Al Maraghi

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 236

‫]سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 130‬الى ‪[134‬‬

‫ِإ يِف ِخ ِة ِم‬ ‫يِف‬ ‫ِد‬ ‫ِف‬ ‫ِم ِة ِإ ِه ِإ‬


‫َو َمْن َيْر َغُب َعْن َّل ْبرا يَم َّال َمْن َس َه َنْف َس ُه َو َلَق اْص َطَف ْيناُه الُّد ْنيا َو َّنُه اآْل َر َل َن‬
‫الَّص اِحِلَني (‪ِ )130‬إْذ ق اَل َل ُه َر ُّب ُه َأْس ِلْم ق اَل َأْس َلْم ُت ِل َر ِّب اْلع اَلِم َني (‪َ )131‬و َو َّص ى هِب ا‬
‫ِإْب راِه يُم َبِني ِه َو َيْع ُق وُب يا َبَّيِن ِإَّن الَّل َه اْص َطفى َلُك ُم الِّديَن َفال ُمَتوُتَّن ِإَّال َو َأْنُتْم ُمْس ِلُم وَن (‬
‫‪َ )132‬أْم ُك ْنُتْم ُش َه داَء ِإْذ َح َض َر َيْع ُق وَب اْلَم ْو ُت ِإْذ ق اَل ِلَبِني ِه ما َتْع ُب ُد وَن ِم ْن َبْع ِد ي ق اُلوا‬
‫َنْع ُب ُد ِإَهلَك َو ِإلَه آباِئ َك ِإْب راِه يَم َو ِإمْس اِعيَل َو ِإْس حاَق ِإهلًا واِح دًا َو ْحَنُن َل ُه ُمْس ِلُم وَن (‪)133‬‬
‫ِتْلَك ُأَّم ٌة َقْد َخ َلْت هَل ا ما َك َس َبْت َو َلُك ْم ما َك َس ْبُتْم َو ال ُتْس َئُلوَن َعَّم ا كاُنوا َيْع َم ُلوَن (‪134‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫رغب يف الشيء ‪ :‬أحبه ‪ ،‬ورغب عنه كرهه ‪ ،‬وسفه نفسه ‪ :‬أذهّل ا واحتقرها ‪ ،‬واصطفيناه ‪:‬‬
‫أي اخرتناه وأصل االصطفاء أخذ صفوة الش يء وهى خالصه ‪ ،‬أسلم ‪ :‬أيأخلص ىل‬
‫العبادة ‪ ،‬والتوصية ‪ :‬إرشاد غريك إىل ما في ه خري وصالح له من ق ول أو فع ل على جهة‬
‫التفضل واإلحسان يف أمر ديىن أو دنيوى ‪ ،‬مسلمون ‪ :‬أي خملصون بالتوحيد ‪ ،‬والشهداء ‪:‬‬
‫واحدهم شهيد ‪ ،‬أي حاضر ‪ ،‬وحضور املوت ‪ :‬حضور أماراته وأسبابه وقرب اخلروج من‬
‫الدنيا ‪ ،‬واألمة ‪ :‬اجلماعة ‪ ،‬وخلت ‪ :‬مضت وذهبت‪ ،‬هلا ما كسبت ‪ :‬أي ما عملت ‪،‬‬
‫ولكم ما كسبتم ‪ :‬أي أنتم جمزيون بأعمالكم‪.‬‬
‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأمتهّن ‪ ،‬وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهريه‬
‫للعبادة ‪ ،‬فصدع مبا أمر ‪ ،‬أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم اليت كان يدعو إليها وهى‬
‫التوحيد وإسالم القلب لّل ه ‪ ،‬واإلخالص له يف العمل ‪ ،‬ال ينبغى التحول عنها ‪ ،‬وال يرضى‬
‫عاقل أن يرتكها ‪ ،‬إال إذا ذّل نفسه واحتقرها ‪ ،‬وهبا وصى يعقوب بنيه ‪ ،‬ووصى هبا من قبله‬
‫إبراهيم بنيه ‪ ،‬مث رّد على شبهة لليهود إذ قالوا للنىب صلى الّل ه عليه وسلم إن يعقوب كان‬
‫يهوديا ‪ ،‬وكذهبم مبقال لبنيه له حني موته ‪ :‬نعبد إهلك وإله آبائك اإلله الواحد‪.‬‬

‫وق د روى يف سبب نزول اآلية أن عبد الّل ه بن سالم دعا ابين أخي ه سلمة ومهاجرا إىل‬
‫اإلسالم ‪ ،‬قال هلما ‪ :‬قد علمتما أن الّل ه تعاىل قال يف التوراة ‪ :‬إين باعث من ولد إمساعيل‬
‫نبيا امسه أمحد ‪ ،‬من آمن به فقد اهتدى ‪ ،‬ومن مل يؤمن به فهو ملعون ‪ ،‬فأسلم سلمة وأيب‬
‫مهاجر‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو َمْن َيْر َغُب َعْن ِم َّلِة ِإْبراِه يَم ِإاَّل َمْن َس ِف َه َنْف َس ُه) أي إن مّلتكم هى مّل ة أبيكم إبراهيم الذي‬
‫إليه تنتسبون ‪ ،‬وبه تفخرون ‪ ،‬فكيف ترغبون عنها وحتتقرون عقولكم وتدعون أولياء من‬
‫دون الّله ال ميلكون لكم ضّر ا وال نفعا‪.‬‬
‫(َو َلَق ِد اْص َطَف ْيناُه يِف الُّد ْنيا َو ِإَّنُه يِف اآْل ِخ َر ِة َلِم َن الَّص اِحِلَني ) أي ولقد اجتبيناه من بني خلقنا ‪،‬‬
‫وجعلنا يف ذريته أئمة يهدون بأمرنا ‪ ،‬وجعلناه يف اآلخرة من املشهود هلم باخلري والصالح‬
‫وإرشاد الناس للعمل هبذه امللة‪.‬‬

‫وال شّك أن ملة هذا شأهنا ‪ ،‬وهبا كانت له املكانة عن د ربه ‪ ،‬ال يرغب عنها إال سفيه‬
‫يع رض عن التأمل يف ملكوت السموات واألرض ‪ ،‬ورؤية اآلث ار الكوني ة والنفسية الدالة‬
‫على وحدانية الّله تعاىل وعظيم قدرته‪.‬‬

‫ويف اآلية بشارة إلبراهيم بصالح حاله يف اآلخرة وعدة له بذلك‪.‬‬

‫(ِإْذ ق اَل َل ُه َر ُّب ُه َأْس ِلْم ) أي اصطفاه إذ دعاه إىل اإلسالم مبا أراه من اآليات ونصب له من‬
‫األدلة على وحدانيته ‪ ،‬فلىّب الدعوة‪.‬‬

‫(قاَل َأْس َلْم ُت ِلَر ِّب اْلع اَلِم َني ) أي قال أخلصت ديىن لّل ه الذي فطر اخللق مجيعا ‪ ،‬وحنو هذا‬
‫قوله ‪ِ( :‬إيِّن َو َّج ْهُت َو ْج ِه َي ِلَّلِذ ي َفَطَر الَّس ماواِت َو اَأْلْر َض َح ِنيفًا َو ما َأَنا ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني )‪.‬‬

‫وقد نشأ إبراهيم يف قوم عبدة أصنام وكواكب ‪ ،‬فأنار الّله بصريته ‪ ،‬وأهلمه احلق والصواب‪،‬‬
‫فأدرك أن للعامل رّبا واحدا يدبره ويتصرف يف شئونه وإليه مصريه ‪ ،‬وحاّج قومه يف ذلك‬
‫وهبرهم حبجته فقال ‪َ( :‬أحُت اُّج ويِّن يِف الَّل ِه َو َقْد َه داِن َو ال َأخاُف ما ُتْش ِر ُك وَن ِب ِه) إىل آخر‬
‫اآليات اليت جاءت يف سورة األنعام‪.‬‬
‫(َو َو َّص ى هِب ا ِإْب راِه يُم َبِني ِه َو َيْع ُق وُب يا َبَّيِن ِإَّن الَّل َه اْص َطفى َلُك ُم الِّديَن ) أي ووّص ى هبذه امللة‬
‫اليت ذكرت يف قوله ‪َ( :‬و َمْن َيْر َغُب َعْن ِم َّل ِة ِإْبراِه يَم ) إبراهيم أوالده ووّص ى هبا يعقوب من‬
‫بعده أوالده أيضا ‪ ،‬قائلني هلم ‪ :‬إن الّله اصطفى لكم دين اإلسالم الذي ال يتقبل الّله سواه‪.‬‬

‫(َفال ُمَتوُتَّن ِإاَّل َو َأْنُتْم ُمْس ِلُم وَن ) أي فح افظوا على اإلسالم لّل ه وال تفارقوه برهة واحدة ‪،‬‬
‫فرمبا تأتيكم مناياكم وأنتم على غري الدين الذي اصطفاه لكم ربكم‪.‬ويف هذا النهى إمياء إىل‬
‫أّن من كان منحرفا عن اجلاّدة ال ييأس ‪ ،‬بل عليه أن يبادر بالرجوع إىل الّل ه ويعتصم حببل‬
‫الدين ‪ ،‬خيفة أن ميوت وهو على غري هدى ‪ ،‬فاملرء مهّد د يف كل آن باملوت‪.‬‬

‫دق ات قلب املرء قائلة له إن احلي اة دق ائق وث وانىثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا ‪ ،‬وأق ام‬
‫احلجة على أهل الكتاب فوجه إليهم اخلطاب وقال ‪:‬‬

‫(َأْم ُك ْنُتْم ُش َه داَء ِإْذ َح َض َر َيْع ُق وَب اْلَم ْو ُت ) أي أ كنتم يا معشر اليهود والنصارى املكذبني‬
‫حممدا اجلاحدين نبّو ته ‪ -‬شهودا حني حضر يعقوب املوت ‪ ،‬فتّد عون أنه كان يهودّي ا أو‬
‫نصرانّيا ‪ ،‬فقد روى أن اليهود قالوا للنىب صلى الّل ه عليه وسلم ‪ :‬أ لست تعلم أن يعقوب‬
‫أوصى بنيه باليهودية ؟‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬أنتم مل حتضروا ذلك فال تّد عوا علي ه األباطي ل وتنسبوه إىل اليهودية أو‬
‫النصرانية ‪ ،‬فإين ما أرسلت إبراهيم وبنيه إال باحلنيفية املسلمة ‪ ،‬وهبا وّص وا بنيهم وعهدوا‬
‫إىل أوالدهم من بعدهم‪.‬‬
‫(ِإْذ قاَل ِلَبِني ِه ما َتْع ُب ُد وَن ِم ْن َبْع ِد ي) أي أ كنتم شهداء حني قال لبنيه ‪ :‬أّى معبود تعبدون‬
‫من بعدي ؟ ومراده من هذا السؤال أخذ امليثاق عليهم بثباهتم على اإلسالم والتوحيد ‪ ،‬وأن‬
‫يكون مقصدهم يف مجيع أعماهلم وجه الّله ومرضاته ‪ ،‬وإبعادهم عن عبادة األصنام واألوثان‬
‫‪ ،‬كما قال يف دعائه ‪َ( :‬و اْج ُنْبيِن َو َبَّيِن َأْن َنْع ُبَد اَأْلْص ناَم)‪.‬‬

‫(قاُلوا َنْع ُب ُد ِإَهلَك َو ِإلَه آباِئَك ِإْب راِه يَم َو ِإمْس اِعيَل َو ِإْس حاَق ِإهلًا واِح دًا َو ْحَنُن َل ُه ُمْس ِلُم وَن ) أي‬
‫قالوا ‪ :‬نعبد اإلله الذي قامت األدلة العقلية واحلسية على وجوده ووجوب عبادته ال نشرك‬
‫به سواه ‪ ،‬وحنن له منقادون خاضعون معرتفون له بالعبودية متوجهون إليه عند امللّم ات ‪،‬‬
‫وقد كانوا يف عصر فشت فيه عبادة األصنام والكواكب ‪ ،‬واحليوان وغريها‪.‬‬

‫وجعلوا إمساعيل (وهو عمه) أبا تشبيها له باألب ‪،‬‬

‫وقدروىالشيخانقوهلعليهالسالم « عمالرجلصنوأبيه » ‪.‬‬

‫وق د أرشدت اآلية الكرمية إىل أن دين الّل ه واحد يف كل أمة ‪ ،‬وعلى لسان كّل نّىب ‪،‬‬
‫وروحه التوحيد واالستسالم لّله ‪ ،‬واإلذعان هلدى األنبياء ‪ ،‬وهبذا كان يوصى النبيون أممهم‬
‫كما قال ‪َ( :‬ش َلُك ِم الِّديِن ما َّص ى ِب ِه ُنوحًا ‪ ،‬اَّل ِذ ي َأ نا ِإَل َك ما َّص نا ِب ِه‬
‫ْو َح ْي ْي َو َو ْي‬ ‫َو‬ ‫َو‬ ‫َر َع ْم َن‬
‫ِإْبراِه يَم َو ُموسى َو ِعيسى َأْن َأِقيُم وا الِّديَن َو ال َتَتَفَّرُقوا ِفيِه)‪.‬‬

‫فالقرآن حيّث الناس على االتفاق يف الدين الذي أساسه أمران ‪ :‬أوهلما التوحيد والرباءة من‬
‫الشرك بأنواعه ‪ ،‬وثانيهما االستسالم لّل ه واخلضوع له يف مجيع األعمال ‪ ،‬فمن مل يتصف‬
‫بذلك فليس باملسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه األنبياء‪.‬‬
‫والناس يطلقون اإلسالم اليوم لقبا على طوائف من الناس هلم ميزات دينية ‪ ،‬وعادات متيزهم‬
‫من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى ‪ ،‬وقد يكون من بعض أهله من مل يكن‬
‫مستسلما خملصا لّل ه يف أعماله ‪ ،‬بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه ‪ ،‬أو فاسقا عنه قد اختذ‬
‫إهله هواه‪.‬‬

‫واإلسالم الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النيب صلى الّل ه عليه وسلم ومل يدع إىل‬
‫اإلسالم مبعىن ذلك اللقب املعروف اليوم‪.‬‬

‫(ِتْلَك ُأَّم ٌة َقْد َخ َلْت هَل ا ما َك َس َبْت َو َلُك ْم ما َك َس ْبُتْم َو ال ُتْس َئُلوَن َعَّم ا كاُنوا َيْع َم ُلوَن ) أي إن‬
‫سنة الّله يف عباده أال جيزى أحد إال بكسبه وعمله ‪ ،‬وال يسأل إال عن كسبه وعمله كما‬
‫ِإ ِه َّلِذ‬ ‫ِف‬ ‫مِب‬
‫جاء يف قوله ‪َ( :‬أْم ْمَل ُيَنَّبْأ ا يِف ُصُح ُموسى َو ْبرا يَم ا ي َو ىَّف ‪َ ،‬أاَّل َتِز ُر واِز َر ٌة ِو ْز َر‬
‫ُأْخ رى ‪َ ،‬و َأْن َلْيَس ِلِإْل ْنساِن ِإاَّل ما َس عى )‬
‫وجاء يف احلديث ‪ « :‬يا بىن هاشم ‪ ،‬ال يأتيىن الناس بأعماهلم وتأتوىن بأنسابكم » ‪.‬‬

