،‬أوحى لي بعمؽ الغربة التي يحياىا‪..‬‬
‫شكرناه ‪ ،‬وغادرناه في ىدوء ‪ ،‬تطاردنا تمؾ الصورة المخيفة التي رسميا لنا ليذا العصر الرديء‪..‬‬
‫قاؿ ىاني وىو يتأبط ذراعي‪:‬‬
‫ػ ىذا اإلنساف يخيفني‪..‬يرسـ أمامي صورة قاتمة لممستقبؿ‪!..‬‬
‫ػ لكف كبلمو ال يخمو مف الحقيقة‪!..‬‬
‫ػ عندما يزور ىذا اإلنساف والدي ‪ ،‬أتجنب الجموس مع ‪ ،‬أىرب مف البيت كمو حتى ال أسمع كبلمو ‪ ،‬الأدري‬
‫كيؼ سمعتو اليوـ حتى النياية‪..‬‬
‫قمت وأنا أستذكر كممات األستاذ سعيد‪:‬‬
‫ػ ألـ يقؿ لؾ األستاذ سعيد؟‪ ..‬أنت مف مجتمع ىارب ‪ ،‬ال يريد أف يسمع ‪ ،‬ال يريد أف يعرؼ ‪ ،‬يريد أف يظؿ نائما‬
‫مخد ار ممعنا في اليروب‪..‬‬
‫قاؿ ىاني كاليازئ‪:‬‬
‫ػ وأنت؟ مف أي مجتمع؟‪..‬‬
‫ػ أنا أريد أف أعرؼ‪..‬‬
‫ػ ستتألـ‪..‬‬
‫ػ األلـ مف عبلمات الحياة‪..‬‬
‫ػ ستتعذب‪..‬‬
‫ػ العذاب يزيدنا إحساسا بالواقع ‪ ،‬وتصميما عمى التغيير‪..‬‬
‫ػ يبدو أنؾ قد أصيب بالعدوى‪!..‬‬
‫ػ ممف؟‬
‫ػ مف سعيد الناشؼ‪..‬‬
‫ضحكت وقمت‪:‬‬
‫ػ أنت المسؤوؿ ‪ ،‬أنت الذي عرفتني بو‪..‬‬
‫ػ لـ أعرؼ أنؾ تستعذب التشاؤـ مثمو‪..‬‬
‫ػ تشخيص أمراض المجتمع ‪ ،‬والبحث عف أسباب السقوط ليس تشاؤما ‪ ،‬إنو الطريؽ إلى الخبلص‪..‬‬
‫ىتؼ ىاني في توسؿ وانكار‪:‬‬
‫ػ رحماكـ أييا المصمحوف ‪ ،‬ىؿ تريدوف مني أف أشخص أمراض المجتمع ‪ ،‬أـ أشخص أمراض الناس؟‪..‬‬
‫ثـ أردؼ في ضراعة ودعابة‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ‪ ..‬أرجوؾ يا صديقي المدود ‪ ،‬دعنا مف ىذا الحديث‪..‬‬
‫وكالعادة ‪ ،‬استطاع ىاني أف يزيؿ بدعابتو الجو الكئيب الذي وضعنا فيو األستاذ سعيد‪..‬‬
‫ومضينا نثرثر ونمزح ‪ ،‬ونمعف في اليروب‪...‬‬
‫الفصل العاشر‬

‫صدر العدد الجديد مف جريدة األياـ في اليوـ التالي ‪ ،‬ق أر الناس فيو خبر الطفمة المقيطة عمى الصفحة األولى ‪،‬‬
‫وتناقمت األلسنة قصة ىذه الطفمة البائسة باستنكار ‪ ،‬قاؿ ىاني وىو يقمب صفحات الجريدة‪:‬‬

‫ػ لقد وفى األستاذ سعيد بوعده ‪ ،‬وأورد الخبر بكؿ تفاصيمو ‪ ،‬وىا ىي الخطة تمضي كما رسمناىا‪..‬‬

‫قمت وأنا ساىـ‪:‬‬

‫ػإذا كانت والدة الطفمة بريئة مستغفمة كما توقعنا ‪ ،‬فسوؼ تأتي إلى ىنا ‪ ،‬لتسأؿ عف طفمتيا ‪ ،‬واال فسوؼ نعود‬
‫إلى نقطة البداية‪..‬‬

‫ضحؾ ىاني وقاؿ وىو يرمي الجريدة خمؼ ظيره‪:‬‬

‫ػ تتحدث وكأنؾ محقؽ حاذؽ يقؼ أماـ قضية معقدة ‪ ،‬ال أدري كيؼ أقنعتني بيذه المعبة‪!..‬‬

‫قمت لو بنبرة جد‪:‬‬

‫ػ أنا ال ألعب ‪ ،‬إذا كنت تظف األمر لعبة ‪ ،‬بإمكانؾ أف تنسحب‪..‬‬

‫قاؿ ىاني ضاحكا‪:‬‬

‫ػ ولماذا أنسحب؟ أنا استمتع بالمعبة ‪ ،‬وأنت تؤدي واجبؾ كما تعتقد ‪ ،‬كبلنا في موقع واحد ‪ ،‬لكف كبل منا ينظر‬
‫إلى األمر مف زاويتو‪..‬‬
‫واستنفرنا لصد كؿ مف يسأؿ عف الطفمة ‪ ،‬وانضمت ِِإلينا أحبلـ ‪ ،‬بعد أف شرحت ليا الغاية مف الخبر الذي‬
‫نشرنيا ‪ ،‬ومضى النيار سريعا دوف أف يسأؿ عف الطفمة أحد ‪ ،‬قاؿ ىاني بعد أف انتيى دوامو‪:‬‬

‫ػ اعذرني يا صديقي ‪ ،‬يجب أف أمضي‪..‬‬

‫ػ ألف تبقى معي لتكمؿ المعبة كما تسمييا؟‬

‫قيقو ىاني عاليا ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬

‫ػ عفوا ‪ ،‬أنا ال ألعب في الوقت الضائع ‪ ،‬تابع ميمتؾ يا بطؿ ‪ ،‬وأخبرني بالنتائج‪..‬‬

‫ومضى ىاني ‪ ،‬فأشعرني انسحابو بأني أعبث ‪ ،‬وكدت أستسخؼ ما أقدمت عميو لوال أحبلـ التي أبدت تعاطفا‬
‫واىتماما ‪ ،‬فقررت أف تمد نوبتيا لتراقب نياية التجربة‪..‬‬

‫ومضى اليوـ األوؿ دوف أف نظفر بنتيجة ‪ ،‬فشعرت بخيبة مؤلمة ‪ ،‬لكني لـ أيأس ‪ ،‬استقبمت اليوـ التالي بحماس‬
‫شديد ‪ ،‬ورحت أترقب حضور األـ لتسأؿ عف طفمتيا ‪ ،‬لكف شيئا مف ىذا لـ يحدث‪!..‬‬

‫شعرت باإلحراج أماـ ىاني وأحبلـ ‪ ،‬وكؿ الذيف تعاطفوا معي ‪ ،‬وحاصرني شعور مزعج بأني إنساف مبالغ ينخ‬
‫االىتماـ في األمور الصغيرة فتكبر وتنو وتتورـ حتى تنفجر ‪ ،‬وتحدث حوليا دويا مزعجا يمفت نحوه األسماع‬
‫واألنظار‪..‬‬

‫عمي بتعميقاتو البلذعة ‪ ،‬يتيمني بالمراىقة تارة ‪ ،‬وبالبحث عف تسمية تارة ‪ ،‬ثـ راح يرثى لحالي ‪،‬‬
‫وانياؿ ىاني َّ‬
‫ويحذرني مف طيبتي الزائدة التي تورطني في مواقؼ محرجة‪..‬‬

‫وبعد أياـ ‪ ،‬تماثمت الطفمة المقيطة لمشفاء ‪ ،‬وأصبحت حالتيا الصحية تسمح ليا باالنتقاؿ إلى ممجأ األيتاـ‪..‬‬

‫قالت أحبلـ‪:‬‬

‫ػ لقد قدمت تقري ار مفصبل عف حالة الطفمة إلى مدير المستشفى ‪ ،‬ليقوـ بتحويميا رسميا إلى ممجأ الحناف لؤليتاـ‪..‬‬
‫قمت بنبرة آسفة‪:‬‬

‫ػ كنت أتمنى أف نصؿ إلى نتيجة‪..‬‬

‫ابتسمت أحبلـ وقالت مازحة‪:‬‬

‫ػ كانت مغامرة فاشمة ىذه المرة ‪ ،‬ابحث عف مغامرة جديدة‪..‬‬

‫لـ أجد ما أقولو ‪ ،‬تيالكت عمى كرسي قريب ‪ ،‬وجمست كالميزوـ‪..‬‬

‫قالت أحبلـ بميجة تشي بالمواساة‪:‬‬

‫ػ عمى أية حاؿ ‪ ،‬لقد قمت بجيد نبيؿ يستحؽ االحتراـ‪..‬‬

‫شكرتيا بإيماءة صامتو ‪ ،‬ثـ ىمست وأنا أىـ بالنيوض ثانية‪:‬‬

‫ػ يبدو أني أبالغ كثي ار في اىتماماتي‪!..‬‬

‫ػ ال تؤنب نفسؾ ‪ ،‬أردت أف تقدـ شيئا مفيدا ‪ ،‬فكاف األمر يفوؽ طاقتؾ‪..‬‬

‫لـ تستطع كممات أحبلـ الرقيقة أف تخفؼ عني ‪ ،‬تركتيا وىي ترمقني في إشفاؽ ‪ ،‬وغادرت المكاف‪..‬‬

‫استوقفتني أحبلـ بعد أف مضيت خطوات وسألتني‪:‬‬

‫ػ إلى أيف؟‬

‫ػ إلى العـ درويش‪..‬‬

‫ػ دائما تذىب إليو‪..‬‬


‫ػ لقد اشتقت إلى قيوتو‪..‬‬

‫ػ بؿ قؿ أنؾ ذاىب لتبوح لو بما يثقؿ صدرؾ‪..‬‬

‫ػ كيؼ عر ِ‬
‫فت؟‬

‫ػ كمنا نذىب إليو‪..‬‬

‫ػ معؾ حؽ‪..‬‬

‫ومضيت مثقبل بالخيبة ‪ ،‬يجتاحني شعور بالتفاىة ‪ ،‬ولـ تمبث أحبلـ أف استوقفتني مرة أخرى‪:‬‬

‫ػ عمى فكرة‪...‬‬

‫ػ ماذا؟‬

‫ػ لقد أحضر العـ درويش زوجتو باألمس ‪ ،‬وأراىا الطفمة‪..‬‬

‫حممقت في األرض ‪ ،‬وتصورت لمحظة كؿ المعاني التي تكمف خمؼ ىذه الزيارة‪ ،‬أردفت أحبلـ‪:‬‬

‫ػ لقد كاف موقفا مؤث ار ‪ ،‬إني أرثي ليذيف الزوجيف العاثريف‪..‬‬

‫قمت وأنا أمضي‪:‬‬

‫ػ يبدو لي أنا جميعا بحاجة إلى رثاء‪..‬‬


‫الفصل الحادي عشر‬

‫قاؿ العـ درويش وىو يقدـ لي فنجانا شييا مف القيوة‪:‬‬

‫ػ لـ يسألوا عف الطفمة ‪ ،‬أليس كذلؾ؟‬


‫ػ ىا أنت مطمع عمى آخر األنباء‪..‬‬

‫تنيد العـ درويش وقاؿ وىو يسحب كرسيا ليجمس معي‪:‬‬

‫ػ ىناؾ أمر يختمر في بالي منذ أياـ ‪ ،‬وأريد أف أشاورؾ فيو‪..‬‬

‫تناولت رشفة مف فنجاني ‪ ،‬وقمت وأنا أرنو إليو في إشفاؽ‪:‬‬

‫ػ أعرؼ ما تريد قولو ‪ ،‬الطفمة ؟ أليس صحيحا؟‬

‫ػ ىؿ أستطيع أف آخذىا وأربييا؟‬

‫ػ تفعؿ خي ار لو أقدمت عمى ذلؾ‪..‬‬

‫سرت في جسد العـ درويش شحنة مف الحماس ‪ ،‬وأشرؽ وجيو بالبشر والحبور ‪ ،‬ىتؼ كالحالـ‪:‬‬

‫ػ سأربييا أحسف تربية ‪ ،‬وسأدلميا دالال تغار منو بنات القصور ‪ ،‬لكـ أنا في شوؽ إلى األطفاؿ يا دكتور‪!..‬‬

‫ػ أتفيـ مشاعرؾ ‪ ،‬أنت تستحؽ كؿ خير يا عـ درويش‪..‬‬

‫قاؿ العـ درويش وىو يستجيب لشحنة جديدة مف البشر والنشاط‪:‬‬

‫عمي في الصباح والمساء عمى أخذ الطفمة لنربييا‬


‫ػ لعمؾ ال تتصور مقدار حماس زوجتي لمفكرة ‪ ،‬إنيا تمح َّ‬
‫ونرعاىا ‪ ،‬وىي تغرؽ الطفمة بالقببلت والدموع ‪ ،‬وتشبعيا ضما ولثما وتقبيبل ‪ ،‬إننا نحيا حياة قاسية ببل أطفاؿ‪..‬‬

‫كاف المسكيف يتكمـ بحرقة وأسى ‪ ،‬وأحسست بمسع الحرماف الذي يعانيو ىو زوجتو فقمت أواسيو‪:‬‬

‫ػ ال تحزف يا عـ درويش لعؿ اهلل قد شاؽ الطفمة إلينا لتقر بيا عينا أنت وزجتؾ‪..‬‬
‫قاؿ العـ درويش في ليفة طاغية‪:‬‬

‫ػ كيؼ أستطع أخذىا؟‬

‫ػ عميؾ أف تتقدـ بطمب إلى ممجأ األيتاـ الذي ستحوؿ إليو‪..‬‬

‫ػ ولماذا ال أستمميا مف ىنا؟ سأوقع عمى كؿ الضمانات والتعيدات البلزمة‪..‬‬

‫ابتسمت مشفقا ‪ ،‬وقمت‪:‬‬

‫ػ أنت مستعجؿ أكثر مما يجب‪!..‬‬

‫أطرؽ العـ درويش وىو ييز رأسو في حزف ‪ ،‬ثـ قاؿ بنبرة تنـ عف ليفتو وأشواقو الممتيبة‪:‬‬

‫ػ العمر يمضي يا دكتور ‪ ،‬ولـ يبؽ منو سوى القميؿ ‪ ،‬وأنا أريد أف أودع الدنيا عمى صوت طفؿ يقوؿ لي بابا‪...‬‬
‫بابا ‪ ،‬ماما‪ ...‬أغنية جميمة تعطر البيوت الحزينة ‪ ،‬وترد إلييا الروح ‪ ..‬أغنية عذبة حرمناىا واشتقنا إلييا‪..‬‬

‫نريد أف نسمعيا ولو مف طفمة لـ ننجبيا ‪ ،‬وزوجتي يا دكتور صبلح امرأة طيبة ‪ ،‬قدمت لي الحب واإلخبلص وال‬
‫أستطيع أف أرفض ليا طمبا ‪ ،‬لقد ولعت بالطفمة وتعمؽ قمبيا بيا ‪ ،‬ويجب أف أحقؽ ليا أمنيتيا ‪ ،‬أرجو أال تفيـ‬
‫أني رجؿ ضعيؼ الشخصية أو كما يقوؿ أخي أبو رشيد ‪:‬رجؿ محكوـ عمى أمري أصغي لكبلـ النساء ‪ ،‬األمر‬
‫ليس كذلؾ ‪ ،‬كؿ ما في األمر أني أحب زوجتي وأحترميا وأقد األياـ الطيبة التي عشناىا معا ‪ ،‬أريد أف أقدـ ليا‬
‫خدمة تكافئ تضحيتيا مف أجمي ‪ ،‬سأعترؼ لؾ بشيء‪..‬‬

‫في ‪ ،‬أعرؼ أني الذي ال أنجب ‪ ،‬وىي تعرؼ ‪ ،‬لكنيا امرأة وفية ‪ ،‬رفضت أف ننفصؿ وتتزوج‬
‫أنا أعرؼ أف العيب َّ‬
‫سني العمر محروميف مف رائحة األطفاؿ ‪ ،‬فحمدنا‬
‫غيري ‪ ،‬قالت لي يوميا والدموع في عينييا‪ :‬لقد قضينا أجمؿ َّ‬
‫اهلل ‪ ،‬ورضينا بالمكتوب ‪ ،‬فمماذا تريد أف توقظ الجرح اآلف وقد كاد أف يمتئـ؟د‬

‫دعنا مف ىذه السيرة اهلل يخميؾ‪..‬‬

‫ومسح العـ درويش دمعة أفمتت منو رغما عنو ثـ أردؼ قائبل‪:‬‬
‫ػ يجب أف أكافئيا يا دكتور ‪ ،‬أليس كذلؾ؟‪..‬‬

‫أثار حديث العـ درويش مشاعري ‪ ،‬ىمست وأنا أرنو إليو بانفعاؿ‪:‬‬

‫ػ أنت مثاؿ طيب لئلخبلص والوفاء ‪ ،‬يا عـ درويش‪!..‬‬

‫ىتؼ في ضراعة‪:‬‬

‫ػ لـ تقؿ لي بعد ‪ ،‬متى أستطيع أخذ الطفمة؟‬

‫تناولت رشفة أخرى مف فنجاني الذي كاد أف يبرد ‪ ،‬ثـ قمت موضحا‪:‬‬

‫ػ جرت العادة يا عـ درويش أف يبقى الطفؿ المقيط مدة في الممجأ حتى تكوف ىناؾ فرصة لمعرفة أبويو الشرعييف‬
‫‪ ،‬وقد تصؿ ىذه المدة إلى بضعة أشير ‪ ،‬ثـ يصبح الباب مفتوحا لمف أراد أف يتوؿ رعاية الطفؿ أو تربيتو‪..‬‬

‫ىتؼ العـ درويش‪:‬‬

‫ػ ىؿ تعني أف الطفمة يمكف أف‪...‬‬

‫ػ مف يدري؟ قد يظير أىميا في آخر لحظة‪..‬‬

‫عمتو كآبة وقمؽ ‪ ،‬والذ بالصمت ‪ ،‬ابتسمت ‪ ،‬وقمت لو‪:‬‬

‫ػ لماذا أنت واجـ؟ لو كاف أىميا حريصيف عمييا لما تخموا عنيا‪..‬‬

‫قاؿ العـ درويش بنبرة حائرة‪:‬‬

‫ػ ال ادري لماذا تعمؽ قمبنا بيذه الطفمة بالذات‪!!..‬‬


‫ثـ استدرؾ قائبل‪:‬‬

‫ػ ىؿ يتركوف لنا حرية اختيار اسميا؟‪..‬‬

‫ػ أتفكر ليا باسـ؟‬

‫سرح العـ درويش ببصره ‪ ،‬وقاؿ كمف داعبو حمـ لذيذ‪:‬‬

‫ػ نعـ سأسمييا أمؿ ‪ ،‬فيي األمؿ العذب الذي راودنا منذ زمف بعيد‪..‬‬

‫ثـ راح العـ درويش يردد االسـ وكأنو يختبر وقعو عمى األسماع‪:‬‬

‫ػ أمؿ‪ ..‬أمؿ‪ ..‬يا سبلـ ‪ ،‬إنو أسـ لطيؼ أليس كذلؾ؟ أمؿ سأسمييا أمؿ ‪ ،‬وسألحقيا بنسبي‪..‬‬

‫قاطعتو محذ ار‪:‬‬

‫ػ إال ىذه يا عـ درويش‪!..‬‬

‫ػ لماذا؟‬

‫ػ حتى ال تخدع الطفمة مرة أخرى‪..‬‬

‫ػ أخدعيا؟ كيؼ؟‪..‬‬

‫ػ يكفي أف الطفمة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ‪ ،‬وليس مف العدؿ أف تعيش فيو ضحية كذلو ‪ ،‬أف تمحقيا‬
‫بنسبؾ يعني أنيا ستنشأ وىي تظف أنؾ أبوىا الحقيقي ‪ ،‬وسيتفتح وعييا عمى ىذا الوىـ ‪ ،‬وفي منتصؼ الطريؽ‬
‫تكتشؼ الحقيقة ‪ ،‬وتعرؼ أنؾ لست أباىا الشرعي ‪ ،‬وعندىا ستعيش الطفمة مأساة حقيقية ‪ ،‬ستبلحقيا الشكوؾ‬
‫وتحاصرىا التساؤالت ‪ ،‬وتخنقيا األوىاـ‪..‬‬
‫كف واضحا منذ البداية ‪ ،‬جرعيا الحقيقة رشفة رشفة ‪ ،‬وكف واثقا مف أف حنانؾ وحبؾ ورعايتؾ ليا في الوشيجة‬
‫الحقيقية التي ستجمع بينكما ‪ ،‬األنساب وحدىا يا عـ درويش ال تصنع الحب ‪ ،‬الحب ىو الذي يصنع األنساب‪..‬‬

‫فكر مميا ثـ ىمس‪:‬‬

‫ػ صدقت‪..‬‬

‫وغرؽ العـ درويش في خواطره فانتشمتو منيا قائبل‪:‬‬

‫ػ ثمة حقيقة أخرى يا عـ درويش يجب أف أصارحؾ بيا‪..‬‬

‫ػ تفضؿ‪..‬‬

‫قمت في دعابة‪:‬‬

‫ػ لقد بردت قيوتي قبؿ أنت أنيييا ‪ ،‬وأنا أحب أف أشرب قيوتؾ ساخنة ‪ ،‬كيؼ سنعالج ىذه المشكمة؟‪..‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫كفكفت السماء دموع الشتاء ‪ ،‬وأطمت عمى األرض بعيونيا الزرقاء ‪ ،‬كحسناء تحضف العالـ بنظرتيا الصافية‬
‫الحنوف ‪ ،‬وأزاحت الشمس بأشعتيا الدافئة بقايا الغيوـ ‪ ،‬وتدلت وسط القبة الزرقاء كالقنديؿ ‪ ،‬وراحت تضيء العالـ‬
‫باألفراح‪..‬‬
‫وبدأ الربيع يزحؼ بيدوء وجبلؿ ‪ ،‬فاستعدت الطبيعة الستقبالو بكؿ ما أوتيت مف فتنة وبياء وجماؿ‪..‬‬
‫وانضمت حديقة المستشفى إلى ميرجاف الربيع ‪ ،‬فاكتست برداء أخضر ‪ ،‬وزينت صدرىا بالزىور ‪ ،‬واغتسمت‬
‫بأريج فواح ‪ ،‬يمؤل النفس ببيجة فريدة ‪ ،‬ويزرعيا باألشواؽ‪..‬‬
‫وىبت نسائـ األصيؿ ناعمة رقيقة معطرة بعبؽ الطبية ‪ ،‬فأحسست في مداعبتيا المطيفة ىمسا خفيا يدعوني لزيارة‬
‫الحديقة الغناء التي تربطني بيا صداقة قديمة‪..‬‬
‫كاف النيار يتسرب رويدا رويدا مف جعبة الزمف ‪ ،‬فطفقت الشمس المتعبة تمممـ أشعتيا الذىبية استعداد لمرحيؿ ‪،‬‬
‫وتوىج األفؽ بألواف الغروب الرائعة ‪ ،‬وراف عمى الحديقة ىدوء شامؿ ‪ ،‬وصمت عميؽ‪..‬‬
‫ألقيت نفسي في أحضاف الحديقة الخضراء ‪ ،‬واسترخيت فوؽ بساطيا العشبي الطري ‪ ،‬كطفؿ يناـ عمى صدر أمو‬
‫‪ ،‬وأرسمت نظراتي إلى األفؽ الوردي ‪ ،‬ألمتعيا بموحة األصيؿ الساحرة التي رسمتيا يد القدر في أحسف صورة‬
‫وأروع تشكيؿ‪..‬‬
‫عمي عالمي ليزيده أنسا وبيجة‪..‬‬
‫لـ تدـ خموتي الحالمة طويبل ‪ ،‬ثمة ىمس رقيؽ اقتحـ َّ‬
‫ػ يا لمروعة!‪ ..‬ىا ىي الحديقة تستعيد جماليا القديـ‪!..‬‬
‫التفت إلى أحبلـ في ليفة ‪ ،‬وحييتيا بابتسامة ‪ ،‬ثـ عدت بنظراتي إلى الشمس الغاربة وىي تغوص خمؼ األفؽ ‪،‬‬
‫وأقبمت أحبلـ تقوؿ‪:‬‬
‫ػ تبدو منسجما مع الطبيعة إلى أبعد حد لكأنكما صديقاف‪!..‬‬
‫نيضت جالسا ‪ ،‬ثـ قمت وأنا أجوب بنظراتي أرجاء الحديقة الغناء‪:‬‬
‫ػ الطبيعة عالمي ومبلذي‪..‬‬
‫ػ سألتني بميجة ال تخمو مف الدعابة‪:‬‬
‫ػ قؿ تسمح لي باالقتراب مف عالمؾ الجميؿ؟‪..‬‬
‫ابتسمت لدعابتيا المطيفة ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ الطبيعة لمجميع‪..‬‬
‫جمست أحبلـ عمى كرسي قريب وقالت‪:‬‬
‫ػ بـ تفكر؟‪..‬‬
‫ػ أشياء كثيرة‪..‬‬
‫ػ الطفمة؟‪..‬‬
‫ػ ممكف‪..‬‬
‫ػ أمازلت تفكر بيا؟‬
‫ػ آلمني أني لـ أستطع أف أقدـ ليا شيئا‪..‬‬
‫ػ إنما األعماؿ بالنيات‪..‬‬
‫ػ نعـ نممؾ النوايا الطيبة ‪ ،‬لكنا ال نعرؼ كيؼ نترجميا إلى عمؿ‪.‬‬
‫ػ عدت تؤنب نفسؾ!‬
‫ػ لكـ يعذبني العجز!‬
‫ػ لطاقة اإلنساف عتبة ال يممؾ أف يتجاوزىا‪..‬‬
‫ػ لكنا نممؾ أف نحاوؿ‪..‬‬
‫حاولت بما فيو الكفاية‪..‬‬
‫َ‬ ‫ػ‬
‫ػ أنسمـ الطفمة إلى الشقاء؟‬
‫ضحكت أحبلـ ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ تتحدث عف الطفمة وكأنؾ الذي أنجبتيا!‬
‫لـ أنبس ‪ ،‬زحفت إلى شجرة قريبة ‪ ،‬واستندت بظيري إلى جذعيا النحيؿ‪..‬‬
‫قالت أحبلـ وىي ترنو إلى األفؽ‪:‬‬
‫ػ ليتني أحمؿ ريشتي وألواني‪..‬‬
‫نظرت إلييا في دىشة‪:‬‬
‫ػ أتحبيف الرسـ؟‬
‫افتر ثغرىا عف ابتسامة عذبة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أنا رسامة ماىرة ‪ ،‬أال تعرؼ؟‬
‫ػ أجيؿ عنؾ الكثير؟‬
‫ػ وأنا أيضا‪..‬‬
‫ػ تجيميف نفسؾ!‬
‫ػ بؿ أجيؿ عنؾ الكثير‪..‬‬
‫عني أنا؟!‬
‫ػ َّ‬
‫ػ أجؿ ‪ ،‬مف أنت؟‬
‫ػ يا لو مف سؤاؿ!‬
‫ػ أىو محرج؟‬
‫ػ أبدا‪..‬‬
‫ػ مف أنت؟‪..‬‬
‫ػ شاب كسائر الشباب‪..‬‬
‫ضحكت وقالت كالمتوعدة‪:‬‬
‫ػ ال تفسر الماء بالماء‪..‬‬
‫إلي ‪ ،‬فأحببت أف أستغؿ الفرصة ألعطييا صورة صادقة‬
‫تذكرت مبلحظة ىاني عف اىتماـ أحبلـ بي ‪ ،‬وميمييا َّ‬
‫عني ‪ ،‬لتعرؼ مف أنا؟ وما حقيقة ظروفي؟ فبل تتمادى في االقتراب مف شاب قد ال يصمح ليا أو يستطيع‬
‫إسعادىا ‪ ،‬وعادت تقوؿ‪:‬‬
‫ػ إذا كاف سؤالي محرجا فبل تجب‪..‬‬
‫تنيدت وقمت‪:‬‬
‫ػ إذا كنت مصرة فبل بأس‪ ..‬سأقوؿ لؾ مف أنا‪ ..‬أنا شاب عادي جدا‪ ..‬شاب مثؿ كؿ الشباب‪ ..‬لو طموحاتو‬
‫وأحبلمو ‪ ،‬ولو ىمومو وآالمو‪ ..‬قد أكوف جديا أكثر مما يروؽ لمبعض! وقد أكوف متمسكا بالقيـ العميا أكثر مما‬
‫صار يطمبو مجتمعنا في شبابو‪ ..‬أو كما يقوؿ ىاني‪ :‬أنا (حنبمي) أكثر مف البلزـ‪ ..‬لكني أعتقد أني طبيعي جدا‬
‫‪ ،‬ولست معقدا كما يتيمني ىاني أيضا ‪ ،‬ىذا أنا ببساطة‪ ..‬أما إذا أردت بسؤالؾ أف تعرفي شيئا عف بيئتي‬
‫وأسرتي فمؾ ذلؾ‪ ..‬لقد ولدت وترعرت في أسرة بسيطة‪ ..‬ربيا إنساف مكافح كرس حياتو مف أجؿ أبناءه الستة ‪،‬‬
‫وقضى عمره كالجندي المجيوؿ‪ ..‬يعمؿ بصمت ليوفر ألسرتو العيش الرغيد ‪ ،‬ويممؾ قدرة عجيبة عمى كتـ آالمو‬
‫وأحزانو ‪ ،‬عمى شفتيو دائما ابتسامة وادعة ال تكاد تغيب ‪ ،‬ابتسامة صامدة في أوقات الحزف والفرح ‪ ،‬فعندما يكوف‬
‫حزينا يخفي حزنو وراء تمؾ االبتسامة وعندما يفرح يطمؽ العناف البتسامتو لتتسع وتشرؽ وتضيء‪ ..‬يحب أف‬
‫يمارس حزنو سرا‪ ..‬ضبطتو أكثر مف مرة في حديقة المنزؿ وىو يبكي ‪ ،‬لكني لـ أستطع أف أقترب منو ألسألو عف‬
‫سر حزنو‪ ..‬كنت أتوارى بسرعة حتى ال أشعره بأني قد كشفت ضعفو ‪ ،‬والدي ال يحب أف يبدو أمامنا ضعيفا ‪،‬‬
‫يريد دائما أف يبدو أمامنا قويا صامدا حتى يشعرنا باألماف‪ ..‬إنو قدوة لنا في كؿ شيء ‪ ،‬ما نيانا عف منكر قط‬
‫ثـ أتى مثمو ‪ ،‬حريص عمى سمعتنا‪ ..‬حريص عمى سعادتنا‪ ..‬يضحي بضرورياتو مف أجؿ رفاىيتنا ‪ ،‬ويوجينا‬
‫دائما باالبتساـ‪ ..‬صورة فريدة لمتواضع وانكار الذات مؤلتنا دائما باالحتراـ ليذا األب المكافح الذي يذوب كالشمع‬
‫لينير لنا الدروب‪..‬‬
‫ىذا أبي‪ ..‬أما أمي ‪ ،‬فيي سيدة طيبة فيمت الحياة عطاء وتضحية‪ ..‬اتخذت مف أبنائيا الستة قضية نذرت ليا‬
‫العمر ‪ ،‬ورصدت ليا أمومتيا الفياضة بالحناف لتروي بيا براعميا الصغيرة ‪ ،‬ثـ راحت ترقبيا وىي تنمو وتنضج‬
‫وتستوي عمى عودىا وسط أعاصير الحياة‪..‬‬
‫فيمت أمي الزواج عمى أنو شراكة ‪ ،‬فتقاسمت مع زوجيا األدوار ‪ ،‬أعتقد أف أمي لـ تتزوج أبي بعد قصة قيس‬
‫وليمى ‪ ،‬لكف قصة الحب التي نشأت بينيما بعد الزواج أجمؿ مف قصة قيس وليمى ‪ ،‬وأروع مف حب روميو‬
‫لجولييت ‪ ،‬ألنو حب قائـ عمى التضحية واإلخبلص اإليثار‪ ..‬حب قائـ عمى التكامؿ بيف رجؿ وامرأة ‪ ،‬والدي كاف‬
‫بالحب‪..‬‬
‫ب ‪ ,‬وأمي كانت تكافح داخؿ العش لتفرشو ُ‬ ‫الح ّ‬
‫يكافح في الخارج ليمتقط َ‬
‫بيتنا بسيط األثاث ‪ ،‬لكف أمي استطاعت أف تصنع منو أثاثا أنيقا متجددا ال تبمى أناقتو مع األياـ ‪ ،‬فإذا جربت أف‬
‫تزوري ىذا البيت شدتؾ رائحة النظافة الممزوجة برياحيف الزىور ونباتات الزينة التي تربييا أمي كما تربي أوالدىا‬
‫‪ ،‬واذا صادفت زيارتؾ لبيتنا وقت الغداء ‪ ،‬فتحت شييتؾ رائحة األصناؼ المذيذة التي تنيمؾ أمي في صناعتيا‬
‫كما ينيمؾ الفناف في تشكيؿ لوحتو ‪ ،‬أنا لست ضد عمؿ المرأة ضمف الشروط االجتماعية المناسبة ‪ ،‬لكني أعتقد‬
‫أف البيت الذي ال تخمع عميو المرأة اىتماميا ‪ ،‬بيت ببل روح‪ ..‬بيت كالبيوت الميجورة التي تصفر فييا الريح ‪،‬‬
‫وتعيث فييا األشباح‪..‬‬
‫وانتبيت إلى أحبلـ فوجدتيا ترنو إل َّي بنظرات حالمة أحرجتني ‪ ،‬واشتبكت نظراتنا لمحظة ‪ ،‬فسحبت نظراتي برفؽ‬
‫‪ ،‬وأرسمتيا إلى األفؽ ألغسميا بألواف الشفؽ‪..‬‬

‫قالت أحبلـ وىي تمسد بأنامميا خصبلت شعرىا األشقر المنسدؿ عمى صدرىا كالوساـ‪:‬‬
‫ػ ال أدري لماذا أتمنى لو كنت أختؾ؟‬
‫فاجأتني كمماتيا بكؿ ما تفوح بو مف ود!‪ .‬ىمست بنيرة تخنؽ باالنفعاؿ‪:‬‬
‫ػ أنت أختي فعبل يا أحبلـ ‪ ،‬ىؿ تشكيف في ذلؾ؟‬
‫أطرقت في حياء ‪ ،‬وتضجرت وجنتاىا بحمرة فاتنة ‪ ،‬ثـ قالت بنبرة كئيبة وىي ترنو بنظراتيا إلى لوحة الغروب‪:‬‬
‫ػ أما أنا فقد ولدت وفي فمي ممعقة مف ذىب ػ كما يحمو لوالدي أف يعبر دائما ػ ونشأت نشأة مدلمة مغرقة في‬
‫الترؼ ‪ ،‬فبل أذكر أني طمبت شيئا أو تمنيتو إال حصمت عميو‪..‬‬
‫كاف عندي مف األلعاب أصناؼ لـ يرىا طؼ في ببلدي‪ ..‬ومف المبلبس األنيقة الجميمة ما يكفي أطفاؿ مدرسة‬
‫أبي مف جديد‪ ..‬وكاف لي في قصر أبي جناح كامؿ خاص بي‪ ..‬جناح واسع يتسع لعائمة مف عشرة أشخاص ‪،‬‬
‫وكاف مؤنثا بأجمؿ وأحدث أنواع األثاث المصمـ لؤلطفاؿ ‪ ،‬وقد استورده لي والدي خصيصا مف إيطاليا‪..‬‬
‫وكاف لي ثبلث خادمات‪ ..‬واحدة تعنى بنظافتي ‪ ،‬وثانية تيتـ بطعامي ‪ ،‬وثالثة ممرضة تشرؼ عمى صحتي ‪،‬‬
‫وكانت لي مربية إنكميزية تدعى المس روز‪ ..‬استوردتيا لي أمي لتربيني عمى أسس التربية الحديثة ‪ ،‬ألنيا ليست‬
‫عمى قناعة بطرائؽ التربية العربية‪ ..‬وىكذا نشأت مدلمة مرفية ال ينقصني شيء سوى الحناف‪!..‬‬
‫ىتفت في إنكار‪:‬‬
‫ػ الحناف؟‪!..‬‬
‫ػ نعـ الحناف‪ ..‬افتقدت الحناف الدافئ الندي منذ نعومة أظفاري ‪ ،‬وعشت في ىذه الدنيا كنباتات الصحراء ‪ ،‬ت ارىا‬
‫قوية صامدة في وجو الظروؼ العاتية ‪ ،‬لكنيا جافة خاوية مف داخميا ‪ ،‬ال تكاد تجد فييا قطرة ماء‪..‬‬
‫وأردفت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ بعض اآلباء يظنوف أف الحناف بالنسبة لمطفؿ لعبة جميمة ‪ ،‬وغذاء كامؿ ‪ ،‬ومصروؼ وفير!‪ ..‬ال يدركوف أف‬
‫أمواؿ الدنيا وكنوزىا ال تغني عف كممة ودودة مف أب أو قبمة غامرة مف أـ‪ ..‬ال يدركوف معنى أف ينزؿ اآلباء مف‬
‫عميائيـ ‪ ،‬ويحنوا ىاماتيـ ليصغوا إلى ثرثرة أطفاليـ ‪ ،‬ويتفيموا مشاكميـ وحاجاتيـ ‪ ،‬ويشاركوىـ ىموميـ‬
‫وأحبلميـ‪ ..‬ال يعرفوف معنى أف تروي األـ لطفميا حكاية المساء ‪ ،‬وىي تيدىده قبؿ أف يناـ‪ ..‬ال يريدوف أف‬
‫يفيموا أف الطفؿ كائف كامؿ لو كيانو ومشاعره وأحاسيسو وحاجاتو العميقة التي تحتاج إلى تمبية واىتماـ ‪ ,‬ألنيا‬
‫إذا لـ تمب عمى الوجو السميـ تحولت إلى قنابؿ مدمرة‪ ..‬قنابؿ مؤقتة مزروعة في خبايا النفوس ال يدري أحد متى‬
‫ستنفجر؟‪!..‬‬
‫نعـ‪ ..‬نشأت وترعرعت في بيت كالجنة ‪ ،‬لكنيا جنة كاذبة ‪ ،‬أشجارىا وأزىارىا صناعية جامدة ببل روح ‪ ،‬ميتة ال‬
‫تجود بقطرة ندى ‪ ،‬وال تفوح برحيؽ شذي‪ ..‬جنة خانقة ىواؤىا ساكف ساخف جاؼ ال تموح فيو نسمة رقيقة ‪ ،‬أو‬
‫يغرد فيو طير‪..‬‬
‫أبي تاجر مشيور ورجؿ أعماؿ ناجح ‪ ،‬وثري كبير مف األثرياء الذيف يعدوف عمى أصابع اليد الواحدة ‪ ،‬وأمي‬
‫سيدة مشيورة مف سيدات المجتمع الذيف يحمو لعشاؽ الثرثرة االجتماعية أف يسموه بالمجتمع الراقي‪..‬‬
‫أمي تقوؿ بأف أبي تزوجيا طمعا بثروتيا التي ورثتيا عف أبييا وزوجيا السابؽ ‪ ،‬وأبي يدافع عف نفسو أماـ‬
‫اتياماتيا الجارحة ‪ ،‬فيؤكد بأنو كاف يحبيا منذ أف كانت صبية في بيت أبييا ‪ ،‬وأنو كاد يعمـ خبر وفاة زوجيا في‬
‫حادث طائرة ‪ ،‬حتى سارع إلييا ليقؼ معيا في محنتيا ويحمييا مف الطامعيف ‪ ،‬وانتيى األمر بيما إلى الزواج‪..‬‬
‫أمي تقوؿ بأنيا قد رفعت أبي مف وضاعة األصؿ ‪ ،‬وحممتو بيدييا إلى صفوؼ الطبقة الراقية ‪ ،‬وأبي يقوؿ بأنو قد‬
‫حمى ليا ثروتيا مف الضياع ‪ ،‬ونماىا ليا أضعافا مضاعفة‪..‬‬
‫أمي تقوؿ وأبي يقوؿ ‪ ،‬وأنا ضائعة بيف والديف جمع بينيما الزواج ‪ ،‬وفرؽ بينيما الخصاـ ‪ ،‬ولـ تستطع األياـ أف‬
‫تشد أحدىما إلى اآلخر ‪ ،‬وكنت أنا القاسـ الوحيد بينيما‪..‬‬
‫وانيمؾ أبي في أعمالو الواسعة ‪ ،‬فكاف يقضي نياره في الشركات والصفقات واالجتماعات ‪ ،‬ويمضي ليمو ساى ار‬
‫مفك ار مقطبا قمقا مشغوؿ الباؿ بمستقبؿ مشاريعو التي ال تنتيي ‪ ،‬وأحيانا كاف يغيب في أسفاره فبل أره لمدة‬
‫طويمة‪..‬‬
‫وأسرفت أمي في عبلقاتيا وزياراتيا وحفبلتيا واىتماماتيا النسائية ‪ ،‬فكانت ال تكاد تحضر حتى تغيب ‪ ،‬وكأف‬
‫البيت وحش يطاردىا وتطارده‪..‬‬
‫عندما كنت في الصؼ الثاني االبتدائي تعمقت بالمعممة آنذاؾ تعمقا شديدا ‪ ،‬ألني وجدت عندىا عطفا واىتماما لـ‬
‫ألمسو عند أمي المشغولة بطقوس المجتمع الراقي ‪ ،‬أو أبي الذي تحوؿ إلى آلة حاسبة ‪ ،‬ال تنطؽ إال بالنسب‬
‫واألرقاـ‪..‬‬
‫الحظت أمي تعمقي بالمعممة ‪ ،‬وكثرة حديثي عنيا ‪ ،‬فدعتيا لزيارتنا ‪ ،‬ولما تيقنت مف شدة تعمقي بيا عرضت‬
‫عمييا أف تعمؿ مربية خاصة لي إلى جانب المس روز اإلنكميزية ‪ ،‬وعرضت عمييا أج ار يفوؽ أجرىا في مينة‬
‫التعميـ ‪ ،‬اعتذرت المعممة ألمي بأف ليا طفميف توفؽ بصعوبة بيف متطمبات تربيتيما ‪ ،‬ومينتيا كمعممة ‪ ،‬رفعت‬
‫أمي األجر إلى الضعؼ مرة أخرى‪ ..‬لكف المعممة أصرت عمى موقفيا‪..‬‬
‫ذات يوـ الحظت المعممة أني أوزع النقود عمى بنات صفي ‪ ،‬فأدركت أني أشتري الحب والحناف واالىتماـ بالنقود‬
‫السخية التي تمنحيا لي أسرتي كمصروؼ يومي‪..‬‬
‫زارت المعممة أمي وأخبرتيا بيذه الظاىرة التي تكررت مني ‪ ،‬ونصحتيا أف توليني المزيد مف العطؼ واالىتماـ ‪،‬‬
‫شعرت أمي باإلىانة ‪ ،‬وقالت لممعممة بأنيا أـ مثالية ال تضف عمى ابنتيا بعطفيا وحنانيا ‪ ،‬وأنيا توفر لي ظروفا‬
‫تربوية خاصة ال تتوافر لغيري مف األطفاؿ ‪ ،‬حاولت المعممة أف توضح ليا وجية نظرىا ‪ ،‬لكف والدتي أنذرتيا‬
‫بأنيا ال تسمح ليا بالتدخؿ في شؤونيا الخاصة ‪ ،‬وأعممتيا بأف الزيارة قد انتيت‪..‬‬
‫بكيت بشدة وأنا أرى المعممة المسكينة ‪ ،‬تغادر البيت مطرقة كسيرة ‪ ،‬لحقت بيا ألتعمؽ بيا وأستبقييا ‪ ،‬لكف‬
‫الخادمة حجزتني كما يحتجز الشرطي أسيره عندما ييـ باليرب‪..‬‬
‫وبعد أياـ انتقمت المعممة مف المدرسة ‪ ،‬وانقطعت عني أخبارىا‪!..‬‬

‫ودارت السنوف بسرعة ‪ ،‬فـ تستطع أف تمحو تمؾ المعممة الطيبة مف ذاكرتي ‪ ،‬وشاءت األقدار أف ألتقييا أثناء‬
‫امتحانات الشيادة الثانوية حيث كانت مكمفة بمراقبة القاعة التي كنت أقدـ فييا امتحاناتي ‪ ،‬شاىدتيا وىي تدخؿ‬
‫القاعة بصحبة زميبلتيا مف المراقبات ‪ ،‬فخفؽ قمبي ‪ ،‬واندلع فيو الشوؽ والحنيف إلييا ‪ ،‬فتقدمت منيا والدموع‬
‫تترقؽ في عيني ‪ ،‬وذكرتيا بنفسي ‪ ،‬فاحتضنتني في ليفة وحب ‪ ،‬كما تحتضف األـ ابنتيا ‪ ،‬وىي تستقبميا بعد‬
‫ُّ‬
‫فالتفت إلييف وقمت ‪:‬ىؿ تعرفف‬ ‫غربة طويمة ‪ ،‬وانتبيت لصديقاتي ‪ ،‬وىف يرقبف الموقؼ المؤثر في تساؤؿ وحيرة ‪،‬‬
‫مف ىذه؟‪ ..‬إنيا أروع وأعظـ معممة مرت في حياتي ‪ ،‬ثـ أردفت وأنا أرمقيا بود واكبار وقد خنقتني العبرات "إنيا‬
‫أمي الثانية‪"..‬‬
‫شدت المعممة عمى يدي وقالت كالخجمى‪ :‬التفتي المتحانؾ اآلف ‪ ،‬وسنمتقي فيما بعد لنتحدث‪ ..‬وجمسنا في‬
‫مقصؼ المدرسة ‪ ،‬تأممت وجييا الطيب ‪ ،‬فوجدتيا قد تقدمت في السف ولمحت في محياىا بعض األخاديد‬
‫الصغيرة ‪ ،‬التي نحتيا الزمف في بشرتيا الصافية بدقة ‪ ،‬فأضافت إلى مبلمحيا المطيفة وقا ار آس ار مريحا ‪ ،‬سألتيا‬
‫عف الماضي فأخبرتني بكؿ ما كاف‪..‬‬
‫ألوؿ مرة في حياتي اصطدمت بالوجو اآلخر ألبي ‪ ،‬عندما عممت أنو بنفوذه الواسع استطاع أف ينقؿ معممتي مف‬
‫المدرسة التي كنت فييا إلرضاء رغبة أمي وغرورىا‪..‬‬

‫ىؿ أنا قاسية في حديثي عف أسرتي يا دكتور؟‪!..‬‬

‫داىمتني أحبلـ بالسؤاؿ ‪ ،‬فانتزعتني مف شرودي وأنا أصغي لذكرياتيا الحزينة ‪ ،‬ما باؿ القشور اليشة تتساقط‬
‫أمامي لتواجيني الحقائؽ المرة بوجييا القبيح ‪!.‬أىذه ىي أحبلـ التي عاشت في خيالي أميرة سعيدة كأميرات‬
‫الحكايات واألساطير؟!‪ ..‬ىؿ يمكف أف تتحوؿ جدراف القصور المنيفة إلى أسوار سجف كئيب؟ ‪.‬وشعرت أف في‬
‫بوح أحبلـ رسالة خاصة لي يجب أف أستقبميا باىتماـ ‪ ،‬وأرد عمييا بمثؿ الصدؽ الذي وردتني بو‪..‬‬
‫قمت بنبرة ىادئة‪:‬‬
‫ػ دكتورة أحبلـ ‪ ،‬إني أتفيـ ما تعانيو مف آالـ أرجو أف تستمري في بوحؾ ىذا إف كنت تجديف فيو راحة لؾ ‪،‬‬
‫وتأكدي بأف ىذه األسرار ستبقى دفينة في ذاكرتي ال يطمع عمييا أحد‪..‬‬
‫إلى بنظرة دامعة‪:‬‬
‫ىمست أحبلـ وىي ترنو َّ‬
‫ػ ال أدري لماذا أنا مشدودة لمبوح لؾ؟‪ ..‬لؾ أنت بالذات‪!..‬‬
‫ىمست ليا بالشكر عمى ىذه الثقة ‪ ،‬بينما تابعت بوحيا اليادئ الحزيف‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ػ اعتذرت لممعممة عف كؿ ما بدر مف أسرتي نحوىا ‪ ،‬ووعدتيا بأني سأقيـ الدنيا وأقعدىا مف أجميا ‪ ،‬فرجتني بكؿ‬
‫ما بيننا مف ود أال أنكأ جرحا قديما قد اندمؿ ‪ ،‬ثـ قالت لي وىي تحتضف يدي بيف راحتييا الحانيتيف‪:‬‬
‫"أريدؾ يا أحبلـ أف تحفظي عني ىذه الحكمة ‪ ،‬إف الماؿ والجاه والنفوذ ال يصنع السعادة ‪ ،‬السعادة يا ابنتي ال‬
‫تأتي مف حولنا إنيا تنبثؽ مف داخمنا عندما تكوف نفوسنا طاىرة نظيفة ‪ ،‬النفوس النبيمة يا ابنتي كالجوىر المشع ‪،‬‬
‫دائما تتوىج بالسكينة والرضى والسبلـ ‪ ،‬ىؿ فيمت ىذا الدرس يا أحبلـ؟ إنو الدرس األخير مف معممة نظرت‬
‫إليؾ دائما كواحدة مف بناتيا"‪..‬‬
‫قمت ليا وأنا في ذروة التأثر والنفعاؿ‪" :‬لقد فيمت جيدا ‪ ،‬سأتخذه شعا ار في حياتي ‪ ،‬سأحتفظ بو كذكرى ألـ‬
‫عظيمة لـ تمدني ‪ ،‬وصديقة غالية لف أنساىا‪"..‬‬

‫وتقاطرت الدموع مف عيني أحبلـ ‪ ،‬كما يتقاطر الندى مف عيوف الزىر ‪ ،‬فبدت كوردة غسمتيا السماء بماء المطر‬
‫فطيرتيا مف غبار األرض ‪ ،‬وأدركت أف ىذه الذكريات مغروسة في وجدانيا ‪ ،‬ضاربة الجذور في أعماقيا الطاىرة‬
‫‪ ،‬وتأثرت لمنظرىا الباكي فمؤلني الشجف ‪ ،‬وأطرقت مميا ‪ ،‬فانتظرتيا ريثما استوعبت دفقة الحزف التي أثارىا‬
‫حديث الذكريات القديمة ‪ ،‬ثـ أصغيت إلييا وىي تقوؿ بعد صمت قصير‪:‬‬
‫ػ منذ ذلؾ اليوـ وأصبح ىمي أف أكوف نظيفة مف الداخؿ ‪ ،‬احتقرت المظاىر الفارغة والبذخ المجنوف ‪ ،‬استعميت‬
‫عمى المادة بكؿ صورىا وأشكاليا‪..‬‬
‫وشعرت أمي بانقبلب مدىش في حياتي ‪ ،‬لـ أعد حريصة عمى آخر موضة ‪ ،‬لـ أعد ميتمة بموديؿ السيارة ‪ ،‬لـ‬
‫أعد متمسكة بالمظاىر ‪ ،‬صرت زاىدة بكؿ شيء‪..‬‬
‫ذات يوـ ازرنا ابف خالتي ‪ ،‬فقاؿ ألمي ‪ :‬تبديف يا خالتي أجمؿ مف ابنتؾ أحبلـ! نعـ‪ ..‬أمي ما زالت شابة! كرست‬
‫حياتيا لجماليا ‪ ،‬وحافظت عميو بكؿ ما أوتيت مف وسائؿ ‪ ،‬وضحت في سبيمو بأمور أىـ بكثير مف الزيارة‬
‫اليومية لصالوف الحبلقة ‪ ،‬ونادي المياقة البدنية ‪ ،‬ومعارض األزياء ‪ ،‬أما أنا فقد كرست حياتي لمبحث عف السعادة‬
‫التي ال تزوؿ بزواؿ جماؿ البشرة وانيداـ الوجو وترىؿ الجسد وفقداف الرشاقة‪..‬‬
‫كرست حياتي لمبحث عف اإلنساف‪ ..‬اإلنساف الذي تخفؽ داخمو المشاعر العميا ‪ ،‬وتسمو اىتماماتو عف حاجات‬
‫الغريزة ‪ ،‬وصرخات األنا‪ ..‬ترى ىؿ أجد ىذا اإلنساف؟‪!..‬‬
‫ورنوت إلى أحبلـ‪ ..‬ألوؿ مرة شعرت بأف القدر قد جمع بيني وبينيا لحكمة بدأت أدركيا‪!..‬‬
‫وىبطت العتمة عمى الحديقة اليادئة ‪ ،‬فمضينا إلى الداخؿ في صمت وقد غرؽ كؿ منا في خواطره‪..‬‬
‫كاف في أعماقي شيء يولد‪..‬‬
‫شيء مبيـ ‪ ،‬لكنو لذيذ‪!..‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬

‫وصمت إلى البيت بعيد العاشرة بقميؿ ‪ ،‬فوجدت األسرة ممتفة حوؿ جياز التمفزيوف المعتاد‪ .‬ألقيت تحية المساء ‪،‬‬
‫عمي الشفاه بحركة آلية ‪ ،‬بينما ظمت العيوف مشدودة إلى الشاشة الفضية تراقب ما يدور عمييا بشغؼ‪ .‬ىذا‬ ‫فردت َّ‬
‫الجياز األناني المغرور بات يثير حنقي ‪ ،‬إنو يستطيع أف يمفت األنظار إليو بقوة ‪ ،‬ويستأثر بيا!! قديما‪ ..‬عندما‬
‫كنت طفبل صغي ار ‪ ،‬كنت نجـ العائمة ‪ ،‬كاف الجميع يمتفوف حولي ‪ ،‬ويراقبوف حركاتي وتصرفاتي‪ ..‬جدي وجدتي‪..‬‬
‫أبي وأمي‪ ..‬وعمي‪ ..‬حتى عني الثاني الذي كاف يدعي بأنو ال يحب مخالطة األطفاؿ ‪ ،‬كاف يستثني مف ىذا‬
‫الموقؼ ‪ ،‬ويقوؿ‪ " :‬إال صبلح‪ ، "..‬ثـ يمضي الوقت في محادثتي ومداعبتي‪..‬‬
‫وعندما ددخؿ التمفزيوف بيتنا انسحبت مف تحت األضواء وتركت الساحة لمنجـ الجديد الذي يممؾ قدرة عمى التسمية‬
‫واإلبيار تفوؽ تصرفاتي الطفولية البريئة ‪ ،‬وانضممت إلى حمقة المتفرجيف‪ .‬أشاىد بباي وميكي ودونالد دؾ ‪،‬‬
‫وأتعدى عمى برامج الكبار ‪ ،‬فأشاىد التمثميات العربية وأفبلـ الكاوبوي ونشرات األخبار ‪ ،‬وكبرت قميبل ‪ ،‬فتوطدت‬
‫عبلقتي بصديقي الجديد ‪ ،‬وصرت أرافقو مف االفتتاح حتى الختاـ ‪ ،‬ثـ أوقظ جدي الذي كاف يكبو وىو جالس‬
‫أماـ الشاشة الصغيرة ‪ ،‬فينيض مف كبوتو ‪ ،‬ثـ يودعني ويمضي ليناـ‪..‬‬
‫منذ أف دخؿ بيتنا عصر التمفزيوف أصبحت الروابط العائمية فيو ضعيفة ‪ ،‬انحسرت مف حياتو سيرات األنس ‪،‬‬
‫وليالي السمر ‪ ،‬وغادرت منو أحاديث العائمة المفعمة بالحياة ‪ ،‬واختفت النقاشات المحببة التي كانت تدور حوؿ‬
‫الحي والمدينة والوطف الكبير‪ ..‬حتى األقرباء عندما كانوا يزوروننا ‪ ،‬كانوا يتبادلوف معنا كممات الود والمجاممة‬
‫عمى عج ‪ ،‬ثـ ينضموف إلى حمقة المتفرجيف ‪ ،‬فيجمس الجميع أماـ التمفزيوف بصمت وىدوء ‪ ،‬وكأنيـ يؤدوف‬
‫الطقوس البوذية‪..‬‬

‫اخترت مكانا بيف أمي وأبي ‪ ،‬وكثي ار ما كنت أزاحميما ‪ ،‬ألجمس بينيما ‪ ،‬فيتكمؼ أبي التأفؼ مداعبا ‪ ،‬وتضحؾ‬
‫أمي وىي تفسح لي مكانا بينيما‪..‬‬
‫سألني والدي عما مر بي في المستشفى مف حوادث وحاالت ‪ ،‬شرعت أحدثو عف حالة طفؿ تناوؿ عمبة دواء‬
‫كاممة في غفمة مف والديو ‪ ،‬فأصيب بالتسمـ ‪ ،‬غير أف والدي لـ ينتظر حتى يستمع إلى بقية القصة ‪ ،‬فقد شده‬
‫مشيد مف مشاىد الفمـ العربي الذي كانت تعرضو الشاشة ‪ ،‬وىمت أمي بالنيوض لتعد لي طعاـ العشاء ‪،‬‬
‫فأمسكت بيدىا ‪ ،‬ورجوتيا أف تبقى‪..‬‬
‫قمت ليا وأنا أرتاح برأسي فوؽ كتفيا‪:‬‬
‫ػ ال أشعر بالجوع ‪ ،‬ابؽ بجانبي‪..‬‬
‫ربتت أمي عمى يدي في حناف ‪ ،‬وقالت وىي ترمقني بنظرات متفحصة‪:‬‬
‫ػ ما بؾ؟‪ ..‬تبدو ميموما مشغوؿ الباؿ‪!..‬‬
‫التفت أخي األوسط الذي يصغرني مباشرة ‪ ،‬وقاؿ بنبرة احتجاج‪:‬‬
‫ػ بعض الصمت يا جماعة‪ ..‬دعونا نتابع الفمـ‪..‬‬
‫نظرت إليو وابتسمت‪ ..‬إنو دائما مشدود إلى التمفاز‪ ..‬تنتزعو المسمسبلت واألفبلـ مف محيط العائمة لتضعو في‬
‫أجوائيا الخاصة ‪ ،‬قمت ألمي‪:‬‬
‫ػ ابنؾ ميووس بيذه الشاشة ‪ ،‬ولف يتخمص مف شغفو حتى يتزوج‪..‬‬
‫ابتسمت أمي وقالت في حزـ وىي تشممني بنظرة ودوددة‪:‬‬
‫ػ لف يتزوج أحد قبمؾ‪..‬‬
‫التقط أخي األصغر كممات أمي فقاؿ مداعبا‪:‬‬
‫ػ أخي الكبير طيب القمب ‪ ،‬وسيمنحني دورة ببل شؾ‪..‬‬
‫لكزه أخي األوسط بمرفقو وقاؿ‪:‬‬
‫ػ اصمت ‪ ،‬دعنا نتابع الفمـ‪...‬‬
‫ػ إنو فمـ سخيؼ‪..‬‬
‫ػ إذا كاف ال يعجدبؾ فاذىب إلى الغرفة األخرى‪..‬‬
‫ػ أريد أف أسير في ىذه الغرفة‪..‬‬
‫واحتدـ بينيما النقاش ‪ ،‬وكاد يتفاقـ ‪ ،‬لوال أف تدخؿ والدي ‪ ،‬فحسمو بصرخة رادعة ‪ ،‬وقالت أمي في إنكار‬
‫غاضب‪:‬‬
‫ػ بدأت أكره ىذا الجياز الذي يثير الصراع بيف األشقاء‪!..‬‬
‫قمت ألمي ميدئا‪:‬‬
‫ػ دعييما وال تكترثي بمبلسناتيما ‪ ،‬إياؾ أف تظني بأف أوالدؾ نسخة واحدة‪..‬‬
‫عاد أخي األوسط يرجونا في ضراعة‪:‬‬
‫ػ أرجوكـ يا جماعة ‪ ،‬ىذا أوؿ فمـ ممتع أراه منذ أشير ‪ ،‬دعوني أشاىده بيدوء‪..‬‬
‫أشفقت عمى أخي ‪ ،‬وذىبت إلى غرفتي ‪ ،‬لحقت بي أمي بعد قميؿ وىي تحمؿ فنجانا مف الشاي ‪ ،‬قالت وىي‬
‫تغمؽ الباب خمفيا‪:‬‬
‫ػ أنت اليوـ لست أنت‪!..‬‬
‫ضحكت‪:‬‬
‫ػ ىؿ ىذه أحجية؟‬
‫ػ أتشكو مف شيء؟‬
‫ػ أبدا!‬
‫ػ أنت عاشؽ‪..‬‬
‫ػ عاشؽ؟‪!..‬‬
‫ػ ىؿ تنكر؟‬
‫جمست كالمستسمـ وقمت‪:‬‬
‫ػ قمب األـ أدؽ رادار في العالـ!‬
‫وضعت الشاي ‪ ،‬وأقبمت تقوؿ بنبرة فرحة‪:‬‬
‫ػ يعني كبلمي صحيح!‬
‫ػ ال أدري يا أماه‪ ..‬قد تكونيف عمى حؽ ‪ ،‬لعمؾ تفيمينني أكثر مما أفيـ نفسي ‪ ،‬لعؿ روحي تبوح لؾ بما تخفيو‬
‫عني‪ ..‬ال أدري يا أماه ‪ ،‬ال أدري ‪ ،‬الحيرة تأكمني!‪ ..‬قد أكوف عاشقا ‪ ،‬وقد أكوف تائيا ‪ ،‬في الحقيقة أنا حائر‪!..‬‬
‫جمست بقربي ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أخبرني مف ىي التي تشغمؾ ‪ ،‬وأنا سأبدد حيرتؾ‪..‬‬
‫ىمست وأنا أستحضر في خيالي طيؼ أحبلـ‪:‬‬
‫ػ فتاة جميمة تقتحـ قمبي بقوة‪ ..‬فتاة رقيقة ليا نفس كبيرة وخمؽ نبيؿ ‪َّ ..‬‬
‫لكأف كؿ المعاني السامية قد اجتمعت فييا ‪،‬‬
‫ي‪..‬‬
‫وشكمت جوىرىا الطاىر البر ْ‬
‫ػ ما اسميا؟‬
‫ػ أحبلـ‪.‬‬
‫ػ اسـ جميؿ‪.‬‬
‫ػ حقا؟‬
‫ػ كيؼ تعرفت عمييا؟‬
‫ػ زميمتي في المستشفى‪.‬‬
‫ػ ال أذكر أنؾ حدثتني عنيا!‬
‫قمت وأنا ألقي برأسي عمى مسند الكنبة‪:‬‬
‫ػ كنت ال أىتـ بيا كثي ار ‪ ،‬أو لعمي لـ أرد أف أىتـ بيا مف قبؿ!‪ ..‬كنت أنظر إلييا عمى أنيا مجرد زميمة في العمؿ‬
‫‪ ،‬ألقاىا كؿ يوـ كما ألقى كؿ زمبلئي في المستشفى ‪ ،‬وأبادليا احتراما باحتراـ ‪ ،‬لكني انتبيت أخي ار إلى شيء ‪،‬‬
‫شعرت أنيا ميتمة بي إلى حد أكثر مف عادي‪..‬‬
‫الحظت أنيا تبلحقني بنظراتيا ‪ ،‬تراقب تصرفاتي ‪ ،‬تمتقط كمماتي ‪ ،‬تريد أف تعرؼ عني كؿ شيء‪!!.‬‬
‫حاولت أف أتيرب منيا ‪ ،‬لكني لـ أفمح ‪ ،‬ثمة شيء يشدني إلييا ‪ ،‬وآخر يشدني منيا ‪ ،‬ليتني لـ أعرفيا مف قبؿ‪!..‬‬
‫عاثت الحيرة في وجو أمي ‪ ،‬فقالت كالشاردة‪:‬‬
‫ػ أنا ال أفيمؾ ‪ ،‬لماذا تيرب منيا إذا كانت خموقة وجميمة؟ ماذا تريد أكثر مف ذلؾ؟‬
‫ػ ليست ىنا المشكمة‪..‬‬
‫ػ أال تجد في نفسؾ ميبل إلييا؟‬
‫ػ بؿ أميؿ إلييا بقوة‪..‬‬
‫ػ حيرتني معؾ!‬
‫ػ قد ال أكوف الئقا بيا ماديا‪..‬‬
‫ػ ماديا؟!‪ ..‬أفصح بوضوح ‪ ،‬وكفاؾ ألغازا؟؟‬
‫رنوت إلييا وأنا أبتسـ‪:‬‬
‫ػ كبلمي واضح ‪ ،‬ظروؼ أىميا المادية أفضؿ مف ظروفنا ‪ ،‬وال أستطيع أف أوفر ليا العيش الرغيد الذي تعودت‬
‫عميو‪..‬‬
‫ػ لماذا؟ ىؿ ىـ أغنى منا بكثير؟‬
‫ػ أنعد نحف في األغنياء؟‬
‫ػ الحمد هلل عمى كؿ حاؿ‪..‬‬
‫ػ لو شعر الناس جميعا بأنيـ أغنياء لعاشوا في سعادة!‬
‫أردفت أمي فيما يشبو السؤاؿ‪:‬‬
‫ػ أغنى منا؟‬
‫ػ بكثير‪.‬‬
‫أطرقت متفكرة ‪ ،‬ثـ قالت فجأة ‪ ،‬وكأنيا وضعت يدىا عمى الحؿ‪:‬‬
‫ػ إذا كانت فتاة عاقمة وأصيمة ػ كما تصفيا ػ فستصبر عمى ظروفؾ ‪ ،‬وتكافح معؾ حتى تصنعا المستوى البلئؽ‬
‫الذي ترتاحاف إليو‪.‬‬
‫ابتسمت كالحالـ ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ في حديثيا اليوـ استعداد واضح لمصبر والكفاح‪..‬‬
‫ىتفت أمي وقد أضاءت وجييا ابتسامة عذبة‪:‬‬
‫ػ آه‪ ..‬فيمت ما الذي أثار تفكيرؾ بيا الميمة ‪ ،‬ال شؾ أنؾ قد خضت معيا في حديث خاص‪..‬‬
‫أبدت مبلحظتيا بابتسامة ‪ ،‬ثـ تناولت فنجاف الشاي ‪ ،‬ورحت أرشؼ منو في صمت ‪ ،‬وأردفت أمي قائمة‪:‬‬
‫ػ ماذا كاف موضوع الحديث؟‬
‫ػ حدثتيا ِ‬
‫عنؾ‪ ..‬عف أبي‪ ..‬عف ظروفنا وأحوالنا‪ ..‬أردت أف أضعيا في الصورة الصادقة حتى ال تذىب بعيدا في‬
‫تطمعاتيا‪ ..‬قمت ليا بأننا عائمة بسيطة راضية مف ىذه الحياة بالحد األدنى مف السعادة المادية ‪ ،‬وتعوض عنو‬
‫بقدر كبير مف السعادة النفسية‪..‬‬
‫قالت أمي وىي ترمقني بنظرة فييا دعابة واختبار‪:‬‬
‫ػ ماذا قمت ليا عني؟‬
‫ػ قمت بيا بأنؾ أمير طباخة في العاـ‪..‬‬
‫ػ أال يعجبؾ في أمؾ سوى طبخيا؟‪!..‬‬
‫ػ بؿ يعجبني فييا كؿ شيء‪..‬‬
‫ػ ماذا قمت ليا أيضا‪.‬‬
‫ػ قمت ليا بأنؾ أـ مثالية ‪ ،‬وسيدة مف الطراز األوؿ ‪ ،‬تحبيف النظافة حتى وجو الوسوسة ‪ ،‬وتصنعيف مف بيتؾ‬
‫جنة صغيرة ‪ ،‬أزىارىا مف الحب ‪ ،‬وأنيارىا مف الحناف‪..‬‬
‫ضحكت أمي في فخر ‪ ،‬وتساءلت وىي تشير إلى نفسيا‪:‬‬
‫ػ أأنا أصنع كؿ ىذا؟‬
‫قمت في مكر‪:‬‬
‫ػ ىكذا أوىمتيا‪..‬‬
‫ػ تقصد أني لست ىكذا؟‬
‫ػ أنت التي ال تريديف أنت تصدقي‪..‬‬
‫ػ وماذا قالت لؾ؟‬
‫ضحكت فجأة‪ ..‬ضحكة وأنا أجد نفسي أماـ تحقيؽ نسائي طريؼ‪..‬‬
‫سألت أمي وعمى شفتييا ابتسامة حائرة‪:‬‬
‫ػ ما الذي يضحكؾ؟‪..‬‬
‫ػ ال شيء‪.‬‬
‫ػ بؿ ىناؾ شيء‪!..‬‬
‫ػ مجرد خاطر‪..‬‬
‫ػ حدثني بو‪.‬‬
‫ػ ىؿ سيطوؿ ىذا التحقيؽ؟‬
‫ػ لـ تقؿ لي‪..‬‬
‫ػ ماذا؟‬
‫ػ ماذا قالت لؾ؟‪..‬‬
‫تنيدت وسرحت بخيالي ‪ ،‬وكأني أغيب في حمـ لذيذ ‪ ،‬قمت وأنا أسترجع األثر العذب الذي أحدثتو كممات أحبلـ‬
‫في نفسي‪:‬‬
‫ػ قالت‪ :‬إنيا تتمنى لو كانت أختي‪..‬‬
‫ىتفت أمي في فرح ‪ ،‬وقد طغت عمى وجييا ابتسامة عميقة‪:‬‬
‫ػ البنت تحبؾ يا صبلح ‪ ،‬فماذا تنتظر؟‬
‫ػ ما أدراؾ؟‬
‫ػ كفاؾ تجاىبل وخبثا ‪ ،‬أنت تعرؼ ذلؾ ‪ ،‬لكنؾ ال تريد أف تعترؼ‪..‬‬

‫ودخمت عمينا أختي الكبرى في البنات ‪ ،‬فصمتنا ‪ ،‬تراجعت فجأة إلى الخمؼ ‪ ،‬وتوارت خمؼ الباب الموارب قميبل‬
‫‪ ،‬فمـ يعد يبدو منيا سوى رأسيا المائؿ إلى األماـ ‪ ،‬قالت وىي تيـ باالنسحاب‪:‬‬
‫ػ فيمت‪ ..‬اجتماع مغمؽ!‬
‫ثـ أغمقت الباب ‪ ،‬فناديتيا‪:‬‬
‫ػ لماذا ال تدخميف؟‬
‫ػ مبلمحكما تشي بأنكما تتداوالف س ار!‬
‫ػ قالت أمي ضاحكة‪:‬‬
‫ػ األمر ليس س ار ‪ ،‬أخوؾ صبلح يخطط الستقباؿ أخت جديدة لكـ في البيت‪..‬‬
‫ىتفت أختي متظاىرة بالذعر ‪ ،‬كمف فوجئ بأمر صاعؽ‪:‬‬
‫ػ ىؿ كاف أبي متزوجا مف امرأة أخرى؟‪!..‬‬
‫دوت ضحكاتنا في أرجاء الغرفة ‪ ،‬وقالت لي أمي مف خبلؿ الضحكات‪:‬‬
‫ػ أختؾ ىذه ال تفكر غبل في األمور السيئة‪..‬‬
‫قالت أختي وىي تجمس عمى يميني‪:‬‬
‫سأكوف سعيدة لو عرفت مف ىي أختي الجديدة‪.‬‬
‫ثـ أردفت وىي تقرصني مف يدي‪:‬د‬
‫ػ البد أنيا مغرمة بأخي الكبير‪..‬‬
‫قبضت عمى شعرىا المتدلي خمؼ رأسيا كذيؿ الحصاف ‪ ،‬ثـ قمت وأنا أشده في رفؽ‪:‬‬
‫ػ ىؿ بدأت حرب التعميقات السخيفة؟‬
‫صاحت وىي تتظاىر باأللـ‪:‬‬
‫ػ اطمئف لف أبوح بالسر‪.‬‬
‫أطمقت خصبلت شعرىا الناعمة ‪ ،‬فنيضت وأسرعت خارجة ‪ ،‬وأنا أشيعيا بنظرات تفيض بالود ‪ ،‬وأرادت أمي أف‬
‫تعود بالحديث إلى مجراه ‪ ،‬وما كادت تفعؿ ‪ ،‬حتى أطبؽ أخوتي عمى الغرفة وىـ ييتفوف "مبروؾ‪ ..‬مبروؾ‪"..‬‬
‫وأقبؿ والدي خمفيـ واالبتسامة تضيء وجيو الطيب ‪ ،‬قاؿ وىو يجمس عمى كرسي قرب الباب‪:‬‬
‫ػ أييا المتآمروف!‪ ..‬أنت وأمؾ تتآمراف عمى صنع األخبار السعيدة ‪ ،‬ىؿ صحيح ما تناقمتو وكاالت األنباء؟‬
‫قمت وأنا أرمؽ أختي الواشية كالمتوعد‪:‬‬
‫ػ ال أعمـ في بيتنا سوى وكالة واحدة لؤلنباء ‪ ،‬ثـ نيضت إلييا ألمسؾ بيا ‪ ،‬لكنيا أفمتت مني والذت بأبييا وىي‬
‫تقوؿ‪:‬‬
‫ػ أنا أحب السبؽ الصحفي ‪ ،‬خشيت أف تسبقني أمؾ إلى إعبلف قرارؾ بالزواج‪..‬‬
‫ضحؾ أبي وسأؿ‪:‬‬
‫ػ مف ىي صاحبة الحظ السعيد؟‬
‫تبادلت مع أمي نظرة باسمة ‪ ،‬ثـ أجبت‪:‬‬
‫ػ األمر ما زاؿ فكرة فجة لـ تنضج بعد‪..‬‬
‫ػ أليس ليذه الفكرة بطمة معروفة؟‬
‫ػ إنيا الدكتورة أحبلـ زميمتي في المستشفى‪..‬‬
‫ػ ابنة مف؟‬
‫ػ والدىا رجؿ األعماؿ المعروؼ عبد الغني الذىبي‪..‬‬
‫وجـ أبي ‪ ،‬وتقمصت مبلمحو ‪ ،‬قاؿ وىو يضع إبيامو تحت ذقنو ‪ ،‬ويطوي أصابعو فوقيا كالقبضة‪:‬‬
‫ػ ىؿ فكرت في ىذا األمر جيدا يا بني؟‬
‫ػ ما زلت أفكر‪..‬‬
‫ػ ىؿ تريد رأيي؟‪..‬‬
‫ػ ال غني لي عف رأيؾ‪..‬‬
‫قاؿ والدي بنبرة حاسمة‪:‬‬
‫ػ ىذا زواج لف تكتب لو الحياة‪..‬‬
‫ىزتني كممات أبي بشدة ‪ ،‬فانقبض ليا قمبي ‪ ،‬ىمست متوجسا‪:‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ أنت تعرؼ‪.‬‬
‫ػ ىذا ما كنت أحدث فيو أمي‪!.‬‬
‫قالت أمي كالمغضبة‪:‬‬
‫ػ الماؿ ليس كؿ شيء ‪ ،‬خذوا األمر ببساطة ‪ ،‬نريد أف نفرح‪..‬‬
‫التفت إلييا والدي كالساخر ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أنت دائما ىكذا ‪ ،‬كؿ شيء عندؾ ممكف‪.‬‬
‫ردت عميو أمي وىي تشيح بيدىا‪:‬‬
‫ػ أنت ال تعرؼ شيئا ‪ ،‬البنت تريده ‪ ،‬وىي مستعدة لمحياة معو ‪ ،‬والصبر عمى ظروفو‪.‬‬
‫ػ يبقى القرار بيد أبييا‪..‬‬
‫ػ أبوىا لف يقؼ في وجو رغبتيا‪.‬‬
‫ػ أبوىا معروؼ بجشعو ‪ ،‬وسيظف ابننا طامعا بثروتو‪..‬‬
‫تبادؿ الجميع نظرات ممؤىا الخيبة ‪ ،‬وشعروا نحوي باإلشفاؽ ‪ ،‬نيض والدي وقاؿ وىو يمضي‪:‬‬
‫ػ األمر ليس بيذه السيولة ‪ ،‬فكروا بو جيدا‪.‬‬
‫ولـ يمبث أخي األوسط أف خرج خمفو وىو يقوؿ‪:‬‬
‫ػ سأعود ألكمؿ الفيمـ ظننت أف األمر قد نضج عمى نار ىادئة‪!..‬‬
‫قاؿ أخي األصغر ‪ ،‬وىو يجمس بجانبي‪:‬‬
‫ػ لو أنؾ اخترت عروسا قميمة التكاليؼ ‪ ،‬لتزوجنا معا في آف واحد ‪ ،‬دوف أف نرىؽ األسرة بالمصاريؼ‪..‬‬
‫ضحكت أختي الوسطى ‪ ،‬وقالت لو‪:‬‬
‫ػ أييا االنتيازي‪ ..‬دائما تبحث عف الفرص السيمة‪.‬‬
‫قالت الكبرى وقد أحست بأنيا تسرعت في إعبلف النبأ‪:‬‬
‫ػ كنت أظف أف أختي المرتقبة سيمة المناؿ‪..‬‬
‫ثـ أردفت في دعابة‪:‬‬
‫ػ قمت لؾ أكثر مف مرة دعني أخطب لؾ صديقتي ميادة ‪ ،‬فمـ ترض ‪ ،‬إنيا فتاة كالسكر‪.‬‬
‫وتسممت أختي الصغيرة ذات السبع سنوات إلى حضف أميا ‪ ،‬وسألتيا في براءة ‪ ،‬وكأنيا لـ تفيـ شيئا مما دار‪:‬‬
‫ػ ماما ‪ ،‬ماما‪ ..‬ىؿ ستشتريف لي ثوبا جديدا في عرس أخي؟‬
‫رنوت إلى أختي الصغيرة في حناف ‪ ،‬ىمست وأنا أىـ بالنيوض‪:‬‬
‫ػ كـ ىو الشبو كبير بيني وبينؾ يا صغيرتي‪!..‬‬
‫كبلنا نحمـ كاألطفاؿ‪..‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫لـ أصدؽ ما رأيت!‪ ..‬كانت مجزرة حقيقية ضحاياىا جميعا مف األطفاؿ‪..‬‬
‫ىرعنا إلى الجرحى الصغار نرمـ أجسادىـ الممزقة‪ ..‬نتشبث بأرواحيـ البريئة حتى ال تفمت منا ‪ ،‬وتغادرنا إلى‬
‫العالـ اآلخر ‪ ،‬تسربت روح الطفؿ ألوؿ مف بيف أيدينا بسرعة ‪ ،‬ومضت إلى خالقيا تشكو لو عالمنا المجنوف ‪،‬‬
‫بكت أحبلـ وىي تسبؿ جفني الطفؿ الشييد فوؽ عينيو المتيف جاؿ فييما الرعب والذعر ‪ ،‬حضرت مجموعة أخرى‬
‫مف األطباء لتساىـ في إنقاذ ىذه الكائنات المسكينة ‪ ،‬واجتمع األىالي في الخارج ينوحوف ويولولوف ‪ ،‬وتعالى‬
‫نحيب األميات وىف يتدافعف أماـ غرفة العمميات‪ ..‬يتسقطف األخبار حوؿ أطفاليف الذيف ذىبوا ضحية الطيش‬
‫والسرعة المجنونة‪..‬‬
‫ووصؿ الدكتور مأموف مدير المستشفى قادما مف سفر بعيد ‪ ،‬فانضـ إلينا عمى عجؿ في محاولة إلنقاذ ما يمكف‬
‫إنقاذه‪..‬‬
‫اةقؼ قمب طفؿ آخر عف الخفقاف ‪ ،‬وانسمت روحو مف بيف أيدينا ونخف ننظر في م اررة وعجز ‪ ،‬لـ تحتمؿ أحبلـ‬
‫ىذه المناظر المرىقة ‪ ،‬فسقطت مغشيا عمييا ‪ ،‬وىي الطبيبة التي ألفت أجواء غرؼ العمميات ‪ ،‬فالموقؼ كاف‬
‫مؤث ار صعب االحتماؿ ‪ ،‬ولـ تمبث أف عادت إلى وعييا بعد أف صفعتيا إحدى الممرضات ‪ ،‬فاستجمعت قواىا ‪،‬‬
‫وغسمت وجييا ‪ ،‬ثـ انضمت إلينا ثانية ‪ ،‬لتتابع أداء واجبيا في إنقاذ الجرحى مف األطفاؿ‪..‬‬
‫ثمة روح ثالثة تتممص مف بيف أيدينا ‪ ،‬تريد أف تياجر ‪ ،‬تريد أف تغادر ىذا العالـ الضيؽ الذي لـ يتسع ألفراحيا‬
‫‪ ،‬استنفرنا لمنعيا مف الرحيؿ ‪ ،‬استخدمنا الصدمات الكيربائية ‪ ،‬ومنحناىا قبمة الحياة ‪ ،‬لكنيا رفضت أف تبقى ‪،‬‬
‫ومضت في عناد ‪ ،‬تمعف عالمنا الذي لـ يعد يحترـ أرواح األطفاؿ‪..‬‬
‫وتراكـ التعب واإلرىاؽ في أوصالنا ‪ ،‬وتفاقـ الحزف في داخمنا حتى طفح مف عيوننا ومبلمحنا ‪ ،‬وقضينا يوما‬
‫ضاريا ‪ ،‬ونحف نصارع الموت الذي حاصر األجساـ الصغيرة ‪ ،‬وراح ينيشيا ويفترسيا جسدا بعد آخر‪..‬‬
‫وانتصؼ الميؿ ‪ ،‬فيدأت المعركة قميبل ‪ ،‬لكنيا لـ تحسـ بعد ‪ ،‬فما زالت بعض اإلصابات بالغة الخطورة ‪ ،‬وتحتاج‬
‫إلى حراسة شديدة‪..‬‬
‫قرر الدكتور مأموف أف يوزعنا إلى فئتيف ‪ ،‬فئة ترابط حوؿ األطفاؿ الجرحى ‪ ،‬وأخرى تخمد لمنوـ والراحة ‪ ،‬ألننا‬
‫قمنا بالعبء األكبر في غرفة العمميات‪..‬‬
‫قاؿ ىاني‪:‬‬
‫ػ دعونا نخرج مف الباب الخمفي ‪ ،‬فأنا ال أطيؽ رؤية وجوه األىالي المنكوبيف‪..‬‬
‫وىمست أحبلـ بعد أف مضينا خطوات‪:‬‬
‫ػ ال أصدؽ ‪ ،‬أ أريتما الذعر في عيوف األطفاؿ؟ أي مجرـ ىذا الذي كاف وراء الحادث؟‪!..‬‬
‫ىتفت في غيظ‪:‬‬
‫ػ مراىؽ في العشريف ‪ ،‬فعؿ فعمتو النكراء ‪ ،‬ثـ ىرب!‪..‬‬
‫تساءلت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ كيؼ استطاع أف ييرب ‪ ،‬وىو يرى األطفاؿ أمامو يتحولف إلى كومة مف األشبلء؟ ألـ تتحرؾ فيو ذرة مف‬
‫الشيامة ‪ ،‬فينزؿ ويساىـ في إنقاذ الضحايا؟‬
‫ومضينا في الممر الطويؿ نفرغ شحنات الحزف والغضب ‪ ،‬ونتبادؿ انطباعاتنا األليمة ‪ ،‬ونحف نسعؼ الجرحى مف‬
‫األطفاؿ ‪ ،‬وسمت صوتا ينادينا مف الخمؼ‪..‬‬
‫صوت أذكر أني سمعتو مف قبؿ!‪ ..‬والتفتنا إلى صاحب الصوت‪..‬‬
‫قاؿ ىاني‪:‬‬
‫ػ ىذا ىو األستاذ سعيد‪ ..‬لقد جاء ليغطي الحادث بنفسو‪.‬‬
‫صافحنا األستاذ سعيد الناشؼ بح اررة ‪ ،‬وقاؿ في ليفة وقمؽ‪:‬‬
‫ػ طمئنوني‪ ..‬ما ىي آخر األخبار؟‪..‬‬
‫قمت لو‪:‬‬
‫ػ ثبلثة قتمى ‪ ،‬واصابتاف خطيرتاف ‪ ،‬واألطفاؿ العشرة الباقوف تتراوح إصاباتيـ بيف الكسور والرضوض ‪ ،‬لكنيـ‬
‫جميعا يعانوف مف صدمة نفسية فظيعة أحدثيا الرعب الذي اندلع في قموبيـ الغضة ‪ ،‬وىـ يواجيوف الموت في‬
‫أبشع صوره‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد‪:‬‬
‫ػ سأفرد ليذا الحادث البشع عددا خاصا ييز الرأي العاـ ‪ ،‬خبروني بربكـ‪ ..‬كيؼ حدث ىذا؟‬
‫قاؿ ىاني‪:‬‬
‫ػ كؿ ما عممناه أف األطفاؿ كانوا عائديف إلى بيوتيـ في باص المدرسة ‪ ،‬كاف الباص يسير ضمف السرعة‬
‫القانونية ‪ ،‬وفجأة خرجت سيارة مسرعة مف شارع فرعي ‪ ،‬واستقرت وسط الباص كالقذيفة ‪ ،‬فانقمب الباص بمف فيو‬
‫‪ ،‬وتطايرت أجساد بعضيـ مف النوافذ ‪ ،‬وارتطـ اآلخروف بجدراف الباص المعدنية ‪ ،‬فأصيبوا برضوض وكسور‬
‫مختمفة ‪ ،‬واخترؽ الزجاج المحطـ أجساد عدد منيـ‪..‬‬
‫ىمست وأنا في ذروة األلـ‪:‬‬
‫ػ لقد كانت كجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد وىو يمضي معنا متثاقبل‪:‬‬
‫ػ حوادث الطرؽ في ببلدنا تبتمع مف الضحايا أكثر مما تبتمع الكوارث والحروب‪..‬‬
‫عمقت أحبلـ بنبرة قاسية‪:‬‬
‫ػ لو ذىب ىؤالء األطفاؿ ضحية حرب أو زلزاؿ لكاف األمر أىوف ‪ ،‬لكف أف نقتؿ أطفالنا بأيدينا ‪ ،‬بطيشنا وغرورنا‬
‫‪ ،‬فيذا قمة الجنوف واإلجراـ‪!..‬‬
‫لفتت ليجة أحبلـ لمنفعمة انتباه األستاذ سعيد ‪ ،‬فقاؿ وىو يرمقيا باىتماـ‪:‬‬
‫ػ أنا أعرؼ الدكتور ىاني ‪ ،‬والدكتور صبلح ‪ ،‬لكني لـ أتشرؼ بمعرفتؾ بعد‪..‬‬
‫بادرت ‪ ،‬فعرفت كؿ منيما عمى اآلخر ‪ ،‬فبلحظت عمييما تغي ار ووجوما مثي ار ‪ ،‬تساءلت في حيرة‪:‬‬
‫ػ أتعرفاف بعضكما مف قبؿ؟‬
‫ىمس األستاذ سعيد وىو يبتسـ في غموض‪:‬‬
‫ػ إذا كانت الدكتورة أحبلـ ابنة رجؿ األعماؿ المشيور عبد الغني الذىبي ‪ ،‬فيي تعرفني ببل شؾ‪!..‬‬
‫سألتو أحبلـ بنبرة حائرة‪:‬‬
‫ػ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذىبي؟‬
‫أجاب كالواثؽ‪:‬‬
‫ػ كنت أعرؼ أف لو ابنة وحيدة تدرس الطب‪.‬‬
‫قمت في محاولة لفض الغموض‪:‬‬
‫ػ أنت تعرؼ أباىا إذف!‬
‫ىز األستاذ سعيد رأسو مؤكدا ‪ ،‬ثـ ىمس وىو يسد إلى أحبلـ نظرة غامضة‪:‬‬
‫ػ صديؽ قديـ‪..‬‬
‫أحرجت نظرة األستاذ سعيد أحبلـ ‪ ،‬فرمشت في ضيؽ ‪ ،‬واستأذنتنا في االنسحاب متعممة بالتعب ‪ ،‬وانسحب ىاني‬
‫خمفيا مبديا العذر نفسو ‪ ،‬سألني األستاذ سعيد ‪ ،‬وىو يشيع أحبلـ بنظرة شاردة‪:‬‬
‫ػ كيؼ تجدىا؟‬
‫ػ مف؟‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ‪..‬‬
‫ػ إنيا فتاة طيبة وميذبة ‪ ،‬وذات شخصية جادة‪..‬‬
‫رفع حاجبية دىشة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أمتأكد أنت؟‬
‫ػ جدا‪..‬‬
‫ػ شوكة خمفت وردة‪!..‬‬
‫ػ ماذا تقصد؟‬
‫قاؿ متيربا مف اإلجابة‪:‬‬
‫ػ دعؾ مف قصدي ‪ ،‬وأخبري‪ ..‬ما ىي أخبار طفمتؾ المقيطة؟‬
‫ػ النتائج سمبية‪..‬‬
‫ػ كما توقعت‪..‬‬
‫ػ لـ تقؿ لي‪..‬‬
‫ػ ماذا؟‪..‬‬
‫ػ ما رأيؾ بوالد أحبلـ؟‪..‬‬
‫ابتسـ في دىاء ‪ ،‬وسأؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ تيمؾ كثي ار‪.‬‬
‫ػ مجرد فضوؿ‪..‬‬
‫ػ لماذا ال تعمؿ معي؟‬
‫ػ أيف؟‬
‫ػ في الصحافة طبعا!‬
‫ابتسمت رغما عني‪..‬‬
‫ػ أنا؟‬
‫ػ سأجعؿ منؾ صحفيا مشيو ار‪.‬‬
‫ػ ولكف‪..‬‬
‫ػ لست أوؿ مف يقدـ عمى ىذه المغامرة‪.‬‬
‫ػ لماذا أقدـ عمييا؟‬
‫ػ ألنؾ تممؾ أىـ مقومات الصحفي الناجح‪ :‬فضوؿ المحقؽ ‪ ،‬وحماس المؤمف‪..‬‬
‫قمت وأنا أنوء تحت أثقاؿ اليـ والنعس واإلرىاؽ‪:‬‬
‫ػ أستاذ سعيد‪ ..‬كنت أتمنى لو كاف حديثا في غير ىذه المناسبة ‪ ،‬لكني مضطر لبلنسحاب اآلف ‪ ،‬فأمامي غدا‬
‫عمؿ طويؿ‪..‬‬
‫ربت األستاذ سعيد عمى كتفي وقاؿ‪:‬‬
‫ػ فكر باألمر ‪ ،‬تصبح عمى خير‪..‬‬
‫عندما وضعت رأسي عمى الوسادة ‪ ،‬تذكرت شيئا‪ ..‬لقد استطاع األستاذ سعيد بدىائو أف يتيرب مف سؤالي عف‬
‫رأيو بوالد أحبلـ‪!..‬‬
‫ماذا يعرؼ عنو يا ترى؟‪..‬‬
‫الفصل الخامس عشر‬