‫وقال الغزايل ‪ :‬إذا كان اجلائع يشبع إذا أكل والده دونه ‪ ،‬والظمآن يروى بشرب والده وإن‬
‫مل يش رب ‪ ،‬فالعاصى ينج و بصالح والده‪.‬ومن هذا تعلم أن من خياطب أصحاب القبور‬
‫حني االستغاثة هبم بنح و قوله ‪(:‬احملسوب منسوب) فقد ض ّل ض الال بعي دا ‪ ،‬وخالف ما‬
‫تظاهر من نصوص الدين اليت تدّل على خالف ما يقول ‪:‬‬

‫[سورة آل عمران (‪ : )3‬اآليات ‪ 64‬الى ‪]68‬‬

‫ُقْل يا َأْه َل اْلِكتاِب َتع اَلْو ا ِإىل َك ِلَم ٍة َس واٍء َبْيَننا َو َبْيَنُك ْم َأَّال َنْع ُبَد ِإَّال الَّل َه َو ال ُنْش ِر َك ِبِه َش ْيئًا‬
‫َو ال َيَّتِخ َذ َبْع ُض نا َبْع ضًا َأْر بابًا ِم ْن ُدوِن الَّل ِه َفِإْن َتَو َّلْو ا َفُقوُلوا اْش َه ُد وا ِبَأَّنا ُمْس ِلُم وَن (‪ )64‬يا‬
‫َأْه َل اْلِكتاِب َمِل َحُتاُّج وَن يِف ِإْب راِه يَم َو ما ُأْن ِز َلِت الَّتْو راُة َو اِإْل ِجْن ي ُل ِإَّال ِم ْن َبْع ِدِه َأَفال َتْع ِق ُل وَن (‬
‫ِه ِع‬ ‫ِف‬ ‫ِه ِع ِل‬ ‫ِف‬ ‫ِء‬
‫‪ )65‬ها َأْنُتْم هُؤ ال حاَج ْج ُتْم يما َلُك ْم ِب ْلٌم َف َم َحُتاُّج وَن يما َلْيَس َلُك ْم ِب ْلٌم َو الَّل ُه‬
‫َيْع َلُم َو َأْنُتْم ال َتْع َلُم وَن (‪ )66‬ما كاَن ِإْبراِه يُم َيُه وِدًّيا َو ال َنْص راِنًّيا َو لِكْن كاَن َح ِنيفًا ُمْس ِلمًا‬
‫َو ما كاَن ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني (‪ِ )67‬إَّن َأْو ىَل الَّناِس ِبِإْبراِه يَم َلَّلِذ يَن اَّتَبُعوُه َو هَذ ا الَّنُّيِب َو اَّلِذ يَن آَم ُن وا‬
‫َو الَّلُه َو ُّيِل اْلُم ْؤ ِمِنَني (‪)68‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫أهل الكتاب ‪ :‬هم اليهود والنصارى ‪ ،‬تعالوا ‪ :‬أي أقبلوا ووجهوا النظر إىل ما دعيتم إليه ‪،‬‬
‫وسواء ‪ :‬أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض ‪ ،‬واإلله ‪ :‬هو املعبود الذي يدعى حني‬
‫الشدائد ‪ ،‬ويقصد عند احلاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية ‪ ،‬والرّب ‪ :‬هو السيد‬
‫املرىب الذي يطاع فيما يأمر وينهى ‪ ،‬ويراد به هن ا ماله حق التش ريع من حترمي وحتلي ل ‪،‬‬
‫مسلمون ‪ :‬أي منقادون لّله خملصون له ‪ ،‬حتاجون ‪ :‬أي جتادلون ‪ ،‬واحلنيف ‪:‬‬

‫املائل عن العقائد الزائفة ‪ ،‬واملسلم ‪ :‬هو املوحد املخلص املطيع له‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن بني سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السالم وما يعتوره من األطوار املنافية‬
‫لأللوهية ‪ ،‬مث ذكر دعوته صلى الّل ه عليه وسلم الناس إىل التوحيد واإلسالم ‪ ،‬وظهور عناد‬
‫أهل الكتاب حىت اض طر إىل دعوهتم إىل املباهلة فأعرض وا ‪ ،‬وبذلك انقطعت حججهم ‪،‬‬
‫ودل ذلك على أهنم ليسوا على يقني من اعتقاد ألوهي ة املسيح ‪ ،‬ومن يفقد اليقني يتزلزل‬
‫حينما يدعى إىل شىء مما خياف عاقبته‪.‬دعاهم هن ا إىل أمر آخر هو أصل الدين وروحه‬
‫الذي اتفقت عليه دعوة األنبياء مجيعا وهو سواء وعدل بني الفريقني ال يرجح فيه طرف‬
‫على ط رف ‪ ،‬وهو عبادة الّل ه وحده ال شريك له ‪ ،‬فلما أعرض وا أمر بأن يقول هلم ‪:‬‬
‫اشهدوا بأنا مسلمون‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ُق ْل يا َأْه َل اْلِكتاِب َتع اَلْو ا ِإىل َك ِلَم ٍة َس واٍء َبْيَننا َو َبْيَنُك ْم ) أي قل ‪ :‬يا أهل الكتاب هلّم وا‬
‫وانظ روا يف مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب اليت أنزلت إليهم ‪ ،‬فقد أمرت هبا‬
‫التوراة واإلجنيل والقرآن‪.‬‬

‫مث بني هذه الكلمة فقال ‪:‬‬

‫(َأاَّل َنْع ُب َد ِإاَّل الَّل َه َو ال ُنْش ِر َك ِب ِه َش ْيئًا ‪َ ،‬و ال َيَّتِخ َذ َبْع ُض نا َبْع ضًا َأْر بابًا ِم ْن ُدوِن الَّل ِه) أي أال‬
‫خنضع إال إلله له السلطة املطلقة يف التشريع وله التحليل والتحرمي ‪ ،‬وال نشرك به شيئا سواه‬
‫‪ ،‬وال يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الّله‪.‬‬

‫وقد حوت هذه اآلية وحدانية األلوهية يف قوله ‪ -‬أال نعبد إال الّل ه ‪ -‬ووحدانية الربوبية يف‬
‫قوله ‪ -‬وال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الّله ‪. -‬‬
‫وهذا القدر متفق عليه يف مجيع األديان ‪ ،‬فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ‪ ،‬وجاء به موسى ‪،‬‬
‫فقد ورد يف التوراة قول الّل ه له (إن الرّب إهلك ‪ ،‬ال يكن لك آهلة أخرى أمامى ‪ ،‬ال تصنع‬
‫لك متثاال منحوتا ‪ ،‬وال صورة ما مما يف السماء من فوق ‪ ،‬ومماىف األرض من حتت ‪ ،‬وما يف‬
‫املاء من حتت األرض ‪ ،‬ال تسجد هلّن وال تعبدهّن ) وكذلك ج اء عيسى مبث ل هذا ‪ ،‬ففى‬
‫إجني ل يوحن ا (وهذه هى احلي اة األبدية أن يعرفوك أنت اإلله احلقيقي وحدك ‪ ،‬ويسوع‬

‫املسيح الذي أرسلته) وجاء خامت النبيني حممد صلى الّل ه عليه وسلم مبثل هذا « الَّل ُه ال ِإلَه‬
‫ِإاَّل ُه َو اَحْلُّي اْلَق ُّيوُم ال َتْأُخ ُذ ُه ِس َنٌة َو ال َنْو ٌم » ‪.‬‬

‫وخالصة املعىن ‪ -‬أنا وأنتم نعتقد أن العامل من صنع إله واحد هو خالقه واملدبر له ‪ ،‬وهو‬
‫الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما ال يرضيه فهلّم بنا نتفق على‬
‫إقامة هذه األصول ‪ ،‬ونرفض الشبهات اليت تعرض هلا ‪ ،‬فإذا جاءكم عن املسيح شىء فيه‬
‫(ابن لّل ه) أّو لن اه على وج ه ال خيالف األصل الذي اتفق علي ه األنبي اء ‪ ،‬ألنن ا ال جند املسيح‬
‫فسر هذا القول بأنه إله يعبد ‪ ،‬وال دعا إىل عبادته وعبادة أمه ‪ ،‬بل كان يدعو إىل عبادة الّل ه‬
‫وحده واإلخالص له‪.‬‬

‫وقد كان اليهود موحدين ‪ ،‬ولكن كان منبع شقوهتم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون‬
‫من األحكام ‪ ،‬وجعله مبنزلة األحكام املنزلة من عن د الّل ه ‪ ،‬وسار النصارى على هذا‬
‫املنوال ‪ ،‬وزادوا مسألة غفران اخلطايا ‪ ،‬وهى مسألة كان هلا أثر خطري ىف اجملتمع املسيحي‬
‫حىت بلغ من أمرها أن ابتلعت الكن ائس أكثر أموال الن اس ‪ ،‬فقامت طائفة جديدة تطلب‬
‫اإلصالح وهى فرق ة (الرب وتستانت) وق الت دعونا من هؤالء األرباب وخذوا الدين من‬
‫الكتاب وال تشركوا معه شيئا سواه من قول فالن وفالن‪.‬‬

‫روى عدى بن حامت قال ‪ « :‬أتيت رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم ويف عنقى صليب من‬
‫ذهب ‪ ،‬فقال يا عدّي اط رح عن ك هذا الوثن ‪ ،‬ومسعته يقرأ يف سورة براءة« اَخَّتُذ وا‬
‫َأْح باَر ُه ْم َو ُر ْه باَنُه ْم َأْر بابًا ِم ْن ُدوِن الَّل ِه » فقلت له ‪ :‬يا رسول الّل ه مل يكونوا يعبدوهنم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬أما كانوا حيللون لكم وحيّر مون ‪ ،‬فتأخذون بأقواهلم ؟ قال نعم ‪ ،‬فقال عليه السالم ‪:‬‬
‫هو ذاك » ‪.‬‬

‫(َف ِإْن َتَو َّل ْو ا َفُقوُل وا اْش َه ُد وا ِبَأَّن ا ُمْس ِلُم وَن ) أي فإن أعرض وا عن هذه الدعوة وأبوا إال أن‬
‫يعبدوا غري الّله ‪ ،‬واختذوا الشركاء والوسطاء واألرباب الذين حيللون وحيّر مون ‪ ،‬فقولوا هلم‬
‫إنا منقادون لّل ه خملصون له ال نعبد أحدا سواه ‪ ،‬وال نتوجه إىل غريه نطلب منه النفع أو‬
‫دفع الضر ‪ ،‬وال حنّل إال ما أحله الّله ‪ ،‬وال حنّر م إال ما حرمه الّله‪.‬‬

‫ويف هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحرمي والتحليل ال يؤخذ فيها إال بقول‬
‫الن يب املعصوم ال بقول إمام جمتهد وال فقي ه ق دير ‪ ،‬وإال كان ذلك إشراكا ىف الربوبي ة ‪،‬‬
‫وخروجا من هداية القرآن اليت دل عليها مثل قوله « َأْم ُهَلْم ُش َر كاُء َش َر ُعوا ُهَلْم ِم َن الِّديِن ما‬
‫ِذ‬ ‫ِل ِص ِس‬ ‫ِه‬
‫ْمَل َيْأَذْن ِب الَّل ُه » وقوله « َو ال َتُقوُل وا ما َت ُف َأْل َنُتُك ُم اْلَك َب هذا َح الٌل َو هذا َح راٌم‬
‫»‪.‬‬
‫أما املسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فّو ض الّل ه أمرها إىل أوىل احلل والعقد وهم‬
‫رجال الشورى ‪ ،‬فما أمروا به وجب على حكام املسلمني أن ينفذوه ويعملوا به ‪ ،‬وعلى‬
‫الرعية أن يقبلوه‪.‬‬

‫وهذه اآلية هى األساس واألصل الذي دعا الن يب صلى الّل ه علي ه وسلم أهل الكتاب إىل‬
‫العمل به حني دعاهم إىل اإلسالم كما ثبت ذلك يف كتبه إىل هرقل واملقوقس وغريمها‪.‬‬

‫أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضى الّل ه عنهما قال ‪ « :‬اجتمعت نصارى‬
‫جنران وأحبار يهود عند رسول الّله صلى الّل ه عليه وسلم فتنازعوا عنده ‪ ،‬فقالت األحبار ‪:‬‬
‫ما كان إبراهيم إال يهوديا ‪ ،‬وقالت النصارى ‪ :‬ما كان إبراهيم إال نصرانيا ‪ ،‬فأنزل الّل ه (يا‬
‫َأْه َل اْلِكتاِب َمِل َحُتاُّج وَن يِف ِإْبراِه يَم ) اآلية » ‪.‬‬

‫(يا َأْه َل اْلِكتاِب َمِل َحُتاُّج وَن يِف ِإْبراِه يَم ) أي أيها اليهود والنصارى ‪ :‬مل تتنازعون وتتجادلون‬
‫يف إبراهيم ويّد عى كل منكم أنه على دينه ؟ ‪.‬‬

‫(و ق د كان إبراهيم موض ع إجالل الفريقني ملا يف كتبهم من الثن اء علي ه يف العهد الع تيق‬
‫والعهد اجلديد كما كانت قريش جتّله وتّد عى أهنا على دينه)‪.‬‬

‫وهو مل يكن على شىء من تقاليدكم ‪ ،‬بل كان على اإلسالم الذي يدعو إليه حممد صلى‬
‫الّله عليه وسلم ‪ ،‬وإىل هذا أشار بقوله ‪:‬‬

‫(َو ما ُأْن ِز َلِت الَّتْو راُة َو اِإْل ِجْن ي ُل ِإاَّل ِم ْن َبْع ِدِه َأَفال َتْع ِق ُل وَن ؟ ) أي وما أنزلت التوراة على‬
‫موسى ‪ ،‬وال اإلجنيل على عيسى إال من بعد إبراهيم بأحقاب طوال ‪ ،‬وقد قالوا ‪ :‬إن بني‬
‫إبراهيم وموسى سبعمائة سنة ‪ ،‬وبني موسى وعيسى حواىل ألف سنة‪ .‬أفال تعقلون أن‬
‫املتقدم على الشيء ال ميكن أن يكون تابعا له ؟ ‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬أنه إذا كان الدين احلق ال يعدو التوراة كما يقول اليهود ‪ ،‬وال يتجاوز‬
‫اإلجنيل كما يقول النصارى ‪ ،‬فكيف كان إبراهيم على احلق ‪ ،‬واستوجب ثناءكم وثناء من‬
‫قبلكم ‪ ،‬والتوراة واإلجني ل خلو من اإلخبار بيهوديته ونصرانيته اللتني زعمتموها أليس‬
‫عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى ‪ ،‬ويربأ بكم أن تقولوا ما ال سند له من كتاب‬
‫وال دليل عليه ؟ ‪.‬‬

‫ويف هذا إمياء إىل جهلهم ومحاقتهم يف دعواهم هذه‪.‬‬

‫(ها َأْنُتْم هُؤ الِء حاَج ْج ُتْم ِفيما َلُك ْم ِبِه ِعْلٌم) من أمر عيسى عليه السالم ‪ ،‬وقد ق امت عليكم‬

‫احلج ة ‪ ،‬وتبني أن منكم من غال وأفرط وادعى ألوهيته ‪ ،‬ومنكم من فّر ط وق ال إنه دعّى‬
‫كذاب ‪ ،‬ومل يكن علمكم مبانع لكم من اخلطأ‪.‬‬

‫(َفِلَم َحُتاُّج وَن ِفيما َلْيَس َلُك ْم ِبِه ِعْلٌم ؟ ) من أمر إبراهيم إذ ال ذكر لدينه يف كتبكم فمن أين‬
‫أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانّيا ‪ ،‬أليس من املعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الّل ه إىل رسوله‬
‫حممد صلى الّله عليه وسلم ؟ ‪.‬‬

‫(َو الَّل ُه َيْع َلُم َو َأْنُتْم ال َتْع َلُم وَن ) أي والّل ه يعلم ما غاب عنكم ومل تشاهدوه ‪ ،‬ومل تأتكم به‬
‫الرسل من أمر إبراهيم وغريه مما جتادلون في ه ‪ ،‬وأنتم ال تعلمون من ذلك إال ما عاينتم‬
‫وشاهدمت ‪ ،‬أو أدركتم علمه بالسماع‪.‬‬
‫مث صّر ح مبا فهم من قبل تلوحيا فقال ‪:‬‬

‫(ما كاَن ِإْب راِه يُم َيُه وِد ًّي ا َو ال َنْص راِنًّيا َو لِكْن كاَن َح ِنيفًا ُمْس ِلمًا) أي إن اليهودوالنصارى‬
‫الذين ج ادلوا يف إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم ‪ -‬كاذبون يف دعواهم وأن الصادق‬
‫فيها هم أهل اإلسالم ‪ ،‬فإهنم وحدهم أهل دين ه وعلى منهاج ه وشريعته دون سائر امللل‬
‫األخرى ‪ ،‬إذ هو مطي ع لّل ه ‪ ،‬مقيم على حمج ة اهلدى اليت أمر بلزومها ‪ ،‬خاشع له بقلب‬
‫متذلل ‪ ،‬مذعن ملا فرضه عليه وألزمه به‪.‬‬

‫(َو ما كاَن ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني ) الذين يسمون أنفسهم احلنفاء ويّد عون أهنم على ملة إبراهيم ‪،‬‬
‫وهم قريش ومن سار على هنجهم من العرب‪.‬‬

‫وصفوة القول ‪ -‬إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى واملشركون على إجالله وتعظيمه‬
‫‪ -‬مل يكن على ملة أحد منهم ‪ ،‬بل كان مائال عما هم علي ه من الوثني ة ‪ ،‬مسلما لّل ه ‪،‬‬
‫خملصا له‪.‬‬

‫مث أكد ما سلف بقوله ‪:‬‬

‫(ِإَّن َأْو ىَل الَّناِس ِبِإْبراِه يَم َلَّل ِذ يَن اَّتَبُع وُه َو هَذ ا الَّنُّيِب َو اَّل ِذ يَن آَم ُن وا) مع ه ‪ :‬أي إن أحق الن اس‬
‫بإبراهيم ونصرته وواليته ‪ -‬هم الذين سلكوا طريقه ومنهاج ه يف عصره فوحدوا الّل ه‬
‫خملصني له الدين ‪ ،‬وكانوا حنفاء مسلمني غري مشركني ‪ ،‬وهذا النيب حممد صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم والذين آمن وا مع ه ‪ ،‬فإهنم أهل التوحي د الذي ال يش وبه اختاذ األولي اء وال التوسل‬
‫بالشفعاء ‪ ،‬املخلصون لّله يف أعماهلم دون شرك وال رياء‪.‬‬
‫وهذا هو روح اإلسالم واملقصود من اإلميان ‪ ،‬ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله‪.‬‬

‫مث ذكر أهنم مع نصرهتم إلبراهيم فالّله ناصرهم فقال ‪:‬‬

‫(َو الَّل ُه َو ُّيِل اْلُم ْؤ ِمِنَني ) بالنصرة والتأيي د ‪ ،‬والتوفي ق والتسديد فهو يتوىل أمورهم ويصلح‬
‫شئوهنم ‪ ،‬ويثيبهم حبسب تأثري اإلسالم يف قلوهبم ‪ ،‬وحيازيهم باحلسىن وزيادة‪.‬‬

‫معنى اإلسالم‬

‫[سورة النساء (‪ : )4‬اآليات ‪ 123‬الى ‪]126‬‬

‫َلْيَس ِبَأماِنِّيُك ْم َو ال َأماِّيِن َأْه ِل اْلِكتاِب َمْن َيْع َم ْل ُس وءًا ْجُيَز ِب ِه َو ال ِجَي ْد َل ُه ِم ْن ُدوِن الَّل ِه َو ِلًّي ا‬
‫َو ال َنِص ريًا (‪َ )123‬و َمْن َيْع َمْل ِم َن الَّص احِل اِت ِم ْن َذَك ٍر َأْو ُأْن ثى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن َفُأولِئ َك َيْد ُخ ُلوَن‬
‫اَجْلَّنَة َو ال ُيْظَلُم وَن َنِق ريًا (‪َ)124‬و َمْن َأْح َس ُن ِدين ًا َّمِمْن َأْس َلَم َو ْجَه ُه ِلَّل ِه َو ُه َو ْحُمِس ٌن َو اَّتَبَع ِم َّل َة‬
‫ِإْبراِه يَم َح ِنيفًا َو اَخَّتَذ الَّلُه ِإْبراِه يَم َخ ِليًال (‪َ )125‬و ِلَّل ِه ما يِف الَّس ماواِت َو ما يِف اَأْلْر ِض َو كاَن‬
‫الَّلُه ِبُك ِّل َش ْي ٍء ِحُم يطًا (‪)126‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫األماىن ‪ ،‬واحدها أمني ة ‪ :‬وهى الصورة اليت حتصل ىف النفس ‪ ،‬من متىن الش يء وتقديره ‪،‬‬
‫وكثريا ما يطلق التمين على ما ال حقيقة له ‪ ،‬ومن مث يعربون به عن الكذب كما قال عثمان‬
‫رضي الّله عنه ‪ :‬ما تعّنيت وال متّنيت منذ أسلمت‪ .‬وليا ‪ :‬أي يلى أمره ويدفع العقاب عن ه ‪،‬‬
‫وال نصريا ‪ :‬أي ينصره وينقذه مما حيل به ‪ ،‬والنقري والنقرة ‪ :‬النكتة اليت تكون ىف ظهر النواة‬
‫‪ ،‬وهبا يضرب املث ل ىف القلة ‪ ،‬احلنيف ‪ :‬املائل عن الزيغ والضالل ‪ ،‬واخللي ل ‪:‬احملب ملن‬
‫حيبه ‪ ،‬من اخللة (بالضم) وهى املودة واحملبة اليت تتخلل النفس ومتازجها قال شاعرهم ‪:‬قد‬
‫ختلّلت مسلك الروح مىن وبذا مسى اخلليل خليال حميطا ‪ :‬أي عاملا باألشياء قادرا عليها‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن بني سبحانه ىف اآليات السالفة أن الشيطان يعدهم ومينيهم ‪ ،‬ويدخل ىف تلك األماىن‬
‫ما كان ميّني ه أهل الكتاب من الغ رور بدينهم ‪ ،‬إذ كانوا يرون أهنم شعب الّل ه اخلاص ‪،‬‬
‫ويقولون ‪ :‬إهنم أبناء الّله وأحباؤه ‪ ،‬وأن النار لن متسهم إال أياما معدودات ‪ ،‬وقد سرى هلم‬
‫هذا الغرور من اتكاهلم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غريهم من البشر مبن بعث‬
‫فيهم من األنبياء ‪ ،‬فهم يدخلون اجلنة بكرامتهم ال بأعماهلم‪.‬‬

‫حّذ رنا ىف هذه اآليات الكرميات أن نكون مثلهم ‪ ،‬وكانت هذه األماىن ق د دّبت إىل‬
‫املسلمني ىف عصر النيب صلى الّله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله « َأْمَل َيْأِن ِلَّل ِذ يَن آَم ُنوا‬
‫َأْن ْخَتَش َع ُقُلوُبُه ْم ِلِذ ْك ِر الَّل ِه َو ما َنَز َل ِم َن اَحْلِّق َو ال َيُك وُنوا َك اَّلِذ يَن ُأوُتوا اْلِكتاَب ِم ْن َقْب ُل »‬
‫اآلية ‪ ،‬فلضعفاء اإلميان من املسلمني ىف الصدر األول وألمث اهلم ىف كل زمان أنزلت هذه‬
‫املوعظة ‪ ،‬ولو تدبروها ملا كان هلذه األماىن عليهم من سلطان‪.‬‬

‫أخرج ابن أىب شيبة عن احلسن موقوفا‪ « .‬ليس اإلميان بالتمين ولكن ما وق ر ىف القلب‬
‫وصّد قه العمل »‪ .‬وق ال احلسن ‪ :‬إن قوما غّر هتم املغفرة فخرج وا من الدنيا وهم مملوءون‬
‫بالذنوب ‪ ،‬ولو صدقوا ألحسنوا العمل‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير وابن أىب حامت عن السّد ى ق ال « التقى ناس من املسلمني واليهود‬
‫والنصارى فقال اليهود للمسلمني ‪ :‬حنن خري منكم ‪ ،‬ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم‬
‫ونبين ا قبل نبيكم وحنن على دين إبراهيم ولن يدخل اجلن ة إال من كان هودا‪ .‬وق الت‬
‫النصارى مثل ذلك ‪ ،‬فقال املسلمون ‪ :‬كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم ‪ ،‬وقد أمرمت أن‬
‫تتبعونا وترتكوا أمركم ‪ ،‬فنحن خري منكم ‪ ،‬حنن على دين إبراهيم وإمساعيل وإسحاقولن‬
‫يدخل اجلنة إال من كان على ديننا ‪ ،‬فأنزل الّل ه ليس بأمانيكم إخل اآلية » فأفلج الّل ه حجة‬
‫املسلمني على من ناوأهم من أهل األديان األخرى‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َلْيَس ِبَأماِنِّيُك ْم َو ال َأماِّيِن َأْه ِل اْلِكتاِب ) أي ليس فضل الدين وشرفه وال جناة أهله به أن‬
‫يقول القائل منهم ‪ :‬إن ديىن أفضل وأكمل ‪ ،‬بل عليه أن يعمل مبا يهديه إليه ‪ ،‬فإن اجلزاء‬
‫إمنا يكون على العمل ‪ ،‬ال على التمين والغ رور ‪ :‬فليس أمر جناتكم وال أمر جناة أهل‬
‫الكتاب منوطا باألماىن ىف الدين ‪ ،‬فاألديان مل تشرع للتفاخر والتباهي ‪ ،‬وال حتصل فائدهتا‬
‫باالنتساب إليها دون العمل هبا‪.‬‬

‫مث أكد ذلك وبّينه بقوله ‪:‬‬

‫(َمْن َيْع َمْل ُس وءًا ْجُيَز ِبِه) أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه ‪ ،‬ألن اجلزاء حبسب سننه تعاىل‬
‫أثر طبيعى للعمل ‪ ،‬ال يتخلف ىف اتباع بعض األنبياء وينزل بغريهم كما يتوهم أصحاب‬
‫األماىن والظن ون ‪ ،‬فعلى الصادق ىف دين ه أن حياسب نفسه على العمل مبا هداه إلي ه كتابه‬
‫ورسوله ‪ ،‬وجيعل ذلك املعيار ىف سعادته ‪ ،‬ال أن جيعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل ‪ ،‬وال‬
‫أن ذلك الرسول أفضل‪.‬‬

‫و قد روى « أنه ملا نزل قوله (َمْن َيْع َم ْل ُس وءًا ْجُيَز ِب ِه) راع ذلك أبا بكر وأخافه ‪ ،‬فسأل‬
‫النيب صلى الّله عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬من ينج مع هذا يا رسول الّل ه ؟ فقال له النيب صلى الّل ه‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أما حتزن ‪ ،‬أما مترض ‪ ،‬أما يصيبك البالء ؟ قال بلى يا رسول الّله قال هو ذاك‬
‫»‪.‬‬

‫وأخرج مسلم وغريه عن أىب هريرة ق ال ‪ :‬ملا نزلت هذه اآلية شق ذلك على املسلمني‬
‫وبلغت منهم ما شاء الّله تعاىل فشكوا ذلك إىل رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم فقال ‪« :‬‬
‫سّد دوا وقاربوا ‪ ،‬فإن ىف كل ما أصاب املسلم كفارة حىت الشوكة يشاكها والّنكبة ينكبها‬
‫»‪ .‬واألحاديث هبذا املع ىن كث رية ‪ ،‬ومن مث يرى عامة العلماء أن األمراض واألسقام‬
‫ومصايب الدنيا ومهومها يكفر الّله هبا اخلطايا‪.‬‬

‫ويرى بعضهم أن املصايب ال تكّف ر إال إذا أثرت ىف النفس تأثريا صاحلا وكانت سببا ىف قوة‬
‫اإلميان وترك السوء والتوبة من ه والرغبة ىف صاحل العمل مبا حتدث ه من الع ربة فتكون مرّبي ة‬
‫لعقله ونفسه ‪ ،‬أما إذا ضاعفت الذنوب كاملصايب اليت حتمل صاحبها على اجلزع ومهانة‬
‫النفس وضعف اإلميان إىل ذنوب أخرى مل يكونوا ليقرتفوها لوال املصيبة فال تكفر شيئا من‬
‫اخلطايا بل تزيدها‪.‬‬

‫(َو ال ِجَي ْد َل ُه ِم ْن ُدوِن الَّل ِه َو ِلًّي ا َو ال َنِص ريًا) أي من يعمل السوء ويستحق العقاب علي ه ال‬
‫جيد له وليا غري الّله يتوىل أمره ويدفع اجلزاء عنه ‪ ،‬وال نصريا ينصره وينقذه مما حيّل به ال من‬
‫األنبياء الذين تفاخر هبم وال من غريهم من املخلوقات اليت اختذها بعض البشر آهلة وأربابا ‪،‬‬
‫فكل تلك األماىن تكون أضغاث أحالم ‪ ،‬وإمنا يكون املدار ىف ذلك على اإلميان واألعمال‬
‫كما قال ‪:‬‬

‫(َو َمْن َيْع َمْل ِم َن الَّص احِل اِت ِم ْن َذَك ٍر َأْو ُأْنثى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن َفُأولِئ َك َيْد ُخ ُلوَن اَجْلَّن َة َو ال ُيْظَلُم وَن‬
‫َنِق ريًا) أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من األعمال اليت تصلح هبا النفوس ىف أخالقها‬
‫وآداهبا وأحواهلا االجتماعية ‪ ،‬سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب باإلميان‬
‫‪ -‬فأولئك الع املون املؤمن ون بالّل ه والي وم اآلخر يدخلون اجلن ة بزكاء أنفسهم وطهارة‬
‫أرواحهم وال يظلمون من أجور أعماهلم شيئا ولو حقريا كالنقري‪.‬‬