‫ػ "محكمة"‪..‬‬
‫ضج الكوف فجأة بيذه الكممة ‪ ،‬وارتج ليا حتى كاد يميد ‪ ،‬وانتشر دوييا القاصؼ كالرعد في اآلفاؽ المترامية ‪،‬‬
‫فامتدت أصداؤىا إلى ما ال نياية ‪ ،‬حتى خفتت وتبلشت ‪ ،‬وحؿ مكانيا صمت رىيب مثقؿ بالخوؼ والقمؽ‬
‫والرعب‪..‬‬
‫ػ "ىؿ ىي القيامة المنتظرة قد قامت في غفمة مف البشر؟"‪..‬‬
‫والتفت حولي كالمأخوذ! ىذه دنيا غير الدنيا!‪ ..‬عالـ عجيب كؿ ما فيو غريب غير مألوؼ‪ .‬الغيوـ تحيط بالمكاف‬
‫كالجباؿ ‪ ،‬وقد حجبت خمفيا كؿ معالـ الكوف المألوفة!‪ ..‬والسماء فوقنا ليست ىي السماء‪ ..‬إنيا قبة ىائمة مف‬
‫الضباب الكثيؼ المفعـ بالغموض‪ ..‬واألرض تحتنا!‪ .‬أيف األرض؟‪ ..‬لكأني أقؼ فوؽ فراغ ‪ ،‬مدفوعا إلى األعمى‬
‫بقوة مجيولة كدافعة أرخميدس‪!..‬‬
‫وشعرت بجسمي يػرجح كريشة معمقة في اليواء ‪ ،‬وتساءلت في نفسي وأنا أرقب جسدي وىو يترنح فوؽ الفراغ ببل‬
‫وزف ‪" :‬أأنا في رحمة فضائية أجوب أعماؽ الكوف السحيقة؟‪!!"..‬‬
‫وانتبيت فجأة إلى أني لست وحدي! ىا ىي أحبلـ تقؼ بجانبي ‪ ،‬وىي تتمفت حوليا مبيورة‪ ..‬وذاؾ ىو ىاني‬
‫يقؼ قريبا مني وقد أغمض عينيو في خشوع ‪ ،‬ورفع كفيو إلى السماء في ضراعة ‪ ،‬وراح يسأؿ اهلل العفو والمغفرة‬
‫‪ ،‬وذلؾ ىو األستاذ سعيد وقد شخص ببصره الحائر إلى قمـ الغيوـ الشاىقة التي أحاطت بالمكاف كأسوار سجف‬
‫عظيـ‪..‬‬
‫والناس‪ ..‬الناس حولنا قد ارتصوا في كتمة واحدة ‪ ،‬وشخصوا بأبصارىـ في كؿ اتجاه ‪ ،‬يرمقوف المكاف بعيوف قمقة‬
‫وقمب واجؼ‪..‬‬
‫ػ "محكمة‪!"..‬‬
‫وعادت الصرخة اليائمة تدوي في أرجاء الكوف ‪ ،‬فخفؽ اليمع في القموب وجمدت العيوف في المحاجر ‪ ،‬وراحت‬
‫تحممؽ في ذعر ‪ ،‬وكأنيا ترقب مجيوال مخيفا قد فغر فاه ليبتمعيا ويغيبيا في جوفو العظيـ‪.‬‬
‫وىتؼ ىاتؼ ‪" :‬انظروا ىناؾ!‪ "..‬فاتجيت األبصار الخائفة المترقبة إلى كائنات بيضاء تحمؽ في الفضاء ‪ ،‬وقد‬
‫سدت األفؽ بأسرابيا الكثيفة ‪ ،‬وجعمت تقترب في ىدوء ‪ ،‬ولـ تمبث ىوية ىذه الكائنات الغريبة أف انكشفت ‪،‬‬
‫فسرت في جموع الناس ىميمة غامضة ‪ ،‬ولغط كبير ‪ ،‬عندما تبيف ليـ أف ىذه المخموقات الطائرة ‪ ،‬ما ىي إال‬
‫أسراب ىائمة مف األطفاؿ المجنحيف‪..‬‬
‫وحط األطفاؿ المجنحوف فوؽ ذرى الغيوـ المحيطة بنا ‪ ،‬وضربوا حولنا حصا ار محكما ‪ ،‬بينما حمقت فوقنا‬
‫مجموعة منيـ ‪ ،‬يتقدميا طفؿ يضع فوؽ رأسو تاجا أحمر بموف الدـ‪ ..‬طفؿ أذكر أني رأيتو مف قبؿ!‪ ..‬آه‪ ..‬إنو‬
‫أحد األطفاؿ الذيف ذىبوا ضحية لحادث باص األطفاؿ‪!..‬‬
‫التفت إلى أحبلـ وقمت وأنا أشير إلى الطفؿ المتوج‪:‬‬
‫ػ ىؿ تعرفيف ىذا الطفؿ ياأحبلـ؟‪..‬‬
‫قالت أحبلـ والدموع تغرؽ عينييا الوادعتيف‪:‬‬
‫ػ وكيؼ أنساه يا صبلح‪ ..‬لقد أسدلت جفنيو بيدي ىاتيف‪!..‬‬
‫سألتيا وأنا غارؽ في الحيرة والذىوؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ قامت القيامة فعبل ‪ ،‬وبعث الناس مف جيد؟‬
‫ىمست أحبلـ بنبرة واىنة‪:‬‬
‫ػ لقد قامت في غمضة عيف‪!..‬‬
‫وقاؿ ىاني وىو ييز رأسو في حسرة وندـ‪:‬‬
‫ػ ليتني قضيت العمر فيما يفيد‪ ..‬إذا لـ يغفر لنا اهلل ذنوبنا ‪ ،‬ويشممنا برحمتو ‪ ،‬فسنواجو نياية فظيعة‪..‬‬
‫ثـ أردؼ وىو يرتعش‪:‬‬
‫ػ سوؼ تشوى أجسادنا في نار جينـ يا جماعة‪ ..‬ألـ تسمعوا بالنار؟‪..‬‬
‫حؾ األستاذ سعيد ذقنو متفك ار ‪ ،‬وقد استفز الموقؼ الغامض كؿ حواسو ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ ال أظف أنيا القيامة!‪ ..‬فممقيامة أشراط ومقدمات لـ تتحقؽ بعد‪ ..‬أعتقد أنيا حرب النجوـ الممعونة قد دمرت‬
‫الكوف ‪ ،‬وحشرت ما تبقى مف البشر في ىذه المكاف‪..‬‬
‫قمت لو‪:‬‬
‫ػ وىؤالء األطفاؿ المجنحوف الذيف يحمقوف فوقنا كالعصافير ‪ ،‬مف أيف انبثقوا ‪.‬وكيؼ نبتت ليـ ىذه األجنحة‬
‫البيضاء القوية التي يطيروف بيا؟‬
‫وعقبت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ عذ ار يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أنا ال أوافقؾ الرأي ‪ ،‬إنيا القيامة المرتقبة ‪ ،‬وقد حاف موعدىا ‪ ،‬والدليؿ عمى قياميا ىؤالء‬
‫األطفاؿ الذيف بعثوا مف جيد ‪ ،‬وعادت إلييـ الروح ‪ ،‬بعد أف ماتوا بيف أيدينا في غرفة العمميات‪!..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد ساخ ار‪:‬‬
‫ػ إذا كانت القيامة قد قامت فعبل ‪ ،‬فسوؼ يواجو أبوؾ مصي ار أسوادا ال يحسد عميو‪.‬‬
‫صاحت بو أحبلـ غامضة‪:‬‬
‫ػ انشغؿ بمصيرؾ أييا العجوز ‪ ،‬وكؼ عف التجريح بوالدي ‪ ،‬تكفيؾ إساءتؾ البالغة لو في الحياة الدنيا‪!.‬‬
‫وعاد الصوت اليائؿ ييدر مف جديد‪..‬‬
‫ػ "محكمة‪!"..‬‬
‫عرفنا أخي ار مصدر الصوت ‪ ،‬إنو أحد األطفاؿ المجنحيف ‪ ،‬ولكف!‪ ..‬ما باؿ صوتو الطفولي ىادر مجمجؿ إلى‬
‫ىذا الحد؟‪ ..‬ىؿ يساعد الفراغ الكوني عمى تضخيـ األصوات؟!‪ ..‬وىذه الكممة التي رددىا لممرة الثالثة ‪ ،‬ماذا‬
‫تعني؟ ‪..‬محكمة؟!‪ ..‬ىؿ نحف متيموف تجب محاكمتنا؟ أـ أنا متفرجوف حشرنا القاضي في ىذا الكوف الغريب ‪،‬‬
‫لنشاىد أحداث محاكمة غامضة ستجري؟‪ ..‬ورحنا نرقب الموقؼ في دىشة وفضوؿ مشفوع باليواجس والمخاوؼ‪..‬‬
‫اقتمعت مجموعة مف األطفاؿ المجنحيف قطعة مف الغيوـ ‪ ،‬وطارت بيا نحو الطفؿ المتوج ‪ ،‬فصفؽ بجناحيو ‪،‬‬
‫عؿ بنظرات صارمة مستطمعة فاحصة ‪ ،‬وكأنو قائد منتصر يستعرض‬ ‫وحط فوقيا بيدوء ‪ ،‬ووقؼ يرمقنا مف ٍ‬
‫أسراه‪!..‬‬
‫وىمس ىاني كمف اكتشؼ شيئا مثي ار‪:‬‬
‫ػ اآلف فيمت كؿ شيء!‪ ..‬إنيا مسرحية أطفاؿ!‪ ..‬نعـ مسرحية أطفاؿ‪!..‬‬
‫ثـ وىو ينظر حولو كمف يبحث عف شيء‪:‬‬
‫ػ لكني ال أرى المخرج!‪ ..‬أيف ىو حتى أشكره عمى ىذه المسرحية الرائعة التي تأخذ باأللباب؟‬
‫لوى األستاذ سعيد شفتيو في حيرة وقاؿ‪:‬‬
‫ػ إذا كاف ما يجري أمامنا مسرحية أطفاؿ ‪ ،‬فيذا يعني أف مسرح الطفؿ في ببلدنا قد خرج مف أزمتو ‪ ،‬وتطور‬
‫تطو ار مدىشا يستحؽ التقدير ‪ ،‬سأفرد عددا خاصا عف ىذا الموضوع‪..‬‬
‫قمت وقد أوحى لي ىذا التفسير بفكرة مثيرة‪:‬‬
‫ػ ال‪ ..‬ال‪ ..‬ىذه ليست مسرحية أطفاؿ ‪ ،‬إنيا فمـ أطفاؿ عربي يضاىي بمستواه أفبلـ األطفاؿ األمريكية والغربية ‪،‬‬
‫ىذا أوؿ فمـ عربي يبرع في توظيؼ الخدع السنمائية ‪ ،‬وينجح في إطبلؽ خياؿ األطفاؿ‪..‬‬
‫إلي بسبابتو في شؾ‪:‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد وىو يشير َّ‬
‫ػ لست معؾ في ىذا يا صديقي‪ ..‬ال يمكف أف يكوف ىذا فمما عربيا لؤلطفاؿ ‪ ،‬وال حتى تمثيمية تمفزيونية‪ ..‬لقد‬
‫استأثر الكبار في ببلدنا بياتيف الوسيمتيف الخطيرتيف ‪ ،‬ووظفوىما لتسميتيـ وارضاء أنانيتيـ ‪ ،‬وتركوا أطفاليـ‬
‫فريسة ألفبلـ األطفاؿ المستوردة ‪ ،‬ومسمسبلت الكرتوف التجارية التي تجذب األطفاؿ باإلثارة الفارغة ‪ ،‬والعنؼ‬
‫المريض‪..‬‬
‫ىتفت أحبلـ في احتجاج غاضب‪:‬‬
‫ػ لقد ذىبتـ بعيدا يا سادة‪ ..‬المسرحيات واألفبلـ ال يؤدييا أطفاؿ قتمى أو أشباح‪!..‬‬
‫إلي وقالت‪:‬‬
‫ثـ التفتت َّ‬
‫ػ وأنت يا صبلح‪ ..‬تأمؿ وجو ىذا الطفؿ المتوج الذي يقؼ فوؽ غيمتو ‪ ،‬وبرمقنا بعيني صقر ‪ ،‬ألـ تقؿ لي بأنؾ‬
‫قد عرفتو؟ أـ أف ما يجري قد أفقدؾ قدرتؾ عمى التركيز؟‪!..‬‬
‫دلكت جبيني بأنامؿ أصابعي المشدودة ‪ ،‬ورحت أتأمؿ وجو الطفؿ وأنا أعتصر ذاكرتي بقوة‪..‬‬
‫قمت ألحبلـ بنبرة شؾ‪:‬‬
‫ػ أأنا قمت بأني أعرؼ ىذا الطفؿ؟!‪ ..‬ال أذكر أني قمت شيئا كيذا‪!..‬‬
‫إلي نظرة غامضة قرأت فييا ريبة واتياما ‪ ،‬وأرادت أف تقوؿ‬
‫شيقت أحبلـ ‪ ،‬وفغرت فميا مشدوىة ‪ ،‬وىي تنظر َّ‬
‫شيئا ‪ ،‬لكف صوتا مباغتا اقتحـ عمينا حوارنا ‪ ،‬فالتفتنا مستطمعيف‪..‬‬
‫ػ أتنساني ييذه السرعة يا دكتور؟ أال تذكر ىذا الوجو عندما كاف مضرجا بدمو؟ ويمكـ أييا الكبار مف أنفسكـ‪..‬‬
‫لقد أدمنتـ عمى النسياف حتى أمسى خبزكـ ‪ ،‬تريدوف لو حتى أسماءكـ‪..‬‬
‫سرت في جسدي رعشة ‪ ،‬وأيقظت نبراتو العاتبة حزنا مكبوتا داخمي فبكيت ‪ ،‬وكاف ىاني يراقب ما يدور ‪ ،‬فقاؿ‬
‫بعد أف سمع الطفؿ يذكرنا بنفسو‪:‬‬
‫ػ إنيا القيامة إذف ‪ ،‬وال شيء غير القيامة ‪ ،‬ليتني عبدت اهلل حؽ العبادة‪!..‬‬
‫وجاءنا الصوت عميؽ مف الخمؼ ‪ ،‬فاستقر في أسماعنا كالقذيفة‪:‬‬
‫ػ ىكذا أنتـ أييا البشر ‪ ،‬ال تذكروف اهلل إال في المممات ‪ ،‬أيف كاف اهلل في حياتكـ عندما كنتـ قادريف عمى‬
‫طاعتو؟‪ ..‬انتظرو ا مصيركـ أييا الناس ‪ ،‬فاليوـ تنصب موازيف الحؽ ‪ ،‬ويمقى كؿ فرد منكـ جزاءه العادؿ‪..‬‬
‫ىتؼ ىاني وىو يصيخ السمع‪:‬‬
‫ػ أسمعتـ ‪ ،‬ىذا ىو صوت جبريؿ!‪ ..‬جبريؿ الذي حمؿ رساالت ربو إلى األرض ‪ ،‬فرفضناىا ‪ ،‬ونسيناىا‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد وىو يفرؾ يديو فرحا‪:‬‬
‫ػ لقد انتظرت ىذا اليوـ طويبل ألرى الظالميف وىـ عراة مف كؿ قوة‪..‬‬
‫ثـ تمفت حولو وتساءؿ في حيرة‪:‬‬
‫ػ ولكف‪ ..‬أيف فرعوف ‪ ،‬وكسرى ‪ ,‬وقيصر؟‪ ..‬أيف بمفور وبف غوريوف وىتمر؟‪ ..‬أيف ستاليف وجونسوف وسوموزا؟‪..‬‬
‫أيف؟‪..‬‬
‫ولـ يكد يكمؿ حتى عاد الصوت المجمجؿ اليادر يطرؽ األسماع ويزلزؿ القموب‪:‬‬
‫ػ "محكمة‪!"..‬‬
‫ساد صمت وسكوف ‪ ،‬وتعمقت العيوف بالطفؿ المتوج ‪ ،‬وتميفت األسماع لمعرفة ما سيصدر عنو ‪ ،‬لكنو لـ ينبس ‪،‬‬
‫وراح يسدد إلينا نظرات قاسية وكأننا مجرمو حرب‪ ،‬وطاؿ صمتو ‪ ،‬فسرى الرعب في النفوس ‪ ،‬وأيقنا باليبلؾ ‪،‬‬
‫خرج الطفؿ المتوج عف صمتو أخي ار وقاؿ‪:‬‬
‫ػ باسـ األطفاؿ المضطيديف والميمميف والمقتوليف ظمما وعدوانا ‪ ،‬باسـ األطفاؿ األبرياء الذيف ال حوؿ ليـ وال قوة‬
‫‪ ،‬أفتتح اليوـ محكمة األطفاؿ الكونية ‪ ،‬ليناؿ الكبار جزاءىـ العادؿ عمى ما اقترفوه في حؽ الصغار مف جرائـ ‪،‬‬
‫وأخطاء‪..‬‬
‫أفمتت مف ىاني ضحكة ىستيرية عالية ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ ال تقنعوني بعد اآلف ‪ ،‬ىذه ليست القيامة ‪ ،‬إنيا مسرحية أطفاؿ ‪ ،‬مسرحية رائعة مف أنجح المسرحيات التي‬
‫شاىدتا في حياتي‪..‬‬
‫ثـ أخذ يصفؽ وييتؼ في حبور‪:‬‬
‫ػ (برافو)‪(..‬برافو‪)..‬‬
‫قمت لياني ‪ ،‬وقد أرىقتني ثرثرتو‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ يا ىاني ‪ ،‬اصمت ودعنا نفيـ ما يجري‪..‬‬
‫أدخؿ ىاني سبابتو في زاوية فمو ‪ ،‬وأطمؽ صفي ار مزعجا ظؿ صداه يتردد مدة ‪ ،‬ثـ قاؿ وىو يعود إلى التصفيؽ‪:‬‬
‫ػ ارحمني مف مبلحظاتؾ السخيفة اآلف ‪ ،‬ودعني أعبر عف إعجابي بيذه الرائعة الفنية التي تفوؽ كؿ ما أبدعو‬
‫الكتاب مف مسرحيات وقصص وروايات‪..‬‬
‫طار الطفؿ إلى ىاني ‪ ،‬وقاؿ لو بميجة متوعدة ‪ ،‬وىو يمسؾ يناصيتو‪:‬‬
‫ػ إذا لـ تمتزـ اليدوء أييا الكبير المشاغب ‪ ،‬فسوؼ أحكـ عميؾ بالحرماف مف اإلنجاب مدى الحياة‪..‬‬
‫بيت ىاني وانتابو اليمع ‪ ،‬فربط التيديد لسانو والذ بالصمت‪..‬‬
‫عاد الطفؿ ذو التاج األحمر إلى مكانو ‪ ،‬ونادى في أصحابو‪:‬‬
‫ػ فمتتقدـ ىيئة المستشاريف‪..‬‬
‫تقدمت مجموعة مف األطفاؿ المجنحيف ‪ ،‬ووقفت فوؽ الغيمة التي يقؼ عمييا الطفؿ المتوج‪..‬‬
‫قاؿ الطفؿ المتوج ‪ ،‬وىو يشير إلى األطفاؿ الذيف انضموا إليو‪:‬‬
‫ػ ىؤالء األطفاؿ ىـ القضاة الذي سيساعدوني في إصدار األحكاـ العادلة ‪ ،‬وقد اخترتيـ مف بيف آخر األطفاؿ‬
‫الضحايا الذيف قتمتيـ الكبار عمى األرض‪..‬‬
‫الطفؿ األوؿ مات جوعا في الصوما‪..‬‬
‫والثاني قتؿ بقذيفة حمقاء ألقيت عميو أثناء حرب مف حروب األشقاء األعداء‪..‬‬
‫والثالث مات ضحية لجيؿ أـ حرمت ابنيا مف التطعيـ ضد األمراض السارية‪..‬‬
‫والرابع قتمو طبيب محترؼ في رحـ أمو تنفيذا لرغبة األـ التي قررت إجياض جنينيا ‪ ،‬وحرمانو مف حقو في‬
‫الحياة‪..‬‬
‫أما أنا ‪ ،‬فقد كنت أحد ضحايا مجزرة دامية كاف وراءىا شاب أرعف قاد سيارتو دوف أدنى شعور بالمسؤولية ‪،‬‬
‫فصدـ بيا باص المدرسة الذي كنت أستقمو أنا وأصحابي ‪ ،‬وحولنا إلى أشبلء‪..‬‬
‫ىمست أحبلـ‪:‬‬
‫ػ ألـ أقؿ لكـ؟ إنو أحد ضحايا باص األطفاؿ‪..‬‬
‫قاؿ ىاني محذ ار‪:‬‬
‫ػ اصمتي يا أحبلـ ‪ ،‬فقد يعاقبؾ قاضي األطفاؿ بعدـ اإلنجاب‪..‬‬
‫انتبو قاضي األطفاؿ إلى ىاني وىو يخطب أحبلـ ‪ ،‬فتعكرت مبلمحو بحمرة الغضب‪..‬‬
‫ىتؼ وىو بشير إلى ىاني بسبابتو‪:‬‬
‫ػ أنت‪ ..‬أييا المشاغب الكبير ‪،‬لقد أنذرتؾ ‪ ،‬ووجب عميؾ العقاب‪..‬‬
‫ركع ىاني عمى ركبتيو فرقا وصاح متوسبل في ضراعة‪:‬‬
‫ػ الرحمة أييا القاضي‪ ..‬لـ أكف أقصد الشغب‪..‬‬
‫أشار القاضي الصغير ألتباعو مف األطفاؿ المجنحيف بحركة مف رأسو ‪ ،‬ففيمنا لمتو بأنو قد أصدر حكمو الصارـ‬
‫‪ ،‬وسرعاف ما انقضت الكائنات المجنحة عمى ىاني ‪ ،‬وقبضت عميو ‪ ،‬وكادت تطير بو ‪ ،‬فتشبثنا بو ‪ ،‬ورحنا بشده‬
‫إلينا ‪ ،‬ونحف نرجو القاضي الصغير أف يرحمو ويعفو عنو ‪ ،‬وصاحت أحبلـ وىي تبكي بم اررة‪:‬‬
‫ػ أنا السبب أييا القاضي‪ ..‬أنا التي بدأتو بالكبلـ‪ ..‬عاقبني أنا إذا شئت‪..‬‬
‫وأردفت متوسبل‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ أييا القاضي‪ ..‬امنحو الفرصة األخيرة‪..‬‬
‫أشاح القاضي المجنح بوجيو عنا ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أنتـ ال تمنحوف األطفاؿ فرصتيـ ‪ ،‬وليس مف العدؿ أف تنالوا أية فرصة‪..‬‬
‫قمت لمقاضي الصغير في محاولة أخيرة إلثنائو عف عزمو‪:‬‬
‫ػ لكف ىاني كاف مف األطباء الذيف شاركوا في إنقاذ أصدقائؾ مف الجرحى ‪ ،‬وقد بذؿ في سبيؿ إنقاذىـ كؿ‬
‫مستطاع‪..‬‬
‫إلي ‪ ،‬ورماني بنظرات قاسية زرعت قمبي بالخوؼ ‪ ،‬ثـ قاؿ بميجة ثائرة‪:‬‬
‫التفت القاضي الصغير َّ‬
‫ػ اعمموا أييا الكبار أف الظمـ الذي يوقعو بعضكـ باألطفاؿ ‪ ،‬لف يعود بالنتائج الوخيمة عمى مف ظمميـ فقط ‪ ،‬بؿ‬
‫إف نتائجة المدمرة ستطاؿ البقية الطبية منكـ ‪ ،‬وستدمر ثورة األطفاؿ حياتكـ ‪ ،‬وتحوليا إلى شقاء‪..‬‬
‫ثـ أردؼ وىو يشيح بوجيو عني ثانية‪:‬‬
‫ػ عندما تشوىوف أرواحنا الصغيرة ‪ ،‬بالتربية الخاطئة والممارسات الرعناء ‪ ،‬فيجب أف تنتظروا مف كؿ شيء‪..‬‬
‫ثـ صمت القاضي الصغير ‪ ،‬وىز رأسو بإيماءة صارمة ‪ ،‬فانتزع أتباعو ىاني منا ‪ ،‬وطاروا بو بعيدا‪..‬‬
‫وجعمت أصرخ وأنادي ممتاعا‪:‬‬
‫ػ ىاني‪ ..‬ىاني‪..‬‬

‫ولـ ألبث أف شعرت بيد ىاني وىي تيزني برفؽ ‪ ،‬فاستيقظت مف حممي العصيب ‪ ،‬ورحت أفرؾ عيني ‪ ،‬وأنا‬
‫أليث ‪ ،‬ثـ نظرت حولي في قمؽ ‪ ،‬وكأني أطمئف عمى العالـ قبؿ أف ينيار‪!..‬‬
‫قاؿ ىاني وىو يبتسـ في دىشة‪:‬‬
‫ػ ىؿ كاف حمما جميبل؟‬
‫تنفست الصعداء ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ بؿ كاف كابوسا مزعجا‪!..‬‬
‫صفعني ىاني بالوسادة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ظننتؾ تناديني في الحمـ مف أجؿ شيء بييج‪!..‬‬
‫استرخيت عمى السرير ورحت أسترجع الحمـ الذي رأيت ‪ ،‬فضحكت بعد أف تذكرت كؿ ما كاف ‪ ،‬وقمت لياني وأنا‬
‫غارؽ في الضحكات‪:‬‬
‫ػ تصور يا ىاني‪ ..‬أنت محكوـ عميؾ بعدـ اإلنجاب‪!..‬‬
‫ػ أنا؟ مف الذي أصدر الحكـ؟‪..‬‬
‫رئيس محكمة الثورة‪!..‬‬
‫ػ اقترب ىاني مني ‪ ،‬ووضع يده عمى جبيتي ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ ح اررتؾ طبيعية!‪ ..‬عف أي ثورة تتحدث؟‪!..‬‬
‫أجبتو وأنا أوغؿ في الضحؾ‪:‬‬
‫ػ ثورة األطفاؿ‪!..‬‬
‫ػ ثورة األطفاؿ؟‪!..‬‬
‫ػ أال ثصدؽ؟‪..‬‬
‫ػ ىذه أوؿ مرة أراؾ تضحؾ في أوقات الجد‪!..‬‬
‫لسعتني مبلحظة ىاني ‪ ،‬تذكرت فجأة ضحايا باص المدرسة ‪ ،‬فغارت الضحكات مف وجيي ‪ ،‬وحؿ مكانيا ىـ‬
‫وقمؽ عمى مصير البقية الباقية مف األطفاؿ‪.‬‬
‫الفصل السادس عشر‬

‫ضحكت أحبلـ عندما حدثتيا عف الحمـ الذي شاىدتو في الميمة السابقة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ ىذا الحمـ يصمح ألف يكوف مسرحية أو فمما ‪ ،‬ينبو الناس إلى أخطار ممارساتيـ الخاطئة مع األطفاؿ‪..‬‬
‫قمت وأنا أمضي معيا خارجيف مف غرفة العمميات‪:‬‬
‫ػ يقولوف بأف األحبلـ مصدر مف المصادر التي يعتمد عمييا الكاتب في إثراء خيالو‪..‬‬
‫ىتفت أحبلـ في حماس وىي تقؼ قميبل‪:‬‬
‫ػ أما أنا فقد أثار حممؾ في خيالي موضوع لوحة رائعة‪..‬‬
‫ثـ تابعت وىي تمضي‪:‬‬
‫ػ سوؼ أذىب اليوـ ألرسـ األطفاؿ المجنحيف وىـ يحمقوف فوؽ رؤوس البشر ‪ ،‬ويرفرفوف بأجنحتيـ كالعصافير‪..‬‬
‫وسأرسـ القاضي الصغير وىو يقؼ فوؽ غيمة العدالة ‪ ،‬ويرمؽ البشر بنظرات صارمة فييا عتاب الطفولة وآالميا‬
‫ممزوجة باالتياـ الصارخ لآلباء الذيف شوىوا أرواح األبناء‪..‬‬
‫تذكرت الغموض الذي الحظتو في حديث األستاذ سعيد عف والد أحبلـ ‪ ،‬قمت في تردد‪:‬‬
‫ػ ثمة سؤاؿ يراودني ‪ ،‬لكني أشعر بالحرج في طرحو عميؾ‪..‬‬
‫تضاحكت وقالت‪:‬‬
‫ػ اسأؿ ما بدا لؾ‪..‬‬
‫ػ ىؿ كاف األستاذ سعيد حقا صديقا لوالدؾ؟‪..‬‬
‫فاجأىا السؤاؿ ‪ ،‬أطرقت قميبل ‪ ،‬ثـ قالت وىي تعبث بسماعتيا الطبية المتدلية عمى صدرىا كالقبلدة‪:‬‬
‫ػ ىؿ قاؿ لؾ شيئا؟‬
‫عرفتُ كبل‬
‫ػ في الحقيقة لـ يكف الوقت يتسع لمحديث ‪ ،‬لكني الحظت عمى وجييكما وجوما غامضا ‪ ،‬عندما َّ‬
‫منكما عمى اآلخر‪!..‬‬
‫تنيدت وقالت‪:‬‬
‫ػ تمؾ قصة قديمة‪..‬‬
‫ػ يبدو لي أف الحديث في ىذا األمر ال يريحؾ‪!..‬‬
‫ػ صدقت‪..‬‬
‫ػ ال داعي إذف لمخوض فيو‪..‬‬
‫ػ ىؿ تقبؿ دعوتي إلى فنجاف شاي؟‪..‬‬
‫ػ بكؿ سرور‪..‬‬
‫شعرت بأني قد تطفمت عمى أحبلـ ‪ ،‬واقتحمت بسؤالي حياتيا الخاصة ‪ ،‬فندمت عمى تسرعي وفضولي ‪ ،‬وقدرت‬
‫أف دعوتيا لي ما ىي إال تيرب لبؽ مف الجواب‪..‬‬
‫ووصمنا إلى مقصؼ العـ درويش ‪ ،‬فرحب بنا في استراحتو ‪ ،‬وسألنا عما نشتيي ‪ ،‬فطمبت أحبلـ منو أف يحضر‬
‫لنا فنجانيف مف الشاي المعطر بنكية النعناع ‪ ،‬ثـ اختارت ركنا قريبا مف النافذة ‪ ،‬وجمست ساىمة حزينة تكتسي‬
‫نظراتيا بكآبو عميقة‪..‬‬
‫جمست وأنا أكابد شعو ار بالذنب ‪ ،‬فمـ أكف أعمـ أف سؤالي سيعكر صفوىا إلى ىذا الحد‪..‬‬
‫وأدركت أف في األمر س ار مؤلما ال ينبغي لي نبشو ‪ ،‬ووجدت مف واجبي أف أخرج أحبلـ مف الجو الذي وضعتيا‬
‫فيو ‪ ،‬قمت وأنا أرسؿ نظراتي مف النافذة إلى حديقة المستشفى‪:‬‬
‫ػ الحديقة تزداد جماال ‪ ،‬بعد أف خمع عمييا الربيع فتنتو‪..‬‬
‫نظرت أحبلـ إلى الحديقة ‪ ،‬وأطالت النظر ‪ ،‬وىي تتأمؿ قمـ األشجار وأحواض الزىور ‪ ،‬ثـ لمممت نظراتيا‬
‫الكئيبة ‪ ،‬وألقتيا نحوي متوىجة بالحزف ‪ ،‬وقالت بنبرة ىادئة عميقة‪:‬‬
‫ػ منذ سبعة عشر عاما تقريبا ‪ ،‬انيارت عمارة سكنية فوؽ رؤوس ساكنييا ‪ ،‬وذىب ضحية ليذا الحادث ستة‬
‫أطفاؿ ‪ ،‬وتسع نسوة ورجؿ واحد ‪ ،‬ىذا غير الذي أعيقوا أو تشوىوا‪ ..‬مف حسف الحظ أف العمارة لـ تكف مكتظة‬
‫بالسكاف ‪ ،‬فقد سقطت أثناء النيار ‪ ،‬حيث كاف معظـ السكاف خارجيا ‪ ،‬منصرفيف إلى شؤونيـ في أماكف العمؿ‬
‫والدارسة والتسوؽ‪ ..‬لكنيا كانت كارثة عمى كؿ حاؿ‪..‬‬
‫ىؿ تعرؼ مف ىو المقاوؿ الذي قاـ ببناء ىذه العمارة؟‪..‬‬
‫لـ أجب ‪ ،‬ولـ أفيـ مناسبة ىذا الحديث الغامض عف العمارة المنيارة!‪ ..‬تركتيا تتابع الحديث بانتظار معرفة ما‬
‫ستصؿ إليو ‪ ،‬أطرقت أحبلـ ‪ ،‬وقالت تجيب عف سؤاليا ‪ ،‬وىي تعبث بأصابعيا كمف أربكو أمر‪:‬‬
‫ػ لقد كاف والدي‪..‬‬
‫ثـ صمتت برىة ‪ ،‬وداومت اإلطراؽ كالخجمى ‪ ،‬ثـ أرسمت زفرة طويمة وشت بما يعتمؿ في صدرىا مف ألـ وىـ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ػ طبعا بدأ التحقيؽ القضائي في ىذه القضية ‪ ،‬واتجيت أصابع االتياـ إلى الميندس المسؤوؿ عف تنفيذ بناء‬
‫العمارة ‪ ،‬ألنو كاف قد وقع عمى عقد يمتزـ فيو بمسؤوليتو الكاممة عف أي خمؿ يحدث في البناء‪..‬‬
‫دافع الميندس عف نفسو بقوة ‪ ،‬ادعى بأف والدي ىو الذي أمره بأف يقتصد ويوفر في استيبلؾ المواد األولية‪..‬‬
‫رفض والدي ادعاء الميندس ‪ ،‬وذكره بأف العقد الذي وقع عميو معو ينص عمى أف تقدير كميات المواد البلزمة‬
‫لمبناء مف مسؤولية الميندس ‪ ،‬وأف والدي لـ يكف سوى مموؿ لممشروع ‪ ،‬يسدد الفواتير التي كاف يحوليا إليو‪..‬‬
‫وكاف رد الميندس بأف العقد الذي وقع عميو كاف مجرد خدعة ‪ ،‬وأنو كاف مميئا بالشروط المغرية التي وضعيا لو‬
‫والدي كطعـ يجذبو لمقبوؿ بالشروط القاسية األخرى ‪ ،‬وأف األمور سارت في كثير مف األحياف عمى غير ما جاء‬
‫في العقد ‪ ،‬وأف الميندس اضطر لمسكوت عف ىذه التجاوزات حتى ال يفقد االمتيازات التي حصؿ عمييا مف‬
‫خبلؿ العقد‪..‬‬
‫َّ‬
‫كذب والدي أقوؿ الميندس ‪ ،‬واتيمو بالمراوغة ‪ ،‬وقاؿ لو أماـ ىيئة المحكمة التي فصمت في األمر‪" :‬لـ تكف‬
‫مضط ار لمتوقيع عمى عقد تجد فيو شروطا ليست لصالحؾ‪"..‬‬
‫قاؿ القاضي كممتو‪ :‬الميندس مذنب ‪ ،‬ويستحؽ اإلعداـ‪..‬‬
‫سألت أحبلـ وأنا أتابع القصة باىتماـ‪:‬‬
‫ػ ووالدؾ؟‬
‫قالت أحبلـ بنبرة غامضة توحي بأنيا غير مقتنعة بما تقوؿ‪:‬‬
‫ػ أثبت والدي أف دوره في عميمة البناء كاف مقصو ار عمى التمويؿ واالستثمار ‪ ،‬وشيد المحاسب الخاص بمشروع‬
‫العمارة إلى جانب والدي‪..‬‬
‫قاؿ المحاسب بأف الميندس كاف يشتري المواد األولية البلزمة لممشروع ‪ ،‬ثـ يقدـ الفواتير لوالدي ليسددىا ‪ ،‬ولـ‬
‫يكف والدي يتدخؿ في تحديد كميات ىذه المواد ‪ ،‬ومع ىذا لـ ينج والدي مف المسؤولية ‪ ،‬فقد حكمت عميو‬
‫المحكمة بتعويض المتضرريف عف خسائرىـ المادية‪..‬‬
‫وأقبؿ العـ درويش يحمؿ الشاي ‪ ،‬فوضعو أمامنا ‪ ،‬وقاؿ ببشاشتو المعيودة‪:‬‬
‫ػ الشاي يا دكاتره‪..‬‬
‫شكرناه وعندنا لمحديث ‪ ،‬قالت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ كاف الميندس شابا حديث التخرج ‪ ،‬قميؿ الخبرة ‪ ،‬طموحا يبحث عف فرصة كبيرة تدر عميو الماؿ ‪ ،‬وتحرؽ أمامو‬
‫المراحؿ نحو القمة التي يحمـ بيا ‪ ،‬فوجد فرصتو في العرض الذي قدمو لو والدي ‪ ،‬ووافؽ عميو بكؿ شروطو‪..‬‬
‫عمقت منك ار‪:‬‬
‫ػ جميؿ أف يكوف اإلنساف طموحا ‪ ،‬متحمسا لموصوؿ إلى أىدافو بسرعة ‪ ،‬لكف أف يتسمؽ عمى أشبلء اآلخريف ‪،‬‬
‫فيذه قمة الدناءة واألنانية والجشع‪!..‬‬
‫تمقت أحبلـ كبلمي بتأثر واضح ‪ ،‬وكأني أعنييا بو ‪ ،‬فممعت عيناىا برقاقة مف الدمع ‪ ،‬وشعت نظراتيا ببريؽ‬
‫حزيف ‪ ،‬ىمست كالحائر‪:‬‬
‫ػ دكتورة أحبلـ‪ ..‬ىؿ قمت كبلما أزعجؾ؟‪..‬‬
‫انتبيت أحبلـ لمبلحظتي ‪ ،‬فابتسمت لتخفي الحزف الذي ألـ بيا فجأة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أبدا‪ ..‬كنت أفكربكبلمؾ فقط‪..‬‬
‫ػ وىؿ يحزنؾ التفكير بكبلمي إلى ىذا الحد؟‪.‬‬
‫ػ ما يحزنني أف كبلمؾ ال ينطبؽ عمى الميندس فقط‪!..‬‬
‫صمتت أحبلـ برىة ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫ػ لـ يكف الميندس وحده الذي تسمؽ عمى أشبلء اآلخريف‪..‬‬
‫ػ ما زلت لـ ال أفيـ‪..‬‬
‫ػ إذا عرفت بقية القصة ‪ ،‬فستفيـ كؿ شيء‪..‬‬
‫ػ ألـ تنتو القصة بإدانة الميندس؟‪..‬‬
‫تناولت أحبلـ رشفة مف فنجانيا ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫ػ كادت القصة تطوى عند ىذا الحد لوال أف فجرىا األستاذ سعيد الناشؼ مف جديد‪..‬‬
‫ػ سعيد الناشؼ‪!..‬‬
‫ػ أال تريد أف تعرؼ نوع العبلقة التي تربط والدي باألستاذ سعيد؟‪..‬‬
‫أدركت أخي ار أف لقصة العمارة المنيارة عبلقة بسؤالي ‪ ،‬وظننت أف أحبلـ تجيب عف السؤاؿ مكرىة ‪ ،‬قمت ليا‪:‬‬
‫ػ لست متمسكا بالسؤاؿ‪..‬‬
‫ػ لكني متمسكة باإلجابة‪..‬‬
‫ػ فيمت أف الحديث في ىذا الموضوع ال يريحؾ‪!..‬‬
‫أمالت أحبلـ رأسيا في ىدوء حزيف ‪ ،‬وعادت غبللة الدمع تممع في عينييا ‪ ،‬قالت وىي تزحزح فنجانيا بحركة‬
‫رتيبة وكأنيا تداعبو‪:‬‬
‫ػ ثمة أحاديث كثيرة ‪ ،‬ال يرتاح اإلنساف لمخوض فييا ‪ ،‬لكف ىذه األحاديث ال ينبغي أف تبقى مكتومة في الصدر‬
‫إلى ما ال نياية‪ ..‬يجب أف تخرج إلى اليواء قميبل ‪ ،‬لتنفث آثارىا السامة خارج الجسد ‪ ،‬حتى ال تنفجر داخمو‬
‫فتدمره‪ ..‬يجب أف نخرجيا مف خمؼ الضموع ليسمعيا إنساف قريب منا ‪ ،‬فيألـ أللمنا ‪ ،‬ويشاركنا أحزاننا ‪ ،‬ويحمؿ‬
‫معنا ىمنا الثقيؿ‪..‬‬
‫إلي عينيف مخضمتيف بالدموع ‪ ،‬وىمست‪:‬‬
‫ثـ رفعت أحبلـ َّ‬
‫ػ ىؿ ترضى أف تكوف ىذا اإلنساف يا دكتور؟‪..‬‬
‫تأثرت لمرآىا الحزيف ‪ ،‬سارعت وقدمت ليا منديبل تمسح بو دموعيا ‪ ،‬ثـ قمت مواسيا‪:‬‬
‫ػ إني أسمعؾ‪ ..‬أرسمي ما يؤرؽ صدرؾ ‪ ،‬واعممي بأنو سيكوف محفوظا بيف جنبي صديؽ‪ ..‬كمنا بحاجة إلى أف‬
‫نبوح بما يرىؽ صدورنا ‪ ،‬وكمنا بحاجة لمف يسمعنا في لحظات الضيؽ‪..‬‬
‫جففت أحبلـ دموعيا ‪ ،‬واستنشقت بعض اليواء الذي ىب مف النافذة معط ار بشذا الياسميف ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬
‫ػ بعد انتياء المحاكمة بأشير طمع األستاذ سعيد الناشؼ عمى الناس بمقاؿ مثير‪ ..‬قاؿ في مقالو‪ :‬إف المحاسب‬
‫الذي شيد إلى جانب والدي لـ يقؿ الحقيقة ‪ ،‬وأنو قد زور شيادتو أماـ المحكمة ‪ ،‬بعد أف كاف قد شيد أماـ‬
‫الشرطة بأقواؿ مختمفة تديف والدي ‪ ،‬وتثبت مسؤوليتو المباشرة عف حادث سقوط العمارة ‪ ،‬وتابع األستاذ سعيد‬
‫سمسمة اتياماتو لوالدي ‪ ،‬فادعى أف الشيادة الحقيقة التي أدلى بو المحاسب قد سرقت مف ممفات التحقيؽ ‪ ،‬وأف‬
‫المحاسب قد اعترؼ في شيادتو األولى بأنو سمع والدي أكثر مف مرة وىو يطالب الميندس بعدـ اإلسراؼ في‬
‫تسميح البناء ‪ ،‬واالقتصاد في استيبلؾ المواد األولية ‪ ،‬حتى يقوـ البناء بأقؿ تكمفة ‪ ،‬ويباع بأربح ثمف ‪ ،‬مما جعؿ‬
‫الميندس يبالغ باالقتصاد والتوفير إرضاء لوالدي ‪ ،‬ويحرـ البناء مف الحد األدنى مف التسميح الذي يساعده عمى‬
‫الصمود ومقاومة السقوط‪..‬‬
‫ثـ أكد األستاذ سعيد أف المحاسب قد ىاجر إلى الواليات المتحدة ‪ ،‬وأنو يقوـ ىناؾ بمتابعة دراستو العميا في‬
‫إحدى الجامعات األمريكية ‪ ،‬واستدؿ مف ىذه المعمومات بأف المحاسب ما كاف ليستطيع متابعة دراستو العميا‬
‫وتكاليفيا الباىظة ‪ ،‬لوال أف قبض ثمنا غاليا لسكوتو‪!..‬‬
‫ػ وماذا كاف رد والدؾ عمى كؿ ىذه االتيامات؟‬
‫ند عني ىذا السؤاؿ دوف إرادة مني ‪ ،‬وأنا أصغي إلييا باىتماـ‪ ..‬قالت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ لـ يسكت والدي طبعا عمى اتيامات األستاذ سعيد ‪ ،‬فاتيمو بالطعف والقذؼ ‪ ،‬وطمب مف القضاء أف ينصفو ‪،‬‬
‫ونشبت بيف الطرفيف معركة قضائية حامية ‪ ،‬كسبيا والدي في النياية ‪ ،‬وتـ إيقاؼ جريدة األياـ التي يممكيا‬
‫األستاذ سعيد لمدة ثبلثة أشير ‪ ،‬ألنيا تنشر أنباء كاذبة تمس الجميور ‪ ،‬وتستغؿ صفحاتيا لمتشيير بالناس‪..‬‬
‫قمت ألحبلـ‪:‬‬
‫ػ إدانة المحكمة لؤلستاذ سعيد الناشؼ تعني أف والدؾ بريء مف كؿ ما نسب إليو‪..‬‬
‫قالت أحبلـ بميجة غاضبة‪:‬‬
‫ػ ىذا ما يبدو لمناس‪..‬‬
‫ػ ىذا ما يبدو لمناس؟‪!..‬‬
‫ىكذا قمت في دىشة ‪ ،‬بعد أف أثارت كمماتيا فضولي!‪ ..‬ىؿ يبدو ليا األمر عمى غير الوجو الذي يبدو فيو‬
‫لمناس؟!‪ ..‬وحرت في فيـ المعنى الغامض الذي يستتر خمؼ كمماتيا ‪ ،‬وانتظرت أف تستأنؼ أحبلـ بوحيا لتسكت‬
‫فضولي ‪ ،‬لكنيا صمتت ‪ ،‬وعادت إلى فنجانيا تيدىده ‪ ،‬قالت وىي تمعف النظر في الفنجاف الذي برد قبؿ أف‬
‫تكممو‪:‬‬
‫ػ ىؿ تعمـ ما أقسى شيء في الوجود؟‬
‫ابتسمت في م اررة وقمت‪:‬‬
‫ػ في ىذا العالـ ألواف مف القسوة ‪ ،‬فأييا تريديف؟‬
‫اغتسمت عيناىا ثانية بالدمع ‪ ،‬فتوىجت خضرتيما الصافية بأشعة حزينة تحرؾ قمبي ‪ ،‬وخفؽ إشفاقا عمى ىذه‬
‫الفتاة التي تقطر حزنا وكآبة ‪ ،‬قالت أحبلـ وىي تمسح دموعيا المنثالة فوؽ خدييا بيدوء‪:‬‬
‫ػ أقسى ما في الوجود أف تصدـ فيمف تحب‪ ..‬أف ترسـ في خيالؾ صورة مشرقة إلنساف عزيز ‪ ،‬ثـ يأتي الواقع‬
‫القذر ليمطخ تمؾ الصورة الزاىية الجميمة باألوحاؿ‪ ..‬فما بالؾ إذا كاف ىذا اإلنساف العزيز عميؾ ىو قدوتؾ‬
‫ومثالؾ؟ ‪..‬ما بالؾ إذا كاف ىذا اإلنساف أباؾ؟‪..‬‬
‫قمت وأنا أشفؽ عمييا مف آالـ االعتراؼ‪:‬‬
‫ػ دكتورة أحبلـ‪ ..‬لعمؾ متعبة‪!..‬‬
‫قالت في توسؿ حازـ‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ‪ ..‬دعني أكمؿ‪ ..‬منذ زمف بعيد وأنا أبحث عف إنساف أبوح لو بسري ‪..‬أريؽ أمامو ما في صدري‪ ..‬أتكمـ‬
‫إليو بصدؽ وصراحة‪ ..‬فكف ىذا اإلنساف ‪ ،‬ولو لمحظة ‪ ،‬ثـ انس ما سمعتو مني أو احتفظ بو ‪ ،‬ال فرؽ‪..‬‬
‫ىمست مستسمما‪:‬‬
‫ػ تفضمي وأكممي‪ ..‬إني أحترـ بوحؾ ىذا ‪ ،‬وأصغي إليو‪..‬‬
‫أخذت أحبلـ نفسا عميقا ‪ ،‬ثـ أرسمت زفرة ممتيبة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ عندما حدثت كارثة العمارة المنيارة كنت فتاة صغيرة ال أكترث بمثؿ ىذه األحداث ‪ ،‬وال ألقي ليا باال ‪ ،‬وعندما‬
‫كبرت ونضج وعيي وجدتني أحاوؿ فيـ ما حدث‪..‬‬
‫روت لي أمي قصة العمارة ‪ ،‬وما انتيت إليو المحاكمات بشأنيا ‪ ،‬وحدثتني بما كاف مف األستاذ سعيد ‪ ،‬وأقنعتني‬
‫بأف والدي كاف مظموما في ىذه القضية ‪ ،‬وأف الصحفي سعيد الناشؼ كاف مغرضا في اتياماتو لو ‪ ،‬وعممتني أف‬
‫قدر الناجحيف والمشيوريف أمثاؿ أبي أف يجدوا في طريقيـ الحاسديف والحاقديف واألعداء‪..‬‬
‫وبقيت ىذه القصة بكؿ تفاصيميا ىاجعة في ذاكرتي ‪ ،‬تستيقظ بيف الحيف والحيف في مناسبات عابرة ‪ ،‬ثـ تعود‬
‫إلي الشؾ يوما بأف والدي نظيؼ بريء‬
‫إلى أعماؽ الذاكرة ‪ ،‬وتغيب فييا كحدث عادي كاف ومضى ‪ ،‬ولـ يتطرؽ َّ‬
‫مف كؿ ما ألصقو بو اآلخروف مف اتيامات ‪ ،‬حتى قامت حرب حزيراف ‪ ،‬واكتشفت حقيقة أبي‪!..‬‬
‫ستسألني‪ :‬ما عبلقة حرب حزيراف باكتشاؼ حقيقة أبي؟‪!..‬‬
‫عندما قامت إسرائيؿ بعدوانيا الغادر عمينا عاـ ‪7667‬ـ ‪ ،‬كاف والدي يعقد صفقة ميمة في الياباف ‪ ،‬وكنا نعيش‬
‫ىنا في ذعر ‪ ،‬خوفا مف القنابؿ اإلسرائيمية التي كانت الطائرات العدوة تمقييا عمى األحياء السكنية بوحشية‪..‬‬
‫قمت ألحبلـ وقد نالت ذكرى اليزيمة مف ىدوئي ‪ ،‬وأورثتني ألما وحسرة‪:‬‬
‫ػ أنت تذكرينني اآلف بأياـ سوداء ‪ ،‬امتزج فييا األلـ بالصدمة والذؿ واليزيمة‪..‬‬
‫تابعت أحبلـ بنبرة حزينة‪:‬‬
‫ػ اتصؿ بنا والدي أثناء الحرب ليطمئف عمى أحوالنا ‪ ،‬فتحدثت إليو ‪ ،‬وأخبرتو بأف إسرائيؿ تقصؼ السكاف اآلمنيف‬
‫‪ ،‬وتدمر البيوت فوؽ ساكنييا ‪ ،‬وال تميز بيف منزؿ أو مدرسة أو مستشفى‪ ..‬تريد لو تستأصمنا بقذائفيا الحاقدة ‪،‬‬
‫وتمحونا عف الوجود‪..‬‬
‫ىدأ والدي مف روعي ‪ ،‬ونصحنا أف نحتاط جيدا مف الغازات اإلسرائيمية ‪ ،‬فبل نغادر الممجأ إال لمضرورة القصوى‬
‫‪ ،‬وطمب مني أف أفتح خزينتو ‪ ،‬وأخرج كؿ ما فييا مف أوراؽ وأمواؿ ‪ ،‬وأحتفظ بيا معي ‪ ،‬وأخفييا عف العيوف‬
‫جيدا ‪ ،‬فقد خاؼ والدي آنذاؾ أف تدمر قذائؼ األعداء بيتنا ‪ ،‬وتتمؼ أوراقو اليامة التي تحوي عمى عقود ‪ ،‬وأوراؽ‬
‫ممكية ‪ ،‬وسندات وايصاالت وغير ذلؾ مف الوثائؽ اليامة إضافة إلى مبمغ كبير كاف يحتفظ بو والدي في خزنتو‬
‫لمطوارئ العاجمة‪ ..‬ثـ ذكر لي الرقـ السري الذي اختاره مفتاحا لخزنتو ‪ ،‬وحذرني مف أف تقع أوراقو في يد مخموؽ‬
‫‪ ،‬حتى لو كاف أمي‪..‬‬
‫ونفذت ما طمبو والدي بالحرؼ ‪ ،‬فجمعت أوراقو ونقوده في حقيبة ‪ ،‬وحفظتيا في مكاف أميف مف الممجأ ‪ ،‬وأخفيت‬
‫األمرعف والدتي ‪ ،‬حتى ال أكوف سببا في شجار مف الشجارات العنيفة التي كانت تندلع بيف أمي وأبي حوؿ‬
‫مصالحيما وأعماليما المشتركة‪..‬‬
‫وعشنا في الممجأ الفسيح الذي بناه أبي تحت منزلنا أياما قاسية‪ ..‬نخوض في أخبار الحرب ‪ ،‬ونتمقى أنباء اليزائـ‬
‫بألـ وذىوؿ كمف يتمقى أنباء مصرع أفراد أسرتو واحدا بعد واحد‪..‬‬

‫وابتميت باألرؽ والسياد ‪ ،‬فمـ أعد أذوؽ لمنوـ طعما ‪ ،‬وجثمت اآلالـ عمى صدري كجبؿ مف الشوؾ ‪ ،‬ووجدت‬
‫نفسي ذات ليمة في حالة عارمة مف اليأس واأللـ والممؿ والضجر والضيؽ‪ ..‬بحثت عمف يبدد وحشتي بحديث أو‬
‫حوار ‪ ،‬فألفيت الجميع قد ناموا بعد أف أرىقيـ السير الطويؿ والقمؽ المرىؽ‪ ..‬فتحت المذياع ‪ ،‬فخدشت سمعي‬
‫أخبار اليزيمة ‪ ،‬واعتصرت فؤادي األغاني الحماسية التي تتحدث عف االنتصار في لحظات االنييار ‪ ،‬وتبشر‬
‫بالمد المتعاظـ في عصر االنحسار ‪..‬أغمقت المذياع بعصبية وحنؽ ‪ ،‬ولوال إشفاقي عمى النائميف ‪ ،‬لقذفت بو‬
‫عمى األرض ‪ ،‬وحولتو إلى حطاـ‪..‬‬
‫وخطر لي أف أتفقد أوراؽ والدي ونقوده ‪ ،‬فمضيت إلى المكاف األميف الذي أخفيتيا فيو ‪ ،‬ورحت أتسمى بقراءة‬
‫األوراؽ ‪ ،‬مدفوعة بفضوؿ عادي لمعرفة أمبلؾ أبي وحدود ثراءه‪..‬‬
‫وسألتني أحبلـ فجأة‪:‬‬
‫ػ ىؿ كاف تصرفي خاطئا؟‪..‬‬
‫ػ ال أعتقد‪..‬‬
‫ػ كاف فضولي بريئا مف أية نية سيئة‪..‬‬
‫ػ أتفيـ ذلؾ تماما‪..‬‬
‫ػ ليتني لـ أفعؿ‪..‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫أطرقت أحبلـ وقالت‪:‬‬
‫ػ ألني عثرت بيف أوراؽ والدي عمى شيادة المحاسب التي اتيـ األستاذ سعيد والدي بسرقتيا مف ممفات الشرطة‪!..‬‬
‫وفيمت كؿ شيء ‪ ،‬أدركت كـ كانت صدمة أحبلـ بحقيقة أبييا قاسية وأليمة ‪ ،‬سألتيا بميجة مترددة‪:‬‬
‫ػ وماذا جاء فييا؟‬
‫قالت أحبلـ ‪ ،‬وقد توىج وجييا بالحياء ‪ ،‬خجبل مما أتاه والدىا مف آثاـ‪:‬‬
‫ػ اعترؼ المحاسب في شيادتو بأف والدي كاف وراء شح المواد األولية التي رصدت لممشروع ‪ ،‬وأنو طمب مف‬
‫الميندس المنفذ أكثر مف مرة ‪ ،‬أال يسرؼ في تسميح البناء ‪ ،‬وروى المحاسب أنو سمع والدي يقوؿ لمميندس‬
‫بالحرؼ‪" :‬أجدادنا كانوا يعيشوف في بيوت مف الطيف ‪ ،‬فمـ تسقط عمييـ ‪ ،‬ال أدري لماذا يجب أف نحوؿ بيوتنا إلى‬
‫قبلع؟!"‪ , ..‬أضاؼ المحاسب في شيادتو بأف الميندس صارحو ذات مرة بأنو غير مرتاح لمطريقة التي تسير بيا‬
‫األمور ‪ ،‬لكنو مضطر لبلستمرار في العمؿ حتى يجمع المير الباىظ ‪ ،‬وثمف الشقة والسيارة التي وضعتيا أسرة‬
‫فتاتو شروطا صارمة ال بد منيا لمرضاء بو كزوج البنتيـ المدلمة‪.‬‬
‫وصمتت أحبلـ مستسممة لتيار متدفؽ مف الدمع ‪ ،‬فرجوتيا أف تتمالؾ أعصابيا خشية أف يراىا أحد عمى ىذه‬
‫الصورة ‪ ،‬فيفيـ األمر عمى غير حقيقتو‪..‬‬
‫وال حظ العـ درويش بكاء أحبلـ ‪ ،‬فخؼ إلييا بميفة األب الحاني ‪ ،‬وىو يحمؿ كأسا مف الماء ‪ ،‬قاؿ العـ درويش‬
‫وىو يميؿ نحوىا برفؽ‪:‬‬
‫ػ خي ار يا ابنتي ‪ ،‬لماذا كؿ ىذه الدموع؟‬
‫جففت أحبلـ دموعيا ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ ال شيء يا عـ درويش ‪ ،‬اطمئف‪..‬‬
‫ػ كيؼ أطمئف وأنا أراؾ دامعة حزينة؟‪..‬‬
‫وأشرت لمعـ درويش أف اترؾ األمر لي ‪ ،‬فانصرؼ بيدوء ‪ ،‬ولـ يمبث أف عاد وىو يحمؿ كأسا مف الميموف ‪،‬‬
‫فوضعو أماـ أحبلـ ‪ ،‬ثـ مضى في صمت ‪ ،‬وجمس بعيدا يرمقنا في قمؽ ‪ ،‬قمت ألحبلـ‪:‬‬
‫ػ أرجو أف تممكي دموعؾ بعد اآلف ‪ ،‬نحف في مجتمع يحب الثرثرة ‪ ،‬ويصغي إلييا ‪ ،‬ولف يفيـ أحد حقيقة دموعؾ‬
‫الطاىرة‪..‬‬
‫لمست أحبلـ في كبلمي حرصا وحنانا ‪ ،‬فأومأت شاكرة ‪ ،‬وجعمت تمـ شتات مشاعرىا ‪ ،‬وتستعيد ىدوءىا ‪،‬‬
‫تماسكت وقالت بعد صمت قصير‪:‬‬
‫ػ منذ العاـ المشؤوـ‪ ..‬عاـ اليزيمة ‪ ،‬وأنا أحمؿ ىذا السر في صدري‪ ..‬لشد ما عذبتني الحقيقة‪ ..‬فقدت احترامي‬
‫لوالدي‪ ..‬فقدت إيماني بو‪ ..‬انكسر داخمي كتمثاؿ مف الزجاج ‪ ،‬وتحوؿ إلى شظايا حادة ‪ ،‬تمزقني وتدميني مف‬
‫الداخؿ ‪..‬حاولت أف أنسى‪ ..‬ضميري رفض أف يسكت‪ ..‬ظؿ يمسعني بسياط الموـ والتعنيؼ ‪..‬ييتؼ بي أف أفع‬
‫شيئا‪ ..‬أي شيء ‪ ،‬لكني ضعفت‪ ..‬انيزمت‪ ..‬عشت أيامي التالية كريشة تائية‪ ..‬شعرت بأني غصف مكسور‪..‬‬
‫أحسست بأني لقيطة‪ ..‬نعـ ‪ ،‬لقيطة ‪..‬كمقيطتؾ التي شغمتنا بو منذ أسابيع‪ ..‬عندما كنت أعالج تمؾ الطفمة كنت‬
‫أحسدىا ألنيا أسعد مني حظا ‪ ،‬فيي لـ تعرؼ أباىا ‪ ،‬وقد ال تعرفو أبدا ‪ ،‬أما أنا فأعرؼ مف ىو أبي وأعرؼ ما‬
‫حقيقتو‪ ..‬كاف في نظري مبلكا ثـ ىوى‪ ..‬ىوى كما تيوي الشيب المضيئة ‪ ،‬وتنطفئ في قاع األرض‪..‬‬
‫وسألت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ ألـ تفكري بمواجيتو بالحقيقة؟‬
‫ػ لـ أجرؤ‪..‬‬
‫ػ إلى متى ستسكتيف؟‪..‬‬
‫ػ ال أدري‪..‬‬
‫ػ معؾ حؽ ‪ ،‬إنو أبوؾ عمى كؿ حاؿ‪..‬‬
‫ػ يبدو أف ىناؾ فرقا بيف ما يجب أف يكوف ‪ ،‬وما يمكف أف يكوف‪..‬‬
‫ثـ تساءلت أحبلـ‪:‬‬
‫ػ لماذا لـ يعد الناس يطيقوف البراءة؟‪..‬‬
‫ابتسمت كالساخر ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ ألنيا سيء غير محسوس‪ ..‬شيء ال يؤكؿ وال يشرب وال يمبس وال يصرؼ وال يوضع في البنؾ!‪ ..‬لقد آمف‬
‫الناس بالمحسوس وكفروا بالمعاني‪..‬‬
‫شعورىـ بالحياة أمسى حسيا غميظا‪ ..‬القيـ الجميمة لـ تعد تبعث األشواؽ في نفوسيـ‪ ..‬إنيا العودة إلى البدائية‬
‫األولى عندما كنت مشاعر الناس بميدة جامدة قاسية كاألدوات الحجرية التي كانوا يستعممونيا‪..‬‬
‫وأرسؿ جياز اإلنذار الذي تحممو أحبلـ عدة إشارات ‪ ،‬فنيضت لتمبي النداء ‪ ،‬قمت ليا قبؿ أف تمضي‪:‬د‬
‫ػ اغسمي وجيؾ قبؿ أف تذىبي ‪ ،‬فالحزف ما زاؿ عالقا فيو‪..‬‬
‫ابتسمت ‪ ،‬ومضت ‪ ،‬وأنا أشيعيا بنظرات ممؤىا الحب واإلكبار‪..‬‬
‫ىذه ىي الفتاة التي تستحؽ أف يموت مف أجميا الرجاؿ ‪ ،‬ويقطعوا في سبيميا مفازات المستحيؿ‪!..‬‬
‫الفصل السابع عشر‬

‫بذرة الحب التي ألقتيا أحبلـ في قمبي بدأت تنفض عنيا غبار الحيرة والتردد ‪ ،‬وتشؽ طريقيا إلى النور ‪ ،‬وما‬
‫فتئت تنمو وتكبر حتى أورقت باألمؿ ‪ ،‬وأزىرت بالفرح ‪ ،‬وأفعمت أعماقي بعبؽ ساحر لذيذ ‪..‬بشيء كالنشوة‪..‬‬
‫كالحمـ‪ ..‬شيء غامض يدغدغ النفس بأشواؽ مبيمة ‪ ،‬ويمنح الروح رقة وخفة وقدرة عمى التحميؽ ‪ ،‬وكأنيا طائر‬
‫رشيؽ يرفرؼ بأجنحتو في دنيا مسحورة ‪ ،‬كؿ ما فييا جميؿ وبييج‪..‬‬

‫أىكذا يفعؿ الحب؟‪..‬‬

‫ىذا ما راودني ‪ ،‬وأنا أستيقظ صباح اليوـ التالي عمى طيؼ أحبلـ ‪ ،‬وىو يمس روحي مسا لطيفا ‪ ،‬ليوقظيا مف‬
‫رقادىا ‪ ،‬ويطمقيا في عالـ مف الصفاء الحبور‪..‬‬

‫وانبثؽ في أغواري تفاؤؿ عارـ ‪ ،‬فشعرت برغبة لبلنطبلؽ ‪ ..‬لمعمؿ‪ ..‬لمقاء الناس‪ ..‬لمضحؾ‪ ..‬لمطيراف‪ ..‬دخمت‬
‫عمى أمي في المطبخ ‪ ،‬ورحت أساعدىا في تحضير الطعاـ ‪ ،‬ثـ حممت األطباؽ إلى المائدة في خفة ونشاط ‪،‬‬
‫وجمست مع والدي نتبادؿ األحاديث كاألصدقاء‪ ..‬لكأني أتذوؽ الحياة لممرة األولى ‪ ،‬منذ متى لـ أشيد اجتماع‬
‫العائمة حوؿ مائدة اإلفطار‪!..‬‬

‫قالت أمي وىي تنضـ إلى المائدة ‪ :‬لو كنت أعمـ أنؾ ستكوف ضيفا عمينا ىذا الصباح ‪ ،‬ألعددت لؾ فطو ار يميؽ‬
‫بؾ يا دكتوري العزيز‪..‬‬

‫وأردؼ أبي ‪ :‬يا لؾ مف محظوظ‪ ..‬تعيش في البيت كالضيؼ المدلؿ ‪ ،‬ونعامؿ نحف كمواطنيف مف الدرجة‬
‫الثانية‪..‬‬

‫ضحكت في زىو كاذب ‪ ،‬وأقبمت عمى األكؿ بشيية عجيبة أثارت دىشة أمي ‪ ،‬ولـ يمبث إخوتي أف توافدوا وىـ‬
‫عمي بتعميقاتيـ ودعاباتيـ‪..‬‬
‫يضحكوف ‪ ،‬وانيالوا َّ‬

‫ػ انظروا مف سيفطر معنا اليوـ‪..‬‬


‫ػ الدكتور صبلح معنا عمى مائدة واحدة؟‪ ..‬غير معقوؿ‪!..‬‬

‫ػ لـ نرؾ منذ أسبوع ‪ ،‬فما الذي ذكرؾ فينا اليوـ؟‪!..‬‬

‫ػ ال تخاطبوه وىو يأكؿ ‪ ،‬فقد يغص بالطعاـ‪..‬‬

‫ػ تبدو سعيدا ىذا الصباح!‪ ..‬ىؿ منحؾ مدير المستشفى مكافأة جديدة؟‬

‫ػ بؿ قولوا ‪ :‬إنو مفمس ‪ ،‬وقد جاء يتقرب إلى أبيو مف أجؿ بعض النقود‪.‬‬

‫ػ أطباء آخر زمف‪ ..‬تراىـ منفوشيف كالطاووس ‪ ،‬وجيوبيـ فارغة كجيوب الفقراء‪..‬‬

‫ػ صدقة هلل يا محسنيف‪..‬‬

‫لـ أستسمـ لدعاباتيـ المفعمة بالود ‪ ،‬فكمت ليـ الصاع صاعيف ‪ ،‬وأمطرتيـ بمزاح ثقيؿ ‪ ،‬فتعالت الضحكات‬
‫البريئة الصافية ‪ ،‬وساد جو صاخب أليؼ مفعـ بالبيجة والسرور‪..‬‬

‫واقترب موعد دوامي في المستشفى ‪ ،‬فمضيت إلى غرفتي ‪ ،‬واخترت أجمؿ مبلبسي ‪ ،‬فارتديتيا ‪ ،‬وأسرفت في‬
‫التأنؽ حتى رضيت عف مظيري وىندامي ‪ ،‬ثـ أقبمت عمى أمي وأنا أصفر في مرح ‪ ،‬فقبمت يدىا ورجوتيا أف‬
‫تدعوا لي ‪ ،‬فضحكت ‪ ،‬ووضعت كفا عمى كؼ ‪ ،‬وعمى شفتييا ابتسامة حائرة ‪ ،‬وسؤاؿ صامت عف سر ىذا‬
‫التصرؼ المرح الذي قمت بو‪..‬‬

‫قاؿ والدي وىو يحتسي قيوتو ‪ :‬ما ىذا األدب الجـ الذي ىبط عميؾ مف السماء‪..‬‬

‫ردت عميو أمي ‪ :‬بني مؤدب دائما ‪ ،‬أتغار ألنو قبؿ يد أمو ‪ ،‬أىمؿ يد أبيو؟‪..‬‬

‫قمت لو ‪ :‬ال تحزف ‪ ،‬سأقبؿ يدؾ أيضا‪..‬‬

‫ودنوت ألقبؿ يده ‪ ،‬فسحبيا ‪ ،‬وأخفاىا خمؼ ظيره‪..‬‬


‫قاؿ وىو يميؿ إلى الجد‪:‬‬

‫ػ ال أحب أف أرى الرجاؿ وىـ يحنوف ىاماتيـ ليقبموا األيادي‪..‬‬

‫قمت لو أحاوره‪:‬‬

‫ػ إال أيادي اآلباء‪..‬‬

‫ػ وال حتى أيادي اآلباء‪..‬‬

‫ػ سأكتفي إذف بالجبيف‪..‬‬

‫وانحنيت عميو ألقبؿ منو الجبيف ‪ ،‬فماؿ برأسو إلى الخمؼ متيربا ‪ ،‬وىو يضحؾ ‪ ،‬لكني قبمتو عنوة ‪ ،‬فارتسمت‬
‫عمى شفتيو ابتسامة فييا حياء وامتناف‪..‬‬

‫قالت كبرى أخواتي متخابثة وىي ترمقني بنظرات ثاقبة‪:‬‬

‫ػ تصرفاتؾ اليوـ عسيرة الفيـ!‬

‫عطؼ أخي األوسط عمى كبلميا قائبل‪:‬‬

‫ػ بؿ قولي عسيرة اليضـ‪..‬‬

‫قمت كالمرتاب‪:‬‬

‫ػ أييا المئيماف‪ ..‬أال تطيقاف أف تريا أخاكما الكبير سعيدا ىذا الصباح؟‪..‬‬

‫إلي في ود‪:‬‬
‫قالت أمي وىي ترنو َّ‬
‫ػ اهلل يسعد أيامؾ كميا ‪ ،‬اذىب إلى عممؾ وال تمؽ باال لدعاباتيـ السخيفة‪..‬‬

‫قاؿ والدي وىو يتجو إلى أختي بحديثو متظاى ار بالغيظ‪:‬‬

‫ػ لكـ أكره التحيز‪ ..‬أمؾ وأخوؾ األكبر دائما متفقاف‪!..‬‬

‫قالت أختي وىي تحاوؿ االصطياد في الماء العكر‪:‬‬

‫ػ ىذا حمؼ لف يدوـ ‪ ،‬غدا تأتي بنت الحبلؿ ‪ ،‬فتخطؼ صبلح وتجره إلى جانبيا ‪ ،‬وتضطر أمي لبلنحياز إلينا‪..‬‬

‫ىتفت أمي وىي ترمي أختي بوسادة كانت بجانبيا‪:‬‬

‫ػ أيتيا البومة ‪ ،‬كبلمؾ دائما يقطر بالتشاؤـ‪ ..‬أعاذنا اهلل مف أفكارؾ السوداء‪..‬‬

‫وودعتيـ وىـ يضحكوف ‪ ،‬ثـ انطمقت بسيارتي في شوارع المدينة ‪ ،‬وأنا أحس في حياة لـ ألمحيا مف قبؿ‪!..‬‬

‫*************‬

‫وصمت إلى المستشفى ‪ ،‬وأسرعت إلى غرفتي في جناح األطباء المقيميف ‪ ،‬فارتديت ردائي األبيض عمى عجؿ ‪،‬‬
‫ثـ مضيت في حماس ‪ ،‬ورحت أىبط الدرج بخفة ومرح ‪ ،‬وفي أعماقي شوؽ جارؼ لرؤية أحبلـ‪..‬‬

‫واستقبمني ىاني ببشاشتو المعيودة ‪ ،‬وراح يثني عؿ أناقتي فيما يشبو الممز ‪ ،‬ويسألني في خبث عف سر اىتمامي‬
‫الزائد بنفسي‪!..‬‬

‫تجاىمت تعميقات ىاني ‪ ،‬ورحت أتجوؿ في الممرات والغرؼ باحثا عف أحبلـ‪ ..‬ولكف أيف أحبلـ؟ لقد مضى عمى‬
‫بدء الدواـ أكثر مف نصؼ ساعة ‪ ،‬ولـ تظير!‪ ..‬لو أنيا حضرت لصادفتيا وىي داخمة أو خارجة أو مشغولة‬
‫بالمرضى والمصابيف‪!..‬‬
‫وشعرت بانقباض ممض يقرصني مف الداخؿ ‪ ،‬وتحولت نظراتي مف التفاؤؿ إلى القمؽ‪ ..‬سألت عنيا ‪ ،‬فأخبروني‬
‫بأنيا قد اتصمت بمدير شؤوف الموظفيف ‪ ،‬وأعممتو بأنيا لف تحضر ىذا اليوـ ‪ ،‬لماذا غابت يا ترى؟ شغمني ىذا‬
‫السؤاؿ برىة وأنا أفكر في أمر غيابيا‪ ..‬ىؿ تشكو مف مرض؟ أـ شغمتيا مناسبة طارئة؟ إنيا طبيبة مثابرة وقمما‬
‫تغيب! لماذا غابت اليوـ بالذات؟‪..‬‬