‫وىف هذه اآلية وما قبلها من العربة واملوعظة ما يهدم صروح األماىن اليت يأوى إليها الكساىل‬
‫وذوو اجلهالة من املسلمني الذين يظنون أن الّل ه حياىب من يسمى نفسه مسلما ويفضله على‬
‫اليهودي والنصراين ألج ل هذا اللقب ‪ ،‬فالذين يفخ رون باالنتساب إلي ه وق د نبذوه وراء‬
‫ظهورهم وجرموا االهتداء هبديه ‪ ،‬هم ىف ضالل مبني‪.‬‬

‫وبع د أن بني سبحانه أن النج اة والسعادة منوط ان بصاحل األعمال مع اإلميان أردف ذلك‬
‫ذكر درجات الكمال فقال ‪:‬‬

‫(َو َمْن َأْح َسُن ِدينًا َّمِمْن َأْس َلَم َو ْجَهُه ِلَّلِه َو ُه َو ْحُمِس ٌن ) أي ال أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا‬
‫لّله وحده ‪ ،‬فال يتوجه إىل غريه ىف دعاء وال رجاء ‪ ،‬وال جيعل بينه وبينه حجابا‬
‫من الوسطاء والش فعاء ‪ ،‬وال يرى ىف الوج ود إال هو ‪ ،‬ويعتقد أنه سبحانه ربط األسباب‬
‫باملسببات ‪ ،‬فال يطلب شيئا إال من خزائن رمحته ‪ ،‬وال يأتى بي وت هذه اخلزائن إال من‬
‫مسالكها ‪ ،‬وهى السنن واألسباب اليت سنها ىف اخلليقة‪.‬‬

‫وهو مع هذا اإلميان الكامل والتوحي د اخلالص ‪ ،‬حمسن للعمل متح ّل بأحسن األخالق‬
‫والفضائل‪.‬‬

‫وق د عرب عن توج ه القلب بإسالم الوج ه ‪ ،‬ألن الوج ه أعظم مظهر ملا ىف النفس من إقبال‬
‫وإعراض ‪ ،‬وسرور وكآبة ‪ ،‬وما فيه هو الذي يدل على ما ىف السريرة‪.‬‬

‫(َو اَّتَبَع ِم َّل َة ِإْب راِه يَم َح ِنيفًا) أي واتبع إبراهيم ىف حنيفيته اليت كان عليها ‪ ،‬مبيله عن الوثنية‬
‫وأهلها ‪ ،‬وتربيه مما كان عليه أبوه وقومه منها ‪ ،‬قال تعاىل ‪ِ « :‬إْذ قاَل ِإ راِه ي َأِلِبي ِه ِم ِه‬
‫َو َقْو‬ ‫ْب ُم‬ ‫َو‬
‫َّل‬ ‫َل‬ ‫ِد يِن ‪َ .‬لها َك ِل ًة باِق ًة يِف ِق ِب ِه‬ ‫َّن‬ ‫ِإَّنيِن را َّمِما ْع ُد وَن ‪ِ .‬إاَّل اَّل ِذ ي َفَط يِن َفِإ‬
‫ْم‬ ‫ُه‬ ‫َع‬ ‫َع‬ ‫َي‬ ‫َم‬ ‫َجَع‬ ‫َو‬ ‫ْه‬
‫َي‬ ‫َس‬ ‫ُه‬ ‫َر‬ ‫َب ٌء َت ُب‬
‫َيْر ِج ُعوَن » ‪.‬‬

‫(َو اَخَّتَذ الَّلُه ِإْبراِه يَم َخ ِلياًل ) أي اصطفاه الّله إلقامة دينه ىف بالد غلبت عليها الوثنية ‪ ،‬وأفسد‬
‫الشرك عقول أهلها ‪ ،‬وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليال ‪ ،‬فقد اختصه‬
‫بكرامة ومنزلة تشبه اخلليل لدى خليله ‪ ،‬ومن كانت له هذه املنزلة كان جديرا أن تّتبع مّلته‬
‫وتأتسي طريقته‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه مّن عليه بسالمة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال املعرفة وفنائه ىف‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫مث ذكر ما هو كالعلة ملا سبق بقوله ‪:‬‬

‫(َو ِلَّل ِه ما يِف الَّس ماواِت َو ما يِف اَأْلْر ِض ) أي إن كل ما ىف السموات واألرض ملك له ومن‬
‫خلقه ‪ ،‬مهما اختلفت صفات املخلوقات ‪ ،‬فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة ألمره‪.‬‬

‫(َو كاَن الَّلُه ِبُك ِّل َش ْي ٍء ِحُم يطًا) إحاطة قهر وتسخري ‪ ،‬وإحاطة علم وتدبري ‪ ،‬وإحاطة وجود ‪،‬‬
‫ألن هذه املوجودات ليس وجودها من ذاهتا وال هى ابتدعت نفسها بل وجودها‬

‫مستمد من ذلك الوج ود األعلى ‪ ،‬فالوجود اإلهلى هو احملي ط بكل موج ود ‪ ،‬فوجب أن‬
‫خيلص له اخللق ‪ ،‬ويتوجه إليه العباد‪.‬‬

‫وقد جاءت هذه اآلية خامتة ملا تقدم لفوائد ‪:‬‬

‫‪ )1‬بيان الدليل على أنه املستحق وحده إلسالم الوجه له والتوجه إليه ىف كل حال ألنه هو‬
‫املالك لكل شىء ‪ ،‬وغريه ال متلك لنفسه شيئا‪.‬‬

‫‪ )2‬نفى ما يتوهم ىف اختاذ الّله إبراهيم حليال من أن هناك شيئا من املقاربة ىف حقيقة الذات‬
‫والصفات‪.‬‬

‫‪ )3‬التذكري بقدرته تع اىل على إجناز وعده ووعي ده ىف اآليات اليت قبلها ‪ ،‬إذ من له ما ىف‬
‫السموات واألرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد‪.‬‬

‫[سورة آل عمران (‪ : )3‬اآليات ‪ 81‬الى ‪]83‬‬


‫َو ِإْذ َأَخ َذ الَّل ُه ِم يث اَق الَّنِبِّيَني َلما آَتْيُتُك ْم ِم ْن ِكتاٍب َو ِح ْك َم ٍة َّمُث ج اَءُك ْم َر ُس وٌل ُمَص ِّد ٌق ِلما‬
‫َمَعُك ْم َلُتْؤ ِم ُنَّن ِبِه َو َلَتْنُصُر َّنُه قاَل َأَأْقَر ْر ْمُت َو َأَخ ْذ ْمُت َعلى ذِلُك ْم ِإْص ِر ي قاُلوا َأْقَر ْر نا قاَل َفاْش َه ُد وا‬
‫ِس‬ ‫ِئ‬ ‫ِل‬ ‫ِهِد‬ ‫ِم‬
‫َو َأَن ا َمَعُك ْم َن الَّش ا يَن (‪َ )81‬فَم ْن َتَو ىَّل َبْع َد ذ َك َفُأول َك ُه ُم اْلفا ُقوَن (‪َ )82‬أَفَغ َرْي‬
‫ِديِن الَّلِه َيْبُغوَن َو َلُه َأْس َلَم َمْن يِف الَّس ماواِت َو اَأْلْر ِض َطْو عًا َو َك ْر هًا َو ِإَلْيِه ُيْر َجُعوَن (‪)83‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫امليث اق ‪ :‬العهد املؤكد املوّث ق ‪ ،‬وهو أن يلتزم املعاهد (بكسر اهلاء) للمعاهد (بفتحها) أن‬
‫يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمني أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ املعاهدة أو املواثقة ‪ ،‬أقررمت من‬
‫قّر الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ‪ ،‬وأخذمت ‪ :‬أي قبلتم كما جاء حنوه يف قوله تعاىل ‪« :‬‬
‫ِإْن ُأوِتيُتْم هذا َفُخ ُذ وُه » واإلصر ‪ :‬العهد املؤكد الذي مينع صاحبه من التهاون فيما التزمه‬
‫وعاهد عليه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫سيقت هذه اآليات كسابقتها إلثبات نبّو ة حممد صلى الّل ه عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة‬
‫عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم ‪ ،‬وإظهارا لعنادهم ‪ ،‬ودحضا ملزاعمهم ‪ ،‬وإزالة لشبهات‬
‫من أنكر منهم بعثة نىب من العرب‪.‬‬

‫وهذه احلج ة اليت تقررها هذه اآليات من احلجج اليت تفّن د تلك الّرتهات واألباطي ل اليت‬
‫يّد عوهنا ‪ ،‬وهى أن الّل ه تع اىل أخذ امليث اق على مجي ع النبيني وعلى أتباعهم بالتبع هلم بأهنم‬
‫مهما عظمت املن ة عليهم مبا آتاهم من كتاب وحكمة ‪ ،‬فالواجب عليهم أن يؤمن وا مبن‬
‫يرسل بعدهم مصدقا ملا معهم ‪ ،‬وأن ينصروه نصرا مؤّز را ‪ ،‬وأن من توىل بعد ذلك كان‬
‫من الفاسقني‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو ِإْذ َأَخ َذ الَّلُه ِم يثاَق الَّنِبِّيَني َلما آَتْيُتُك ْم ِم ْن ِكتاٍب َو ِح ْك َم ٍة ‪َّ ،‬مُث جاَءُك ْم َرُس وٌل ُمَص ِّد ٌق ِلما‬
‫َمَعُك ْم َلُتْؤ ِم ُنَّن ِب ِه َو َلَتْنُص ُر َّنُه) أي واذكر هلم وقت أخذ الّل ه امليث اق من النبيني أهنم كلما‬
‫جاءهم رسول من بعدهم مصدق ملا معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب‬
‫وحكمة ‪ ،‬ألن القصد من إرسال األنبياء واحد ‪ ،‬فيجب أن يكونوا متكافلني متناصرين ‪،‬‬
‫فإذا جاء واحد منهم يف زمن نىب آخر آمن به السابق ونصره مبا استطاع وال يستلزم ذلك‬
‫نسخ شريعة األول ‪ ،‬إذ املقصود تصديق دعوته ‪ ،‬ونصره على من يؤذيه ويناوئه‪.‬‬

‫فإن تضمنت شريعة الثاين نسخ شىء من شريعة األول وجب التسليم له ‪ ،‬وإال صّد قه يف‬
‫األصول اليت هى واحدة يف كل دين ‪ ،‬ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات واملناسك‬
‫التفصيلية ‪ ،‬وال يعد هذا اختالفا وتفرقا يف الدين ‪ ،‬فمثل هذا قد يأتى ىف الشريعة الواحدة ‪،‬‬
‫ففى كفارة اليمني أو غريها يكّف ر شخص بالصيام ‪ ،‬وآخربإطعام الطعام ‪ ،‬وما سبب هذا‬
‫إال حال الشخصني ‪ ،‬فكل منهما أدى ما سهل عليه‪.‬‬

‫أال ترى أن امللك إذا أرسل أمريين يف عصر واحد إىل واليتني متجاورتني وجب على كل‬
‫منهما نصر اآلخر حني احلاجة مع اتفاقهما يف السياسة العامة للدولة‪.‬‬
‫وقد يكون بني الواليتني اختالف يف طباع األهاىل واستعدادهم ‪ ،‬ويف حال البالد ىف اليسر‬
‫والرخاء ‪ ،‬فيقتضى ذلك اختالف تفاصيل االلتزامات ‪ ،‬فتكون الضرائب كثرية يف إحدامها‬
‫قليلة يف األخرى ‪ ،‬والقوانني صارمة يف واحدة ‪ ،‬وسهلة هينة يف الثانية وكل من العاملني‬
‫يعمل للمصلحة العامة للدولة‪.‬‬

‫وهكذا حال النبّيني يؤمن كل منهما مبا جاء به اآلخر مع املوافقة يف األصول دون الفروع ‪،‬‬
‫كما آمن لوط مبا جاء به إبراهيم وأيده يف دعوته وقد كان يف عصره‪.‬‬

‫أما إذا بعث الّله النبيني يف أمة واحدة فإهنما يكونان متفقني يف كل شىء كما حدث ملوسى‬
‫وهارون عليهما السالم ‪ ،‬وهبذا تفهم مع ىن تصديق الن يب صلى الّل ه علي ه وسلم بالكتب‬
‫السابقة ومبن جاء هبا من الرسل ‪ ،‬وليس املغين أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم‪.‬‬

‫ويف اآلية إمياء إىل أنه ال ينبغى أن يكون الدين مصدر الع داوة والبغضاء كما فع ل أهل‬
‫الكتاب حني عادوا النيب صلى الّله عليه وسلم ‪ ،‬وكادوا له بعد أن دعاهم إىل كلمة سواء ‪،‬‬
‫ومل يكن منهم إال الصّد واإلعراض والكيد واجلحود‪.‬‬

‫وصفوة القول ‪ -‬إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع حممد صلى الّل ه عليه وسلم والتصديق‬
‫بشريعته مبقتضى امليثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى ‪ -‬أنه إذا جاء نىب بعده ‪،‬‬
‫وصدق مبامعه يؤمن به وينصره‪.‬‬

‫وإميانكم مبوسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما‪.‬‬


‫(ق اَل َأَأْقَر ْر ْمُت َو َأَخ ْذ ْمُت َعلى ذِلُك ْم ِإْص ِر ي ؟ ) أي ق ال الّل ه تع اىل للنبيني ‪ :‬أ أق ررمت باإلميان‬
‫والنصر له ‪ ،‬وقبلتم العهد على ذلك ؟‬

‫(ق اُلوا َأْقَر ْر نا ‪ ،‬ق اَل َفاْش َه ُد وا َو َأَن ا َمَعُك ْم ِم َن الَّش اِهِد يَن ) أي ق الوا أقررنا بذلك ‪ ،‬ق ال الّل ه‬
‫تعاىل ‪ :‬ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم ‪ ،‬ال يعزب عن على شىء‪.‬‬

‫وهذا احلوار لتث بيت املع ىن وتوكي ده على طريق التمثي ل ‪ ،‬وليست اآلية نصا يف أن هذه‬
‫احملاورة ‪ ،‬وقعت وهذه األقوال قيلت وله نظائر كثرية يف األساليب العربية‪.‬‬

‫(َفَم ْن َتَو ىَّل َبْع َد ذِل َك َفُأولِئ َك ُه ُم اْلفاِس ُقوَن ) أي فمن أعرض بع د أخذ امليث اق على هذه‬
‫الوحدة ‪ ،‬واختذ الدين آلة للتفريق والعدوان ‪ ،‬ومل يؤمن بالنيب املتأخر املصدق ملن تقدمه ومل‬
‫ينصره ‪ ،‬فأولئك اجلاحدون هم الفاسقون ‪ ،‬فأهل الكتاب الذين جحدوا نبّو ة حممد صلى‬
‫الّل ه علي ه وسلم ‪ ،‬خارجون عن ميث اق الّل ه ناقصون لعهده ‪ ،‬وليسوا من الدين احلق يف‬
‫شىء‪.‬‬

‫وبعد أن بني أن دين الّل ه واحد ‪ ،‬وأن رسله متفقون في ه ‪ -‬ذكر حال منكرى نبّو ة حممد‬
‫صلى الّله عليه وسلم فقال ‪:‬‬