‫ولسعني خاطر مزعج أثار حفيظتي ‪ ،‬وبدد ىدوئي ‪..‬لعميا نادمة ألنيا تسرعت بالبوح لي بما يؤرؽ صدرىا مف‬
‫حقائؽ وأسرار!‪ ..‬ىذا ممكف جدا‪ ..‬فأحبلـ الرقيقة المرىفة ‪ ،‬ال تستطيع أف تبدو أمامي ابنة مجرـ ‪..‬ىذا اإلحساس‬
‫البد أنو يعذبيا‪ ..‬قد يجعميا تندـ عمى اعترافيا لي ‪ ،‬ولكف ‪..‬أنا لـ أجبرىا عمى االعتراؼ!‪ ..‬كاف بإمكانيا أف‬
‫تحتفظ بالسر الخطير الذي أطمعتني عميو ‪ ،‬وتدفنو في صدرىا ‪ ،‬لكف أعماقيا الطاىرة لفظت ىذا السر‪ ..‬لـ‬
‫تستطع أف تخفيو إلى ما ال نياية ‪ ،‬أرادت أف يحممو معيا إنساف آخر ‪ ،‬وكنت أنا ىذا اإلنساف‪..‬‬

‫وتفاقـ القمؽ في أعماقي ‪ ،‬وعصؼ غياب أحبلـ بكؿ األفراح التي كانت ترفرؼ داخمي ‪ ،‬فأظمـ المستشفى في‬
‫عيني ولـ أعد أطيؽ البقاء فيو‪..‬‬

‫عمي ‪ ،‬فراح يسألني عف سر اضطرابي ووجومي ‪ ،‬لـ يكف ىناؾ ما أجيب بو‪.‬ز‬
‫انتبو ىاني إلى التغير الذي ط أر َّ‬

‫قمت لو فجأة‪:‬‬

‫لف أداوـ اليوـ ‪ ،‬سأذىب ألوقع إجازة‪..‬‬

‫إلي في دىشة ‪ ،‬وتساءؿ‪:‬‬


‫نظر ىاني َّ‬

‫ػ لماذا اإلجازة؟ منذ قميؿ حضرت إلى المستشفى بنفس مفتوحة ‪ ،‬وحماس لمعمؿ‪!..‬‬

‫رمقت ىاني بغضب ‪ ،‬شعرت بأنو قد فيـ سر اضطرابي فأراد أف يحرجني بالسؤاؿ ‪ ،‬ىتفت بعصبية ظاىرة‪:‬‬

‫ػ ال أريد أف أداوـ اليوـ ‪ ،‬ىؿ ىناؾ مانع؟‬

‫ضحؾ ىاني وقاؿ‪:‬‬


‫ػ أنت تتصرؼ اليوـ كطفؿ ‪ ،‬أحمؽ شاربي ىذا إف لـ يكف وراءؾ سر‪..‬‬

‫قمت وأنا أمضي‪:‬‬

‫ػ أنت ال تتقف سوى الثرثرة‪..‬‬

‫ىتؼ ىاني وىو يتحوؿ عمى الجد‪:‬‬

‫ػ صبلح ال تستطيع أف تغيب اليوـ ‪ ،‬بعد ثبلث ساعات سينتيي دواـ األطباء الذيف يعمموف معي ‪ ،‬ولف يبقى في‬
‫القسـ أحد غيري‪..‬‬

‫استدرت ووقفت مترددا ‪ ،‬قمت لو بعد تفكير قصير‪:‬‬

‫ػ ثبلث ساعات تكفي‪ ..‬سأعود‪..‬‬

‫وغادرت المستشفى بغير الوجو الذي جئت بو إليو ‪ ،‬تطاردني وحشة خانقة ‪ ،‬أحسست ألوؿ مرة في حياتي أني‬
‫وحيد ‪ ،‬ال تربطني بيذا العالـ سوى فتاة واحدة اسميا أحبلـ‪..‬‬

‫وانطمقت بسيارتي في شوارع المدينة الصاخبة أبحث عف مخرج مف ىذه الوحدة القاتمة التي راحت تضيؽ ‪،‬‬
‫وتضيؽ ‪ ،‬حتى كادت تسحؽ فؤادي بيف جدارنيا المظممة‪..‬‬

‫ىؿ حدث كؿ ىذا ألني افتقدت أحبلـ؟‪..‬‬

‫وعادت اليواجس المزعجة تجوس في نفسي ‪ ،‬وتزرعيا بالقمؽ والضيؽ‪..‬‬

‫لماذا غابت أحبلـ؟‪ ..‬أتكوف حقا نادمة عمى بوحيا لي؟‪ ..‬مسكينة ىذه الفتاة ‪ ،‬كـ تعاني‪!..‬‬

‫وقفزت إلى ذاكرتي كممات أحبلـ الحزينة ‪ ،‬فرحت أسترجعيا كممة كممة‪" ..‬حاولت أف أنسى لكني لـ أقدر‪..‬‬
‫ضميري رفض أف يسكت ‪..‬ظؿ يمسعني بسياط الموـ والتعنيؼ‪ ..‬ييتؼ بي أف أفعؿ شيئا‪ ..‬أي شيء‪ ..‬لكني‬
‫ضعفت‪ ..‬انيزمت‪ ..‬عشت أيامي التالية كريشة تائية‪ ..‬شعرت بأني غصف مكسور ‪..‬أحسست أني لقيطة!‪ ..‬نعـ‬
‫لقيطة‪ ..‬كمقيطتؾ التي شغمتنا بو منذ أسابيع‪"..‬‬

‫وتداعت خواطري فحممتني إلى الطفمة المقيطة التي شغمني لغزىا زمنا غير قصير ‪ ،‬وراودتني فكرة زيارة الطفمة‬
‫فتحمست ليا ‪ ،‬واتجيت بسيارتي إلى ممجأ الحناف لؤليتاـ ‪ ،‬ألطمئف عمييا‪..‬‬

‫وصمت إلى الممجأ ‪ ،‬ومضيت إلى مكتب اإلدارة ‪ ،‬فوجدت فيو امرأة كيمة تقوـ عمى إدارتو ‪ ،‬رمقتني المديرة مف‬
‫فوؽ نظارتيا المنكسة ‪ ،‬ثـ رفعت نظارتيا ‪ ،‬وأحكمت وضعيا فوؽ عينييا ‪ ،‬وىمست فيما يشبو السؤاؿ‪:‬‬

‫ػ تفضؿ‪..‬‬

‫قمت وأنا أتقدـ منيا بيدوء‪:‬‬

‫ػ الدكتور صبلح الحكيـ‪..‬‬

‫ػ أىبل بؾ ‪ ،‬ىؿ مف خدمة؟‬

‫تمعثمت فجأة ‪ ،‬ولـ أجد الصيغة المناسبة إلبداء رغبتي‪:‬‬

‫ػ أريد أف‪ ..‬في الحقيقة‪ ..‬جئت في الواقع لمسؤاؿ عف طفمة لقيطة حدث أف حولناىا لكـ منذ أسابيع ‪ ،‬أريد‬
‫االطمئناف عمييا فقط‪!..‬‬

‫سألتني بميجة حازمة‪:‬‬

‫ػ ىؿ أتيت لتطمئف عمييا بصفة رسمية؟‬

‫بوغت بالسؤاؿ ‪ ،‬فأجبت‪:‬‬

‫ػ ال ‪ .‬أبدا‪..‬‬
‫رمقتني بنظرة ال تخمو مف الشؾ ‪ ،‬فضولي ليس مف النوع المستساغ‪!..‬‬

‫سارعت لتبديد شكوكيا‪..‬‬

‫ػ كؿ ما في األمر أني كنت موجودا عندما أحضروىا إلى المستشفى ‪ ،‬وكاف لقصتيا أثر في نفسي ‪ ،‬فجئت اليوـ‬
‫ألطمئف عمييا‪..‬‬

‫كمماتي لـ ترفع وشاح الشؾ عف نظراتيا‪ ..‬قالت وىي تشممني بنظرة فاحصة‪:‬‬

‫ػ شعور طيب منؾ يا دكتور أف تسأؿ عف طفمة بريئة أىمميا أبواىا‪ ..‬ىؿ تعرؼ اسميا؟‬

‫ػ في الحقيقة جئت إلى ىنا عفوا دوف سابؽ تخطيط ‪ ،‬لكني إذا راجعت استمارات النزالء لعرفتيا عمى الفور‪..‬‬

‫قالت وىي تطوي ورقة كانت قد انتيت مف لتوىا مف كتابتيا‪:‬‬

‫ػ لكف استمارات النزالء سر مف أسرار الممجأ ‪ ،‬ال يجوز ألحد اإلطبلع عمييا‪..‬‬

‫قمت في محاولة أخيرة‪:‬‬

‫ػ عمى أية حاؿ ىي طفمة معروفة ‪ ،‬إنيا الطفمة التي وجدت ممقاة في حديقة مسجد اإلخبلص ‪ ،‬وقد أعمف عف‬
‫اكتشافيا في جريدة األياـ ‪ ،‬البد أنؾ تذكرينيا‪..‬‬

‫نظراتيا لـ تمنحني صؾ البراءة بعد ‪ ،‬لكنيا دخمت معي في ىدنة مؤقتة حتى تعرؼ نياية فضولي ‪ ،‬ضغطت‬
‫عمى زر كيربائي بجانبيا ‪ ،‬فانطمؽ مف خارج الغرفة رنيف قريب ‪ ،‬ما لبث أف جاء عمى صوتو رجؿ كيؿ يعمؿ‬
‫مستخدما في الدار‪..‬‬

‫ألقت المديرة أوامرىا بميجة صارمة‪:‬‬

‫ػ محمود‪ ..‬دؿ الدكتور عمى الطفمة بارعة ‪ .‬إنيا في القاعة الثالثة عند اآلنسة نو ار‪..‬‬
‫تساءلت بغير قصد‪:‬‬

‫ػ ىؿ سميتموىا بارعة؟‬

‫قالت المديرة بنبرة جافة وىي تعود إلى أوراقيا‪:‬‬

‫ػ البد لكؿ إنساف مف اسـ يعرؼ بو‪..‬‬

‫ليجتيا لـ تعجبني ‪ ،‬شكرتيا ببرود ‪ ،‬ومضيت مع العـ محمود إلى المكاف الذي ذكرتو لو ‪ ،‬فقادني إلى قاعة‬
‫فسيحة ‪ ،‬تصطؼ عمى جانبييا أسرة األطفاؿ‪.‬‬

‫استقبمتنا اآلنسة نو ار المشرفة ‪ ،‬شيء ما تحرؾ داخمي نحو اآلنسة نورا!‪ ..‬وجدت في مبلمح وجييا مبلمح‬
‫وتعابير مألوفة أذكر أني رأيتيا مف قبؿ!‪ ..‬ولكف أيف؟ ال أدري!‪ ..‬رحبت بنا اآلنسة نو ار بابتسامة لطيفة سرعاف ما‬
‫خبت عندما رأتني ‪ ،‬مما عزز عندي شعوري بأننا قد التقينا في مناسبة سابقة‪!..‬‬

‫قاؿ العـ محمود لآلنسة نو ار‪:‬‬

‫ػ الدكتور يريد االطبلع عمى حالة الطفمة بارعة ‪ ،‬المديرة أوصت بذلؾ‪..‬‬

‫ألـ بيا وجع!‪ ..‬وند عنيا‬


‫تقمصت مبلمح اآلنسة نو ار ‪ ،‬وعاث القمؽ في عينييا ‪ ،‬وبدت كالتي وخزىا مغص أو َّ‬
‫تساؤؿ ىامس لـ أجد لو معنى‪:‬‬

‫ػ بارعة؟‬

‫تدخمت موضحا‪:‬‬

‫ػ نعـ ‪ .‬الطفمة التي جاءتكـ مف مستشفى ابف النفيس ‪ ،‬لقد كنت أحد األطباء الذيف ساىموا في اإلشراؼ عمى‬
‫عبلجيا ‪ ،‬وقد أحببت أف أطمئف عمييا‪..‬‬
‫كاف استقباؿ اآلنسة نو ار لكمماتي غامضا! بدت مستاءة أو مضطربة ‪ ،‬استرجعت كمماتي ألتأكد إف كاف فييا ما‬
‫يسيء ‪ ،‬فمـ أجد أني قد تفوىت بكممة نشاز‪!..‬‬

‫قالت اآلنسة نو ار بنبرة شابيا شيء مف االرتباؾ‪:‬‬

‫ػ تفضؿ معي‪..‬‬

‫مضيت خمفيا وأنا أكابد حيرة مزعجة ‪ ،‬حممت اآلنسة نو ار الطفمة بارعة برفؽ ‪ ،‬وقدمتيا لي ‪ ،‬تناولت الطفمة ‪،‬‬
‫وجعمت أتأمميا بإعجاب‪ ..‬لقد تحسنت صحتيا تحسنا واضحا ‪ ،‬وأشرؽ وجييا بوسامة فاتنة وجماؿ باىر‪.‬‬

‫رنت الطفمة بعينييا الزرقاويف وكأنيا ترنو إلى صديؽ ‪ ،‬ورفرفت عمى شفتييا ابتسامة عذبة‪ ..‬لكأنيا تعرؼ مف أنا‬
‫‪ ،‬وتدرؾ مدى اىتمامي بيا!‪ ..‬وانتظمني تيار مف الحناف ‪ ،‬فانحنيت عمى الطفمة وقبمتيا ‪ ،‬ثـ التفت إلى اآلنسة‬
‫نو ار ألشكرىا عمى رعايتيا الممتازة ألطفاؿ الممجأ ‪ ،‬فوجدتيا ترمقني بعينيف دامعتيف‪..‬‬

‫تعمقت نظراتي بدموع اآلنسة نورا‪ ..‬ىذا الوجو ليس غريبا عني ‪ ،‬وىذا الجماؿ الذي يتوىج بأشعة الحزف لو جذور‬
‫في ذاكرتي !ولكف‪ ..‬متى كاف المقاء وأيف؟‪ ..‬انتبيت اآلنسة نو ار لنفسيا ‪ ،‬فاستدارت ‪ ،‬ذات اليميف ‪،‬وكفكفت‬
‫دموعيا بصمت ‪ ،‬ىمست مثنيا‪:‬‬

‫ػ أنت رقيقة أكثر مما ينبغي يا آنسة‪ ..‬شيء جيد أف توفر الدار مشرفات يممكف ىذا القدر مف الحناف ورىافة‬
‫الحس‪.‬‬

‫شكرتني اآلنسة نو ار بصوت متيدج ‪ ،‬وانفمتت ىاربة تخنقيا الدموع‪..‬‬

‫قمت لمعـ محمود‪:‬‬

‫ػ ىؿ أنا أوؿ إنساف يقبؿ طفمة في ممجئكـ ىذا؟‪!..‬‬

‫ضحؾ العـ محمود وقاؿ‪:‬‬


‫ػ لست األوؿ وال األخير ‪ ،‬لكف اآلنسة نو ار فتاة رقيقة ‪ ،‬ودمعتيا سريعة‪ ..‬إنيا فتاة طيبة تعمؿ بجد ونشاط ‪،‬‬
‫وتمنح األطفاؿ رعاية فائقة ‪ ،‬وكأنيا أميـ التي أنجبتيـ‪..‬‬

‫قمت وأنا أعيد الطفمة إلى سريرىا‪:‬‬

‫ػ ىذا الممجأ يقوـ بجيد مشكور‪..‬‬

‫ثـ مضيت بصحبة العـ محمود إلى مكتب المديرة ‪ ،‬ألشكرىا ‪ ،‬وأودعيا‪..‬‬

‫طرقت باب المدرية ‪ ،‬ودخمت ‪ ،‬فوجدت اآلنسة نو ار عندىا ‪ ,‬شعرت بأف دخولي قد زرع الصمت في أرجاء الغرفة‬
‫‪ ،‬وقمع شفاىا كانت تتداوؿ حديثا خاصا ما كنت أللحظ أىميتو ‪ ،‬لوال االضطراب الذي ط أر عمى كمتا المرأتيف‬
‫لدى دخولي المفاجئ‪!..‬‬

‫فما إف دخمت حتى تشاغمت المديرة بالكتابة ‪ ،‬وراحت اآلنسة نو ار تداري ارتباكيا بتقميب صفحات مجمة التقطتيا‬
‫فجأة مف فوؽ منضدة قريبة‪!..‬‬

‫قمت وأنا أكابد شعو ار بالذنب‪:‬‬

‫ػ آسؼ ‪ ,‬لقد دخمت دوف استئذاف ‪ ،‬أرجو أف تعذراني‪..‬‬

‫قالت المديرة‪:‬‬

‫ػ ليس ىناؾ ما يدعو لبلعتذار ‪ ،‬ىؿ اطمأف قمبؾ عمى الطفؿ’؟‪..‬‬

‫ػ أريد أف أعبر عف تقديري لمعناية الفائقة التي يمقاىا األطفاؿ في ىذا الممجأ‪..‬‬

‫تبادلت المديرة نظرة مع اآلنسة نو ار ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬

‫ػ الفضؿ يعود إلى المشرفات القديرات المواتي يقمف بواجبيف عمى أتـ وجو‪..‬‬
‫قمت وأنا أرمؽ اآلنسة نو ار باحتراـ‪:‬‬

‫ػ إني أعترؼ‪ ..‬مف خبلؿ اآلنسة نو ار عمى األقؿ!‬


‫الفصل الثامن عشر‬

‫انتيت إجازتي القصيرة ‪ ،‬فعدت إلى المستشفى وقد تخففت مف بعض الغـ الذي أصابني بو غياب أحبلـ‪..‬‬

‫وجدت ىاني يتجوؿ بيف المرضى ‪ ،‬ويتفقد أحواليـ ‪ ،‬فمما رآني ‪ ،‬أقبؿ نحوي ‪ ،‬وىو يبتسـ في مكر ‪ ،‬قاؿ‬
‫كالشامت‪:‬‬

‫ػ أنا سعيد ألنؾ لـ تحظ بإجازة أطوؿ‪..‬‬

‫ابتسمت لدعابتو ‪ ،‬وسألتو‪:‬‬

‫ػ ىؿ ىناؾ حاالت جديدة؟‬

‫أجاب وىو يمضي معي في الممر الطويؿ‪:‬‬

‫ػ األمف مستتب في أرجاء المستشفى ‪ ،‬وعزرائيؿ في ىدنة مع البشر ‪ ،‬في ىذه النقطة مف العالـ عمى األقؿ‪..‬‬

‫ػ يا لؾ مف متشائـ! ألـ تفكر إال في ع ازرئيؿ؟‪..‬‬

‫ػ الموت حؽ يا عزيزي‪..‬‬

‫ػ لف تحزر أيف كنت منذ قميؿ‪!.‬‬

‫رمقني ىاني برىة ثـ قاؿ‪:‬‬

‫ػ لف تصؿ إلى المريخ في ثبلث ساعات طبعا ‪ ،‬أيف كنت؟‬


‫ػ في دار الحناف لؤليتاـ‪..‬‬

‫ىتؼ ىاني في دىشة‪:‬‬

‫ػ دار الحناف!‪ ..‬ىؿ تقصد‪..‬‬

‫ػ نعـ ‪ ،‬كنت في زيارة الطفمة المقيطة‪..‬‬

‫ػ أمازلت تذكرىا؟‪..‬‬

‫ػ خطرت عمى بالي فجأة ‪ ،‬فذىبت لزيارتيا‪..‬‬

‫قاؿ ىاني وىو ييز رأسو في حيرة‪:‬‬

‫ػ أحيانا ال أستطيع فيـ تصرفاتؾ!‪ ..‬أتيت ىذا الصباح فرحا ‪ ،‬وخرجت غاضبا ‪ ،‬وىا أنت تعود لتقوؿ لي بأنؾ‬
‫كنت في زيارة الطفمة المقيطة‪ .‬وراءؾ قصة خطيرة يا فتى!‪ ..‬أتمنى لو أعرفيا‪..‬‬

‫ثـ أردؼ ىامسا ‪ ،‬وىو يميؿ عمى أذني‪:‬‬

‫ػ لعمؾ والد الطفمة المقيطة! اعترؼ ‪ ،‬فسرؾ محفوظ‪..‬‬

‫لكزتو في صدره وقمت‪:‬‬

‫ػ كؼ عف ىذرؾ ‪ ،‬وتكمـ بجد‪..‬‬

‫تضاحؾ وقاؿ‪:‬‬

‫ػ في الحقيقة أصبحت أشؾ فيؾ‪ ..‬ثمة قاعدة عممية يتبعيا المحققوف لمعرفة الجاني ‪ ،‬تكاد تنطبؽ عميؾ‪..‬‬
‫ػ وما ىذه القاعدة أييا المحقؽ األريب؟‬

‫قاؿ ىاني في تردد قبؿ أف ينفجر ضاحكا‪:‬‬

‫ػ المجرـ يحوـ دائما حوؿ جريمتو‪.‬‬

‫تييأت لبلنقضاض عميو لمي ذراعو واجباره عمى التوقؼ عف ىرائو ‪ ،‬لكنو أحس بنيتي فبلذ باليرب ‪ ،‬قاؿ وىو‬
‫يتراجع أمامي بخطوات حذرة‪:‬‬

‫ػ إياؾ أف تمجأ إلى العنؼ ‪ ،‬كف ديموقراطيا وتقبؿ النقد بروح رياضية‪ .‬زيارتؾ لمطفمة تحمؿ أكثر مف تفسير‪!.‬‬

‫ضحكت وسألتو‪:‬‬

‫ػ لماذا ممت إلى ىذا التفسير السيء؟‪.‬‬

‫توقؼ ‪ ،‬وقاؿ ‪ ،‬وقد آنس مني األماف‪:‬‬

‫ػ في زماف كيذا ال ينفع الظف الحسف ‪ ،‬حتى تفيـ الناس يجب أف تسيء بيـ الظف‪.‬‬

‫تنيدت وقمت بنبرة تميؿ إلى الجد‪:‬‬

‫ػ ىاني‪ ..‬الحظت اليوـ في الدار شيئا غريبا لـ أستطع تفسيره‪!.‬‬

‫توقؼ ىاني فجأة وقاؿ‪:‬‬

‫ػ إياؾ أف تكوف قد انشغمت بمغز طفمة جديدة‪!.‬‬

‫ػ ال ‪ ،‬ال ليس كذلؾ‪ ..‬الموضوع يتعمؽ بالمشرفة التي تتولى رعاية بارعة‪.‬‬

‫ػ بارعة!‪ ..‬مف بارعة؟‪..‬‬


‫ػ إنيا الطفمة المقيطة ‪ ،‬سموىا بارعة‪.‬‬

‫ػ وما باؿ المشرفة؟‪.‬‬

‫ػ لقد اضطربت كثي ار عندما عرفت أني أتيت لبلطمئناف عمى الطفمة ‪ ،‬كاف في عينييا قمؽ مبيـ ‪ ،‬شعرت وكأنيا‬
‫تتيرب مني ‪ ،‬كأنيا ال تريد أف أراىا أو أحادثيا‪..‬‬

‫سألني متخابثا‪:‬‬

‫ػ ىاؿ ىي جميمة؟‬

‫ىتفت مغتاظا‪:‬‬

‫ػ كؼ عف ىذرؾ يا ىاني ‪ ،‬ال يستطيع اإلنساف أف يبحث معؾ في أمر!‬

‫ػ أنا ال أمزح ‪ ،‬لعميا كانت جميمة فأربكتيا نظراتؾ‪..‬‬

‫ثـ قاؿ وىو يغمز بعينو اليمنى وييز رأسو كالنشواف‪:‬‬

‫ػ البد أنيا جميمة ‪ ،‬أراىف عمى ذلؾ‪.‬‬

‫ػ ال أنكر أنيا جميمة ورقيقة ‪ ،‬لكني مؤدب أكثر منؾ ‪ ،‬وال أحب محاصرة الفتيات الجميبلت بنظراتي مثمؾ‪.‬‬

‫ضحؾ ىاني وقاؿ‪:‬‬

‫ػ ما الذي يجعؿ إنسانو ال تعرفيا وال تعرفؾ تشعر باالضطراب لرؤيتؾ وتتيرب منؾ؟‪!..‬‬

‫ثـ أردؼ وقد ظف أنو أوقع بي بسؤالو‪:‬‬


‫ػ أجب دوف إبطاء‪..‬‬

‫ابتسمت وقمت‪:‬‬

‫ػ ليس األمر ىكذا تماما ‪ ،‬افيمني جيدا يا ىاني ‪ ،‬أعتقد أف ىذه الفتاة تعرفني ‪ ،‬أذكر أنا التقينا مف قبؿ‪!..‬‬

‫قاؿ ىاني في دعابة‪:‬‬

‫ػ مبمغ عممي أنؾ ال تقابؿ النساء إال في ىذا المستشفى ‪ ،‬إال أف تكوف قد‪..‬‬

‫لـ أدع ىاني يكمؿ ‪ ،‬فقد أيقظت كمماتو ذاكرتي ‪ ،‬ىتفت وأنا أمسؾ بياني مف كتفيو‪:‬‬

‫ػ ىاني ‪ ،‬إنيا ىي‪.‬‬

‫تساءؿ في حيرة‪:‬‬

‫ػ مف ىي؟‬

‫أعتقد أني قد أمسكت بطرؼ خيط‪.‬‬

‫ػ عـ تتحدث؟‬

‫قمت وأنا أمضي بخطوات متسارعة‪:‬‬

‫ػ إف صدؽ ظني فيذه الفتاة ليا عبلقة بالطفمة المقيطة ‪ ،‬يجب أف أتحقؽ مف ذلؾ‪.‬‬

‫توقؼ ىاني ‪ ،‬وقاؿ حانقا‪:‬‬

‫ػ والدواـ؟‬
‫ػ لف أتأخر‪.‬‬

‫ػ صبلح‪ ..‬أنت مجنوف‪.‬‬

‫ػ حتى يثبت العكس‪.‬‬

‫أردؼ ىاني بصوت أعمى‪:‬‬

‫ػ أنت مجنوف‪ ..‬مجنوف‪..‬‬

‫لـ أحفؿ بكممات ىاني ‪ .‬كاف ىمي الوحيد أف أصؿ إلى دار الحناف لؤليتاـ لمعرفة سر اآلنسة نورا‪ ..‬إنيا ىي ببل‬
‫شؾ ‪ ،‬لقد تذكرتيا تماما ‪ ،‬ىي ذاتيا المرأة الشابة التي ازرتني في المستشفى بعيد قدوـ الطفمة المقيطة بدقائؽ‪,‬‬
‫نظارتيا يوـ ذاؾ لـ ترتفع عف الطفمة ‪ ،‬تزامف وصوليا إلى المستشفى مع وصوؿ الطفمة تقريبا ‪ ،‬والجرح البسيط‬
‫الذي تذرعت بو لمحضور إلى المستشفى قبؿ شروؽ الشمس ‪ ،‬وأنداء الدمع التي كانت ما تزاؿ عالقة بعينييا‬
‫الحزينتيف ‪ ،‬ثـ االضطراب الواضح الذي اعتراىا عندما رأتني في دار األيتاـ ‪ ،‬والتأثر الذي فاض بيا عندما‬
‫حنوي واشفاقي عمى الطفمة‪ ..‬كؿ ىذه المبلحظات تحيط اآلنسة نو ار بدائرة قوية مف الشؾ‪!!.‬‬
‫الحظت ّ‬

‫وانطمقت بسيارتي أطوي المسافات إلى دار الحناف ‪ ،‬ألضع حد لمغز الطفمة المقيطة ‪ ،‬وأنيى دوامة الفضوؿ‬
‫الجارؼ الذي استغرؽ وقتي وتفكيري ‪ ،‬ثمة سؤاؿ داىمني وأنا في ذروة االندفاع‪ ..‬افرض أنيا ىي ‪ ،‬ماذا ستفعؿ؟‬
‫ماذا ستستفيد مف مواجيتيا بالحقيقة؟ واذا أنكرت‪ ..‬كيؼ ستدفعيا إلى االعتراؼ؟ رفعت قدمي عف دعسة البنزيف‬
‫‪ ،‬وتركت السيارة تتيادى عمى الطريؽ ‪ ،‬شعرت فجأة بأني أعبث ‪ ،‬أمارس لونا مف المراىقة ‪ ،‬أحشر نفسي في‬
‫أمور شائكة ليست مف شأني‪..‬‬

‫وخطرت لي فكرة‪..‬‬

‫لماذا ال أتجو إلى الشرطة ‪ ،‬وأضع شكوكي بيف يدييا ‪ ،‬وأترؾ ليا مسؤولية معالجة ىذا األمر بما تممكو مف‬
‫وسائؿ وسمطات؟‪..‬‬

‫وسرعاف ما تياوت ىذه الفكرة أماـ مبرر قوي ومقنع‪ ..‬ماذا لو كانت شكوكي مجرد أوىاـ؟‪ ..‬في ىذه الحالة‬
‫سأنسب لآلنسة نو ار إساءة بالغة تمس سمعتيا وكرامتيا ‪ ،‬فالشبية في مجتمعنا أضحت إدانة ‪ ،‬والناس يبحثوف‬
‫عف قصة لمثرثرة ‪ ،‬وليس مف العدؿ أف أعرض سمعة ىذه اإلنسانة لمخطر قبؿ أف أتأكد مف حقيقتيا ‪ ،‬وترددت‬
‫طويبل ‪ ،‬وكدت أدور بسيارتي باتجاه العودة ‪ ،‬ولكف طيؼ الطفمة المقيطة لمع في خيالي فجأة ‪ ،‬تراءت لي وىي‬
‫إلي في توسؿ ‪ ،‬والدموع تغرؽ وجييا الباكي الحزيف ‪ ،‬ترجوني أف أنقذىا مف الشقاء الذي ينتطرىا ‪،‬‬
‫تمد يدىا َّ‬
‫تسألني أف أصميا بجذورىا المفقودة ‪ ،‬فبل أقسى مف أف يتفتح وعي ىذه الطفمة البريئة ‪ ،‬لتجد نفسيا ببل جذور‪!..‬‬

‫واخترت طريقي ىذه المرة في حزـ‪..‬‬


‫الفصل التاسع عشر‬

‫وصمت إلى دار الحناف لؤليتاـ ‪ ،‬واندفعت إلى الداخؿ بخطوات سريعة ‪ ،‬ألواجو اآلنسة نو ار بشكوكي ‪ ،‬وأفجر‬
‫االعتراؼ في فميا المغمؽ‪..‬‬
‫صادفت العـ محمود في طريقي فنظر إلي في دىشة ‪ ،‬ورحب بي ترحيبا باردا ال يخمو مف الدىشة!‪ ..‬منذ قميؿ‬
‫كنت معو ‪ ،‬فماذا عدت؟ سؤاؿ منطقي ال ألومو عميو ‪ ،‬جاممتو بتحية سريعة ‪ ،‬وانعطفت إلى ممر جانبي حيث‬
‫تقع القاعة الثالثة التي تشرؼ عمييا نو ار ‪ ،‬دخمت القاعة ‪ ،‬فمـ أجدىا ‪ ،‬وجدت مشرفة أخرى‪!..‬‬
‫أدركت أف اآلنسة نو ار ما تزاؿ في غرفة المديرة ‪ ،‬الحديث الغامض الذي دفف بالصمت عندما دخمت عمى المديرة‬
‫آخر مرة ‪ ،‬أوحى لي بأف المديرة قريبة مف نو ار ومطمعة عمى أسرارىا‪..‬‬
‫طرقت باب المديرة ودخمت ‪ ،‬ال يوجد في الغرفة سوى المديرة!‪ ..‬حدجتني المديرة بنظرة تفيض بالدىشة والغضب‬
‫‪ ،‬سألتيا دوف مقدمات‪:‬‬
‫ػ أيف أجد اآلنسة نورا؟‬
‫ػ ماذا تريد منيا؟‬
‫ػ موضوع خاص‪..‬‬
‫قالت بنبرة فييا جد وصرامة‪:‬‬
‫ػ دكتور‪ ..‬أرجو أف تبلحظ بأف ىذه مؤسسة رسمية ‪ ،‬والتردد عمييا دوف مبررات واضحة شيء غير مستحب‪!.‬‬
‫صدمتني المديرة بكمماتيا ‪ ،‬ووقفت حائ ار لكف فضولي دفعني لممغامرة‪..‬‬
‫ػ سيدتي إني أتفيـ كؿ ما تقوليف ‪ ،‬لكني مصر عمى مقابمة اآلنسة نو ار‪..‬‬
‫ػ اآلنسة نو ار مجازة‪.‬‬
‫ػ مجازة؟!‪ ..‬متى تعود؟‪.‬‬
‫ػ قد ال تعود‪..‬‬
‫ػ لكنؾ قمت بأنيا مجازة!‬
‫ػ ىي مجازة لدراسة إمكانية استمرارىا في الدار أو عدمو‪.‬‬
‫ػ لماذا؟‪..‬‬
‫نفذ صبر المديرة ‪ ،‬قالت وىي ترمقني بنظرة قاسية‪:‬‬
‫ػ لدييا ظروفيا‪ ..‬ىؿ مف خدمة أخرى؟‪..‬‬
‫غادرت غرفة المديرة ميزوما ‪ ،‬أكابد شعو ار مزعجا بالخيبة واإلخفاؽ ‪ ،‬ىؿ أصؿ إلى طرؼ الخيط ثـ يضيع‬
‫مني؟‪ ..‬ال أستطيع التسميـ بيذه النتيجة!‪ ..‬وجدت العـ محمود جالسا أماـ الباب يتفحصني بنظرة متطفمة تريد أف‬
‫تفيـ سر تصرفاتي‪..‬‬
‫"آه‪ ..‬العـ محمود يمكف أف يساعدني‪"..‬‬
‫ىذا ما خطر لي ‪ ،‬وأنا أتجو نحوه ‪ ،‬قمت لو وأنا أقؼ أمامو كالحائر‪:‬‬
‫ػ عـ محمود‪ ..‬أريد أف أقابؿ اآلنسة نو ار ‪ ،‬كيؼ السبيؿ إلى ذلؾ؟‬
‫أجاب العـ محمود بميجة صادقة‪:‬‬
‫ػ اآلنسة نو ار غادرت الدار منذ ساعة تقريبا ‪ ،‬بعد خروجؾ بقميؿ‪.‬‬
‫ػ ىؿ تعرؼ عنوانيا؟‬
‫ػ ال أحد يعرؼ عنوانيا ‪ ،‬إنيا مشرفة جديدة ‪ ،‬وال نعرؼ الكثير عف حياتيا خارج الممجا‪.‬‬
‫ىذه معمومة جديدة!‪ .‬إذا كانت نو ار حديثة العيد بالدار ‪ ،‬فمماذا تفكر في ترؾ العمؿ‪ .‬ىؿ أكوف أنا السبب في‬
‫خشية نو ار مف االستمرار؟‪..‬‬
‫أردت أف أكشؼ بعض الغموض الذي بدأ يزداد ‪ ،‬سألت العـ محمود وأنا أجمس بجانبو‪:‬‬
‫ػ ىؿ ىي قريبة المديرة؟‬
‫ػ ال‪ ..‬ليست قريبتيا‪ ..‬لكف المديرة تعامميا معاممة خاصة‪.‬‬
‫ػ لماذا؟‪!.‬‬
‫قاؿ العـ محمود وىو يبدي جيمو ببواطف األمور‪:‬‬
‫ػ كؿ ما أعرفو أف اآلنسة نو ار جاءتنا منذ أسابيع ‪ ،‬وطمبت مني أف أدليا عمى مكتب المديرة ‪ ،‬ثـ دخمت عمييا‬
‫وجمست معيا قرابة نصؼ ساعة ‪ ،‬نادتني المديرة بعدىا ‪ ،‬وطمبت مني أف أدؿ اآلنسة نو ار عمى القاعة الثالثة ‪،‬‬
‫لتستمـ فييا عمميا كمشرفة متطوعة‪.‬‬
‫أحسست أف المديرة تخفي أمو ار دقيقة ‪ ،‬وتصدني عف بوابة الحقيقة بقسوة‪..‬‬
‫ضربت فخذي بكفي ‪ ،‬والغيظ يأكؿ صدري ‪ ،‬قمت بنبرة قير‪:‬‬
‫ػ مديرتكـ ىذه قاسية وشديدة‪!..‬‬
‫قاؿ العـ محمود‪:‬‬
‫ػ ىي شديدة كما تقوؿ ‪ ،‬لكنيا طيبة جدا‪ ..‬أطيب امرأة شاىدتيا في حياتي‪..‬‬
‫ىتفت حانقا‪:‬‬
‫ػ لكنيا ال تيضمني‪ ..‬تضطيدني‪ ..‬تعاممني بقسوة‪!.‬‬
‫ػ أنت مخطئ يا دكتور ‪ ،‬السيدة المديرة تحترمؾ جدا‪.‬‬
‫فاجأني بيذا القوؿ! كيؼ تسنى لمعـ محمود أف يبلحظ ىذا االحتراـ ويستنتجو ‪ ،‬ومعرفتي بمديرتو ال يتجاوز‬
‫عمرىا ساعات قميمة؟‪!..‬‬
‫ظننت أف العـ محمود مف النوع الطيب الذي يأخذ عمى عاتقو تبديد الشكوؾ بيف الناس ‪ ،‬والتقريب بيف النماذج‬
‫المتنافرة ‪ ،‬نظرت إليو في دىشة ‪ ،‬لكنو أمعف في التأكيد ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ بعد أف خرجت مف ىنا قبؿ ساعة تقريبا ‪ ،‬طمبت مني المديرة أف أحضر فنجاني قيوة ‪ ،‬ليا ولآلنسة نو ار ‪،‬‬
‫وعندما دخمت عمييما بالقيوة ‪ ،‬سمعت المديرة تقوؿ لآلنسة نو ار‪:‬‬
‫"ىذا الدكتور إنساف نبيؿ فعبل ‪ ،‬كيؼ تخطر لو طفمة كبارعة دوف أف تمت لو بقرابة أو صمة؟"‪.‬‬
‫تساءلت في دىشة ‪ ،‬وأنا ال أكاد أصدؽ‪:‬‬
‫ػ أىي قالت ذلؾ حقا يا عـ محمود؟‪!.‬‬
‫رمقني العـ محمود في عتاب ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ سامحؾ اهلل‪ ..‬ىؿ تعتقد بأني أخترع كبلما مف عقمي؟‬
‫ػ عفوا‪ ..‬لـ أقصد‪.‬‬
‫قاطعني وتابع يروي‪:‬‬
‫ػ ردت اآلنسة نو ار عمى المديرة قائمة‪" :‬ألوؿ مرة في حياتي أصدؽ بأف ىناؾ رجبل طيبا في ىذا العالـ‪!".‬‬
‫تساءلت في حيرة‪:‬‬
‫ػ لماذا تظف اآلنسة نو ار بأني أوؿ رجؿ طيب تصادفو في حياتيا؟‪!..‬‬
‫ضحؾ العـ محمود وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىي ىكذا‪ ..‬تكره الرجاؿ وتحقد عمييـ ‪ ،‬ولوال أني في سف والدىا لـ نجوت مف معاممتيا الفظة التي تعامؿ بيا‬
‫الرجاؿ‪!.‬‬
‫أطرقت مستسمما لتيار مف الفكر ‪ ،‬فانتيز العـ محمود فرصة صمتي ‪ ،‬وغاب قميبل ثـ عاد يحمؿ لي فنجانا مف‬
‫القيوة ‪ ،‬قاؿ وىو يصؿ ما انقطع مف حديثو‪:‬‬
‫ػ اطمئف يا دكتور‪ ..‬المديرة طيبة جدا واآلنسة نو ار طيبة أيضا ‪ ،‬لكنيا مسكينة‪ ..‬لقد قابمت في ىذه الدار مشرفات‬
‫كثيرات ‪ ،‬فمـ أجد فييف مف ىي أكثر عطفا وحنانا عمى ىؤالء األيتاـ‪ ..‬إنيا بنت رقيقة ‪ ،‬دمعتيا غبلبة تبكي‬
‫ألبسط األمور ػ كما الحظتيا اليوـ ػ وىي تقضي وقتيا في رعاية األطفاؿ ‪ ،‬ترعاىـ وتيتـ بيـ وكأنيـ أبناء رحميا‬
‫‪ ،‬وتحنو عمييـ كأـ رؤوـ‪..‬‬
‫معمومات العـ محمود قدمت لي أجزاء ميمة مف الحقيقة ‪ ،‬ثمة بعض المعالـ الضائعة التي تنقصني حتى تكتمؿ‬
‫أمامي الصورة ‪ ،‬وتنسجـ أجزاؤىا المتناثرة ‪ ،‬وحضرني سؤاؿ‪:‬‬
‫ػ ألـ تبلحظ بأف اآلنسة نو ار كانت تيتـ بطفؿ أو طفمة دوف غيرىا مف األطفاؿ؟‪..‬‬
‫رفع العـ محمود حاجبيو دىشة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىذا سؤاؿ لـ يخطر لي بباؿ‪..‬‬
‫ثـ أردؼ في حيرة وقد الحت في نظارتو بوادر شؾ‪:‬‬
‫ػ ولكف‪ ..‬لماذا تسأؿ كؿ ىذه األسئمة؟‬
‫ػ أسئمتي تجاوزت حدود المعقوؿ‪ .‬بدأت تثير فضوؿ العـ محمود وشكوكو‪ ..‬شعرت بأف أزمة ثقة توشؾ أف تنشب‬
‫بيننا ‪ ،‬بيد أني ارتحت قميبل عندما أدركت أف تفكير العـ محمود ذىب باتجاه بعيد‪..‬‬
‫قاؿ العـ محمود وىو يميؿ نحوي كمف يناجي صديقو بسر‪:‬‬
‫ػ ىؿ في األمر موضوع خطبة أو زواج؟‪..‬‬
‫استفدت مف ىذا االتجاه الخاطئ ‪ ،‬الذي فكر بو العـ محمود ‪ ،‬فقمت وأنا أىـ بالنيوض‪:‬‬
‫ػ ال أحد يعرؼ أيف يكوف النصيب يا عـ محمود‪!.‬‬
‫انفرجت أسارير العـ محمود ‪ ،‬ورفت عمى شفتيو ابتسامة وادعة ‪ ،‬ثـ ىمس في أذني بنبرة ودودة‪:‬‬
‫ػ لقد أحسنت االختيار ‪ ،‬أنت تستحؽ كؿ خير‪.‬‬
‫شكرت العـ محمود ‪ ،‬وغادرتو بسرعة قبؿ أف يقذفني بسؤاؿ آخر‪..‬‬
‫بت اآلف أكثر اقتناعا بأف نو ار ىي والدة الطفمة المقيطة ‪ ،‬ولكف‪ ..‬أيف نورا؟‪!..‬‬
‫الفصل العشرين‬

‫قضيت بقية النيار بنفس عاث فييا الكدر ‪ ،‬وتنازعتيا األسئمة واألفكار ‪ ،‬فتمزقت بيف الشوؽ إلى أحبلـ التي‬
‫غابت فجأة دوف سبب مفيوـ ‪ ،‬والتفكير بنو ار المغمقة بالغموض!‪ .‬وشعرت بحاجة ممحة لموحدة والراحة واالسترخاء‬
‫‪ ،‬لكف كثرة الحاالت التي وردت إلى قسـ الطوارئ لـ تسمح لي بوقت ىادئ ‪ ،‬وحانت فرصة األصيؿ ‪ ،‬فحممت‬
‫جياز اإلنذار الذي يصمني بالمستشفى ‪ ،‬ومضيت إلى الحديقة ‪ ،‬أللقي بجسدي المتعب فوؽ صدرىا األخضر‬
‫الموشى باألزاىير‬

‫ثمة عصفور زاىي األلواف يمجأ إلى الحديقة مثمي‪ ..‬يزورىا بيف الحيف والحيف‪ ..‬ينتقؿ بيف أغصانيا المتعانقة ‪،‬‬
‫ويعزؼ ألحانا عذبة تنساب مف منقاره الدقيؽ لتطرب القموب واألسماع‪ .‬أيف أنت يا عصفوري الجميؿ؟‪ ..‬ىمـ إلي‬
‫لتثري ىذا األصيؿ بمحف عذب مف ألحانؾ الرقيقة ‪..‬الصمت الثقيؿ يحوؿ ىدوء الحديقة إلى طقس مف طقوس‬
‫الموت‪ ..‬ىمـ يا صديقي الطائر ‪ ،‬تعاؿ وغرد ‪ ،‬وبدد بألحانؾ الجميمة ىذا الصمت الذي يكتـ األنفاس‪!..‬‬

‫ػ وست وست‪ ..‬وس وس وس وست‪..‬‬


‫ىا ىو صديقي العصفور قد جاء ‪ ،‬وفي صدره باقة جديدة مف األلحاف ‪ ،‬جاء في الوقت المناسب وكأف روحو‬
‫الصغيرة قد أصاخت السمع الستغاثات روحي ‪ ،‬فاستجابت لندائيا الصامت ـ حديث األرواح ال تسمو إال األرواح‬
‫الصديقة الودودة‪..‬‬

‫تعاؿ أييا العصفور لنعقد صداقة مف نوع فريد‪..‬‬

‫ػ وست وست‪..‬‬

‫ىؿ أفيـ مف ىذه الجممة الموسيقية أنؾ موافؽ؟‪!..‬‬

‫ػ وست وست‪..‬‬

‫موافؽ إذف ‪ ،‬لكنؾ ػ لؤلػسؼ ػ لف تفيمني!‪ ..‬ما قيمة الصديؽ إذا لـ يفيـ صديقو ‪ ،‬ويستشؼ ما وراء صدره مف‬
‫آالـ وأحبلـ!؟ ‪..‬إذا بحت لؾ أييا العصفور بما يثقؿ صدري ‪ ،‬لظننتني أغرد مثمؾ عمى طريقة البشر؟‪ ..‬ليت‬
‫العصافير تتكمـ مثمنا‪ ..‬تحدثنا ونحدثيا‪ ..‬نبثيا أحزاننا ‪ ،‬ونشكو ليا آالمنا‪ ..‬نبوح ليا بما يؤرقنا‪ ..‬نبوح بطبلقة‬
‫وحرية دوف أف تثقؿ بوحنا المخاوؼ والمحاذير واالعتبارات البشرية المعقدة‪ ..‬نبوح وكأننا نتحدث مع أنفسنا‬
‫ونخاطب ذواتنا‪..‬‬

‫آه مف ىذا العالـ‪ .‬نضب منو األصدقاء ‪ ،‬غاروا كالماء الذي ينسرب في رمؿ الصحراء ‪ ،‬ىؿ تفيـ يا عصفوري‬
‫معنى أف يبحث إنساف عف صديؽ لو في عالـ العصافير؟ لف تفيـ‪ ..‬خير لؾ أف ال تفيـ ‪ ،‬فروحؾ الصغيرة لف‬
‫تتحمؿ الحقائؽ المرة التي تقذؼ بيا الحياة أرواحنا المتعبة ‪ ،‬لف تطيؽ ظمـ اإلنساف ألخيو اإلنساف‪ ..‬روحؾ‬
‫الصغيرة أييا العصفور الصغير الوديع سترفض عالمنا المريض الذي سادتو الذئاب‪ ..‬ستنفجر وتتمزؽ وىي ترى‬
‫الوجو اآلخر لحضارة المادة‪ .‬ستستعذب الموت عمى حياة أقفرت مف القيـ ‪ ،‬وتحجرت فييا المشاعر ‪ ،‬ونعقب فييا‬
‫الغرباف‪..‬‬

‫ظف العصفور أني أداعبو بيذه الكممات ‪ ،‬فدب فيو المرح ‪ ،‬وجعؿ يقفز مف غصف إلى غصف ‪ ،‬وىو يغرد مزىوا‬
‫بنفسو ‪ ،‬فتركت مسامعي تغتسؿ بغنائو العذب وبالغت في االسترخاء‪..‬‬
‫ثمة صوت آخر غرد في سمعي فجأة ‪ ،‬فأيقظت ىمساتو الرقيقة قمبي ‪ ،‬وحركت في نفسي أشواقا لذيذة‪ .‬نيضت‬
‫واستدرت برأسي نحو مصدر الصوت ‪ ،‬ثـ ىتؼ كالمموؼ الذي العطش‪:‬‬

‫ػ أحبلـ!!‪ ..‬أىبل بؾ‪..‬‬

‫ليفتي وجدت صداىا عمى الفور ‪ ،‬قالت وىي تداعب بيف أنامميا الرقيقة وردة حمراء الموف‪:‬‬

‫ػ كنت أعرؼ أني سأجدؾ ىنا‪.‬‬

‫سألتيا في عتاب رقيؽ‪:‬‬

‫ػ لماذا ِ‬
‫غبت؟‪.‬‬

‫ػ لعمؾ تقصد لماذا أتيت؟‬

‫ػ حقا!‪ ..‬فيمت ِ‬
‫أنؾ لف تأتي اليوـ‪.‬‬

‫اختارت أحبلـ كرسيا قريبا مف الكراسي المتناثرة في أرجاء الحديقة ‪ ،‬فجمست عميو‪..‬‬

‫ػ أما لماذا غبت اليوـ فمست أدري السبب ‪!..‬شعرت ىذا الصباح بكآبة ممضة ‪ ،‬ولـ أجد في نفسي حماسا لمعمؿ‬
‫‪ ،‬فاعتذرت عف الحضور‪.‬‬

‫ػ ثـ قطعت إجاز ِ‬
‫تؾ فجأة‪!..‬‬

‫ػ ىذا ما حدث‪ ..‬حاصرني ممؿ وضيؽ ‪ ،‬فأحسست بأف جدراف البيت تمفظني ‪ ،‬فمجأت إلى المستشفى ألبدد الفراغ‬
‫بعمؿ مفيد‪.‬‬

‫قمت وأنا أتربع فوؽ بساط الحشيش األخضر‪:‬‬

‫عمي أيضا‪.‬‬
‫ػ لقد كاف ىذا اليوـ صعبا َ‬
‫ػ قالوا لي ‪ :‬أنؾ غادرت المستشفى مرتيف ىذا الصباح ‪ ،‬وأخبروني بأف ىاني كاف غاضبا جدا‪.‬‬

‫ضحكت‪..‬‬

‫ػ لقد قسوت عميو فعبل ‪ ،‬اغتصبت مف وقت راحتو أكثر مف ساعتيف ‪ ،‬لكني وعدتو أف أناوب عنو في مناسبة‬
‫قادمة‪.‬‬

‫سألت أحبلـ‪:‬‬

‫ػ ىؿ وردت اليوـ حاالت كثيرة‪..‬‬

‫ػ كاف الصباح ىادئا كما أخبرني ىاني ‪ ،‬لكف ساعات الظير كانت حافمة بالعمؿ‪ ..‬استقبمنا ثبلث حوادث طرؽ‬
‫في أقؿ مف ساعة‪!.‬‬

‫إلي في إشفاؽ‪:‬‬
‫قالت وىي ترنو ّ‬

‫ػ تبدو متعبا جدا‪..‬‬

‫ػ لـ يكف معي سوى طبيب واحد كيؼ ال أتعب؟‪.‬‬

‫ػ وعندما ىدأت الحركة جئت إلى ىنا‪ ..‬مثؿ كؿ مرة‪!.‬‬

‫شممت الحديقة بنظرة باسمة ‪ ،‬ولـ أنبس ‪ ،‬أردفت أحبلـ‪:‬‬

‫ػ أنت دائما تيرب إلى ىنا!‪ .‬ما الذي يشدؾ إلى الطبيعة إلى ىذا الحد؟‬

‫ػ البحث عف السبلـ‪.‬‬

‫ػ وىؿ وجدتو؟‬
‫ػ وجدت منو قطرات ال تسمف وال تغني مف جوع‪.‬‬

‫ابتسمت أحبلـ ‪ ،‬وطافت بنظراتيا في أرجاء الحديقة ‪ ،‬كاف العصفور قد ابتعد ‪ ،‬والشمس قد توارت خمؼ جدار‬
‫األفؽ ‪ ،‬والصمت قد راف مف جديد‪..‬‬

‫قالت أحبلـ‪:‬‬

‫ػ أال يزعجؾ ىذا الصمت‪..‬‬

‫ػ ثمة عصفور لطيؼ يتردد إلى الحديقة مف حيف آلخر ‪ ،‬ويسميني بألحانو العذبة‪..‬‬

‫رنت إلي وقالت‪:‬‬

‫ػ عصفور واحد ال يكفي‪ ..‬ميما غرد فستبقى ألحانو حزينة ‪ ،‬تمؤل النفس بالشجف ‪ ،‬وتحرؾ في األعماؽ الظمأ إلى‬
‫صديؽ أنيس‪..‬‬

‫ػ حاولت أف أعقد معو صداقة فمـ أفمح‪!..‬‬

‫ػ ليست كؿ الصداقات تغني‪..‬‬

‫ػ لو رضي العصفور بمصادقتي ‪ ،‬لوجدت في صداقتو ما يغنيني‪!..‬‬

‫ىمست أحبلـ بنبرة غمت عمييا الود‪:‬‬

‫ػ ىؿ ضف عميؾ الناس بصديؽ حتى ذىبت تطمب أصدقاءؾ في العصافير؟‪..‬‬

‫ػ لذت بالصمت ‪ ،‬ىذه ىي الحقيقة ‪ ،‬إني أفتقد إلى صديؽ‪..‬‬

‫لـ يعجبيا صمتي ‪ ،‬قالت بميجة عاتبة‪:‬‬


‫ػ يعني لـ تجب‪!.‬‬

‫ػ صمتي كاف ىو الجواب‪.‬‬

‫ػ جوابؾ فيو بعض المبالغة‪..‬‬

‫ػ ىؿ تقصديف أني يمكف أف أفوز بالصديؽ الذي أرجو؟‬

‫قالت وىي تغض طرفيا في حياء‪:‬‬

‫ػ انظر حولؾ‪..‬‬

‫في كمماتيا رسالة واضحة التقطتيا بسرعة ‪.‬ركبني حرج وارتباؾ‪ .‬لكني تجاىمت المعنى الذي أرادتو أحبلـ ‪،‬‬
‫وتحايمت عميو بالدعابة ‪ ،‬فأخذت أتمفت حولي متصنعا السذاجة وعدـ اإلدراؾ ‪ ،‬فرنت إلي بنظرة باسمة‪:‬‬

‫ػ ليس بعينيؾ يا دكتور‪..‬‬

‫ػ بـ ينظر الناس إذف؟‬

‫ػ بقموبيـ‪!.‬‬

‫ػ لـ أق أر في كتب التشريح أف لمقمب عيونا‪!..‬‬

‫ػ ألنؾ ال تق أر إال السطور‪..‬‬

‫ػ وىؿ تخفي السطور خمفيا غير السطور؟‪!..‬‬

‫أجابت وىي تمس وجنتيا بوردتيا مسا خفيفا‪:‬‬


‫ػ خمؼ السطور كممات ومعاف ال تخفى عمى لبيب مثمؾ‪.‬‬

‫قمت وأنا أمعف في اليروب‪:‬‬

‫ػ ذكائي يخونني في كثير مف األحياف‪..‬‬

‫ت فجأة ‪ ،‬وخبت ومضات الفرح التي كانت تشع مف عينييا ‪،‬‬ ‫البسمة الوادعة التي كانت تضيء وجييا الجميؿ أَ َفمَ ْ‬
‫لـ تتوقع أف أقابؿ لعبتيا الذكية بيذا البرود‪ .‬صمتت وأطرقت إطراقة المحزوف ‪ ،‬وتممممت فوؽ ثغرىا ابتسامة‬
‫باىتة تحتضر‪ .‬وتشاغمت بتأمؿ وردتيا ‪ ،‬فاحتوتيا بنظراتيا الحزينة ‪ ،‬وكأنيا نظرات محب يودع حبيبو الوداع‬
‫األخير‪ ..‬حزنيا أصابني بالغـ ‪ ،‬قمت في محاولة لتبديد األثر السيئ الذي خمفو الحديث السابؽ‪:‬‬

‫ػ ىؿ تذكريف الطفمة المقيطة؟‬

‫أجابت وىي مطرقة تدؽ األرض برأس قدميا‪:‬‬

‫ػ ما شأنيا؟‬

‫ػ لقد زرتيا ىذا الصباح‪.‬‬

‫إلي نظرات متسائمة وىمست‪:‬‬


‫ػ رفعت ّ‬

‫ػ ما الذي دعاؾ ليذا؟‬

‫ػ طافت ذكراىا ببالي ‪ ،‬فأحببت أف أطمئف عمييا‪.‬‬

‫قالت أحبلـ ‪ ،‬وىي تفسح الطريؽ البتسامتيا الفاتنة لكي تعود لتضيء أسنانا كالمؤلؤ‪:‬‬

‫ػ فضولؾ يثير الفضوؿ!‬

‫ػ حقا؟!‬
‫ػ كيؼ ىي؟‬

‫ػ بصحة جيدة‪..‬‬

‫ػ البد أنيا تمقى رعاية ممتازة‪..‬‬

‫ػ كيؼ ال تمقى رعاية ممتازة ‪ ،‬وىي تنمو في أحضاف أميا الحقيقية؟‬

‫حدجتني أحبلـ بنظرة ممؤىا الدىشة‪:‬‬

‫ػ ىؿ قمت أميا الحقيقة؟‪!!.‬‬

‫ػ أجؿ‪ ..‬ىذا ما يغمب عمى ظني‪..‬‬

‫ووريت ألحبلـ قصة اآلنسة الغامضة نو ار ‪ ،‬وحدثتيا بآخر ما توصمت إليو مف استنتاجات‪..‬‬

‫قالت أحبلـ ‪ ،‬وقد عادت إلييا ابتسامتيا الوادعة المطيفة‪:‬‬

‫ػ اىتماماتؾ يا دكتور تدعو لبلحتراـ‪..‬‬

‫ػ ىذا ثناء ال أستحقو‪..‬‬

‫ػ أبدا‪ .‬ىذه كممة حؽ‪.‬‬

‫ػ يزعجني أحيانا أف ننظر إلى الواجب عمى أنو تطوع نبيؿ‪..‬‬

‫ػ في زمف قؿ فيو حرص الناس عمى واجباتيـ ‪ ،‬يصبح مجرد أداء الواجب إنجا از رائعا يستحؽ التقدير‪..‬‬

‫ػ ال معنى لمحياة إذا لـ يعشيا أحدنا كإنساف‪..‬‬


‫تنيدت وأرسمت إلى األفؽ رنوة حالمة ‪ ،‬ثـ قالت‪:‬‬

‫ػ إني أبحث عف ذلؾ اإلنساف‪!..‬‬

‫ػ وىؿ وجدتِو؟‪!..‬‬

‫أرسمت زفرة ساخرة ‪ ،‬وقالت في تحسر‪:‬‬

‫ػ وجدتو‪ .‬وجدتو منذ زمف بعيد ‪ ،‬لكنو يمعف في اليروب مني‪ ..‬يحاوؿ أف يضمؿ خطواتي‪ ..‬أمد لو يدي ‪ ،‬فيخفي‬
‫يديو‪ ..‬أعترؼ لو بودي ‪ ،‬فيصفعني بجفائو‪ ..‬لكأنو يرفضني ‪ ،‬ويغمؽ قمبو في وجو روحي‪..‬‬

‫ما الذي يمكف لفتاة عفيفة أف تفعمو حتى تعمف حبيا دوف ابتذاؿ؟‪ ..‬ماذا تفعؿ فتاة رفضت كؿ الناس مف أجؿ‬
‫فتاىا الذي اختارتو وأغمقت قمبيا عمى حبو ‪ ،‬ثـ ال تجد منو سوى الصد واليروب والتجاىؿ؟‪!..‬‬

‫لقد ضاقت أحبلـ ذرعا بترددي وىروبي ‪ ،‬وىا ىي تتييأ لبلقتحاـ‪ .‬تحاوؿ أف تدؾ أسوار الحيرة التي تفصؿ بيني‬
‫وبينيا‪ .‬لـ أستطع أف أرفع نظراتي إلى عينييا المتيف كانتا تميباف لوما وعتابا‪ ..‬ماذا أقوؿ ليا؟‪ ..‬ىؿ أعترؼ لو‬
‫بالحب الجارؼ العميؽ الذي يضطرـ في صدري؟‪ ..‬أـ أكتـ ىذا الحب وأقمعو حتى ال أتورط في شراكة غير‬
‫متكافئة وزواج يبدو لي أنو محكوـ بالموت؟!‪ ..‬مف قاؿ بأف الحب يخضع لحسابات المادة؟‪ ..‬مف الذي زرع ىذه‬
‫الخرافة فينا؟‪.‬‬

‫ىزت أحبلـ رأسيا في حزف ‪ ،‬وقالت كاليائسة‪:‬‬

‫ػ مف الحكمة أف يرضى اإلنساف ببعض الحقائؽ المؤلمة ؼ ىذا العالـ‪..‬‬

‫أثارت كمماتيا في نفسي شعو ار غريبا فقمقؿ ىدوئي‪ ..‬شعور مف أوشؾ عمى فقد عزيز‪ ..‬وخشيت أف تكوف أحبلـ‬
‫قد يئست مني ‪ ،‬وفيمت مشاعري عمى نحو خاطئ ‪ ،‬سارعت إلى تبديد فيميا الخاطئ ‪ ،‬فقمت وأنا أتيرب مف‬
‫نظراتيا العاتبة الحزينة‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ .‬أنت تستعجميف األمور‪.‬‬

‫لـ تكترث بكبلمي‪ .‬سألت فجأة‪:‬‬

‫ػ ىؿ قرأت عف خديجة؟‬

‫ػ بنت خويمد؟‬

‫ػ أجؿ‪ .‬زوجة الرسوؿ ػ صمى اهلل عميو وسمـ ػ‪.‬‬

‫ػ قرأت‪.‬‬

‫ػ ماذا فعمت عندما أحبت محمدا؟‬

‫ػ أرسمت إليو مف يخبره بأنيا تحبو‪.‬‬

‫ػ ماذا لو أقدمت فتاة عمى فعؿ ىذا الفعؿ في مجتمعنا اليوـ؟‬

‫ػ نحف في عصر مختمؼ‪..‬‬

‫قالت في إصرار‪:‬‬

‫ػ نعـ‪ .‬نحف في عصر مختمؼ ‪ ،‬لكف المرأة والرجؿ ما زاال ىما كما كانا أوؿ مرة‪ .‬الشفرات الوراثية ال تؤمف‬
‫بالعصور‪ ..‬إنيا رسالة خالدة منذ األزؿ‪ ..‬رسالة ثابتة تحمؿ خصائص األنثى وخصائص الذكر ‪..‬الظروؼ‬
‫تختمؼ ‪ ،‬ووسائؿ الحياة تتبدؿ ‪ ،‬لكف جوىر اإلنساف ثابت ال يتغير‪..‬‬

‫إنيا محاورة عنيدة تعرؼ ما تريد!‪ ..‬ىذه المناظرة الفكرية بدأت تفسد جماؿ األصيؿ‪ .‬البد أف يصؿ الحوار إلى‬
‫نياية مفيدة ‪ ،‬ولكف‪ ..‬ىؿ ستنتصر عمي بالضربة القاضية ‪ ،‬وتعمف حبيا لي في صراحة حاسمة؟‪ ..‬ىؿ ستتراخى‬
‫إرادتي وتسمخ لمحب الذي يشتعؿ بيف ضموعي أف يفصح عف نفسو ‪ ،‬ويتحدى كؿ معادالت العقؿ الذي يقؼ‬
‫حاج از بيني وبيف مف أحب؟!‪ ..‬أيتيا الفتاة الرقيقة التي وضعيا القدر في دربي‪ ..‬دعيني أفكر في قراري بيدوء‪ .‬ال‬
‫تمجئيني إلى ق اررات حظ القمب فييا يفوؽ حظ العقؿ‪..‬‬

‫وأدركت بأنو ال مفر مف المواجية ‪ ،‬فوجدتني أسأليا فجأة ببل مقدمات‪:‬‬

‫ػ ماذا عف ىاني؟‬

‫فوجئت بسؤالي ‪ ،‬قالت ببل تردد‪:‬‬

‫ػ لقد اعتذرت لو‪.‬‬

‫ػ إنو أقدر عمى إسعادؾ‪.‬‬

‫ػ لماذا تعتقد ذلؾ؟‬

‫ػ ألنو أقرب إليؾ طبقيا‪.‬‬

‫تعكرت مبلمحيا بحمرة الغضب ‪ ،‬قالت بحدة‪:‬‬

‫ػ لـ أتوقع منؾ أف تفكر بيذه الطريقة‪!..‬‬

‫أربكني العتب الذي أطؿ مف عينييا ‪ ،‬قمت موضحا‪:‬‬

‫ػ المادة تمعب دو ار حاسما في حياتنا ‪ ،‬شئنا أـ أبينا‪.‬‬

‫رفعت رأسيا في كبرياء وقالت بثقة‪:‬‬

‫ػ أنا ال أبحث عف المادة‪.‬‬

‫ػ قد ال تبحثيف عنيا ‪ ،‬لكنؾ لف تستغني عنيا‪..‬‬


‫ىتفت في إصرار‪:‬‬

‫ػ بؿ أستغني عف كؿ أمواؿ الدنيا وجواىرىا مف أجؿ أف أفوز بإنساف نبيؿ يفيـ الحياة كما أفيميا‪ ..‬بمعانييا‬
‫السامية وآفاقيا الرحيبة‪ ..‬الحياة النظيفة الرفيعة التي تميؽ بإنساف لو عقؿ وقمب وروح‪ ..‬ال حياة الحيوانات الشاردة‬
‫في الغابة التي تحركيا الغرائز واألطماع ‪.‬لقد ذقت سعادة المادة فمـ أجد ليا طعما!‪ .‬خذ كؿ مبلييني وأمبلكي ‪،‬‬
‫وأعطني كممة حناف صادقة تشعرني بأف مف حولي بشر أسوياء ‪ ،‬وليسوا تماثيؿ أو آالت مبرمجة تؤدي دو ار‬
‫رتيبا محددا لـ يخمؽ لو اإلنساف‪ ..‬نعـ‪ ..‬البشر مف حولنا تحولوا اليوـ إلى آالت تتحرؾ وفؽ برنامج مرسوـ‪..‬‬
‫برنامج كبرامج الكمبيوتر التي يزود بيا اإلنساف اآللي ‪ ..‬ىذا البرنامج يحمؿ رسالة واحدة‪ ..‬رسالة تتمخص‬
‫بكممتيف‪ :‬اكسب أكثر‪ ..‬اربح أكثر‪ ..‬اجمع أكثر‪ ..‬بأية وسيمة؟‪ ..‬ال ييـ‪ ..‬عمى حساب مف؟‪ ..‬ال ييـ‪ ..‬عمى‬
‫أشبلء مف؟‪ ..‬ال ييـ‪ ..‬الحياة فرصة فاىتبميا‪ ..‬احصد الفرص فقد ال تعود‪ ..‬ال ييـ مف زرع ‪ ،‬الميـ مف يحصد‬
‫في النياية‪ ..‬الشاطر مف يضحؾ في اآلخر‪ ..‬ىكذا نحف اآلف‪ ..‬حصادات بشرية عمياء ‪..‬ال تعرؼ عمى ماذا‬
‫تدوس ‪ ،‬لكنيا يجب أف تصؿ إلى نياية الشوط وقد جمعت أقصى ما أمكنيا مف الحصاد‪..‬‬

‫كانت أحبلـ تتحدث بتدفؽ وحماس‪ ..‬وكاف جوىرىا النقي يتوىج بالصدؽ ويممع بالبراءة‪ ..‬شعرت وأنا أستمع إلييا‬
‫بأني أماـ مبلؾ طاىر يحمؿ رسالة السماء إلى األرض‪ ..‬أماـ داعية جميؿ ألقى الدنيا خمؼ ظيره ‪ ،‬وجاء يبشر‬
‫بعالـ فاضؿ ال تستعبده المادة‪ ..‬رنوت إلييا بنظرات وليى تفيض بالوجد ‪ ،‬ورحت أصغي إلييا وىي تتابع ىدرىا‬
‫العذب‪.‬‬

‫كانت تقوؿ وىي في ذروة االنفعاؿ‪:‬‬

‫ػ لو كانت المبلييف تصنع السعادة ‪ ،‬لكنت أسعد فتاة أنجبيا أب ‪ ،‬لكف كؿ المبلييف التي تنتظرني‪ ..‬كؿ العقارات‬
‫والشركات واألمبلؾ التي ستؤوؿ إلي‪ ..‬كؿ ىذه الثروة العريضة التي يجنييا لي أبي ‪ ،‬ال تساوي عندي كممة حب‬
‫خالصة منزىة عف المصالح والرغبات‪ ..‬ثـ صمتت أحبلـ ‪ ،‬وجعمت ترتعش مف فيض التأثر واالنفعاؿ ‪ ،‬ولـ تمبث‬
‫أف انفجرت باكية ‪ ،‬فأخفت وجييا الباكي خمؼ كفييا ‪ ،‬وبقيت كذلؾ برىة ريثما ىدأت ‪ ،‬ثـ انزلقت بكفييا ‪،‬‬
‫فأسفرت عف وجو مخضؿ غسمتو الدموع ‪ ،‬وقد أغمضت عينييا إغماضة مف ينشد الراحة والخبلص ‪ ،‬وألقت‬
‫برأسيا إلى الخمؼ ‪ ،‬فبدت كعابدة متبتمة تستغرؽ في خشوع عميؽ‪..‬‬

‫أدركت أخي ار بأني أسير يحاوؿ عبثا أ ف ييرب مف قدره‪ ..‬عاشؽ يقمع صوت قمبو بقسوة‪ ..‬مكابر عنيد يذوب حبا‬
‫ويأبى أف يعترؼ‪ ..‬مف يستطيع أف يصمد أما فتاة ليا رقة األنثى وروح المبلئكة؟‪!..‬‬
‫قالت وىي تستيقظ مف إغماضتيا الخاشعة‪:‬‬

‫ػ أنت تفيمني‪ ..‬أليس كذلؾ يا دكتور صبلح؟‬

‫قمت وأنا مستسمـ لطغياف حبيا الجارؼ‪:‬‬

‫ػ ىؿ تعتقديف أف أباؾ سيوافؽ عمى زواجنا؟‬

‫أشرقت عيناىا بنظرة باسمة يتألؽ فييا الفرح ‪ ،‬فقد أدركت أني لـ أخذليا ‪ ،‬فاحمرت حتى حاكت حمرتيا الفاتنة‬
‫لوف وردتيا الجميمة ‪ ،‬قالت وىي توشح كمماتيا بابتسامة وادعة تنطؽ بالرضى‪:‬‬

‫ػ أحقا‪ ..‬أحقا أنت تبادلني نفس المشاعر؟‪!..‬‬

‫أجبتيا بابتسامة مطمئنة ‪ ،‬وقمت‪:‬‬

‫ػ أريد أف أعرؼ رأي والدؾ‪..‬‬

‫ػ أنا ال أعرؼ رأي والدي ‪ ،‬لكني أنا التي سأتزوج وأنا صاحبة القرار‪..‬‬

‫ػ األمور في مجتمعنا ال تجري بيذه البساطة‪..‬‬

‫ػ سأميد لؤلمر مع أبي‪..‬‬

‫ػ واذا رفض؟‬

‫ػ سأرفض رفضو‪..‬‬

‫ػ واذا رفض؟‪!..‬‬
‫رمقتني بطرؼ عينييا ‪ ،‬وتساءلت‪:‬‬

‫ػ ىؿ ىذا ىو سبب ترددؾ؟‬

‫ػ أريد أف أعد لؤلمر عدتو‪..‬‬

‫دمعت عيناىا وقالت مشفقة‪:‬‬

‫ػ البد أف ينتثر الحب في النياية‪..‬‬

‫عمقت كالحالـ‪:‬‬

‫ػ ليت الحب ينتصر في ىذا العالـ‪!..‬‬

‫تساءلت وقد عاثت في عينييا نظرة متوجسة‪:‬‬

‫ػ ىؿ يمكف أف يقؼ أبي في وجو سعادتي؟‪..‬‬

‫ػ قد يقاوـ اختيارؾ باسـ مصمحتؾ ومستقبمؾ‪!..‬‬

‫قالت في ضراعة‪:‬‬

‫ػ صبلح‪ ..‬أرجوؾ‪ ..‬ال تعكر ىذه المحظات الرائعة باليواجس المزعجة‪..‬‬

‫ػ ما زلت أريد أف أعرؼ‪..‬‬

‫ػ ماذا؟‪..‬‬

‫ػ ماذا لو كاف رفض أبيؾ قاطعا؟‪!..‬‬


‫اربد وجييا فجأة ‪ ،‬وغشيتو كآبة خفيفة ‪ ،‬ولـ تمبث أف نيضت ودارت حوؿ كرسي الحديقة الذي كانت تجمس عميو‬
‫‪ ،‬وقالت بعد صمت وتفكر ‪ ،‬وقد لمعت عيناىا بأنداء مف الدمع‪:‬‬

‫ػ صبلح‪ ..‬إذا لـ يوافؽ والدي عمى زواجي منؾ ‪ ،‬فمف تجمعني الحياة برجؿ مف بعد‪..‬‬

‫ثـ استدارت نصؼ استدارة ‪ ،‬وجعمت تداعب غصنا قد تدلى مف إحدى األشجار ‪ ،‬وكأنيا تداري حياء وانفعاال‬
‫جديدا أججتو كمماتيا المفعمة باإلخبلص ‪ ،‬وراف عمينا صمت لذيذ ‪ ،‬وىبت عمى الحديقة نسمات ربيعية رقيقة ‪،‬‬
‫تيمس لنا بقصيدة لـ يمقيا شاعر ‪ ،‬ولـ يغرد بيا عصفور‪!..‬‬
‫الفصل الحادي والعشرون‬