‫(َأَفَغْيَر ِد يِن الَّلِه َيْبُغوَن َو َلُه َأْس َلَم َمْن يِف الَّس ماواِت َو اَأْلْر ِض َطْو عًا َو َك ْر هًا) أي أ يتولون عن‬
‫احلق بعد ما تبني ويبغون غري دين الّله وهو اإلسالم واإلخالص له يف العبادة ىف السر والعلن‬
‫‪ ،‬وقد خضع لّل ه تعاىل وانقاد حلكمه أهل السموات واألرض ‪ ،‬ورضوا طائعني خمتارين ملا‬
‫حيل هبم من تصاريف أقداره ؟‬
‫وصفوة القول ‪ -‬إن الدين احلق هو إسالم الوج ه لّل ه تع اىل واإلخالص له ‪ ،‬وأن األنبي اء‬
‫مجيع ا كانوا على ذلك ‪ ،‬وق د أخذوا بذلك ميث اقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ ج اءهم‬
‫النيب املوعود به يدعوهم إليه فكذبوه‪.‬‬

‫(َو ِإَلْي ِه ُتْر َجُع وَن ) أي وإلي ه يرج ع من اختذ غري اإلسالم دين ا من اليهود والنصارى وسائر‬
‫اخللق ‪ ،‬وحينئذ جيازون بإساءهتم وترك الدين احلق‪.‬‬

‫ويف هذا وعيد وهتديد هلم‪.‬‬

‫[سورة األنعام (‪ : )6‬اآليات ‪ 54‬الى ‪]55‬‬

‫َّن‬
‫َأ‬ ‫َة‬ ‫َّر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِإذا ج ا َك اَّل ِذ ي ْؤ ِم ُن وَن ِبآياِتن ا ُق ال َل ُك َك َت ُّبُك لى ْف ِس ِه‬
‫َمْن‬ ‫ُه‬ ‫َمْح‬ ‫َف ْل َس ٌم َع ْي ْم َب َر ْم َع َن‬ ‫َن ُي‬ ‫َء‬ ‫َو‬
‫ِّص‬ ‫َف‬ ‫ِم ِم ْنُك وءًا هاَل ٍة َّمُث تا ِم ِدِه َأ َل َفَأَّن َغُف و ِح ي (‪َ )54‬ك ذِل‬
‫ُل‬ ‫ُن‬ ‫َك‬ ‫َو‬ ‫َب ْن َبْع َو ْص َح ُه ٌر َر ٌم‬ ‫َع َل ْم ُس َجِب‬
‫اآْل ياِت َو ِلَتْس َتِبَني َس ِبيُل اْلُم ْج ِر ِم َني (‪)55‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫السالم والسالمة ‪ :‬الرباءة والعافي ة من اآلفات والعيوب ‪ ،‬والسالم ‪ :‬من أمسائه تع اىل يدل‬
‫على تنزيهه عن كل ما ال يليق به من نقص وعجز وفناء ‪ ،‬واستعمل السالم ىف التحية مبعىن‬
‫السالمة من كل ما يسوء ‪ ،‬ومبعىن تأمني املسلم عليه من كل أذى يناله‬

‫من املسلم فهو دلي ل املودة والصفاء ‪ ،‬وهو حتي ة أهل اجلن ة حيييهم هبا رهبم ج ل وعال‬
‫ومالئكته الكرام ‪ ،‬وحيىي هبا بعضهم بعضا ‪ ،‬وكتب‪ .‬أوجب ‪ ،‬واجلهالة ‪ :‬السفه واخلفة اليت‬
‫تقابل احلكمة والروية ‪ ،‬وتستبني ‪ :‬تتضح وتظهر ‪ ،‬يقال ‪ :‬استبنت الش يء وتبينته ‪ :‬أي‬
‫عرفته بينا واضحا‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن هنى سبحانه نبي ه عن ط رد املستضعفني من حضرته ‪ ،‬استمالة لكرباء املتكربين من‬
‫قومه ‪ ،‬وطمعا ىف إقباهلم عليه ومساعهم لدعوته ‪ ،‬كما اقرتحه بعض املشركني‪.‬‬

‫أمره بأن يلقى الذين يدخلون ىف اإلسالم آنا بعد آن عن بينة وبرهان ‪ -‬بالتحية والسالم ‪،‬‬
‫والتبشري برمحة الّل ه ومغفرته ‪ ،‬فقد كان السواد األعظم من الناس كافرين إما كفر جحود‬
‫وعن اد ‪ ،‬وإما كفر جهل وتقلي د لآلباء واألج داد ‪ ،‬وكان يدخل ىف اإلسالم األفراد بع د‬
‫األفراد ‪ ،‬وكان أكثر السابقني من املستضعفني والفقراء ‪ ،‬وكان النيب صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم ‪ ،‬وتارة يتوجه إىل أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو ِإذا جاَءَك اَّل ِذ يَن ُيْؤ ِم ُن وَن ِبآياِتنا َفُق ْل َس الٌم َعَلْيُك ْم ) أي وإذا جاءك القوم الدين يصّد قون‬
‫بكتابنا وحججنا ‪ ،‬ويقرون بذلك قوال وعمال ‪ ،‬سائلني عن ذنوهبم اليت فرطت منهم ‪ ،‬هل‬
‫هلم منها توبة ‪ ،‬فال تؤيسهم منها ‪ ،‬وقل هلم ‪ :‬سالم عليكم أي أمنة الّل ه لكم من ذنوبكم‬
‫أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها‪.‬‬
‫مث ذكر العلة ىف هذا فقال ‪:‬‬

‫(َك َتَب َر ُّبُك ْم َعلى َنْف ِس ِه الَّر َمْحَة) أي قل هلم ‪ :‬أوجب على ذاته املقدسة تفضال منه وإحسانا‬
‫‪ ،‬الرمحة خبلقه ‪ ،‬فإن فيما سّخ ر للبشر من أسباب املعيشة املادية ‪ ،‬وفيما آتاهم من وسائل‬
‫العلوم الكسبية ‪ -‬آليات بين ات على سعة الرمحة الرباني ة ‪ ،‬وتربي ة عباده هبا ىف حي اهتم‬
‫اجلسدية والروحية‪.‬‬

‫مث بني أصال من أصول الدين يف هذه الرمحة للمؤمنني فقال ‪:‬‬

‫(َأَّن ُه َمْن َعِم َل ِم ْنُك ْم ُس وءًا َجِبهاَل ٍة َّمُث تاَب ِم ْن َبْع ِدِه َو َأْص َلَح َفَأَّن ُه َغُف وٌر َر ِح يٌم) أي إن من‬
‫عمل منكم عمال تسوء عاقبته ‪ ،‬للضرر الذي حّر مه الّل ه ألجله ‪ ،‬حال كونه ملتبسا جبهالة‬
‫دفعته إىل ذلك السوء ‪ ،‬كغضب شديد محله على السب والضرب ‪ ،‬أو شهوة مغتلمة قادته‬
‫إىل انتهاك الع رض ‪ ،‬مث تاب ورج ع عن ذلك السوء بع د أن عمله شاعرا بقبح ه ‪ ،‬نادما‬
‫عليه ‪ ،‬خائفا من عاقبته ‪ ،‬وأصلح عمله بأن اتبع ذلك العمل السّي ء بعمل يضاده ‪ ،‬ويذهب‬
‫أث ره من قلبه ‪ ،‬حىت يع ود إىل النفس زكاؤها وطهارهتا ‪ ،‬وتصري أهال للقرب من رهبا ‪-‬‬
‫فشأنه تعاىل ىف معاملته أنه واسع املغفرة والرمحة ‪ ،‬فيغفر له ما تاب عنه ‪ ،‬ويتغمده برمحته‬
‫وإحسانه‪.‬‬

‫وقد بني سبحانه ىف هذه اآلية من أنواع الرمحة املكتوبة لعباده ما هم أحوج إىل معرفته بنص‬
‫الوحى وهو حكم من يعمل السوء جبهالة من عباده املؤمنني ‪ ،‬وبقي ة أنواعها ميكن أن‬
‫يستدل عليها بالنظر ىف األنفس واآلفاق ‪ ،‬وأمر نبيه بتبليغها ملن يدخلون ىف الدين ليهتدوا‬
‫هبا حىت ال يغرتوا مبغفرة الّله ورمحته فيحملهم الغرور على التفريط ىف جنب الّل ه والغفلة عن‬
‫تزكي ة أنفسهم ‪ ،‬وحىت يبادروا إىل تطهريها من إفساد الذنوب خوف أن حتي ط هبا‬
‫خطيئتها ‪ِ « :‬إَمَّنا الَّتْو َبُة َعَلى الَّلِه ِلَّلِذ يَن َيْع َم ُلوَن الُّس وَء َجِبهاَلٍة َّمُث َيُتوُبوَن ِم ْن َقِر يٍب » ‪.‬‬

‫مث بني سبحانه أنه فصل احلقائق للمؤمنني ليبتعدوا عن سلوك سبيل اجملرمني‪.‬‬

‫(َو َك ذِلَك ُنَف ِّص ُل اآْل ياِت َو ِلَتْس َتِبَني َس ِبيُل اْلُم ْج ِر ِم َني ) أي ومثل ذلك التفصيل البديع الواضح‬
‫نفصل لك أدلتن ا ىف بي ان احلقائق اليت يهتدى هبا أهل النظ ر والفكر ملا فيها من العلم‬
‫واحلكمة ‪ ،‬واملوعظ ة والع ربة ‪ ،‬ولتتضح لك وللمؤمنني طريق اجملرمني ‪ ،‬إذ يعلم من هذا‬
‫التفصيل أن ما خالفه هو سبيل اجملرمني واألشياء تعرف بأضدادها كما قيل (وبضدها تتميز‬
‫األشياء)‪.‬‬

‫[سورة محمد (‪ : )47‬اآليات ‪ 32‬الى ‪]35‬‬


‫ِم ِد‬ ‫ِه‬ ‫ِإ ِذ‬
‫َّن اَّل يَن َك َف ُر وا َو َص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّل َو َش اُّقوا الَّر ُس وَل ْن َبْع ما َتَبَنَّي ُهَلُم اُهْلدى َلْن‬
‫َيُض ُّر وا الَّل َه َش ْيئًا َو َس ُيْح ِبُط َأْع ماُهَلْم (‪ )32‬يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا َأِط يُع وا الَّل َه َو َأِط يُع وا الَّر ُس وَل‬
‫ِه‬ ‫ِإ ِذ‬ ‫ِط‬
‫َو ال ُتْب ُلوا َأْع ماَلُك ْم (‪َّ )33‬ن اَّل يَن َك َف ُر وا َو َص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّل َّمُث ماُتوا َو ُه ْم ُك َّف اٌر َفَلْن‬
‫ُك‬ ‫َل‬ ‫ُك‬ ‫َمَع‬ ‫ُه‬ ‫َّل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َن‬ ‫َل‬ ‫ْع‬‫اَأْل‬ ‫ُت‬
‫ْن‬‫َأ‬ ‫ِم‬ ‫ْل‬ ‫َّس‬ ‫ال‬ ‫ىَل‬‫ْغِف الَّل ُه ُهَل (‪َ )34‬فال ِهَتُن وا َت ْد ُعوا ِإ‬
‫ْم‬ ‫َرِت‬‫َي‬ ‫ْن‬ ‫ْم َو‬ ‫ْو َو‬ ‫َو ُم‬ ‫َو‬ ‫ْم‬ ‫َي َر‬
‫َأْع ماَلُك ْم (‪)35‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫شاقوا الرسول ‪ :‬أي عادوه وخالفوه ‪ ،‬وأصله صاروا ىف شّق غري شقه ‪ ،‬فال هتنوا ‪:‬‬
‫أي فال تضعفوا عن القتال ‪ ،‬من الوهن وهو الضعف ‪ ،‬وق د وهن اإلنسان ووّه ن ه غريه ‪،‬‬
‫وتدعوا إىل السلم ‪ :‬أي تدعوا الكفار إىل الصلح خوفا وإظهارا للعج ز ‪ ،‬األعلون ‪ :‬أي‬
‫الغالبون ‪ ،‬والّله معكم ‪ :‬أي ناصركم ‪ ،‬لن يرتكم أعمالكم ‪ :‬أي لن ينقصكموها من وترت‬
‫الرجل ‪ :‬إذا قتلت له قتيال من ولد أو أخ أو محيم أو سلبت ماله وذهبت به ‪ ،‬فشبه إضاعة‬
‫عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شىء معتد به من األنفس واألموال‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن ذكر أن املنافقني ستفضح أسرارهم ‪ ،‬وأهنم سيلقون شديد األهوال حني وفاهتم ‪-‬‬
‫أردف ذلك ذكر حال مجاعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والّنضري كفروا بالّل ه وصدوا‬
‫الناس عن سبيل الّل ه وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته ىف التوراة ‪ ،‬وما ظهر على يديه‬
‫من املعجزات ‪ ،‬فهؤالء لن يضروا الّل ه شيئا بكفرهم ‪ ،‬بل يضرون أنفسهم وسيحبط الّل ه‬
‫مكايدهم اليت نصبوها إلبطال دين ه ‪ ،‬مث ذكر قصص بىن سعد وق د أسلموا وج اءوا إىل‬
‫رسول الّل ه صّلى الّل ه عليه وسّلم وقالوا ‪ :‬قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا ‪ ،‬مّن ا بذلك‬
‫علي ه ‪ ،‬فنهاهم عن ذلك وبني هلم أن هذا مما يبطل أعماهلم ‪ ،‬مث أعقب هذا ببي ان أن من‬
‫كفروا وصدوا عن السبيل القومي مث ماتوا وهم على هذه احلال فلن يغفر الّل ه هلم ‪ ،‬مث أرشد‬
‫إىل أن عمل الكافرين الذي له صورة احلسنات حمبط وأن ذنبهم غري مغفور ‪ ،‬وبعدئذ أردف‬
‫هذا أن الّل ه خاذهلم ىف الدنيا واآلخرة فال تبالوا هبم ‪ ،‬وال تظهروا ضعفا أمامهم ‪ ،‬فإن الّل ه‬
‫ناصركم ‪ ،‬ولن يضيع أعمالكم‪.‬‬
‫اإليضاح‬
‫ِم ِد‬ ‫ِه‬ ‫ِإ ِذ‬
‫( َّن اَّل يَن َك َف ُر وا َو َص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّل َو َش اُّقوا الَّر ُس وَل ْن َبْع ما َتَبَنَّي ُهَلُم اُهْلدى َلْن‬
‫َيُض ُّر وا الَّل َه َش ْيئًا َو َس ُيْح ِبُط َأْع ماُهَلْم ) أي إن الذين جحدوا توحيد الّل ه ‪ ،‬وصدوا الناس عن‬
‫دينه الذي بعث به رسوله ‪ ،‬وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان هلم‬
‫باألدلة الواضحة ‪ ،‬والرباهني الساطعة أنه مرسل من عند ربه ‪ -‬لن يضروا الّل ه شيئا ‪ ،‬ألن‬
‫الّل ه بالغ أمره ‪ ،‬وناصر رسوله ‪ ،‬ومظهره على من عاداه وخالفه ‪ ،‬وسيبطل مكايدهم اليت‬
‫نصبوها ‪ ،‬إلبطال دينه ومشاقة رسوله ‪ ،‬وال يصلون هبا إىل ما كانوا يبغون له من الغوائل ‪،‬‬
‫وستكون مثرهتا إما قتلهم أو جالءهم عن أوطاهنم‪.‬‬