‫أخرجت البطاقة التي أعطتني إياىا أحبلـ ‪ ،‬وأعدت قراءة عنواف شركة أبييا‪ ..‬شركة عبد الغني الذىبي لمتجارة‬
‫العامة ػ شارع البرج ػ عمارة البرج األزرؽ‪ .‬روحت أبحث عف البرج األزرؽ الذي يضـ مكاتب الشركة بعينيف‬
‫مستطمعتيف ‪ ،‬لـ أعرؼ في البداية سبب تسمية ىذه العمارة بالبرج لكني عندما وصمت إلييا ‪ ،‬أدركت سببا ليذه‬
‫التسمية‪!.‬‬
‫كانت عمارة شاىقة ترتفع كأسطوانة ىائمة مثمنة المحيط ‪ ،‬تصؿ بيف أضبلعيا الثمانية ألواح كبيرة مف زجاج‬
‫خاص‪ .‬وكاف خياؿ السماء ينعكس عمى ألواح الزجاج ‪ ،‬فيشمميا بزرقة داكنة ‪ ،‬تعطي المبنى مظي ار بديعا وروعة‬
‫ال تنكر‪..‬‬
‫"البد أف الذي يستخدـ مثؿ ىذا البناء الفخـ مق ار لشركتو ‪ ،‬يدير أعماال واسعة تحتاج إلى جيش مف الموظفيف!‪..".‬‬
‫ىكذا حدثني نفسي وأنا أق أر اسـ الشركة الذي كتب بأحرؼ برونزية نافرة‪..‬‬
‫وقفز إلى ذاكرتي حديث أحبلـ عف مسؤولية والدىا عف حادث انييار العمارة السكنية ‪ ،‬فدخؿ في روعي أف ىذا‬
‫البناء العتيد يقوـ عمى أشبلء الضحايا وجماجـ األبرياء الذيف ذىبوا ضحية الجشع البغيض ‪ ،‬واألنانية الكريية‪..‬‬
‫أوقفت سيارتي في مكاف قريب ‪ ،‬ثـ ترجمت منيا ‪ ،‬ووقفت أتأكد مف سبلمة ىندامي ‪ ،‬ثـ تقدمت مف مدخؿ البرج‬
‫األزرؽ بخطوات بطيئة‪..‬‬
‫ثمة شيء كاف يجذبني إلى الخمؼ بقوة ‪ ،‬يعرقؿ خطواتي ‪ ،‬يزلزؿ كياني ‪ ،‬ييزني بعنؼ ‪ ،‬يسألني بميجة لوامة‬
‫تنطؽ باالتياـ ‪" :‬إلى أيف أنت ذاىب؟‪ ..‬تضع يدؾ في يد مجرـ لتخطب منو ابنتو؟‪ ..‬أأعماؿ الحب عف حقيقة‬
‫ىذا الرجؿ؟‪ ..‬أـ ىو الطمع وبريؽ الثروة والغنى والماؿ؟‪..".‬‬
‫تسمرت في مكاني ‪ ،‬وكادت إرادتي تتياوى ‪ ،‬لكف طيؼ أحبلـ شد مف أزري ‪ ،‬وعزز ثقتي بما عزمت عميو ‪،‬‬
‫ىدرت في أغواري وكأني أحاجج خصما قاسيا يحدجني بنظرات ممؤىا الشؾ والريبة ‪" :‬بؿ جئت ألنقذ أحبلـ مف‬
‫الوحؿ الذي نبتت فيو‪ ..‬جئت ألحمي ىذه الفتاة الطاىرة الرقيقة مف الريح المجنونة التي تحطـ األغصاف الخضراء‬
‫وتعصؼ بيا‪ ..‬جئت ألحمميا إلى عالـ الطير والبراءة الذي تحمـ بو‪ ..‬فمتذىب مبلييف أبييا إلى الجحيـ‪ ..‬ال أريد‬
‫منو سوى قمب ابنتو النبيؿ الذي يخفؽ بمشاعر اإلنساف‪ ..‬ال أبتغي سوى أحبلـ التي لـ تستطع المادة أف تقتؿ‬
‫روحيا ‪ ،‬وتموث جوىرىا‪..".‬‬
‫عاد ذلؾ الخصـ العنيد يمطرني بأسئمتو ‪ ،‬وأطمؽ في أعماقي ضحكة مجمجمة تسخر مف كؿ المبررات التي‬
‫تدفعني لئلقداـ عمى خطبة أحبلـ‪ ..‬كدت أضعؼ ثانية!‪ ..‬راودتني نفسي عمى االنسحاب ‪ ،‬لكف كممات أحبلـ‬
‫اندلعت في ذاكرتي فجأة ‪ ،‬ووضعت حدا ليذا التردد الذي اعتراني‪" ..‬صبلح إذا لـ يوافؽ أبي عمى زواجي منؾ ‪،‬‬
‫فمف تجمعني الحياة برجؿ مف بعدؾ‪..".‬‬
‫مؤلتني كمماتيا بشحنة جديدة مف الثقة والحماس ‪ ،‬تخيمت نفسي فارسا عنيدا جاء ينقذ فتاة مف األسر ‪ ،‬وكدت‬
‫أىتؼ كما في الحكايات" لبيؾ يا أميرتي‪ ..‬ىا أنا قد جئت عمى صيوة جوادي ألقتحـ ىذه األسوار ‪ ،‬وأحممؾ معي‬
‫إلى دنيانا الجديدة‪ ."..‬لكف رجبل كاف قد خرج لتوه مف الشركة ‪ ،‬صدمني فجأة ‪ ،‬فانتشمني مف أوىاـ الخياؿ ‪،‬‬
‫وأعادني إلى دائرة الوعي ‪ ،‬ثـ ما لبث أف اعتذر قائبل وىو يعض عمى فوىة غميونو بأسنانو البيضاء‪" :‬سري ‪..‬‬
‫آسؼ‪"!.‬‬
‫ابتسمت ليذا االعتذار المشفوع بالترجمة العربية ‪ ،‬وتقدمت مف الباب ‪ ،‬فانفتح بشكؿ آلي‪ .‬حكاية عمي بابا لـ تكف‬
‫خرافة إذف ‪!!..‬كانت تنبؤ ذكيا بالمستقبؿ! ىاىو الباب يفتح لي حتى دوف أف أىمس لو بكممة السر ‪ ،‬انفتح دوف‬
‫أف أقوؿ لو ‪" :‬افتح يا سمسـ‪".‬‬
‫اتجيت إلى مكتب االستعبلمات ‪ ،‬فوجدت فيو موظفا وسيما يرتدي بذلة أنيقة جعمتني أشعر بالخيبة‪ ..‬متى يفرغ‬
‫الناس لشراء ىذه المبلبس المسرفة في األناقة؟ وأيف يجدونيا؟ لعميـ يستوردونيا خصيصا‪ ..‬ما عمينا ‪..‬بذلتي أنيقة‬
‫أيضا‪ ..‬ال تشكو مف شيء ‪ ،‬لكني أعترؼ بأنيا أقؿ أناقة مف بذلة موظؼ االستعبلمات! قمت في نفسي‪" :‬لعؿ‬
‫ميمة موظؼ االستعبلمات تستدعي ىذا المظير المسرؼ في األناقة ألنو أوؿ مف يستقبؿ العمبلء والزوار الذيف‬
‫يقصدوف الشركة‪".‬‬
‫سألتو عف مكتب السيد عبد الغني الذىبي صاحب الشركة ‪ ،‬فأجابني بمساف إنكميزي مبيف ‪" :‬نمبر سفف"‪ ..‬ما باؿ‬
‫الناس يستثقموف استعماؿ لغتيـ العريقة التي تتربع عمى عرش المغات!‪ ..‬شكرت الموظؼ بإيمائة مجاممة ‪،‬‬
‫ومضيت إلى المصعد ‪ ،‬فانتظرت ىبوطو حتى يحممني إلى الطابؽ السابع ألقبؿ السمطاف ‪ ،‬وأسألو يد أميرتي‬
‫األسيرة‪ ..‬ولكف‪ ..‬لماذا اختار والد أحبلـ الشركة مكانا لمقائنا؟‪ ..‬ىذه المناسبات ػ فيما أعمـ ػ ال تناقش في أماكف‬
‫العمؿ‪ ..‬تراه ىؿ سيوافؽ عمى زواجنا؟ أـ أنو‪ ..‬آه‪ ..‬لعمو اشترط أف يمقاني في الشركة ‪ ،‬ليصارحني يرفضو‪..‬‬
‫وشعرت برجة عنيفة بيف الضموع‪ ..‬أتضيع مني أحبلـ بعد أف أودعت كؿ آمالي عمى أعتاب قمبيا الكبير؟!‪..‬‬
‫ورحت أرمؽ الموحة الرقمية التي تعمو بوابة المصعد بغيظ‪ .‬كانت األرقاـ تمضي في عدىا التنازلي ببطء شديد‪.‬‬
‫‪ ... 4 ،5 ،6‬ىا ىو المصعد يتوقؼ عند الطابؽ الرابع‪ ..‬أسرعوا أييا الركاب ‪ ،‬فيا ىنا قمب يتمزؽ بيف اليواجس‬
‫واآلماؿ‪ ..‬ارحموا ىذا القمب الولياف الذي يتطمع إلى مصيره بقمؽ ‪ ،‬لـ يستجب المصعد لتوسبلتي ‪ ،‬قفز إلى‬
‫الطابؽ السابؽ فجأة ‪ ،‬في حركة غادرة ‪ ،‬لبث في السابع قميبل ثـ عاد ييبط ببطء مثير‪2 ،3 ،4 ،5 ،6 ،7 ...‬‬
‫‪ .....‬آه ىا قد وصؿ‪ .‬أسرعت إليو ‪ ،‬فانطمؽ بي عمى ميؿ‪ .‬كانت مرآة المصعد وسيمة مفيدة لمتأكد مف سبلمة‬
‫ىندامي‪ .‬كؿ شيء عمى ما يراـ ‪ ،‬عريس بدرجة مقبولة‪ .‬ىذا قصارى ما كنت أحمـ بو‪ ..‬ثمة راكب اعترض مسيرة‬
‫المصعد في الطابؽ الخامس‪ ..‬أىبل وسيبل‪ ..‬تابع المصعد طريقو إلى الطابؽ السابع ‪ ،‬فمفظني ىناؾ ‪ ،‬ثـ أغمؽ‬
‫بابو خمفي وعاد يتابع رحمتو المكوكية التي ال تنتيي‪..‬‬
‫اقتربت مف مكتب السيد عبد الغني بخطوات بطيئة يثقميا قدر مف الحياء ‪ ،‬ومقدار مف الرىبة والتردد ‪ ،‬استقبمتني‬
‫فتاة جميمة ‪ ،‬أنيقة الممبس ‪ ،‬فاتنة البسمة ‪ ،‬سألتني وىي تقضـ قطعة بسكويت وتغيبيا خمؼ شفتييا الغارقتيف في‬
‫حمرة كفثية‪:‬‬
‫ػ ىؿ مف خدمة؟‬
‫ػ أنا الدكتور صبلح الحكيـ‪ ..‬أريد مقابمة األستاذ عبد الغني‪..‬‬
‫ىتفت السكرتيرة بميجة مرحبة أحسست أف فييا قد ار كبي ار مف المبالغة‪:‬‬
‫ػ أنت؟!‪ ..‬أىبل‪ ..‬أىبل وسيبل‪ ..‬تفضؿ بالجموس‪..‬‬
‫جمست وأنا مندىش مف ىذا الترحيب الذي يشي بإطبلعيا عمى دقائؽ األمور ‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ػ أنت دقيؽ في مواعيدؾ كما وصفؾ لي السيد عبد الغني‪..‬‬
‫سررت ألف صورتي في ذىف والد أحبلـ صورة مشرقة ‪ ،‬البد أف أحبلـ ىي التي أوحت لو بيا‪..‬‬
‫شعرت بشيء مف االرتياح وجمست أنتظر‪..‬‬
‫غابت السكرتيرة قميبل ‪ ،‬ثـ عادت تحمؿ فنجانا مف الشاي ‪ ،‬وانحنت لتقدمو لي‪ ..‬تناولت الفنجاف وشكرتيا ‪ ،‬وأنا‬
‫أغض الطرؼ عف صدرىا الذي بدا مف تحت سترتيا الواسعة عاريا صارخا الفتنة‪ .‬لـ تعد مبلبس اليوـ كافية‬
‫لستر مفاتف المرأة!‪ ..‬يبدو أف عباقرة الموضة يقتصدوف في استعماؿ القماش ‪ ،‬ليوفروا منو بعض ما يمزـ لتمديف‬
‫العراة في مجاىؿ أفريقية!‪ ..‬صبرت عمى ما رأيت ‪ ،‬وقمعت شحنة اإلثارة التي سرت في جسدي إزاء ىذا المنظر‬
‫‪ ،‬ورحت أحتسي الشاي في صمت ‪ ،‬وأنا مشغوؿ الباؿ بالمقاء المرتقب‪..‬‬
‫قالت مضيفتي وىي تمؼ رجبل شبو عارية عمى رجؿ‪:‬‬
‫ػ لقد حدثني عنؾ السيد عبد الغني قبؿ قميؿ عف موعده معؾ ‪ ،‬وطمب مني أف أخبرؾ بأنو مشغوؿ مع بعض‬
‫الخبراء األجانب وأنو مضطر لتأخير موعده معؾ حوالي نصؼ الساعة‪..‬‬
‫أزعجني تأخير الموعد ‪ ،‬لكني عذرت الرجؿ ‪ ،‬فرجاؿ األعماؿ معرضوف لمثؿ ىذه االجتماعات الطارئة‪!.‬‬
‫كانت نظرات السكرتيرة الفاتنة تقتحمني بجرأة وقحة ‪ ،‬مما جعمني أشعر باالرتباؾ ‪ ،‬لكني تشاغمت عنيا بتأمؿ‬
‫لوحة جميمة معمقة عمى الحائط المغمؼ بورؽ الجدراف النفيس ‪ ،‬ابتدرتني السكرتيرة قائمة‪:‬‬
‫ػ أنت طبيب طبعا‪..‬‬
‫ػ ىذا صحيح‪.‬‬
‫ػ تعمؿ في نفس المستشفى الذي تعمؿ فيو أحبلـ‪.‬‬
‫ػ كيؼ عر ِ‬
‫فت؟‬
‫ػ السيد عبد الغني ال يخفي عني أمرا‪ ..‬أنا سكرتيرتو وأمينة أس ارره ‪.‬‬
‫ابتسمت ولـ أنبس‪ ..‬ىذه اآلنسة أو السيدة ػ ال أدري ػ تحب الثرثرة ‪ ،‬وال أريد أف أخوض معيا في حديث ال طائؿ‬
‫وراءه ‪ ،‬فأنا بحاجة إلى بعض اليدوء والتركيز في ىذه المناسبة الحاسمة في حياتي‪.‬‬
‫لكنيا تابعت تقوؿ‪:‬‬
‫ػ قمت لي طبيب إذف‪..‬‬
‫ػ لعمؾ تشكيف بذلؾ‪!.‬‬
‫ضحكت في دالؿ ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ ال ‪ ،‬ال ‪ ،‬أبدا‪ ..‬لكني أريد أف أستشيرؾ في أمر طبي‪.‬‬
‫قمت مجامبل‪:‬‬
‫ػ أنا في خدمتؾ‪.‬‬
‫قالت وىي تتظاىر بالقمؽ‪:‬‬
‫ػ في الحقيقة يا دكتور‪ ..‬أشعر أحيانا بآالـ شديدة في الخاصرة اليمنى‪ ..‬آالـ شديدة ال تطاؽ ‪ ،‬تداىمني فجأة دوف‬
‫سابؽ إنذار‪.‬‬
‫ػ لماذا لـ تراجعي طبيبا؟‬
‫ػ الحقيقة أني مشغولة‪ ..‬مشغولة جدا‪ ..‬السيد عبد الغني يمؤل وقتي باألعماؿ المرىقة‪.‬‬
‫قمت وأنا أستغرب ىذا اإلخبلص الزائد والمبالغة المختمقة‪:‬‬
‫ػ مع ذلؾ لف تعدمي ساعة في األسبوع تذىبيف فييا إلى الطبيب‪!..‬‬
‫ػ ما حاجتي إلى الطبيب وأنت ىنا؟‬
‫نظرت إلييا في دىشة‪:‬‬
‫ػ ماذا تقصديف؟‬
‫ػ أقصد أف تسدي لي خدمة كبيرة لو فحصت لي موضع األلـ اآلف ‪ ،‬وشخصت لي الداء في ىذا الوقت الضائع ‪،‬‬
‫ريثما يتفرغ السيد عبد الغني لؾ‪.‬‬
‫األمور تسير بطريقة ممتوية ‪ ،‬ىذا النوع مف النسوة المراوغات ليس غريبا عف طبيب مثمي‪ .‬لقد صادفت مف‬
‫أمثاليا الكثيرات ‪ ،‬ولكف ‪ ،‬كيؼ أتخمص مف ىذه في ىذا الوقت الحرج؟!‪ .‬واسترقت إلى الساعة المعمقة في صدر‬
‫الغرفة نظرة خاطفة ألرى إف كاف الوقت يساعدني عمى التخمص منيا ‪ ،‬لكنيا ضبطت نظرتي تمؾ ‪ ،‬فالتفتت إلى‬
‫الساعة في خبث وقالت وقد ارتسمت عمى شفتييا ابتسامة ماكرة‪:‬‬
‫ػ اطمئف يا دكتور ‪ ،‬نصؼ ساعة في عرؼ مديري قد تعني ساعة أو أكثر ‪ ،‬لكنو ميما تأخر في مواعيده فإنو‬
‫يفي بيا أخيرا‪ ..‬ىو ماذا قمت؟‬
‫ػ في ماذا؟‬
‫أدركت بذكائيا أني أتجاىؿ طمبيا ‪ ،‬فما لبثت أف صرخت متظاىرة باأللـ‪:‬‬
‫ػ آه‪ ..‬ىا ىي نوبة األلـ تعاودني‪ ..‬آي‪ ..‬يا ليا مف آالـ فظيعة!‬
‫تساءلت في سري إف كاف ىذا تمثيبل متقنا أـ حقيقة صادقة ‪ ،‬ضعت بيف الشؾ واليقيف ‪ ،‬واستنفر في أعماقي‬
‫الطبيب الذي أقسـ اليمني الطبي المغمظ ‪ ،‬فوضعت فنجاف الشاي ‪ ،‬واقتربت منيا ألقدـ ليا بعض العوف ‪،‬‬
‫فازدادت صرخاتيا حدة وقالت‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ يا دكتور‪ ..‬ساعدني‪ ..‬مف حسف حظي أنؾ ىنا‪.‬‬
‫سألتيا أف تصؼ لي األلـ الذي تشعر بو ‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ػ إنو ألـ شديد يبدأ مف خاصرتي اليمنى ‪ ،‬ثـ ينتشر إلى صدري وظيري ‪ ،‬فيضيؽ نفسي ‪ ،‬وأشعر بورـ كبير ينمو‬
‫في المنطقة التي يبدأ منيا األلـ‪.‬‬
‫تساءلت في حيرة‪:‬‬
‫ػ ورـ‪!!.‬‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬ورـ كبير‪ ..‬أخشى أني مصابة بالسرطاف‪!..‬‬
‫ابتسمت رغما عني‪:‬‬
‫ػ ال تتوىمي كثيرا‪ ..‬األمر أبسط مما تتصوري‪.‬‬
‫ىمست في ض ارعة‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ يا دكتور‪ ..‬بإمكانؾ أف تساعدني‪ ..‬أليس كذلؾ؟‬
‫شعرت بالحيرة والحرج ‪ ،‬قمت وأنا أنظر حولي‪:‬‬
‫ػ المشكمة أف ىذا المكاف عاـ‪ ..‬كيؼ يمكف أف أساعدؾ؟‬
‫ىتفت وىي تشير إلى أحد األبواب‪:‬‬
‫ػ ىنا توجد غرفة لبلجتماعات ‪ ،‬وىي فارغة اآلف ‪..‬تستطيع أف تعالجني فييا‪.‬‬
‫قمت في تردد‪:‬‬
‫ػ لكف السيد عبد الغني‪ ..‬أليس مجتمعا مع ضيوفو فييا؟‬
‫قالت في ثقة‪:‬‬
‫ػ ال ‪ ،‬ال‪ ..‬في غرفة مكتبو ‪ ،‬أرجوؾ‪ ..‬لـ أعد أستطيع االحتماؿ‪.‬‬
‫لـ تترؾ لي فرصة لمتفكير ‪ ،‬سحبتني مف يدي وأدخمتني إلى الغرفة ‪ ،‬ثـ ألقت نفسيا عمى إحدى الكنبات ‪ ،‬وىي‬
‫تتموى مف األلـ‪ ..‬ىدأت مف روعيا ‪ ،‬وطمبت منيا أف ترفع طرؼ سترتيا ألتبيف موضع األلـ ‪ ،‬ففعمت ‪ ،‬وما كدت‬
‫أنحني ألفحص منطقة الشكوى حتى طوقتني بذراعييا بقوة ‪ ،‬وقبمتني‪!..‬‬
‫تممصت مف بيف يدييا ‪ ،‬وبصقت عمييا في احتقار‪.‬‬
‫قمت ليا ‪ ،‬وأنا في ذروة الغضب‪:‬‬
‫ػ أنت أقذر امرأة صادفتيا في حياتي‪.‬‬
‫أطمقت ضحكة معربدة ‪ ،‬وقالت وىي تصمح مف شأنيا‪:‬‬
‫ػ يبدو أنؾ ما زلت عذراء‪!..‬‬
‫ىتفت في ثورة‪:‬‬
‫ػ كيؼ تجرئيف عمى ىذه التصرفات الداعرة في مكاف كيذا؟‬
‫قالت مستيزئة وىي تمدغ بحرؼ الراء‪:‬‬
‫ػ ألـ أقؿ لؾ يا عزيزي بأنؾ ما زلت عذراء؟‬
‫ثـ أطمقت ضحكة مجمجمة ‪ ،‬وخرجت غير عابثة بثورتي وغضبي ‪ ،‬وتركتني فريسة لمذىوؿ‪..‬‬
‫مف أيف جاءتني ىذه العاىرة؟‪ ..‬وكيؼ تجرأت عمي في ىذه المحظات الحرجة ‪ ،‬وىي تعمـ المناسبة التي جئت مف‬
‫أجميا؟!‪ ..‬وتمفت حولي في قمؽ خشية أف يكوف أحدىـ قد رآني ‪ ،‬وفيـ موقفي عمى غير حقيقتو ‪ ،‬ماذا لو أف والد‬
‫أحبلـ قد رآني معيا ‪ ،‬وأنا الذي جئت ألخطب ابنتو؟‬
‫وخطر لي أف أغادر المكاف ببل رجعة ‪ ،‬لكني خشيت أف يفسر انسحابي تفسي ار خاطئا ‪ ،‬وأف يشوه صورتي أماـ‬
‫والد أحبلـ الذي حدد الموعد لمقائي ‪ ،‬لـ يكف أمامي خيار ‪ ،‬خرجت إلى غرفة االنتظار ‪ ،‬وجمست ‪ ،‬لـ تكف‬
‫السكرتيرة في الخارج كما توقعت!‪ ..‬شعرت بشيء مف االرتياح ألف منظرىا كاف سيثير غضبي ويوتر أعصابي ‪،‬‬
‫وقد يدفعني إلى تصرؼ عنيؼ ال يناسب المكاف الذي أنا فيو ‪ ،‬وال يخدـ الغرض الذي جئت مف أجمو‪.‬‬
‫كظمت غيظي ‪ ،‬وأنا أغالب بركانا مف الغضب ‪ ،‬وجعؿ العرؽ يتحدر مف جبيتي بغ ازرة ‪ ،‬فرحت أجففو بمنديؿ‬
‫ورقي‪ ..‬ال يوجد في الدنيا أكثر حرجا مف الموقؼ الذي وضعتني فيو ىذه المرأة الفاسدة‪!..‬‬
‫بعد دقائؽ قميمة فتح باب السيد عبد الغني ‪ ،‬فخرجت منو السكرتيرة بصحبة رجؿ يعمؽ عمى كتفو آلة تصوير ‪،‬‬
‫رمقتني السكرتيرة بطرؼ عينيا اليمنى في مكر ‪ ،‬وكأنيا تي أز بي ‪ ،‬فحدجتيا بنظرة متقززة ‪ ،‬وأنا أصر عمى‬
‫أسناني مف شدة الغيظ ‪ ،‬فأشاحت بوجييا عني بغير اكتراث ‪ ،‬والتقطت حقيبتيا الجمدية مف فوؽ مكتبيا بحركة‬
‫خاطفة ‪ ،‬وألقتيا خمؼ ظيرىا ‪ ،‬وقد عمقت طرؼ حمالتيا بسبابتيا ومضت وىي تتمايؿ في مشيتيا‪..‬‬

‫وفاجأني صوت ينبعث مف باب المدير‪:‬‬


‫عمي بالصور‪..‬‬
‫ػ ال تتأخر َّ‬
‫التفت إلى مصدر الصوت‪ ..‬رأيت كيبل أنيقا يقؼ لدى الباب‪ ..‬رد عميو الرجؿ الذي يحمؿ آلة التصوير‪:‬‬
‫ػ اطمئف‪ ..‬ستكوف جاىزة في غضوف ساعتيف‪.‬‬
‫ػ أريد لقطة مقنعة‪.‬‬
‫ىز الرجؿ رأسو في ثقة ‪ ،‬ومضى خمؼ السكرتيرة التي كانت قد توقفت قميبل تتابع الحديث‪.‬‬
‫مف ىذا الرجؿ الذي يقؼ عند باب المدير؟ أيكوف ىو والد أحبلـ؟‪..‬‬
‫إلي كالمتسائؿ‪:‬‬
‫ولـ يمبث أف أشار َّ‬
‫ػ أنت الػ‪....‬‬
‫وقفت باحتراـ ‪ ،‬وقاطعتو معرفا بنفسي‪:‬‬
‫ػ الدكتور صبلح الحكيـ‪..‬‬
‫ػ أىبل وسيبل‪ ..‬تفضؿ‪..‬‬
‫تقدمت خمفو ‪ ،‬فوجدت نفسي أدلؼ إلى مكتب واسع ‪ ،‬يزداف بأثاثو النفيس الذي ال أذكر أني صادفت مثمو مف‬
‫قبؿ‪!..‬‬
‫كاف المكتب ىادئا خاليا مف الزوار ‪ ،‬أثبت لي أف السكرتيرة المعوب كانت تكذب عمي ‪ ،‬عندما أخبرتني بأف السيد‬
‫عبد الغني مشغوؿ مع خبراء أجانب‪!..‬‬
‫وأيقنت أف الشخص الذي يتقدـ أمامي ىو والد أحبلـ ‪ ،‬لماذا كذبت عمي السكرتيرة؟ كاف بإمكانيا أف تخبرني بأف‬
‫السيد عبد الغني مشغوؿ مع المصور أو الصحفي الذي خرج قبؿ قميؿ!‪ ..‬أيمكف أف يكوف الخبراء األجانب قد‬
‫خرجوا مف باب آخر؟ جمت بنظراتي في أرجاء المكاف ألرى إف كاف لممكتب باب آخر ‪ ،‬لـ أجد ما يدؿ عمى ذلؾ‬
‫‪ ،‬لكني الحظت شيئا مثيرا‪ ..‬الحظت أف جدا ار مف الستائر المخممية الزرقاء السميكة يفصؿ بيف غرفة المدير ‪،‬‬
‫وغرفة االجتماعات التي جرت فييا الحادثة السخيفة قبؿ قميؿ‪!..‬‬
‫خشيت أف تكوف ىذه الستائر الزرقاء ىي الفاصؿ الوحيد بيف الغرفتيف ‪ ،‬فقمقؿ ىذا االحتماؿ كياني‪ ..‬إذا كاف والد‬
‫أحبلـ قد سمع أو رأى ما حدث ‪ ،‬فأنا في موقؼ ال أحسد عميو!‪ ..‬توقؼ السيد عبد الغني أماـ مكتبو األنيؽ‬
‫المصنوع مف الخشب النبيؿ ‪ ،‬ثـ دعني لمجموس عمى كرسي جمدي وثير‪..‬‬
‫فؾ السيد عبد الغني زر سترتو األنيقة ‪ ،‬وجمس قبالتي عمى كرسي مماثؿ‪ ..‬ثـ ابتسـ ابتسامة مرحبة امتصت‬
‫بعض القمؽ والتوتر الذي يمؤلني‪ ..‬قاؿ السيد عبد الغني بميجة مرحة‪:‬‬
‫ػ أىبل‪ ..‬أىبل بالدكتور العظيـ ‪ ،‬أحبلـ حدثتني عف شخصيتؾ الفريدة كثي ار ‪..‬أخبلقؾ بالذات كانت مثار إعجابنا‬
‫جميعا‪..‬‬
‫ثـ استدرؾ وىو يبسط يده موضحا‪:‬‬
‫ػ مف خبلؿ حديث أحبلـ طبعا‪..‬‬
‫أزاحت ىذه المقدمة المشجعة كؿ القمؽ الذي يجثـ عمى صدري ‪ ،‬فابتسمت ممتنا ليذا اإلطراء ‪ ،‬وىمست‪:‬‬
‫ػ أشكركـ عمى ىذه الثقة‪..‬‬
‫لكف القمؽ عاودني ‪ ،‬عندما وقعت عيناي عمى الستائر الزرقاء! ىؿ يعقؿ أف تكوف ىذه الستائر قد أخفت ما حدث‬
‫في الغرفة المجاورة عف انتباه السيد عبد الغني؟ وراودني خاطر مريح ‪ ،‬لعؿ ىذه الستائر تخفي خمفيا حائطا مف‬
‫اإلسمنت ‪ ،‬أو حاج از مف الزجاج!‪ ..‬تنيد السيد عبد الغني وقاؿ وىو يضرب فخذه براحتو كمف يشكو مف أمر‪:‬‬
‫ػ أحبلـ فتاة طيبة القمب ‪ ،‬وتتأثر كثي ار باآلخريف‪.‬‬
‫لـ أفيـ قصده بالضبط!‪ ..‬قمت مجامبل‪:‬‬
‫ػ ربيت يا سيدي ‪ ،‬فأحسنت التربية‪..‬‬
‫شردت فجأة ‪ ،‬وأنا أردد ىذه العبارة‪ ..‬تذكرت أف ىذا الرجؿ الذي أجاممو وأالطفو ‪ ،‬وىو نفسو الرجؿ الذي كاف‬
‫سببا في سقوط عمارة كاممة فوؽ رؤوس ساكنييا!‪ ..‬مف يصدؽ؟‪ ..‬مف يحزر أف وراء ىذه البسمة الوادعة واألناقة‬
‫المسرفة ‪ ،‬ذئب يخفي مخالبو تحت قفاز مف الجمد البشري؟!‪ ..‬وعزاني أني جئت ألنتزع أحبلـ الطاىرة البريئة مف‬
‫بيف براثنو ‪ ،‬ألنسج معيا الحياة الفاضمة التي نيفو إلييا معا ‪ ،‬ضحؾ والد أحبلـ وقد لحظ صمتي وشرودي ‪،‬‬
‫وقاؿ مداعبا‪:‬‬
‫ػ تشجع يا دكتور‪ ..‬ىؿ نسيت ما جئت مف أجمو!‬
‫ابتسمت وقمت وأنا أداري ارتباكا‪:‬‬
‫ػ أنت تعرؼ لماذا جئت؟‪ ..‬أحب أف أسمع رأيؾ الصريح‪.‬‬
‫ػ أنت تحب الصراحة إذف‪.‬‬
‫ػ الصراحة أوضح طريؽ‪.‬‬
‫ػ لكف الصراحة تكوف أحيانا قاسية‪!..‬‬
‫تفاؤلي ضوى قميبل ‪ ،‬ماذا يعني بيذه المبلحظة؟‪ ..‬لـ أنبس‪ ..‬أردتو أف يقوؿ ما عنده بجبلء‪ ..‬تناوؿ مف فوؽ‬
‫مكتبو عمبة أنيقة ‪ ،‬وفتحيا ‪ ،‬فانطمقت منيا ألحاف لطيفة‪ ..‬قاؿ وىو يقدـ العمبة لي‪:‬‬
‫ػ سيكارة؟‬
‫ػ ال أدخف‪.‬‬
‫ػ كما توقعت‪.‬‬
‫تناوؿ سيكارة ‪ ،‬ثـ أعاد العمبة إلى مكانيا ‪ ،‬قاؿ وىو يبحث عف الوالعة في جيب سترتو‪:‬‬
‫ػ ال أذكر أني التقيت برجؿ ال يدخف!‬
‫ػ لعمؾ لـ تنتبو ليذا األمر مف قبؿ!‬
‫ػ معؾ حؽ‪.‬‬
‫أشعؿ السيد عبد الغني السيكارة بميب قداحتو الذىبية ‪ ،‬ثـ امتص نفسا عميقا منيا وتابع يقوؿ‪:‬‬
‫ػ أنت تمفت نظري اآلف إلى شيء ميـ‪ ..‬ثمة أشياء كثيرة ال ألقي لو باال‪!..‬‬
‫ػ رجاؿ اإلعماؿ عادة ال ييتموف باألمور الصغيرة‪..‬‬
‫ػ ال أكتمؾ‪ ..‬عالـ األعماؿ عالـ غريب!‪ ..‬يمتيـ الوقت كما تمتيـ النار اليشيـ‪ ..‬لكنو عالـ لذيذ‪ ..‬عالـ ممتع‪ ..‬فيو‬
‫النجاح والربح والثراء‪ ..‬فيو الكفاية والقوة والنفوذ‪ ..‬بالماؿ تستطيع أف تشتري كؿ شيء‪ ..‬حتى السعادة‪..‬‬
‫قاطعتو برفؽ وقمت مع شيء مف االبتساـ‪:‬‬
‫ػ ليس دائما‪..‬‬
‫حدجني بنظرة جافة ال تريح ‪ ،‬لكنو سرعاف ما انتبو لنفسو ‪ ،‬فابتسـ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ الميـ‪ ..‬ماذا كنا نقوؿ؟ أنا أرب أحبلـ‪ ..‬أحبلـ نبتت في ىذا العالـ وحدىا ‪ ،‬كما تنمو الوردة في البراري‬
‫الخضراء‪ .‬وفرت ليا كؿ شيء ‪ ،‬ثـ تركتيا تترعرع بحري’ ‪ ،‬حتى أميا ػ مدامتي ػ لـ تضغط عمييا تركتيا تنمو‬
‫وحدىا بحرية ‪ ،‬أنا أؤمف بالحرية ‪ ،‬ومدامتي أيضا ‪ ،‬وظفنا ليا عدة خادمات يعنيف بيا ‪ ،‬وتركناىا تعتمد عمى‬
‫نفسيا ‪ ،‬كاف واجب مدامتي أف تراقب نموىا ‪ ،‬ألني مشغوؿ ػ كما ترى ػ بأعمالي الواسعة ‪ ،‬لكف المداـ ػ اهلل‬
‫يسامحيا ػ لـ تراقب تطور شخصيتيا كما يجب ‪ ،‬وىذا أكبر خطأ ارتكبتو في حياتيا‪..‬‬
‫ظنتت أنو سيحدثني عف الحناف الذي حرمت منو ابنتو المدلمة ‪ ،‬والصقيع الذي عاشتو في أعماقيا ‪ ،‬بعيدا عف‬
‫دؼء األبوة واألمومة ‪ ،‬لكنو فاجأني بتحميؿ غريب لـ يخطر لي عمى باؿ‪ ..‬قاؿ بميجة المحمؿ الخطير‪:‬‬
‫ػ ىذا الخطأ قتؿ الطموح في نفس أحبلـ ‪ ،‬جعميا تتأثر بخادماتيا البسيطات ‪..‬أصبحت تيوى حياة الفقراء‬
‫والبسطاء‪ ..‬لـ تتذوؽ السعادة التي نشأت في أحضانيا ‪ ،‬ولـ تحفؿ بيا‪ ..‬صارت تنظر إلى العالـ بمنظار أسود‪..‬‬
‫تبحث عف سعادة رومانسية كاذبة كالتي تق أر عنيا في الروايات ‪ ،‬وتسمع عنيا في األفبلـ ‪ ،‬يؤسفني أف ابنتي‬
‫فقدت قدرتيا عمى الطموح ‪ ،‬إنيا دائما مشدودة إلى تحت ‪ ،‬ال أدري كيؼ أنقذىا مف ىذه األفكار‪!..‬‬
‫آه‪ ..‬لقد بدأت التمميحات المؤذية!‪ ..‬إلى أيف تريد أف تصؿ أييا الرجؿ األنيؽ؟‪ ..‬شعرت أف مف واجبي أف أدفع‬
‫عف أحبلـ ‪ ،‬وأصوب نظرتو إلييا ‪ ،‬قمت متضاحكا‪:‬‬
‫ػ أختمؼ معؾ في أف الدكتورة فتاة ببل طموح ‪ ،‬فما أعجبني فييا حقا أنيا فتاة طموحة تبحث عف صورة تتكامؿ‬
‫فييا لذة المادة مع سعادة الروح ونظافة الوجداف‪..‬‬
‫وأردفت‪:‬‬
‫ػ يبدو لي أنؾ تبالغ قميبل في الحكـ عمى أحبلـ؟‬
‫سدد إلي نظرة غامضة ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ أنت تحب أحبلـ‪ ..‬أليس كذلؾ؟‬
‫أحرجني ىذا السؤاؿ ‪ ،‬في مجتمعنا ػ فيما أعمـ ػ ليس مف المألوؼ أف يستعمؿ الخاطب مصطمح الحب في حضرة‬
‫ولي أمر المخطوبة! قمت وأنا أحاوؿ اختبار الكممات المناسبة‪:‬‬
‫ػ لقد وجدت في أحبلـ فتاة مؤدبة ‪ ،‬ذكية ‪ ،‬حساسة ‪،‬طيبة ‪ ،‬يحمـ كؿ شاب بأف يقترف بمثميا ‪ ،‬فضبل عف أنيا‬
‫طبيبة مثمي ‪ ،‬ويمكف لكؿ واحد منا أف يتفيـ ظروؼ اآلخر بسيولة ‪ ،‬باختصار شديد أنا أرتاح إلييا جدا ‪ ،‬وأطمح‬
‫أف تكوف لي شريكة في ىذه الحياة‪.‬‬
‫نيض وقاؿ بنبرة حاسمة‪:‬‬
‫ػ يعني تحبيا‪.‬‬
‫صمت إعبلنا لمرضى‪ ..‬ىز رأسو كاليائس ‪ ،‬ثـ دار حوؿ مكتبو بخطوات متثاقمة ‪ ،‬وجمس خمفو‪ ..‬وقاؿ وىو ينقر‬
‫حافة مكتبو برأس سبابتو‪:‬‬
‫ػ مف يحب فتاة يا دكتور يجب أف يسعدىا‪.‬‬
‫ػ ما في ذلؾ مف شؾ‪!.‬‬
‫ػ ىؿ تممؾ أسباب السعادة التي تحتاجيا فتاة كأحبلـ؟‬
‫ػ أممؾ أسباب السعادة التي تحتاجيا أية فتاة‪.‬‬
‫ػ أحبلـ ليست أية فتاة‪.‬‬
‫أدركت ما يرمي إليو ‪ ،‬قمت‪:‬‬
‫ػ ال أنكر أف ألحبلـ وضعا خاصا ال تتمتع بو أية فتاة ‪ ،‬لكننا متفقاف ػ أنا وىي ػ عمى األساسيات التي تكفؿ لنا‬
‫السعادة التي نرجوىا‪.‬‬
‫سألني بغتة‪:‬‬
‫ػ ىؿ تستطيع أف تشتري ليا سيارة فخمة ‪ ،‬كالتي تركبيا اآلف؟‬
‫فاجأني السؤاؿ‪ ..‬أجبت وأناؿ محرج‪:‬‬
‫ػ في الحقيقة أممؾ سيارة متواضعة نستطيع أف نستخدميا ريثما تتحسف أوضاعنا‪.‬‬
‫قذفني بسؤاؿ آخر‪:‬‬
‫ػ ىؿ تستطيع أف تشتري ليا "فيبل" كالتي تقيـ فييا اآلف؟‬
‫لذت بالسكوت‪ ..‬ىذه ال أستطيعيا‪ ..‬ال اآلف وال غدا‪ ..‬لكنو لـ يرحـ سكوتي فرماني بسؤاؿ آخر‪:‬‬
‫ػ ىؿ تستطيع أف تقيـ ليا حفؿ زفاؼ يميؽ بيا وبأقربائيا ومعارؼ أبييا ‪ ،‬معارفي أنا ‪ ،‬أنا ال أستطيع أف أزؼ‬
‫ابنتي الوحيدة إلى بيت الزوجية في عرس صامت كالمأتـ‪ ..‬البد أف أقيـ ليا األفراح وادعوا الوزراء والكبراء ورجاؿ‬
‫األعماؿ‪.‬‬
‫بدأت أشعر باليوة السحيقة التي تفصؿ بيني وبيف أحبلـ‪ ..‬ىذا ما حذرني منو والدي منذ البداية‪ ..‬وىذا ما كاف‬
‫يجعمني أتردد في التفاعؿ مع مبادرات أحبلـ‪ ..‬ىا ىو أبوىا يصفعني بيذه الحقائؽ الجارحة ليجعمني أستسمـ ‪،‬‬
‫وأنسحب مف حياة ابنتو قبؿ أف يطردني منيا ‪ ،‬صمت ثانية ‪ ،‬لكنو لـ يرحـ صمتي‪ ..‬قاؿ بميجة الواعظ المتعالي‪:‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ يا بني ولدت وفي فميا ممعقة مف ذىب ‪ ،‬فإذا ما سحبت ىذه الممعقة مف فميا تذبؿ‪ ..‬تموت‪..‬‬
‫ىؿ تفيمني يا دكتور؟‪!..‬‬
‫أنا اآلف متيـ بالشروع بالقتؿ‪ ..‬مجرد إقدامي عمى خطبة أحبلـ يعني تيديدا ليا بالقتؿ ‪ ،‬وأداة الجريمة ىي ممعقة‬
‫الذىب التي يعني سحبيا مف فـ أحبلـ تفجير سعادتيا ‪ ،‬كما تنفجر القنبمة عند سحب صماـ األماف الذي يمجـ‬
‫طاقتيا!‪ ..‬ممعقة الذىب في نظره ىي الروح التي تضخ الحياة في عروؽ أحبلـ ‪!..‬لمت نفسي بقسوة ألني أقدمت‬
‫عمى ىذه الحماقة ‪ ،‬وطرقت أعتابا ال تنبغي لشاب متواضع مثمي ‪ ،‬كدت أرفع الراية البيضاء ‪ ،‬وأعتذر لمسيد عبد‬
‫الغني عف محاولتي لخطبة كريمتو المرفية الثرية ‪ ،‬لكف طيؼ أحبلـ الوادعة الرقيقة ‪ ،‬حضر فجأة ‪ ،‬وشحنني‬
‫بدفعة جديدة مف العزيمة واإلصرار ‪ ،‬ووجدتني أقوؿ لوالدىا في ثقة‪:‬‬
‫ػ عندما اخترت أحبلـ ‪ ،‬واختارتني‪ ..‬لـ تكف ىذه المعاني غائبة عف ذىننا ‪ ،‬لقد شرحت ليا ظروفي بصدؽ ‪ ،‬وىي‬
‫راضية بما ستقدـ عميو‪.‬‬
‫استند السيد عبد الغني بكمتي يديو عمى مكتبو ‪ ،‬واسترخى برأسو فوؽ كفيو المتشابكيف بقوة ‪ ،‬ثـ تنيد وقاؿ‪:‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬ىذا صحيح‪ ..‬أحبلـ راضية بما ستقد عميو ‪ ،‬لكنيا في أعماقيا ساذجة ‪..‬طفمة‪ ..‬ال تقدر عواقب األمور‪..‬‬
‫ال تقدر مسؤولية الزواج ‪ ،‬ومتطمبات المستوى المادي واالجتماعي الذي نشأت فيو‪..‬‬
‫بدأت أشعر باإلىانو‪ .‬كؿ كممة يقوليا ىذا الرجؿ المغرور ترفضني وتجرحني وتتيمني بالوضاعة المادية!‪ ..‬أي‬
‫عالـ ىذا الذي تعيشوف فيو؟‬
‫وأي منطؽ ىذا الذي تتحدثوف بو أييا المترفوف المغروروف بما أوتيتـ مف نعمة زائمة سوؼ تغادرونيا عاجبل أـ‬
‫آجبل ‪ ،‬لتعودوا إلى بطف األرض التي جئتـ منيا حفاة عراة تتضوروف جوعا وعطشا ‪ ،‬وتميثوف وراء قطرة لبف‬
‫تمنحكـ الحياة؟‬
‫أصبح موقفو أمامي واضحا ‪ ،‬ولـ يعد مف البلئؽ بكرامتي أف أبقى جالسا مع إنساف متغطرس ينظر إلي مف عؿ‬
‫وكأني قزـ ضئيؿ ‪ ،‬وىممت بالنيوض ‪ ،‬لكنو قاؿ وىو يحممؽ كالذاىؿ‪:‬‬
‫ػ ألوؿ مرة في حياتي تتحدى لي أحبلـ رأيا ‪ ،‬وتفرض عمي رغبتيا‪ ..‬ألوؿ مرة تصرخ أحبلـ في وجيي ‪ ،‬وتقوؿ‬
‫بإصرار ‪" :‬إذا لـ أتزوج الدكتور صبلح ‪ ،‬فمف أتزوج رجبل غيره‪"..‬‬
‫ثـ نيض وأردؼ ‪ ،‬وىو يجمع نظراتو الذاىمة ليركزىا نحوي‪:‬‬
‫ػ صورتؾ لي مبلكا يمشي عمى األرض!‪ ..‬فارسا نبيبل يذرع العالـ عمى حصانو األبيض ‪ ،‬ويمد يد المساعدة‬
‫لممحروميف والمظموميف والمستضعفيف!‪ ..‬مصمحا اجتماعيا جاء يحمؿ الخبلص ليذا العالـ المنيار!‪ ..‬لقد أثارت‬
‫فضولي لمتعرؼ عميؾ‪!..‬‬
‫ثـ ابتسـ ابتسامة محيرة ‪ ،‬وقاؿ كالمازح‪:‬‬
‫ػ ماذا فعمت بمب الفتاة يا رجؿ؟ يبدو أنؾ شاب عمى درجة خارقة مف الذكاء‪!..‬‬
‫خفؽ قمبي بحب أحبلـ ‪ ،‬وأدركت عمؽ إخبلصيا لي ‪ ،‬وطوقتني ثقتيا بي بالحياء ‪ ،‬فتراجعت عف قراري‬
‫باالنسحاب ‪ ،‬ووجدت في ذلؾ خيانة لئلنسانة التي قاومت رغبة أىميا مف أجمي ‪ ،‬وقررت أف أمضي مع والدىا‬
‫إلى نياية الشوط ‪ ،‬ألرى ما عنده ‪ ،‬محتمبل ىذه اإلشارات المؤذية التي تموح في كبلمو‪.‬‬
‫قاؿ السيد عبد الغني‪:‬‬
‫ػ أنا رجؿ عممي‪ ..‬أحب الحموؿ الواقعية ‪ ،‬وال أحب التشنج والعناد في الصفقات الخاسرة‪.‬‬
‫حسابات الربح والخسارة ‪ ،‬ولغة الصفقات تطغى عمى حديثة ‪ ،‬حتى وىو يعالج زواج ابنتو!!‪ ..‬أكمؿ أييا الرجؿ‪..‬‬
‫أكمؿ وقؿ ما تريد‪..‬‬
‫ػ أنت تريد أحبلـ وىي تريدؾ ‪ ،‬ومف حؽ كؿ منكما أف يختار‪.‬‬
‫بداية جميمة ال غبار عمييا‪..‬‬
‫تابع يقوؿ‪:‬‬
‫ػ لكف ما تريده أنت ‪ ،‬وما تريده ىي ‪ ،‬ال يمغي دوري في ىذا الزواج كأب حريص عمى مستقبؿ ابنتو‪.‬‬
‫سارعت بالتوضيح‪:‬‬
‫ػ معاذ اهلل أف أفكر بإلغاء دورؾ ‪ ،‬أنت والد أحبلـ ولرأيؾ عندي كؿ احتراـ‪..‬‬
‫ػ عظيـ ‪ ،‬أنا يا دكتور صبلح فكرت في األمر جيدا منذ أف فاتحتني أحبلـ بالموضوع ‪ ،‬وقد رأيت أف الحؿ ال‬
‫يكمف في الوقوؼ في وجو ىذا الزواج‪.‬‬
‫الح لي شعاع جديد مف األمؿ ‪ ،‬فرقت عمى شفتي ابتسامة صغيرة ‪ ،‬وتميفت لسماع بقية كبلمو‪ ..‬قاؿ‪:‬‬
‫ػ الحؿ يكمف في تحقيؽ عوامؿ الحياة ليذا الزواج حتى يعيش ويقاوـ الظروؼ الصعبة‪.‬‬
‫ثـ سألني كمف فطف ألمر‪:‬‬
‫ػ كيؼ أنت والتجارة؟‬
‫ػ التجارة؟!! لـ أجربيا يوما ‪ ،‬ولـ أفكر بيا ‪ ،‬أنا طبيب وأحمـ باالختصاص الطبي وتطوير خبراتي الطبية ‪ ،‬ولدي‬
‫طموحات في المستقبؿ إلقامة مستوصؼ متواضع‪.‬‬
‫قاؿ في استيانة ساخرة‪:‬‬
‫ػ الطب لـ يعد تجارة رابحة‪.‬‬
‫ػ الطب ليس تجارة ‪ ،‬ولـ يكف كذلؾ في يوـ مف األياـ‪.‬‬
‫وضح رأيو قائبل‪:‬‬
‫ػ أقصد أف الطب بات مينة كاسدة ‪ ،‬كثر األطباء وزادت أعدادىـ ‪ ،‬ولـ تعد مينة الطب تمؾ المينة التي تدر‬
‫الماؿ الوفير ‪ ،‬وتؤمف لصاحبيا المستوى المادي المتفوؽ ‪ ،‬لقد انتيى عصر الشيادات واالختصاصات العممية ‪،‬‬
‫وبدأ عصر رؤوس األمواؿ ‪ ..‬بمالؾ اليوـ تستطيع أف توظؼ عشرات المثقفيف والميندسيف واألطباء ‪ ،‬إذا شئت‪!..‬‬
‫البسمة الفرحة التي كادت تتسع توقفت عف النمو‪ ..‬ما زاؿ ىذا الرجؿ يسئ إلي بكمماتو ‪ ،‬ترى؟‪ ..‬ىؿ يتقصد ذلؾ‬
‫‪ ،‬أـ أنو يخطئ اختيار الكممات؟‪!..‬‬
‫وأردؼ قائبل‪:‬‬
‫ػ فيما مضى حزنت كثي ار ألني لـ أستطع أف أناؿ شيادة أو أدخؿ جامعة ‪ ،‬لكني أدركت اآلف أف ذلؾ كاف نعمة‬
‫وتوفيقا ‪ ،‬فمو أني انيمكت في الدارسة والتحصيؿ ‪ ،‬لما استطعت أف أقيـ إمبراطورية األعماؿ التي أتربع عمى‬
‫عرشيا اآلف‪.‬‬
‫قمت وأنا أرثي لقناعاتو‪:‬‬
‫ػ الماؿ ليس كؿ شيء في الحياة‪.‬‬
‫قاطعني بحدة ‪ ،‬وقاؿ وىو يموح بيد قد تشنجت أصابعيا حوؿ قبضة مف الفراغ‪:‬‬
‫ػ خطأ‪ ..‬خطأ‪ ..‬الماؿ ىو كؿ شيء‪ ..‬ببل ماؿ ال تستطيع أف تكوف سعي‪ ..‬ال تستطيع أف تكوف قويا‪ ..‬ال تستطيع‬
‫أف تعيش‪..‬‬
‫ثـ بميجة أقؿ حدة وعنفا‪:‬‬
‫ػ ال تستطيع أف تتزوج‪..‬‬
‫أزعجتني ىذه الميجة الصاخبة ‪ ،‬فقمت‪:‬‬
‫ػ أنا ال أغفؿ دور الماؿ في حياتنا ‪ ،‬لكني ال أستطيع أف أحص السعادة فيو‪..‬‬
‫أشاح بيده كمف يفتح صفحة جديدة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ما عمينا‪ ..‬خمنا في الميـ‪.‬‬
‫ػ تفضؿ‪.‬‬
‫ػ أنت تريد أف تتزوج أحبلـ‪..‬‬
‫ػ ىذا يشرفني‪..‬‬
‫ػ وزواجؾ منيا حتى يعيش يجب أف يكوف مشفوعا بدخؿ عاؿ ال تحققو لؾ مينة الطب‪.‬‬
‫ػ لست مضط ار ليذا الدخؿ العالي!‬
‫ػ أنا أشترطو لمموافقة عمى زواجؾ مف ابنتي‪.‬‬
‫شعرت أنو يريد أف يفرض عمي إرادتو ‪ ،‬فكظمت داخمي غضبة تريد أف تنفمت لتعبر عف رفضي ليذا األسموب‬
‫الذي يعاممني بو ‪ ،‬قمت لو متظاى ار باليدوء‪:‬‬
‫ػ أستطيع أف أقوؿ بأف دخمي متوسط ‪ ،‬وأطمح ألف أزيده ‪ ،‬لكف نموه يحتاج إلى عنصري الزمف ‪ ،‬والدأب ‪ ،‬ىذه‬
‫ظروفي ‪ ،‬وال أستطيع أف أخمؽ غيرىا‪.‬‬
‫قاؿ واثقا‪:‬‬
‫ػ بؿ تستطيع‪.‬‬
‫ػ كيؼ؟‬
‫ػ بصفقة واحدة‪.‬‬
‫ػ صفقة‪!.‬‬
‫ػ وتربح مئة ألؼ دوالر‪.‬‬
‫ػ مئة ألؼ دوالر‪!!..‬‬
‫ػ تربحيا بسيولة‪.‬‬
‫نظرت إليو في شؾ ‪ ،‬كاف العرض مفاجئا ومثي ار ‪ ،‬قمت محذ ار‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ أف تبلحظ يا سيدي بأني ال أحب المكاسب السيمة التي تقدـ إلي كمساعدة‪.‬‬
‫ػ مف قاؿ بأني أقدـ لؾ مساعدة؟!‪ ..‬أنا أعرض عميؾ صفقة نتبادؿ فييا المصالح ‪ ،‬تقدـ لي خدمة ‪ ،‬وتقبض‬
‫ثمنيا ماال‪ ..‬مئة ألؼ دوالر تكسبيا بجيدؾ وخبرتؾ ‪ ،‬ثـ تنطمؽ إلى دنياؾ الجديدة ‪ ،‬وأنت تممؾ أسباب السعادة‬
‫والرفاه‪ ..‬ومف يدري؟ فقد توظؼ ىذا المبمغ في مشروع تجاري ‪ ،‬فتسكب أضعاؼ مضاعفة وتصبح مف أصحاب‬
‫المبلييف‪ ..‬اسألني أنا‪ ..‬أنا بدأت مف ال شيء‪ ..‬بدأت ماسح أحذية ‪ ،‬وانتييت مميارديرا‪ ..‬برأسماؿ صغير كونت‬
‫إمبراطورية تجارية ال تغيب عنيا الشمس ‪ ،‬ألـ تسمع بإمبراطورية عبد الغني الذىبي؟‬
‫ابتسمت مجامبل ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ سمعت فقط باإلمبراطور‪.‬‬
‫دغدغت كمماتي غروره ‪ ،‬فضحؾ ضحكة ممزوجة بالفخر ‪ ،‬ثـ قاؿ وىو يشير إلى نفسو في زىو بالغ‪:‬‬
‫ػ وىا ىو اإلمبراطور أمامؾ ‪ ،‬يفتح لؾ أبواب السعادة عمى مصراعييا ‪ ،‬وافؽ حتى تفوز باألميرة‪.‬‬
‫ػ أريد أف أعرؼ دوري في الصفقة!‬
‫ػ لو كنت مكانؾ لما سألت عف دوري ‪ ،‬بؿ وافقت عمى الدور ميما كف ‪ ،‬ألفوز باإلنسانة التي أحبيا‪.‬‬
‫ثـ أردؼ وىو يسترخي عمى كرسيو‪:‬‬
‫ػ يبدو أنؾ زاىد بالربح الذي ستكسبو ‪ ،‬أـ أنؾ زاىد باألميرة؟‬
‫شعرت بأني أجمس أما داىية صعب‪ ..‬مراوغ مف طراز نادر‪ ..‬لماذا يريد أف يثير لعابي طمعا بدوالراتو؟‪ ..‬لماذا‬
‫يربط زواجي مف أحبلـ بيذه الصفقة؟‪ ..‬ال أنكر أف العرض كاف مغريا ‪ ،‬وفيو قفزة مادية تساعدني عمى تحقيؽ‬
‫أحبلمي ‪ ،‬ولكف ‪..‬مئة ألؼ دوالر؟!‪ ..‬لقاء ماذا؟!!!‬
‫وكررت في إلحاح ‪:‬‬
‫ػ مازالت مص ار عمى معرفة دوري‪!..‬‬
‫ػ ىذا مف حقؾ‪ ..‬حسنا‪ ..‬منذ سنوات‪..‬‬
‫ثـ استدرؾ فجأة ‪ ،‬وسألني‪:‬‬
‫ػ ماذا تشرب؟‬
‫ػ أي شيء‪.‬‬
‫ػ قيوة؟‬
‫ػ فميكف‪..‬‬
‫رفع والد أحبلـ سماعة الياتؼ وطمب فنجانيف قيوة ‪ ،‬ثـ أعاد السماعة بيدوء وىو شارد ‪ ،‬وكأنو يحاوؿ أف يرتب‬
‫أفكاره ‪ ،‬قاؿ بعد صمت قصير‪:‬‬
‫ػ منذ فترة شاع استعماؿ األغذية المعمبة لؤلطفاؿ‪ ..‬فقمت باستيراد كميات ىائمة مف ىذه األغذية ‪ ،‬بناء عؿ‬
‫نصيحة أحد المستشاريف في الشركة ‪ ،‬وفعبل ‪..‬طرحنا األغذية المعمبة في السوؽ ‪ ،‬فبلقت رواجا واقباال مف‬
‫الجميور ‪ ،‬لكف التجار سرعاف ما انتبيوا إلى جدوى ىذا النوع مف التجارة ‪ ،‬فتيافتوا عميو ‪ ،‬وأغرقوا السوؽ بأغذية‬
‫األطفاؿ المعمبة ‪ ،‬واستورد بعضيـ أنواعا رخيصة مف ىذه األغذية ‪ ،‬فأقبؿ الناس عمييا ‪ ،‬فاضطررت لتخفيض‬
‫أسعار األصناؼ التي استوردتيا ‪ ،‬لكف المنافسة كانت قوية ‪ ،‬فمـ أستطع تسويؽ كؿ الكميات التي أممكيا ‪ ،‬وكسد‬
‫جزء كبير منيا في المستودعات‪ ..‬واآلف‪ ..‬أممؾ أكثر مف نصؼ مميوف عمبة تحتاج إلى تسويؽ قبؿ نياية ىذا‬
‫الشير‪!..‬‬
‫لـ أفيـ معنى التحديد في التاريخ!‪ ..‬تساءلت مستفس ار‪:‬‬
‫ػ لماذا قبؿ نياية ىذا الشير؟‬
‫أشعؿ والد أحبلـ سيكارة جديدة ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ أنت تعرؼ أف الشركات الصانعة لممواد العذائية المعمبة ‪ ،‬تضع زمنا محددا الستيبلؾ ىذه األغذية ‪ ،‬تنتيي‬
‫بانتياء صبلحية استعماليا‪..‬‬
‫أضفت موضحا‪:‬‬
‫ػ ىذا صحيح ‪ ،‬فاألغذية المعمبة يمكف أف تتعرض بعد انتياء ىذا الزمف لمفساد ‪ ،‬ألف المواد المضافة إلييا‬
‫لتحفظيا تفقد فعاليتيا ‪ ،‬وقد يط أر عمى ىذه المواد الحافظة تحوؿ كيميائي ‪ ،‬فتنقمب إلى مف مواد حافظة لمغذاء‬
‫إلى مواد سامة‪..‬‬
‫أحسست أنو لـ يرتح لتوضيحي!‪ ..‬قمت في نفسي لعي ألقيت كمماتي بميجة المتعالـ ‪ ،‬أو لعمو ال يحب أف يقاطعو‬
‫أحد في الكبلـ!‪ ..‬أفسحت لو الفرصة ليتابع حديثة‪ ..‬رمقني ىنية ‪ ،‬ثـ قاؿ بنبرة حذرة‪:‬‬
‫ػ لكف ىناؾ شيء ميـ ال أظنؾ تجيمو!‬
‫ػ ما ىو؟‬
‫ػ أف الشركات الصانعة تحتاط لؤلمر ‪ ،‬فتضع تاريخا مبك ار النتياء زمف االستعماؿ‪.‬‬
‫ػ ىذا مف باب الوقاية‪..‬‬
‫ابتسـ فيما يشبو الرضا ‪ ،‬ثـ قاؿ بميجة عمت فييا نبرة الحماس‪:‬‬
‫ػ ىذا يعني أف استعماؿ األغذية المعمبة بعد انتياء االستعماؿ بأشير قميمة ال يشكؿ خطورة عمى حياة المستيمؾ‪..‬‬
‫أزعجني ىذا االستنتاج المتسرع ‪ ،‬ودفعني لبلعتراض‪ ..‬قمت جازما‪:‬‬
‫ػ بؿ يشكؿ خطورة كبيرة ‪ ،‬وينطوي عمى مجازفة ال تحمد عقباىا‪.‬‬
‫قاؿ في محاولة إلقناعي‪:‬‬
‫ػ لكنا اتفقنا أف تاريخ انتياء االستعماؿ المسجؿ عمى عمب األغذية تاريخ وقائي لبلحتياط فقط‪!..‬‬
‫ػ ىذا ال يبرر استعماليا بعد ىذا التاريخ‪.‬‬
‫ػ ىذا الكبلـ يقاؿ كقاعدة عامة ‪ ،‬لكف‪ ..‬لكؿ قاعدة استثناء‪.‬‬
‫أثارتني ىذه السفسطة التي يمعف فييا والد أحبلـ ‪ ،‬وحرت في النياية التي يريد أف يصؿ إلييا!‪ ..‬قمت في إصرار‪:‬‬
‫ػ القواعد التي تتعمؽ بصحة الناس وسبلمتيـ ال تخضع لبلستثناءات‪.‬‬
‫امتعض وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ تعرؼ كـ سأخسر إذا انتيت مدة استيبلؾ أغذية األطفاؿ المعمبة المكدسة عندي في المستودعات؟‪..‬‬
‫ثـ أردؼ يجيب عف سؤالو بنفسو‪:‬‬
‫ػ سأخسر مميوف دوالر‪..‬‬
‫ػ خسارة فادحة ببل شؾ‪!..‬‬
‫ػ بؿ كارثة‪.‬‬
‫ػ وكيؼ ستتصرؼ؟‬
‫ػ ليس أمامي خيار‪ ..‬يجب أف أسوقيا بسعر التكمفة‪.‬‬
‫ػ وتستطيع أف تسوقيا قبؿ نياية الشير؟!‬
‫ابتسـ في دىاء وقاؿ بنبرة مكر‪:‬‬
‫ػ إذا ساعدتني أستطيع‪!.‬‬
‫ػ أنا؟‬
‫ػ ولؾ عشرة بالمئة مف المميوف‪..‬‬
‫نظرت إليو في ريبة!‪ ..‬ماذا يريد مني ىذا الرجؿ؟‪ ..‬وماذا يمكف أف أقدـ لو إلنقاذ تجارة كاسدة بقيمة مميوف‬
‫دوالر؟‪..‬‬
‫قمت مستوضحا‪:‬‬
‫ػ أريد أف أعرؼ دوري بالضبط‪!..‬‬
‫ػ ىؿ نتكمـ بصراحة؟‬
‫ػ إذا سمحت‪..‬‬
‫ودخؿ الناذؿ بالقيوة ‪ ،‬فقدميا لنا ثـ انصرؼ ‪ ،‬قاؿ والد أحبلـ بعد أف تأكد مف أف النادؿ قد أغمؽ خمفو الباب‪:‬‬
‫ػ ال أخفيؾ يا دكتور بأني عرضت أغذية األطفاؿ عمى تجار كثيريف ‪ ،‬وبسعر الكمفة ‪ ،‬لكنيـ اعتذروا ‪ ،‬أرادوني‬
‫أف أبيعيـ العمبة بسعر زىيد ‪ ،‬لكني رفضت‪ ..‬أنا ال أتاجر ألخسر‪ ..‬قد أبيع بسعر الكمفة عندما أضطر ‪ ،‬لكني‬
‫أرفض أف أخسر‪ ..‬ولـ أيأس‪ ..‬تابعت محاوالتي لتسويؽ الكمية الكاسدة عندي‪ ..‬وحدث أف تعرفت عمى تاجر‬
‫كبير في اليؼ‪ ..‬أقنعتو بالصفقة ‪ ،‬فوافؽ ‪ ،‬لكنو عندما عمـ بأف تاريخ االستيبلؾ سينتيي مع نياية الشير أحجـ‪..‬‬
‫وضحت لو أف ىذا التاريخ وقائي لبلحتياط ‪ ،‬وأنو ال خطورة مف استيبلؾ األغذية بعده بأشير قميمة ‪ ،‬لكنو أصر‬
‫أف يسمع ىذا الكبلـ مف فـ طبيب‪ ..‬أعتقد أنؾ اآلف فيمت دورؾ جيدا في الصفقة‪!..‬‬
‫شعرت باإلىانو تسربمني مف رأسي حتى قدمي!‪ ..‬وقفت غاضبا ‪ ،‬وىدرت في وجيو‪:‬‬
‫ػ ىذه محاولة دنيئة لشرائي بحفنة مف الدوالرات‪!..‬‬
‫واجو ثورتي بابتسامة ‪ ،‬لـ يكف يستبعد ردة فعمي ‪ ،‬فاستعد لو بشيء مف الحمـ والمكر ‪ ،‬وقاؿ محاوال تيدئتي‪:‬‬
‫ػ ميبل‪ ..‬ميبل‪ ..‬ال داعي لكؿ ىذا الغضب‪ ..‬ما ىكذا يتكمـ الشباف عندما يخطبوف بنات الناس‪ ..‬اجمس وتكمـ‬
‫بروية ‪ ،‬فنحف مازلنا في صدد الخطبة‪!..‬‬
‫أثارني ىدوؤه إلى درجة االنفجار‪ ..‬قمت في حنؽ‪:‬‬
‫ػ أنت تستعمؿ موضوع الخطبة مف أجؿ مآرب مريضة‪.‬‬
‫ػ دعؾ مف ىذا التمثيؿ ‪ ،‬والتفت لما ينفعؾ‪..‬‬
‫ػ أنا ال أمثؿ‪ ..‬وال أسمح باستخداـ ىذه األساليب معي‪..‬‬
‫ػ سأرفع مكسبؾ إلى مئتي ألؼ دوالر‪.‬‬
‫ػ إمبراطوريتؾ كميا ال تغريني‪.‬‬
‫تابع بنفس اليدوء‪:‬‬
‫ػ ثمة أطباء يرضوف القياـ بيذا الدور مف أجؿ عشر المبمغ الذي ستربحو مف ىذه الصفقة‪.‬‬
‫ػ ال يوجد إنساف نظيؼ يرضى أف يخوف ضميره ‪ ،‬ويروج لبضاعة فاسدة يمكف أف تؤذي أطفاال أبرياء‪.‬‬
‫ػ إنيا بضاعة سميمة ‪ ،‬كؿ ما في األمر أننا سنستفيد مف زمف الوقاية‪.‬‬
‫ػ ىؿ تعرؼ لماذا استعممت الشركات الصانعة زمف الوقاية ىذا؟‬
‫كتؼ يديو‪ ،‬ووقؼ يسمعني في غيظ‪ ..‬تابعت غير عابئ بو‪:‬‬
‫ػ زمف الوقاية ىذا وضع بالحسباف خوفا مف احتماؿ فساد واحدة بالمميوف مف عمب الغذاء‪ ..‬يعني احتماؿ إيذاء‬
‫كفؿ مف مميوف طفؿ‪..‬‬
‫ػ وايذائي؟‪ ..‬أال يستحؽ أف يوضع بالحسباف؟‬
‫ػ الماؿ يمكف تعويضو ‪ ،‬أما الحياة فبل تعوض‪ ..‬ال أدري كيؼ تجرؤ عمى المقامرة بأرواح األطفاؿ‪!!..‬‬
‫قاؿ في محاولة أخيرة لمضغط عمي‪:‬‬
‫ػ كنت أظنؾ تحب أحبلـ‪.‬‬
‫ػ ومازلت‪..‬‬
‫ػ لو كنت تحبيا لفعمت ما يساعدؾ عمى االقتراف بيا‪.‬‬
‫ػ مف يحب ال يشتري سعادتو بشقاء الناس‪.‬‬
‫قاؿ بحدة وقد بدأ يخرج عف طوره‪:‬‬
‫ػ أنت إنساف ضيؽ األفؽ ال تعرؼ ىذه الدنيا؟‬
‫ػ إذا كانت ىذه الدنيا ‪ ،‬فأنا أرفضيا‪ ..‬سأدعيا لؾ وألمثالؾ ألنيا دنيا مسمومة‪.‬‬
‫ىتفت في ثورة وحنؽ‪:‬‬
‫ػ مف تظف نفسؾ؟‪ ..‬آه‪ ..‬مبلكا؟‪ ..‬نبيا؟‪ ..‬لقد انتيى عصر األنبياء‪.‬‬
‫ثـ أردؼ يقوؿ بنفس الميجة المتغطرسة‪:‬‬
‫ػ كاف بإمكاني أف أرفض لقاءؾ منذ البداية ‪ ،‬لكني أحببت أف أساعدؾ ‪ ،‬وىا أنت ترفض مساعدتي ‪ ،‬وتستعمي‬
‫عمييا ‪ ،‬كاف يجب أف تعرؼ مف أنت ‪ ،‬قبؿ أف ترفع عينيؾ إلى فتاة ال تستحؽ ظفرىا‪.‬‬
‫قمت وأنا أرمقو بنظرة تنضح باالحتقار‪:‬‬
‫ػ بإمكاني أف أسمعؾ كبلما غميظا لـ تسمع بو مف قبؿ ‪ ،‬لكني أترفع أف أنزؿ إلى المستوى الذي عاممتني بو‪.‬‬
‫قاؿ متوعدا‪:‬‬
‫ػ أنت ال تعرؼ مف تتحدى!‬
‫ػ أنت مغرور بنقودؾ‪.‬‬
‫ػ بإمكاني أف أؤذيؾ‪.‬‬
‫ػ ىؿ أفيـ ىذا عمى أنو تيديد؟‬
‫ػ سمو ما شئت‪ ..‬وسترى‪....‬‬
‫الفصل الثاني والعشرون‬

‫خرجت وأنا أنتفض مف الغضب ‪ ،‬وعندما أسممتني قدماي إلى الشارع ‪ ،‬أحسست بعمؽ الجرح الذي خمفو ىذا‬
‫المقاء العاصؼ في نفسي ‪.‬ارتميت في سيارتي كالخائر ‪ ،‬وألقيت برأسي عمى المقود ‪ ،‬ورحت أستذكر كؿ ما‬
‫كاف‪ ..‬اآلف فيمت كؿ شيء‪ ..‬لقد وجد والد أحبلـ أف رفضو لرغبة ابنتو في الزواج مني ‪ ،‬سيزيدىا إص ار ار عمى‬
‫موقفيا وتمسكا برأييا ‪ ،‬فحاوؿ بدىائو أف يستوعبيا ‪ ،‬فأبدى استعداده لمقائي وبحث األمر معي ‪ ،‬وقد أعد في‬
‫خيالو خطة خبيثة لتشويو صورتي أماـ أحبلـ‪ ..‬ظف أف كؿ الناس مثمو‪ ..‬يسقطوف أماـ بريؽ الماؿ ‪ ،‬ويستسمموف‬
‫في سبيمو بسيولو‪ ..‬صور لو خيالو المريض أني شاب سيؿ المناؿ ‪ ،‬لف تصمد مثمو وأخبلقو أماـ عرضو المغري‬
‫‪ ،‬فحاوؿ شرائي بمئتي ألؼ دوالر ‪ ،‬أبيع بيا ضميري ‪ ،‬وأستغؿ لقبي الطبي ألفتي لو بصبلحية األغذية الفاسدة ‪،‬‬
‫فيسوؽ بضاعتو الكاسدة ‪ ،‬وأسقط في نظر أحبلـ‪ ..‬ىذا الذئب األنيؽ ‪..‬كـ أوتي مف الخبث والدىاء؟!‪ ..‬كؿ حركة‬
‫عنده مرسومة ومحسوبة بدقة‪ ..‬يريد دائما أف يربح‪ ..‬حتى الخسارة يوظفيا ‪ ،‬ويستفيد منيا في تحقيؽ ربح أو فوز‬
‫جديد‪..‬‬

‫وعدت أدراجي إلى البيت ‪ ،‬فأغمقت عمي باب غرفتي‪ ..‬واستمقيت فوؽ سريري منيكا ساخطا كئيبا ‪ ،‬وقد أرىقت‬
‫نفسي الصدمة التي تمقيتيا عمى يد والد أحبلـ‪ ..‬ىذا الرجؿ القاسي الذي مؤله الماؿ غرو ار وغطرسة واستيانة‬
‫بمشاعر الناس ومصائرىـ!‪ ..‬واستغرؽ تفكيري سؤاؿ كبير‪ :‬كيؼ سأتمكف مف إنقاذ أحبلـ البريئة الرقيقة مف بيف‬
‫مخالب أبييا الذي يقؼ حاج از عنيدا بيني وبينيا؟‪ ..‬واعترض أفكاري طرؽ عمى الباب ‪ ،‬فاعتذرت عف فتحو‬
‫متذرعا بالتعب واإلرىاؽ ‪ ،‬عاد الطرؽ مشفوعا بصوت أمي وىي تقوؿ‪:‬‬

‫ػ جاءتؾ رسالة ‪ ،‬افتح وخذىا‪..‬‬

‫رسالة!‪ ..‬ما ىذه الرسالة؟‪.‬‬

‫دفعني الفضوؿ لمعرفة مصدر الرسالة وفحواىا ‪ ،‬فنيضت متثاقبل ‪ ،‬وفتحت الباب ‪ ،‬قالت أمي وىي تراني أقطر‬
‫كآبة‪:‬‬

‫ػ ماذا بؾ؟ ال تبدو بخير‪!..‬‬

‫ػ متعب قميبل‪ِ ..‬‬


‫ىات الرسالة‪.‬‬

‫أعطتني الرسالة وىي تشممني بنظرات قمقة ‪ ،‬قالت بنبرة حانية‪:‬‬

‫ػ ىؿ أصنع لؾ شيئا؟ تبدو وكأنؾ مريض‪.‬‬


‫ػ ال‪ ..‬لست مريضا‪ ..‬فقط دعوني أرتاح‪.‬‬

‫ػ كما تشاء‪..‬‬

‫وكادت تمضي ‪ ،‬فاستوقفتيا وأنا أقمب الرسالة بيف يدي‪:‬‬

‫ػ مف أحضر الرسالة؟‬

‫ػ رجؿ غريب‪ ..‬أعطانييا ثـ مضى بسرعة‪!.‬‬

‫ػ إنيا ببل عنواف‪!.‬‬

‫ػ لكف ‪ ،‬مكتوب عمييا أف نسمميا لؾ شخصيا‪.‬‬

‫ػ صحيح ‪ ،‬ولكف ‪ ،‬مف أرسميا؟‬

‫ػ افتحيا وستعمـ‪..‬‬

‫فضضت الرسالة ‪, ،‬أخرجت ما فييا بسرعة ‪ ،‬فصفعتني المفاجأة ‪ ،‬وأذىمتني ‪ ،‬وقرأت أمي في وجيي غضبا‬
‫وانفعاال فسألتني عمى الفور‪:‬‬

‫ػ ما بؾ؟ لماذا انقمب لونؾ ىكذا؟‬

‫قمت متمعثما ‪ ،‬وأنا أخفي الرسالة خمؼ ظيري‪:‬‬

‫ػ ال شيء‪ ..‬ال شيء‪..‬‬

‫سددت أمي نظرة ثاقبة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫ِ‬
‫تخؼ عني ‪ ،‬فأنا أمؾ ‪ ،‬وأستطيع أف أستشؼ ما بداخمؾ ‪ ،‬لقد أثارتؾ الرسالة إثارة بالغة‪!.‬‬ ‫ػ ال‬
‫ػ قمت لؾ ال شيء‪..‬‬

‫ػ بؿ ىناؾ شيء‪.‬‬

‫ػ رسالة مف صديؽ‪ ..‬ىذا كؿ ما في األمر‪.‬‬

‫ػ وتثيرؾ إلى ىذا الحد؟!‬

‫ػ أرجوؾ أف تتركيني لوحدي‪..‬‬

‫ػ أنت تخفي عني أم ار خطي ار‪...‬‬

‫ػ أرجوؾ‪..‬‬

‫استسممت أمي لرغبتي ‪ ،‬وغادرتني قمقة متوجسة ‪..‬أغمقت الباب خمفيا ‪ ،‬وتيالكت عمى كنبة قريبة ‪ ،‬ورحت أتأمؿ‬
‫ما حممتو لي الرسالة‪..‬‬

‫مفاجآت الذئب األنيؽ عبد الغني الذىبي لـ تنتو بعد كما تصورت ‪ ،‬وخططو الدنيئة كانت أبعد مما أسأت بو‬
‫الظف‪ ..‬حادثت السكرتيرة المعوب لـ يكف صدفة بحتو ‪ ،‬أو تصرفا عابثا مف امرأة سطت عمييا الرغبة ‪ ،‬وفقدت‬
‫كوابح اإلرادة‪ ..‬بؿ كاف تصرفا مدب ار مرسوما بإتقاف!‪ ..‬وىا ىي الصورة التي حممتيا لي الرسالة تثبت ذلؾ‪..‬‬

‫لقد استطاع المصور الذي قابمتو خارجا مف مكتب والد أحبلـ ‪ ،‬أف يخفي كاميرتو خمؼ األستار المخممية الزرقاء‬
‫‪ ،‬ويمتقط لي صو ار عديدة وأنا أحاوؿ مساعدة السكرتيرة ‪ ،‬واختار منيا لقطة مقنعة كما أوصاه سيده‪" ..‬أريد لقطة‬
‫مقنعة"‪ ..‬وىؿ ىناؾ لقطة أكثر إقناعا وتشوييا لسمعتي مف صورة السكرتيرة المعوب وىي تطوقني بذراعييا ‪،‬‬
‫وتقبمني؟ ‪!..‬األوغاد‪ ..‬مف يرى الصورة ال يصدؽ أف ما جرى كاف خدعة قذرّة!‪ ..‬في أي عالـ نعيش؟‪!..‬‬

‫وأمعنت التأمؿ في الصورة وأنا أرتج مف شدة الغيظ والغضب‪ ..‬إنيا صورة محرجة تخيرىا والد أحبلـ بخبث‬
‫لمضغط عمي وابتزازي ‪ ،‬إنو محتاط لكؿ أمر ‪ ،‬ومصمـ عمى تشويو صورتي أماـ أحبلـ ‪ ،‬وقد توقع أال تفمح معي‬
‫سياسة الترغيب ‪ ،‬فابتكر وسيمة لمترىيب‪ ..‬يا لو مف طاغية حقير‪..‬‬
‫وكدت أنيض مف فوري ‪ ،‬وأذىب إليو ألنشب أظافري في رقبتو ‪ ،‬وأحطـ جمجمتو التي يطبخ فييا مؤامراتو الدنيئة‬
‫‪ ،‬لكف صوت أمي عاد يناديني مف خمؼ الباب ‪ ،‬ألرد عمى مكالمة ىاتفية قد وردت لمتو‪ .‬رجوتيا أف تعتذر عني‬
‫‪ ،‬ألني كنت في حالة نفسية ال تسمح لي بالحديث مع أحد ‪ ،‬فأخبرتني بأف المتحدث يقوؿ بأنو صاحب الرسالة ‪،‬‬
‫وأنو يريدني ألمر ىاـ‪ ..‬عبد الغني يطاردني في بيتي! يريد أف يعرؼ ردة فعمي عمى مفاجآتو ‪ ،‬ويساومني‬
‫عمييا!‪ ..‬القذر‪!!..‬‬

‫نقمت الياتؼ إلى غرفتي خشية أف يمحظ انفعالي أحد ‪ ،‬أو يمتقط كمماتي ويفسرىا عمى ىواه ‪ ،‬فـ أكف أدري بأية‬
‫ليجة سأخاطب بيا ىذا الوغد!‪ ..‬قمت لو وأنا أتميز مف الغيظ‪:‬‬

‫ػ كاف بإمكانؾ أف ترفضني دوف المجوء إلى ىذه األساليب القذرة التي ال تقدـ عمييا إال عصابات المافيا وحثاالت‬
‫البشر‪.‬‬

‫ضحؾ ضحكة تفيض بالتشفي ‪ ،‬وقاؿ بصوت ىادئ ‪ ،‬وكأنو يمارس لعبة مسمية‪:‬‬

‫ػ أنت يا عزيزي لـ تترؾ لي خيا ار ‪ ،‬لقد اختطفت قمب البنت وارادتيا ‪ ،‬ولعبت برأسيا حتى جعمتيا تتحداني ‪،‬‬
‫وتفرض عمي رغبتيا ‪ ،‬التي ىي في الحقيقة رغبتؾ‪.‬‬

‫ػ لماذا تتصور أف أحبلـ خاضعة لتأثير مني؟ لماذا ال تريد أف تقتنع بأنيا تعبر عف رأييا ورغبتيا الخالصة؟‪!.‬‬

‫قاؿ بميجة في أميؿ إلى الجد‪:‬‬

‫ػ دعؾ مف ىذا الكبلـ ‪ ،‬واستمع لما سأقولو لؾ ‪ ،‬أنت في ورطة جديدة وعميؾ أف تواجييا ‪ ،‬وأنا عمى استعداد‬
‫برغـ كؿ ما بدر نحوي منؾ‪.‬‬

‫لـ أفيـ ما يتحدث عنو ‪ ،‬لكني لـ أعد أستغرب منو أية مفاجأة ‪ ،‬فقد وصؿ ىذا الرجؿ المريض في تصرفاتو معي‬
‫إلى أسفؿ الدرؾ‪.‬‬

‫قاؿ عبد الغني وىو يتظاىر بالبراءة‪:‬‬


‫ػ سوسو تدعي‪..‬‬

‫ػ مف سوسو؟‬

‫ػ سوسو‪ ..‬أال تعرفيا؟‪ ..‬إنيا الفتاة التي قبمتيا في غرفة االجتماعات‪.‬‬

‫ػ آه‪ ..‬سوسو‪ ..‬تمؾ السكرتيرة الساقطة التي أمرتيا أف تمارس معي لعبتيا الدنيئة‪.‬‬

‫قاؿ متظارى ار بالبراءة والحياد‪:‬‬

‫ػ األمر يا عزيزي لـ يعد لعبة‪ ..‬سوسو تدعي أنؾ قد اغتصبتيا بعد أف وعدتيا بالزواج ‪ ،‬وىي تزمع أف تشكو إلى‬
‫العدالة ‪ ،‬وسوؼ تقدـ صورتؾ معيا دليبل عمى أياـ الغراـ واليياـ التي قضيتماىا معا‪!.‬‬

‫لـ أعد أتمالؾ أعصابي ‪ ،‬صرت أرغو وأزبد عمى الياتؼ ‪ ،‬أسب وأشتـ وألعف ‪ ،‬وألوح بقبضتي الثائرة ‪ ،‬وألكـ بيا‬
‫اليواء‪ ..‬لـ أكف أتوقع أف في ىذا العالـ بشر منحطوف إلى ىذه الدرجة‪ ..‬ألوؿ مرة في حياتي أرتطـ بالقاع ‪،‬‬
‫وأغوص في أوحالو القذرة‪ ..‬ألوؿ مرة أقع فريسة لمذئاب البشرية التي تعبث في حياتنا ظمما وفسادا‪ ..‬وىرعت أمي‬
‫إلى الغرفة تطرؽ الباب لتعرؼ سبب ثورتي وغضبي ‪ ،‬لكني لـ أستجب لطرقاتيا‪ ..‬مف حسف حظي أنو ال يوجد‬
‫في بيتنا سوى جياز ىاتؼ واحد ‪ ،‬واال الستطاعت والدتي أف تفيـ طرفا مما جرى ويجري‪..‬‬

‫قاؿ الذئب عبد الغني في ىدوء مثير ‪ ،‬بعد أف استمع إلى حديثي الغاضب بغير اكتراث‪:‬‬

‫ػ إذا وعدتني بأنؾ ستبتعد عف طريؽ أحبلـ ‪ ،‬فسأعدؾ بأني سأمنع سوسو مف تقديـ الصورة لمعدالة‪.‬‬

‫قمت وأنا أليث مف حدة االنفعاؿ‪:‬‬

‫ػ يؤسفني أف يتصرؼ رجؿ أعماؿ بارز مثمؾ بيذا األسموب الرخيص‪.‬‬

‫ػ الغاية تبرر الوسيمة ‪ ،‬أنا ال أريد أف أخسر ابنتي‪.‬‬

‫قمت وأنا أحاوؿ استعادة ىدوئي‪:‬‬


‫ػ وىؿ تخسر ابنتؾ عندما تسمح لو بالزواج مف الشاب الذي اختارتو بكامؿ إرادتيا؟!‬

‫ػ ابنتي مازالت ساذجة ‪ ،‬طيبة أكثر مف البلزـ ‪ ،‬ومف واجبي أف أحمييا‪.‬‬

‫ػ ابنتؾ فتاة ناضجة أكثر مما تظف‪ ..‬وىي إنسانة ذكية وواعية ‪ ،‬وتحمؿ مؤىبل ثقافيا عاليا ‪ ،‬وليست صغيرة حتى‬
‫تعالج زواجيا بيذه الطريقة المؤسفة‪.‬‬

‫ضحؾ بنفس اليدوء المثير الذي بدأ حديثو بو معي ‪ ،‬وقاؿ كالشامت‪:‬‬

‫ػ الثقافة والشيادة ‪ ،‬ال تعني الوعي واإلدراؾ دائما ‪ ،‬ىا أنت مثقؼ مثميا ‪ ،‬ووقعت ضحية فخ بسيط‪.‬‬

‫صككت أسناني بعنؼ ‪ ،‬وزفرت ألما وغيظا ‪ ،‬وقمت‪:‬‬

‫ػ في ىذه معؾ حؽ ‪ ،‬لـ يخطر ببالي أف في البشر مف يتصرفوف مثمؾ‪!..‬‬

‫ػ أكثر الناس يتصرفوف مثمي ‪ ،‬لكف ‪ ،‬لكؿ طريقتو‪ ..‬ألـ تسمع عف توظيؼ نقاط الضعؼ؟‬

‫ػ تقصد صناعة نقاط الضعؼ‪.‬‬

‫ػ ىذه قواعد المعبة‪ ..‬إذا لـ يكف لخصمؾ نقطة ضعؼ تمسكو منيا ‪ ،‬فحاوؿ أف تجره إلى موقؼ ضعؼ تستعممو‬
‫لصالحؾ‪ ..‬ألـ يعمموؾ يا دكتور أف الدنيا حرب وصراع‪..‬‬

‫قمت وقد بمغ بي الغيظ منتياه‪:‬‬

‫ػ حتى الحرب ليا أخبلؽ‪ ..‬يا سعادة اإلمبراطور‪.‬‬

‫صمت برىة أوحت لي بأنو يبتسـ‪ ..‬لكممة إمبراطور وقع خاص في نفسو ‪ ،‬ولـ يمبث أف قاؿ‪:‬‬
‫ػ إني أحذرؾ لممرة األخيرة ‪ ،‬األفضؿ لؾ أف تبتعد عف أحبلـ ‪ ،‬واال سأشوه صورتؾ أماميا ‪ ،‬وأجعميا تكرىؾ‬
‫لؤلبد‪ ..‬أنت تدرؾ كيؼ تكوف ردة فعؿ أحبلـ ‪ ،‬عندما تعرؼ أنؾ كنت عشيقا لمومس‪.‬‬

‫ػ المومس سكرتيرتؾ ‪ ،‬ويمكف إثبات ذلؾ بسيولة ‪ ،‬واكتشاؼ دورؾ الرخيص في ىذه المعبة‪.‬‬

‫ضحؾ عبد الغني‪ ..‬ضحؾ طويبل ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬

‫ػ ألـ أقؿ لؾ بأنؾ ساذج؟‪ ..‬ىؿ تتصور أني يمكف أف أستخدـ أشخاصا تستطيع أف تصؿ إلييـ؟‪ ..‬سوسو يا‬
‫عزيزي ليست سكرتيرتي ‪ ،‬إنيا امرأة غريبة تتجر بجسدىا ‪ ،‬وتخمص لمف يدفع ليا أكثر‪ ..‬وقد دفعت ليا أج ار‬
‫مجزيا لـ تكف تحمـ بو ‪ ،‬فسممتني مقابؿ ذلؾ قيادىا ‪ ،‬ألحركيا كيفما أشاء‪ ..‬الماؿ يا دكتور كجياز التحكـ عف‬
‫بعد‪ ..‬يحرؾ لؾ الناس كيفما تريد ‪ ،‬وكمما كاف الماؿ سخيا كمما كانت دائرة التحكـ أوسع‪ ..‬ألوؿ مرة أمنح‬
‫خبلصة تجاربي لآلخريف‪ ..‬عمؾ تصحو وتتعظ‪..‬‬