‫واملراد بصد الناس عن سبيل الّل ه ‪ ،‬منعهم إياهم عن اإلسالم بشىت الوسائل ‪ ،‬وعن متابعة‬
‫الرسول صّلى الّله عليه وسّلم واالنضواء حتت لوائه‪.‬‬

‫مث أمر سبحانه عباده املؤمنني بطاعته وطاعة رسوله صّلى الّله عليه وسّلم فقال ‪:‬‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا َأِط يُع وا الَّل َه َو َأِط يُع وا الَّر ُس وَل ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية الّل ه‬
‫وقدرته وسائر صفات كماله ‪ ،‬وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع ‪ -‬أطيعوا‬
‫الّله وأطيعوا الرسول ىف اتباع أوامرمها واالنتهاء عن نواهيهما‪.‬‬

‫مث هناهم عن أن يبطلوا أعماهلم كما أبطل الكفار أعماهلم فقال ‪:‬‬
‫(َو ال ُتْبِط ُل وا َأْع ماَلُك ْم ) أي وال تبطلوا حسناتكم باملعاصي قاله احلسن ‪ ،‬وق ال الزهري‬
‫بالكبائر‪ .‬وقال مقاتل باملّن واألذى وقال عطاء بالنفاق والشرك واألوىل أن يراد به النهى‬
‫عن كل سبب من األسباب اليت تكون سببا ىف إبطال األعمال كائنا ما كان بال ختصيص‬
‫بنوع معني‪.‬‬

‫وعن أىب العالية قال ‪ :‬كان أصحاب رسول الّله صّلى الّل ه عليه وسّلم يرون أنه ال يضر مع‬
‫ال إله إال الّله ذنب ‪ ،‬كما ال ينفع مع الشرك عمل حىت نزلت هذه اآلية ‪ ،‬فخافوا أن يبطل‬
‫الذنب العمل وعن ابن عمر رضى الّل ه عنهما قال ‪ :‬كنا معشر أصحاب رسول الّل ه صّلى‬
‫ِط‬
‫الّل ه علي ه وسّلم نرى أنه ليس شىء من احلسنات إال مقبوال حىت نزلت ‪َ( :‬أ يُع وا الَّل َه‬
‫َو َأِط يُع وا الَّر ُس وَل َو ال ُتْبِط ُل وا َأْع ماَلُك ْم ) فقلنا ‪ :‬ما هذا الذي يبطل أعمالن ا ؟ فقلن ا الكبائر‬
‫املوجبات والفواحش ‪ ،‬فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها ‪ ،‬قلنا قد هلك حىت نزل « ِإَّن‬
‫الَّل َه ال َيْغِف ُر َأْن ُيْش َر َك ِب ِه َو َيْغِف ُر ما ُدوَن ذِل َك ِلَم ْن َيش اُء » فكففن ا عن القول ىف ذلك ‪،‬‬
‫وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ‪ ،‬وإن مل يصب منها رجونا له‪.‬وأخرج عبد‬
‫بن محيد عن قتادة أنه قال ىف اآلية ‪ :‬من استطاع منكم أال يبطل عمال صاحلا بعمل سوء‬
‫فليفعل وال قوة إال بالّل ه تعاىل‪.‬مث بني سبحانه أنه ال يغفر للمصّر ين على الكفر والصّد عن‬
‫سبيل الّله فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن اَّلِذ يَن َك َف ُر وا َو َص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّلِه َّمُث ماُتوا َو ُه ْم ُك َّف اٌر َفَلْن َيْغِف َر الَّل ُه ُهَلْم ) أي إن الذين‬
‫جحدوا توحيد الّل ه وصدوا من أراد اإلميان بالّل ه ورسوله عن ذلك ‪ ،‬وحالوا بينهم وبني ما‬
‫أرادوه ‪ ،‬مث ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو الّل ه سبحانه عما صنعوا ‪ ،‬بل يع اقبهم‬
‫ويفضحهم به على رءوس األشهاد‪.‬وقيد سبحانه عدم املغفرة باملوت على الكفر ‪ ،‬ألن باب‬
‫التوبة وطريق املغفرة ال يغلقان على من كان حي ا‪.‬مث ذكر سبحانه أن ال حرمة للكافر ىف‬
‫الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فأمر بقتاهلم وأرشد إىل أن النصر حليف املؤمنني فقال ‪:‬‬

‫(َفال ِهَتُن وا َو َت ْد ُعوا ِإىَل الَّس ْلِم َو َأْنُتُم اَأْلْع َل ْو َن َو الَّل ُه َمَعُك ْم َو َلْن َيَرِتُك ْم َأْع ماَلُك ْم ) أي فال‬
‫تضعفوا أيها املؤمنون عن جهاد املشركني وجتبنوا عن قتاهلم ‪ ،‬وتدعوهم إىل الصلح واملساملة‬
‫خورا وإظهارا للعجز ‪ ،‬وأنتم العالون عليهم والّل ه معكم بالنصر لكم عليهم ‪ ،‬وال يظلمكم‬
‫أجور أعمالكم فينقصكم ثواهبا‪.‬‬

‫[سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 84‬الى ‪]86‬‬


‫ِم ِد‬ ‫ِد‬ ‫ِف‬ ‫ِم‬ ‫ِإ‬
‫َو ْذ َأَخ ْذ نا يثاَقُك ْم ال َتْس ُك وَن ماَءُك ْم َو ال ْخُتِر ُج وَن َأْنُف َس ُك ْم ْن ياِر ُك ْم َّمُث َأْقَر ْر ْمُت َو َأْنُتْم‬
‫َتْش َه ُد وَن (‪َّ )84‬مُث َأْنُتْم هُؤ الِء َتْق ُتُلوَن َأْنُفَس ُك ْم َو ْخُتِر ُج وَن َفِر يقًا ِم ْنُك ْم ِم ْن ِد ياِر ِه ْم َتظاَه ُر وَن‬
‫َعَلْيِه ْم ِب اِإْلِمْث َو اْلُع ْد واِن َو ِإْن َيْأُتوُك ْم ُأسارى ُتفاُدوُه ْم َو ُه َو َحُمَّر ٌم َعَلْيُك ْم ِإْخ راُجُه ْم َأَفُتْؤ ِم ُن وَن‬
‫ِبَبْع ِض اْلِكتاِب َو َتْك ُف ُر وَن ِبَبْع ٍض َفما َج زاُء َمْن َيْف َع ُل ذِل َك ِم ْنُك ْم ِإَّال ِخ ْز ٌي يِف اَحْلياِة الُّد ْنيا‬
‫َو َيْو َم اْلِق ياَم ِة ُيَر ُّدوَن ِإىل َأَش ِّد اْلَعذاِب َو َم ا الَّلُه ِبغاِفٍل َعَّم ا َتْع َم ُلوَن (‪ُ )85‬أولِئَك اَّلِذ يَن اْش َتَرُو ا‬
‫اَحْلياَة الُّد ْنيا ِباآْل ِخ َر ِة َفال َخُيَّف ُف َعْنُه ُم اْلَعذاُب َو ال ُه ْم ُيْنَص ُر وَن (‪)86‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫السفك ‪ :‬الصّب واإلراق ة ‪ ،‬والتظ اهر ‪ :‬التع اون ‪ ،‬واإلمث ‪ :‬هو الفع ل الذي يستحق فاعله‬
‫الذّم واللوم ‪ ،‬والعدوان ‪ :‬جتاوز احلد يف الظلم‪.‬‬
‫المعنى الجملي‬

‫ذّك ر الّله بىن إسرائيل يف اآلية السابقة بأهّم ما أمروا به من إفراده تعاىل بالعبادة واإلحسان‬
‫إىل الوالدين وذوى القرىب ‪ ،‬مث بني أهنم مل يأمتروا بذلك‪.‬‬

‫ويف هذه اآليات ذّك رهم بأهم املنهيات اليت أخذ عليهم العهد باجتناهبا ‪ ،‬مث نقضوا امليثاق‬
‫ومل ينتهوا ‪ ،‬واخلطاب هناك للذين كانوا يف عصر موسى عليه السالم ‪ ،‬وهو هنا للحاضرين‬
‫يف عصر التنزيل ‪ ،‬إرشادا إىل أن األمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها ‪ ،‬إن‬
‫خريا فخري ‪ ،‬وإن شّر ا فشر ما داموا على سنتهم ‪ ،‬حيتذون حذوهم وجيرون على هنجهم ‪،‬‬
‫كما أن ما يفعله الشخص حني الصغر يؤثر يف قواه العقلية وأخالقه النفسية حني الكرب ‪،‬‬
‫واملشاهدة أكرب برهان على ذلك‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو ِإْذ َأَخ ْذ نا ِم يث اَقُك ْم ال َتْس ِف ُك وَن ِد ماَءُك ْم َو ال ْخُتِر ُج وَن َأْنُفَس ُك ْم ِم ْن ِد ياِر ُك ْم ) أي وإذ‬
‫أخذنا عليكم العهد ‪ :‬ال يريق بعضكم دم بعض ‪ ،‬وال خيرج بعضكم بعضا من‬
‫ديارمهوأوطاهنم ‪ ،‬وقد جعل غري الرجل كأنه نفسه ‪ ،‬ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو‬
‫نسبا ‪ ،‬إشارة إىل وحدة األمة وتضامنها ‪ ،‬وأن ما يصيب واحدا منها فكأمنا يصيب األمة‬
‫مجعاء ‪ ،‬فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس اآلخرين ودمه دمهم ‪ ،‬فالروح الذي‬
‫حييا به والدم الذي ينبض يف عرقه هو كدم اآلخرين وأرواحهم ‪ ،‬ال فرق بينهم ىف الشريعة‬
‫اليت وّح دت بينهما يف املصاحل العامة ‪ ،‬وهذا ما يومئ إليه‬

‫احلديث ‪ « :‬إمنا املؤمن ون يف ترامحهم وتع اطفهم مبنزلة اجلسد الواحد إذا اشتكى بعضه‬
‫تداعى له سائر اجلسد باحلمى والسهر » ‪.‬‬

‫وق د جيوز أن يكون املع ىن ال ترتكبوا من اجلرائم ما جتازون علي ه بالقتل قصاصا ‪ ،‬أو‬
‫باإلخراج من الديار فتكونون كأنكم ق د قتلتم أنفسكم ‪ ،‬ألنكم فعلتم ما تستحقون به‬
‫القتل ‪ ،‬كما يقول الرجل آلخر قد فعل ما يستحق به العقوبة ‪ :‬أنت الذي جىن على نفسه‪.‬‬

‫(َّمُث َأْقَر ْر ْمُت َو َأْنُتْم َتْش َه ُد وَن ) أي مث أقررمت هبذا امليثاق أيها احلاضرون املخاطبون واعرتفتم به‬
‫ومل تنكروه بألسنتكم ‪ ،‬بل شهدمت به وأعلنتموه ‪ ،‬فاحلجة عليكم قائمة ‪ -‬وقد يراد ‪ -‬وأنتم‬
‫أيها احلاضرون تشهدون على إقرار أسالفكم هبذا امليثاق وقبوله ‪ ،‬وشهودهم الوحى الذي‬
‫نزل به على موسى عليه السالم‪.‬‬

‫(َّمُث َأْنُتْم هُؤ الِء َتْق ُتُل وَن َأْنُف َس ُك ْم ) أي مث أنتم بع د ذلك التوكي د يف امليث اق تنقضون العهد‬
‫فتقتلون أنفسكم ‪ :‬أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم ‪ ،‬مع أنكم معرتفون‬
‫بأن امليثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم‪.‬‬

‫ومن حديث ذلك أن بىن قينقاع من اليهود كانوا حلفاء األوس وأعداء إلخواهنم ىف الدين‬
‫بىن قريظ ة ‪ ،‬كما كان بن و النضري حلفاء اخلزرج ‪ ،‬وكان األوس واخلزرج قبل اإلسالم‬
‫أعداء يقتتلون ‪ ،‬ومع كل حلفاؤه ‪ ،‬وهذا مانعاه الّله على اليهود بقوله ‪َ(:‬تْق ُتُلوَن َأْنُف َس ُك ْم )‪.‬‬
‫(َو ْخُتِر ُج وَن َفِر يقًا ِم ْنُك ْم ِم ْن ِد ياِر ِه ْم َتظاَه ُر وَن َعَلْيِه ْم ِب اِإْلِمْث َو اْلُع ْد واِن ) كان كل من اليهود‬
‫يظ اهر حلفاءه من الع رب ويع اوهنم على إخوانه من اليهود باإلمث كالقتل والسلب ‪،‬‬
‫والعدوان كاإلخراج من الديار‪.‬‬

‫(َو ِإْن َي ْأُتوُك ْم ُأسارى ُتفاُدوُه ْم َو ُه َو َحُمَّر ٌم َعَلْيُك ْم ِإْخ راُجُه ْم ) أي وكانوا إذا أسر بعض‬
‫العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء األسرى ‪ ،‬يفدى‬
‫كل فريق من اليهود أسرى أبن اء جنسه وإن كانوا من أعدائه ‪ ،‬مث يعتذرون عن هذا بأن‬
‫الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب املقدس ‪ ،‬فإن كانوا مؤمنني حّق ا مبا يقولون ‪ ،‬فلم‬
‫قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك ؟ أ فليس هذا إال لعبا واستهزاء‬
‫بالدين ؟‬

‫(َأَفُتْؤ ِم ُنوَن ِبَبْع ِض اْلِكتاِب َو َتْك ُف ُر وَن ِبَبْع ٍض ؟ ) أي أ تفعلون ما ذكر فتؤمنون إخل وذلك أن‬
‫الّله أخذ على بىن إسرائيل العهد يف التوراة أال يقتل بعضهم بعضا ‪ ،‬وال خيرج بعضهم بعضا‬
‫من ديارهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬أمّي ا عبد أو أمة وجدمتوه من بىن إسرائيل فاشرتوه وأعتقوه ‪ -‬لكنهم‬
‫قتلوا وأخرجوا من الديار خمالفني العهد ‪ ،‬وافتدوا األسرى على مقتضى العهد ‪ ،‬أ فليس هذا‬
‫إال إميانا ببعض الكتاب ‪ ،‬وكفرا ببعضه اآلخر ؟ وذلك منتهى ما يكون من اجلماقة ‪ ،‬فإن‬
‫اإلميان ال يتجزأ ‪ ،‬فالكفر ببعضه كالكفر بكله‪.‬‬

‫ق ال األستاذ اإلمام ‪ :‬ىف التعبري عن املخالفة واملعصية بالكفر دلي ل على أن من يقدم على‬
‫الذنب ال يتأمل وال يندم بعد وقوعه ‪ ،‬بل يسرتسل فيه بال مباالة بنهي الّل ه عنه وحترميه له‬
‫فهو كافر به ‪ ،‬وهذا هو الوجه يف األحاديث الصحيحة ‪ ،‬حنو ‪:‬‬
‫« ال يزىن الزاين حني يزىن وهو مؤمن ‪ ،‬وال يسرق السارق وهو مؤمن ‪ ،‬وال يشرب اخلمر‬
‫وهو مؤمن »‬

‫مث توعدهم على نقضهم امليثاق الذي جعلهم أمة واحدة ‪ ،‬ذات شريعة هى رباط وحدهتم‬
‫ِل‬
‫خبزي عاج ل يف هذه احلي اة ‪ ،‬وعذاب آج ل يف اآلخرة فقال ‪َ(:‬فما َج زاُء َمْن َيْف َع ُل ذ َك‬
‫ِم ْنُك ْم ِإاَّل ِخ ْز ٌي يِف اَحْلياِة الُّد ْنيا ‪َ ،‬و َيْو َم اْلِق ياَم ِة ُيَر ُّدوَن ِإىل َأَش ِّد اْلَع ذاِب ) فقد دلت املشاهدة‬
‫على أن كل أمة تفسق عن أمر رهبا وتطرح أوامر دينها وراءها ظهرّيا يتفرق مشلها ‪ ،‬وينزل‬
‫هبا عذاب اهلون جزاء فساد أخالقها وكثرة شرورها‪.‬‬

‫أما من استقاموا على الطريقة ‪ ،‬وزكت نفوسهم وصلحت أحواهلم فلهم عن د رهبم نعيم‬
‫مقيم ‪ ،‬يرشد إىل ذلك قوله ‪َ « :‬قْد َأْفَلَح َمْن َز َّك اها ‪َ ،‬و َقْد خاَب َمْن َدَّس اها » ‪.‬‬

‫مث زاد يف الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال ‪:‬‬

‫(َو َم ا الَّل ُه ِبغاِف ٍل َعَّم ا َتْع َم ُل وَن ) فهو جمازيكم على ما اج رتحتم من السيئات‪.‬مث أكد عظيم‬
‫محاقتهم وسىيء إجرامهم ‪ ،‬مث شديد نكاهلم على ما اجرتحوا فقال ‪:‬‬

‫(ُأولِئَك اَّلِذ يَن اْش َتَرُو ا اَحْلياَة الُّد ْنيا ِباآْل ِخ َر ِة) أي أولئك الذين آثروا احلياة الدنيا واستبدلوها‬
‫باآلخرة ‪ ،‬فقّد موا حظوظهم يف هذه احلياة على حظوظهم يف احلياة األخرى ‪ ،‬مبا أمهلوا من‬
‫الشرائع ‪ ،‬وتركوا من أوامرها اليت يعرفوهنا كما يعرفون أبناءهم كاالنتصار للحليف املشرك‬
‫‪ ،‬ومظاهرته على قومه الذين جتمعهم وإياه رابطة الدين والنسب ‪ ،‬وإخراج أهله من دياره‬
‫ابتغاء مرضاته‪.‬‬
‫(َفال َخُيَّف ُف َعْنُه ُم اْلَع ذاُب ) يوم القيامة (َو ال ُه ْم ُيْنَص ُر وَن ) ألن أعماهلم ق د سجلت عليهم‬
‫الشقاء ‪ ،‬وأحاطت هبم اخلطايا من كل جانب ‪ ،‬فسّد ت عليهم باب الرمحة ‪ ،‬وقطعت عنهم‬
‫الفيض اإلهلي ‪ ،‬فال جيدون شافعا ينصرهم ‪ ،‬وال ولّي ا يدفع عنهم ما حّل هبم من النكال‬
‫والوبال يف جهنم وبئس القرار‪.‬‬

‫[سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 208‬الى ‪]210‬‬

‫يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اْد ُخ ُلوا يِف الِّس ْلِم َك اَّفًة َو ال َتَّتِبُعوا ُخ ُطواِت الَّش ْيطاِن ِإَّنُه َلُك ْم َع ُد ٌّو ُمِبٌني (‬
‫َّل ِز ِك‬ ‫ِم ِد‬ ‫ِإ‬
‫‪َ )208‬ف ْن َز َلْلُتْم ْن َبْع ما ج اَءْتُك ُم اْلَبِّين اُت َف اْع َلُم وا َأَّن ال َه َع يٌز َح يٌم (‪َ )209‬ه ْل‬
‫و‬ ‫اُأْل‬ ‫ْنُظ وَن ِإَّال َأْن ْأِت الَّل يِف ُظَلٍل ِم اْلَغماِم اْل الِئَك ُة ُقِض اَأْل ِإىَل الَّلِه‬
‫ُتْر َجُع ُم ُر‬ ‫َو َي ْم ُر َو‬ ‫َو َم‬ ‫َن‬ ‫َي َيُه ُم ُه‬ ‫َي ُر‬
‫(‪)210‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫أصل السلم ‪ :‬التسليم واالنقي اد ‪ ،‬فيطلق على الصلح والسالم وعلى دين اإلسالم ‪،‬‬
‫واخلطوات ‪ :‬واحدها خطوة (بالضم) ما بني ق دمى من خيطو ‪ ،‬والزلل يف األصل ‪ :‬عثرة‬
‫القدم ‪ ،‬مث استعمل يف االحنراف عن احلّق ‪ ،‬والبينات ‪ :‬احلجج واألدلة اليت ترشد إىل أن ما‬
‫دعيتم إلي ه هو احلق ‪ ،‬عقلية كانت أو نقلية ‪ ،‬والعزيز الغالب ‪ :‬الذي ال يعجزه االنتقام ‪،‬‬
‫واحلكيم ‪ :‬الذي يعاقب املسيء ويكافئ احملسن ‪ ،‬ينظرون ‪ :‬أي ينتظرون ‪ ،‬يأتيهم الّل ه ‪ :‬أي‬
‫يأتيهم عذابه ‪ ،‬والظلل ‪ :‬واحدها ظلة (بالضم) وهى ما أظلك ‪ ،‬والغمام ‪:‬السحاب األبيض‬
‫الرقيق ‪ ،‬وقضى األمر ‪ :‬أي أّمت أمر إهالكهم وفرغ منه‪.‬‬
‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن بني سبحانه فيما سلف من اآليات أن الناس يف الصالح والفساد فريقان ‪:‬‬

‫فريق يسعى يف األرض بالفساد ويهلك احلرث والنسل ‪ ،‬وفريق يبغى بعمله رض وان الّل ه‬
‫وطاعته ‪ -‬أرشدنا إىل أن شأن املؤمنني االتفاق واالحتاد ‪ ،‬ال التفريق واالنقسام‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا اْد ُخ ُل وا يِف الِّس ْلِم َك اَّف ًة) كافة ‪ :‬أي يف أحكامه كلها اليت أساسها‬
‫االستسالم واخلضوع لّل ه واإلخالص له ‪ ،‬ومن أصوله الوفاق واملساملة بني الن اس وترك‬
‫احلروب بني املهتدين هبديه ‪ ،‬واألمر بالدخول في ه أمر بالثبات والدوام كقوله تع اىل ‪«:‬يا‬
‫َأُّيَه ا الَّنُّيِب اَّتِق الَّل َه » ‪.‬املعىن ‪ -‬يا أيها الذين آمنوا باأللسنة والقلوب ‪ ،‬دوموا على اإلسالم‬
‫فيما تستأنفون من أيامكم ‪ ،‬وال خترجوا عن شىء من شرائعه ‪ ،‬بل خذوا اإلسالم جبملته‬
‫وتفهموا املراد من ه ‪ ،‬بأن تنظ روا يف كل مسألة إىل النصوص القولي ة والسنة املتبع ة فيها‬
‫وتعملوا بذلك ‪ ،‬ال أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة وجيعلها حجة على اآلخر ‪ ،‬وإن أدى‬
‫إىل ترك ما خيالفها من النصوص والسنن ‪ ،‬وهبذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم املسلمون‬
‫حببل الوحدة اإلسالمية اليت أمرنا الّل ه باتباعها يف قوله ‪َ « :‬و اْعَتِص ُم وا َحِبْب ِل الَّل ِه ِمَج يع ًا َو ال‬
‫َتَفَّرُقوا » وهنانا عن ضدها يف قوله ‪َ « :‬و ال َتناَزُعوا َفَتْف َش ُلوا » وقوله صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫« ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض » ‪.‬‬
‫ولكّن املسلمني ق د خالفوا هذا فتفّر ق وا وتن ازعوا وشاّق بعضهم بعضا ‪ ،‬واختذوا مذاهب‬
‫متفّر قة ‪ ،‬كل فريق يتعصب ملذهب ويعادى سائر إخوانه املسلمني زعما منه أنه ينصر الدين‬
‫وهو خيذله بتفريق كلمة املسلمني ‪ ،‬فهذا سىّن يقاتل شيعيا ‪ ،‬وهذا شافعى يغ رى التتار‬
‫باحلنفية ‪ ،‬وهؤالء مقّلدة اخللف حياّدون من اتبع طريق السلف‪.‬‬

‫(َو ال َتَّتِبُع وا ُخ ُط واِت الَّش ْيطاِن ) أي وال تتبع وا سبله يف التفرق يف الدين أو يف‬
‫اخلالفوالتن ازع ‪ ،‬إذ هى سبله اليت يزينها للن اس ‪ ،‬ويسّو ل هلم فيها املن افع واملصاحل ‪ ،‬فقد‬
‫كانت اليهود أمة واحدة جمتمعة على كتاب واحد ‪ ،‬فوسوس هلم الشيطان فتفرقوا وجعلوا‬
‫هلم مذاهب وشيعا ‪ ،‬وأض افوا إىل الكتاب ما أض افوا ‪ ،‬وحّر فوا من حكمه ما حّر فوا ‪،‬‬
‫فسّلط الّل ه عليهم أعداءهم فمزق وهم كل ممّز ق ‪ ،‬وهكذا فع ل غريهم من أهل األديان ‪،‬‬
‫كأهنم رأوا دينهم ناقصا فكملوه ‪ ،‬وقليال فكّثروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه‪ ،‬فذهب الّل ه‬
‫بوحدهتم ومل تغن عنهم كثرهتم ‪ ،‬إذ سّلط عليهم األعداء وأنزل هبم البالء‪.‬‬

‫مث ذكر السبب يف النهى عن اتباع خطوات الشيطان فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن ُه َلُك ْم َع ُد ٌّو ُمِبٌني ) أي إنه ظاهر العداوة لكم ‪ ،‬فإن مجيع ما يدعو إليه ظاهر البطالن ‪،‬‬
‫بنّي الضرر ملن تأمل فيه وتفكر ‪ ،‬ومن مل يدرك ذلك يف مبدأ اخلطوات أدركه ىف الغايات ‪،‬‬
‫حني يذوق مرارة العاقبة ‪ ،‬فال عذر ملن بقي على ضاللته بعد تذكري الّل ه وهداية عباده إىل‬
‫سبل اخلري ‪ ،‬وحتذيره إياهم من سلوك طرق الشر‪.‬‬

‫مث توعدهم إذا هم حادوا عن اهلج السوّي والطريق املستقيم فقال ‪:‬‬
‫(َف ِإْن َز َلْلُتْم ِم ْن َبْع ِد ما ج اَءْتُك ُم اْلَبِّين اُت َف اْع َلُم وا َأَّن الَّل َه َعِز يٌز َح ِكيٌم) أي فإن حدمت عن‬
‫صراط الّل ه وهو السلم ‪ ،‬وسرمت يف طريق الشيطان وهى طريق اخلالف واالفرتاق ‪ ،‬بعد أن‬
‫بنّي لكم عداوته ‪ ،‬وهناكم عن اتباع طرقه وخطواته ‪ ،‬فاعلموا أن الّل ه يأخذكم أخذ عزيز‬
‫مقتدر ‪ ،‬فهو عزيز ال يغلب على أمره ‪ ،‬حكيم ال يهمل شأن خلقه ‪ ،‬وحلكمته ق د وض ع‬
‫تلك السنن يف اخلليقة ‪ ،‬فجعل لكل ذنب عقوبة ‪ ،‬وجعل العقوبة على ذنوب األمم ضربة‬
‫الزب يف الدنيا ‪ ،‬ومل يؤخرها حىت حتّل هبا يف احلياة األخرى‪.‬‬

‫وال تقوم لألمم قائمة إال إذا أقامت العدل بني أفرادها ‪ ،‬وكانت صاحلة لعمارة األرض كما‬
‫ق ال تع اىل ‪َ « :‬و َلَق ْد َك َتْبن ا يِف الَّز ُب وِر ِم ْن َبْع ِد الِّذ ْك ِر َأَّن اَأْلْر َض َيِر ُثها ِعباِدَي الَّص اُحِلوَن »‬
‫وهكذا األفراد إذا مل ينهجوا النهج السوّى ويتحّلوا بفاضل األخالق ‪ ،‬فلن يوّفقوا يف دنياهم‬
‫وال يف أخراهم‪.‬‬
‫مث زاد يف التهديد والوعي د فقال ‪َ(:‬ه ْنُظ وَن ِإاَّل َأْن ْأِت الَّل ُه يِف ُظَل ٍل ِم اْلَغماِم‬
‫َن‬ ‫َي َيُه ُم‬ ‫ْل َي ُر‬
‫َو اْلَم الِئَك ُة) أي هاهى ذى قد قامت احلجج ودلت الرباهني على صدق حممد صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فهل ينتظر املكذبون إال أن يأتيهم الّل ه مبا وعدهم به من الساعة والعذاب يف ظلل‬
‫من الغمام عند خراب العامل وقيام الساعة ‪ ،‬وتأيت املالئكة وتنّف ذ ما قضاه الّله يومئذ ؟ ‪.‬‬

‫واحلكمة يف نزول العذاب يف الغمام إنزاله فجأة من غري متهيد ينذر به ‪ ،‬وال توطئة توّطن‬
‫النفوس على احتماله ‪ ،‬إىل أن الغمام مظنة الرمحة ‪ ،‬فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشّد‬
‫هوال ‪ ،‬واخلوف إذا ج اء من موض ع األمن كان خطبه أعظم وحنو اآلية قوله ‪َ « :‬و َيْو َم‬
‫َتَش َّق ُق الَّس ماُء ِباْلَغماِم َو ُنِّز َل اْلَم الِئَك ُة َتْنِز ياًل » ‪.‬‬
‫ويف اآلية عربة للمؤمن ترّغبه يف املبادرة إىل التوبة لئال يفاجئه وعد الّل ه وهو غافل ‪ ،‬فإذا مل‬
‫يفاجئه قيام الساعة العامة وهالك هذا العامل كله ‪ ،‬فاجأه قيام قيامته مبوته بغتة ‪ ،‬فإن مل ميت‬
‫بغتة جاءه املرض بغتة ‪ ،‬فال يقدر على العمل وتدارك الزلل‪.‬‬

‫(َو ُقِض َي اَأْلْم ُر ) أي كي ف ينتظ رون غري ذلك ‪ ،‬وهو أمر قضاه الّل ه وأبرمه فال مفّر من ه ‪،‬‬
‫وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي‪.‬‬