‫ثـ عاد إلى الضحؾ ‪ ،‬فوصمت ضحكاتو إلى سمعي كقيقيات شيطاف‪..‬‬

‫قمت وأنا أكابد شعو ار بالغثياف‪:‬‬

‫ػ ال أصدؽ!‪ ..‬أيكوف فينا مف ىـ بمثؿ دناءتؾ وبشاعتؾ؟‪!..‬‬

‫ػ سأسامحؾ عمى كؿ ىذه اإلساءات إذا ابتعدت عف أحبلـ‪..‬‬

‫ػ اآلف عرفت لماذا نحف أمة مقيورة‪!.‬‬

‫قاؿ غير عابئ بما سمع‪:‬‬

‫ػ ماذا قمت؟ ىؿ ستبتعد عف أحبلـ؟‬

‫ػ ألوؿ مرة في حياتي أتمنى لو كنت كاتبا متمرسا حتى أعريؾ وأعري أمثالؾ ‪ ،‬ليعرؼ الناي أية ذئاب تمؾ التي‬
‫تتخفى بجمود البشر‪!..‬‬
‫ػ كف ما شئت ‪ ،‬وابتعد عف أحبلـ‪.‬‬

‫ىدرت في أذنو عبر األسبلؾ‪:‬‬

‫ػ لكني أحبيا‪ ..‬أال تعرؼ معنى الحب؟‪!..‬‬

‫ػ أنت ال تحبيا‪ ..‬أنت تحب ثروتيا‪ ..‬أنت طامع في ثروتي التي ستؤوؿ إلييا‪..‬‬

‫ػ لو كنت طامعا بثروتؾ الكريية ‪ ،‬لرضيت بعرضؾ ىذا الصباح‪.‬‬

‫ػ مف يفكر بثروة كأحبلـ ال تشبعو مئة ألؼ‪..‬‬

‫ػ لماذا تعتقد بأف كؿ مف يفكر بأحبلـ طامع في ثروتيا؟‪!..‬‬

‫ػ عندما يتقدـ مف أحبلـ غني شبعاف مثمي ‪ ،‬سأقتنع بأنو قد جاء رغبة بالزواج منيا ‪ ،‬وليس طمعا بثروتيا‪!.‬‬

‫ػ أنت تبحث إذف عف صفقة تبيع فييا أحبلـ‪.‬‬

‫قاؿ وقد نفذ صبره‪:‬‬

‫ػ لقد أضعت وقتي بما فيو الكفاية‪ ..‬أنت اآلف أماـ خياريف‪ ..‬إما أف تنسحب مف حياة أحبلـ ‪ ،‬أو تركب رأسؾ ‪،‬‬
‫فتخسر سمعتؾ أماميا وأماـ المجتمع‪ ..‬أنت تعرؼ كـ ىي سمعة الطبيب ميمة أماـ الناس الذيف يأتمنونو عمى‬
‫أسرارىـ وأعراضيـ‪!..‬‬

‫ػ ىذا ابتزاز رخيص‪.‬‬

‫ػ أريد أف أسمع قرارؾ قبؿ أف أغمؽ السماعة‪.‬‬

‫ػ أنت أدنأ إنساف قابمتو في حياتي‪.‬‬


‫ػ إذا لـ تفصح عف قرارؾ خبلؿ ثبلثيف ثانية ‪ ،‬فسأقوـ بحماية ابنتي منؾ بالوسائؿ المناسبة‪..‬‬

‫كدت أغمؽ السماعة في وجيو إعبلنا عف رفضي ليذا االبتزاز الرخيص ‪ ،‬لكني أصبت بالجبف‪ ..‬إنو طاغية عات‬
‫يعني ما يقوؿ ‪ ،‬ولف يتوانى عف دفع مومستو المرتزقة لتقدـ شكواىا ‪ ،‬وتمطخ سمعتي بأكاذيبيا الممفقة‪ ..‬والناس‬
‫لؤلسؼ يحفظوف الحكايات السيئة بسرعة ‪ ،‬وال يتثبتوف منيا ‪ ،‬واأللسنة المريضة تبحث عف قصة تثرثر بيا‪..‬‬
‫سيمتصؽ اسمي بأذىاف الناس كطبيب فاسد ‪ ،‬وسيمسي مستقبمي الطبي عمى كؼ عفريت‪ ..‬حتى لو كافحت‬
‫وأظيرت براءتي ‪ ،‬فمف أجد مف يحفؿ بيذه البراءة ‪ ،‬أو يذكرىا أماـ الناس الذيف أساؤوا بي الظف‪ ..‬ووجدتني‬
‫مضط ار لبلنحناء أماـ العاصفة ‪ ،‬ولو إلى حيف ‪ ،‬ريثما أمتمؾ وسائؿ الدفاع عف نفسي أماـ ابتزاز والد أحبلـ ‪،‬‬
‫وضغوطو الظالمة‪..‬‬

‫ومضت الثواني الثبلثوف ‪ ،‬فقاؿ عبد الغني‪:‬‬

‫ػ يبدو أنؾ تبحث عف المتاعب‪.‬‬

‫ىمست في يأس‪:‬‬

‫ػ ال‪ ..‬ال داعي‪ ..‬ال داعي لممتاعب‪.‬‬

‫ػ سأخبرىا بأنؾ لـ تأت لمقابمتي في الموعد المحدد‪.‬‬

‫ػ لماذا؟‬

‫ػ اخترع ليا ما شئت مف األسباب ‪ ،‬الميـ أف تبتعد عنيا‪...‬‬

‫ثـ صفؽ السماعة في لؤـ ‪ ،‬فصفع صوتيا سمعي ‪ ،‬وزاد مف شعوري باليزيمة‪ ..‬وألوؿ مرة في حياتي بكيت‬
‫بم اررة‪ ..‬بكيت كما يبكي األطفاؿ‪ ..‬أحسست بالذؿ واليواف‪ ..‬فقدت احترامي لنفسي‪ ..‬اىتزت ثقتي بالعالـ ‪،‬‬
‫احتضرت داخمي كؿ األحبلـ واآلماؿ ‪ ،‬فتكاثؼ الشؤـ ‪ ،‬وألقى بظمو األسود عمى كؿ شيء ‪ ،‬لف تخدعني‬
‫المظاىر بعد اآلف ‪ ،‬لف تخدرني البشاشة التي يمقاني بيا الناس ‪ ،‬األقنعة التي يرتدونيا لف تنجح في اصطياد‬
‫ثقتي‪..‬‬
‫وتمددت فوؽ سريري كالميت ‪ ،‬أحممؽ بنظراتي الذاىمة في السقؼ األبيض الناصع‪..‬‬

‫كـ تحوي أييا السقؼ تحت طبلئؾ الجميؿ مف بشاعة‪!..‬‬


‫الفصل الثالث والعشرون‬

‫ال أذكر أني قضيت ليمة أطوؿ مف تمؾ الميمة!‪ ..‬قضيتيا مؤرقا مسيدا ‪ ،‬تتناوشني األفكار واليواجس ‪،‬‬
‫وتعتصرني م اررة العجز واليزيمة‪ ...‬وأعمنت حواسي استنفا ار شامبل ‪ ،‬فمـ يغمض لي جفف ‪ ،‬أو ييدأ لي فكر‪..‬‬
‫وجمدتني نفسي بقسوة ‪ ،‬فأليبتني بسياط الموـ والتأنيب‪ ..‬وبدت لي كؿ المثاليات التي أحمميا كفقاعات متيافتة مف‬
‫اليواء‪ ..‬تراىا جميمة براقة تسبح برشاقة وانسياب ‪ ،‬لكنيا تنفجر عند أوؿ صدمة‪ ..‬تتبلشى ‪ ،‬وتمحى ‪ ،‬وكأنيا لـ‬
‫تكف‪..‬‬
‫وعاث الشؾ في أعماقي كمارد أحمؽ ‪ ،‬يحطـ كؿ الصور الحبيبة إلى نفسي ‪ ،‬ليبحث تحتيا عف الزيؼ والبشاعة‬
‫التي قد تخفييا ‪ ،‬وامتدت يد ىذا المارد إلى أقرب الناي إلي ‪ ،‬فأنشب أظافره في وجوىيـ ليختبرىا ‪ ،‬ويتأكد مف‬
‫أنيا وجوه حقيقة أصمية ‪ ،‬وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديو والد أحبلـ‪..‬‬
‫وشعرت أف العالـ داخمي يتداعي وينيار ‪ ،‬فيسحؽ تحتو كؿ األمثمة الطيبة التي كنت أرنو إلييا باحتراـ ‪ ،‬بيد أف‬
‫أحبلـ وقفت فوؽ أنقاض ىذا العالـ المتداعي كالمنارة ‪ ،‬تشع طي ار ونقاء ‪ ،‬فمـ يجرؤ مارد الشؾ أف يمد يده إلييا‬
‫أو أف يخترؽ ىالة الطير والوضاءة التي تحؼ بيا ‪ ،‬وطفؽ يدور حوليا مبيو ار بنبميا ووضاءتيا ‪ ،‬يحيره ذلؾ‬
‫الجوىر الكريـ الذي يتوىج داخميا ‪ ،‬ويسطع بكؿ ىذا األلؽ الفريد‪..‬‬
‫والتفت حوؿ رقبتي ضفيرة غميظة مف األسئمة ‪ ،‬وراحت تضغط عمييا بعنؼ ‪ ،‬حتى كادت تخنقني!‪ ..‬كيؼ‬
‫ستواجو أحبلـ؟‪ ..‬ماذا ستقوؿ ليا؟‪ ..‬كيؼ ستعتذر إلييا؟‪ ...‬ىؿ ستعترؼ ليا بحبؾ واذعانؾ لبلبتزاز؟‪ ..‬أـ‬
‫ستخفي عنيا ما حدث ‪ ،‬وتدعي بأنؾ لـ تذىب لمقابمة أبييا في الموعد المقرر؟‪ ..‬ستسألؾ ‪ ،‬لماذا ‪ ،‬فماذا سيكوف‬
‫الجواب؟ وكيؼ ستبرر ليا ىذا االدعاء؟‪ ...‬كيؼ ستصمد أماـ عينييا وأنت تق أر فييما نعيؾ كرجؿ ‪ ،‬وكإنساف؟‪..‬‬
‫وانتبيت في ىدأة الميؿ إلى شيء!‪ ..‬أصخت السمع ‪ ،‬ثـ تتبعت مصدر الصوت في قمؽ ‪ ،‬فقادني الصوت إلى‬
‫غرفة الجموس ‪ ،‬كانت أمي تجمس وحيدة في ركف الغرفة تغمب البكاء‪ ..‬أضأت النور ‪ ،‬فأخفت وجييا المخضؿ‬
‫خمؼ كفييا ‪ ،‬قمت ليا ‪ ،‬وقد أثر بي منظرىا الباكي ‪ ،‬وزادني ألما عمى ألـ‪:‬‬
‫ػ أماه‪ ..‬لماذا تبكيف؟‪..‬‬
‫أجابت بصوت متيدج خنقتو العبرات‪:‬‬
‫ػ وىؿ تريدني أف أضحؾ؟‪ ..‬تأتي إلى البيت واجما حزينا ‪ ،‬ثـ تغمؽ عميؾ الباب‪ ..‬أسألؾ أف تصارحني بما يشغؿ‬
‫بالؾ ‪ ،‬فتأبى‪ ..‬أدعوؾ إلى طعاـ الغداء ‪ ،‬فتعتذر بفظاظة‪ ..‬آتيؾ بالطعاـ إلى غرفتؾ فتضرب عنو‪ ..‬تقضي‬
‫الوقت في الغرفة وأنت تحممؽ في الجدراف كالممسوس‪ ..‬تريدني أف أرى كؿ ىذا وال أبكي؟‪!..‬‬
‫تناولت راحتيا بيف يدي ‪ ،‬وطبعت عمى ظاىر كفيا قبمة اعتذار‪.‬‬
‫قمت في تأثر‪:‬‬
‫ػ أماه‪ ..‬أنت تبالغيف في فيـ األمور‪ ..‬ال شيء يدعو لمقمؽ‪ ..‬قومي فاخمدي لمنوـ‪.‬‬
‫ػ لف أناـ حتى أعرؼ ما الذي يشغمؾ؟‬
‫ػ قمت لؾ ال شيء‪..‬‬
‫ػ أنت تكذب‪!..‬‬
‫ػ أماه‪!..‬‬
‫ػ أنت تخفي عني أم ار عظيما ال يسر‪.‬‬
‫أطرقت في صمت‪ ..‬تستطيع أف تخفي كؿ شيء عف الناس ‪ ،‬لكنؾ ال تستطيع أف تخفي شيئا عف األـ‪..‬‬
‫سيكتشؼ العمماء ذات يوـ حاسة جديدة تدعى حاسة األمومة ‪ ،‬وسيجدوف عمييا ألؼ برىاف‪ ..‬قمت ليا بنبرة‬
‫مستسممة‪:‬‬
‫ػ ال أنكر أني قد تعرضت اليوـ لتجربة مؤلمة ‪ ،‬لكني ال أجد ضرورة لمحديث عنيا‪ ..‬الحديث فييا يؤلمني أكثر ‪،‬‬
‫وأنت ال تريديف لي المزيد مف األلـ‪.‬‬
‫ىدأت قميبل ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أتخبرني بما يشغمؾ فيما بعد؟‬
‫ػ ستعرفيف يوما كؿ شيء‪.‬‬
‫ػ مازلت قمقة عميؾ‪!.‬‬
‫ػ أال تثقيف بقدرة ابنؾ عمى مواجية األزمات؟‬
‫صمتت ولـ تجب!‪ ....‬بدت كأنيا ليست واثقة!‪ ...‬عذبني صمتيا ‪ ،‬إنيا تعرؼ أف ابنيا ضعيؼ!‪ ...‬أطرقت في‬
‫حياء ‪ ،‬قالت بعد تفكر‪:‬‬
‫ػ أمازلت تفكر في أحبلـ؟‬
‫مس ىذا السؤاؿ فؤادي المجروح كذرات مف الممح ‪ ،‬فالتيبت آالمو مف جديد ‪ ،‬قمت وأنا أتيرب مف نظرتيا‪:‬‬
‫ػ أحبلـ كانت فكرة ‪ ،‬واألمر لـ ينضج بعد‪.‬‬
‫ػ أنت تحبيا أليس كذلؾ؟‬
‫ػ ىذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر‪..‬‬
‫صمتت ثانية ‪ ،‬وقد أدركت أف صدري مغمؽ أماـ محاوالتيا الكتشاؼ سري ‪ ،‬ومداواة جرحي‪ ..‬قالت بعد تأمؿ‬
‫حزيف‪:‬‬
‫ػ إذا كنت مص ار عمى الزواج مف أحبلـ ‪ ،‬فأنا يمستعدة لبيع األرض التي ورثتيا عف والدي ‪،‬لتؤمف ليا المستوى‬
‫المادي الذي يميؽ بيا‪..‬‬
‫رنوت إلييا في ود وفخر‪ ..‬كـ ىو الفارؽ بيف إنساف يضحي بكؿ ما يممؾ مف أجؿ سعادة ولده ‪ ،‬وبيف إنساف‬
‫يضحي بسعادة ولده مف أجؿ ما يممؾ ‪!..‬‬
‫كـ ىو الفرؽ ىائؿ وبعيد‪!!..‬‬
‫الفصل الرابع والعشرون‬

‫استقبمت صباح اليوـ التالي برىبة ‪ ،‬كنت مشفقا مف لقاء أحبلـ ‪ ،‬وترددت!‪ ..‬ىؿ أذىب إلى المستشفى أـ أبقى؟‬
‫ىؿ أقدـ عمى مواجية الموقؼ أو أحجـ؟ كاف السير واألرؽ والسياد قد تراكـ عمى أعصابي فأرىقيا‪ .‬وسرى الوىف‬
‫في جسدي كالداء ‪ ،‬فوجدت فيو ذريعة لميروب‪.‬‬
‫اتصمت بالمستشفى ألطمب إجازة ‪ ،‬فأخبروني بأف الدكتور مأموف يحضر لعممية ميمة وقد طمب مف جميع‬
‫األطباء أف يكونوا حولو في غرفة العمميات ليطمعوا عمى الحالة الجديدة ‪ ،‬ويتعرفوا عمى التقنية الجراحية التي‬
‫سيستخدميا‪ ...‬لـ يكف أمامي مفر مف الذىاب ‪ ،‬فالدكتور مأموف يغفر كؿ شيء في العمؿ إال الغياب عف مثؿ‬
‫ىذه العمميات‪!.‬‬
‫وذىبت‪ .‬دلفت إلى المستشفى متثاقبل أقدـ رجبل وأؤخر أخرى ‪ ،‬خفؽ قمبي وأنا أصافح الوجوه بنظرات حذرة‪ ..‬ماذا‬
‫لو ظيرت أحبلـ أمامي فجأة؟ وبأي وجو سأقابميا؟ ورقيت في الدرج كالخائؼ ‪ ،‬ثـ تسممت إلى غرفة األطباء‬
‫المقيميف ‪.‬كاف ىاني ييندس شاربو الكث أماـ المرآة‪ ..‬ألقيت عميو تحية الصباح ‪ ،‬فرد عمي خيالو المنعكس عمى‬
‫المرآة ‪ ،‬جمست عمى حافة السرير كاليدود ‪ ،‬وأخذتني سنة مف الشرود‪ ..‬التفت إلي ىاني فجأة ‪ ،‬وقد لحظ وجومي‬
‫عبر المرآة ‪ ،‬قاؿ باىتماـ‪:‬‬
‫ػ صبلح‪ ..‬ما بؾ؟‬
‫ػ ال شيء‪..‬‬
‫ػ أنت حزيف!‬
‫تكمفت بابتسامة واىنة وقمت متظاى ار باإلنكار‪:‬‬
‫ػ أنا؟‬
‫ػ نعـ‪ ..‬أنت لست عمى ما يراـ‪..‬‬
‫ػ متعب قميبل‪ ..‬لـ أنـ جيدا ىذه الميمة‪.‬‬
‫عاد إلى مرآتو ‪ ،‬وراح يشد أزرار ردائو األبيض إلى عراىا بإحكاـ‪ ..‬قاؿ وىو يتأكد مف سبلمة ىندامو‪:‬‬
‫ػ ىو األرؽ إذف‪..‬‬
‫أومأت باإليجاب ‪ ،‬ونيضت إلى خزانتي ألرتدي ثوب العمؿ‪ ..‬أردؼ ىاني وىو يدس جياز اإلنذار في جيب‬
‫ردائو المكوي بعناية‪:‬‬
‫ػ أرؽ المفمس أـ أرؽ العاشؽ؟‬
‫ػ بؿ أرؽ المفجوع!‬
‫ػ بمف؟‬
‫ػ بيذا العالـ‪..‬‬
‫ضحؾ ىاني ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ يا مسكيف‪ ..‬سيظؿ ىذا العالـ جاثما فوؽ صدرؾ حتى يسحقؾ تحتو ‪ ،‬كفاؾ تفكي ار بيذا العالـ ‪ ،‬والتفت لنفسؾ‪..‬‬
‫روح عنيا بعض الشيء ‪ ،‬وانج بيا مف األرؽ والقمؽ‪ ..‬روضيا عمى عدـ االكتراث‪ ..‬افعؿ مثمي ‪ ،‬فأنا لـ يعد‬
‫ييزني شيء‪..‬‬
‫وكاف ييـ بالخروج ‪ ،‬فتوقؼ فجأة وىو يراني مازلت غارقا في ىمومي ال أحفؿ بتعميقاتو الساخرة‪ ..‬قاؿ ناصحا‪:‬‬
‫ػ ال تنسى أف تزيف وجيؾ بابتسامة قبؿ أف تنزؿ ‪ ،‬فمنظرؾ المقطب قد يصيب المرضى باالكتئاب‪.‬‬
‫ثـ دس يده في جيبو ‪ ،‬ومضى وىو يصفر في مرح‪.‬‬
‫مازالت أعصابي مشدودة إلى لحظات المواجية‪ ..‬تمنيت لو أف األرض تنشؽ وتبتمعني ‪ ،‬وال تراني أحبلـ‪ ..‬كـ‬
‫سأبدو في نظرىا تافيا وضعيفا!‪ ....‬سأبدو أخرقا مترددا ال يممؾ أف يأتي بقرار ‪ ،‬وسأبدو وغدا كرييا ال يحترـ‬
‫مشاعر اآلخريف‪..‬‬
‫ورف جرس الياتؼ ‪ ،‬فرفعت السماعة بيد ثقيمة ‪ ،‬كاف ىاني عمى الطرؼ اآلخر‪..‬‬
‫ػ صبلح‪ ..‬نسيت أف أخبرؾ‪.‬‬
‫ػ ماذا؟‬
‫ػ الدكتور مأموف يريدنا في غرفة العمميات‪.‬‬
‫ػ أعمـ‪.‬‬
‫ػ أسرع إذف‪ ..‬لقد دخؿ اآلف‪..‬‬
‫وىرعت إلى جناح العمميات كجندي جباف يحب الحرية ‪ ،‬ويياب الموت!‪ ..‬غسمت يدي بالصابوف ‪ ،‬وارتديت‬
‫المبلبس المعقمة الخاصة بغرفة العمميات ‪ ،‬ثـ أحكمت وضع القناع الطبي فوؽ أنفي‪ ...‬شعرت بشيء مف‬
‫االرتياح ألف ىذا القناع سيخفي تحتو تعابير وجيي المقطبة‪.‬‬
‫وانضممت إلى زمبلئي األطباء الذي التفوا حوؿ الدكتور مأموف في غرفة العمميات‪ ..‬لـ أجرؤ في البداية عمى‬
‫رفع نظراتي ألطوؼ بيا عمى وجوه الزمبلء ‪ ،‬خشية أف تمتقي بأحبلـ! أخذت مكاني في الحمقة التي انفرجت قميبل‬
‫لتضمني ‪ ،‬وركزت بصري عمى جسد المريض الممدد أمامي بانتظار مبضع الجراح‪ ..‬لكف الدكتور مأموف لـ‬
‫يرحمني‪ ..‬قاؿ مداعبا‪:‬‬
‫ػ أراؾ اليوـ في ذيؿ القافمة يا دكتور صبلح‪ ..‬عيدي بؾ دائما األوؿ‪!.‬‬
‫وأردؼ ىاني في محاولة ماكرة إلحراجي‪:‬‬
‫ػ لقد أخرتنا يا دكتور صبلح‪ ..‬منذ متى ونحف ننتظر‪!..‬‬
‫ضحؾ الجميع لدعابة ىاني ‪ ،‬بينما قاؿ الدكتور مأموف لياني مازحا‪:‬‬
‫ػ اسكت أنت‪ ..‬دائما تحب االصطياد في الماء العكر‪.‬‬
‫ػ ظننتؾ ستمنحني مكافأة‪!..‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ ألني أوؿ مف حضر اليوـ إلى غرؼ العمميات‪..‬‬
‫ػ ستناؿ مكافأتؾ في الحاؿ‪..‬‬
‫ػ أرجو أف تكوف مجزية‪..‬‬
‫ػ ستقوـ بتجفيؼ الدماء أثناء إجراء العممية‪.‬‬
‫ابتسمت ليذا التكميؼ الذي ال يخمو مف دعابة ‪ ،‬بينما ضحؾ اآلخروف ‪ ،‬المعروؼ عف ىاني أنو يؤثر الراحة ‪،‬‬
‫وكثي ار ما كاف يتقصد التأخر عف مثؿ ىذه العمميات ‪ ،‬حتى تكوف األدوار قد وزعت ‪ ،‬فيكتفي بالمشاىدة ‪ ،‬وبدأت‬
‫المجزرة كما يسمييا ىاني عادة ‪ ،‬فأغمد الدكتور مأموف حافة مقبضو الحادة في بطف المريض ‪ ،‬وأخذ يفتح بو‬
‫مدخبل إلى أحشائو المصابة‪ ..‬انتيزت فرصة انشغاؿ الجميع بما يجري ‪ ،‬فاختمست إلى أحبلـ نظرة متسممة ‪،‬‬
‫لكنيا ضبطت نظرتي الجبانة وىي تزحؼ إلى وجييا الشاحب ‪ ،‬سربمني منظرىا الشجي بمييب األسى والغـ ‪،‬‬
‫وقرأت في عينييا لوما موجعا ‪ ،‬وعتبا مري ار لـ أصمد لو ‪ ،‬فنكست بصري وتظاىرت باالنشغاؿ‪..‬‬

‫وفرغ الدكتور مأموف مف جراحتو ‪ ،‬فغادرت المكاف عمى عجؿ ‪ ،‬ولذت بمقصؼ العـ درويش‪ ..‬جمست مرىقا‬
‫منيكا كالمحموـ ‪ ،‬تطاردني النظرات الموامة التي سددتيا إلي أحبلـ‪.‬‬
‫وجاء العـ درويش يسألني عما أشتيي ‪ ،‬فطمبت فنجانا مف القيوة ‪ ،‬فخؼ إلحضاره ‪ ،‬وقد الحظ ما أنا فيو مف‬
‫ضيؽ‪ ..‬ولـ يمبث قمبي أف خفؽ وأنا أصغي إليقاع خطوات أحبلـ ‪ ،‬وىي تدؽ الممر الطويؿ المفضي إلى‬
‫االستراحة‪.‬‬
‫وقفت أحبلـ أمامي في كبرياء وسألتني بنبرة صارمة‪:‬‬
‫ػ لماذا لـ تحضر لمقابمة والدي باألمس؟‬
‫انفجر سؤاليا داخمي كقنبمة تتشظى بالم اررة ‪ ،‬لقد نفذ أبوىا دورة بدقة ‪ ،‬وعمي أف أتـ الفصؿ الثاني مف المسرحية‪.‬‬
‫رجوتيا أف تجمس ‪ ،‬لكنيا كررت السؤاؿ بنبرة أشد وطأة وايبلما ‪..‬‬
‫قمت ليا متجاىبل سؤاليا القاسي‪:‬‬
‫ػ ماذا تشربيف؟‬
‫جمست وقالت‪:‬‬
‫ػ كاف أولى بؾ أف تحزـ أمرؾ قبؿ أف أضرب لؾ موعدا مع أبي‪.‬‬
‫كدت أنفجر أماميا ضاحكا ‪ ،‬وأدلي ليا بكؿ ما كاف ‪ ،‬فأعري أبييا الماكر ‪ ،‬لكني تذكرت العواقب المحتممة ‪،‬‬
‫فضعفت ‪ ،‬وتنيدت‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ ...‬يبدو أننا لـ نخمؽ لبعضنا‪..‬‬
‫دمعت عيناىا وقالت‪:‬‬
‫ػ اآلف تقوؿ ىذا الكبلـ؟‪ ..‬أبعد أف خضت مع أمي وأبي معركة مف أجمؾ؟‪ .‬ىؿ أنا رخيصة عندؾ إلى ىذا‬
‫الحد؟‪ ..‬لماذا ىذا التردد؟‪ ..‬ما الذي غير رأيؾ بيذه السرعة؟‪..‬‬
‫اخترقتني كمماتيا كحزمة مف الرماح ‪ ،‬تضاءلت أماميا وأحسست بالصغار‪ ..‬قمت متيربا مف نظراتيا الثائرة‪:‬‬
‫ػ فكرت في أمر ىذا الزواج ‪ ،‬فوجدت أنو ال يمكف أف يعيش!‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ لدي أسبابي‪.‬‬
‫رمقتني بنظرات كسيرة ‪ ،‬وىمست‪:‬‬
‫ػ أنت تحكـ عمي بالعنوسة إلى األبد‪..‬‬
‫ػ ستنسيني عما قريب‪.‬‬
‫ىمست بنبرة ترتعش‪:‬‬
‫ػ كيؼ تجرؤ عمى ىذا الكبلـ؟‪..‬‬
‫ػ أنا عاجز عف القرار‪ ..‬اآلف ‪ ،‬عمى األقؿ‪..‬‬
‫رفعت ىامتيا في كبرياء ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أما أنا فقد اتخذت قراري‪ ..‬إما أنت ‪ ،‬واما ال‪..‬‬
‫ىتفت في ضراعة‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ ..‬أحبلـ‪ ..‬ال تكوني عنيدة ‪ ،‬لنتصرؼ بواقعية‪ ..‬قد يكوف ما بيننا أعمؽ وأروع ما يمكف أف ينشأ بيف شاب‬
‫وفتاة ‪ ،‬لكف العواطؼ شيء ‪ ،‬والواقع شيء آخر‪..‬‬
‫قالت في حدة‪:‬‬
‫ػ ما قيمة ىذا الواقع إذا لـ نعشو كما نريد؟‪ ..‬إذا لـ نصغو وفؽ قناعاتنا وأفكارنا؟‪..‬‬
‫ػ لكف ىذه القناعات ستتبدؿ بعد الزواج‪ ..‬بعد الزواج ستشعريف بالفرؽ بيف حياتؾ معي والحياة التي كاف يوفرىا‬
‫لؾ أبوؾ‪ ..‬ستشعريف بأف الزواج قد حرمؾ مف أشياء كثيرة ‪ ،‬وستفقديف حياة الرفاىية والنعومة التي تعودت‬
‫عمييا ‪..‬ستتراكـ في نفسؾ مشاعر التأفؼ والممؿ ‪ ،‬وستشوه التفاصيؿ الصغيرة العبلقة الرومانسية الحالمة التي‬
‫تجمعنا‪ ..‬سنكتشؼ أنا خدعنا أنفسنا ونغرؼ في الندـ‪ ..‬لماذا ال نجنب أنفسنا ىذه التجربة الفاشمة منذ اآلف؟‬
‫حدجتني بنظرة قاسية وقالت‪:‬‬
‫ػ أنت تتحدث كوالدي تماما‪ ..‬أصبحت تربط كؿ شيء بالمادة!‪ ..‬ثمة شيء أجيمو قد غيرؾ‪!!..‬‬
‫ػ كؿ ما في األمر أني لـ أصؿ إلى قرار‪..‬‬
‫أطرقت كاسفة حزينة وقالت في يأس‪:‬‬
‫ػ أنت ال تريدني‪ ..‬نعـ‪ .‬ال تريدني‪ ..‬كاف يجب أف أفيـ برودؾ نحوي منذ البداية‪ ..‬ظننت ترددؾ خوفا واشفاقا مف‬
‫أف أخذلؾ ‪ ،‬فشجعتؾ وميدت لؾ الطريؽ ‪ ،‬فجاممتني دوف أف تممؾ نحوي نفس األحاسيس والمشاعر ‪ ،‬أنا‬
‫المبلمة عمى أية حاؿ‪ ..‬أستطيع اآلف أف أتخذ قراري‪ ..‬لف تجمعني الحياة بؾ بعد اآلف ‪ ،‬ولف تجمعني برجؿ مف‬
‫بعدؾ‪ ..‬الوداع‪...‬‬
‫ثـ مضت‪ ...‬مضت غاضبة حزينة بعد أف زرعت نفسي بوجد عارـ ‪ ،‬تمنيت أف ألحؽ بيا ألبوح ليا بالحب الذي‬
‫يضطرـ بيف ضموعي ‪ ،‬لكني لـ أجرؤ‪ ..‬فالبوح سيزيد موقفي تناقضا وغموضا‪!..‬‬
‫ىؿ أدوس عمى قمبي وأرضخ لبلبتزاز ‪ ،‬أـ أبدأ المعركة مع والد أحبلـ؟‬
‫ما أقسى أف تجد في طريقؾ سؤاال ببل جواب‪!...‬‬
‫الفصل الخامس والعشرون‬

‫ػ ىؿ سمعت آخر األخبار؟‪.‬‬


‫ػ ماذا؟‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ استقالت‪.‬‬
‫ىتفت كالممدوغ‪:‬‬
‫ػ استقالت؟‪!..‬‬
‫قاؿ ىاني في ىدوء‪:‬‬
‫ػ ظننتؾ تعرؼ!‬
‫ػ مف أيف عممت؟‬
‫ػ الدكتور مأموف أخبرني ‪ ،‬التقيت بو ىذا الصباح ‪ ،‬فقاؿ لي بأف الدكتورة أحبلـ قد جاءتو البارحة في نياية الدواـ‬
‫‪ ،‬وطمبت منو أف يقبؿ استقالتيا‪.‬‬
‫ػ كاف عميو أف يرفض‪..‬‬
‫ػ كانت مصرة‪..‬‬
‫ػ ألـ يسأليا عف السبب؟‬
‫قاؿ ىاني متخابثا‪:‬‬
‫ػ لعميا قد خطبت ‪ ،‬وقررت االستعداد لبيت الزوجية‪.‬‬
‫قمت حانقا‪:‬‬
‫ػ ىاني‪ ..‬كؼ عف ىذرؾ!‬
‫ػ لماذا استقالت إذف؟‬
‫ػ لعميا‪ ..‬لعميا‪..‬‬
‫ػ لعميا ماذا؟‬
‫ػ ال أدري‪..‬‬
‫ػ لقد ضايقؾ قرارىا‪ ..‬أليس كذلؾ؟‪..‬‬
‫ػ أنت تعرؼ معنى أف ينقص طاقـ أطباء الطوارئ واحدا‪.‬‬
‫ػ أىذا ما يقمقؾ؟‬
‫ػ ماذا تقصد؟!‬
‫ػ لقد بات اىتمامؾ بأحبلـ ‪ ،‬وتعمقؾ بيا ‪ ،‬واضحا‪ ..‬ال يمكف لمعشاؽ أف يخفي وجده طويبل‪..‬‬
‫أحرجتني مبلحظة ىاني ‪ ،‬البد أنو يشعر اآلف بأف أحبلـ قد رفضتو مف أجمي ‪..‬قمت وأنا أداري ارتباكا‪:‬‬
‫ػ ىاني‪ ..‬دعنا مف ىذا الحديث أرجوؾ‪..‬‬
‫ىمس ىاني وىو يمتفت ذات اليمني وكأنو يخاطب شخصا قادما مف بعيد‪:‬‬
‫ػ اطمئف‪ ..‬لقد نسيتيا تماما‪.‬‬
‫ػ بيذه السرعة؟‬
‫ونادتني إحدى الممرضات‪:‬‬
‫ػ دكتور صبلح‪ ..‬الدكتور مأموف يريدؾ أف توافيو في مكتبو‪.‬‬
‫استأذنت ىاني ‪ ،‬ومضيت إلى جناح اإلدارة ‪ ،‬قاؿ لي الدكتور مأموف وىو يستقبمني في وجوـ‪:‬‬
‫ػ عرفت طبعا‪..‬‬
‫ػ أخبرني ىاني‪.‬‬
‫ػ قالت أنيا تريد أف تتفرغ لمرسـ ‪ ،‬ىذه أوؿ مرة أعرؼ أف الدكتورة أحبلـ رسامة!‬
‫لقد استطاعت أحبلـ أف تختار حجة مناسبة لبلستقالة‪.‬‬
‫أطرقت متألما‪ ..‬أنا الوحيد الذي يعرؼ السبب الذي يكمف وراء استقالتيا ‪..‬تابع الدكتور مأموف في حيرة‪:‬‬
‫ػ كاف يبدو عمييا التعب والحزف‪ ..‬أعتقد أف ىناؾ سببا آخر دفعيا لبلستقالة ‪..‬غير حبيا لمفف والرسـ‪!...‬‬
‫قمت في محاولة لتبديد شكوكو ‪ ،‬حتى ال يسترسؿ في بحثو عف الحقيقة‪:‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ ليست الطبيبة األولى التي تياجر مف الطب إلى الفف ‪..‬كثيروف ىـ األطباء الذيف يستيوييـ الفف‬
‫واألدب‪.‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬لكنيا كانت تستطيع أف تجمع بيف الطب والفف‪ ..‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬حجتيا ليست مقنعة‪.‬‬
‫ثـ أردؼ وىو ينظر إلي كالشارد‪:‬‬
‫ػ أال تستطيع أف تقنعيا بالعودة؟‬
‫فاجأني سؤالو ‪ ،‬تيربت مف السؤاؿ بسؤاؿ‪:‬‬
‫ػ لماذا أنا؟‬
‫ػ فيمت أنيا تثؽ بؾ وتحترمؾ‪!.‬‬
‫ػ مف الذي أوحى لؾ بذلؾ؟‬
‫ػ العـ درويش‪ ..‬أنسيت أف العـ درويش عيني عميكـ؟‬
‫ابتسمت وأنا ألقي برأسي إلى الخمؼ‪ .‬العـ درويش‪ ..‬ال بد أنو التقط بحدسو المعنى الذي كاف يكمف خمؼ نجوانا‪..‬‬
‫ماؿ الدكتور مأموف عمى مكتبو ‪ ،‬وقاؿ بصوت أقرب لميمس‪:‬‬
‫ػ العـ درويش يعتقد بأنؾ وأحبلـ الئقاف ببعضكما البعض ‪ ،‬ىمس لي بذلؾ منذ أياـ ‪ ،‬وأنا أشاطره الرأي‪..‬‬
‫نكأ كبلـ الدكتور مأموف جرحي‪ ..‬قفزت ذكرى لقائي بوالد أحبلـ إلى خيالي فجأة ف فشعرت بوخزة مؤلمة‪ ..‬بعض‬
‫الناس يستعذبوف عذابات اآلخريف!‪ ..‬لماذا يقؼ ىذا الوغد في طريؽ سعادتنا؟! قمت متيربا مف نظرات الدكتور‬
‫مأموف التي حاولت سبر أغواري‪:‬‬
‫ػ سأحاوؿ إقناع أحبلـ‪.‬‬
‫ػ إني أعتمد عميؾ‪.‬‬
‫ػ واذا لـ توافؽ؟‬
‫ػ أريد أف تجد بديبل بيا‪ ..‬أريد بديبل يكوف بأخبلقيا ومياراتيا‪ ..‬أنت تعرؼ طريقتي في اختيار األطباء‪..‬‬
‫قمت مرددا عبارة شييرة كثي ار ما كررىا الدك ٍ‬
‫تور مأموف عمى مسامعنا‪:‬‬
‫ػ األخبلؽ أوال ‪ ،‬والميارة ثانيا ‪ ،‬واألخبلؽ والميارة معا‪.‬‬
‫قاؿ وىو ينيض مودعا‪:‬‬
‫ػ حاوؿ أف تقنع أحبلـ أوال‪ ..‬ال أريد أف نخسرىا‪.‬‬
‫كانت الميمة صعبة ‪ ،‬وكاف عمي أف أنجزىا ‪ ،‬يجب أف تعود أحبلـ ‪ ،‬لف أتركيا تفسد مستقبميا مف أجمي‪..‬‬
‫ولكف‪ ...‬كيؼ أستطيع إقناعيا بالعودة؟‪..‬‬
‫كيؼ أكوف الخصـ والحكـ في آف واحد؟‪!..‬‬
‫واتصمت بيا‪ ..‬رد عمي صوت نسائي رجحت أنو صوت والدتيا‪:‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ موجودة؟‬
‫ػ مف يريدىا؟‬
‫ػ مستشفى ابف النفيس‪.‬‬
‫غاب الصوت قميبل ‪ ،‬ثـ جاء صوت أحبلـ ىادئا رزينا في بحة شجية ‪ ،‬قمت كالعاتب‪:‬‬
‫ػ لقد تسرعت كثي ار في قرارؾ‪.‬‬
‫عرفت صوتي عمى الفور‪ ..‬قالت بعد صمت قصير‪:‬‬
‫ػ ألـ تطمب مني أف أنساؾ؟ ىذا أفضؿ طريؽ‪.‬‬
‫ػ أنت تتصرفيف تحت وطأة الصدمة‪!.‬‬
‫ػ كاف البد أف نفترؽ‪ ..‬عاجبل أـ آجبل‪..‬‬
‫وخزتني كممة الفراؽ ‪ ،‬وأوجعتني‪ ..‬قمت في ألـ‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ‪ ..‬ال تتحدثي عف الفراؽ‪.‬‬
‫صمتت قميبل ‪ ،‬ثـ قالت بصوت حزيف‪:‬‬
‫ػ لقد اتفقنا عمى مواجية الواقع‪.‬‬
‫ػ ليس بيذا األسموب‪.‬‬
‫ػ لكؿ أسموبو‪.‬‬
‫ػ أنت غاضبة‪.‬‬
‫ػ ىؿ ييمؾ غضبي إلى ىذا الحد؟‬
‫صورتي أماميا تنيار شيئا فشيئا ‪ ،‬أصبحت في نظرىا إنسانا مشوىا ال يعبأ بأحاسيس الناس ‪ ،‬وال يقيـ لمشاعرىـ‬
‫وزنا ‪ ،‬قمت في محاولة الستعادة ثقتيا بي‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ ...‬تأكدي أني أحترمؾ وأحترـ مشاعرؾ ‪ ،‬ولكف‪...‬‬
‫قاطعتني بنبرة غاضبة‪:‬‬
‫ػ أعتقد أف ىذه المواضيع قد انتيت بيننا ‪ ،‬ىؿ أستطيع أف أخدمؾ بشيء؟‪!..‬‬
‫أحسست أف صوتيا يتيدج ‪ ،‬ونبراتيا ترتعش ‪،‬ىمست مشفقا‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ ..‬ال أريد أف أكوف سببا في إفساد مستقبمؾ ‪ ،‬إذا كاف تركؾ لمعمؿ في المستشفى ‪ ،‬بسببي فأنا‪...‬‬
‫ػ أنا أتخذ ق ارراتي بمؿء إرادتي ‪ ،‬وليس بسبب أحد‪..‬‬
‫ػ تصرفؾ السريع عقب ما جرى بيننا يجعمني أشؾ في قرارؾ‪!.‬‬
‫ػ كؿ ما في األمر أني أحضر لممعرض الذي سأقيمو بعد أسابيع ‪،‬وقد رأيت أف أتفرغ لئلعداد لو ‪ ،‬حتى تكوف‬
‫لوحاتي جديرة بأف يدعى إلييا الناس‪.‬‬
‫قمت في توسؿ‪:‬‬
‫ػ أحبلـ‪ ..‬أرجوؾ أف تعودي‪.‬‬
‫ىتفت في ضيؽ‪:‬‬
‫ػ أرجوؾ أال تعود إلى ىذا الموضوع‪.‬‬
‫ػ ولكف‪..‬‬
‫ػ ىؿ تسمح لي بإغبلؽ السماعة؟‬
‫صفعتني بطمبيا المبؽ الذي يخفي خمفو حزنا وغضبا وم اررة‪ ..‬اجتاحتني خيبة خانقة‪ ..‬قمت بنبرة عاتبة‪:‬‬
‫ػ لـ أتوقع أف حديثي معؾ سيكوف ثقيبل إلى ىذه الدرجة!‬
‫قالت بصوت متيدج‪:‬‬
‫ػ آسفة إذا كاف طمبي ىذا فظا ‪ ،‬لكني في حالة نفسية ال تسمح لي بالحديث مع أحد‪.‬‬
‫ثـ انفجرت باكية وىي تغمؽ السماعة برفؽ ‪ ،‬فمزقني صوتيا الباكي ‪ ،‬وغاص في قمبي كمدية مف الجمر‪..‬‬
‫القصؿ السادس والعشروف‬

‫غربت أحبلـ مف حياتي كما يغرب القمر ‪ ،‬وتركتني وحيدا في بيداء مظممة كؿ ما فييا أسود شاحب وكئيب‪..‬‬
‫ومرت عمي األياـ التالية ببل طعـ أو روح ‪ ،‬فأغمقت صدري عمى ما حدث ‪ ،‬وانكفأت إلى داخمي أتابع حركة‬
‫اليزات والزالزؿ التي ضربتني بعنؼ ‪ ،‬فزعزعت أركاني ‪ ،‬ودمرت أحبلمي ‪ ،‬وأحاطت برؤيتي المسالمة لمحياة‪..‬‬
‫وأدمنت الصمت ‪ ،‬فبل أرى إال واجما ساىما غارقا في شرود عميؽ ‪ ،‬وحببت إلي الوحدة ‪ ،‬فوجدت راحتي في‬
‫العزلة واالبتعاد عف الناس‪..‬‬
‫قاؿ لي ىاني ذات مرة ‪ :‬أنت لـ تعد أنت‪ ..‬إنساف ال أعرفو ‪ ،‬أراؾ وال أجدؾ ‪ ،‬ال أرى فيؾ سوى بقايا رجؿ!‪ ..‬ما‬
‫الذي حدث لؾ بحؽ اإللو؟‪..‬‬
‫لـ يستفزني كبلمو ‪ ،‬ولـ أجد رغبة في الرد‪ ،‬ابتسمت كاألبمو ‪ ،‬ورنوت إليو بنظرة باردة ال معنى ليا ‪ ،‬قاؿ وىو‬
‫يحدجني في تفكر‪:‬‬
‫ػ أنت تعاني مف صدمة نفسية قوية‪!..‬‬
‫لـ أعمؽ‪ ..‬كأف حديثة ال يعنيني‪ ..‬تابع قائبل‪:‬‬
‫ػ ال شؾ أنؾ قد مررت بتجرة مثيرة!‪ ..‬نعـ‪ ..‬تجربة غير مألوفة أفقدتؾ توازنؾ‪!!..‬‬
‫ثـ أردؼ في دعابة كالذي يحزر‪:‬‬
‫ػ لعمؾ قابمت كائنات غريبة قادمة مف الفضاء!‪ ..‬شاىدت فيمما عف حالة مشابيو‪ ..‬كاف البطؿ يتنزه في الحقوؿ ‪،‬‬
‫فحط قربو طبؽ طائة ‪ ،‬وخرج منو ثبلثة رجاؿ كالقرود ‪ ،‬فاختطفوه وطاروا بو بعيدا إلى أعماؽ الكوف البعيد‪..‬‬
‫وعندما عادوا بو إلى األرض كاف قد صار ىكذا مثمؾ‪ ..‬يحممؽ في اليواء ‪ ،‬ويغرؽ في التأمؿ ‪ ،‬ويخشى الناس‪..‬‬
‫وضحؾ ىاني ليبعث الحياة في دعابتو ‪ ،‬لكف ضحكتو جاءت نشا از ‪ ،‬شعر باإلخفاؽ والخذالف ألني لـ أتجاوب‬
‫مع ضحكاتو ‪ ،‬غير أنو لـ ييأس ‪ ،‬قاؿ كمف وضع يده عمى أمر خطير‪:‬‬
‫ػ ال‪ ..‬ال‪ ..‬أنت مدمف مخدرات ‪ ،‬بعض المخدرات تفعؿ ىكذا!‪ ..‬تصيب اإلنساف بالصمت والشرود ‪ ،‬وتنقمو إلى‬
‫عوالـ مبيمة‪ ..‬تراه معؾ وىو ليس معؾ‪ ..‬ىائـ في عالمو الغريب‪ ..‬نظراتو بميدة ‪ ،‬وحركاتو واىنو ‪ ،‬وعقمو‬
‫مسافر‪ ..‬إلى أيف؟ ‪..‬ال تدري!‪ ..‬يؤسفني أنؾ تحولت مف مصمح إلى حشاش‪!..‬‬
‫ابتسمت رغما عني‪ ..‬قمت وأنا أشيح بوجيي عنو‪:‬‬
‫ػ ىاني دعني وشأني‪..‬‬
‫ػ لف أدعؾ حتى تبوح لي بما غيرؾ‪!..‬‬
‫ػ لـ يغيرني شيء‪..‬‬
‫ػ صمتؾ يغيظني‪..‬‬
‫ػ الصمت خير مف الكبلـ‪..‬‬
‫ػ لـ تكف ىذه حكمتؾ مف قبؿ‪!..‬‬

‫وعشت في البيت كالغريب‪ ..‬أضحؾ لمضحكات ‪ ،‬وأبسـ مع الباسميف ‪ ،‬أراقب ما يجري حولي كطفؿ لـ يمتمؾ‬
‫لغة التخاطب مع البشر بعد‪ ..‬والحظ الجميع ما آلت إليو حالي ‪ ،‬ويئسوا مف اختراؽ صدري ليعرفوا ما الذي يدور‬
‫فيو؟ وأدركت أمي أني أمر بأزمة مف نوع غريب لـ تعيده مف قبؿ ‪ ،‬فانضمت إلى قائمة اليائسيف ‪ ،‬وىي تكابد‬
‫حيرة وعج از‪..‬‬
‫وافتقدت أحبلـ‪ ..‬افتقدت حديثيا الحمو الذي ينساب كمحف عذب‪ ..‬افتقدت ابتسامتيا الرقيقة التي كانت تمؤل الكوف‬
‫قرحا وبيجة‪ ..‬افتقدت نظراتيا الوادعة الحالمة التي تطؿ مف عينييا عمى استحياء ‪ ،‬فتدعوؾ لتنطوي ككرة صغيرة‬
‫‪ ،‬تناـ في محجرييا الدافئيف ‪ ،‬وافتقدت روح أحبلـ تمؾ الروح الرقيقة التي تشؼ عف جوىرىا النفي ومعدنيا النبيؿ‬
‫‪ ،‬مف يستطيع أف يسكت ندائات الروح المشتاقة إلى توأميا الغائب الحزيف؟ مف يستطيع أف يقمع آالـ الروح عندما‬
‫يضنييا الفراؽ ويوجعيا الحنيف؟‪..‬‬
‫وصارت األحبلـ السوداء تغزوني في الميؿ ‪ ،‬تنقض عمي كالكوابيس ‪ ،‬وتقض مضجعي بمشاىدىا القاسية العنيفة‬
‫‪ ،‬رأيت أحبلـ ذات مرة تزؼ إلى آخر ‪ ،‬فأفقت كالمجنوف ‪ ،‬وقد روعني ىذا الحمـ الفظيع الذي حرمني مف‬
‫فتاتي‪..‬‬
‫ووجدتني ذات مناـ أصارع ثعبانا مخيفا لو جسد أفعى ورأس إنساف‪ ..‬وسرعاف ما تبينت أف الرأس رأس عبد الغني‬
‫الذىبي ‪ ،‬فدىشت ‪!..‬وكاد الثعباف العجيب يقضي عمى لوال أف ظير األستاذ سعيد الناشؼ فجأة ‪ ،‬وىو يحمؿ‬
‫فأسا غريبة‪ ..‬في أحد رأسييا شفرة فأس ‪ ،‬وفي الطرؼ اآلخر رأس قمـ!‪ ..‬ولـ يمبث األستاذ سعيد أف أغمد رأس‬
‫القمـ المدبب في جسد الثعباف ‪ ،‬فانشغؿ الثعباف عني ليواجيو الخطر الجديد ‪ ،‬فتناولت الفأس مف األستاذ سعيد‬
‫وىويت بيا عمى الثعباف ‪ ،‬ففصمت شفرة الفأس بيف رأسو وجسده ‪ ،‬لكف رأس عبد العني الذبيح ظؿ حيا ‪ ،‬وراح‬
‫يضحؾ ويقيقو ساخ ار مني ‪ ،‬ىازئا بمحاوالتي لمقضاء عميو ‪ ،‬وسرعاف ما نبت لو جسـ ثعباف جديد ‪ ،‬فمد ذيمو‬
‫نحوي ‪ ،‬ولفو حوؿ عنقي وراح يضغط عميو بقوة ‪ ،‬فأفقت وأنا أتخبط كالرغيؽ‪!..‬‬
‫وأفاؽ أىؿ الدار ذات ليمو عمى صوتي ‪ ،‬وأنا أىتؼ وأصيح ‪ :‬فميسقط الظمـ ‪..‬الموت لمظالميف‪ ..‬وعندما أيقظوني‬
‫مف حممي ‪ ،‬تذكرت أني كنت أقود الجموع في المناـ ‪ ،‬وأحاصر بيا برج عبد الغني األزرؽ ‪ ،‬وأحرضيا عمى‬
‫تدمير ىذا الصرح الذي قاـ عمى جماجـ األبرياء‪..‬‬
‫وخطر لي مرة أف الذئب األنيؽ عبد الغني الذىبي قد يكوف نفذ خطتو في تسويؽ أغذية األطفاؿ الكاسدة التي‬
‫انتيى عمرىا المفيد ‪ ،‬وبدأ فعميا الساـ!‪ ..‬نزلت إلى األسواؽ كالمجنوف ‪ ،‬وطفقت أطوؼ عمى محبلت بيع‬
‫األغذية والصيدليات التي أعرفيا ألتفقد ما لدييا مف أغذية أطفاؿ ‪ ،‬واضطرابات لشراء بعض العينات حتى ال‬
‫أنبو الباعة إلى غرضي ‪ ،‬لـ أعثر عمى أية عينية مخالفة ‪ ،‬جميعيا صالحة لبلستيبلؾ ‪ ،‬ال يمكف أف يسمـ عبد‬
‫الغني بخسارة مميوف دوالر بيذه السيولة ‪ ،‬البد أنو قد سوؽ األغذية الكاسدة في الريؼ ‪ ،‬ىناؾ مازاؿ الوعي بيذه‬
‫القضايا ضعيفا ‪ ،‬والذيف ييتموف بتاريخ االستيبلؾ قميموف ‪ ،‬توقفت عند أحد أصدقائي مف الصيادلة ‪ ،‬استغرب‬
‫صديقي وىو يراني أحمؿ أصنافا مف عمب أغذية األطفاؿ ‪ ،‬قاؿ مداعبا وىو يستقبمني في صيدليتو‪:‬‬
‫ػ أضاقت فرص العمؿ باألطباء حتى صرت تعمؿ مروجا تجاريا ألغذية األطقاؿ؟‪..‬‬
‫أرسمت تنييدة وابتسامة وقمت‪:‬‬
‫ػ مف يدري؟ قد تمجؤنا البطالة التي تتسع في صفوفنا إلى أكثر مف ذلؾ‪!.‬‬
‫ضحؾ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ لعمؾ تزوجت وأنجبت! كيؼ تفعميا ‪ ،‬وال تدعوني؟‬
‫قمت ساخ ار‪:‬‬
‫ػ ال تتفاءؿ كثي ار ‪ ،‬األمر غير ىذا تماما‪..‬‬
‫ػ لماذا تحمؿ كؿ ىذه األصناؼ إذف؟‬
‫قمت موريا تفاصيؿ الحقيقة‪:‬‬
‫ػ سمعت أف أحد التجار الجشعيف قد طرح في األسواؽ كمية كبيرة مف أغذية األطفاؿ التي انتيى زمف استيبلكيا‬
‫‪ ،‬فأحببت أف أتأكد مف ذلؾ‪.‬‬
‫قاؿ صديقي بنبرة تعجب‪:‬‬
‫ػ أما زلت تحمؿ الدنيا فوؽ ظيرؾ؟‪ ..‬ظننت أف السنيف قد غيرتؾ‪!..‬‬
‫قمت في قمؽ‪:‬‬
‫ػ أتقوـ و ازرة الصحة بمراقبة دقيقة لمسوؽ؟‬
‫فتح صديقي ثبلجة صغيرة قرب المكتب ‪ ،‬فأخرج منيا عمبتي عصير‪.‬‬
‫قاؿ وىو يقدـ لي إحداىا‪:‬‬
‫ػ و ازرة الصحة تستطيع أف تراقب السوؽ ‪ ،‬لكنيا ال تستطيع أف تراقب الضمائر‪.‬‬
‫ثـ أردؼ وقد أحاطت بشفتيو ابتسامة ذات معنى‪:‬‬
‫ػ إنيـ يزوروف تاريخ االستيبلؾ يا صديقي‪ ..‬وأحيانا يتواطئوف مع الشركات الصانعة مف أجؿ ذلؾ!‬
‫ػ الشركات الصانعة‪!.‬‬
‫تناوؿ صديقي الصيدلي كتابا أنيقا ‪ ،‬ودفعو إلي‪..‬‬
‫ػ اق أر ىذا العنواف‪..‬‬
‫تأممت غبلؼ الكتاب‪:‬‬
‫ػ (الجرائـ المنظمة في الصناعات الدوائية) تأليؼ "جوف بريثويت" قاؿ صديقي موضحا‪:‬‬
‫ػ ىذا الكتاب صدر في انكمت ار قبؿ سنوات وأحدث صدوره ضجة كبيرة ‪ ،‬وال سيما في العالـ الثالث‪..‬‬
‫ػ العالـ الثالث‪!..‬‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬مازالوا ينظروف ػ إلينا ػ بعيف المستعمر الذي ال يرى في ببلدنا إال منجما لمثروات أو سوقا لتصريؼ‬
‫البضائع ‪ ،‬نحف بالنسبة إلييـ مخموقات مف الدرجة الثانية لذلؾ يستيينوف بشعوبنا ويصدروف إلييا أغذية وأدوية‬
‫غير صالحة لبلستيبلؾ اآلدمي‪ ..‬ستجد في ىذا الكتاب حقائؽ مذىمة عف شركات تصدر إلينا أدوية خالية نـ أي‬
‫تأثير ضار‪ ..‬ستق أر عف أدورية تباع إلينا عمى أنيا عبلج ألمراض لـ تصمـ ىذه األدوية ليا أصبل‪.‬ستق أر عف‬
‫تزوير في الجرعات البلزمة لمقاومة المرض‪ ..‬يزيدوف الجرعات أضعافا مضاعفة ‪ ،‬حتى تستيمؾ كميات أكبر‬
‫مف الدواء ‪ ،‬فيربحوف ىـ ‪ ،‬ونصاب نحف بالمناعة ضد مفعوؿ الدواء ‪ ،‬فبل يعود يؤثر فينا ‪ ،‬بعض الشركات‬
‫جربت أدويتيا الجديدة في ببلدنا ‪ ،‬وزعت أدويتيا الخطيرة عمى البسطاء والفقراء كيبات وعطايا ‪ ،‬لتختبر مفعوليا‬
‫فييـ ‪ ،‬عاممتيـ كما تعامؿ فئراف التجربة ‪ ،‬ولـ تحترـ إنسانيتيـ أو حقيـ في الحياة‪ ..‬بعضيـ مات ‪ ،‬وبعضيـ‬
‫أصيب بأمراض خطيرة ‪ ،‬ولـ يرتفع ليؤالء صوت ألنيـ لـ يدركوا أف ما تـ جريمة‪!..‬‬
‫ىالني ما سمعت‪ ..‬أيصؿ استخفاؼ الدنيا بنا إلى ىذا الحد؟‪ ..‬قمت في حماس‪:‬‬
‫ػ يجب أف تقوـ الصحافة بفضح ىذه األساليب البشعة‪ ..‬يجب أف يطمع الجميور عمى ىذه الحقائؽ\‪..‬‬
‫قاطعني صديقي بنبرة ثقة وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىذا الموضوع ال ينفع معو ألؼ مقاؿ ‪ ،‬وال ألؼ كتاب‪ ..‬الحؿ الوحيد ىو أف نتحرر مف التبعية االقتصادية‬
‫المذلة‪ ..‬أف نصنع دواءنا بأيدينا‪ ..‬أف نصنع غذائنا بأيدينا‪ ..‬حتى السبلح يجب أف نصنعو ىنا ‪ ،‬ألف األمة التي‬
‫ال تصنع غذائيا وسبلحيا ال تستطيع أف تحمي استقبلليا أو تصنع مستقبميا‪..‬‬
‫قمت وأنا أىـ بالنيوض‪:‬‬
‫ػ ىذا الحديث ذو شجوف‪ ..‬سنمتقي في فرصة أخرى ونتحدث‪...‬‬
‫وودعتو مثقبل باليموـ ‪ ،‬نحف أمة كتب عمييا التحدي ‪ ،‬وأمو كيذه يجب أال تناـ ‪ ،‬ولكف‪ ...‬كيؼ تواجو التحدي‬
‫وعبد الغني الذىبي وأمثالو ينيشونيا مف الداخؿ؟‪ ..‬أيكوف عبد الغني قد زور تاريخ االستيبلؾ؟ يجب أف أتصرؼ‬
‫قبؿ أف تصؿ األغذية الفاسدة إلى أفواه األطفاؿ!‪ ..‬وومضت لي فكرة فمذت بيا‪ ..‬رفعت السماعة وطمبت و ازرة‬
‫الصحة‪..‬‬
‫ػ و ازرة الصحة معؾ‪ ..‬نعـ‪..‬‬
‫ػ أريد قسـ المراقبة الغذائية ‪ ،‬المدير لو سمحت‪..‬‬
‫ػ لحظة مف فضمؾ‪..‬‬
‫وجاءني صوت المدير ىادئا وعميقا‪:‬‬
‫ػ نعـ‪..‬‬
‫ػ ثمة ببلغ ىاـ أريد أف أدلي بو‪.‬‬
‫ػ مف المتكمـ؟‪..‬‬
‫ػ ال داعي لذكر االسـ‪..‬‬
‫ػ تفضؿ‪..‬‬
‫ػ ىناؾ تاجر جشع يستعد لطرح كمية ىائمة مف أغذية األطفاؿ التي انتيت مدة استيبلكيا في السوؽ‪ ..‬ىذا إف لـ‬
‫يكف قد طرحيا فعبل‪..‬‬
‫ػ مف ىو؟‪..‬‬
‫ػ أعتقد أنو يخطط لبيعيا في الريؼ مستفيدا مف تخمؼ الوعي الصحي ىناؾ ‪ ،‬ىو الذي حدثني بذلؾ ف وطمب‬
‫مني أف أساعده‪..‬‬
‫ػ قؿ لنا مف ىو ونحف سنتحقؽ مف األمر‪..‬‬
‫ػ قد ال يكوف تاج ار واحدا‪!..‬‬
‫صمت المدير برىة ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ أخشى أنؾ مف ىواة العبث عمى الياتؼ‪!..‬‬
‫قمت في إصرار‪:‬‬
‫ػ سيدي أنا ال أعبث ‪ ،‬أنا أستند عمى حقائؽ‪..‬‬
‫ػ اذكر لنا اسـ التاجر إذف‪..‬‬
‫ػ لماذا ال تقوموف بحممة شاممة لمتحقؽ مف صبلحية األغذية الموجودة في السوؽ؟ إنو أمر يستحؽ االىتماـ‪..‬‬
‫ػ يبدو أنؾ تعبث‪ ..‬إما أف تعطيني معمومات محدده تساعدني عمى سرعة التصرؼ ‪ ،‬أو تغمؽ السماعة‬
‫وتنصرؼ‪..‬‬
‫حط عمي الصمت فجأة ‪ ،‬وأنا أتخيؿ ما ينتظرني عمى يد والد أحبلـ ‪ ،‬سيدرؾ أني وراء الببلغ وسينفذ تيديده‪..‬‬
‫سيموث سمعتي وييز مستقبمي‪ ..‬وسيقمب الموازيف ‪..‬سيجعؿ البريء مجرما والمجرـ حمبل ‪ ،‬ويرضي شيوتو‬
‫لبلنتقاـ‪..‬‬
‫وألمت بي لحظة مف ضعؼ ‪ ،‬فكدت أىوي بالسماعة ‪ ،‬ألكتـ أنفاس ىذه المكالمة التي ستفجر في حياتي‬
‫المتاعب ‪ ،‬لكف صوت المدير عاد يحثني عمى الكبلـ‪:‬‬
‫ػ مف ىو؟‬
‫قاومت ترددي وجبني بشدة‪:‬‬
‫ػ إنو عبد الغني الذىبي‪ ..‬التاجر المعروؼ‪..‬‬
‫ػ يبدو لي إنؾ إنساف مغرض‪.‬‬
‫وصمتني كمماتو كالصفعة‪ ..‬قمت غاضبا‪:‬‬
‫ػ أىكذا تقولوف لمف يحذركـ مف كارثة قد تودي بأرواح المئات مف األطفاؿ؟‪.‬ز‬
‫قاؿ بنبرة الساخر‪:‬‬
‫ػ ال ‪ ،‬ال نقوؿ ىكذا لكؿ الناس ‪ ،‬لكني أقوليا لؾ أنت بالذات ‪ ،‬ألنؾ إما مغرض فعبل ‪ ،‬أو عابث‪..‬‬
‫ػ لماذا تتحدث بيذه الثقة واإلصرار؟‪ ..‬ما الذي أوحى لؾ بأني مغرض أو عابث؟‪..‬‬
‫ػ ألف عبد الغني الذىبي إنساف نظيؼ‪ ..‬رجؿ مف ألمع رجاالت البر واإلحساف في ىذه المدينة ‪ ،‬وال يمكف أف يقدـ‬
‫عمى عمؿ دنيء كالذي تتيمو فيو‪..‬‬
‫ضحكت‪ ..‬وشر البمية ما يضحؾ!‪ ..‬تذكرت رسما كريكاتيريا ألنثى الشمبانزي وىي تتربع عمى عرش ممكة جماؿ‬
‫العالـ‪ ..‬يا زمف الزيؼ‪ ..‬أطرؼ كذبة سمعتيا في حياتي!‪ ...‬عبد الغني الذىبي رجؿ بر واحساف‪..‬‬
‫قاؿ المدير وقد أحس بالسخرية التي وشت بيا ضحكاتي‪:‬‬
‫ػ أنا ال أمزح‪ ...‬عبد الغني الذىبي الذي تتيمو بالغش تبرع في الشير الماضي فقط بخمسيف ألؼ عمبة مف أغذية‬
‫األطفاؿ ‪ ،‬وقد وزعت عمى األحياء الفقيرة بإشراؼ إحدى الجمعيات الخيرية‪..‬‬
‫يا لو مف ماكر!‪ ..‬إنو يتموف كالحرباء ‪ ،‬ويتقف فف التمويو ‪ ،‬يعطي القميؿ ويأخذ الكثير‪..‬يرتكب الموبقات في السر‬
‫‪ ،‬ويجير بالحسنات‪ ..‬يخدر الناس بسخاء كاذب ‪ ،‬ويمتص دماءىـ بجشع فظيع ‪ ،‬وقمت في سخرية مريرة‪:‬‬
‫ػ ال تخدعؾ ىذه األريحية الطارئة يا سيدي ‪ ،‬فأنا أعرؼ منؾ بيذا الذئب ‪..‬معموماتي تؤكد‪..‬‬
‫لـ يميمني حتى أكمؿ ‪ ،‬أغمؽ في وجيي السماعة ‪ ،‬صوت النفاؽ بات أعمى ‪!..‬استطاع عبد الغني الذىبي أف‬
‫يخدر الرأي العاـ بخمسيف ألؼ عمبة غذاء لـ يبؽ مف عمرىا الحقيقي سوى أياـ ‪ ،‬والكمية الباقية؟‪ ..‬اهلل أعمـ‬
‫كيؼ سوؽ ما بقي مف األغذية الفاسدة‪ ..‬لعمو زور تاريخ استيبلكيا ‪ ،‬ولعمو باعيا كما ىي مستفيدا مف جيؿ‬
‫الجميور‪ ..‬ىذا الماكر‪ ..‬إنو يوظؼ كؿ شيء لصالحو‪ ..‬يستفيد مف كؿ نقطة ضعؼ في ىذا المجتمع‬
‫المريض‪ ...‬العشرة بالمئو التي كاف ينوي أف يرشيني بيا رشى بيا مجتمعا بأكممو‪!..‬‬
‫وألفيت نفسي أماـ مبنى جريدة األياـ‪ ..‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬ىذه ليست جريدة األياـ !وعدت أتأمؿ اليافطة األنيقة المعمقة‬
‫عمى صدر البناء‪" ..‬مجمة الديف لؤلطفاؿ"!‪ ..‬ولكنيا كانت ىنا‪ ..‬ىذا مبنى جريدة األياـ فمف أيف أتت مجمة‬
‫األطفاؿ؟!‪ ..‬ال بد أف األستاذ سعيد قد فعميا أخي ار ‪ ،‬وطمؽ الصحافة طبلقا بائنا ال رجعة فيو‪ ..‬كنت أتمنى أف‬
‫أجدؾ يا أستاذ سعيد‪ ..‬عندي أشياء كثيرة كنت أريد أف أحدثؾ بيا‪..‬‬
‫وخرجت مف مبنى المجمة مجموعة مف األطفاؿ‪ ..‬كانوا ثبلثة ‪ ،‬وكاف كؿ واحد منيـ يحمؿ مجمة‪ ..‬يتصفحيا وىو‬
‫يسير عمى ميؿ ‪ ،‬وكأف ليفتو لمقراءة لـ تميمو حتى يصؿ إلى البيت فيق أر مجمتو بيدوء‪ ..‬استيقظت في أعماقي‬
‫طفولتي القديمة‪..‬‬
‫"أروني ىذه المجمة يا أطفاؿ‪"..‬‬
‫تقدـ أحدىـ ‪ ،‬ومد لي يده بالمجمة بينما وقؼ صديقاه عمى بعد خطوات منا ‪ ،‬يرقباني بدىشة‪..‬‬
‫قمبت المجمة بسرور‪ ..‬كـ تحركت ىذه الصور الممونة في خيالنا ونحف صغار ‪!..‬كانت أحبلـ الطفولة المجنحة‬
‫الطميقة تبعث الحياة في ىذه الرسوـ الجميمة ‪ ،‬وتحمؽ بنا في عالـ مسحور!‪ ..‬كـ طرت في طفولتي عمى بساط‬
‫الريح ‪ ،‬وكـ تجولت مع السندباد في أسفاره الممتعة المثيرة ‪ ،‬وكـ تقت لمصاحبة سمير‪..‬‬
‫ػ "عمو ‪ ،‬عمو‪ "..‬ىؿ تعرؼ حؿ المسابقة؟‬
‫حضنت الطفؿ بنظرة ودودة وابتسمت‪:‬‬
‫ػ أيف ىي المسابقة؟‪..‬‬
‫خطؼ الطفؿ المجمة مف يدي ‪ ،‬وراح يقمب صفحاتيا ‪ ،‬حتى عثر عمى صفحة المسابقة‪..‬‬
‫ػ اق أر ىنا‪ ..‬ىذه ىي المسابقة‪..‬‬
‫قرأت بصوت مسموع‪:‬‬
‫ػ "مدينة عربية يبدأ اسميا بحرؼ القاؼ ‪ ،‬فتحيا عمر وحررىا صبلح الديف ‪ ،‬ثـ احتميا الييود عاـ ‪، 7667‬‬
‫وحرقوا مسجدىا الشيير ‪ ،‬ىؿ تعرفوف ما ىي؟‪".‬‬
‫تفكر الطفؿ قميبل ‪ ،‬ثـ ىتؼ في حماس‪:‬‬
‫ػ القدس‪..‬‬
‫انحنيت نحو الطفؿ فيما يشبو الركوع ‪ ،‬فتقابمنا وجيا لوجو ‪ ،‬قمت مداعبا‪:‬‬
‫ػ ىا أنت تعرؼ الحؿ ‪ ،‬فمماذا تريدني أف أساعدؾ؟‬
‫ابتسـ الطفؿ وقاؿ في حياء‪:‬‬
‫ػ ظنتيا صعبة‪!..‬‬
‫ػ يجب أف تكوف واثقا بنفسؾ‪.‬‬
‫ػ ما معنى "واثقا بنفسؾ"؟‪..‬‬
‫ضحكت ‪ ،‬تذكرت أف لؤلطفاؿ لغتيـ وقاموسيـ الخاص ‪ ،‬حاولت أف أقرب لو المعنى‪:‬‬
‫ػ أف تكوف واثقا بنفسؾ يعني شأف تعتقد بأنؾ قادر عمى اإلجابة عف أسئمة المسابقات والدروس دوف أف تستعيف‬
‫بأحد ‪ ،‬حاوؿ دائما أف تعتمد عمى نفسؾ يا صديقي فأنت ذكي كما أرى‪!..‬‬
‫لـ يميمني حتى أتـ موعظتي‪ ..‬بدا غير متحمس لسماع المزيد!‪ ..‬انطمؽ نحو صديقيو بخفة ومرح ‪ ،‬وقاؿ ليما‬
‫بنبرة تشي بالفخر‪:‬‬
‫ػ لقد عرفت حؿ المسابقة ‪ ،‬إنو مدينة القدس‪..‬‬
‫نظر إليو أحدىما في شؾ ‪ ،‬وقاؿ لو وىو يشير إلي‪:‬‬
‫ػ ىو الذي حميا لؾ‪!..‬‬
‫ضرب الطفؿ األرض بقدمو الصغيرة ‪ ،‬وقاؿ وقد أثاره ىذا االستخفاؼ بقدراتو‪:‬‬
‫ػ بؿ أنا الذي حممتيا بنفسي‪ ..‬أسألو إذا أردت‪!..‬‬
‫أسرع الطفؿ المرتاب إلي مستجيبا لمتحدي ‪ ،‬ثـ سألني وىو يشير إلى صديقو في شؾ‪:‬‬
‫ػ "عمو ‪ ،‬عمو"‪ ..‬أصحيح أنو عرؼ حؿ المسابقة وحده‪..‬‬
‫أسعدني ىذا الحوار الطفولي الطريؼ ‪ ،‬وألوؿ مرة منذ مدة طويمة شعرت بأني أبتسـ مف الداخؿ‪ ..‬ابتسـ ابتسامة‬
‫ليا جذور عميقة مف الفرح‪ ..‬األطفاؿ ىـ الفرح الباقي في ىذا العالـ‪ ..‬قمت لمطفؿ مطمئنا‪:‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬ىو الذي حؿ المسابقة‪ ..‬حميا وحده ودوف أف أساعده‪.‬‬
‫ثـ أردفت مشجعا‪:‬‬
‫ػ إنيا مسابقة سيمة ‪ ،‬تستطيعوف حميا جميعا والفوز بجائزتيا‪..‬‬
‫ىنا تدخؿ الطفؿ الثالث‪ ..‬قاؿ لصاحبيو فجأة ‪ ،‬وقد اكتفى بمراقبة ما حدث‪:‬‬
‫ػ دعونا نعود إلى األستاذ سعيد ‪ ،‬ونخبره بأنا قد عرفنا الحؿ‪..‬‬
‫األستاذ سعيد؟‬
‫عدت بنظراتي إلى اليافطة المعمقة عمى صدر البناء ‪ ،‬ىؿ حوؿ األستاذ سعيد جريدتو إلى مجمة أطفاؿ؟‪..‬‬
‫وأسرعت إلى الداخؿ‪..‬‬
‫كاف األستاذ سعيد جالسا بيف مجموعة مف األطفاؿ ‪ ،‬يحادثيـ ويحادثونو ‪ ،‬يحاوؿ االقتراب مف عالميـ ‪ ،‬وفيـ‬
‫أفكارىـ وأحبلميـ‪..‬‬
‫وحانت منو التفاتو إلي فألفاني لدى الباب ‪ ،‬أرقبو بإكبار‪!..‬‬
‫ػ أىبل‪ ..‬أىبل بالدكتور صبلح‪..‬‬
‫وىب الستقبالي ببشاشة وح اررة ‪ ،‬وقد أطمت مف عينيو نظرة متفائمة ‪ ،‬لـ أكف أراىا فيما مضى‪..‬‬
‫قاؿ وىو يشد عمي يدي‪:‬‬
‫ػ منذ متى لـ أرؾ!‪ ..‬ما أخبارؾ ىذه األياـ؟‬
‫ىمست كالحائر ‪ ،‬وأنا أجوؿ بنظراتي الداىشة المستطمعة في وجوه األطفاؿ الذيف ممؤوا الغرفة‪:‬‬
‫ػ أريد أف أفيـ ما يجري‪!..‬‬
‫ػ ما كاف يجب أف يجري منذ زمف بعيد‪!..‬‬
‫ػ ما زلت ال أفيـ‪!..‬‬
‫ػ تعاؿ ‪ ،‬تعاؿ‪..‬‬
‫وقادني مف يدي إلى مكتبو ‪ ،‬قاؿ وىو يأخذ مكانو مقابمي‪:‬‬
‫ػ ألوؿ مرة في حياتي أشعر بأني أمضي في الطريؽ الصحيح‪!..‬‬
‫ثـ بعد إطراقة قصيرة‪:‬‬
‫ػ كاف عمي أف أفيـ ىذا منذ البداية‪ ..‬المشكمة عند المنبع‪ ..‬ىناؾ يبدأ التموث ومف ىناؾ يجب أف يبدأ العبلج‪..‬‬
‫مف العبث أف نحشد جيودنا عند المصب ونترؾ المنبع مكشوفا معرضا لجراثيـ الجيؿ والتخمؼ والفساد‪ ..‬فيمت‬
‫ذلؾ متأخ ار لؤلسؼ ‪ ،‬لكني لـ أضيع الوقت‪ ..‬تركت لمكبار عالميـ الموبوء ‪ ،‬وىرعت إلى عالـ األطفاؿ ألحميو‬
‫مف التموث‪..‬‬
‫وغمبو االبتساـ فأطرؽ كالحالـ ‪ ،‬ثـ تابع يقوؿ‪:‬‬
‫ػ لمعمؿ مع األطفاؿ متعة خاصة ال تدانييا متعة‪ ..‬في عالميـ تجد اإلنساف بفطرتو األولى‪ ..‬تجده بخصالو البكر‬
‫التي لـ تموثيا بعد أمراض الكبار ‪..‬عندما بدأت مشروع مجمة األطفاؿ ‪ ،‬كنت أنوي أف أعمـ األطفاؿ أشياء كثيرة‬
‫‪ ،‬لكني ما إف بدأت معيـ حتى شعرت بػأني أتعمـ منيـ‪ ..‬تعممت منيـ الصدؽ ‪..‬الصراحة‪ ..‬البراءة‪ ..‬التفاؤ‪..‬‬
‫العدؿ‪ ..‬اكتشفت أف اإلنساف يعشؽ العدؿ بفطرتو‪ ..‬ويكره الظمـ‪ ..‬حاوؿ أف تراقب األطفاؿ‪ ..‬ال يرضى طفؿ أف‬
‫تدلؿ أخاه أو صديقو أكثر منو ‪!..‬ينفر منؾ إف أنت ابتسمت لزميمو ولـ تبتسـ لو‪ ..‬يكرىؾ إف أنت اعتديت عمى‬
‫حقوقو ‪ ،‬أو خدشت شخصيتو ‪ ،‬إنو إنساف كامؿ لو كيانو الخاص ‪ ،‬وال يقبؿ منؾ إال أف تعاممو باحتراـ‪.‬‬
‫ثـ ضحؾ األستاذ سعيد‪ ..‬ضحؾ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ لـ يخطر لي يوما أني سأتجو إلى صحافة األطفاؿ!‪ ..‬كنت أظف أف الكبار ىـ ميداف التغيير‪ ..‬تصوت أني‬
‫يمكف أف أغير بخطبة أو مقاؿ‪ ..‬تخيمت كمماتي الصادقة عصا سحرية يمكف أف تصمح األوضاع الفاسدة بممسة‬
‫واحدة‪ ..‬وبعد سنوات طويمة اكتشفت أني كنت أعبث‪ ..‬ألعب‪ ..‬أنفخ في قربة مثقوبة‪ ..‬أثارت تفكيري مقولة خطيرة‬
‫لعالـ نفس مشيور‪":‬شخصية اإلنساف تتشكؿ في السنوات األولى مف عمره"‪ ..‬وأخي ار اىتديت إلى الطريؽ‪ ..‬عندما‬
‫تثقؼ األطفاؿ وتربييـ ‪ ،‬فإنؾ تصنع أمو‪ ..‬تصنع المستقبؿ المشرؽ الذي تحمـ فيو‪..‬‬
‫واستدرؾ األستاذ سعيد فجأة ‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫ػ ما رأيؾ أف تعمؿ معي؟‬
‫ابتسمت كالحائر ‪ ،‬ىذه المرة الثانية التي يدعوني فييا األستاذ سعيد لمعمؿ معو‪!..‬‬
‫ػ أستاذ سعيد‪ ..‬لماذا تريدني أف أعمؿ معؾ؟‬
‫ػ ألنؾ تممؾ ما تقولو لمناس‪..‬‬
‫ػ ال يكفي أف يجد اإلنساف ما يقولو‪ ..‬يجب أف يعرؼ كيؼ يقولو؟‬
‫ػ سأعممؾ فف الكتابة‪.‬‬
‫ػ أنا يا سيدي طبيب ‪ ،‬وال أريد أف أكوف غير ذلؾ‪..‬‬
‫ػ الدكتورة أحبلـ أيضا طبيبة‪!..‬‬
‫أثارتني ىذه المبلحظة‪ ..‬لـ أفيـ ما يقصده!‪ ..‬ما دخؿ الدكتورة أحبلـ في حديثنا؟‪ ..‬قوست حاجبي في دىشة ‪،‬‬
‫وجاؿ في عيني سؤاؿ!‪ ..‬أردؼ األستاذ سعيد وقد لمح الدىشة في نظراتي‪:‬‬
‫ػ طبيبة ورسامة‪..‬‬
‫ػ كيؼ عرفت؟‪..‬‬
‫ػ عرفت ماذا؟‪..‬‬
‫ػ أنيا رسامة‪..‬‬
‫ػ مف الصحؼ طبعا‪..‬‬
‫ػ الصحؼ؟‪!!..‬‬
‫ػ أال تق أر الصحؼ؟‪..‬‬
‫ماذا جاء في الصحؼ عف أحبلـ حتى عرؼ األستاذ سعيد عنيا أنيا رسامة ؟ ‪..‬تناوؿ األستاذ سعيد إحدى‬
‫الصحؼ مف فوؽ مكتبو ‪ ،‬وفتحيا عمى الصفحة الثقافية ‪ ،‬ثـ دفع الصحيفة إلي قاؿ‪:‬‬
‫ػ اق أر ىنا‪ ..‬العمود األيمف في األسفؿ‪..‬‬
‫تناولت الجريدة بميفة ‪ ،‬ورحت ألتيـ السطور باىتماـ‪" ..‬تدعو الطبيبة الفنانة الدكتورة أحبلـ عبد الغني الذىبي‬
‫الجميور الكريـ إلى حضور معرضيا األوؿ الذي ستقيمو في قاعة المعارض في المركز الثقافي‪ ..‬وسيتـ افتتاح‬
‫المعرض في الساعة السادسة مف مساء اليوـ ويستمر ثبلثة أياـ‪"..‬‬
‫خفؽ قمبي لمنبأ‪ ..‬شعرت بشوؽ عارـ إلى أحبلـ ‪ ،‬ىا ىي تخرج أخي ار مف قوقعتيا الحزينة‪..‬‬
‫قاؿ األستاذ سعيد في حيرة‪:‬‬
‫ػ كيؼ تكوف زميميا في المستشفى ‪ ،‬وال تعمـ؟ ألـ تدعؾ إلى معرضيا؟‪..‬‬
‫ىسمت بنبرة أسؼ‪:‬‬
‫ػ لقد استقالت منذ أسابيع‪..‬‬
‫ػ استقالت؟‪ ..‬أو تفرغت لمفف؟‪..‬‬
‫نكأ الحديث جروحي‪ ..‬نيضت فجأة ‪ ،‬قمت‪:‬‬
‫ػ أستاذي‪ ..‬أرجو أف تسمح لي باالنصراؼ‪.‬‬
‫نيض األستاذ سعيد ‪ ،‬قد أثار دىشتو ىذا التغير الذي اعتراني!‪ ..‬سدد إلي نظرة متفحصة وقاؿ مستوضحا‪:‬‬
‫ػ أأنت عمى ما يراـ؟‪..‬‬
‫ػ عمى ما يراـ‪..‬‬
‫ػ ال تبدو كذلؾ‪!..‬‬
‫ػ سأزورؾ في وقت آخر‪..‬‬
‫ػ أنت تعاني مف أزمة‪!..‬‬
‫لـ أرد أف يتشعب بنا الحديث‪ ..‬مددت لو يدي مودعا‪ ..‬قاؿ وىو يحتفظ بيدي بيف راحتيو‪:‬‬
‫ػ أتحبيا؟‬
‫أطرقت كمف يعترؼ‪ ..‬ىمست وأنا أسحب يدي برفؽ‪:‬‬
‫ػ سيأتي يوـ نتحدث‪..‬‬
‫ػ ستجد بابي مفتوحا في كؿ وقت‪..‬‬
‫الفصؿ السابع والعشروف‬

‫ػ صبلح؟‪.‬‬
‫ػ أيز ِ‬
‫عجؾ حضوري؟‪..‬‬
‫ػ أبدا‪ ..‬تفضؿ‪..‬‬
‫ػ أىنئؾ عمى المعرض‪.‬‬
‫ػ تعاؿ ألريؾ لوحاتي‪..‬‬
‫ػ أنت لوحتي األحمى واألغمى‪..‬‬
‫ػ اتفقنا عمى أف نبقى أصدقاء‪!..‬‬
‫ػ اكتشفت أف الصداقة بيف الرجؿ والمرأة كذبة‪..‬‬
‫ػ كذبة‪!..‬‬
‫ػ كذبة نسمي بيا قموبنا المحرومة‪..‬‬
‫ػ لـ يكف ىذا رأيؾ‪!..‬‬
‫ػ لـ أكف أعرؼ أني أحبؾ كؿ ىذا الحب‪!..‬‬
‫ػ لمحب نياية معروفة‪..‬‬
‫ػ الزواج؟‬
‫ػ وقد رفضتو‪!..‬‬
‫ػ أنا لـ أرفضو‪ ..‬أنا‪...‬‬
‫ػ أنت ماذا؟‪..‬‬
‫ػ أحبلـ أرجوؾ ال تكوني قاسية‪..‬‬
‫ػ كنت أقسى‪..‬‬
‫ػ بؿ ىو أبوؾ‪ ..‬إنو جبلد ببل رحمة‪ ..‬ظالـ ببل رأفة‪ ..‬إنساف ببل قمب‪ ..‬لو تعمميف ما فعمو بي أبوؾ‪!..‬‬
‫وشعرت بيزة مباغتة ‪ ،‬ارتجت ليا السيارة رجة عنيفة ‪ ،‬وأفقت مف شرودي عمى صوت غاضب ينياؿ عمي مف‬
‫الخمؼ‪..‬‬
‫ػ أال تنتبو يا أستاذ؟ لقد أضيئت اإلشارة الخضراء‪ ..‬وأنت سارح شارد غائب عف الدنيا‪ ..‬إف كنتـ ال تستطيعوف أف‬
‫تسيطروا عمى أفكاركـ ‪ ،‬فبل تقودوا السيارات ‪ ،‬وتيددوا بيا الشوارع اآلمنة‪...‬‬
‫ركبني ارتباؾ وخجؿ ‪ ،‬فترجمت بسرعة ‪ ،‬واعتذرت لمرجؿ ‪ ،‬ثـ تفقدت سيارتو ‪ ،‬فوجدتيا سميمة ‪ ،‬أما سيارتي فقد‬
‫أصيبت ببعض األضرار ‪ ،‬قمت لمرجؿ مسمما بالنتيجة‪:‬‬
‫ػ ال ييـ‪.‬‬
‫ػ أضاءت اإلشارة الخضراء فانطمقت‪ ..‬ظننتؾ ستنطمؽ أمامي‪ ..‬لكنؾ لـ تتحرؾ‪!..‬‬
‫ػ آسؼ‪ ..‬لـ أكف قاصدا‪...‬‬
‫ػ بسيطة‪..‬‬
‫وانفجرت أبواؽ السيارات التي تقؼ خمفنا ثائرة مزمجرة ‪ ،‬تدعونا لبلنطبلؽ بسرعة ‪ ،‬وتسوية األمر في مكاف آخر‬
‫‪ ،‬بعيدا عف فوىة الشارع الذي اكتظ بقافمة طويمة مف السيارات الغاضبة ‪ ،‬كررت اعتذاري لمسائؽ الذي يتموني ‪،‬‬
‫وانطمقت بسيارتي متوتر األعصاب معكر المزاج ‪ ،‬بقي عمى افتتاح المعرض قرابة ساعة ‪..‬لقد بكرت كثيرا!‪..‬‬
‫ولكف‪ ..‬حقا ‪ ،‬كيؼ ستواجو أحبلـ؟‪ ..‬واندلعت األسئمة في خاطري ‪ ،‬فقاومتيا بشدة ‪ ،‬حتى ال يدىمني الشرود‬
‫ثانية ‪ ،‬وأرتكب خطأ جديدا ‪ ،‬قد ال يقتصر ضرره عمي وحدي ىذه المرة ‪ ،‬لكف األسئمة العنيدة عادت تساورني ‪..‬‬
‫كيؼ ستستقبمؾ أحبلـ؟ أما زالت عاتبة؟ أـ أنيا نسيت؟ نسيت؟!‪ ..‬أحبلـ ال يمكف أف تنسى‪ ..‬إنيا تحبني بصدؽ‬
‫واخبلص‪ ..‬إذا كانت تحبؾ فمف تخذلؾ ‪!..‬ستتمقاؾ بعيوف فرحة تشعشع بالميفة والشوؽ ‪ ،‬وسيشرؽ وجييا الجميؿ‬
‫‪ ،‬بتمؾ االبتسامة العذبة الوادعة التي كانت دائما بمسما لروحؾ‪ ..‬لكنؾ جرحتيا أو عمى األقؿ لـ أقابؿ مبادراتيا‬
‫بموقؼ واضح‪ ..‬الذنب ليس ذنبؾ‪ ..‬لقد قمت بكؿ ما يتوجب عميؾ‪ ..‬أبوىا ىو السبب‪ ..‬ذلؾ العاتي الذي حجز‬
‫بينكما بقسوة ‪..‬لكنيا ال تعرؼ الحقيقة‪ ..‬ال تعرؼ أني قابمت مبادرتيا بإخبلص ‪ ،‬فوقعت في الفخ الذي نصبو لي‬
‫أبوىا بمكر‪ ..‬أنا المبلـ في نظرىا اآلف‪ .‬كـ تبدو الحقائؽ مقموبة في ىذا العالـ‪ .‬لكأف األضداد قد تبادلت المقاعد‬
‫في األذىاف ‪ ،‬فأصبح البرئ مدانا ‪ ،‬والمخمص جاحدا ‪ ،‬واألبيض أسود!‪ ..‬لـ يكف جحا غبيا عندما كاف يفعؿ‬
‫دائما عكس ما يطمب منو‪ .‬لعمو عاش مثمنا في عصر مقموب ‪ ،‬فأراد أف يقابؿ عصره بحكمتو الجحوية العميقة‪!..‬‬
‫ووصمت إلى المركز الثقافي بسبلـ ‪ ،‬فركنت السيارة في مكاف قريب ‪ ،‬وجمست أنتظر‪ ..‬أخذت أعد الثواني واحدة‬
‫واحدة‪ .‬أصحبيا في رحمتيا األزلية عبر دائرة الزمف‪ ..‬تؾ‪ ..‬تؾ‪ ..‬تؾ‪ ..‬ما أصعب االنتظار وأقساه!‪ ..‬لكأنو رجؿ‬
‫متوحش ببل قمب يجمع األعصاب داخؿ قبضتو الحديدية ويسحقيا بقسوة وىدوء مثير‪ ..‬تؾ ‪..‬تؾ‪ ..‬تؾ‪ ..‬كانت‬
‫الثواني تتجمع ببطء لتنظـ في دقائؽ ‪ ،‬وكانت الدقائؽ تتكاسؿ في مشيتيا ‪ ،‬فتثير حنقي وغيظي ‪ ،‬لكانيا قد‬
‫تآمرت عمى أعصابي العارية ‪ ،‬وقررت أف تشوييا بجحيـ القمؽ والضجر والميفة والضيؽ!‪ ..‬حتى الدقائؽ والثواني‬
‫باتت ضدي ‪ ،‬تريد أف تحرمني مف أحبلـ‪!..‬‬
‫وجعمت أتمفت يمنة ويسره ‪ ،‬وأذرع المكاف بخطى قمقو ‪ ،‬أردت أف أكوف أوؿ مف يقوؿ ليا مبروؾ ‪ ،‬أحببت أف أف‬
‫تعانؽ ابتسامتي ابتسامتيا ‪ ،‬فتمحو بسمات الشوؽ والرضا ‪ ،‬ما تسرب إلى قمبيا نحوي مف الشكوؾ والظنوف‪,‬‬
‫ولكف‪ ..‬انظروا مف ىناؾ!‪ ..‬ىذا وجو أعرفو إنيا نورا!! تمؾ الم أرة الغامضة التي ىربت مني ‪ ،‬وحممت معيا سر‬
‫الطفمة المقيطة التي شعمتني لغزىا زمنا وما زاؿ‪ ..‬ماذا تفعؿ نو ار في ىذا المكاف؟‪..‬‬
‫ومضيت نحوىا مدفونا برغبة جامحة لبلستطبلع‪ ..‬يجب أف أحطـ قشرة الغموض التي تغمؼ تصرفات ىذه المرأة‬
‫المغز!‪ ...‬وألفتني أماميا ‪ ،‬فندت عنيا شيقة ذعر ‪..‬ىمست كمف بوغت بشبح‪:‬‬
‫ػ أنت؟‬
‫ػ ىؿ فاجأتؾ؟‬
‫دمعت عيناىا ‪ ،‬وقالت بنبرة متيدجة تشي بالضيؽ‪.‬‬
‫ػ أنت تبلحقني في كؿ مكاف!‬
‫ػ أنا أبحث عف الحقيقة‪..‬‬
‫ػ أية حقيقة؟‬
‫ػ حقيقة الطفمة‪..‬‬
‫ػ اضطربت وقالت في تمعثـ‪:‬‬
‫ػ ال أفيـ عـ تتحدث‪!..‬‬
‫تنفست بعمؽ ‪ ،‬وقمت بميجة رفيقة‪:‬‬
‫ػ آنسة نوار‪ ..‬عندي إحساس عميؽ بأنؾ مظمومة‪ ..‬تصرفاتؾ تشي بأنؾ إنسانة مغموبة عمى أمرىا ‪ ،‬أو عمى‬
‫األقؿ امرأة ندمت عمى خطاياىا ‪ ،‬وتريد أف تتوب‪..‬‬
‫ىتفت في وجيي بنبرة احتجاج ىدجيا االنفعاؿ‪:‬‬
‫ػ أنا لست خاطئة‪.‬‬
‫ػ أدركت أف كبلمي قد جرحيا ‪ ،‬وخدش مشاعرىا ‪ ،‬قمت مواسيا‪:‬‬
‫ػ آنسة نوار ‪ ،‬أنا ال أريد أف أحاسبؾ أو أتيمؾ ‪ ،‬كؿ ما يعنيني ىو بارعة ‪،‬يجب أف نجنب ىذه الطفمة ما ينتظرىا‬
‫مف شقاء‪..‬‬
‫انثالت دموع اآلنسة نو ار بصمت ‪ ،‬وأطرقت لتخفي دموعيا عف عيوف العابريف ‪ ،‬فحاولت التخفيؼ عنيا عميا تيدأ‬
‫‪ ،‬فبل تمفت إلينا األنظار‪:‬‬
‫ػ آنسة نو ار اعتبريني صديقا ‪ ،‬كفكفي دموعؾ ودعينا نتحدث بيدوء ‪ ،‬ىؿ يمكف لنا أف نتحدث؟‬
‫ىزت رأسيا بالموافقة ‪ ،‬ومضت معي إلى مقصؼ المركز ‪ ،‬اخترت مكانا ىادئا يطؿ عمى قاعة المعارض حيث‬
‫سيفتتح معرض أحبلـ ‪ ،‬وانتظرت نو ار ريثما ىدأت وكاف النادؿ قد جاءنا بعصير الميموف ‪ ،‬فرشفت عصيرىا في‬
‫صمت ‪ ،‬وىي تبحر بأفكارىا في المجيوؿ ‪ ،‬وعادت مف رحمة الشرود فجأة لتقوؿ‪:‬‬
‫ػ يبدو أنؾ شاب طيب القمب!‪ ..‬اىتمامؾ ببارعة جعمني أؤمف بؾ بعد أف كفرت بالرجاؿ‪ ..‬تبدو لي رجبل أمينا‪..‬‬
‫رجبل مف العالـ الغابر‪ ..‬عالـ المعتصـ الذي كاف ييتز ويثور مف أجؿ إنقاذ امرأة ميددة ‪ ،‬ال عالـ الوحوش الذي‬
‫يستضعؼ المرأة ‪ ،‬ويفترسيا بصمت‪..‬‬
‫أدىشني حديثيا ‪ ،‬عمقت في إعجاب‪:‬‬
‫ػ كمماتؾ فصيحة ورقيقة‪!..‬‬
‫ػ ىو األلـ يا سيدي يصير كمماتنا ويصقميا ‪ ،‬ثـ يرسميا بيذه الرقة والبياف‪..‬‬
‫ػ لكف حديثؾ يعكس ثقافة واسعة ‪ ،‬ىؿ أنت جامعية؟‬
‫ػ كنت‪..‬‬
‫ػ وراءؾ قصة كبيرة‪!..‬‬
‫ػ لكؿ منا قصة‪..‬‬
‫ػ قصتؾ حيرتني‪ ..‬ليست قصة عادية فيما أظف‪!..‬‬
‫ندت عنيا آىة عميقة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬لـ تكف قصتي كسائر القصص‪..‬‬
‫ػ أريد أف أعرفيا‪..‬‬
‫ػ أخشى أف ال تصدقيا‪..‬‬
‫ػ سأصدقيا‪ ..‬كوني واثقة‪..‬‬
‫أطرقت في حزف ‪ ،‬وراحت في غيبوبة مف الصمت ‪ ،‬وكأنيا تغوص إلى أعماقيا السحيقة ‪ ،‬لترتب ذكرياتيا‬
‫األليمة ‪ ،‬ثـ ما لبثت أف قالت بصوت دامع‪:‬‬
‫ػ أسمو يا سيدي قصتي مف أوليا ‪ ،‬صدقيا أو ال تصدقيا ‪ ،‬انشرىا أو اكتميا ‪..‬تصرؼ بيا كما تشاء‪ ..‬فمـ يعد‬
‫في ىذه الحياة شيء ييـ‪..‬‬
‫كانت يائسة حتى أعماؽ اليأس ‪ ،‬وكانت كئيبة كئيبة حتى الثمالة ف وكانت شاحبة كالخريؼ‪ ..‬أردفت وىي تغالب‬
‫الدموع‪:‬‬
‫ػ قصتي يا سيدي قصة حزينة‪ ..‬قصة الضعيؼ عندما يتوه في عالـ األقوياء‪ ..‬قصة البريء الذي يظف أف كؿ‬
‫الناس مف حولو أبرياء‪ ..‬قصة جذورىا في القرية ‪ ،‬وفروعيا في ىذه المدينة الواسعة التي تعج بالمتناقضات‪..‬‬
‫ىناؾ‪ ..‬في قريتي الحبيبة ػ ولف تحتاج لمعرفة اسميا ػ ىناؾ ولدت وترعرعت ‪..‬تشبعت بيواء الريؼ النقي وعشقت‬
‫خضرتو الفاتنة ‪ ،‬وأدمنت عمى مائو الزالؿ ‪ ،‬فتحت عيني عمى الدنيا ‪ ،‬ألجد أمي األرممة بقربي ‪ ،‬تحضنني‬
‫وترعاني ‪ ،‬وسألت عف أبي فأخبروني بأنو قد سافر ‪ ،‬كبرت ‪ ،‬وكبر في فمي السؤاؿ ‪ ،‬وعرفت الحقيقة‪ ..‬لقد مات‬
‫أبي وأنا ما زلت جنينا في بطف أمي‪ ..‬أصابتو رصاصة طائشة ‪ ،‬وىو يشارؾ في أحد أعراس القرية ‪ ،‬فأردتو‬
‫قتيبل ‪ ،‬وكنت أنا وأمي ضحايا ىذه الرصاصة الغبية‪..‬‬
‫وكانت أمي وفية لزوجيا ‪ ،‬أو لنقؿ مصدومة‪ ..‬فمـ تصدؽ أف حمميا في الزواج والحياة اليادئة الرغيدة قد ىوى‬
‫مع زوجيا القتيؿ‪ ..‬عزفت عف الزواج ‪ ،‬ووأدت جماليا في أعماؽ الحزف ‪ ،‬فرفضت كؿ مف خطبوىا ‪ ،‬وىـ كثر ػ‬
‫وانكبت عمى رعايتي وتربيتي ‪ ،‬ومنحتني حنانا سابغا عوضني بعض حناف األب الفقيد الذي غادر الدنيا قبؿ أف‬
‫أصؿ إلييا‪..‬‬
‫وكانت أمي تيوى الخياطة وتتقنيا ‪ ،‬فوجدت في ىوايتيا تسمية مفيدة ‪ ،‬ودواء لمفراغ الذي تعانيو ‪ ،‬ومصدر دخؿ‬
‫يكفينا حاجة الناس مف األقارب واألباعد ‪..‬ومؤلت شيرة أمي القرية ‪ ،‬درت عمييا الخياطة دخبل معقوال ‪ ،‬فعشنا‬
‫سنوات جميمة ‪ ،‬ال يعكر صفوىا سوى ذكرى األب الفقيد‪..‬‬
‫ودارت األياـ ‪ ،‬فكبرت ونضجت ‪ ،‬انبثقت في أعماقي أحبلـ الم ارىقة وأشواقيا ‪ ،‬فرحت أرسـ في خيالي لوحة‬
‫المستقبؿ الباسـ الذي كنت أحمـ فيو‪..‬‬
‫وذات يوـ ‪ ،‬جمست أمي بقربي وقالت‪:‬‬
‫ػ ال يمكف لممرأة أف تحيا دوف رجؿ ‪ ،‬ىذه سنة الحياة‪..‬‬
‫فاجأتني بكمماتيا ‪ ،‬فأوحت لي أوىاـ المراىقة بأف نضجي وجمالي قد لفت إلي األنظار ‪ ،‬وأف أحدىـ قد تقدـ‬
‫لخطبتي ‪ ،‬ابتسمت في حياء ‪ ،‬وتشاغمت بكتاب كنت أقرؤه ‪ ،‬وأنا أتميؼ لسماع بقية الحديث ‪ ،‬تابعت أمي وىي‬
‫تسرح بخياليا فيما ال أدري‪:‬‬
‫ػ بعد أف مات أبوؾ ػ رحمو اهلل ػ قررت أال أتزوج ثانية ‪ ،‬خشية عميؾ مف قسوة زوج األـ وشح حنانو عمى فتاة لـ‬
‫ينجبيا ‪ ،‬لكنؾ اليوـ صرت صبية جميمة ‪ ،‬يتمنى ودىا كؿ شباب القرية ‪ ،‬ولـ تعودي بحاجة إلى أحد‪..‬‬
‫دغدغت كممات أمي مشاعري ‪ ،‬فانتشيت بيا ‪ ،‬وحدثتني نفسي بأني عمى أعتاب فرحة وشيكة ‪ ،‬فابتسمت رغما‬
‫عني‪ .‬ورفعت الكتاب إلى وجيي ‪ ،‬ألخفي ابتسامتي الفرحة ‪ ،‬بانتظار المفاجأة التي تميد ليا أمي بمقدمتيا ‪،‬‬
‫سألتني أمي وىي تترقب ردة فعمي باىتماـ‪:‬‬
‫ػ ىؿ تعرفيف جارنا أبا سبلمة بائع األلباف؟‪..‬‬
‫كاف وقع االسـ عمى مفاجئا ومثي ار ‪ ،‬فدؽ قمبي بعنؼ ‪ ،‬وقمت وأنا أنتفض مف الذعر‪:‬‬
‫ػ لكنو كبير السف يا أماه‪!!..‬‬
‫رمشت أمي ‪ ،‬وقالت في دالؿ‪:‬‬
‫ػ لكنو ليس كبي ار عمى أمؾ‪..‬‬
‫دارت أفكاري وانتقمت مف أقصى الحمـ إلى أقصى المفاجأة‪..‬‬
‫فيمت ما أرادتو أمي مف كؿ ىذه المقدمات‪..‬‬
‫وأعمنت رفضي ليذا الزواج متذرعة بما سمعتو عف قسزة الرجؿ وشحو المعروؼ ‪ ،‬وحذرتيا مف الصداـ الذي‬
‫ينتظرىا مع زوجتو الفظة ‪ ،‬وأوالدىا اليافعيف الذيف سيتعاطفوف مع والدتيـ ‪ ،‬لكف ذرائعي تياوت أماـ إصرارىا‬
‫الممطؼ بالمبررات‪..‬‬
‫أدركت أف األمر قد نضج عمى نار ىادئة ‪ ،‬وأف صبر أمي عمى حياتيا الباردة ‪ ،‬المقفرة مف دؼء الشريؾ قد نفد‬
‫‪ ،‬فاستجابت لنداء األنثى المكبوتو داخميا ‪ ،‬فدبرت ‪ ،‬وقررت ‪ ،‬ثـ جاءت تفصح عف قرارىا ‪ ،‬ال لتستشيرني فيو ‪،‬‬
‫بؿ لتمزمني بو ‪ ،‬وكانت تعرؼ أني ال أرفض ليا طمبا ‪ ،‬فرضخت لرغبتيا وتييأت لحياتي الجديدة معيا في ظؿ‬
‫زوج األـ‪...‬‬
‫وانتقمت مع أمي إلى بيت زوجيا الواسع ‪ ،‬فظننت أف جدراف البيت الجديدة ستشع بالسعادة احتفاال بقدومنا ‪،‬‬
‫وقدرت أف أبا سبلمة ميما كاف شحيحا ‪ ،‬فمف يكوف شحيحا عمى زوجتو الثانية التي استمات في الوصوؿ إلييا ػ‬
‫كما عممت فيما بعد ػ مبيو ار بجماليا الذي كانت ما تزاؿ تحتفظ بو حتى ذلؾ الوقت‪..‬‬
‫لكف تقديري ػ لؤلسؼ ػ كاف مسرفا في التفاؤؿ ‪ ،‬وسرعاف ما بدأ حسف ظني بو يتعكر‪ ..‬فمـ يمض عمى زواج أمي‬
‫يوماف حتى اندلعت الخبلفات بيف أمي وضرتيا ‪ ،‬ونشب بينيما صراع مرير‪ ..‬ثـ بدأت معاناة أمي مع زوجيا‬
‫الذي تبيف أنو لـ يتزوجيا لجماليا فحسب ‪ ،‬بؿ ألنيا كانت خياطة ماىرة يمكف أف تدر عميو الماؿ الوفير ‪ ،‬وما‬
‫أف انتيى األسبوع األوؿ مف زواجيما ‪ ،‬حتى بدأ أبو سبلمة يطالب أمي بأف تمتفت إلى مينتيا وزبائنيا ‪ ،‬وصار‬
‫يحاسبيا عمى ما يأتييا مف دخؿ ‪ ،‬وكأنيا خياطة أجيرة تعمؿ لحسابو ‪ ،‬وعندما كاف يكتشؼ أف أمي قد ادخرت‬
‫بعض النقود ‪ ،‬وأخفتيا عنو ‪ ،‬كاف يقيـ الدنيا وال يقعدىا ‪ ،‬ويتذمر مف مصاريؼ البيت العالية التي زادت بسبب‬
‫قدومنا ػ أنا وأمي ػ إلى البيت‪..‬‬
‫وعرضت والدتي بيتنا القديـ لئليجار ‪ ،‬فاستولى أبو سبلمة عمى أجرتو الشيرية ‪ ،‬وقد ظف أف زواجو مف أمي‬
‫يعني أنيا صارت ممكا خاصا لو ‪ ،‬وكأنيا إحدى بقراتو الحموب التي كاف يربييا مف أجؿ أف تمده بالحميب البلزـ‬
‫لصناعة األلباف ‪ ،‬وصبرت أمي عمى حياتيا الجديدة ‪ ،‬فتمسكت بيا برغـ كؿ ما فييا مف ضنؾ وشقاء ‪ ،‬وآثرتيا‬
‫عمى حياة الوحدة الموحشة التي كانت تحياىا أرممة ببل زوج‪..‬‬
‫كنت آنذاؾ في الصؼ الثالث الثانوي العممي ‪ ،‬وكنت مجتيدة في دروسي ‪ ،‬تمؤل رأسي طموحات كبيرة بدخوؿ‬
‫الجامعة والتخرج منيا طبيبة أو ميندسة أو صيدالنية ‪ ،‬لكف جحيـ المشاكؿ الذي كاف يتفجر مف حولي باليموـ‬
‫والمنغضات ‪ ،‬أثر عمى دراستي تأثي ار سيئا ‪ ،‬وأروثني شقاء أمي ىما وحزنا مقيما ال يفارقني‪ ..‬وليت األمر وقؼ‬
‫عند ىذا الحد!‪ ..‬فمـ تمبث قسوة زوج أمي أف طالتني عمى يد ابنو سبلمة ‪ ،‬فقد كاف سبلمة شابا جاىبل أحمؽ ‪،‬‬
‫جعمت منو قسوة أبيو إنسانا مشوىا قاسيا ال يرحـ ‪ ،‬كاف عدائيا إلى درجة مخيفة ‪ ،‬وكاف فظا بذيئا ال يتوانى عف‬
‫استعماؿ األلفاظ الفاحشة مع أقرب الناس إليو‪..‬‬
‫ومنذ األياـ األولى لوجودي في بيت زوج أمي نصب سبلمة نفسو وصيا عمي ‪ ،‬فراح يراقب حركاتي وسكناتي ‪،‬‬
‫ويبلحقني في ذىابي إلى المدرسة وايابي منيا ‪ ،‬ويحاسبني عمى تصرفاتي ‪ ،‬مدعيا بأنو يغار عمي ‪ ،‬ثـ قاـ‬
‫بتحريض والده عمى منعي مف إتماـ دراستي ‪ ،‬بحجة أني فتاة جميمة ‪ ،‬ألفت انتباه الشباف في القرية ‪ ،‬وقد أجمب‬
‫ليـ العار إذا ما أقدمت عمى فعؿ طائش‪..‬‬
‫وذات يوـ نشب بيني وبيف سبلمة شجار عنيؼ ‪ ،‬فوجو لي كبلما قاسيا بذيئا ‪ ،‬واتيمني اتيامات ظالمة جرحتني‬
‫وآلمتني ‪ ،‬فثرت لكرامتي وانيمت عميو بالشتائـ ‪ ،‬وانفرجت بالبكاء‪..‬‬
‫وانتظرت أف يقؼ زوج أمي إلى جانبي أو يقؼ عمى الحياد ‪ ،‬لكنو انحاز إلى جانب ابنو ‪ ،‬وأعمف ارتيابو في‬
‫سموكي لمجرد أني منتظمة في المدرسة ‪ ،‬وىنا انبرت أمي لمدفاع عني وعف تربيتي العفيفة ‪ ،‬فما كاف مف زوج‬
‫أمي إال أف ىوى بيده عمى وجو أمي المسكينة وصفعيا صفعة قوية ‪ ،‬وىددىا بالطبلؽ إف ىي حاولت التدخؿ‬
‫ثانية ‪ ،‬فيو ػ كما ادعى ػ يربيني ويحافظ عمي بيذه الطريقة‪..‬‬
‫قرره حازما صارما ال‬
‫وأمعف زوج أمي في الظمـ والتعسؼ والطغياف ‪ ،‬فقرر أف يمنعني مف إكماؿ تعميمي ‪ ،‬وكاف ا‬
‫عودة فيو‪..‬‬
‫ونظرت إلى أمي بعيوف غائمة بالدموع ‪ ،‬فعضت طرفيا الحزيف ولـ تأت بكممة ‪ ،‬وقد بدا القير والخضوع في‬
‫وجييا المشوه ببصمات أصابع زوجيا اآلثمة ‪ ،‬وعينييا الكسيرتيف‪..‬‬
‫وتركت المدرسة مرغمة ‪ ،‬لكني لـ أترؾ الدراسة ‪ ،‬فالعمـ كاف يجري في عروقي مجرى الدماء ‪ ،‬وقررت أف‬
‫أستعيض عف الفرع العممي بالفرع األدبي الذي يسمح لي بالدراسة الحرة دوف االضطرار لمدواـ في المدرسة ‪،‬‬
‫وصارحت أمي بنيتي ‪ ،‬فتنيدت في حيرة ‪ ،‬ولـ تبد رأيا‪!..‬‬
‫وكانت لي خالة متزوجة في المدينة ‪ ،‬فراسمتيا بالسر ‪ ،‬وشكوت ليا الجحيـ الذي أحياه أنا وأمي ‪ ،‬ورجوتيا أف‬
‫تتوسط لدى زوج أمي ليسمح لي بتأدية امتحاف الشيادة الثانوية األدبية ‪ ،‬فخفت خالتي لنجدتي محممة باليدايا ‪،‬‬
‫واستطاعت بدىائيا وكياستيا أف تنتزع الموافقة منو‪..‬‬
‫وأديت االمتحاف بقرح ‪ ،‬واجتزتو بنجاح ‪ ،‬وحزت عمى معدؿ مرتفع يسمح لي بدخوؿ الجامعة ‪ ،‬لكف زوج أمي‬
‫رفض فكرة التحاقي بالجامعة ‪ ،‬وكاف صارما ىذه المرة إلى حد ال ينفع معو التوسؿ ‪ ،‬وال تجدي فيو الوساطة‪!..‬‬
‫وعشت قمقا نفسيا فظيعا ‪ ،‬وأف أرى موعد انتياء تقديـ الطمبات لمجامعة تقترب ‪ ،‬وقطار التحصيؿ العالي يكاد‬
‫يفوت ‪ ،‬ولـ ألبث أف حزمت أمري ‪ ،‬وقررت اليرب إلى المدينة ‪ ،‬لبللتحاؽ بالجامعة ‪ ،‬وليكف بعد ذلؾ ما يكوف‪!..‬‬
‫بكت أمي عندما أخبرتيا بقراري ‪ ،‬وحاولت إثنائي ‪ ،‬ولكنيا استجابت لرغبتي في النياية ‪ ،‬وىي ترى إلحاحي‬
‫ودموعي ‪ ،‬وأعطتني مبمغا نـ الماؿ كانت قد ادخرتو بالسر ف وأوصتني بالمجوء إلى خالتي لترعى شؤوني ‪،‬‬
‫وودعتني بالقببلت والدموع‪...‬‬
‫وصمتت نوار فجأة ‪ ،‬وقد تعمقت نظراتيا بشيء!‪ ..‬التفت إلى حيث كانت تنظر ‪ ،‬فرأيت أحبلـ وىي تتقدـ الفتتاح‬
‫معرضيا بصحبة أبييا وأميا التي كنت أراىا ألوؿ مرة‪..‬‬
‫وخفؽ قمبي لرؤية أحبلـ ‪ ،‬وىي ترفؿ في ىدوءىا الجميؿ ‪ ،‬وقد ازدانت شفتاىا بابتسامة رقيقة ‪ ،‬لـ تكف كافية لستر‬
‫القمؽ والحزف الذي كاف يطؿ مف عينييا الخضراويف الغارفتيف في كآبة مفرطة ‪ ،‬وبدت ذاىمة بفكرىا عما حوليا ‪،‬‬
‫تقابؿ الناس بابتسامتيا الرزينة ‪ ،‬وكأنيا تريد أف تبكي ‪ ،‬لتريؽ ينابيع الحزف واألسى التي تتفجر داخميا ‪،‬‬
‫وأحسست بأني أتحمؿ جزءا مف المسؤولية عف ىذا الحزف والعذاب الذي تحممو داخميا في لحظة مف أروع‬
‫لحظات حياتيا ‪ ،‬فركبني شعور مؤلـ بالذنب‪..‬‬
‫وتأممت أباىا القاسي الذي يمضي إلى جانبيا ‪ ،‬وىو في غاية التأنؽ والمطؼ ‪ ،‬فشعرت بالغيظ يأكمني ‪ ،‬ورمقت‬
‫ابتسامتو الكاذبة التي يقابؿ الناس بيا باحتقار‪..‬‬
‫وأذكر أني سمعت نو ار تيميـ بكبلـ غامض أحسست فيو احتجاجا عمى شيء ‪ ،‬التفت إلييا ‪ ،‬فوجدتيا ترقب‬
‫موكب أحبلـ بنظرات غامضة ال تريح‪!..‬‬
‫سألتيا مستطمعا‪:‬‬
‫ػ ىؿ كنت تقوليف شيئا؟‬
‫غمغمت بميجة باف فييا االرتباؾ‪:‬‬
‫ػ ال‪ ..‬ال‪ ..‬لـ أقؿ شيئا‪..‬‬
‫ػ كأني سمعتؾ تتحدثيف‪!..‬‬
‫ػ الميـ‪ ..‬إلى أيف وصمنا؟‬
‫ػ إلى أف ىربت إلى المدينة‪..‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬ىربت إلى المدينة ‪ ،‬ولذت بيا مف ظمـ القرية ‪ ،‬فوجدت أف ظمـ القرية أخؼ وأرحـ‪..‬‬
‫عمقت مشفقا ‪ ،‬وأنا أرقب طبلئع الدمع وىي تغزو عينييا‪:‬‬
‫ػ يبدو أنؾ عانيت في ىذه المدينة كثي ار‪!..‬‬
‫نشجت ‪ ،‬وقالت بنبرات تختمج‪:‬‬
‫ػ ىذه المدينة ال ترحـ ‪ ،‬تبتمع الطيبيف ‪ ،‬وتركع لؤلقوياء ‪ ،‬ويؿ لمضعيؼ إذا تاه في مجاىميا‪..‬‬
‫وداىمتيا دفقة جديدة مف االنفعاؿ ‪ ،‬فصمتت ريثما استوعبتيا ‪ ،‬ثـ تابعت تقوؿ‪:‬‬
‫ػ بدأت معاناتي في ىذه المدينة ‪ ،‬منذ أف وضعت قدمي فييا أوؿ مرة ‪..‬‬
‫بدأت مع سائؽ تكسي كاف أوؿ مف قابمتو في ىذه المدينة ‪ ،‬فطمبت منو أف يقمني إلى بيت خالتي حسب العنواف‬
‫الذي وصفتو لو ‪ ،‬انطمؽ بي إلى حيث أردت ‪ ،‬وفي الطريؽ ‪ ،‬الحظ السائؽ أني أرمؽ المدينة بنظرات حالمة ‪،‬‬
‫وأرنو إلى معالميا الحديثة بإعجاب ‪ ،‬فأدرؾ أني فتاة غريبة أزور المدينة لممرة األولى‪ ..‬ولمح في وجيي جماال‬
‫أساؿ لعابو ‪ ،‬فأغرتو غربتي وجمالي باالقتحاـ‪ ..‬بدأ يقتحمني بنظراتو الوقحة ‪ ،‬فقطبت غاضبة ‪ ،‬وتجنبتو ‪ ،‬لـ‬
‫ييأس ‪ ،‬أدار مسجؿ السيارة ‪ ،‬فأرسؿ أغنيات فاحشة مف النوع الرخيص ‪ ،‬وعاد يقتحمني بنظراتو مف خبلؿ المرآة‬
‫ويعريني بعينية ‪ ،‬ظف أني فتاة ساذجة سيمة المناؿ ‪ ،‬فاستضعفني واندفع وراء أحبلمو المريضة ‪ ،‬لـ أسكت ‪،‬‬
‫وبختو وطمبت منو أف يخرس الشريط ‪ ،‬ففعؿ مغتاظا ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫"مف حقي أف أضع الشريط الذي أريد" قمت لو بميجة حادة ‪" :‬تفعؿ ذلؾ عندما تكوف وحدؾ ‪ ،‬أما عندما يشاركؾ‬
‫السيارة راكب ‪ ،‬فمف واجبؾ أف تحترـ مشاعره "ضحؾ وقاؿ‪" :‬أنت قوية الشخصية عمى ما يبدو ‪ ،‬مف يرى جمالؾ‬
‫وأنوثتؾ يظف بؾ رقة ولطفا يغريو بالتقرب إليؾ ‪"..‬‬
‫لـ أحتمؿ سماجتو ووقاحتو المفرطة ‪ ،‬قمت لو‪" :‬توقؼ" فماطؿ ‪ ،‬ىددتو إف لـ يتوقؼ بأني سأمد رأسي مف النافذة‬
‫‪ ،‬وأصرخ في العابريف طالبة النجدة‪..‬‬
‫ىنا توقؼ وىو يرمقني بعيني وحش أفمتت منو الفريسة ‪ ،‬نقدتو أجرتو ‪ ،‬وغادرت السيارة ‪ ,‬وأنا ألعنو‪..‬‬
‫ووقفت عمى الرصيؼ بانتظار سيارة أخرى ‪ ،‬فما لبثت أف تيادت قربي سيارة حديثة يقودىا شاب ‪ ،‬فظننتيا ألوؿ‬
‫وىمة سيارة أجرة ‪ ،‬لـ أكف أعرؼ أف لسيارات التكسي لونا خاصا يميزىا ‪ ،‬ولوحة ضوئية تعموىا‪!..‬‬
‫اقتربت مف السيارة ‪ ،‬وكدت أصعد إلييا ‪ ،‬لكف السائؽ الشاب ماؿ نحوي ‪ ،‬وقاؿ وىو يحرؾ حاجبيو في حركة‬
‫راقصة ‪":‬منذ متى وأنا أبحث عف فتاة بيذا الجماؿ"‪!.‬‬
‫أدركت أني أماـ قناص آخر يبحث عف فريسة ‪ ،‬فأحجمت وتراجعت‪..‬‬
‫وداخمني خوؼ ‪ ،‬شعرت بأف المدينة مميئة بأسماؾ القرش!‪ ...‬ووقفت في مكاني متوجسة حائرة ‪ ،‬ورحت أتفرس‬
‫في وجوه السائقيف الذيف يمروف بي ‪ ،‬أبحث عف وجو ال يثير المخاوؼ‪..‬‬
‫واستوقفت كيبل توسمت فيو النبؿ والطيبة ‪ ،‬فحممني إلى العنواف المطموب بسبلـ ‪ ،‬ولـ يضايقني بشيء ‪ ،‬فيدأ‬
‫روعي ‪ ،‬واستبشرت خي ار ‪ ،‬وفكرت أف ما واجيتو مف متاعب لـ يكف سوى صدفة مزعجة وسوء طالع‪..‬‬
‫واستقبمتني خالتي باألحضاف ‪ ،‬وقد ظنت أني جئتيا زائرة ألقضي عندىا بضعة أياـ ‪ ،‬لكنيا عندما عممت بقصة‬
‫ىروبي ‪ ،‬وجمت ‪ ،‬وتعكرت مبلمحيا ‪ ،‬ولـ تبد حماسا لمفكرة‪!..‬‬
‫واخترت دراسة المغة اإلنكميزية ‪ ،‬فسجمت نفسي في الجامعة ‪ ،‬وبدأت الدواـ فييا ‪ ،‬وأنا فرحة بتحقيؽ حممي في‬
‫التحصيؿ العالي‪ ..‬لكف فرحتي كانت مشوبة بالقمؽ عمى أمي المسكينة التي تتمزؽ بيف ابنتيا الوحيدة ‪ ،‬وزوجيا‬
‫القاسي ‪ ،‬وحمؿ إلينا أحد القادميف مف القرية خب ار مفاده أف زوج أمي قد غضب مف تصرفي غضبا شديدا ‪ ،‬وقرر‬
‫أف يطردني إف أنا عدت إلى بيتو ‪ ،‬وىدد أمي بالطبلؽ إف ىي مدتني بقرش واحد‪..‬‬
‫ثـ ما لبث زوج خالتي أف ضاؽ ذرعا بوجودي في بيتو ‪ ،‬فبدأت ألمس فظاظة وجفافا في معاممتو لي ‪ ،‬وأفقت‬
‫ذات ليمة عمى شجار عنيؼ بينو وبيف خالتي ‪ ،‬وسمعتو يتذمر مف قمة ذات اليد ‪ ،‬وضيؽ المكاف ‪ ،‬ويعتبرني سببا‬
‫في الضائقة المالية التي يمر بو ‪ ،‬أحسست بأني ضيفة ثقيمة ‪ ،‬وبدأت أتييأ لمرحيؿ ‪ ،‬ولكف‪ ..‬إلى أيف أمضي؟‪..‬‬
‫إلى قرية جاىمة أوصدت في وجيي األبواب؟‪ ..‬أـ إلى مدينة ظالمة ال أعرؼ فييا أحدا سوال خالة مغموبة عمى‬
‫أمرىا ‪ ،‬وزوج خالة ال يطيؽ احتماؿ عبء جديد؟‬
‫وصارحت خالتي بعد أياـ بأني قدمت طمبا لمحصوؿ عمى غرفة في بيت الطالبات ‪ ،‬ورجوتيا أف تحتمؿ وجودي‬
‫معيا ريثما أحصؿ عمى السكف الجامعي ‪ ،‬فأنشأت تبكي وتعتذر ‪ ،‬وتشرح لي ظروؼ زوجيا المادية الصعبة ‪،‬‬
‫فأبديت تفيمي لوضعيا ووضع زوجيا ‪ ،‬ورحت أنتظر حصولي عمى السكف الجامعي بفارغ الصبر\‪..‬‬
‫وحصمت أخي ار عمى نصؼ غرفة في سكف الطالبات ‪ ،‬وكانت شريكتي في السكف فتاة مرحة طيبة القمب ‪ ،‬خففت‬
‫عني بعض آالـ الغربة ‪ ،‬وىموميا ‪ ،‬وأقبمت عمى الدراسة بحماس وتصميـ ‪ ،‬وحظيت بإعجاب أساتذتي منذ‬
‫الشيور األولى ‪ ،‬فتنبؤا لي بمستقبؿ عظيـ‪..‬‬
‫بيد أف اآلماؿ الكبيرة التي نمت وازدىرت داخمي ‪ ،‬أخذت تتضاءؿ يوما بعد يوـ ‪ ،‬وأنا أرى المبمغ الذي أصرؼ‬
‫منو يتناقص بسرعة ‪ ،‬فمـ أكف أتوقع أف حياة الجامعة ومتطمباتيا ستأتي عمى كؿ ما معي في وقت قصير‪!..‬‬
‫وطاردني القمؽ ببل ىوادة ‪ ،‬فجثـ اليـ عمى صدري ‪ ،‬واسودت الدنيا في عيني ‪..‬والحظت شريكتي في الغرفة ما‬
‫آلت إليو أحوالي ‪ ،‬فاستطاعت بأسموبيا المطيؼ أف تعرؼ سبب تعاستي ‪ ،‬فرثت لحالي ونصحتني بالعمؿ ‪ ،‬ولكف‬
‫ماذا أعمؿ؟ ومتى سأعمؿ؟‪ ..‬وكيؼ سأوفؽ بيف الدراسة والعمؿ؟ ولـ يكف أمامي خيار‪ ..‬الماؿ أوال ‪ ،‬ثـ الدراسة‪..‬‬
‫عممت سكرتيرة في إحدى الشركات الصغيرة بأجر زىيد ‪ ،‬وكاف صاحب الشركة طيبا ‪ ،‬فتساىؿ معي في أوقات‬
‫الدواـ ‪ ،‬مقد ار وضعي كطالبة في الجامعة ‪ ،‬واستطعت الجمع بيف العمؿ والدراسة بمزيد مف الدأب والصبر ‪،‬‬
‫واجتزت امتحانات السنة األولى بنجاح ‪ ،‬وعادت اآلماؿ الباسمة تداعبني‪..‬‬
‫كانت عطمة الصيؼ فرصة ثمينة لي حتى أجمع مصروؼ السنة التالية ‪ ،‬وكاف البد مف البحث عف عمؿ جديد‬
‫يدر عمي دخبل أفضؿ ‪ ،‬فتابعت إعبلنات الجرائد ترقبا لفرصة مناسبة ‪ ،‬واستجبت ألوؿ إعبلف صادفتو‪..‬‬
‫"شركة أدوية بحاجة إلى سكرتيرة ذات خبرة براتب جيد ‪ ،‬العنواف ‪ :‬كذا"‬
‫مضيت إلى الشركة ‪ ،‬فوجدت طابو ار مف المتقدمات وعرفت منيف أف أكثرىف مف خريجات معيد السكرتارية ‪،‬‬
‫ويحممف شيادات خبرة طويمة في ىذا المجاؿ تصؿ إلى عدة سنوات ‪ ،‬سخرت مف حظي ‪ ،‬ويئست مف الفوز ‪،‬‬
‫لكني تقدمت مع المتقدمات خجبل مف االنسحاب ‪ ،‬وكانت المفاجأة أني فزت بالفرصة ‪ ،‬وخسرنيا جميعا ‪ ،‬لماذا‬
‫نستغرب؟!‪ ..‬نعـ‪ ..‬فزت ألني أممؾ مؤىبل ميما ال تتمتع بو األخريات‪ ..‬مؤىؿ الجماؿ‪ ..‬كنت أجمميف عمى‬
‫اإلطبلؽ ‪ ،‬قاؿ لي صاحب الشركة الشاب يوميا‪" :‬أنا بحاجة إلى سكرتيرة جميمة ‪ ،‬فشركتي ناشئة ‪ ،‬وىي بحاجة‬
‫إلى وجو لطيؼ يشد الزبائف والزوار"‪ ..‬ىكذا بكؿ بساطة!‪ ..‬كاف الرجؿ يبحث عف دمية جميمة تزيف مكتبو ‪،‬‬
‫وتصطاد بفتنتيا عمبلءه‪ ..‬واعتذرت‪ ..‬اعتذرت ألني شعرت باإلىانة ‪..‬رفضت أف أكوف مجرد ديكور في مكتبو‬
‫األنيؽ‪ ..‬مجرد قطعة لحـ لذيذة تجذب الفرائس لمصياد‪ ..‬ال أدري كيؼ واتتني الشجاعة عمى االعتذار رغـ أني‬
‫كنت بحاجة إلى فرصة كيذه‪!!!..‬‬
‫وحانت فرصة ثانية ‪ ،‬فعممت قرابة شير في شركة مقاوالت ‪ ،‬لكف زوجة المدير خافت عمى زوجيا مف فتنتي ‪،‬‬
‫فأمرتو بطردي ‪ ،‬ففعؿ‪ ..‬ىكذا دائما‪ ..‬جمالي لعنة ال تفارقني‪ ..‬يسبب لي المشاكؿ ّأنى ذىبت!‪ ..‬الويؿ لمجميمة‬
‫في ىذا المجتمع إف أرادت أف تحيا حياتيا الكاممة بشرؼ وسبلـ‪!..‬‬
‫وحانت فرصة ثالثة في شركة لمستحضرات التجميؿ ‪ ،‬وكاف الراتب مغريا ‪ ،‬فعممت فييا بدأب واخبلص ‪ ،‬ونمت‬
‫رضا مديري ‪ ،‬فتمسؾ بي إلى ما بعد العطمة الصيفية ‪ ،‬ورتب لي برنامجا لمتوفيؽ بيف عممي عنده ودارستي في‬
‫الجامعة ‪ ،‬استبشرت خي ار ‪ ،‬وتوىمت أني قد وصمت إلى شاطئ األماف ‪ ،‬ولكف‪ ..‬التاجر كالسياسي‪ ..‬ال يكشؼ‬
‫أوراقو مرة واحدة‪ ..‬إنو يماطؿ ويداىف ويناور ‪ ،‬ثـ ينقض عميؾ بالضربة القاضية‪..‬‬
‫وىكذا فعؿ مدير الشركة معي‪ ..‬عاممني في البداية باحتراـ ‪ ،‬ثـ حؿ لي مشكمة التوفيؽ بيف الدراسة والعمؿ ‪ ،‬ثـ‬
‫انياؿ عمي بالمكافآت ‪ ،‬ثـ!‪ ..‬ثـ آف وقت سداد الديف‪ ...‬فكؿ شيء ثمف‪!..‬‬
‫ناداني المدير ذات يوـ ‪ ،‬وفاجأني بطمب غريب ‪ ،‬قاؿ لي وىو في غاية الثقة‪":‬لقد دعوت اليوـ بعض الخبراء‬
‫األجانب إلى حفمة عشاء ‪ ،‬وأريدؾ أف تكوني معي‪"..‬‬
‫توجست ‪ ،‬وسألتو في حيرة‪":‬ما حاجتؾ لي في حفمة عشاء؟‪!".‬‬
‫نظر إلي وقد أغضبو سؤالي ‪ ،‬ثـ قاؿ‪":‬إنو عشاء عمؿ‪".‬‬
‫قمت لو متعممو‪":‬لقد بدأ العاـ الدراسي منذ أشير واقترب موعد االمتحانات ‪ ،‬وأنا بحاجة لكؿ ثانية لتعويض ما‬
‫يفوتني مف الوقت بسبب العمؿ ‪ ،‬أرجو أف تعذرني‪".‬‬
‫ضحؾ وقاؿ‪":‬دراستؾ يا عزيزتي لف تنفعؾ!‪ ...‬إذا تعاونت معي الميمة ‪ ،‬فستناليف أج ار عظيما ال يطالو أساتذتؾ‬
‫في الجامعة‪".‬‬
‫اعتذرت ثانية ‪ ،‬فاعتبر اعتذاري تمردا ‪ ،‬اتيمني بعدـ الحرص عمى مصمحة الشركة ‪ ،‬وخاطبني بميجة فظة‬
‫أزعجتني ‪ ،‬وكأنو ولي أمري ‪ ،‬المالؾ لقيادي ‪ ،‬ولـ أرضخ لرغبتو ‪ ،‬فكررت رفضي لطمبو ‪ ،‬قمت غاضبة‪:‬‬
‫"اعتبرني مستقيمو ‪ ،‬فبل حاجة لؾ بموظفة فاشمة‪".‬‬
‫ىنا غير مف ليجتو الجافة ‪ ،‬ولجأ إلى الميف‪ ..‬ابتسـ ابتسامة ناعمة وقاؿ مداعبا‪":‬يا مجنونة‪ ..‬أنا أريد مصمحتؾ‪..‬‬
‫لقد ىيأت لؾ فرصة ثمينة ال تتكرر‪!".‬‬
‫ثـ أردؼ كمف يموح بورقة رابحة‪":‬أنا أعرؼ أف ظروفؾ المادية ليست عمى ما يراـ"!‬
‫ارتبكت وقمت‪":‬مستورة والحمد هلل‪ ..‬ال أطمح لمكثير‪".‬‬
‫ىز رأسو يائسا ‪ ،‬وقاؿ‪":‬ماذا أفعؿ بؾ؟!‪ ..‬مازلت صغيرة!‪ ..‬فيمؾ بطيء ‪ ،‬وطموحؾ ضامر‪ ..‬رأسؾ الجميؿ لـ‬
‫يستوعب حقائؽ الحياة بعد"!‬
‫أثارت كمماتو حيرتي‪ ..‬لـ أفيـ أي معنى يقؼ وراء ىذه المحاورة الغامضة العنيدة لجري إلى سيرة أرفضيا‪ ..‬تنيد‬
‫المدير وقاؿ في محاولة أخيرة إلقناعي‪":‬ىؿ تذكريف رجؿ األعماؿ اإليطالي الذي ازرني ىذا الصباح! تذكرينو ببل‬
‫شؾ ‪ ،‬بصراحة ىو معجب بؾ ‪ ،‬وقاؿ لي بالحرؼ الواحد ‪ :‬أنت تممؾ في مكتبؾ ممكة جماؿ‪ ،‬أنثى كالشيد ‪،‬‬
‫مارليف مونرو عربية ‪ ،‬أىنئؾ عمى ىذا االختيار‪"..‬‬
‫نظرت إلى المدير غاضبة ‪ ،‬وكدت أحتج عمى جرأتو ‪ ،‬لكنو سارع إلى إتماـ حديثو قبؿ أف أرد عميو وقاحتو ‪ ،‬قاؿ‬
‫متصنعا البراءة‪":‬ىكذا قاؿ ‪ ،‬وال دخؿ لي فيما قالو ‪ ،‬عمى فكرة‪ ..‬ىو إيطالي ‪ ،‬لكنو ينحدر مف أصؿ عربي‪..‬‬
‫أجداده مف عرب صقمية ىؿ سمعت بصقمية‪.‬؟ كانت جزيرة عربية أياـ كاف لمعرب صولة وجولة ‪ ،‬الميـ‪ ..‬السيد‬
‫جيوفاني ىو صاحب الدعوة‪ ..‬رجاني أف أدعوؾ معي إلى العشاء ‪ ،‬وقد حجز لنا طاولة في فندؽ مف أرقى فنادؽ‬
‫المدينة‪".‬‬
‫نظرت إليو في غيظ ‪ ،‬وقمت حانقة‪":‬أنا أرفض دعوتو وأسموبو ‪ ،‬وأرفض طريقتؾ في الكبلـ معي ‪ ،‬إف لمعمؿ‬
‫حدودا يا سيدي ‪ ،‬فأرجو أال نتخطاىا‪".‬‬
‫ابتسـ المدير ابتسامة ماكرة ‪ ،‬ثـ تناوؿ سيكا ار ‪ ،‬وقاؿ وىو يتشاغؿ بإشعالو‪":‬أنت ترفضيف بيذا مكافأة مقدارىا ألؼ‬
‫دوالر‪".‬‬
‫تساءلت مرتابة‪":‬ألؼ دوالر؟ مقابؿ ماذا؟"‪!..‬‬
‫أجاب المدير وىو يقترب مني ويتفحصني بعينيف وقحتيف‪":‬مف أجؿ ليمة واحدة‪".‬‬
‫أذىمتني وقاحتو وأثارتني ‪ ،‬فاستحمت كتمة مف الغضب ‪ ،‬وفقدت سيطرتي عمى نفسي فمـ أشعر إال وكفي تيوي‬
‫عمى وجيو القبيح ‪ ،‬فرنت الصفعة في المكتب كأزيز الرصاص ‪ ،‬ليت الصفعة كانت رصاصة حقيقية ‪ ،‬ألراحت‬
‫العالـ مف رجؿ وغد تحوؿ فجأة مف رجؿ أعماؿ إلي قواد وضيع يبيع إحدى موظفاتو إلى طبلب اليوى والمتعة ‪،‬‬
‫يحاوؿ اصطيادىا بمخالب غيره ‪ ،‬حتى إذا ما سقطت أوؿ مرة أصبح طريؽ االنحدار أماميا مفتوحا حتى نياية‬
‫الدرؾ ‪ ،‬وأصبحت فرصة استغبلليا واالتجار بيا سانحة لو وألمثالو مف تجار الرقيؽ األبيض ومروجي الدعارة‪..‬‬
‫ومضيت ال أكاد أتبيف طريقي ‪ ،‬والدموع تنيمر مف عيني كالمطر في تمؾ المحظة التيبت كؿ جروحي‪ ..‬تذكرت‬
‫يتـ الطفولة ‪ ،‬ومعاناة الشباب‪ ..‬تذكرت زوج أمي القاسي وابنو الجاىؿ‪ ..‬تذكرت أمي المقيورة ‪ ،‬وخالتي المغموبة‬
‫عمى أمرىا ‪..‬وارتسمت أيامي المرة التي قضيتيا بالمدينة عمى شريط مف الخياؿ ‪ ،‬فألبت صورة مواجعي ‪،‬‬
‫وأججت أحزاني‪..‬‬
‫وغادرت الشركة غير آسفة‪ ..‬زاىدة بأجرة ثبلثة أسابيع مف العمؿ والدأب ‪..‬وترسبت في أعماقي قناعة راسخة بأف‬
‫عمؿ المرأة في مجتمع ال يحترـ المرأة ‪ ،‬وال يراعي مشاعرىا عبث وانتحار‪..‬‬
‫وعادت اآلنسة نو ار إلى دموعيا ‪ ،‬وقد فاض بيا التأثر ‪ ،‬فخففت عنيا ورجوتيا أف تيدأ ‪ ،‬ثـ تابعت اإلصغاء إلى‬
‫قصتيا باىتماـ ‪ ،‬قالت بعد فترة مف الصمت المفعـ باالنفعاؿ‪:‬‬
‫ػ قررت أال أعمؿ سكرتيرة مرة أخرى ‪ ،‬بؿ عزفت عف العمؿ ‪ ،‬وعكفت عمى دراستي فنذرت ليا جؿ وقتي ‪،‬‬
‫وصممت أف أفوز بالمرتبة األولى عمى الكمية ‪ ،‬طمعا بالمكافأة المالية العالية التي تمنحيا الكمية لمثبلثة األوائؿ‬
‫كؿ عاـ ‪ ،‬واقتصدت في مصروفي إلى حد التقتير ‪ ،‬حتى ال تمجئني الحاجة عمى العمؿ ‪ ،‬لكني أخفقت في‬
‫مسعاي ‪ ،‬ولـ أنؿ سوى المرتبة السابعة‪..‬‬
‫وكاف البد أف أعيد النظر في قراري بالعزوؼ عف العمؿ‪ ..‬فرحت أبحث عف عمؿ ال يضطرني لبلحتكاؾ الزائد‬
‫بالرجاؿ‪..‬‬
‫ووجدت ضالتي أخي ار في شركة كبيرة بحاجة إلى طابعة آلة كاتبة بالمغة اإلنجميزية ‪ ،‬فتحمست ليذه الفرصة ‪،‬‬
‫وتقدمت ليا ‪ ،‬ففزت بالوظيفة ‪ ،‬ويا ليتني ما فزت‪ ..‬جرت األمور في البداية عمى ما يراـ ‪ ،‬فميمتي كانت واضحة‬
‫ومحددة ‪ ،‬وغرفتي مستقمة ‪ ،‬والعمؿ ال يشكؿ عبئا مرىقا ‪ ،‬فما كاف عمي سوى طباعة الرسائؿ غير المستعجمة‬
‫الموجية لمشركات األجنبية في الخارج ‪ ،‬أما الرسائؿ المستعجمة فكانت ترسؿ عف طريؽ التمكس‪..‬‬
‫ولعبت الصدفة دورىا ‪ ،‬فكانت عاممة التمكس تدعى نو ار أيضا عمى اسمي ‪ ،‬وكانت مقربة جدا مف مدير الشركة ‪،‬‬
‫وذات يوـ مشؤوـ حمؿ إلي أحد المستخدميف في الشركة رسالة مف المدير وقاؿ لي‪":‬المدير يريدؾ أف ترسمي ىذه‬
‫الرسالة بسرعة ‪ ،‬وتنتظري رد الشركة األجنبية عمييا‪".‬‬
‫نظرت إليو في دىشة ‪ ،‬وخمنت بأف ىناؾ خطأ ما!‪ ..‬فأنا أقوـ بطبع الرسائؿ وعنونتيا ‪ ،‬لكف ال شأف لي بإرساليا‬
‫‪ ،‬فكيؼ يطمب مني المدير أف أرسميا ‪ ،‬ثـ أنتظر الرد عمييا؟‪!..‬‬
‫تناولت الرسالة ‪ ،‬وقمت لممستخدـ الذي حمميا إلي وأنا أتصفحيا‪:‬‬
‫"أمتأكد مف أف المدير قد أرسمؾ إلي؟‪".‬‬
‫وما كدت أكمؿ ‪ ،‬حتى لفت انتباىي أمر خطير!‪ ..‬كانت الرسالة تثبت بأف الشركة تمارس أعماال غير مشروعة ‪،‬‬
‫وتتجر بالبضائع الفاسدة‪!..‬‬
‫وطار صوابي‪..‬‬
‫ىؿ تعمـ ماذا جاء في الرسالة؟‪..‬‬
‫مف أيف لي أف أعرؼ!‪ ..‬نظرت إلييا مترقبا ‪ ،‬فمـ تمبث أف أجابت عف سؤاليا بنفسيا‪..‬‬
‫ػ كانت الرسالة تتضمف رد المدير عمى عرض قدمتو لو شركة أجنبية تقوـ بتصنيع المحاقف الطبية الببلستيكية‬
‫التي تستعمؿ لمرة واحدة ‪ ،‬وفيو تعرض الشركة األجنبية عمى المدير شراء خمسة مبلييف محقنة انتيى تاريخ‬
‫استعماليا بأسعار زىيدة ‪ ،‬شريطة أف تمددوا تاريخ االستعماؿ إلى سنتيف إضافيتيف حتى نتمكف مف تسويقيا‪!...‬‬
‫تممممت في مكاني وأنا أصغي لنو ار ‪ ،‬رائحة الذئب األنيؽ تفوح في حديثيا ‪!..‬وقفز إلى ذاكرتي دفاع عبد الغني‬
‫عف األغذية التي انتيت مدة استيبلكيا ‪ ،‬وعزمو عمى تسويقيا ‪ ،‬نفس األسموب التجاري الرخيص‪!...‬‬
‫أيكوف عبد الغني الذىبي وراء ىذه الجريمة أيضا؟‪!..‬‬
‫قمت ليا كمف يتحزر‪:‬‬
‫ػ كنت تعمميف في شركة عبد الغني الذىبي‪..‬‬
‫تقمصت مبلـ نو ار فجأة ‪ ،‬وباف اليمع في عينييا وكأنيا قد أصيبت بصعقة كيربائية عنيفة!‪ ..‬ىمست وقد غار‬
‫لوف الحياة مف وجييا‪:‬‬
‫ػ كيؼ عرفت؟‬
‫كيؼ عرفت!‪ ..‬ىو إذف‪ ..‬ولكف‪ ..‬ما معنى ىذا التغير الذي اعتراىا؟‪ ..‬وأردت أف أوضح ليا السبب الذي دعاني‬
‫الكتشاؼ اسـ الشركة التي تعمؿ فييا نو ار ‪ ،‬لكنيا لـ تميمني!‪ ..‬وقفت مذعورة وقالت‪:‬‬
‫ػ أنت منيـ!‬
‫تساءلت في حيرة‪:‬‬
‫ػ ميـ!‪ ..‬ممف؟‬
‫غمغمت وىي تمـ حقيبتيا بارتباؾ‪:‬‬
‫ػ ال أدري‪..‬‬
‫ػ لحظة أرجوؾ‪..‬‬
‫ػ كمكـ ذئاب‪..‬‬
‫وانطمقت ىاربة ال تموي عمى شيء‪!..‬‬
‫حدث كؿ شيء بسرعة ‪ ،‬فأعاقتني المفاجأة عف التصرؼ ‪ ،‬ولـ ألبث أف تحررت مف ذىولي ‪ ،‬فانطمقت خمفيا‬
‫ألستوقفيا وأىدئ مف روعيا ‪ ،‬لكنيا إذا السير أمامي ‪ ،‬وأمعنت في اليرب‪..‬‬
‫لكأنيا تيرب أماـ وحش‪!...‬‬
‫الفصؿ الثامف والعشروف‪..‬‬

‫اندفعت خمؼ نو ار بقوة ‪ ،‬الحقتيا مف شارع إلى شارع ‪ ،‬ومف حارة إلى حارة ‪ ،‬لكنيا أفمتت مني ‪ ،‬ضاعت خمؼ‬
‫جدراف المدينة ‪ ،‬ابتمعتيا األزقة الضيقة وغيبتيا في جوفيا المتخـ باألسرار ‪ ،‬ووقفت عند مدخؿ أحد األزقة حائ ار‬
‫يائسا مثقبل بالخيبة!‪ ..‬كاف الزقاؽ مقف ار وممتدا ‪ ،‬تدؿ نيايتو المضيئة التي تموح خمؼ أعشاش العتمة عمى أنو‬
‫يفضي إلى شارع مزدحـ ‪ ،‬وترامى إلى سمعي صوت مذيع أجش يتمو نشرة أخبار ‪ ،‬وقد اختمطت أخباره بجمبة‬
‫أطفاؿ يمرحوف قبؿ أف يأووا إلى الفراش ‪ ،‬أيف ذىبت أيتيا الظبية الشاردة التي امتزج الخوؼ والشؾ بدميا ‪،‬‬
‫فأصبحت تنفر مف رائحة البشر ‪ ،‬وتخشى أطياؼ الرجاؿ‪!...‬‬
‫وىويت عمى أحد الجدراف بقبضة مشحونة بالغيظ‪ ..‬أنت ثانية أييا الذئب األنيؽ!‪ ..‬أييا العاتي الذي يستوطف في‬
‫حياتنا كالداء‪ ..‬متى ترحؿ؟ متى يسقط عف وجيؾ القناع؟ واستبدت بي الحسرة ‪ ،‬ألني لـ أستطع أف أعرؼ بقية‬
‫المأساة التي عاشتيا نوار وىي تحارب في المدينة وحيدة ‪ ،‬تقاوـ الذئاب والوحوش ‪ ،‬وتدافع عف نفسيا بشجاعة‬
‫المحارب الذي تكالب عميو األعداء ‪ ،‬ليكشروا مقاومتو ‪ ،‬ويطفئوا عنفوانو ‪ ،‬ماذا كاف عمي لو اعتصمت بالصمت؟‬
‫لكف ما أدراني بأف ذكر عبد الغني الذىبي سيفزعيا؟ أنت منيـ! كمكـ ذئاب!‪ ..‬لكأنيا تتحدث عف عصابة!!‪ ..‬عف‬
‫جيش مف الوحوش!‪ ..‬ترى؟‪ ..‬ما عبلقة عبد الغني الذىبي بكؿ ىذا؟ أيمكف أف يكوف ىو الػ؟!‪ ..‬عبد العني‬
‫الذىبي لممرة الثالثة بعد ما ال أدري مف المرات ‪ ،‬يقؼ أمامي بطبل مف أبطاؿ الشر والقسوة عمى مسرح الواقع‬
‫المريض‪..‬‬
‫وانفجر عبد الغني الذىبي داخمي كالسرطاف الذي ال يزوؿ إال بالجراحة ‪ ،‬استقر في أعماقي وجعا نابضا باأللـ ‪،‬‬
‫كالناسور الحاد ‪ ،‬وسولت لي نفسي بالمجوء إلى العنؼ ألوؿ مرة!‪ .‬إنو رجؿ يستحؽ القتؿ في كؿ الشرائع ‪ ،‬وما‬
‫اكتشفتو فيو مف المساوئ يؤىمو لمموت خنقا أو ورميا بالرصاص!‪ ...‬فكيؼ لو استطعت أف أحصي ما خفي مف‬
‫جرائمو ومكائده وآثامو؟‪ ..‬إذف ‪ ،‬الستحؽ القتؿ ألؼ مرة ومرة ‪...‬إذا كانت ابنتو قد أدانتو ‪ ،‬واكتشفت ظممو‬
‫واجرامو وبشاعتو ‪ ،‬فماذا بقي بعد؟‪ ..‬إنو مجرـ محترؼ ‪ ،‬وطاغية مستبد ‪ ،‬يستخؼ بأرواح الناس ومشاعرىـ ‪،‬‬
‫ويستغؿ نفوذه ومالو لتركيع البشر ‪ ،‬وارغاميـ عمى التنحي مف طريقة ‪ ،‬إنو يمضي في الحياة كالديناصورات‬
‫المتوحشة ‪ ،‬كالبمدوزر الغبي الذي يدمر كؿ ما يقؼ في طريقو فيحولو إلى حطاـ‪!...‬‬
‫وركبتني فكرة مجنونة بقتؿ عبد الغني الذىبي!‪ ..‬نعـ ‪ ،‬قتمو ‪ ،‬واراحة الناس مف آثامو وشروره‪ ..‬ال يفؿ الحديد إال‬
‫الحديد ‪ ،‬والج ازء مف جنس العمؿ ‪ ،‬البد مف الردع في معالجة ىذا الثعباف ‪ ،‬إنو عضو فاسد ‪ ،‬والبد لو مف البتر‬
‫‪ ،‬قبؿ أف يسري سمو الزعاؼ إلى أعضاء جديدة فيقتميا ‪ ،‬الحؽ والعدؿ يقوالف بأف القاتؿ يقتؿ ‪ ،‬وعبد الغني قاتؿ‬
‫‪ ،‬قتؿ الرجاؿ والنساء واألطفاؿ ‪ ،‬وتربع فوؽ جماجميـ‪...‬‬
‫وأفقت مف أفكاري عمى ىدير العقؿ وىو ينبثؽ في أغواري المدليمة ‪ ،‬فيزجرني ويثنيني‪..‬‬
‫ػ تقتمو؟!‪ ..‬تقتمو أييا المجنوف؟!‪ ..‬ىذا ليس تصرفا حضاريا يميؽ بطبيب‪!...‬‬
‫ػ نعـ إني أعترؼ‪ ..‬العنؼ أسموب ىمجي أرعف ال يميؽ بمثقؼ مثمي ‪ ،‬لكني إنساف قبؿ كؿ شيء!‪ ..‬إنساف لو‬
‫عواطؼ ومشاعره ‪ ،‬ال يستطيع أف يقؼ ساكتا يشارؾ المجرـ في جريمتو بصمتو وسكوتو‪..‬‬
‫ػ الجأ إلى القانوف‪..‬‬
‫ػ القانوف!‪ ..‬القانوف حبالو طويمة ‪ ،‬وعبد الغني مجرـ ذكي ال يترؾ خمفو أث ار يدؿ عميو ‪ ،‬سيمر وقت طويؿ قبؿ‬
‫أف تكتمؿ حمقة االتياـ حوؿ رقبتو الناعمة ‪ ،‬الدليؿ الصارخ الوحيد بيد أحبلـ ‪ ،‬وأحبلـ ابنتو ‪ ،‬ميما كاف فيي‬
‫ابنتو ‪ ،‬وليس مف السيؿ أف تقؼ في وجو أبييا ‪ ،‬إنيا إنسانة مف لحـ ودـ ‪ ،‬واإلنساف ال يضحي بأبيو عادة ميما‬
‫كاف السبب قاى ار وقويا‪..‬‬
‫ػ إذا قتمتو إذف ‪ ،‬فستخسر أحبلـ‪ ..‬ىؿ تريد أف تخسر أحبلـ؟‪..‬‬
‫ػ أحبلـ؟!‪ ..‬سأخسرىا عمى كؿ حاؿ ‪ ،‬إنو يقؼ بيني وبينيا بقسوة ‪ ،‬ويموح لي بالفضيحة التي لفقيا وحبكيا‬
‫حولي‪ ..‬حتى لو تحديتو وبحت ألحبلـ بكؿ ما كاف ‪ ،‬فمف يزداد إال إص ار ار وعنادا ‪ ،‬وقد يمجأ إلى أساليب جديدة‬
‫أكثر دناءة وغد ار مف األسموب الذي اتبعو إلبعادي عف ابنتو‪ ..‬إنو يقؼ بيننا كسور الصيف ‪ ،‬وسيقؼ بيننا حيا‬
‫وميتا ‪ ،‬فؤلقتمو وأريح العالـ مف شره‪..‬‬
‫ػ ستساؽ إلى السجف ‪ ،‬وتحاكـ كقاتؿ ‪ ،‬وتنتيي مدانا ‪ ،‬ألـ تفكر في ىذه النياية يا دكتور؟ يجب أف تعترؼ بأنؾ‬
‫تمضي باتجاه خاطئ‪..‬‬
‫ػ لف أعترؼ ‪ ،‬ولف أرجع ‪ ،‬سأقضي عميو دوف أف أترؾ خمفي أث ار يد عمي تماما ‪..‬بنفس الحرص والذكاء الذي‬
‫يقضي بيما عبد الغني عمى ضحاياه‪ ..‬رصاصة في الظبلـ‪ ..‬رصاصة واحدة كفيمة بتفجير رأسو المحتقف بقيح‬
‫المكر والخبث والخداع‪ ..‬رصاصة واحدة تكفي إليقاؼ كؿ ىذه الجرائـ والمآسي‪ ..‬رصاصة واحدة وينتيي الظالـ‬
‫‪ ،‬فينتصؼ المظموـ وتيدأ أرواح الضحايا‪..‬‬
‫ػ لكنو ليس ظالما واحدا!‪ ..‬إنيـ ظبلـ كثيروف ‪ ،‬فيؿ تكفي رصاصتؾ ليـ جميعا؟‪..‬‬
‫ػ آه‪ ..‬غمبتني أييا العقؿ‪ ..‬رصاصة واحدة ال تكفي‪ ..‬وال ألؼ رصاصة‪ ..‬إذا مات عبد الغني‪ ..‬فمف يموت معو‬
‫الباقوف‪ ..‬بؿ سيمكثوف كالوباء‪ ..‬يعيثوف ويفسدوف ويظمموف ويقتموف‪ ..‬وسيحتاطوف لمرصاصة العادلة‪ ..‬سيغطوف‬
‫وجوىيـ بأقنعة جديدة أكثر غموضا وجماال مف قناع الذىبي ‪ ،‬قد تجدىـ في ثياب المصمحيف ‪ ،‬وقد تراىـ في‬
‫محاريب الصالحيف ‪ ،‬قد يرتدوف أسماؿ الفقراء الزاىديف ‪ ،‬وقد يستشيدوف بآيات مف الذكر الحكيـ‪ ..‬نعـ‪..‬‬
‫الظالموف الذيف أخشاىـ ليسوا جميعا واضحيف ظاىريف!‪ ..‬واألخطر مف الظالميف‪ ..‬الميندس الذي تواطأ مع عبد‬
‫الغني عمى الغش في كميات المواد البلزمة لبناء العمارة ‪ ،‬والمحاسب الذي زور شيادتو مف أجؿ تحقيؽ طموحاتو‬
‫في الشيرة والثراء‪ ..‬والخائف الذي اشتراه عبد الغني ليسرؽ شيادة المحاسب مف ممفات التحقيؽ ‪ ،‬والمصور الذي‬
‫استخدمو عبد الغني ليمتقط لي تمؾ الصورة المخجمة‪ ..‬مقابؿ مبمغ مف الماؿ ‪ ،‬والغانية الداعرة التي مثمت عمي‬
‫دورىا بإتقاف ‪ ،‬وقبضت ثمنو خاتما مف الذىب أو عقدا مف المؤلؤ‪ ..‬نعـ‪ ..‬الظالموف كثيروف ‪ ،‬واألرض بحاجة‬
‫إلى طوفاف جديد كطوفاف نوح ‪ ،‬يطيرىا مف الظمـ والفساد ويعقـ العالـ مف لوثة المادة ‪ ،‬التي أحالت القموب إلى‬
‫حجارة ‪ ،‬صدقت أييا العقؿ‪ ..‬عبد الغني ليس ىو المشكمة‪ ..‬المشكمة في الضمير الغائب ‪ ،‬والتربية الفاسدة ‪،‬‬
‫والحب المفقود‪ ..‬المشكمة في الوثنية الجديدة التي تجتاحنا كالوباء‪ ..‬في العبودية لمدرىـ والدينار‪ ..‬الماؿ ىو الذي‬
‫منح عبد الغني قوتو وسطوتو وقدرتو عمى الظمـ ‪ ،‬وعبدة الماؿ مف أصحاب النفوس الخائرة الضعيفة ىـ األيادي‬
‫التي يبطش بيا عبد الغني وأمثالو‪ ..‬لقد كثر في حياتنا المرتزقة واالنتيازيوف ‪ ،‬وارتفع صوت الذىب فأعمى بريقو‬
‫العيوف‪..‬‬
‫وعدت أدراجي إلى المركز الثقافي يحدوني الحنيف إلى أحبلـ‪ ..‬كنت في حاجة إلييا لتغسمني مف أحزاني ‪،‬‬
‫وتمنحني فرحا جيدا يبدد بعض الشجف الذي زرعتو في نفسي مأساة نو ار المسكينة ‪ ،‬ومضيت إلى قاعة المعارض‬
‫بخطوات ليفى ‪ ،‬وما إف دلفت إلييا حتى التقت عيناي بعيني الذئب األنيؽ عبد الغني‪ ..‬ىذا الرجؿ البغيض‬
‫يطاردني في الحمـ واليقظة!‪ ..‬يقؼ في طريقي أنى ذىبت!‪ ..‬متى تسقط أوراقؾ أييا الخريؼ؟‪!..‬‬
‫الفصؿ التاسع والعشروف‬

‫ػ أنت الدكتور صبلح الحكيـ؟‪..‬‬


‫ػ نعـ ‪ ،‬ىؿ مف خدمة؟‪..‬‬
‫ػ تفضؿ معنا‪..‬‬
‫ػ أنا؟‪..‬‬
‫ػ ألست الدكتور صبلح الحكيـ؟‪..‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬ولكف‪.....‬‬
‫ػ أرجو أف تمضي معنا بيدوء ‪ ،‬معنا أمر بالقبض عميؾ‪..‬‬

‫مادت بي األرض ‪ ،‬وسحقتني المفاجأة تحت وقعيا الثقيؿ‪ ..‬يا ليذا الصباح األسود!‪ ..‬أأساؽ إلى السجف‬
‫كالمجرميف؟‪ ...‬ونظرت حولي في جنوف ‪ ،‬رجاؿ األمف ينتشروف في باحة المستشفى وحديقتو حسب خطة‬
‫مدروسة ‪ ،‬وىا ىي حمقتيـ تضيؽ حولي ‪ ،‬لتحبط أمامي كؿ محاولة لميرب! لكأنيـ يحاصروف قاتبل محترفا مف‬
‫رجاؿ العصابات المنظمة!‪ ..‬وأطمت الوجوه مف النوافذ واألبواب ذاىمة مستغربة ‪..‬األطباء والممرضات‬
‫والموظفوف‪ ..‬ينظروف إلي في حيرة وكأف عمى رؤوسيـ الطير ‪..‬لـ يخطر بباليـ يوما أني يمكف أف آتي بفعؿ‬
‫شائف يستحؽ تدخؿ رجاؿ الشرطة !أتكوف ىذه ىي النياية؟‪ ..‬ىزني ىذا السؤاؿ بعنؼ ‪ ،‬فاعتراني شعور ىائؿ‬
‫بالظمـ ‪ ،‬ونفرت مف عيني دمعة ساخنة تتمظى بميب األسى الذي انبثؽ في فؤادي كالطمقة‪!..‬‬
‫واندفع العـ درويش نحوي كالممتاع ‪ ،‬فحركت ليفتو كوامف نفسي ‪ ،‬قاؿ لمضابط بميجة متيدجة وشفتاه تختمجاف ‪:‬‬
‫ػ ىناؾ خطأ يا حضرة الضابط‪ ..‬ىذا الدكتور صبلح‪ ..‬أخبرني مف تريد بالضبط ‪..‬وأنا أدلؾ عميو‪..‬‬
‫ابتسـ الضابط ساخ ار وقاؿ‪:‬‬
‫ػ نريد الدكتور صبلح الحكيـ‪..‬‬
‫نظر العـ درويش إلي بعنيف مغرورقتيف ‪ ،‬وىو ال يكاد يصدؽ ‪ ،‬قمت مدافعا عف نفسي‪:‬‬
‫ػ إنيـ يموثوف األبرياء يا عـ درويش‪..‬‬
‫حدجني الضابط بنظرة مؤنبة وأشار إلى أحد رجالو فاقترب مني وىو يحمؿ القيد الحديدي المييف ‪ ،‬فأقفؿ إحدى‬
‫حمقتيو حوؿ معصمي ‪ ،‬وأقفؿ األخرى حوؿ معصمو ‪ ،‬ودعاني لممسير‪..‬‬
‫ومضيت معيـ مطأطأ الرأس ‪ ،‬مكموـ الوجداف ‪ ،‬تطاردني العيوف بأسئمة كالسياـ ‪ ،‬تريد لو تنكت لحمي لتعرؼ ما‬
‫الذي يخفيو ىذا اإلرىاب تحتو مف أسرار‪!..‬‬
‫وألفيت ىاني لدى الباب وىو يدلؼ بسيارتو إلى باحة المستشفى ‪ ،‬فكبح فرامؿ سيارتو فجأة ‪ ،‬وقد تسمرت يداه‬
‫عمى المقود ‪ ،‬وحطت نظراتو عمي في ذىوؿ ‪ ،‬واستمر ينظر إلي برىة كمف أصابو مس ‪ ،‬لكنو سرعاف ما أفاؽ‬
‫مف ذىمتو ‪ ،‬فترجؿ وأقبؿ نحوي مندىشا يتساءؿ‪:‬‬
‫ػ صبلح ‪ ،‬ماذا يجري؟‬
‫ػ كما ترى‪..‬‬
‫ػ ال أصدؽ‪..‬‬
‫ػ يجب أف تصدؽ كؿ شيء بعد اآلف‪..‬‬
‫وسأؿ ىاني الضابط بانفعاؿ ‪:‬‬
‫ػ ماذا فعؿ حتى تعتقموه بيذه الصورة؟‪..‬‬
‫ػ ىذا ليس مف شأنؾ‪..‬‬
‫ػ أنا صديقو وأعرفو أكثر منكـ‪..‬‬
‫ػ عندما سنحتاج إلى شيادتؾ سنستدعيؾ‪..‬‬
‫ػ كاف بإمكانكـ أف تعتقموه بطريقة أفضؿ‪!..‬‬
‫ػ أرجو أف ال تعيقنا أكثر‪..‬‬
‫ػ أنتـ ال تعرفوف ماذا تفعموف؟ أنتـ تشوىوف صورة أنبؿ إنساف عرفتو في حياتي‪..‬‬
‫نظر إليو الضابط مقطبا ‪ ،‬وقاؿ بحده‪:‬‬
‫ػ اىتـ بنفسؾ ‪ ،‬وتنح عف الطريؽ‪..‬‬
‫ىتؼ ىاني غاضبا‪:‬‬
‫ػ إىانة الدكتور صبلح إىانة لكؿ األطباء‪..‬‬
‫رمقو الضابط في غيظ ‪ ،‬وقاؿ في ىدوء عاصؼ‪:‬‬
‫ػ إما أف تسكت ‪ ،‬أو تمضي معو‪..‬‬
‫أردؼ ىاني غير عابئ بالتيديد‪:‬‬
‫ػ المتيـ برئ حتى يداف ‪ ،‬والدستور ال يسمح بإىانة األبرياء بيذه الصورة‪..‬‬
‫ػ أثر بي إنفعاؿ ىاني ‪ ،‬ألوؿ مرة أراه يتحدث بيذه الجرأة والحماس ‪ ،‬ورجوتو أف يكؼ فقاؿ لي بنبرة مشجعة‪:‬‬
‫ػ صبلح‪ ..‬اطمئف‪ ..‬سنثير القضية في نقابة األطباء‪ ..‬سنقيـ الدنيا مف أجمؾ‪..‬‬
‫أومأت لو شاك ار ‪ ،‬ونظرت إلى الضابط مستسمما ‪ ،‬فمضى بنا موكب االعتقاؿ في ىدوء ‪ ،‬وأردؼ ىاني وىو‬
‫يشيعني بنظرات تفيض بالتعاطؼ والمواساة‪:‬‬
‫ػ صبلح‪ ..‬ال تيتـ‪ ..‬كمنا معؾ‪..‬‬
‫الفصؿ الثبلثوف‬

‫ػ انتظر ىنا‪..‬‬
‫وغاب الضابط ساعة ثـ عاد‪..‬‬
‫ػ تعاؿ معي‪..‬‬
‫مضى أمامي بخطوات رشيقة ‪ ،‬فتبعتو حانقا متأججا كمرجؿ وتحسست مكاف القيد كمف ابتمي بالوسواس ‪ ،‬مازلت‬
‫أشعر بو يمتؼ حوؿ معصمي كاألفعى ‪ ،‬رغـ أف الجندي الطيب الذي أمر بإحكامو قد فكو منذ أف وصمنا إلى‬
‫دائرة التحقيقات الجنائية ‪ ،‬سيبقى أثرؾ القذر أييا القيد الظالـ عالقا في يدي إلى األبد‪ ..‬يذكرني بالظمـ الذي ناؿ‬
‫مني وأثخف نفسي بالجراح ‪ ،‬وصعد الضابط أمامي درجا بعد درج ‪ ،‬وظؿ يرقى حتى وصؿ إلى الطابؽ الرابع ‪،‬‬
‫فانعطؼ ذات اليميف وقادني إلى أقصى الممر ‪ ،‬ثـ دخؿ قاعة واسعة يقؼ ببابيا حارساف‪..‬‬
‫ػ اجمس ىنا‪..‬‬
‫جمست ‪ ،‬وأنا ألوؾ القمؽ المر ‪ ،‬واليواجس السوداء ‪ ،‬طرؽ الضابط بابا في صدر القاعة ‪ ،‬ثـ دلؼ بيدوء ‪،‬‬
‫وأغمؽ خمفو ‪ ،‬شيء غامض ال أدري كنيو انبثؽ في صدري فجأة ‪ ،‬ومد ذراعو القوية كاألخطبوط ‪ ،‬وراح يضغط‬
‫بيا عمى أنفاسي حتى كاد أف يزىقيا ‪ ،‬وشعرت بعجمة الحياة داخمي وىي تتباطأ حتى كادت تتوقؼ عف الدوراف ‪،‬‬
‫وكأنيا آلة انحسر عنيا التيار الذي يمدىا بالطاقة ‪ ،‬ونيضت كغريؽ ينتشؿ نفسو مف الماء بحثا عف دفقة ىواء‬
‫تمنحو الحياة ‪ ،‬ورآني أحد الحارسيف أنيض في حركة مفاجئة ‪ ،‬فتحفز لؤلمر ويده عمى قبضة مسدسو المتدلي‬
‫فوؽ وركو األيمف ‪ ،‬وانضـ إليو صاحبو في استنفاره الطارئ ‪ ،‬وجعبل يحدقاف بنظرات متوجسة ترصد ما قد سآتي‬
‫بو مف فعؿ ‪ ،‬لكف نظراتيما الصارمة المتجيمة سرعاف ما تراخت وىما يراياني أتنفس بعمؽ وأخفي وجيي خمؼ‬
‫كفيف متشنجتيف ‪ ،‬شدت اآلالـ أعصابيا حتى كادت تمزقيما ‪ ،‬وتبادال نظرة قاؿ بعدىا األوؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ تشكو مف شيء؟‪!..‬‬
‫نظرت إليو بعينيف مغرورقتيف تفيضاف ألما واستعبلء عمى أدنى مساعدة ‪ ،‬ثـ تيالكت في مكاني مرىقا كئيبا أقاوـ‬
‫الظممة التي شاعت داخمي كالعمى‪..‬‬
‫ولبثت كذلؾ دقائؽ قميمة خرج بعدىا الضابط وىو يحمؿ رزمة مف األوراؽ ‪ ،‬ثـ أقبؿ نحوي قائبل‪:‬‬
‫ػ سيستدعيؾ المحقؽ بعد قميؿ‪..‬‬
‫ػ أريد أف أعرؼ لماذا أنا ىنا؟‪!..‬‬
‫ػ ال تستعجؿ‪ ..‬ليس ىناؾ ما يسر!‬
‫ػ أتعذبوف الناس بالقمؽ؟‪..‬‬
‫رماني بنظرة ساخرة ‪ ،‬ثـ مضى غير مكترث ‪ ،‬وتركني أغوص في قمقي حتى القاع‪..‬‬
‫ومر وقت ليس بالقصير ‪ ،‬استحضرت خبللو ذكريات الماضي والحاضر ‪ ،‬وخنقت فيو كؿ اآلماؿ دفعة واحدة ثـ‬
‫ألقيتيا في وىدة عميقة مف اليأس ‪ ،‬وحدقت في الباب الموصد بنظرات متوقدة كالنار ‪ ،‬تريد لو تحرقو بمييبيا ‪،‬‬
‫لتعرؼ مف ىو المحقؽ الذي سيمسي مصير في يده‪!..‬‬
‫وخرج المحقؽ‪ ..‬أطؿ كالشمس المحرقة في ظييرة آب‪ ..‬نظراتو صارمة ‪ ،‬ووجيو غارؽ في الجد ‪ ،‬أشار إلي‬
‫بسبابتو ‪ ،‬ثـ استدار متجيا نحو مكتبو ‪ ،‬تقدمت خمفو بخطى وئيدة ‪ ،‬وكأني أخوض في حقؿ ألغاـ‪..‬‬
‫ػ تفضؿ‪..‬‬
‫جمس وجمست‪ ..‬تفحصني بنظراتو برىة ‪ ،‬ثـ تناوؿ سيكارة ‪ ،‬فأشعميا ‪ ،‬وراح ينفث دخانيا وىو صامت جامد‬
‫يعيث بنظراتو المرتابة في وجيي المربد‪ ..‬أىبل وسيبل ‪..‬ماذا تريد مني أييا المحقؽ األريب؟ خرج عف صمتو‬
‫أخيرا‪ ..‬قاؿ بنبرة مباغتو‪:‬‬
‫ػ أنت قمؽ‪!..‬‬
‫ابتسمت ساخ ار ‪ ،‬وتساءلت‪:‬‬
‫ػ كيؼ ال أقمؽ؟‬
‫ػ البريء ال يقمؽ؟‬
‫ػ في مجتمع يحترـ الفرد ‪ ،‬ال يمكف لمبريء أف يقمؽ‪..‬‬
‫ػ أأساء إليؾ أحد؟‬
‫ػ وىؿ تريد إساءة أكبر مف أف أساؽ أماـ الناس مكببل وكأني قاتؿ أو قاطع طريؽ؟!‬
‫ػ مف يدري؟ قد تكوف قاتبل؟‬
‫أطاحت كمماتو بتماسكي وىدوئي‪ ..‬انفجرت مف شدة الغيظ ‪ ،‬وىتفت في وجيو‪:‬‬
‫ػ ال أسمح لؾ بإىانتي كائنا مف كنت! أنا مواطف شريؼ ‪ ،‬وأعرؼ حقوقي جيدا‪..‬‬
‫ابتسـ كاليازئ ‪ ،‬وقاؿ دوف أف ييتز‪:‬‬
‫ػ كؿ الذيف يجمسوف مكانؾ يقولوف كبلمؾ‪ ..‬الفرؽ الوحيد ىو أني أحقؽ اآلف مع متيـ مثقؼ‪ ..‬مع طبيب!‬
‫قمت ‪ ،‬وقد نفذ صبري‪:‬‬
‫ػ أريد أف أعرؼ لماذا أنا ىنا؟‬
‫ػ ال نعرفؾ مف قبؿ حتى نمزح معؾ‪..‬‬
‫ػ أال تريد أف تبدأ التحقيؽ؟‬
‫ػ ليس قبؿ أف تيدأ‪.‬‬
‫ػ سيدي الكريـ أنا ىادئ ‪ ،‬ىادئ أكثر مما تتصور‪..‬‬
‫ػ مبلمحؾ تقوؿ غير ىذا‪..‬‬
‫ػ ال أعتقد أني في نزىة‪..‬‬
‫ػ ىؿ تعرؼ امرأة تدعى نوار؟‪..‬‬
‫خفؽ قمبي بشدة!‪ ..‬نورا؟‪ ..‬لـ يخطر ببالي أف اعتقالي بسبب نورا!‪ ..‬أيمكف أف تكوف نو ار قد اتيمتني بشيء؟‪!..‬‬
‫وأجبت في قمؽ‪:‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬أعرفيا‪..‬‬
‫ػ ما عبلقتؾ بيا؟‬
‫ػ عبلقتي؟ ال عبلقة لي بيا‪!..‬‬
‫ػ كيؼ تعرفيا إذف؟‬
‫ػ أعرؼ شكميا ‪ ،‬واسميا‪ ..‬أعرؼ جزءا مف قصتيا لكف ‪ ،‬ال عبلقة لي بيا‪!..‬‬
‫ػ كيؼ عرفت قصتيا‪..‬‬
‫ػ روتيا لي‪..‬‬
‫ػ ىؿ تصدؽ أف امرأة في الدنيا تروي قصة حياتيا إلنساف ال تعرفو؟‬
‫ػ ال طبعا‪ ..‬لكف‪..‬‬
‫ػ لكف ماذا؟‪..‬‬
‫لذت بالصمت ىؿ أبوح لممحقؽ بقصة الطفمة المقيطة؟ أـ أحتفظ بسرىا حتى أعرؼ نوع التيمة الموجية إلي؟ ولـ‬
‫يترؾ لي المحقؽ فرصة لمتفكير ‪ ،‬داىمني قائبل‪:‬‬
‫ػ صمتؾ لف يفيدؾ ‪ ،‬نحف نعرؼ كؿ شيء‪..‬‬
‫ػ كؿ شيء؟! مثؿ ماذا؟‪.‬‬
‫ػ نعرؼ أنؾ عمى عبلقة مع نوار!‬
‫ػ عبلقة!‪ ..‬عبلمة مف أي نوع‪!!..‬‬
‫ػ عبلقة جنسية طبعا‪..‬‬
‫ػ ىذا غير صحيح‪..‬‬
‫ػ ال تنكر‪ ..‬ثمة أدلة‪..‬؟‬
‫ػ أنت ال تممؾ أي دليؿ‪..‬‬
‫زفر سحابة جديدة مف سيكارتو ‪ ،‬ثـ قاؿ وىو يكتـ لييبيا في قعر صحف السجائر‪:‬‬
‫ػ حسنا‪..‬‬
‫ثـ أردؼ وىو يمقي إلي بصورة ممونة استميا مف درجو عمى حيف غرة‪:‬‬
‫ػ أليست ىذه صورتؾ؟‬
‫بيت وأنا أرى الصورة ‪ ،‬إنيا صورتي أنا ونو ار ‪ ،‬عندما كنت جالسا أصغي إلى قصتيا في المركز الثقافي!‪ ..‬مف‬
‫ىو الذي التقط ىذه الصورة؟‪ ..‬أيقؼ عبد الغني الذىبي خمؼ ىذه الجريمة أيضا؟‪ ..‬إني أشـ رائحتو النتنة مف‬
‫خبلؿ الصورة ‪!..‬ىذا أسموبو في العمؿ‪ ..‬التمفيؽ والتزوير واالبتزاز!‬
‫ودفع إلي المحقؽ ورقة مطوية مف أوراؽ الرسائؿ الممونة ‪ ،‬نظرت إليو في دىشة ‪ ،‬ثـ فتحت الرسالة فوجدت فييا‬
‫كممات مطبوعة عمى اآللة الكاتبة ‪ ،‬وأذىمني ما جاء فييا‪..‬‬
‫"عزيزتي نوار ‪ ،‬سنمتقي الميمة في منتزه الغابة ‪ ،‬أرجو أال تتأخري ألني أنتظرؾ عمى أحر مف الجمر ‪ ،‬حبيبؾ إلى‬
‫األبد الدكتور صبلح الحكيـ"‪..‬‬
‫ولـ أكد أنتيي مف قراءة الرسالة الكاذبة ‪ ،‬حتى داىمني المحقؽ باتياـ جديد ‪ ،‬قاؿ بنبرة صاعقة ‪ ،‬وكأنو ييوي‬
‫عمى بالضربة القاضية‪:‬‬
‫ػ دكتور صبلح‪ ..‬أنت متيـ باغتصاب وقتؿ المغدورة نو ار‪..‬‬
‫وقفت فجأة كمف قذفو بركاف‪ ..‬ثـ ىويت عمى الكرسي ككرة ممتيبة تدحرجت مف شاىؽ ‪ ،‬ىمست بصوت واىف‬
‫كالموت‪:‬‬
‫ػ أنا؟‪!!!....‬‬
‫ىتؼ المحقؽ وىو يتابع ىجومو دوف رحمة‪:‬‬
‫ػ نعـ اغتصبتيا وضحكت عمييا ‪ ،‬وعندما طالبتؾ بالزواج رفضت ‪ ،‬ثـ عمدت إلى قتميا حتى ال تفضح غمطتؾ‬
‫وتيدد سمعتؾ البراقة التي تخدع بيا الناس‪ ..‬إياؾ أف تنكر‪..‬‬
‫ىمست وأنا أصارع مشاعر الصدمة بأعصاب عارية‪:‬‬
‫ػ ىذا ليس صحيحا ‪ ،‬ولكف‪..‬‬
‫ػ كؿ األدلة ضدؾ‪ ..‬الصورة صورتؾ‪ ..‬والرسالة تفضح طبيعة العبلقة التي كانت تجمعؾ بالقتيمة‪..‬‬
‫ػ ولكف متى قتمت؟‪..‬‬
‫ػ أجب وال تراوغ‪..‬‬
‫ػ الصورة صورتي ‪ ،‬لكف الرسالة ممفقة!‬
‫ػ ما دليؾ؟‪.‬‬
‫ػ أنا ال أممؾ آلة كاتبة ‪ ،‬وال أستعمميا في تدويف رسائمي‪..‬‬
‫ػ لكنؾ تستطيع أف تحصؿ عمى آلة كاتبة بألؼ طريقة‪..‬‬
‫ػ ولماذا أطبع رسالة كيذه عمى اآللة الكاتبة؟‪..‬‬
‫ػ لتنفي نسبة الرسالة إليؾ‪ ..‬فيما لو وقعت في يدنا‪ ..‬وتدعي أنيا ممفقة ‪..‬لذلؾ تجنبت أف تكتب الرسالة بخط يدؾ‬
‫‪ ،‬ولـ تترؾ عمى ورقة الرسالة أية بصمات تدؿ عميؾ‪..‬‬
‫ػ أنت تبالغ في االستنتاج‪..‬‬
‫ػ أنصحؾ باالعتراؼ‪..‬‬
‫ػ اآلف عرفت كـ جمس مكاني مف المظموميف‪!..‬‬
‫ػ إذا كنت بريئا ‪ ،‬فدافع عف نفسؾ‪..‬‬
‫ػ إليؾ دفاعي إذف ‪ ،‬وستعمـ أني بريء مما تقوؿ‪..‬‬
‫ورويت لو قصة نو ار مف أوليا إلى آخرىا‪ ..‬منذ أف جاءت خمؼ طفمتيا إلى المستشفى لتطمئف عنيا ‪ ،‬إلى أف‬
‫ضاعت مني في أزقة المدينة‪..‬‬
‫وسألني المحقؽ عف السبب الذي جعمني أحزر اسـ الشركة التي كانت تعمؿ فييا نو ار دوف أف تذكره لي ‪ ،‬فحدثتو‬
‫عف تجربتي المريرة مع عبد الغني الذىبي ‪ ،‬وكيؼ عرض عمي التواطؤ معو لتسويؽ أغذية فاسدة لؤلطفاؿ ‪ ،‬مما‬
‫جعمني أشؾ في أنو ىو نفسو الذي يقؼ وراء صفقة المحاقف الفاسدة التي حدثتني عنيا نو ار‪..‬‬
‫واستغرقت طويبل في تحميؿ شخصية الذئب األنيؽ عبد الغني وأساليبو الممتوية ‪ ،‬واتيمتو بأنو وراء الصورة التي‬
‫التقطت لي س ار ‪ ،‬وأنا أجمس مع نو ار في المركز الثقافي ‪ ،‬وأبديت شكوكي في أف عبد الغني الذىبي يقؼ وراء‬
‫حادثة مقتؿ نو ار بشكؿ أو بآخر ‪ ،‬لكني لـ أجرؤ عمى إببلغ المحقؽ بما حدثتني بو أحبلـ عف ضموع أبييا في‬
‫حادثة العمارة المنيارة ‪ ،‬احتراما لمشاعرىا ‪ ،‬وصونا لمسر الذي باحت لي بو دوف سائر الناس‪..‬‬
‫وكاف المحقؽ قد استدعى كاتبا ليسجؿ اعترافاتي ‪ ،‬فدوف أقوالي حرفا حرفا ‪ ،‬وعندما انتييت مف الحديث رفع‬
‫الرجؿ رأسو في إعياء ‪ ،‬وبسط يده فوؽ األوراؽ ليريحيا مف عناء الكتابة المتبلحقة ‪ ،‬فقد كاف حديثي مسيبا‬
‫وطويبل‪..‬‬
‫ورانت فترة مف الصمت كاف المحقؽ خبلليا غارقا في خواطره‪..‬‬
‫بدت لي مبلمحو وكأنيا تبعث عمى االرتياح ‪ ،‬وقد يكوف ذلؾ ألني تخففت مف بعض األسرار التي كانت تؤرؽ‬
‫صدري ‪ ،‬أو لعؿ المحقؽ قد عاد إلى طبيعتو بعد أف مثؿ دور اليجوـ ليفتت صمتي ‪ ،‬ويدفعني لبلنييار أماـ‬
‫اتيامو السافر ‪ ،‬فأعترؼ بالحقيقة ‪ ،‬لكنو اآلف ‪ ،‬بعد أف سمع مني كؿ ىذه التفاصيؿ ‪ ،‬البد أنو يحاوؿ فرز‬
‫الخيوط المتشابكة ‪ ،‬ليصؿ إلى الخيط الذي يوصمو إلى الحقيقة‪..‬‬
‫نيض المحقؽ فجأة ودار حوؿ كرسيو ‪ ،‬ثـ قاؿ يممي عمى الكاتب وىو يستند بكمتا يديو عمى الكرسي‪:‬‬
‫ػ ىذا ‪ ،‬وقد تقرر إجراء تحقيؽ عاجؿ مع مديرة ممجأ الحناف لؤليتاـ ‪ ،‬حيث نظف بأنيا تممؾ معمومات ىامة حوؿ‬
‫المجني عمييا ػ نو ار سندياف ػ التي اكتشفت جثتيا فجر ىذا اليوـ المدوف تاريخو أعبله‪..‬‬
‫ثـ رفع المحقؽ سماعة الياتؼ واستدعى أحد معاونيو ‪ ،‬وطمب منو أف يرافقو في زيارة إلى ممجأ األيتاـ‪..‬‬
‫ىتفت وأنا أرى المحقؽ ينطمؽ بحماس‪:‬‬
‫ػ وأنا؟‬
‫نظر إلي متفك ار ‪ ،‬ثـ قاؿ بنبرة حاسمة‪:‬‬
‫ػ تعاؿ معي‪..‬‬
‫الفصؿ الحادي والثبلثوف‬

‫سجموا في أوراقكـ‪ ..‬نو ار ماتت شييدة‪ .‬نعـ‪ ..‬إنيا اآلف ىناؾ‪ ..‬في الجنة ‪..‬ترفرؼ بأجنحة مف الطير ‪ ،‬وترفؿ في‬
‫ثياب مف النور‪ ..‬إنيا اآلف ىناؾ‪ ..‬في السماء‪ ..‬تروي لخالقيا قصة مآساتيا الدامية األليمة ‪ ،‬وتشكر إليو الذيف‬
‫ظمموىا وافترسوىا‪ ..‬تريدوف أف تعرفوا مف ىي نو ار‪!..‬‬
‫سأقوؿ لكـ‪ ..‬إنيا شاىدة عمى جيؿ القرية وظمـ المدينة‪ ..‬شاىدة عمى القسوة التي استشرت فينا‪ ..‬شاىدة عمى ىذا‬
‫الفساد الذي حوؿ مجتمعنا إلى غابة ‪ ..‬غابة مف الوحوش التي ال ترأؼ أو ترحـ‪..‬‬
‫وتيدج صوت المديرة ‪ ،‬فانفجرت باكية ‪ ،‬وغرؽ صوتيا في خضـ االنفعاؿ‪ ..‬رجاىا المحقؽ أف تيدأ ‪ ،‬وأف تروي‬
‫لو كؿ ما تعرفو عف نو ار ‪ ،‬فتماسكت وبدأت تدلي بشيادتيا ‪ ،‬قالت مف بيف الدموع‪:‬‬
‫ػ بدأت عبلقتي بنو ار منذ أشير‪ ..‬عندما حضرت إلي وطمبت مني أف أسمح ليا بالعمؿ في الممجأ ‪ ،‬اعتذرت‪ ..‬لـ‬
‫يكف مف الممكف أف أوافؽ ‪ ،‬فميزانية الدار محدودة ‪ ،‬ونحف ال نكاد نوازف بيف ما يأتينا مف منح وتبرعات ‪ ،‬وبيف‬
‫ما نقدمو لؤلطفاؿ األيتاـ مف خدمات ‪ ،‬لـ يقنعيا اعتذاري ‪ ،‬كانت المسكينة حزينة ‪ ،‬وكانت نظراتيا كسيرة ‪،‬‬
‫ومبلمحيا تدعو لمرثاء ‪،‬قالت بأنيا تحب ممارسة األعماؿ القريبة مف األطفاؿ ورجتني أف أحقؽ ليا رغبتيا ‪ ،‬لـ‬
‫أستطع ‪ ،‬فكررت اعتذاري وشرحت ليا ظروؼ الدار ‪ ،‬لكنيا ألحت في الطمب ‪ ،‬ورجتني متوسمة أف أساعدىا ‪،‬‬
‫رؽ ليا قمبي‪ ..‬في نفسي لعميا في ضائقة مادية تدفعيا لمبحث عف عمؿ ‪ ،‬ووجدت مف واجبي أف أساعدىا‪..‬‬
‫سألتيا عف مؤىبلتيا ‪ ،‬فأخبرتني بأنيا طالبة لغة إنكميزية ‪ ،‬لكنيا تركت الجامعة قبؿ التخرج ألسباب لـ تفصح‬
‫عنيا ‪!..‬تذكرت صديقة قديمة تممؾ روضة أطفاؿ ‪ ،‬فعرضت عمى نو ار أف تذىب لتعمؿ لدييا مدرسة ‪ ،‬ووعدتيا‬
‫بأني سأزورىا بكتاب توصية يميد ليا األمور‪ ..‬قدرت أنيا ستفرح ليذه المبادرة ‪ ،‬لكنيا وجمت ‪ ،‬وبدت الخيبة في‬
‫عينييا ‪ ،‬كانت مصرة عمى العمؿ في الدار!‪ ..‬ىنا ساورتني الشكوؾ!! ما معنى ىذا اإلصرار؟‬
‫مف الميـ أف أذكر ىنا أف نو ار جاءتني بعد يوميف فقط مف تحويؿ الطفمة المقيطة إلينا ‪ ،‬وكانت جريدة األياـ قد‬
‫اىتمت بقصة الطفمة المقيطة ‪ ،‬وتابعت أخبارىا ‪ ،‬فذكرت أنو قد تـ نقؿ الطفمة مف المستشفى ابف النفيس إلى دار‬
‫الحناف لؤليتاـ‪..‬‬
‫في الحقيقة‪ ..‬لـ تكف نو ار أوؿ أـ تمح عمييا أمومتيا ‪ ،‬فتأتي إلى الدار لتحوـ حوؿ طفميا أو طفمتيا التي تخمت‬
‫عنيا لسبب أو آلخر ‪ ،‬وأردت أف أختبر نوار‪ ..‬قمت ليا إذا كنت مصرة عمى تقديـ المساعدة ألطفاؿ الممجأ ‪،‬‬
‫فميس أمامؾ سوى فرصة العمؿ التطوعي في الدار ‪ ،‬ىؿ تعمميف متطوعة ببل أجر؟ انفرجت أساريرىا فجأة ‪،‬‬
‫ودمعت عيناىا مف شدة الفرح وأبدت حماسا بالغا لمفكرة!!‬
‫ازدادت شكوكي لكني أخفيتيا!‪ ..‬أظيرت إعجابي بحماسيا وأريحيتيا ‪ ،‬واىتماميا باألطفاؿ اليتامى ‪ ،‬وطمبت مف‬
‫المسؤولة عف المشرفات أف ترتب معيا الزماف والمكاف الذي ستتبرع فيو بجيودىا ‪ ،‬وأوصيت المسؤولة بأف تترؾ‬
‫لنو ار حرية االختيار‪..‬‬
‫ومر أسبوع‪ ..‬كنت أراقب خبللو تصرفات نو ار وأحمميا بيدوء وروية‪..‬‬
‫الحظت أنيا اختارت العمؿ في جناح األطفاؿ الرضع ‪ ،‬وأنيا كانت تقضي في الدار أوقاتا طويمة تزيد أحيانا عف‬
‫دواـ المشرفات المنتظمات لدينا ‪ ،‬والحظت أيضا أنيا كانت تسبغ عطفا واىتماما خاصا عمى الطفمة بارعة ‪ ،‬عمى‬
‫درجة جعمت طبيب الممجأ يشكو مف استدعاء نو ار لو ثبلث مرات خبلؿ األسبوع ليتفقد الطفمة بدوف سبب واضح!‬
‫ومر أسبوع آخر‪ ..‬عممت خبللو أف نو ار قد استدانت مف إحدى الموظفات مبمغا مف الماؿ!‪ ..‬إذا كانت بحاجة إلى‬
‫الماؿ ‪ ،‬فمماذا تتطوع بالخدمة في الدار ‪ ،‬وترفض فرصة العمؿ المأجور في مكاف آخر؟‪..‬‬
‫وأصبحت الصورة لدي واضحة جمية‪..‬‬
‫استدعيت نو ار ذات صباح ‪ ،‬وأثنيت عمى بذليا وتفانييا ‪ ،‬قمت ليا بعد أف شاع بيننا جو مف األلفة والمودة ‪:‬‬
‫"اعممي يا ابنتي بأف الصداقة التي توطدت بيننا صارت تسمح لي باإلطبلع عمى سرؾ الذي تخفينو عني ‪،‬‬
‫فأرجو أف تبحي لي بقصتؾ الحقيقية فقد أستطيع مساعدتؾ‪"..‬‬
‫بوغتت بكبلمي ‪ ،‬ارتبكت وتمعثمت ‪ ،‬تجاىمت وأنكرت ‪ ،‬ثـ انخرطت في بكاء مرير‪..‬‬
‫وأجج الحديث مشاعر المديرة ‪ ،‬فبكت وىي تتذكر بكاء نو ار بيف يدييا ‪ ،‬فتركيا المحقؽ تفرغ انفعاالتيا ‪ ،‬وتشاغؿ‬
‫بمراجعة آخر ما دونو كاتبو مف أقواؿ ‪ ،‬قاؿ المحقؽ لكاتبو‪:‬‬
‫ػ إياؾ أف تغفؿ عف حرؼ ‪ ،‬ىذه القضية عمى ما يبدو معقدة ومتشعبة الخيوط!‬
‫أومأ الكاتب برأسو مستجيبا لمبلحظة سيده ‪ ،‬وانكب عمى أوراقو استعدادا اللتقاط كؿ كممة تصدر عف المديرة‪..‬‬
‫وتابعت المديرة سرد أقواليا ‪ ،‬فوجدت تطابقا كبي ار بيف ما روتو لي نو ار عف حياتيا ‪ ،‬وبيف ما روتو مديرة الممجأ ‪،‬‬
‫والتفت المحقؽ إلي في نظرة عابرة ػ كمف يعترؼ بصدؽ أقوالي ‪ ،‬فمـ أحفؿ بنظرتو ‪ ،‬ألف اىتمامي كاف مرك از‬
‫عمى رواية المديرة ‪ ،‬باحثا عف الحمقة المفقودة التي ضاعت نو ار قبؿ أف أعرفيا‪..‬‬
‫ووصمت المديرة إلى الفصؿ الضائع مف الرواية ‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ػ ‪ ...‬ثـ عممت نو ار في شركة عبد الغني الذىبي ‪ ،‬وىناؾ بدأت مأساتيا الحقيقية‪..‬‬
‫لـ أستطع صب ار ‪ ،‬أفمتت مني غضبة كظيمة ‪ ،‬وىتفت بنبرة المتألـ المظموـ الذي وجد دليبل عمى براءتو‪:‬‬
‫ػ ألـ أقؿ لكـ‪ ..‬إنو عبد الغني الذىبي‪ ..‬رمز المصائب والببليا!‪ ..‬إنو يقؼ خمؼ كؿ جريمة ببصماتو المموثة‪..‬‬
‫رائحتو الكريية تفوح منو عمى الرغـ مف كؿ العطور التي يغتسؿ بيا ليزور حقيقتو‪..‬‬
‫حدجني المحقؽ بطرؼ عينيو احتجاجا عمى تسرعي في الكبلـ ‪ ،‬بينما قالت المديرة في محاولة لمتوضيح‪:‬‬
‫ػ عفوا‪ ..‬يبدو أف ىناؾ التباسا في األمر‪ ..‬صحيح أف صاحب الشركة التي عممت فييا نو ار ىو السيد عبد الغني‬
‫الذىبي ‪ ،‬لكف الذي اغتصب نو ار وكاف وراء مأساتيا ىو الدكتور شريؼ مدير الشركة!‬
‫ػ الدكتور شريؼ‪!!..‬‬
‫أفمت مني ىذا التساؤؿ رغما عني‪ ..‬ىذه أوؿ مرة أعرؼ فييا أف لشركة عبد الغني الذىبي مدي ار يدعى الدكتور‬
‫شريؼ!‬
‫والتفت إلي المحقؽ غاضبا ‪ ،‬وقاؿ بنبرة وشت بنفاذ الصبر‪:‬‬
‫ػ دكتور صبلح‪ ..‬لقد اصطحبتؾ معي عمى مسؤوليتي الشخصية ‪ ،‬إيمانا مني ببراءتؾ ‪ ،‬واحتراما لمشاعرؾ التي‬
‫جرحناىا باعتقالؾ ىذا الصباح ‪ ،‬لكني ال أسمح لؾ أبد أف تتدخؿ في التحقيؽ ‪ ،‬أو تفسد مجراه‪..‬‬
‫انسكبت كممات المحقؽ عمي كشبلؿ مف الماء البارد ‪ ،‬وبعثت في نفسي ارتياحا عميقا رغـ الميجة الجافة التي‬
‫حممتيا ‪ ،‬المحقؽ مقتنع ببراءتي شخصيا عمى األقؿ ‪ ،‬ونظرت إليو بامتناف واذعاف‪ ..‬وصمت‪ ..‬لـ يكف أمامي‬
‫سوى الصمت إف أنا أردت أف أعرؼ بقية ىذه القصة التي حشرتني بيف خيوطيا المتشابكة‪..‬‬
‫وعاد المحقؽ باىتمامو إلى المديرة‪..‬‬
‫مت ‪ :‬إف الذي اغتصبيا يدعى الدكتور شريؼ؟‪..‬‬ ‫ػ ُق ِ‬
‫ػ نعـ‪ ..‬الدكتور شريؼ الطيب ‪ ،‬المدير التنفيذي لشركة الذىبي‪..‬‬
‫ػ أجؿ‪..‬‬
‫ػ وحممت منو؟‬
‫ػ نعـ‪ ..‬وقد طالبتو بأف يتزوجيا ليجنبيا الفضيحة ‪ ،‬لكنو رفض ‪ ،‬واختمؽ حوليا األقاويؿ ‪ ,‬ثـ فصميا مف العمؿ‪..‬‬
‫ػ وعبد الغني الذىبي‪ ..‬ىؿ عمـ باألمر؟‬
‫ػ عمـ عندما شكت لو نو ار الدكتور شريؼ‪..‬‬
‫ػ ماذا كانت ردة فعمو؟‪.‬‬
‫ػ لـ يصدقيا‪ ..‬طردىا مف مكتبو ‪ ،‬وىددىا بأنو سيبحث عف أىميا ‪ ،‬ويحدثيـ عف سوء أخبلقيا ‪ ،‬إف ىي كررت‬
‫شكواىا أو ذكرت شركتو وموظفييا بسوء‪..‬‬
‫ػ لماذا يظف عبد الغني الذىبي أف نو ار فتاة سيئة األخبلؽ؟‪..‬‬
‫ػ لعؿ الدكتور شريؼ وسوس لو بيذه الفكرة‪..‬‬
‫ػ لماذا لـ تتقدـ نو ار بشكواىا إلى العدالة؟‪..‬‬
‫ػ خافت مف الفضيحة‪..‬‬
‫ػ الحمؿ أمر ال يمكف إخفاءه ‪ ،‬والفضيحة كانت وشيكة عمى كؿ حاؿ‪..‬‬
‫ػ لقد احتاطت لؤلمر‪..‬‬
‫ػ كيؼ؟‪..‬‬
‫ػ استطاعت نو ار أف تجد غرفة عند سيدة عجوز تقيـ في أحد األحياء الفقيرة ‪..‬كانت العجوز طيبة وحكيمة ‪،‬‬
‫فعطفت عمييا ‪ ،‬وتفيمت ظروفيا‪ ..‬وىكذا عاشت نو ار في كنفيا آمنة مستورة ‪ ،‬حتى وضعت وأنجبت طفمتيا‪..‬‬
‫تفكرالمحقؽ ىنية ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ إذا كانت نو ار قد وجدت المكاف اآلمف الذي تربي فيو طفمتيا ‪ ،‬فمماذا تخمت عنيا؟‬
‫أجابت المديرة‪:‬‬
‫ػ بعد أف وضعت نو ار طفمتيا ببضعة أشير اختار اهلل العجوز الطيبة إلى جواره ‪ ،‬وجاء الورثة يطالبوف بمنزؿ‬
‫فقيدتيـ ‪ ،‬فاضطرت نو ار لمرحيؿ ‪ ،‬وخرجت مف مأمنيا ىائمة تائية ال تعرؼ إنسانا تموذ بو ‪ ،‬أو مكانا تأوي إليو ‪،‬‬
‫واستبد بيا اليأس ‪ ،‬فقررت أف تتخمص مف الحياة ‪ ،‬وكاف عمييا قبؿ ذلؾ أف تحد لطفمتيا مف يرعاىا ‪ ،‬فيداىا‬
‫فكرىا إلى وضع الطفمة أماـ أحد المساجد ‪ ،‬ليمتقطيا أحد الصالحيف ‪ ،‬فيتولى أمرىا ‪ ،‬واختارت مسجدا تعرفو ‪،‬‬
‫فتسممت إليو أثناء صبلة الفجر ‪ ،‬ووضعت طفمتيا في حديقتو ‪ ،‬ثـ توارت بعيدا ‪ ،‬وجعمت تنتظر‪..‬‬
‫وخرج المصموف مف مسجدىـ ‪ ،‬فترامى إلى سمعيـ بكاء طفؿ ‪ ،‬فيرعوا إلى مصدر الصوت دىشيف ‪ ،‬فوجدوا‬
‫الطفمة ممفوفة بدثارىا ‪ ،‬وىي تمزؽ بصراخيا ىدأة الفجر ‪ ،‬وبادر أحدىـ ‪ ،‬فحمؿ الطفمة ومضى بيا إلى شرطة‬
‫الحي ليضع القضية بيف أيدييـ ‪ ،‬فقاـ ىؤالء بدورىـ باتخاذ اإلجراءات المعتادة ‪ ،‬وكانت الخطوة األولى تحويؿ‬
‫الطفمة إلى المستشفى لبلطمئناف عمى صحتيا ‪ ،‬وتقدير وزنيا وعمرىا ‪ ،‬ومعرفة زمرتيا الدموية‪..‬‬
‫وكانت نو ار تتابع طفمتيا وىي تنتقؿ مف يد إلى يد ‪ ،‬وعندما رأت الشرطي يتجو بيا إلى المستشفى طر صوابيا ‪،‬‬
‫وقمب الخوؼ والقمؽ كيانيا ‪ ،‬وأخذت تحوـ حوؿ المستشفى كالحمامة الكسيرة التي سرؽ العابثوف صغارىا ‪ ،‬ولـ‬
‫تصبر ‪ ،‬فصممت أف تطمئف عمى ابنتيا ‪ ،‬لكنيا كانت بحاجة إلى عذر تدخؿ بو المستشفى في تمؾ الساعة‬
‫المبكرة ‪ ،‬ولـ تمبث أف تناولت أحد دبابيس الشعر التي تشكؿ بيا شعرىا ‪ ،‬وأحدثت بطرفو الحاد جرحا في يدىا ‪،‬‬
‫لتتذرع بو ‪ ،‬وقد كاف قدرىا أف يستقبميا الدكتور صبلح ‪ ،‬ويعالجيا‪..‬‬
‫وىكذا حفظ الدكتور صورتيا ‪ ،‬واستطاع أف يربط بيف تصرفاتيا عندما صادفيا ىنا في الممجأ‪..‬‬
‫قاؿ المحقؽ بميجة المتسائؿ‪:‬‬
‫ػ ىذا يعني أف نو ار لـ تقدـ عمى االنتحار!‬
‫ػ ىذا ما حصؿ‪ ..‬كانت مشاعر األمومة عندىا أقوى مف اليأس ‪ ،‬فقررت أف تبقى مف أجؿ طفمتيا البريئة ‪ ،‬وتكابد‬
‫في سبيميا كؿ المصاعب واآلالـ‪..‬‬
‫ػ لكف الذي التقطوا الطفمة وجدوا معيا مبمغا مف الماؿ!‪ ..‬مف أيف حصمت نو ار عمى الماؿ؟‬
‫ػ مف الدكتور شريؼ‪..‬‬
‫ػ الدكتور شريؼ؟‪!..‬‬
‫ػ نعـ‪ ..‬فعندما ذىبت نو ار إلى الدكتور شريؼ ترجوه أف يتزوجيا ويجنبيا الفصيحة ‪ ،‬رفض كما ذكرت لكـ في‬
‫البداية ‪ ،‬فأخبرتو بأنيا حامؿ ‪ ،‬وطمبت منو أف يتحمؿ مسؤوليتو نحو الجنيف الذي أثمرتو جريمتو‪ ..‬لكنو أمعف في‬
‫الرفض ‪ ،‬وطمب منيا أف تسقط جنينيا ‪ ،‬وعرض عمييا مبمغا كبي ار مف الماؿ يغطي تكاليؼ عممية اإلجياض‪..‬‬
‫ظنت نو ار في البداية أف اإلجياض قد يكوف مخرجا معقوال مف الفضيحة التي تنتظرىا ‪ ،‬فأخذت المبمغ ووافقت‬
‫واحتفظت بالمبمغ ‪ ،‬وقررت أف توفره لمطوارئ ‪ ،‬وعندما تخمت عف طفمتيا ‪ ،‬وضعت المبمغ معيا حتى يستعيف بو‬
‫مف يجدىا عمى رعايتيا‪..‬‬
‫قطب المحقؽ متفك ار ‪ ،‬واستغرقتو برىة مف التأمؿ ‪ ،‬ثـ ما لبث أف قاؿ لممديرة‪:‬‬
‫ػ بقيت نقطة غامضة بحاجة إلى توضيح‪..‬‬
‫ػ ما ىي؟‪..‬‬
‫ػ أقوالؾ تفيد بأف نو ار كانت فتاة ذات ضمير يقظ ‪ ،‬وسموؾ مستقيـ‪..‬‬
‫ػ ىذا ما أشيد بو ‪ ،‬وأصر عميو‪..‬‬
‫ػ كيؼ تكوف فتاة بيذا السموؾ ‪ ،‬ثـ تسمح لشاب مستيتر كالدكتور شريؼ باغتصابيا؟‬
‫ػ اغتصبيا عنوة!‬
‫ػ عنوة؟‬
‫ػ أفقدىا وعييا ‪ ،‬ثـ اغتصبيا‪..‬‬
‫ػ أريد القصة بالتفصيؿ‪..‬‬
‫وشرعت المديرة تروي قصة اغتصاب نوار بالتفصيؿ‪ ..‬كنت أصغي إلييا بألـ ‪ ،‬وأنا أغالب مشاعر الغضب‬
‫والثورة التي اجتاحتني كاإلعصار‪ ..‬لـ أتوقع أف في العالـ نفوسا قذرة بيذا الخبث وىذه الدناءة! تذكرت فمما وثائقيا‬
‫شاىدتو عف التكاثر عند الحيوانات‪ ..‬في تمؾ المحظة ‪ ،‬لـ أجد فرقا كبي ار بيف حياة الغابة وحياة المدينة‪!...‬‬
‫كـ يبدو اإلنساف تافيا وحقي ار عندما يتخفؼ مف إنسانيتو ويتحرؾ مف الحياة كحيواف البراري‪ ..‬يأكؿ حتى التخمة ‪،‬‬
‫ويمارس الجنس مع أي عابر ‪ ،‬ثـ يسترخي ‪ ،‬ويغط في نوـ غميظ ‪ ،‬ال توقظو منو إال الرغبة والجوع‪..‬‬
‫ثمة معمومات ميمة أقمقتني‪ ..‬ورد في كبلـ المدية أف الدكتور شريؼ كاف قد تقدـ لخطبة أحبلـ قبؿ أسبوع مف‬
‫مقتؿ نو ار ‪ ،‬وىذا ما دفع نو ار لمذىاب إلى المركز الثقافي يوـ افتتاح معرض أحبلـ ‪ ،‬فقد كانت تريد أف تفضحو‬
‫أماـ الفتاة التي يفكر بالزواج منيا ‪ ،‬وبذلؾ تنتقـ مف الدكتور شريؼ ‪ ،‬وتزلزؿ أحبلمو ‪ ،‬ما أقمقني وأقض مضجعي‬
‫‪ ،‬أف المديرة قد ذكرت في حديثيا أف والد أحبلـ قد وافؽ عمى الخطبة ‪ ،‬ووزع الحموى في شركتو بيذه المناسبة ‪،‬‬
‫أيكوف قد بنى موافقتو عمى موافقة أحبلـ؟‪!..‬‬
‫وأحسست بشيء غامض يعتصر قمبي داخؿ قبضتو ‪ ،‬ال أستطيع أف أرى أحبلـ زوجة لغيري كائنا مف كاف!‪..‬‬
‫فكيؼ وأنا أراىا تزؼ إلى وغد؟‪!!!...‬‬
‫الفصؿ الثاني والثبلثوف‬

‫ػ دكتور شريؼ أنت متيـ باغتصاب وقتؿ المغدوره سندياف‪!..‬‬


‫بيذه الكممات الصاعقة داىـ المحقؽ الكتور شريؼ الطيب مدير شركة الذىبي لمتجارة العامة‪..‬‬
‫دكت كممات المحقؽ ىدوء الدكتور شريؼ ‪ ،‬وأطاخت بابتسامتو الواثقة التي استقبمنا بيا ‪ ،‬حممؽ في ذىوؿ ‪،‬‬
‫وتمفت حولو كمف تمقى صفعة ىائمة‪!..‬‬
‫ػ عفوا ‪ ،‬ماذا قمت؟‬
‫ػ كما سمعت ‪ ،‬أنت متيـ باالغتصاب والقتؿ ‪ ،‬قتؿ اآلنسة نو ار التي كانت تعمؿ ىنا موظفة طباعة بالمغة‬
‫اإلنكميزية‪..‬‬
‫انيار الدكتور شريؼ عمى كرسيو كجدار يتداعى ‪ ،‬ثـ قاؿ بنبرة وانية وىو يتظاىر بالدىشة والبراءة‪:‬‬
‫ػ حضرتؾ فاجأتني‪ ..‬ال أعرؼ عـ تتحدث‪!..‬‬
‫ابتسـ المحقؽ وقاؿ وىو يخترؽ الدكتور شريؼ بنظراتو‪:‬‬
‫ػ كبلمي واضح‪..‬‬
‫ػ عفوا!‪ ..‬يبدو أنؾ ال تعرفني‪!!..‬‬
‫ػ زدني تعريفا‪..‬‬
‫ػ أنا الدكتور شريؼ الطيب ‪ ،‬دكتوراه في االقتصاد مف الواليات المتحدة ‪ ،‬ومدير شركة الذىبي التجارية أكبر‬
‫شركة في البمد ‪ ،‬أنا موطف صالح ‪ ،‬منيمؾ في عممي ‪ ،‬ولست متسكعا أو بمطجيا حتى توجو لي ىذه‬
‫االتيامات‪!..‬‬
‫تضاحؾ المحقؽ ساخ ار ‪ ،‬وجعؿ يدور حوؿ مكتب الدكتور شريؼ في محاولة لمعبث بأعصابو المتوترة ‪ ،‬ثـ توقؼ‬
‫خمفو برىة ‪ ،‬وقاؿ وىو يربت عمى كتفو بمطؼ‪:‬‬
‫ػ دكتور شريؼ‪ ..‬المتسكعوف والبمطجية وقطاع الطرؽ ‪ ،‬نعرفيـ وحدا واحدا ‪ ،‬لكؿ واحد منيـ عندنا ممؼ وصورة‬
‫وعنواف‪..‬‬
‫ثـ أردؼ المحقؽ وىو يميؿ عمى أذف الدكتور شريؼ ىامسا‪:‬‬
‫ػ المجرموف الذيف نواجييـ ىذه األياـ ػ لؤلسؼ ػ أنيقوف وميذبوف وأذكياء ‪ ،‬وىو أحيانا مثقفوف ورجاؿ أعماؿ‪!..‬‬
‫ثـ اختار المحقؽ كرسيا مقابؿ الدكتور شريؼ فاسترخى عميو وىو يقوؿ‪:‬‬
‫ػ في مجتمعنا ػ يا عزيزي ػ كؿ شيء يتطور ‪ ،‬حتى الجريمة‪..‬‬
‫فقد الدكتور شريؼ سيطرتو عمى أعصابو ‪ ،‬فيب واقفا وصاح باىتياج محموـ‪:‬‬
‫ػ أنا لست قاتبل‪..‬‬
‫استقبؿ المحقؽ ثورة الدكتور شريؼ ‪ ،‬ببرود شديد ‪ ،‬وسدد إليو نظرة ساخرة يسطع منيا بريؽ ثاقب ‪ ،‬ولـ يصمد‬
‫الدكتور شريؼ لنظرة المحقؽ الصارخة بالتكذيب واالتياـ ‪ ،‬فخر جالسا كمف صرعو شعاع مف الميزر ‪ ،‬وردد‬
‫بصوت واىف مثقؿ بالرعب‪:‬‬
‫ػ أنا لـ أقتؿ نورا‪ ..‬أقسـ لكـ بأني لـ أقتميا‪..‬‬
‫وشعر المحقؽ بأف الدكتور شريؼ قد بدأ يتصدع مف الداخؿ ‪ ،‬وأف مقاومتو بدأت تتراخى ‪ ،‬فانياؿ عميو باألسئمة‬
‫‪:‬‬
‫ػ اسمؾ وعممؾ وعنوانؾ؟‬
‫ػ اسمي شريؼ عبد الجبار الطيب‪ ..‬أعمؿ مديا ار لشركة الذىبي مف ثبلث سنوات ‪..‬أقيـ في الضاحية الغربية ػ‬
‫شارع السفارات ػ فيبل رقـ (‪)..77‬‬
‫ػ مؤىبلتؾ العممية؟‬
‫ػ دكتوراه في االقتصاد وادارة األعماؿ مف الواليات المتحدة‪..‬‬
‫ػ متى تخرجت‪..‬‬
‫ػ منذ خمس سنوات‪..‬‬
‫ػ كيؼ كنت تؤمف مصاريؼ دراستؾ؟‬
‫ػ عف طريؽ الوالد‪..‬‬
‫ػ ما ىو عممو ؟‬
‫ػ مدرس رياضيات‪..‬‬
‫ػ يعني ليس ثريا كما توقعت‪!..‬‬
‫ػ ىؿ ليذا عبلقة بالتحقيؽ؟‪..‬‬
‫ػ كؿ شيء مفيد في التحقيؽ‪..‬‬
‫ػ الوالد رجؿ متوسط الحاؿ‪ ..‬وقد كاف يقوـ بإعطاء الدروس الخصوصية بعد الدواـ ‪ ،‬ليوفر لي مصاريؼ الدراسة‬
‫في أمريكا‪..‬‬
‫ػ وتقييـ في فيبل؟!‬
‫ػ أعتقد أف ىذه ليست جريمة‪..‬‬
‫ػ ممؾ أـ إيجار؟‬
‫ػ ممؾ‪..‬‬
‫ػ كيؼ تسنى لؾ امتبلؾ فيبل في الضاحية الغربية ‪ ،‬ولـ يمض عمى تخرجؾ سوى خمس سنوات؟‬
‫ػ الفضؿ يعود لمسيد عبد الغني صاحب الشركة ىو الذي ساعدني في شرائيا‪..‬‬
‫ػ مقابؿ؟‬
‫ػ مقابؿ خدماتي‪..‬‬
‫ػ خدمات مف أي نوع؟‬
‫ػ خدماتي كمدير لمشركة‪..‬‬
‫ػ أال تبلحظ معي بأف السيد عبد الغني سخي أكثر مما يجب؟‬
‫ػ ال يبدو لي األمر كذلؾ!‬
‫ػ وضح‪..‬‬
‫ػ كؿ ما في األمر أف السيد عبد الغني إنساف عممي‪ ..‬إنساف ذكي يحاوؿ دائما أف يكسب إخبلص موظفيو‪..‬‬
‫يحاوؿ أف يحرض عندىـ الطموح ليعمموا بدأب ونشاط وحماس‪ ..‬لذلؾ يقدـ لنا حوافز عالية‪ ..‬الطموح ليعمموا‬
‫بدأب ونشاط وحماس ‪..‬لذلؾ يقدـ لنا حوافز عالية‪..‬‬
‫شمؿ المحقؽ الدكتور شريؼ بنظرة تصرخ بالشؾ ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫ػ الحافز يمكف أف يكوف مكافأة في السنة‪ ..‬مكافأة كؿ ستة أشير ‪ ،‬لكف فيبل؟ ‪..‬ىذا غير مقنع‪ ..‬أليس كذلؾ؟‬
‫ػ عفوا‪ ..‬األمور ليست بيذه الصورة‪ ..‬القصة وما فييا أنني عندما بدأت العمؿ مع السيد عبد الغني أبديت تفانيا‬
‫واخبلصا وكفاءة ‪ ،‬فأراد السيد عبد الغني أف يشجعني ‪ ،‬ويعتمد عمي في أعمالو أكثر ‪ ،‬فجمس معي ذات يوـ‬
‫سألني عف أحبلمي وطموحاتي ‪ ،‬فأخبرتو بأني أحمـ بفيبل ‪ ،‬وسيارة ‪ ،‬وراتب كبير‪..‬‬
‫ػ وماذا بعد؟‪..‬‬
‫ػ قاؿ بأنو يبحث عف موظؼ يممؾ كفاءتي واخبلصي ‪ ،‬ووعدني بأنو سيحقؽ لي كؿ طموحاتي وأحبلمي ‪ ،‬إف أنا‬
‫عاىدتو عمى االستمرار بنفس النشاط والتفاني ‪ ،‬وحققت لمشركة المزيد مف المكاسب واإلنجازات‪..‬‬
‫ػ ىؿ وفى بوعده؟‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬رفع راتبي إلى المستوى الذي طمبتو ‪ ،‬وأىداني سيارة ‪ ،‬وكاف يممؾ فيبل في الضاحية الغربية فسجميا‬
‫باسمي‪..‬‬
‫قاطع المحقؽ الدكتور شريؼ قائبل‪:‬‬
‫ػ دكتور شريؼ‪ ..‬ال تحاوؿ إقناعي بأف السيد عبد الغني أعطاؾ الفيبل دوف ضمانات تكفؿ لو حقو فيما لو‪..‬‬
‫ػ طبعا‪ ..‬طبعا‪ ..‬كانت ىناؾ ضمانات‪..‬‬
‫ػ ما ىي؟‬
‫ػ وقعت عمى مئة وصؿ أمانة بثمف الفيبل ‪ ،‬واتفقنا عمى أف يسقط عني وصبل منيا ‪ ،‬كمما حققت لمشركة إنجا از‬
‫ميما أو صفقة رابحة‪..‬‬
‫ػ كـ وصؿ أمانة سقط عنؾ حتى اآلف؟‬
‫ػ خمسة عشر‪..‬‬
‫ػ خبلؿ؟‬
‫ػ خبلؿ عاميف ونصؼ العاـ تقريبا‪..‬‬
‫ػ مباراة طريفة‪..‬‬
‫ػ كبلنا مستفيد‪..‬‬
‫ػ لكنيا مباراة مرىقة في ذات الوقت‪..‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ ألف إيصاالت األمانة أو ما يدعى بالكماليات ستظؿ عبئا مزعجا عمى كاىمؾ حتى تتخمص منيا ‪ ،‬ومف‬
‫المسؤولية القانونية الجسيمة المترتبة عمييا ‪ ،‬فيما لو دب خبلؼ بينؾ وبيف السيد عبد الغني ‪ ،‬أو أخفقت في‬
‫تحقيؽ المزيد مف اإلنجازات‪..‬‬
‫ػ ىذا صحيح‪ ..‬لكنيا حافز آخر عمى كؿ حاؿ‪ ..‬شعوري بضرورة التخمص مف ىذه االيصاالت سيشحذ ىمتي‬
‫دائما لتحقيؽ المزيد مف الصفقات والنجاحات‪..‬‬
‫قاؿ المحقؽ بنبرة ذات مغزى‪:‬‬
‫ػ وقد تضطر لمقياـ بصفقات غير مشروعة مف أجؿ تحقيؽ نجاحات سريعة!‬
‫نظر الدكتور شريؼ إلى المحقؽ في قمقؿ وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ىؿ أفيـ أنؾ تتيمني بالقياـ بصفقات غير مشروعة؟‬
‫تجاىؿ المحقؽ سؤالو ‪ ،‬وقاؿ‪:‬‬
‫ػ ماذا تعرؼ عف نو ار سندياف؟‬
‫ػ كانت موظفة بسيطة تعمؿ ىنا‪.‬‬
‫ػ يقولوف بأنيا كانت جميمة!‬
‫ػ احتكاكي بيا كاف قميبل‪..‬‬
‫ػ كيؼ كاف سموكيا في العمؿ؟‬
‫ػ ال أحب اإلساءة لؤلموات‪..‬‬
‫ػ أريد إجابة محددة‪..‬‬
‫ػ الكؿ يجمع عمى أنيا كانت فتاة فاسدة‪..‬‬
‫ػ ما ىو دليميـ؟‬
‫ػ أنت تعرؼ كيؼ تنتشر مثؿ ىذه األخبار‪..‬‬
‫ػ أريد رأيؾ أنت؟‪..‬‬
‫ػ لوال تصرفاتيا معي لما صدقت‪..‬‬
‫ػ كيؼ تصرفت معؾ؟‬
‫ػ راودتني عف نفسيا أكثر مف مرة!‬
‫ػ لكنؾ قمت بأف احتكاكؾ بيا كاف قميبل‪..‬‬
‫ػ قميبل ‪ ،‬وليس معدوما‪..‬‬
‫ػ كيؼ تجرأت عمى ذلؾ والفرؽ الوظيفي بينكما بعيد؟‬
‫ػ ىذا ما حصؿ‪ ..‬كانت وقحة‪ ..‬ظنت أنيا بذلؾ تتقرب مني ‪ ،‬وتطور وضعيا الوظيفي‪ ..‬فقد كانت حالتيا المادية‬
‫سيئة وكانت بحاجة إلى ماؿ‪..‬‬
‫ػ ماذا فعمت عندما راودتؾ عف نفسيا؟‬
‫ػ طردتيا طبعا‪ ..‬فصمتيا مف العمؿ‪..‬‬
‫ػ يقولوف بأنيا شكتؾ لمسيد عبد الغني ‪ ،‬واتيمتؾ باغتصابيا‪..‬‬
‫ػ كاف طبيعيا أف تتصرؼ كذلؾ ‪ ،‬لكف السيد عبد الغني لـ يصغ التياماتيا ‪ ،‬وطردىا مف مكتبو‪..‬‬
‫ػ يقولوف أيضا ‪ :‬إف نو ار قد وضعت يدىا عمى أوراؽ خطيرة تثبت أف الشركة تمارس أعماال غير مشروعة‪..‬‬
‫ػ ىذا كبلـ مختمؽ ‪ ،‬أوراؽ الشركة تحت تصرفؾ وتستطيع أف تتحقؽ مف كؿ شيء بنفسؾ‪..‬‬
‫ػ ىؿ تتجر الشركة باألدوات الطبية؟‬
‫ػ الشركة تتجر بكؿ شيء‪ ..‬ليا مستشاروف في معظـ حقوؿ التجارة ‪ ،‬وىي تقدـ دائما عمى االتجار باألصناؼ‬
‫الرائجة والمطموبة في السوؽ‪..‬‬
‫ػ كالمحاقف الطبية مثبل؟‬
‫ػ المحاقف الطبية لـ تعد تجارة رابحة ‪ ،‬لقد تنبو التجار إلى رواجيا وأغرقوا بيا السوؽ‪..‬‬
‫ػ تستطيع أف تنافسيـ!‬
‫ػ كيؼ؟‬
‫ػ تنزؿ السعر‪..‬‬
‫ػ سعر المحقنة الببلستيكية زىيد ‪ ،‬والمنافسة فيو غير مجدية‪..‬‬
‫ػ عندما تستورد كميات ىائمة مف المحاقف التي انتيى زمف استعماليا ‪ ،‬ستكوف كمفة المحقنة الفاسدة أقؿ بكثير مف‬
‫كمفة المحقنة الصالحة لبلستعماؿ ‪ ،‬وسيصبح مف الممكف طرحيا في السوؽ بسعر منافس ‪ ،‬مع المحافظة عمى‬
‫أعمى ربح‪!..‬‬
‫قاؿ الدكتور شريؼ بميجة تكمؼ فييا الورع‪:‬‬
‫ػ ال‪ ..‬ال‪ ..‬ىذا غش ال يجوز‪..‬‬
‫لـ يكترث المحقؽ بورعو الكاذب ‪ ،‬فأردؼ يقوؿ‪:‬‬
‫ػ وعندما يكوف طموحؾ أف تحقؽ المزيد مف الصفقات السريعة وتتخمص مف إيصاالت األمانة التي تعيؽ امتبلكؾ‬
‫الكامؿ لمفيبل‪..‬‬
‫عندئذ ‪ ،‬يمكف أف تكوف صفقة المحاقف الفاسدة خطوة عمى طريؽ أحبلمؾ المريضة‪..‬‬
‫ػ سيدي‪ ..‬أنا رجؿ عندي ضمير ‪ ،‬و‪...‬‬
‫ػ وعندما تكتشؼ فتاة كنو ار سر جريمتؾ البشعة صدفة ‪ ،‬تصبح ىذه الفتاة البريئة عقبة مزعجة في طريؽ طموحؾ‬
‫تجب إزالتيا بأية وسيمة‪..‬‬
‫ىتؼ الدكتور شريؼ منك ار‪:‬‬
‫ػ أنا لـ أقتؿ نو ار‪..‬‬
‫ػ اغتصبتيا ثـ قتمتيا ‪ ،‬ثمة أدلة كافية إلدانتؾ‪..‬‬
‫ػ أقسـ لؾ بأني لـ أقتميا‪..‬‬
‫ػ أيف كنت مساء السبت بيف السادسة والواحدة ليبل‪..‬‬
‫ػ كنت‪ ..‬كنت‪..‬‬
‫ػ أيف؟‪..‬‬
‫ػ سيرت مع أحد األصدقاء‪..‬‬
‫ػ أيف؟‪..‬‬
‫ػ ىؿ ىذا ميـ؟‬
‫ػ يجب أف تثبت مكاف وجودؾ ساعة وقوع الجريمة‪..‬‬
‫ػ كنت في سيرة مع صديقة‪..‬‬
‫ػ أيف؟‬
‫ػ في بيتيا‪..‬‬
‫ػ مف ىي؟‬
‫ػ ال أستطيع ذكر اسميا‪..‬‬
‫ػ لماذا؟‬
‫ػ ألنيا‪ ..‬ألنيا سيدة متزوجة‪..‬‬
‫ػ أتخشى مف زوجيا عمى نفسؾ؟‬
‫ػ لو كاف رجبل عاديا لياف األمر‪!..‬‬
‫ػ أنت في موقؼ صعب ال تحسد عميو‪..‬‬
‫ػ صدقوني أنا لـ أقتؿ نو ار‪..‬‬
‫نيض المحقؽ في حزـ وقاؿ بنبرة حاسمة‪:‬‬
‫ػ يبدو أنؾ ال تريد أف تعترؼ‪ ..‬أنا مضطر لمقبض عميؾ‪..‬‬
‫رفع الدكتور شريؼ إلى المحقؽ نظرات زائغة فييا توسؿ وضراعة ‪ ،‬ثـ ىمس في ذىوؿ‪:‬‬
‫ػ لست قاتبل‪..‬‬
‫ػ لـ تقدـ دليبل عمى براءتؾ‪..‬‬
‫ػ يا ليا مف نياية‪!..‬‬
‫ػ تفضؿ معنا بيدوء‪..‬‬
‫ػ ىؿ تصدقني إذا قمت الحقيقة؟‬
‫قاؿ المحقؽ وىو ييز سبابتو كالمتوعد‪:‬‬
‫ػ إذا قمت الحقيقة‪..‬‬
‫ػ وىؿ سيخفؼ ذلؾ عني‪..‬‬
‫ػ كثي ار‪..‬‬
‫أطرؽ الدكتور شريؼ إطراقة الذليؿ ‪ ،‬وداوـ اإلطراؽ برىة ‪ ،‬فبدا كالمتردد ‪ ،‬وطاؿ صمتو حتى ضاؽ المحقؽ بو‬
‫ذرعا ‪ ،‬فقاؿ لو بنبرة غيظ‪:‬‬
‫ػ ىؿ ستعترؼ ؟ أـ‪...‬‬
‫رفع الدكتور شريؼ وجيا شاحبا مخضبل بالدموع ‪ ،‬وشخص بنظراتو الكسيرة نحو شيء ما ‪ ،‬وكأنو ينظر إلى‬
‫حطاـ أحبلمو وقد تكومت أمامو كأنقاض بنياف منيار ‪ ،‬ثـ أنشأ يروي اعترافاتو كمف يخاطب نفسو‪..‬‬
‫قاؿ بميجة تشي بالحسرة والندـ‪:‬‬
‫ػ كاف ىذا اليوـ دائما ماثبل أمامي‪ ..‬إنو النياية الرىيبة التي كنت أخشاىا ‪ ،‬لكف أحبلمي الكبيرة ‪ ،‬وطموحاتي‬
‫الجشعة كانت تشدني بقوة ‪..‬‬
‫تجذبني إلييا ببريقيا األخاذ ‪ ،‬وسرابيا الخادع ‪ ،‬ثمة سؤاؿ كاف يؤرقني وال أجد لو جوابا ‪ ،‬لماذا ال يحؽ لي أف‬
‫أتمتع بالحياة كما يتمتع بيا المترفوف؟ أألني ولدت مف أب لـ يتسطع أف يكوف أكثر مف مدرس؟‪!..‬‬
‫وذىبت إلى أمريكا لمدراسة‪ ..‬تمكنت مف الحصوؿ عمى الدكتوراه في فترة قياسية ‪ ،‬وعدت إلى وطني مشحونا‬
‫بنشوة الفوز ‪ ،‬وبدأت أطرؽ أبواب العمؿ‪ ..‬بحثت عف وظيفة كبيرة تميؽ بمؤىمي العالي ‪ ،‬وتؤمف لي الحياة‬
‫الناعمة الرغيدة التي أحمـ بيا‪ ..‬فوجئت بأف الشيادات العالية لـ تعد جواز سفر يؤىؿ أصحابيا لمعبور إلى المجد‬
‫الذي يحمموف بو‪ ..‬ثمة شيادات كثيرة ‪ ،‬وعمى صاحب الشيادة أف ينتظر دوره في سمـ الصاعديف‪..‬‬
‫والتفت حولي فوجدت بعض أقراني ممف فشموا في دراستيـ ‪ ،‬وتركوا المدرسة في مراحميا األولى‪ ..‬وجدتيـ قد‬
‫أصبحوا رجاال مرموقيف في المجتمع دوف أف تقؼ الشيادة عائقا في طريقيـ إلى الثروة والعز والجاه‪!..‬‬
‫قابمت أحدىـ ذات يوـ‪ ..‬كاف تمميذا خائبا بميدا ‪ ،‬اضطر إلى ترؾ المدرسة بعد أف رسب في الصؼ الرابع‬
‫االبتدائي لمدة عاميف متواليف ‪ ،‬فاشتغؿ أجي ار في محؿ لبيع الفبلفؿ‪ ..‬صادفتو بعد عودتي مف أمريكا‪ ..‬كاف يقود‬
‫سيارة مرسيدس مف النوع الذي حممت بو كثي ار ‪ ،‬لـ أصدؽ ‪ ،‬قاؿ ‪" :‬اصعد" ركبت معو ‪ ،‬وسألتو عف ىذا العز‬
‫الذي ينعـ فيو ‪ ،‬ضحؾ وقاؿ ‪" :‬الفبلفؿ!‪ ..‬ىذه بركا الفبلفؿ ‪!..‬أليست خي ار مف السير والدراسة ووجع‬
‫الدماغ؟‪.."..‬‬
‫وسألني عف آخر أخباري ‪ ،‬فأجبتو بأني عدت مف أمريكا بشيادة الدكتوراه ‪ ،‬وال أجد عمبل ‪ ،‬نظر إلي متعجبا‬
‫وقاؿ ‪" :‬أنا أعرؼ أف األطباء يحققوف دخبل ممتا از ‪ ،‬كيؼ ال تجد عمبل وأنت دكتور مف أمريكا؟‪!..".‬‬
‫ضحكت وتحسرت‪ ..‬صديقي بائع الفبلفؿ يظنني طبيبا‪!..‬‬
‫وضحت لو طبيعة اختصاصي ‪ ،‬فابتسـ وقاؿ ‪" :‬لماذا ال تأتي وتستمـ إدارة مطعمي الجديد؟ عندي مطعـ حديث ‪،‬‬
‫وابحث عف عمف يدير شؤونو ‪ ،‬وأنت أولى مف الغريب‪..".‬‬
‫ىزئت بكؿ شياداتي‪ ..‬ما ضرني لو أني تركت الدراسة مثؿ صاحبي وانخرطت في سمؾ الفبلفؿ؟‪!..‬‬
‫واستبسمت في البحث عف فرصة كبيرة حتى وصمت إلى ىذه الشركة ‪ ،‬ووجدت فييا مستقبمي الذي كنت أنشده‪..‬‬
‫امتحف السيد عبد الغني قدراتي في البداية ‪ ،‬وعندما وثؽ بكفاءتي واخبلصي أغرقني بالحوافز والمكافآت ‪ ،‬جعمني‬
‫أتذوؽ طعـ النجاح ‪ ،‬ثـ أمسؾ بأحبلمي بقبضة واثقة تعرؼ متى تمنح ‪ ،‬ومتى تمنع؟‪ ..‬كالمروض في السيرؾ‪..‬‬
‫يحمؿ السوط بيد ‪ ،‬وقطعة المحـ بيد ‪ ،‬ثـ يحرؾ أسوده كيفما يريد‪..‬‬
‫وعشت في سباؽ مع الزمف‪ ..‬كانت أمنيتي أف تنطوي الشيور بممح البصر ‪ ،‬حتى ينمو رصيدي في البنؾ ‪،‬‬
‫وتصبح الفيبل ممكي ‪ ،‬وأدخؿ عالـ األثرياء‪..‬‬
‫ووجدت في السوؽ فرصا لتحقيؽ نجاحات سيمة ‪ ،‬فييا بعض التجاوزات المأمونة ‪ ،‬فأردت االستفادة منيا ‪ ،‬لكني‬
‫أحببت استشارة السيد عبد الغني قبؿ أف أقدـ عمييا‪..‬‬
‫قاؿ لي السيد عبد الغني ‪" :‬أنا لـ أدخؿ الجامعة مثمؾ ‪ ،‬لكني أعرؼ كيؼ أرسـ الخطوط البيانية ‪ ،‬وأحب أف أرى‬
‫الخط البياني ألرباح الشركة في صعود مستمر ‪ ،‬عندما أرى الخط البياني لؤلرباح ماض في الصعود ‪ ،‬أطمئف‬
‫إلى أف مف أعتمد عمييـ أىؿ لمثقة ‪ ،‬وعندما يتوقؼ خط الربح أو ييوي أعرؼ أف مف أعتمد عمييـ قد فشموا‬
‫واستنفذوا أغراضيـ ‪ ،‬انطمؽ إلى عممؾ ‪ ،‬وال تشاورني بعد اليوـ في شيء‪..".‬‬
‫كانت ىذه الكممات ىي الضوء األخضر الذي سمح لي باالنطبلؽ بأقصى سرعة‪ ..‬بدأت أحصد الفرص السيمة ‪،‬‬
‫واجتيدت في ىندسة اإلطار القانوني لكؿ تجاوز ‪ ،‬وبدا لي الطريؽ إلى الثروة مميدا محفوفا بالزىور ‪ ،‬لكف القدر‬
‫لـ يرحمني ‪ ،‬فأرسؿ إلي نو ار لتقؼ في طريقي ‪ ،‬وتعيؽ اندفاعاتي المجنونة‪..‬‬
‫وسكت الدكتور شريؼ ‪ ،‬وغاب برىة في أحضاف الصمت‪ ..‬كانت مبلمحو غارقة في الندـ‪ ..‬بدا وكأنو يمـ شتات‬
‫نفسو مف تحت أثقاؿ الخزي والعار ‪ ،‬ليبوح بالجزء األبشع مف جريمتو ‪ ،‬واستأذف المحقؽ في تدخيف سيجارة‪ ..‬لعمو‬
‫أراد أف يخدر بدخانيا المسموـ شعوره بالذنب!‪ ..‬ونظرت إلى ساعتي في قمؽ‪ ..‬كانت الساعة تسعى نحو الثامنة‬
‫‪ ،‬وقد شارؼ دوـ الشركة عمى االنتياء ‪ ،‬البد أف أحدىـ قد أخبر عبد الغني بأف مديره المدلؿ يتعرض لمتحقيؽ ‪،‬‬
‫لكنو لـ يكترث!‪ ..‬لـ يظير حتى اآلف!‪ ..‬لعمو قد تخمى عف خطيب ابنتو بعد أف كشفتو جرائمو!‪ ..‬آه‪ .‬ال أصدؽ‬
‫أف أحبلـ توافؽ عمى وغد كيذا!‪ ..‬أيمجئيا ما حدث بيننا إلى التفريط بحبيا ‪ ،‬والرضاء بأي رجؿ؟‪..‬‬
‫وأي رجؿ؟‪ ..‬رجؿ ممف كرىتيـ دائما أحبلـ! أغمب الظف أنيا قد تعرضت لضغوط عنيفة مف أبييا ‪ ،‬لعمو قد‬
‫أرغميا عمى ىذا الزواج‪ ..‬مستحيؿ!‪ ..‬أحبلـ ال يمكف أف توافؽ‪ ..‬في األمر غموض محير أتمنى لو اكتشفو!‪..‬‬
‫ورحت أسترجع أحداث ىذا اليوـ العاصؼ في ألـ‪ ..‬ترى؟ كيؼ تمقى األىؿ واألصدقاء نبأ اعتقالي؟‪ ..‬نظرت إلى‬
‫المحقؽ في شرود‪ ..‬كاف يقتحـ الدكتور شريؼ بنظرات ثاقية متوثبة ‪ ،‬تريد لو تنفذ إلى صدره لتعرؼ ما يخفيو مف‬
‫حقائؽ ‪ ،‬أما الدكتور شريؼ ‪ ،‬فقد كاف يتيرب مف نظرات المحقؽ العنيده المتفحصة ‪ ،‬متشاغبل بسيجارتو التي‬
‫كاف يتأمميا وىي تتآكؿ سريعا بسبب شراىتو البشعة في التدخيف ‪ ،‬أعجبتني طريقة المحقؽ في العمؿ إنو يتحرؾ‬
‫بسرعة حتى ال تضيع منو الخيوط‪ ..‬يفاجئ المشبوىيف باتياماتو الصاعقة ‪ ،‬قيؿ أف يرتبوا دفاعيـ‪ ..‬يفرز خيوط‬
‫الحقيقة بعناية ثـ يصؿ بينيا بذكاء‪ ..‬أينجح في الوصوؿ إلى القاتؿ في يوـ واحد؟!‪ ..‬أيكوف الدكتور شريؼ حقا‬
‫القاتؿ؟!‪ ..‬ما الذي حشرني في كؿ ىذه األحداث؟‪!..‬‬
‫ّ‬ ‫ىو‬
‫وخرج الدكتور شريؼ عف صمتو ‪ ،‬قاؿ ‪ :‬وىو يزفر النفس األخير مف سيجارتو‪:‬‬
‫ػ لـ يخطر لي يوما أف أؤذي نو ار ‪ ،‬ولـ أكف ألىتـ بيا لوال صدفة‪ ..‬صدفة يمكف أف تحدث في أي مكاف‪ ..‬فقد‬
‫اجتمعت في الشركة موظفتاف تدعياف نورا‪ ..‬نو ار سندياف المرحومو ‪ ،‬وكانت تعمؿ طابعة بالمغة اإلنكميزية ‪ ،‬ونو ار‬
‫كامؿ المسؤولية عف رسائؿ التمكس ‪ ،‬وىي موظفة قديمة يأتمنيا السيد عبد الغني عمى أسرار كثيرة ‪ ،‬وىي أيضا‬
‫مسؤولة عف حفظ الوثائؽ والعقود والرسائؿ الخاصة بالشركة‪..‬‬
‫وحدث أف ورد إلينا تمكس مف شركة أمريكية لمصناعات الطبية ‪ ،‬تعرض فيو عمينا شراء كمية ىائمة مف المحاقف‬
‫الببلستيكية التي انتيى زمف استعماليا بأسعار زىيدة ‪ ،‬فكرت في العرض ‪ ،‬فوجدت فيو فرصة لممكسب السيؿ‪..‬‬
‫قفزة جديدة تقربني مف أحبلمي‪ ..‬كانت المحاقف مف النوع المطموب في السوؽ ‪ ،‬وكاف بإمكاني تسويقيا بسرعة ‪،‬‬
‫ولـ أتردد‪ ..‬تناولت ورقة وكتبت الرد‪ ..‬ال مانع لدينا مف استيراد الكمية المذكورة شريطة تمديد تاريخ االستعماؿ‪..‬‬
‫وكاف أحد المستخدميف قد جاءني بالشاي ‪ ،‬فسممتو الرد المكتوب وطمبت منو أف يعطيو لنورا‪ ..‬حمؿ المستخدـ‬
‫الرد ومضى بو ‪ ،‬وما كاد يغيب حتى تذكرت شيئا ميما ‪..‬تذكرت أني لـ أحدد لممستخدـ أية نو ار قصدت ‪ ،‬وأف‬
‫األمر قد يمتبس عميو ‪ ،‬وال سيما أنو مكتوب بالمغة اإلنكميزية‪ ..‬أسرعت خمفو إلى غرفة المرحومو نو ار ‪ ،‬وكانت‬
‫قريبة مف مكتبي ‪ ،‬فوجدت المستخدـ خارجا منيا‪ ..‬أدركت أف ما خشيت منو قد وقع ‪ ،‬وكاف عمي أف أتصرؼ‬
‫بسرعة ‪..‬‬
‫دخمت عمى نو ار ‪ ،‬فطالعت في عينييا نظرة اتياـ ‪ ،‬قالت بجرأة لـ أتوقعيا‪:‬‬
‫ػ لـ يخطر لي أني أعمؿ في شركة تتاجر بالبضائع الفاسدة!ّ‬
‫ماذا أفعؿ؟‪..‬‬
‫قمت ليا متجاىبل‪:‬‬
‫ػ بضائع فاسدة!!‪ ..‬آنسة نو ار ثـ تتحدثيف؟‪..‬‬
‫قالت محتدة‪:‬‬
‫ػ أتحدث عف المحاقف الببلستيكية التي انتيى تاريخ استعماليا ‪ ،‬وتنوي استيرادىا‪..‬‬
‫ضحكت وأغمقت الباب‪..‬‬
‫قمت ليا ميونا مف جسامة األمر‪:‬‬
‫ػ آنسة نوار أنت منفعمة أكثر مما يجب ‪ ،‬ماذا تتوقعيف أف يحدث لممحاقف بعد انتياء المدة المحددة لبلستعماؿ؟‪..‬‬
‫إنيا مواد ببلستيكية ال تؤكؿ وال تشرب ‪ ،‬وال ضرر مف استعماليا بعد نياية تاريخ االستعماؿ‪..‬‬
‫لـ تقنعيا كمماتي‪..‬‬
‫قالت بمنطؽ بسيط ‪ ،‬لـ أدر كيؼ أواجيو‪:‬‬
‫ػ إذا كاف استعماؿ المحاقف الببلستيكية بعد انتياء التاريخ المحدد ليا غير ضار ‪ ،‬فمماذا تسجمو الشركات‬
‫الصانعة عمى غبلؼ كؿ محقنة ‪ ،‬وتيتـ بو إلى ىذا الحد؟‪..‬‬
‫احترت كيؼ أستوعبيا؟!‪ ..‬إنيا عنيدة وذكية ‪ ،‬مف النوع الصمب الذي ال يميف ‪..‬الحؽ أني احترمت جرأتيا‬
‫وشجاعتيا ‪ ،‬لكف الموقؼ بالنسبة لي كاف خطي ار وعصيبا‪..‬‬
‫أحسست أف ىذه الفتاة الجميمة البريئة يمكف أف تزلزؿ بمسانيا مستقبمي ‪ ،‬وتحيؿ أحبلمي إلى سراب ‪ ،‬في تمؾ‬
‫المحظة تذكرت فيمما كنت قد شاىدتو في أمريكا ‪ ،‬فأوحى لي الفيمـ فكرة مجنونة‪ ..‬تظاىرت بالندـ‪..‬‬
‫قمت ليا بميجة استكانة وضعؼ ‪ :‬آنسة نو ار ‪ ،‬ىؿ تصدقيني إذا بحت لؾ بسر؟‪..‬‬
‫نظرت إلي حائرة ولـ تجب‪!..‬‬
‫تابعت قائبل‪:‬‬
‫ػ قد أبدو لكـ أني مدير الشركة ذو الصبلحيات الواسعة ‪ ،‬لكف الحقيقة غير ذلؾ تماما‪..‬‬
‫حدقت بي أكثر وتابعت اإلصغاء‪..‬‬
‫أردفت متنيدا‪:‬‬
‫ػ إنما أنا منفذ أوامر‪ ..‬أنفذ كؿ ما يطمبو مني السيد عبد الغني صاحب الشركة‪ ..‬السيد عبد الغني ىو الذي وافؽ‬
‫عمى صفقة المحاقف الفاسدة ‪ ،‬وىو الذي أمرني بكتابة الرد الذي في يدؾ‪..‬‬
‫ألقت نو ار نظرة عمى الورقة التي في يدىا ‪ ،‬وكأنيا تراجع ما جاء فييا ثـ قالت‪:‬‬
‫ػ ال يعنيني مف ىو الذي أمر بالرد أو نفذه‪ ..‬كؿ ما يعنيني أني أماـ جريمة ال يجوز السكوت عنيا ‪ ،‬وواجبي أف‬
‫أبمغ عنيا السمطات‪..‬‬
‫ارتج قمبي خوفا ‪ ،‬لكني تماسكت وتظاىرت بالندـ‪..‬‬
‫قمت في ىدوء‪:‬‬
‫ػ ىذا ما كاف عمي أف أفعمو منذ زمف‪!..‬‬
‫ال أدري لماذا ظمت تنظر إلي في شؾ وحذر!‪ ..‬وكدت أيأس مف خداعيا لوال أف قالت‪:‬‬
‫ػ كبلمؾ يوحي بأف ىناؾ جرائـ أخرى مف ىذا النوع‪!..‬‬
‫أيقنت أف حميمتي بدأت تنطمي عمييا ‪ ،‬فقمت ‪:‬‬
‫ػ لؤلسؼ ‪ ،‬ىذا صحيح وقد راودتني نفسي أكثر مف مرة عمى إببلغ الشرطة بما يجري في الشركة مف مخالفات‬
‫خطيرة ‪ ،‬لكني جبنت ‪ ،‬خشيت أف يشممني القضاء بالعقاب ‪ ،‬فأخسر سمعتي ومستقبمي‪..‬‬
‫ىنا قالت نو ار في حماس‪:‬‬
‫ػ يجب أال تتستر عمى ما يجري والقضاء ػ فيما أعمـ ػ يسامح مف يبادر إلى كشؼ المجرميف وفضح جرائميـ‪..‬‬
‫أدركت أف نو ار قد ابتمعت الطعـ‪..‬‬
‫فقمت متظاى ار بالتوبة‪:‬‬
‫ػ الحمد هلل الذي أرسمؾ إلي في الوقت المناسب ‪ ،‬كنت بحاجة إلى إنساف يشجعني عمى ىذه الخطوة‪..‬‬
‫قالت وكأنيا تختبر صدقي‪:‬‬
‫ػ ماذا تنتظر إذف ‪ ،‬ىيا بنا لنقوـ بواجبنا ‪ ،‬ونبمغ السمطات ‪ ،‬ىذا أمر ال يحتمؿ التأجيؿ‪..‬‬
‫قمت ليا مستجيبا لفكرتيا‪:‬‬
‫ػ أنت عمى حؽ ‪ ،‬ىذا أمر ال يجوز تأجيمو ‪ ،‬لكف‪..‬‬
‫سألت في شؾ‪:‬‬
‫ػ لكف ماذا؟‪..‬‬
‫أجبت عمى الفور‪:‬‬
‫ػ لكف القضاء ال يصغي ألي إدعاء ما لـ يكف مؤيدا باألدلة واإلثباتات‪..‬‬
‫نظرت إلي قمقة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ أال تممؾ أدلة عمى ما تعرؼ؟‪..‬‬
‫ابتسمت وقمت ‪:‬‬
‫ػ اطمئني ‪ ،‬لقد احتطت لؤلمر منذ البداية ‪ ،‬فاحتفظت بصور عف كؿ الصفقات المخالفة التي تورطت فييا الشركة‬
‫‪ ،‬احتفظ بيا عندي في البيت ‪ ،‬سنعرج عمى البيت إلحضارىا في طريقنا إلى قسـ الشرطة‪..‬‬
‫وافقت ولكف ‪ ،‬بحذر ‪ ،‬لـ تكف سيمة كما تصورت ‪ ،‬ومضيت بيا إلى المنزؿ ‪ ،‬وطمبت منيا أف تدخؿ ‪ ،‬لكنيا‬
‫رفضت ‪ ،‬ماذا أفعؿ؟‪..7‬‬
‫كاف يجب أف تدخؿ إلى البيت بأية وسيمة ‪ ،‬آلخذ ما أردتو منيا !‪ ..‬لـ أيأس ‪ ،‬أسرعت إلى الداخؿ ‪ ،‬فحضرت‬
‫كأس عصير ‪ ،‬ووضعت فيو المخدر ‪ ،‬ثـ طمبت مف الخادمة التي تعمؿ لدي في الفيبل أف تذىب بالعصير إلى‬
‫اآلنسة نو ار ‪ ،‬ورحت أرقبيا مف نافذة مطمة عمى المدخؿ‪ ..‬قدمت الخادمة العصير لنو ار ‪ ،‬فأخذتو بامتناف‪ ..‬راقبتيا‬
‫وىي تتناولو رشفة رشفة‪ ..‬أصبحت ميمتي اآلف أسيؿ‪ ..‬أحضرت كاميرتي ‪ ،‬ونزلت‪ ..‬كانت نو ار قد بدأت تفقد‬
‫وعييا رويدا رويدا‪ ..‬ويبدو أنيا وىي تغادر وعييا ‪ ،‬قد فطنت لما بيتو ليا ‪ ،‬فحاولت أف تفتح الباب وتيرب ‪،‬‬
‫لكني منعتيا دوف أف أحتاج إلى قوة تذكر ‪ ،‬ولـ تمبث أف غابت عف الوعي ‪ ،‬فانطمقت بيا إلى غابة بعيدة تقع في‬
‫ظاىر البمد وىناؾ‪.....‬‬
‫وأطرؽ الدكتور شريؼ في خزي ‪ ،‬لـ يجرؤ أف يصؼ نفسو وىو يتصرؼ كالوحوش المسعورة ‪ ،‬نظرت إليو في‬
‫تقزز ‪ ،‬وأنا أقاوـ شعو ار بالغثياف‪..‬‬
‫وقاؿ المحقؽ وىو يحدجو‪:‬‬
‫ػ وىناؾ عريتيا ‪ ،‬واغتصبتيا ‪ ،‬والتقطت ليا مجموعة مف الصور وىي في أوضاع فاضحة ‪ ،‬لتضغط بيا عمييا ‪،‬‬
‫وتيددىا بإيصاؿ الصور إلى أىميا وذوييا إف ىي باحت لمسمطات بما عرفتو عنؾ مف غش واحتياؿ‪..‬‬
‫أجيش الدكتور شريؼ وانفجر باكيا ‪ ،‬وقد باف الذؿ والندـ في تعابيره الشاحبة ‪ ،‬وأردؼ المحقؽ دوف أف يرحمو‪:‬‬
‫ػ ولما أخذت نو ار تطالبؾ بإصبلح غمطتؾ فصمتيا مف العمؿ ‪ ،‬وعندما عممت أنيا أنجبت منؾ ‪ ،‬ىددتيا بالقتؿ ‪،‬‬
‫وعندما تمردت عمى تيديداتؾ الحقيرة ‪ ،‬وشكتؾ لمسيد عبد الغني ‪ ،‬خططت لقتميا ‪ ،‬وعندما شاىدتيا مع الدكتور‬
‫صبلح في المركز الثقافي خشيت أف تبوح بحقيقتؾ البشعة لمدكتورة أحبلـ ‪ ،‬التي كنت قد تقدمت لخطبتيا مف‬
‫أبييا قبؿ أسبوع مف افتتاح المعرض ‪ ،‬فصورتيا مع الدكتور صبلح ‪ ،‬واستدرجتيا في اليوـ التالي إلى مكاف بعيد‬
‫‪ ،‬وىناؾ أقدمت عمى طعنيا بسكيف ‪ ،‬وألقيت الصورة بجانب الجثة لتضمؿ العدالة‪..‬‬
‫ىتؼ الدكتور شريؼ‪:‬‬
‫ػ أقسـ لؾ بأني لـ أقتميا حتى أني لـ أكف أنوي اغتصابيا لوال ‪..‬‬
‫شممو المحقؽ بنظرة ساخرة ‪ ،‬وقاؿ بيدوء‪:‬‬
‫ػ لوال ماذا؟‬
‫قاؿ الدكتور شريؼ بنبرة كسيرة‪:‬‬
‫ػ كنت أنوي فقط أف ألتقط ليا بعض الصور ‪ ،‬ولكني عندما رأيتيا عارية أمامي!‪ ...‬اهلل يمعف الشيطاف‪...‬‬
‫قاؿ المحقؽ ىازئا وىو ينيض‪:‬‬
‫ػ حتى الشيطاف يترفع عف ارتكاب ما أقدمت عميو ‪ ،‬دكتور شريؼ أنت متيـ باالغتصاب والقتؿ ‪ ،‬تفضؿ معي‬
‫بيدوء‪..‬‬
‫الفصؿ الثاث والثبلثوف‬

‫ػ "حكمت المحكمة حضوريا عمى المتيـ الدكتور شريؼ عبد الجبار الطيب باإلعداـ شنقا حتى الموت بتيمة‬
‫االغتصاب والقتؿ العمد مع سبؽ اإلصرار والترصد ‪ ،‬وقد تمت إحالة أوراقو إلى سماحة المفتي‪..".‬‬
‫لـ يكد القاضي أف ينتيي مف اإلدالء بحكمو األخير ‪ ،‬حتى انبثؽ مف بيف الحضور صوت قاصؼ كالرعد‪..‬‬
‫ػ ىذا ظمـ‪ ..‬ظمـ‪ ..‬ظمـ كبير ال يجوز‪!..‬‬
‫والتفتت الرؤوس المستطمعة نحو مصدر الصوت في فضوؿ وحيرة ‪ ،‬وقد انفمتت مف شفاىيا عاصفة التساؤالت‪!..‬‬
‫ػ مف ىو صاحب الصوت؟‪..‬‬
‫ػ وماذا يريد؟‬
‫ػ وما عبلقتو بالقضية؟‪..‬‬
‫ػ وماذا يعرؼ؟‪..‬‬
‫وجمدت النظرات الحائرة عمى فتاة تقؼ في الصفوؼ الخمفية مف الحضور ‪ ،‬وىي تنتفض غضبا وحزنا وثورة ‪،‬‬
‫وقد تشنجت أصابعيا فوؽ رأسيا كمف يشكو مف صداع مدمر ‪ ،‬وتقمصت مبلمحيا في كآبة مؤثرة‪..‬‬
‫وسرت في القاعة ىميمة تتعالى ‪ ،‬فيرع القاضي إلى مطرقتو الخشبية ‪ ،‬وأرسؿ طرقات التحذير لتمجـ الجمبة التي‬
‫سادت المكاف ‪ ،‬فصمتت األلسنة مرغمة ‪ ،‬لكف العيوف ظمت تصرخ بالسؤاؿ‪..‬‬
‫وأدركت أف قنبمة موقوتة ستنفجر‪ ..‬قنبمة مف نوع فريد ‪ ،‬لـ يتعرؼ عمييا العالـ إال في أزمنة نادرة مف التاريخ‪..‬‬
‫قنبمة آدمية مف النوع الرىؼ الذي يثير الظمـ طاقتو الكامنة ‪ ،‬فيتفجر بالعدؿ ‪ ،‬وينبش الحقائؽ مف الجذور‪..‬‬
‫وىتفت الفتاة بصوت الىث يتسارع إيقافو وىو يسعى نحو لحظة االنفجار‪:‬‬
‫اسمي أحبلـ‪ ..‬الدكتورة أحبلـ الذىبي‪ ..‬ابنة عبد الغني الذىبي ‪ ،‬رجؿ األعماؿ المشيور الذي ورد اسمو في ىذه‬
‫القضية ‪ ،‬وبرأت المحكمة ساحتو‪..‬‬
‫ثـ أردفت أحبلـ بنبرة متيدجة مزقيا االنفعاؿ‪:‬‬
‫ػ أرجو أف تسمعني أييا القاضي حتى النياية ‪ ،‬فأنا أممؾ معمومات مثيرة ‪ ،‬سوؼ تحوؿ مجرى القضية ‪ ،‬أرجو أف‬
‫تسمعوني جميعا ‪ ،‬فما سأقولو ميـ وخطير‪..‬‬
‫ولـ تستطع أحبلـ أف تسيطرعمى انفعاالتيا ‪ ،‬فانفجرت باكية وسط دىشة الجميور وذىولو ‪ ،‬فأثار بكاؤىا النفوس‬
‫‪ ،‬وحرؾ المدامع‪..‬‬
‫واقترب والد أحبلـ مف ابنتو كالذاىؿ ‪ ،‬وحاوؿ أف ييدئ مف روعيا ‪ ،‬لكنيا دفعتو عنيا بعنؼ ‪ ،‬وأخفت وجييا‬
‫المخضؿ خمؼ كفييا ‪ ،‬وكأنيا ال تريد أف تراه‪!..‬‬
‫تبادؿ أعضاء المحكمة نظرة يعيث فييا التساؤؿ والوجوـ ‪ ،‬وفغر القاضي فاه دىشة وحيرة ‪ ،‬وقد تسمرت نظراتو‬
‫التائية فوؽ ىذه الفتاة المغز التي تتصرؼ بغموض مثير‪!..‬‬
‫وراف عمى المحكمة صمت ثقيؿ ‪ ،‬فحبس الحاضروف أنفاسيـ ‪ ،‬وقد غاصوا بخواطرىـ في دوامة مف التساؤالت‬
‫الممحة التي تريد أف تفيـ ما يجري ‪ ،‬وأرىفت األسماع بانتظار ما ستدلي بو أحبلـ مف مفاجآت‪..‬‬
‫وسرعاف ما كبحت أحبلـ مشاعرىا ‪ ،‬فكفكفت دموعيا ‪ ،‬وتماسكت ‪ ،‬ثـ تقدمت مف منصة الشيادة لتدلي بأقواليا ‪،‬‬
‫فرفعت يدىا فوؽ المصحؼ وألقت اليميف‪..‬‬
‫ػ أقسـ باهلل العظيـ أف أقوؿ الحؽ ميما كاف م ار ‪ ،‬ولو اتيمني الناس بالجحود أو الخيانة أو الجنوف‪!..‬‬
‫لـ يعمؽ القاضي عمى صيغة اليميف!‪ ..‬بؿ لعمو لـ ينتبو إلييا ‪ ،‬فقد كاف غارقا في أفكاره وتوقعاتو‪ ..‬ماذا تريد ىذه‬
‫الفتاة أف تقوؿ؟ وما المعمومات التي تدعي أنيا ستغير مجرى القضية؟ أيكوف كؿ ىذا الجيد الذي بذلو ليفتي في‬
‫ىذه القضية الشائكة ‪ ،‬قد أىدر في اتجاه خاطئ‪ ..‬أيكوف القاتؿ الحقيقي غير الدكتور شريؼ الذي ما فتئ ينفي‬
‫عنو تيمة القتؿ منذ بداية القضية؟‪ ..‬واستند القاضي بمرفقو فوؽ منضدتو ‪ ،‬ثـ ألقى برأسو المثقؿ باألسئمة فوؽ‬
‫راحتو ‪ ،‬وراح يصغي إلى أحبلـ ‪ ،‬وىو يحدؽ فييا بنظرات يفيض منيا الترقب والقمؽ‪..‬‬
‫أرسمت أحبلـ تنييدة مرة ‪ ،‬ثـ قالت وىي تنتصب بقامتيا كخطيب مفوه يقؼ فوؽ بركاف مف الكممات الممتيبة‪:‬‬
‫ػ سيدي القاضي‪ ..‬اآلف حصحص الحؽ ‪ ،‬وآف لمحقيقة أف تعمو فوؽ كؿ اعتبار ‪ ،‬وآف لمضمير الغافي أف يستيقظ‬
‫مف سباتو ليمزؽ الصمت الذليؿ ‪ ،‬ويصدع بكممة الحؽ رغـ كؿ األنوؼ‪..‬‬
‫عذ ار أييا القاضي ‪ ،‬فأنا لـ آت إلى ىنا ألقؼ فيكـ خطيبة ‪ ،‬أو محاضرة‪ ..‬لكني جئت ألطمؽ صرخة مدوية‬
‫سيزلزؿ صداىا أولئؾ الذيف قدسوا المادة ‪ ،‬واستيانوا بالقيـ‪ ..‬أولئؾ الذيف يعيشوف بيننا كالبشر ‪ ،‬ويتصرفوف‬
‫كالذئاب‪ ..‬الذيف يتكئوف عمى القانوف ليعيشوا فوؽ القانوف‪ ..‬أولئؾ الذيف يظمموف الناس بضمير مرتاح ‪،‬‬
‫ويسحقونيـ بأعصاب باردة ‪ ،‬ويشربوف دمائيـ بكؤوس مف الفضة‪..‬‬
‫قد تتساءؿ أييا القاضي الوقور لماذا انتظرت حتى نياية المحكمة ‪ ،‬ثـ تقدمت ألبوح بما سيغير اتجاه التحقيؽ ‪،‬‬
‫ويكشؼ الجاني الحقيقي في ىذه القضية؟‬
‫سؤاؿ وجيو يستحؽ اإلجابة‪..‬‬
‫كنت يا سيدي ػ أمتحف عدالتكـ!‪ ..‬اختبر قوانينكـ!‪ ..‬أرقب عجزكـ في الوصوؿ إلى المجرـ ‪ ،‬وىو يخطر‬
‫لقد ُ‬
‫أمامكـ كالطاووس‪!..‬‬
‫عذ ار أييا القاضي ‪ ،‬فأنا ال أسخر منكـ أو أطعف في نزاىتكـ ‪ ،‬لكني أريد أف أبيف لكـ أم ار عمى غاية مف‬
‫الخطورة‪..‬‬
‫ال قيمة يا سيدي لقانونكـ في غياب الضمير‪ ..‬ألف اإلنساف عندما يمغي ضميره يستطيع أف يحتاؿ عمى القانوف ‪،‬‬
‫وأف يقفز فوقو ‪ ،‬وقد يتدرع بو ‪ ،‬فيحولو مف سبلح في وجو الشر إلى سبلح في خدمة الشر‪ ..‬نعـ‪ ..‬قانونكـ ال‬
‫يكفي لتحقيؽ األمف واألماف‪ ..‬البد معو مف التربية‪ ..‬مف األخبلؽ‪ ..‬مف الضمير‪ ..‬ألف الضمير عندما يثور‬
‫يحاكـ النفس قبؿ أف تحاكموىا‪ ..‬يؤنبيا بقسوة‪ ..‬يجمدىا ‪..‬يطيرىا‪ ..‬يدفعيا إلى مواجية الحقائؽ ميما كانت مرة‬
‫وأليمة‪..‬‬
‫تريدوف دليبل عمى ثورة الضمير؟‪..‬‬
‫أنا ىو الدليؿ‪ ..‬فأنا ما كنت ألبوح لكـ بما ستذىموف لو ‪ ،‬لوال أف كابدت داخمي سياط الضمير وىي تجمدني‬
‫صباح مساء ‪ ،‬وتعذبني عذابا أليما يفوؽ كؿ احتماؿ‪ ..‬نعـ‪ ..‬لقد أرقتني الحقيقة المرة حتى عجزت عف كتمانيا ‪،‬‬
‫وأنا أرى العدالة البشرية تائية ضائعة مخدوعة تديف البريء ‪ ،‬وتبرئ المداف‪..‬‬
‫وعذاب الضمير أييا القاضي لـ يداىمني وأنا أتابع ىذه القضية عمى صفحات الجرائد وفي أروقة المحاكـ‪ ..‬بؿ‬
‫داىمني منذ عيد بعيد‪ ..‬عندما اكتشفت بيف أوراؽ والدي شيادة خطيرة تثبت تورطو في جريمة بشعة تذكرونيا‬
‫جيدا‪ ..‬تمكـ ىي حادثة العمارة التي انيارت فوؽ رؤوس ساكنييا ‪ ،‬وسحقت تحتيا عددا مف األبرياء‪ ..‬يوميا قالوا‬
‫‪ :‬عبد الغني الذىبي ال ذنب لو ‪ ،‬المسؤولية كميا تقع عمى الميندس الذي تبلعب بالمواصفات ‪ ،‬واقتصد في‬
‫المواد األولية ‪ ،‬ليختمس ثمف ما وفره منيا ‪ ،‬وكاف المحاسب المسؤوؿ عف حسابات العمارة قد اعترؼ أثناء‬
‫التحقيؽ بأف والدي ىو الذي كاف يأمر الميندس المنفذ بالتوفير واالقتصاد في المواد البلزمة لتسميح البناء ‪ ،‬لكف‬
‫ىذا المحاسب غير أقوالو أماـ المحكمة ‪ ،‬وأنكرىا‪ ..‬وعندما عادت المحكمة إلى ممفات التحقيؽ لـ تجد االعترافات‬
‫األولى التي أدلى بيا المحاسب الحقيقية اختفت مف ممفات التحقيؽ بفعؿ خائف ‪ ،‬وشاءت األقدار أف أكتشفيا ‪،‬‬
‫وىاؾ صورة عنيا‪..‬‬
‫ودفعت أحبلـ برزمة مف األوراؽ إلى القاضي ‪ ،‬فراح يقرؤىا بإمعاف ‪ ،‬ثـ نحاىا جانبا ‪ ،‬وعاد بنظراتو إلى أحبلـ ‪،‬‬
‫وكأنو يرجوىا أف تكمؿ ‪ ،‬ولـ تمبث أحبلـ أف قالت بنبرة حزينة‪:‬‬
‫ػ عندما اكتشفت ىذه األوراؽ صدمت‪ ..‬ذىمت‪ ..‬فقدت احترامي لوالدي ‪ ،‬وفقدت احترامي لنفسي ‪ ،‬والزمني شعور‬
‫فظيع بأني ابنة مجرـ‪ ..‬مجرـ جشع يستييف بأرواح األبرياء ‪ ،‬وال يتورع عف ارتكاب أفظع الجرائـ مف أجؿ‬
‫مصالحو وأطماعو‪ ..‬ورحت أرقب تصرفات والدي بعيوف ممؤىا الشؾ والريبة ‪ ،‬فحيرتني شخصيتو المزدوجة التي‬
‫يحيا بيا بيف الناس‪ ..‬يفترسيـ في الميؿ ‪ ،‬ويضحؾ ليـ في النيار‪..‬‬
‫ال تنظروا إلي ىكذا أرجوكـ ‪ ،‬فأنا لست جاحدة ‪ ،‬أو شاذة!‪ ..‬ال تظنوا أني أستعذب البوح لكـ بيذه االعترافات‪..‬‬
‫فأنا أعترؼ لكـ كمف يمفظ مف جوفو جم ار ونا ار ‪ ،‬لكني يجب أف أعترؼ‪ ..‬لـ أعد أحتمؿ وجوه الضحايا وىي‬
‫تحاصرني في الصحو والمناـ!‪ ..‬لـ أعد أطيؽ أف أصغي إلى أرواحيا وفي تشكو لي ظمـ أبي ‪ ،‬وتشكو مني‬
‫صمتي وجبني‪ ..‬لف أرضى بعد اليوـ أف أكوف شريكة أبي في جرائمو ‪ ،‬فالسكوت عف الظمـ جريمة‪..‬‬
‫لف أطيؿ‪ ..‬فأنا ما جئتكـ ألحدثكـ عف نفسي!‪ ..‬بؿ جئتكـ ألكشؼ تفاصيؿ جريمة حبكيا أبي‪ ..‬الدكتور شريؼ‬
‫اغتصب نو ار صحيح لكنو لـ يقتميا‪ ..‬القاتؿ رجؿ آخر أعرفو!‪ ..‬رجؿ غريب كاف يتردد عمى والدي في فترات‬
‫متباعدة‪ ..‬رجؿ غامض ‪..‬وجيو دائما مقطب ‪ ،‬ومبلمحو قاسية كالجميد‪ ..‬وفي عينيو بريؽ وحشي يتطاير كالشرر‬
‫‪ ،‬ويشع بالرىبة والرعب!‪ ..‬ىذا الرجؿ كاف قريبا جدا مف والدي ‪ ،‬لكنو لـ يكف يظير في السيرات أو الحفبلت‬
‫التي كاف يقيميا أبي لمعارفو وأصدقائو ‪..‬كاف دائما يأتي في أعماؽ الميؿ ‪ ،‬ويتستر بالظبلـ‪ ..‬ال يتكمـ إال ىمسا‪..‬‬
‫ال يعرؼ ما ىو االبتساـ‪ ..‬دائما متجيـ صامت كأبي اليوؿ‪ ..‬يأتي بحركات ثابتة ال يغيرىا‪ ..‬يتحرؾ كاآللة‪..‬‬
‫لكأنو رج آلي يتحرؾ وفؽ برنامج مرسوـ ‪..‬‬
‫كنت أتشاءـ منو كثيرا!! فما رأيتو مرة إلى وحدثت مصيبة!‪ ..‬لحظة مف فضمكـ ‪!..‬إني أتذكر اآلف‪ ..‬لقد ازرنا ىذا‬
‫الرجؿ ليمة اليزيمة‪ ..‬ىزيمة الخامس مف حزيراف‪ ..‬سألني يوميا عف أبي بميجة جافة وصوت غميظ‪ ..‬فأخبرتو‬
‫بأنو قد سافر‪ ..‬رمقني بنظرة جامدة ‪ ،‬ولـ ينبس ‪ ،‬ثـ مضى ‪ ،‬وتوارى في الظبلـ‪..‬‬
‫ىذا الرجؿ زار والدي قبؿ مقتؿ نو ار بميمة واحدة‪ ..‬كاف الوقت متأخ ار ‪ ،‬وكنت منيمكة في رسـ لوحة جديدة ألحت‬
‫عمي فكرتيا ‪ ،‬شاىدت والدي يستقبمو بالترحاب ‪ ،‬فاستبد بي الفضوؿ‪ ..‬مف ىذا الرجؿ؟ ما الذي يجمعو بوالدي كؿ‬
‫ىذه السنيف؟ ‪!..‬اقتربت مف مكتب والدي واستمعت لما يدور‪..‬‬
‫قاؿ والدي ‪" :‬طمبتؾ ألمر ىاـ‪..".‬‬
‫تساءؿ الرجؿ ‪" :‬ميمة جديدة؟‪".‬‬
‫أجاب والدي ‪" :‬الفتاة التي طمبت منؾ أف تصورىا مع الدكتور صبلح ليمة افتتاح معرض أحبلـ‪..".‬‬
‫سأؿ الرجؿ ‪" :‬ما شأنيا؟‪".‬‬
‫أجاب والدي ‪" :‬إنيا تثرثر كثي ار‪..".‬‬
‫قاؿ الرجؿ ‪" :‬يجب أف ترفع السعر‪..".‬‬
‫ىمس والدي ‪" :‬تبدو فقي ار ىذه األياـ‪..".‬‬
‫قاؿ الرجؿ ‪" :‬ثمف المخدر يرتفع‪..".‬‬
‫ضحؾ والدي ‪" :‬كف مطمئنا ‪..‬أنا ال أبخؿ عميؾ بشيء‪..".‬‬
‫سأؿ الرجؿ ‪" :‬ىؿ تريد شيئا آخر؟‪..".‬‬
‫أجاب والدي ‪" :‬ضع ىذه الصورة في حقيبتيا وىذه الرسالة‪!..".‬‬
‫قاؿ الرجؿ ‪" :‬تريد اصطياد عصفوريف في آف واحد‪!..".‬‬
‫ضحؾ والدي طويبل وقاؿ ‪" :‬بؿ ثبلثة عصافير‪ ..‬ثبلثة عصافير مف النوع المزعج‪..".‬‬
‫لـ أفيـ مف ىذا الحوار ‪ ،‬ولـ أسمع كبلما بعد ذلؾ ! سمعت حركة وجمبة في الداخؿ‪ ..‬صوت خزنة والدي تفتح‬
‫ثـ تغمؽ ‪ ،‬وصوت سعاؿ شديد كالذي يصاب بو المدمنوف عمى التدخيف ‪ ،‬ثـ اقتربت األقداـ مف الباب ‪ ،‬فتواريت‬
‫‪ ،‬ورحت أرقب ما يحدث مف بعيد‪ ..‬خرج الرجؿ ‪ ،‬وخرج والدي خمفو‪..‬‬
‫قاؿ لو والدي ‪" :‬لف أوصيؾ"‪..‬‬
‫ىز الرجؿ رأسو في ثقة ‪ ،‬ثـ مضى‪..‬‬
‫وأطرقت أحبلـ برىة ثـ تابعت بصوت مختمج‪:‬‬
‫وعندما عممت بمقتؿ نو ار ‪ ،‬وقرأت تفاصيؿ الجريمة ‪ ،‬فيمت معنى ىذا الحوار ‪ ،‬وعرفت ألوؿ مرة أف أبي يستعمؿ‬
‫رجبل لمميمات القذرة‪!..‬‬
‫وفاض بيا التأثر ‪ ،‬فاندفعت الدموع مف عينييا في صمت ‪ ،‬فكانت دموعيا الصامتة الكئيبة أبمغ مف كؿ ما قالتو‬
‫مف كممات‪..‬‬
‫الفصؿ الرابع والثبلثوف‬

‫ألجـ الموقؼ المثير لساف القاضي ‪ ،‬فتجمدت نظراتو فوؽ أحبلـ‪ ..‬ىذه الفتاة العظيمة التي قمبت قوانيف األرض ‪،‬‬
‫وسجمت باعترافاتيا المتفجرة ‪ ،‬قصة نادرة لـ يسبؽ أف شيدت مثميا أروقة المحاكـ‪!..‬‬
‫واىتزت القموب اعجابا بيذه الفتاة الطاىرة النبيمة ‪ ،‬التي ارتفعت فوؽ روابط الدـ والنسب ‪ ،‬وتوىجت بالحقيقة‬
‫الساطعة كنجـ ممتيب يضيء ظممة الكوف العميقة‪..‬‬
‫احتضنت أحبلـ بنظرات وليى ‪ ،‬يشعشع منيا الوجد‪ ..‬كانت تقؼ مطرقة كالخجمى ‪ ،‬وقد أمالت رأسيا الجميؿ‬
‫ُ‬ ‫و‬
‫في حياء دامع ‪ ،‬وكأنيا ممثمة متواضعة أدت دور البطولة في مسرحية صفؽ ليا العالـ مف أقصاه إلى أقصاه‪!!..‬‬
‫أيتيا الفتاة الوادعة النقية‪ ..‬متى يأذف القدر ‪ ،‬فتنيار بيننا الحواجز والسدود ‪ ،‬وتؤلـ الفرحة قمبينا العاثريف ‪ ،‬ال‬
‫أستطيع أف أتصور العالـ دوف أحبلـ!‪ ..‬لكأنيا روحو التي تخمع عميو الحياة‪ ..‬لكأنيا ماؤىا وىواؤه وأزىاره‪ ..‬لكأنيا‬
‫الحؽ والخير والجماؿ قد اتحدوا واستحالوا امرأة!‪ ..‬لكأنيا نساء العالـ قد جمعف أجمؿ ما فييف في باقة واحدة ‪،‬‬
‫وسمينيا أحبلـ‪..‬‬
‫وجعمت أنوس بنظراتي بيف االبنة وأبييا ‪ ،‬فحرت في ىذه الزىرة البرية الرقيقة ‪ ،‬كيؼ نبتت عمى غصف مف‬
‫الشوؾ الساـ؟‪!..‬‬
‫كاف عبد الغني الذىبي يقؼ ساىما ذاىبل غارقا في لجة مف السكوف ‪ ،‬وكأنو تمثاؿ مف الشمع ألقاه صانعو وسط‬
‫ىذا الجميور ليعرؼ رأيو فيما نحت ‪ ،‬وتشابكت األنظار حولو ناظقة باإلدانو ‪ ،‬صارخة باإلنكار ‪ ،‬فياضة‬
‫باالحتقار‪ ..‬ورمقو القاضي كالمفجوع ‪ ،‬ثـ انتظره ريثما أفاؽ مف ذىمتو العميقة‪ .‬وبدأت الحياة تعود إلى أوصالو‬
‫المتجمدة ‪ ،‬فأسبؿ جفنيو كمف يحاوؿ ىضـ ما حدث ‪ ،‬ثـ تنفس بعمؽ ‪ ،‬فانتزع نفسو مف إسار الصدمة ‪ ،‬وجعؿ‬
‫يجر قدميو باتجاه ابنتو‪!..‬‬
‫وحبس الحاضروف أنفاسيـ ‪ ،‬وىـ يروف عبد الغني يترنح في مشيتو ‪ ،‬وقد أطمت مف عينيو نظرة وحشية مجنونة‬
‫أخذت تتقد وتتقد ‪ ،‬كمما اقترب خطوة مف ابنتو ‪ ،‬وتسارعت خطواتو فاندفع نحو أحبلـ كثور ذبيح قد احتدـ حبو‬
‫لمحياة في القطرات األخيرة مف دمو ‪ ،‬وسرى في القاعة صمت وترقب ‪ ،‬وتحفز أكثر مف واحد إليقافو ‪ ،‬وداىـ‬
‫الحاضريف قمؽ عاصؼ ‪ ،‬وىـ يروف يد عبد الغني ترتفع عاليا في اليواء ‪ ،‬وتيوي عمى وجو ابنتو ‪ ،‬لكف القموب‬
‫الواجفة لـ تمبث أف ىدأت عندما تسممت قوة مجيولة إلى يد األب العاتي ‪ ،‬وأوقفتيا قبؿ أف تمس أحبلـ بسوء‪!..‬‬
‫طوى عبد الغني أصابعو المرتعشة اآلثمة ‪ ،‬ثـ ضميا عمى صدره في ندـ ‪ ،‬وىو يرنو إلى ابنتو بطرؼ دامع ‪ ،‬ولـ‬
‫يمبث أف ىوى عمى األرض ‪ ،‬وخر عند قدمييا ‪ ،‬وىو يبكي وينتحب ‪ ،‬وانحت أحبلـ نحو أبييا المنيار ‪ ،‬لتنتشمو‬
‫مف األرض ‪ ،‬فتناوؿ يدىا الممدوة إليو ‪ ،‬وأغرقيا بالقببلت والدموع ‪ ،‬وكأنو يستجدي منيا العفو والرضا ‪ ،‬لكف‬
‫أحبلـ سحبت يدىا في حياء ‪ ،‬وانيارت فوؽ أبييا وىي تنشج بم اررة‪..‬‬
‫واستدر الموقؼ المؤثر دموع الحاضريف ‪ ،‬فأجيشت امرأة بصوت مرتفع ‪ ،‬وحوقؿ رجؿ يقؼ في أقصى الصفوؼ‬
‫‪ ،‬وخرج القاضي عف وجومو وصمتو ‪ ،‬فنزؿ مف منصتو العالية ‪ ،‬وتقدـ مف أحبلـ فأنيضيا في حنو واحتراـ ‪ ،‬ثـ‬
‫أجمسيا عمى كرسي قريب ‪ ،‬وطمب ليا كأس ماء‪..‬‬
‫لبث عبد الغني راكعا برىة ‪ ،‬وىو ينتحب ‪ ،‬وبعد أف أفرغ شحنات الندـ التي احتقف بيا صدره ‪ ،‬حاوؿ أف ينتشؿ‬
‫نفسو مف األرض لكف قواه الخائرة خانتو ‪ ،‬فسقط‪ ..‬فتقدـ منو أحدىـ ‪ ،‬ومد لو يد العوف ‪ ،‬فرفضيا ‪ ،‬ثـ استجمع‬
‫قواه الخائرة ونيض ‪ ،‬ووقؼ أماـ القاضي مخضؿ الوجو ‪ ،‬كسير النظرات ‪ ،‬مائؿ البنية ‪ ،‬وكأنو جبؿ شاىؽ‬
‫مادت بو األرض ‪ ،‬وىشـ الزلزاؿ ىامتو‪..‬‬
‫قاؿ عبد الغني بنبرة غابت منيا تمؾ الجعجعة الفارغة التي كانت تممؤىا‪:‬‬
‫ػ سيدي القاضي‪ ..‬أعترؼ سمفا بكؿ ما أوردتو ابنتي أحبلـ مف حقائؽ‪ ..‬أعترؼ بأني غششت وسرقت وقتمت‪..‬‬
‫أعترؼ بأني تبلعبت بالقانوف ‪ ،‬وخدعت القضاء ‪ ،‬وضممتو في كؿ مرة ‪ ،‬أعترؼ بأني تصرفت في ىذا العالـ‬
‫كالوحوش الشاردة في أعماؽ الغابات ‪ ،‬وتسمقت عمى أشبلء اآلخريف حتى وصمت إلى ما أنا فيو مف شيرة وجاه‬
‫وثراء‪ ..‬وىا ىي النتيجة‪ ..‬ممكت كؿ ما يحمـ اإلنساف بامتبلكو ‪ ،‬وخسرت ابنتي الوحيدة ‪ ،‬التي لـ أحب في ىذا‬
‫الوجود إنسانا غيرىا‪ ..‬خسرت احتراميا لي ‪ ،‬وخسرت اعترافيا بي كأب وانساف ‪ ،‬فخسرت بذلؾ كؿ شيء لكف ‪،‬‬
‫اسمح لي أييا القاضي أف أروي لؾ القصة مف أوليا ‪ ،‬فمكؿ قصة بداية ‪ ،‬ولبدايتي قصة يجب أف تروى ‪ ،‬ويجب‬
‫أف يصغي إلييا الناس‪ ..‬أنا يا سيدي لست شيطانا ‪ ،‬ولست كتمة خالصة مف الشر ‪ ،‬كما أبدو لكـ اآلف‪ ..‬اإلنساف‬
‫يا سيدي ال يولد شري ار ‪ ،‬والشر ليس أصيبل فينا‪ ..‬نحف الذيف نزرع الشر ‪ ،‬ونحف الذيف نحصده‪ ..‬وقد عممتني‬
‫الحياة أف الظمـ ىو التربة العفنة التي يضرب الشر فييا جذوره ‪ ،‬ويطرح ثماره المسمومة‪ ..‬أعرؼ أف أسماعكـ‬
‫تأنؼ أف تصغي لحكمة يمقييا عميكـ رجؿ فاسد ‪ ،‬لكنيا الحقيقة‪ ..‬الحقيقة المرة التي تجرعتيا قطرة ‪ ،‬قطرة‪ ..‬وأنا‬
‫أشعر بأقداـ الظمـ والشقاء تدوسني وتسحقني بقسوة‪..‬‬
‫عبد الغني الذي تعرفونو اآلف ػ أييا السادة ػ بدأ حياتو ماسح أحذية‪ ..‬ينحني فوؽ األقداـ فينظفيا ‪ ،‬ويممعيا‪..‬‬
‫يأكؿ الخبز ممزوجا باألصبغة واألوساخ ‪ ،‬ثـ يأوي إلى غرفة حقيرة ‪ ،‬فيقضي الميؿ فوؽ حصيرة ميترئة ‪ ،‬وىو‬
‫يحمـ‪ ..‬يحمـ بحياة أخرى خالية مف الذؿ والشقاء‪ ..‬يحمـ بالثروة الواسعة والقصر المنيؼ ‪..‬يحمـ بالعز والجاه‬
‫والرفاء‪ ..‬وعندما كاف يشرؽ عميو فجر اليوـ التالي ‪ ،‬كاف ىذا الفتى الكادح الطموح ‪ ،‬يحمؿ صندوقو الخشبي ‪،‬‬
‫ويمضي بو إلى الشوارع والساحات ‪ ،‬ليعرض خدماتو عمى الناس مقابؿ قروش قميمة‪..‬‬
‫عبد الغني الذىبي ػ أييا السادة ػ نشأ يتيما ‪ ،‬وعاش محروما‪ ..‬عاش حياة باردة ال دؼء فييا ‪ ،‬أو حناف‪ ..‬تنكر‬
‫لو األقرباء ‪ ،‬وبتروه مف حياتيـ كما يبتر اإلنساف قبلمة أظفاره ‪ ،‬وقذفوه في العراء ‪ ،‬ليمتقط رزقو كما تمتقط القطط‬
‫والفئراف‪ ..‬مف أكواـ القمامة ‪ ،‬ومخمفات المطاعـ ‪ ،‬وصدقات المحسنيف ‪..‬نعـ‪ ..‬عشت طفولة مرة كالعمقـ ‪ ،‬وفتوة‬
‫بائسة كالجحيـ ‪ ،‬وشبابا ضائعا ذليبل ال أطيؽ ذكراه‪..‬‬
‫وركبني ىاجس مجنوف بأف الحياة ال معنى ليا ببل ثروة ‪ ،‬فبدأت رحمة كفاح مضنية ‪ ،‬حرمت نفسي خبلليا مف‬
‫أشياء كثيرة ‪ ،‬ورحت استثمر كؿ دقيقة وثانية ‪ ،‬وأجمع القرش فوؽ القرش ‪ ،‬حتى كونت مبمغا متواضعا يصمح‬
‫كبداية‪..‬‬
‫واستأجرت بالمبمغ دكانا في الجزء الجنوبي مف السوؽ الكبير ‪ ،‬فاتخذت منو صالونا متواضعا لمسح األحذية‪..‬‬
‫كانت الفكرة جديدة ‪ ،‬لـ يسبقني إلييا أحد ‪ ،‬فنجحت ‪ ،‬ودرت عمي ربحا وفي ار مكنني مف شراء المحؿ ‪ ،‬وتطوير‬
‫الصالوف‪..‬‬
‫وشعرت بأف الدنيا قد بدأت تبتسـ لي ‪ ،‬فاستبشرت ‪ ،‬وتفاءلت ‪ ،‬واندفعت نحو أسوار الجنة التي رسمتيا في خيالي‬
‫‪ ،‬بيد أف فرحتي لـ تكتمؿ!‪ ..‬فقد قررت الحكومة فجأة أف تزيؿ الطرؼ الجنوبي مف السوؽ إلقامة مبنى البمدية‬
‫فيو‪..‬‬
‫طار صوابي وأنا أرى الجرافات تزيؿ الصالوف ‪ ،‬وتسد بأنقاضو بوابة أحبلمي ‪..‬وكانت صدمتي أكبر عندما‬
‫عممت بأف التعويض الذي صرفتو الحكومة لممتضرريف ظالـ زىيد‪ ..‬جف جنوني وأنا أرى الحمـ يتسرب مف بيف‬
‫أصابعي ‪ ،‬ووجدت نفسي أعود إلى نقطة البداية ‪ ،‬بعد كؿ ما حققتو مف نجاح ‪ ،‬فانتابني إحساس عميؽ بالظمـ‬
‫والجور ‪ ،‬ففقدت شعوري باألماف ‪ ،‬وامتؤلت نفسي بالحقد عمى كؿ شيء‪!..‬‬
‫ولـ أرضخ لمواقع ‪ ،‬فقررت أف أعوض خسارتي بأسرع وسيمة ‪ ،‬وأقصر طريؽ ‪..‬قامرت‪ ..‬ربحت وخسرت‪ ..‬لـ‬
‫أحتمؿ الخسارة الجديدة‪ ..‬استدنت مبمغا وقامرت بو ‪..‬خسرت في المرة التالية ‪ ،‬فجننت ‪ ،‬وخضت شجا ار عنيفا مع‬
‫الذي غمبني ‪ ،‬وانتيى األمر بنا إلى السجف ‪ ،‬ىناؾ ‪ ،‬تعممت فنوف الجريمة ‪ ،‬وخرجت مسمحا بالخبرات المحرمة ‪،‬‬
‫وانزلقت خطوة بعد أخرى‪ ..‬سرقت وغششت وضربت وقتمت‪ ..‬تاجرت بالتيريب والمخدرات ‪ ،‬وعشت في ىذا‬
‫العالـ كقرصاف ألقى عواطفو في المحيط ‪ ،‬واستؿ سيفو المسموـ ليحكـ بو البحار‪..‬‬
‫وتدفقت األمواؿ بيف يدي ‪ ،‬فبدأت أصنع لي اسما وسمعة ‪ ،‬أسست شركة استيراد وتصدير ‪ ،‬ثـ قفزت قفزة أخرى‬
‫‪ ،‬فتزوجت أرممة ثرية ‪ ،‬وأنجبت منيا أحبلـ ‪..‬وكاف لممكانة المرموقة التي وصمت إلييا مظيرىا الرفيع ‪ ،‬فمـ يعد‬
‫بإمكاني أف أتابع أسموبي القديـ في الغش والنصب واالحتياؿ ‪ ،‬وصار البد لي مف أشخاص موثوقيف ‪ ،‬يقفوف في‬
‫الواجية دائما ‪ ،‬ويتحركوف وفؽ إرادتي ‪ ،‬كالدمى في مسرح األطفاؿ ‪ ،‬فإذا ما سقطوا أفمت الخيط الرفيع الذي‬
‫يربطيـ بي مف يدي ‪ ،‬وتركتيـ يسقطوف وحدىـ دوف أف أصاب بأذى‪..‬‬
‫ووجدت ضالتي في شريحة مف الشباب المندفع الطموح ‪ ،‬الذي يستعجؿ الوصوؿ إلى الثروة ‪ ،‬فأغريتيـ بالرواتب‬
‫العالية ‪ ،‬وقربت ليـ طموحاتيـ الحالمة إلى الثروة ‪ ،‬فأغريتيـ مف أجؿ قفزة واسعة تحقؽ ليـ أحبلميـ الكبيرة‬
‫وتريحيـ مف عناء الكدح والكفاح‪..‬‬
‫ومضيت في المعبة بحذر شديد ‪ ،‬اصطاد الفرص عف بعد ‪ ،‬ثـ أوحي إلى أعواني ممف اخترتيـ بعناية ليمتقطوا‬
‫الفرائس ويعودوا بيا غانميف‪ ..‬أما رجؿ الميمات القذرة ‪ ،‬فيو صديؽ قديـ عرفتو أياـ الضياع ‪ ،‬وكاف مدمنا عمى‬
‫نوع غاؿ مف المخدرات القوية ‪ ،‬فكنت أوفر لو ثمف المخدر وألجأ إليو في األزمات ألستعيف بو في حسـ األمور‬
‫المعقدة‪..‬‬
‫وقد كانت نو ار بالنسبة لي مشكمة تحتاج إلى حسـ ‪ ،‬فقد أخفؽ الدكتور شريؼ في الضغط عمييا ‪ ،‬فأخذت تثرثر‬
‫بقصتيا في كؿ مكاف ‪ ،‬مما جعمني أقمؽ عمى سمعة الشركة ‪ ،‬وعندما شاىدتيا مع الدكتور صبلح في مقصؼ‬
‫المركز الثقافي ليمة افتتاح معرض أحبلـ ‪ ،‬أوحت لي أفكاري بأف الفرصة قد حانت لمتخمص مف ثبلثة مزعجيف‬
‫في وقت واحد‪..‬‬
‫نو ار التي تيدد سمعتي ومستقبؿ أعمالي‪ ..‬والدكتورصبلح الذي استولى عمى قمب ابنتي أحبلـ ‪ ،‬فشغفت بو ‪،‬‬
‫ورفضت أف ترتبط برجؿ غيره ‪ ،‬وأخي ار الدكتور شريؼ الذي تمادت بو أطماعو فأقدـ عمى خطبة ابنتي أحبلـ وىو‬
‫يموح لي بما يعرفو عف الشركة مف أسرار ‪ ،‬ظنا منو أني قد أرىبو وأرضخ لرغبتو ‪ ،‬فأزوجو ابنتي ‪ ،‬وأورثو ثروتي‬
‫‪ ،‬فوافقت مجامبل ‪ ،‬ورحت أتحيف الفرص لئليقاع بو‪..‬‬
‫ىذه قصتي أييا القاضي‪ ..‬قصة إنساف ظمـ فظمـ ‪ ،‬وانتقـ لنفسو مف العالـ الذي ضف عميو بالرحمة والعدؿ‬
‫واالحتراـ‪..‬‬
‫ما إف انتيى عبد الغني الذىبي مف اإلدالء باعترافاتو ‪ ،‬حتى نيض األستاذ سعيد الناشؼ ‪ ،‬واستأذف القاضي في‬
‫إيراد معمومة ميمة ‪ ،‬قاؿ األستاذ سعيد‪:‬‬
‫ػ سيدي القاضي‪ ..‬أنا أذكر الواقعة التي أوردىا عبد الغني الذىبي حوؿ إزالة الحكومة في ذلؾ الوقت لمطرؼ‬
‫الجنوبي مف السوؽ الكبير ‪ ،‬الحكومة آنذاؾ لـ تعوضيـ التعويض العادؿ‪ ..‬لكني أحب أف أضيؼ ىنا أف‬
‫الحكومة التي جاءت بعدىا مباشرة ‪ ،‬أعادت النظر في ظبلمة ىؤالء التجار ‪ ،‬ومنحتيـ حقوقيـ كاممة ‪ ،‬وليذا فأنا‬
‫أعتقد أف مبرر الظمـ الذي اتكأ عميو المتيـ عبد الغني مبرر زائؼ قصده تضميؿ القضاء‪..‬‬
‫ىتؼ عبد الغني في حنؽ ‪ ،‬وقد أخرجو تدخؿ األستاذ سعيد عف طوره‪:‬‬
‫ػ أجؿ‪ ..‬لقد عوضتني الحكومة التالية عف الظمـ الذي أنزلتو بي الحكومة التي سبقتيا ‪ ،‬لكف ‪ ،‬متى؟‪ ..‬بعد أف‬
‫انزلقت قدماي إلى عالـ الشر ‪ ،‬وتوغمت في دنيا الجريمة‪ ..‬بعد أف لوث الحقد دمائي ‪ ،‬وشوه الظمـ نفسي ‪ ،‬وفقد‬
‫إيماني بكؿ شيء‪..‬‬
‫وأردؼ عبد الغني الذب\ىبي ‪ ،‬وىو يشير إلى األستاذ سعيد ‪ ،‬وقد انتفخت أوداجو ‪ ،‬وازدادت نبرتو حدة وعنفا‪:‬‬
‫ػ وأنت أييا الصحفي البارع‪ ..‬أيف كاف قممؾ الناري عندما وقع الظمـ عمي وعمى أصحابي؟‪ ..‬أتذكر؟‪ ..‬أتذكر‬
‫يوميا كيؼ جئناؾ شاكيف متظمميف ‪ ،‬ورجوناؾ أف تثير قضيتنا في صحيفتؾ؟‪ ..‬فماذا قمت؟‪ ..‬قمت لنا يوميا بأف‬
‫ىذه القضية حساسة ‪ ،‬وأنؾ ال تستطيع أف تخوض فييا ‪ ،‬ألف جريدتؾ جريدة ناشئة ‪ ،‬وتريد أف تشؽ طريقؾ بيا‬
‫دوف عقبات!‪ ...‬كيؼ تنسى ىذه أييا الصحفي النزيو ‪ ،‬وتذكر تمؾ؟ ‪..‬أـ أنؾ نسيتيا ألف عبد الغني الذىبي لـ‬
‫يكف آنذاؾ رجبل مشيو ار يدر عميؾ التشيير بو الربح الوفير ‪ ،‬ويشد القراء إلى جريدتؾ ليقرؤوا فضائحو؟‪!..‬‬
‫أنتـ يا عزيزي ال تتذكروف الناس إال عندما يكبروف ويشتيروف ‪ ،‬ألف الحديث عنيـ آنذاؾ ‪ ،‬واالقتراب مف‬
‫خصوصياتيـ ‪ ،‬يثير فرقعة عالية تمفت االنتباه إلى أقبلمكـ‪ ..‬أنا الصغار!‪ ..‬أما البسطاء!‪ ..‬فبل ييمكـ منيـ سوى‬
‫قروشيـ التي يشتروف بيا منشوراتكـ وصحفكـ‪!..‬‬
‫وتابع عبد الغني قائبل ‪ ،‬بميجة الح فييا التيكـ‪:‬‬
‫ػ صحيح أييا الصحفي المحترؼ أني بدأت مجرما ‪ ،‬لكني انتييت تاج ار ‪ ،‬أفيـ كؿ ألواف التجارة‪ ..‬حتى التجارة‬
‫بالكممة‪!..‬‬
‫صمت األستاذ سعيد ‪ ،‬ولـ يعمؽ ‪ ،‬وعاد إلى مكانو مطرقا ‪ ،‬وكأف ثورة عبد الغني قد نالت منو‪!..‬‬
‫أما عبد الغني الذىبي ‪ ،‬فقد التفت إلى ابنتو بعيني دامعتيف ‪ ،‬وغمرىا بنظرة ودودة ‪ ،‬ثـ قاؿ القاضي دوف أف يرفع‬
‫عنيا عينيو‪:‬‬
‫ػ سيدي القاضي‪ ..‬أرجو أف تفتحوا ممؼ التحقيؽ مف جديد ‪ ،‬ألعترؼ لكـ بكؿ ذنب اقترفتو ‪ ،‬وكؿ سر أخفيتو مف‬
‫أجؿ ىذه اإلنسانة الطاىرة فقط‪ ..‬وأشار إلى أحبلـ‪..‬‬
‫الفصؿ الخامس والثبلثوف‬

‫ػ أيف ذىبت أحبلـ؟‬


‫صمتوا ‪ ،‬نشجوا ‪ ،‬قالوا رحمت‪!..‬‬
‫ػ رحمت؟‪!..‬‬
‫حممت حقائبيا ورحمت ‪ ،‬لـ تترؾ خبرا!‪ ..‬لـ تترؾ أثرا!‪ ..‬لـ تفصح عف وجيتيا ‪..‬حتى كممة الوداع‪ ..‬ضنت بيا‬
‫عمينا‪!...‬‬
‫ػ أحبلـ رحمت‪!..‬‬
‫كانت حزينة‪ ..‬ترمؽ األفؽ بعينيف حالمتيف ‪ ،‬وتغذ الخطى نحو كتائو الحت لو واحة في الصحراء!‪ ..‬لـ نستطع‬
‫أف نوقفيا ‪ ،‬غادرتنا عمى حيف غرة ‪ ،‬وكأنيا قد بيتت األمر وأعدت لو عدتو‪!..‬‬
‫ػ ال أصدؽ‪!..‬‬
‫كمنا لـ نصدؽ‪ ..‬توقعنا منيا كؿ شيء ‪ ،‬إال أف ترحؿ‪ ..‬لقد ممتنا!‪ ..‬عافتنا ‪!..‬كرىتنا ‪ ،‬وكرىت الحياة بيننا‪!..‬‬
‫ونشجت أميا بحرقة ‪ ،‬فغمبتيا الدموع وارتمت عمى كنبة قريبة ‪ ،‬وجعمت تبكي وتنتحب‪..‬‬
‫دنوت مف األـ الحزينة مشفقا ‪ ،‬وقمت أواسييا‪:‬‬
‫ػ اىدئي يا خالة‪ ..‬اىدئي واطمئني‪ ..‬البد أف تعود‪ ..‬لعؿ الصدمة قد أرىقت أعصابيا ‪ ،‬فأرادت أف تستريح بعيدا‬
‫عنا ‪ ،‬لكني واثؽ مف أنيا ستعود‪..‬‬
‫شيقت األـ ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ػ لقد قمبنا عمييا الدنيا‪ ..‬سألنا عنيا األصدقاء واألقرباء والمعارؼ ‪..‬عممنا صورتيا عمى الفنادؽ والمطاعـ‬
‫والمستشفيات‪ ..‬جندنا جيشا مف المتفرغيف لمبحث عنيا ‪ ،‬لكنيـ لـ يعثروا عمييا‪ ..‬لـ يجدوا ليا أثرا‪ ..‬راجعنا قوائـ‬
‫المغادريف في المطارات ‪ ،‬فمـ نجد ليا اسما ‪ ،‬وأخي ار لجأنا إليؾ‪ ..‬ىؿ تعرؼ يا ولدي أيف يمكف أف تكوف؟‪..‬‬
‫أطرقت في حزف‪ ..‬ليتني أعرؼ أيف تكوف‪ ..‬لمشيت إلييا حافي القدميف‪ ..‬لقطعت خمفيا األرض مف أقصاىا إلى‬
‫أقصاىا‪ ..‬لخضت البحار مف أجميا بح ار بعد بحر ‪..‬آه‪ ..‬أنتـ ال تعرفوف مف ىي أحبلـ بالنسبة إلي‪ ..‬إنيا الماء‬
‫واليواء‪ ..‬العقؿ والروح‪ ..‬الماضي والحاضر والمستقبؿ‪ ..‬إنيا األمؿ‪ ..‬األمؿ الوحيد الذي يربطني بيذه الحياة‪..‬‬
‫وقمت في ثقة‪:‬‬
‫ػ قد ال أعرؼ أيف ىي أحبلـ ‪ ،‬لكني واثؽ مف أنيا ستعود‪ ..‬قد يطوؿ غيابيا أو يقصر لكنيا ستعود ‪ ،‬ال يمكف‬
‫ألحبلـ أف تغيب عنا طويبل‪!..‬‬
‫أجيشت األـ ‪ ،‬وقالت بالتياع‪:‬‬
‫ػ يجب أف نجدىا بأية وسيمة‪..‬‬
‫ورحت أبحث عف أحبلـ‪ ..‬بحثت عنيا في كؿ مكاف‪ ..‬استعنت بالصحافة واإلعبلـ ‪..‬وانتظرت عودتيا صباحا‬
‫بعد صباح ‪ ،‬وكابدت في انتظارىا آالـ الشوؽ ‪ ،‬والحرماف‪..‬‬
‫لكني لـ أيأس‪ ..‬أقسمت أف أجدىا ولو قضيت العمر أسعى خمفيا‪..‬‬
‫وطاؿ غياب أحبلـ ‪ ،‬فيئس الباحثوف عنيا ّ‬
‫وأقسمت أف تجمعني الحياة بامرأة سواىا‪..‬‬

‫**************‬

‫وقالت لي أمي ذات يوـ ‪ :‬أنت تعشؽ امرأة مفقودة‪ ..‬لو كانت في المريخ لعادت ‪..‬ليزىا الحنيف إلى أميا‬
‫المسكينة‪ ..‬إلى الرجؿ الذي صحى مف أجميا وعانى ‪..‬لعادت إلى المدينة التي أنجبتيا‪..‬‬
‫وأردفت أمي في حذر‪:‬‬
‫‪-‬أغمب الظف أنيا‪...‬‬
‫ىمست في قمؽ‪:‬‬
‫ػ ماذا ؟‬
‫تشجعت وقالت‪:‬‬
‫ػ لعميا قد انتحرت أو ماتت!‬
‫شعرت بكمماتيا تغوص في أعماقي كسكيف‪..‬‬
‫ػ ال‪ ..‬ال تقولي ىذا يا أماه‪ ..‬أحبلـ ال يمكف أف تموت‪!..‬‬
‫تساءلت أمي في دىشة‪:‬‬
‫ػ لماذا أليست بش ار مثمنا ؟‪!!..‬‬
‫ىمست وأنا أرمؽ طيفيا بعينيف حالمتيف‪:‬‬
‫ػ نعـ ‪..‬بشر مثمنا ‪ ،‬لكنيا ليست كالبشر‪ ..‬روحيا أقوى مف أرواح البشر ‪..‬أنبؿ مف أرواح البشر‪ ..‬لكأنيا مف‬
‫المبلئكة ‪ ..‬ألـ يتحدثوا عف مبلئكة زاروا األرض في ىيئة البشر ‪..‬لكأنيا منيـ ‪ ..‬جاءت األرض عمى ىيئة‬
‫امرأة ‪..‬جاءت تحمؿ إلينا حكمة السماء‪ ..‬وبعد أف أدت األمانة اختفت‪ ..‬تحولت إلى طيؼ ‪..‬طيفيا ال يفارقني يا‬
‫أماه‪..‬‬

‫**************‬

‫وقالت لي أختي ‪ ،‬وقد تجاوزت الرابعة والثبلثيف‪:‬‬


‫ػ يجب أف تتزوج ‪ ،‬لقد بدأ العد التنازلي في حياتؾ ‪ ،‬وآف لؾ أف تستقر وترتاح‪..‬‬
‫قمت في ثقة‪:‬‬
‫ػ لف أتزوج إال أحبلـ‪..‬‬
‫ػ أمازلت تنتظرىا؟‪!..‬‬
‫ػ سأموت وأنا أنتظرىا‪..‬‬
‫تضاحكت أختي وقالت‪:‬‬
‫ػ إني أفيمكـ أييا الرجاؿ ‪ ،‬إذا عشقتـ جماؿ أنثى ‪ ،‬لـ يقنعكـ جماؿ غيره‪!..‬‬
‫ثـ دنت مني ‪ ،‬وىمست باىتماـ‪:‬‬
‫ػ ما رأيؾ بالدكتورة ىدى ‪ ،‬ىدى طبيبة األسناف ‪ ،‬ألـ تبلحظ؟‪ ..‬إنيا شديدة الشبو بأحبلـ‪!..‬‬
‫ابتسمت كالساخر ‪ ،‬شردت بنظراتي بعيدا ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ قد تتشابو الوجوه واألجساد‪ ..‬لكف األرواح ال يمكف أف تتشابو‪ ..‬إنيا كالبصمات!‪ ..‬لكؿ واحدة منيا مبلمح تتفرد‬
‫بيا وصفات‪..‬‬

‫**************‬

‫وقالوا ذات مرة ‪ :‬ثمة طبيبة في الريؼ‪ ..‬نذرت نفسيا لمعالجة الناس في القرى البعيدة ‪ ،‬وبث الوعي بينيـ وقالوا‬
‫‪ :‬إنيا طبيبة فريدة ‪ ،‬تعالج المرضى في النيار ‪ ،‬وعندما يأتي المساء ‪ ،‬تجمع األمييف في مدارس خاصة ‪،‬‬
‫وتعمميـ القراءة والكتابة!‪ ..‬ىمست في فرح‪ ..‬ىذه أحبلـ‪ ..‬ال يقدـ عمى ىذه التضحية إال ىي!‪ ..‬ألـ تضحي بأبييا‬
‫ومستقبميا مف أجؿ كممة حؽ؟‪!..‬‬
‫وسافرت إلييا‪ ..‬جبت األرياؼ باحثا عنيا‪ ..‬وأخي ار وجدتيا‪ ..‬وجدتيا تكافح الكولي ار في قرية نائية‪ ..‬لكنيا لـ تكف‬
‫ىي!‪ ..‬لـ تكف أحبلـ‪!..‬‬
‫قالت الطبيبة بعدما سمعت قصتي‪:‬‬
‫ػ أتحبيا إلى ىذا الحد؟د‬
‫بكيت كطفؿ صغير ‪ ،‬حبي ليا ال يقؼ عند حد‪!..‬‬

‫**************‬

‫وأعمنت الدولة عف جائزة تقديرية لطبيبة موىوبة تركت مينة الطب ‪ ،‬وعممت رسامة في مجمة أطفاؿ ‪ ،‬وابتكرت‬
‫ليـ شخصيات خالدة ‪ ،‬وفاقت في سحرىا ‪ ،‬وجاذبيتيا شخصيات والت ديزني الشييرة‪!..‬‬
‫قمت ىي‪ ..‬طبيبة ورسامة‪ ..‬ظني ىذه المرة لف يخيب‪ ..‬وبحثت عنيا حتى التقيتيا ‪ ،‬فوجدتيا امرأة أخرى‪ ..‬لـ‬
‫تكف أحبلـ‪..‬‬

‫**************‬

‫وقاؿ ىاني ذات صباح‪:‬‬


‫ػ اسمع ىذا الخبر‪ ..‬طبيبة عربية في الميجر تنجح في اكتشاؼ فيروس خطير‪..‬‬
‫سألتو في ليفة‪:‬‬
‫ػ ألـ يذكروا اسميا؟‬
‫أطؿ ىاني مف خمؼ الجريدة ‪ ،‬وفي عينية نظرة متفيمة ‪ ،‬ثـ عاد إلى جريدتو ‪ ،‬وقد أدرؾ مرادي ‪ ،‬وأخذ يق أر‬
‫تفاصيؿ الخبر‪..‬‬
‫ػ أعمف معيد األبحاث الفدرالي لؤلمراض الفيروسية في نيويورؾ عف اكتشاؼ فيروس جديد يعتقد بأنو العامؿ‬
‫المسبب لمرض غامض بد أ ينتشر في أوساط األمريكييف منذ مدة!‪ .‬ومف الجدير بالذكر أف الذي اكتشؼ‬
‫الفيروس طبيبة عربية أغفؿ المعيد ذكر اسميا ألسباب غير مفيومة‪!..‬‬
‫ىتفت بنبرة فرح‪:‬‬
‫ػ إنيا في‪ ..‬إنيا أحبلـ‪..‬‬
‫ػ كيؼ سنتأكد؟‬
‫ػ نسافر إلييا‪.‬‬
‫ػ إلى أمريكا؟‬
‫ػ سأحجز عمى أوؿ طائرة‪..‬‬
‫قاؿ ىاني ببل تردد‪:‬‬
‫ػ احجز لي معؾ‪..‬‬
‫وسافرنا معا إلى أمريكا‪ ..‬اتصمنا ببعض األصدقاء ىناؾ ورجوناىـ أف يساعدونا في العثور عمى الطبيبة‪ ..‬وصمنا‬
‫إلييا‪ ..‬كانت تجمس خمؼ مجيرىا ‪ ،‬وقد اكبت فوؽ عينيو بشغؼ ‪ ،‬وغاصت بنظراتيا خمؼ عدساتو المكبرة ‪،‬‬
‫باحثة عف سر جديد‪..‬‬
‫ابنثؽ األمؿ في أعماقي كإشراقة شمس ‪ ،‬وىتؼ داخمي ألؼ صوت ينادييا باسميا الجميؿ ‪ ،‬وأفمت النداء مني ‪،‬‬
‫فتمقفو لساني‪..‬‬
‫ػ أحبلـ‪..‬‬
‫لكزني ىاني بكتفو منبيا‪:‬‬
‫ػ انتظر‪..‬‬
‫انتزعتيا نبرتنا العربية مف أعماؽ القطرة التي كانت غارقة في بحر أسرارىا الغامضة‪ ..‬رفعت إلينا نظرات مرىقة‬
‫أضناىا البحث والتنقيب‪..‬‬
‫وتأممتنا بنظرة استطبلع‪ ..‬انطفأ األمؿ في أعماقي فجأة‪ ..‬واجتاحتني خيبة مريرة‪ ..‬لـ تكف أحبلـ‪!..‬‬
‫سألتنا الطبيبة العالمة‪:‬‬
‫ػ أنتما عربياف؟‬
‫أجاب ىاني‪:‬‬
‫ػ نعـ ‪ ،‬طبيباف عربياف‪,,‬‬
‫ػ أىبل بكما ىؿ مف خدمة؟‬
‫قاؿ ىاني متمعثما وىو يشد عمى يدي مواسيا‪:‬‬
‫في الحقيقة‪ ..‬كؿ ما في األمر أف نبأ اكتشافؾ العظيـ قد ىزنا مف األعماؽ ‪ ،‬فجئنا‪ ..‬جئنا‪..‬‬
‫قمت في محاولة إلسعافو‪:‬‬
‫ػ جئنا لنقوؿ لؾ مبروؾ‪..‬‬
‫عمت الدىشة محياىا‪ ..‬ابتسمت في وقار وقالت‪:‬‬
‫ػ أليذا الحد ييزكما نبأ تفوؽ عربي؟‬
‫قاؿ ىاني‪:‬‬
‫ػ يحؽ لنا أف نيتز‪ ..‬فنحف لـ نتفوؽ في شيء ‪ ،‬منذ زمف بعيد‪..‬‬

‫**************‬

‫و ازرنا العـ درويش في المستشفى ذات يوـ‪ ..‬جاء يتكئ عمى عصاه ‪ ،‬وىو يحمؿ صرة في يده‪ ..‬قاؿ وىو يبش لنا‬
‫باسما‪:‬‬
‫ػ لقد جئتكـ بتمر الحجاز ‪ ،‬وماء زمزـ‪..‬‬
‫استقبمناه باألحضاف ‪ ،‬وأجمسناه في مقصفو القديـ ‪ ،‬الذي تخمى عنو بعدما زحفت إليو الشيخوخة ‪ ،‬ودب في‬
‫أوصالو المرض‪ ..‬وطمبنا لو فنجانا مف القيوة ‪ ،‬فجعؿ يحتسي القيوة رشفة رشفة ‪ ،‬ويتذوقيا مختب ار طعميا‬
‫ونكيتيا ‪ ،‬ثـ أخذ يدلي بمبلحظاتو عمى قيوة النادؿ الجديد نسبة إلى البف إلى الييؿ ‪ ،‬ونسبة الييؿ ‪ ،‬ونسبة القيوة‬
‫إلى السكر ‪ ،‬ونسبة المسحوؽ إلى الماء ‪ ،‬ومدة الغمياف ‪..‬باختصار أراد أف يذكرنا بقيوتو التي امتزجت بدمائنا ‪،‬‬
‫وعشعش طعميا في أفواىنا‪ ..‬قاؿ ىاني لمعـ درويش مداعبا ومجامبل‪:‬‬
‫ػ اهلل يرحـ أيامؾ يا عـ درويش ‪ ،‬كانت القيوة عمى زمانؾ قيوة!‪ ..‬ليتؾ تعود إلينا ‪ ،‬لتمتعنا بقيوتؾ الفريدة‪..‬‬
‫ػ اسكت يا دكتور ىاني‪ ..‬لوال لطؼ اهلل بي ‪ ،‬لكاف عمؾ درويش اآلف في عداد األموات‪..‬‬
‫ىمست مشفقا‪:‬‬
‫ػ خير يا عـ درويش ‪ ،‬ماذا حدث؟‬
‫أطرؽ العـ درويش برىة كالساىـ ‪ ،‬ثـ أنشأ يقوؿ‪:‬‬
‫ػ بينما كنت أنا وزوجتي نطوؼ في البيت العتيؽ ‪ ،‬نشب شجار بيف بعض الحجاج ‪ ،‬ولـ يمبث الشجار أف‬
‫اتسع!‪ ..‬ال تدري كيؼ امتد واتسع؟!‪ ..‬وساد ىرج شديد ‪ ،‬فاندفعت كتؿ البشر في كؿ اتجاه ‪ ،‬وكادت األقداـ‬
‫المذعورة تسحقنا ‪ ،‬لوال امرأة‪ ..‬امرأة ىرعت إلى مكبرات الصوت ‪ ،‬وصاحت بالمتشاجريف أف يرعوا ويكفوا‪..‬‬
‫قاطعت العـ درويش متسائبل‪:‬‬
‫ػ امرأة؟‪!..‬‬
‫قاؿ العـ درويش مؤكدا‪:‬‬
‫ػ أجؿ امرأة‪ ..‬امرأة عاقمة وحكيمة‪ ..‬وقفت بنا خطيبة ‪ ،‬وخاطبتنا بكممات قوية مؤثرة ال أنساىا ‪ ،‬قالت بصوت‬
‫ىادر مجمجؿ‪:‬‬
‫ػ ألجموا قبضاتكـ المكورة أييا الناس ‪ ،‬ووفروىا لعدوكـ الذي يتربص بكـ الدوائر ‪ ،‬ىذا البيت عنواف وحدتكـ ‪ ،‬فبل‬
‫تدنسوه بأحقادكـ ‪ ،‬لقد آف لكـ أف تفيموا أف الجيؿ والتخمؼ واألنانية الكريية ىي سر ذلكـ وىوانكـ‪ ..‬أفيقوا مف‬
‫ضياعكـ ‪ ،‬وعودوا إلى المبلييف النائمة في ببلدكـ فأيقظوىا ووحدوىا ‪ ،‬وال تقربوا البيت بعد اليوـ إال قمبا واحدا‬
‫وقبضة واحدة‪ ..‬قبضة شريفة تنتزع المجد مف براثف الميؿ ‪ ،‬لتتوج بو ىامة لوثناىا ومزقناىا بأيدينا‪..‬‬
‫لـ أنتظر‪ ..‬قاطعت العـ درويش ثانية رغما عني‪ ..‬ىمست بنبرة تترواح بيف اليأس والرجاء‪:‬‬
‫ػ لعميا أحبلـ‪!..‬‬
‫التفت العـ درويش ‪ ،‬وقد حرؾ ذكر الغائبة الغالية مدامعو ‪ ،‬قاؿ في عتاب رقيؽ‪:‬‬
‫ػ سامحؾ اهلل يا دكتور‪ ..‬وىؿ أنسى صوت أحبلـ؟‪!..‬‬

‫**************‬

‫ووجدت مف واجبي أف أطمئف عف والدة أحبلـ ‪ ،‬طرقت الباب ففتحت لي خادمة عجوز ‪ ،‬سألتيا عف سيدتيا ‪،‬‬
‫قالت إنيا في الداخؿ تؤدي الصبلة‪!..‬‬
‫سبحاف مقمب األحواؿ!‪ ..‬أمف سيدة صالونات صاخبة إلى ناسكة في المحراب؟‪!..‬‬
‫وشدني عبؽ المكاف‪ ..‬ىنا عاشت أحبلـ‪ ..‬رائحتيا الطيبة مزروعة في كؿ ذرة مف ذرات ىذا القصر ‪ ،‬وطيفيا‬
‫الوادع يتراءى لي أني التفت‪..‬‬
‫ليتني شاعر حتى أبكي ىذه األطبلؿ‪..‬‬
‫وجاءت أـ أحبلـ ترفؿ في ثيابيا البيضاء‪ ..‬ولسانيا يميج بالذكر والتسبيح ‪..‬قالت مرحبة‪:‬‬
‫ػ أىبل بؾ يا والدي‪ ..‬لقد اشتقنا إليؾ‪ ..‬لماذا ال تزورنا؟‪..‬‬
‫أطرقت في حياء‪ ..‬كاف يجب أف أتفقدىا بيف الحيف والحيف‪ ..‬وقمت معتذ ار‪:‬‬
‫ػ أنتـ في الباؿ دائما يا خالة‪..‬‬
‫ثـ أردفت مستدركا‪:‬‬
‫ػ تقبؿ اهلل‪..‬‬
‫اعترتيا كآبة ظاىرة ‪ ،‬واحتقنت مبلمحيا بالحسرة والندـ ‪ ،‬قالت وىي ساىمة تضع كفا عمى كؼ‪:‬‬
‫ػ ليتو يقبؿ‪ ..‬لقد جحدناه كثي ار‪..‬‬
‫وصمتت برىة وىي مطرقة ‪ ،‬ثـ رفعت إلي وجيا مخضبل بالدموع ‪ ،‬وسألت بنبرة تتوىج باألسى واليأس‪:‬‬
‫ػ أال توجد أخبار؟‬
‫وخزني سؤاليا ماذا أقوؿ لؾ أيتيا األـ المموعة؟‪ ..‬كبلنا في اليـ سياف‪..‬‬

‫**************‬

‫واتصمت بي أـ أحبلـ منذ أياـ‪ ..‬رجتني أف أمر بيا وأنا عائد مف المستشفى ‪..‬سألتيا إف كاف ىناؾ ما يدعو‬
‫لمقمؽ ‪ ،‬لكنيا طمأنتني إلى أف األمر ليس بعاجؿ ‪ ،‬وال بأس مف التريث في القدوـ ‪ ،‬لـ أصبر‪ ..‬ىرعت إلييا عمى‬
‫جناح السرعة‪..‬‬
‫ػ أماه‪ ..‬ماذا ىناؾ؟‪..‬‬
‫قادتني إلى غرفة في أعماؽ القصر ‪ ،‬قالت وىي تفتح الباب‪:‬‬
‫ػ ىذه غرفة أحبلـ‪..‬‬
‫أحسست بروحيا ترفرؼ في المكاف‪ ..‬فتحرؾ في أعماقي شوؽ يتمظى‪ ..‬وتدحرجت فوؽ وجيي دمعتاف ‪ ،‬طاؼ‬
‫الحزف والتأثر في عينييا ‪ ،‬وىي ترى دموعي ‪ ،‬قالت وىي تصارع أمواج البكاء المتبلطمة تحت مبلمحيا اليادئة‬
‫الكئيبة‪:‬‬
‫ػ إني أزور غرفتيا كؿ صباح‪ ..‬أناجي صورتيا الجميمة ‪ ،‬وأعانؽ أشياءىا‪ ..‬أبحث عف رائحتيا الطيبة في األثاث‬
‫والجدراف ‪ ،‬وأتأمؿ تمؾ الموحة العزيزة عمييا‪..‬‬
‫التفت إلى الخمؼ حيث أشارت والدة أحبلـ ‪ ،‬فطالعتني لوحة رائعة فجرت ينابيع الحزف والحسرة في نفسي‪ ..‬ىذا‬
‫ىو قاضي األطفاؿ ‪ ،‬وىو يقؼ عمى غيمة العدالة ‪ ،‬ويشير بإصبع االتياـ إلى الكبار الذي شوىوا أرواح الصغار‬
‫ولوثوىا ‪ ،‬لقد وعدتني أف ترسـ ىذا المشيد عندما حدثتيا عف الحمـ الغريب الذي رأيتو ليمة مجزرة باص‬
‫األطفاؿ!‪ ..‬ما أصدؽ ىذه الموحة وأقربيا إلى ما رأيتو في الحمـ ‪ ،‬لكأف روحينا كانتا معا في حمـ واحد‪!..‬‬
‫قالت والدة أحبلـ ‪ ،‬وىي تمسح إطار الموحة بأنامميا في رفؽ بالغ‪:‬‬
‫ػ لقد نالت ىذه الموحة إعجابا منقطع النظير ‪ ،‬فتيافت الجميور عمى شرائيا ‪ ،‬وقد دفع بيا أحد الزوار األجانب‬
‫مبمغا طائبل يفوؽ ثمف كؿ ما باعتو أحبلـ مف لوحات ‪ ،‬لكنيا اعتذرت لو ‪ ،‬وقالت ‪ :‬ىذه الموحة ذكرى ‪ ،‬وأنا ال‬
‫أبيع ذكرياتي‪..‬‬
‫خفؽ قمبي وأنا أصغي لوالدة أحبلـ‪ ..‬أحبلـ أيتيا الحبيبة الغائبة‪ ..‬كـ أنت وفية وعظيمة!‪ ..‬وأردفت والدة أحبلـ‪:‬‬
‫ػ كنت اليوـ قد أنزلت الموحة ألوؿ مرة ألرفع عنيا ما لحؽ بيا مف غبار ‪ ،‬فقرأت خمؼ الموحة عبارة غريبة أردت‬
‫أف أطمعؾ عمييا‪..‬‬
‫أثارتني ىذه المبلحظة‪ ..‬ماذا تركت أحبلـ مف آثار؟‪!..‬‬
‫تناولت الموحة في ليفة وقمبتيا ‪ ،‬فقرأت عمييا ىذه الكممات‪..‬‬
‫"ىذه الموحة ذكرى عزيزة لمرجؿ الوحيد الذي أحببتو في حياتي ‪ ،‬فإذا مت أو فارقت ىذا العالـ ‪ ،‬فادفعوا بيا إلى‬
‫الدكتور صبلح الحكيـ ‪ ،‬ألنو ىو الرساـ الحقيقي ليذه الموحة ‪ ،‬وىو مبدعيا األوؿ‪ ...‬أحبلـ‪.."..‬‬
‫تأممت كمماتيا بعينيف دامعتيف ‪ ،‬وقمب مكموـ‪ ..‬متى تعودي أيتيا الغالية ‪ ،‬وتمؤلي حياتنا باألفراح؟‬
‫قالت األـ في قمؽ ووجوـ‪:‬‬
‫ػ أال يوحي لؾ ىذا الكبلـ بشيء‪..‬‬
‫فيمت ما أرادتو األـ‪ ..‬ال يمكف أف تقدـ أحبلـ عمى االنتحار‪ ..‬امرأة تممؾ كؿ ىذا النبؿ ال يمكف أف تعتدي عمى‬
‫الحياة ‪ ،‬ولو كانت ىذه الحياة حياتيا التي تمور بيف جنبييا ‪ ،‬وقمت بنبرة مطمئنة‪:‬‬
‫ػ أبعدي عف بالؾ ىذه األفكار يا خالة‪ ..‬أحبلـ إنسانة تحب الحياة ‪ ،‬لكنيا ترفض األسموب الذي نحياىا بو‪ ..‬ليذا‬
‫غادرتنا‪ ..‬عندما نغير الطريقة التي نمارس بيا حياتنا ستعود إلينا أحبلـ‪ ..‬كوني واثقة مف أنيا ستعود‪..‬‬
‫الفصؿ األخير‬

‫أفقت مف ذكرياتي كمف يستيقظ مف سبات عميؽ‪!..‬‬


‫أيف أنا؟‬
‫كاف البحر ممتدا أمامي ببل نياية ‪ ،‬وكاف قرص الشمس يتوارى خمؼ األفؽ مؤذنا بالمغيب‪..‬‬
‫كيؼ وصمت إلى ىنا؟‬
‫وشعرت بالتعب واإلعياء يدب في أوصالي‪ ..‬لقد مضى عمي ساعات طويمة وأنا أمشي غارقا في الذكرى غافبل‬
‫عما حولي!‪ ..‬ألوؿ مرة أصدؽ بأف ىناؾ أشخاصا يمشوف أثناء النوـ!‪ ..‬جمست عمى صخرة قرب الشط ‪،‬‬
‫وأرسمت نظراتي إلى األفؽ األزرؽ المتوىج بألواف الغروب الحزينة ‪ ،‬ما الذي نكأ ذاكرتي حتى تداعت فييا كؿ‬
‫ىذه الخواطر؟‪ ..‬آه‪ ..‬تمؾ الفتاة التي ظننتيا أحبلـ‪ ..‬لشد ما تأتيني ىذه الحالة!‪ ..‬صرت أراىا في كؿ عيف حالمة‬
‫‪ ،‬وفي كؿ وجو جميؿ‪..‬‬
‫وانتبيت إلى كرة تتدحرج قربي عمى الرماؿ‪ ..‬ولـ تمبث أف أتت خمفيا طفمة صغيرة ‪ ،‬ألفتني الطفمة أبكي في‬
‫صمت ‪ ،‬فاقتربت مني وسألتني بصوت ناعـ كزقزقات عصفور‪:‬‬
‫ػ "عمو"‪ ..‬لماذا تبكي؟‬
‫واساني سؤاليا الرقيؽ ‪ ،‬حضنتيا بنظرة حانية ‪ ،‬وأجبت‪:‬‬
‫ػ أضناني الشوؽ يا صغيرتي‪ ..‬الشوؽ إلى صديقة قديمة‪..‬‬
‫اقتربت الطفمة أكثر ‪ ،‬وأخرجت مف جيبيا منديبل صغي ار ‪ ،‬وجففت بو دموعي‪!..‬‬
‫أمسكت بيدىا الغضة ‪ ،‬واحتضنتيا داخؿ راحتي ‪ ،‬ثـ سألتيا وأنا أرمقيا في دىشة واعجاب‪:‬‬
‫ػ لماذا فعمت ذلؾ؟‬
‫أجابت وىي تميؿ برأسيا في حياء‪:‬‬
‫ػ ال أحب البكاء‪..‬‬
‫مسحت برأسيا بود ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ أنت طفمة ذكية ولطيفة‪..‬‬
‫قالت بنبرة طفولية عذبة‪:‬‬
‫ػ أنت مثؿ "بابا"‪ ..‬كمما جمس وحده يبكي‪!..‬‬
‫آه يا صغيرتي‪ ..‬الكوف كمو يبكي‪ ..‬كيؼ نصنع عالما ببل أحزاف؟ وسألتيا باىتماـ وأنا أتأمؿ مبلمحيا البريئة‪:‬‬
‫ػ ماذا تفعميف عندما تشاىدينو يبكي؟‬
‫ابتسمت وقالت وىي ترنو إلي في حياء‪:‬‬
‫ػ أمسح لو دموعو ‪ ،‬أحضر لو كأس ماء‪..‬‬
‫طبعت عمى جبينيا قبمة ‪ ،‬وقمت‪:‬‬
‫ػ أحسنت أيتيا الطفمة الطيبة‪ ..‬ما اسمؾ؟‬
‫التقطت كرتيا بعيوف فرحة ‪ ،‬ثـ قالت وىي تنطمؽ في مرح‪:‬‬
‫ػ اسمي أحبلـ‪..‬‬

You might also like