‫مث بالغ يف التهديد والزجر قال ‪:‬‬

‫(َو ِإىَل الَّل ِه ُتْر َج ُع اُأْلُم وُر ) فيضع كل شىء يف موض عه الذي قضاه ‪ ،‬فهو األول ‪ ،‬ومن ه‬
‫بدأت اخلالئق ‪ ،‬وهو اآلخر وإليه ترجع األمور وتصري ‪ ،‬فعلى من زّل عن الصراط السوّي ‪،‬‬
‫واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إىل احلق قبل أن حييق به زهلل ‪ ،‬وجيازى على‬
‫عمله « ُك ُّل اْم ِر ٍئ مِب ا َك َسَب َر ِه ٌني » ‪.‬‬

‫[سورة األنعام (‪ : )6‬اآليات ‪ 151‬الى ‪]153‬‬

‫ُق ْل َتع اَلْو ا َأْت ُل ما َح َّر َم َر ُّبُك ْم َعَلْيُك ْم َأَّال ُتْش ِر ُك وا ِب ِه َش ْيئًا َو ِباْلواِل َد ْيِن ِإْح سانًا َو ال َتْق ُتُل وا‬
‫َأْو الَدُك ْم ِم ْن ِإْم الٍق ْحَنُن َنْر ُز ُقُك ْم َو ِإَّي اُه ْم َو ال َتْق َر ُب وا اْلَف واِح َش ما َظَه َر ِم ْنها َو ما َبَطَن َو ال‬
‫َتْق ُتُل وا الَّنْف َس اَّليِت َح َّر َم الَّل ُه ِإَّال ِب اَحْلِّق ذِلُك ْم َو َّص اُك ْم ِب ِه َلَعَّلُك ْم َتْع ِق ُل وَن (‪َ )151‬و ال َتْق َر ُبوا‬
‫ِق ِط‬ ‫ِم‬ ‫ِه‬ ‫ِت‬
‫ماَل اْلَي يِم ِإَّال ِب اَّليِت َي َأْح َس ُن َح ىَّت َيْبُل َغ َأُش َّد ُه َو َأْو ُف وا اْلَك ْي َل َو اْل يزاَن ِباْل ْس ال ُنَك ِّل ُف‬
‫ْف سًا ِإَّال ها ِإذا ْلُت َفاْع ِد ُلوا َل كاَن ذا ىب ِب ِد الَّل ِه َأ ُف وا ذِلُك َّص اُك ِب ِه‬
‫ْم َو ْم‬ ‫ْو‬ ‫ُقْر َو َعْه‬ ‫َو ْو‬ ‫ُو ْس َع َو ُق ْم‬ ‫َن‬
‫ِب‬ ‫ِب‬ ‫ِب‬ ‫ِق‬ ‫ِص ِط‬
‫َلَعَّلُك ْم َت َذ َّك ُر وَن (‪َ )152‬و َأَّن هذا را ي ُمْس َت يمًا َف اَّت ُعوُه َو ال َتَّت ُع وا الُّس ُبَل َفَتَف َّرَق ُك ْم‬
‫َعْن َس ِبيِلِه ذِلُك ْم َو َّص اُك ْم ِبِه َلَعَّلُك ْم َتَّتُقوَن (‪)153‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن بني سبحانه لعباده مجي ع ما حّر م عليهم من الطع ام ‪ ،‬وذكر حجته البالغ ة على‬
‫املش ركني الذين حرموا على أنفسهم ما مل حيرمه عليهم ودحض شبهتهم اليت احتج وا هبا‬
‫على شركهم برهبم وافرتائهم عليه‪.‬ذكر ىف هذه اآليات أصول احملرمات ىف األقوال واألفعال‬
‫‪ ،‬وأصول الفضائل وأنواع الرب‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ُقْل َتعاَلْو ا َأْتُل ما َح َّر َم َر ُّبُك ْم َعَلْيُك ْم ) أي قل أيها الرسول هلؤالء الذين يتبعون أهواءهم فيما‬
‫حيللون وما حيرمون ألنفسهم وللناس ‪ :‬أقبلوا إّىل أيها القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم‬
‫فيما أوحاه إّىل ‪ ،‬وهو وحده الذي له حق التح رمي والتش ريع ‪ ،‬وأنا مبلغ عن ه بإذنه وق د‬
‫أرسلىن بذلك‪.‬‬

‫وخص التحرمي بالذكر مع أن الوصايا أعم ألن بيان احملرمات يستلزم حل ما عداها ‪ ،‬وقد‬
‫بدأها بأكرب احملرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة ‪ ،‬وهو الشرك بالّل ه ‪ ،‬سواء أ‬
‫كان باختاذ األنداد له أو الش فعاء املؤّثرين ىف إرادته ‪ ،‬أو مبا يذّك ر هبم من صور ومتاثي ل‬
‫وأصنام وقبور ‪ ،‬أو باختاذ األرباب الذين يتحكمون ىف التشريع فيحللون وحيرمون فقال ‪:‬‬
‫(‪َ( )1‬أاَّل ُتْش ِر ُك وا ِب ِه َش ْيئًا) أي ومما أتلوه عليكم ىف بي ان هذه احملرمات وما يقابلها من‬
‫الواجبات ‪ -‬أال تش ركوا بالّل ه شيئا من األشياء وإن عظمت ىف اخللق كالش مس والقمر‬
‫والكواكب ‪ ،‬أو ىف القدر كاملالئكة والنبيني والصاحلني ‪ ،‬فإن عظمتها ال خترجها عن كوهنا‬
‫خملوق ة لّل ه ‪ ،‬مسّخ رة له بقدرته وإرادته ‪ِ « :‬إْن ُك ُّل َمْن يِف الَّس ماواِت اَأْلْر ِض ِإاَّل آيِت‬
‫َو‬
‫الَّرمْح ِن َعْبدًا » ‪.‬‬

‫ويلزم هذا أن تعبدوه وحده مبا شرعه لكم على لسان رسوله ال بأهوائكم وال بأهواء أحد‬
‫من اخللق أمثالكم‪.‬‬

‫(‪َ( )2‬و ِباْلواِل َد ْيِن ِإْح سانًا) أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كامال ال تدخرون في ه‬
‫وسعا ‪ ،‬وال تألون فيه جهدا ‪ ،‬وهذا يستلزم ترك اإلساءة وإن صغرت ‪ ،‬فما بالك بالعقوق‬
‫الذي هو من أكرب الكبائر وأعظم اآلثام ‪ ،‬وقد جاء ىف القرآن غري مرة قرن التوحيد والنهى‬
‫عن الش رك باألمر باإلحسان إىل الوالدين‪.‬وكفى داللة على عظيم عناية الش ارع بأمر‬
‫الوالدين أن قرنه بعبادته وجعلهثانيها ىف الوصايا ‪ ،‬وأكده مبا أكده به ىف سورة اإلسراء ‪،‬‬
‫كما قرن شكرمها بشكره ىف سورة لقمان ىف قوله ‪َ « :‬أِن اْش ُك ْر يِل َو ِلواِل َد ْيَك » ومارواه‬
‫البخاري ومسلم عن عبد الّل ه بن مسعود قال ‪ « :‬سألت رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫أّى العمل أفضل ؟ ق ال ‪:‬الصالة لوقتها قلت مث أّى ؟ ق ال ‪ :‬بر الوالدين‪ .‬قلت مث أّى ؟‬
‫قال ‪ :‬اجلهاد ىف سبيل الّله » ‪.‬‬

‫واملراد بربمها احرتامهما احرتام احملبة والكرامة ‪ ،‬ال احرتام اخلوف والرهبة ‪ ،‬ألن ىف ذلك‬
‫مفسدة كبرية ىف تربي ة األوالد ىف الصغر ‪ ،‬وإجلاء هلم إىل العقوق ىف الكرب ‪ ،‬وإىل ظلم‬
‫األوالد هلم كما ظلمهم آباؤهم ‪ ،‬وليس هلما أن يتحكما ىف شئوهنم اخلاصة هبم ‪ ،‬وال سيما‬
‫تزوجيهم مبن يكرهون ‪ ،‬أو منعهم من اهلج رة لطلب العلم الن افع أو لكسب املال واجلاه إىل‬
‫حنو ذلك ‪:‬‬

‫(‪َ( )3‬و ال َتْق ُتُل وا َأْو الَدُك ْم ِم ْن ِإْم الٍق ْحَنُن َنْر ُز ُقُك ْم َو ِإَّي اُه ْم ) أي ومما وصاكم به ربكم أال‬
‫تقتلوا أوالدكم الصغار لفقر حيل بكم ‪ ،‬فإن الّل ه يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبع ا لكم ‪،‬‬
‫وجاء ىف سورة اإلسراء ‪َ « :‬و ال َتْق ُتُلوا َأْو الَدُك ْم َخ ْش َيَة ِإْم الٍق ْحَنُن َنْر ُز ُقُه ْم َو ِإَّياُك ْم » وسر‬
‫اختالف األسلوبني وتقدمي رزق األوالد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا ‪ -‬أن‬
‫ما هناك متعلق بالفقر املتوقع ىف املستقبل الذي يكون فيه األوالد كبارا كاسبني ‪ ،‬وقد يصري‬
‫الوالدون ىف حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكرب ‪ ،‬ففّر ق ىف تعليل النهى ىف اآليتني بني‬
‫الفقر الواقع والفقر املتوقع فقدم ىف كل منهما ضمان رزق الكاسب ‪ ،‬لإلمياء إىل أنه تعاىل‬
‫جعل كسب العباد سببا للرزق ‪ ،‬ال كما يتوهم بعضهم فيزهد ىف العمل بشبهة كفالته تعاىل‬
‫لرزقهم‪.‬‬

‫(‪َ( )4‬و ال َتْق َر ُبوا اْلَف واِح َش ما َظَه َر ِم ْنها َو ما َبَطَن ) أي وال تقربوا ما عظم قبحه من األقوال‬
‫واألفعال كالزنا وقذف احملصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا‪.‬‬

‫وقيل الظاهر ما تعلق بأعمال اجلوارح ‪ ،‬والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكرب واحلسد‬
‫والتفكري ىف تدبري املكايد الضارة وأنواع الشرور واملآمث‪.‬‬
‫وقد روى عن ابن عباس ىف تفسري اآلية أنه قال ‪ :‬كانوا ىف اجلاهلية ال يرون بأسا بالزنا ىف‬
‫السر ويستقبحونه ىف العالني ة ‪ ،‬فح رم الّل ه الزنا ىف السر والعالني ة ‪ ،‬أي ىف هذه اآلية وما‬
‫أشبهها‪.‬‬

‫وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال ‪ :‬ما ظهر منها ظلم الناس ‪ ،‬وما بطن منها الزنا والسرقة‬
‫‪ ،‬أي ألن الناس يأتوهنما ىف اخلفاء‪.‬‬

‫وروى عبد الّله بن مسعود أن النيب صلى الّله عليه وسلم قال ‪ « :‬ال أحد أغري من الّل ه »من‬
‫أجل ذلك حرم الفواحش ‪:‬ما ظهر منها وما بطن » رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫(‪َ( )5‬و ال َتْق ُتُل وا الَّنْف َس اَّليِت َح َّر َم الَّل ُه ِإاَّل ِب اَحْلِّق ) أي وال تقتلوا النفس اليت حرم الّل ه قتلها‬
‫باإلسالم أو بالعهد بني املسلمني وغريهم كأهل الكتاب املقيمني بيننا بعهد وأمان ‪،‬وقد جاء‬
‫ىف احلديث ‪ « :‬هلم ما لنا وعليهم ما علينا »وروى الرتمذي قوله صلى الّل ه عليه وسلم ‪«:‬‬
‫من قتل معاهدا له ذمة الّل ه وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الّل ه ‪ ،‬فال يرح رائحة اجلنة وإن‬
‫رحيها ليوجد من مسرية مخسني خريفا»‪.‬‬

‫وقوله إال باحلق إمياء إىل أن قتل النفس ق د يكون حقا جلرم يصدر منها كماج اء ىف‬
‫احلديث ‪ « :‬ال حيل دم امرئ مسلم إال بأمور ثالثة ‪ :‬كفر بعد إميان ‪ ،‬وزنا بعد إحصان ‪،‬‬
‫وقتل نفس بغري حق » ‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن قتلها باحلق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاين‬
‫احملصن‪.‬‬
‫(ذِلُك ْم َو َّص اُك ْم ِب ِه َلَعَّلُك ْم َتْع ِق ُل وَن ) الوصية أن يعهد إىل إنسان بعمل خري أو ترك شر ‪،‬‬
‫ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثريه أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليع ّد كم ألن تعقلوا اخلري‬
‫واملنفعة ىف فعل ما أمر به وترك ما هنى عنه ‪ ،‬إذ هو مما تدركه العقول بأدىن تأمل‪.‬‬

‫وىف هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وحترمي السوائب وغريها مما ال تعقل له فائدة ‪،‬‬
‫وال تظهر فيه لذوى العقول الراجحة مصلحة‪.‬‬

‫(‪َ( )6‬و ال َتْق َر ُبوا ماَل اْلَيِتيِم ِإاَّل ِب اَّليِت ِه َي َأْح َس ُن )أي وال تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره ‪،‬‬
‫أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصيه إال بالفعلة اليت هى أحسن ىف حفظ ماله وتثمريه ‪،‬‬
‫ورجحان مصلحته ‪ ،‬واإلنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده‪.‬والنهى‬
‫عن القرب من الشيء أبلغ من النهى عنه ‪ ،‬فإن األول يتضمن النهى عن األسباب والوسائل‬
‫املؤدية إليه ‪ ،‬وعن الشبهات اليت هى مظنة التأويل ‪ ،‬فيبتعد عنها ‪ ،‬املّتقى ويستسيغها الطامع‬
‫فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه احلالل اليت ال تضّر به أو يرجح نفعها على ضررها ‪ ،‬كأن‬
‫يأكل شيئا من ماله حني يعمل عمال له فيه ربح ولواله ماربح‪.‬‬

‫(َح ىَّت َيْبُل َغ َأُش َّد ُه)واألشّد مبلغ الرج ل احلنكة واملعرفة ‪ ،‬ولبلوغه طرفان ‪ ،‬أدنامها االحتالم‬
‫الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة اليت خيرج هبا عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا ‪ ،‬وهنايته‬
‫سن األربعني واملراد هنا األول كما قال الشعيب ومالك وآخرون ‪:‬‬

‫ويكون ذلك عادة بني اخلامسة عشرة والثامنة عشرة‪.‬أي احفظوا مال اليتيم وال تسمحوا له‬
‫بتبذير شىء من ماله وإضاعته أو اإلسراف في ه حىت يبلغ ‪ ،‬فإذا بلغ فسلموه إلي ه ‪ ،‬وهذا‬
‫نظري قوله ‪َ « :‬فِإْن آَنْس ُتْم ِم ْنُه ْم ُر ْش دًا َفاْد َفُعوا ِإَلْيِه ْم َأْم واُهَلْم » ‪.‬‬
‫واخلالصة ‪ -‬إن املراد النهى عن كل تع ّد على مال الي تيم وهضم حلقوق ه من األوصياء‬
‫وغريهم حىت يبلغ سن القوة بدنا وعقال ‪ ،‬إذ ق د دلت التج ارب على أن احلديث العهد‬
‫باالحتالم يكون ضعيف الرأى قليل اخلربة بشئون املعاش خيدع كثريا ىف املعامالت‪.‬‬

‫وق د كان الن اس ىف اجلاهلي ة ال حيرتمون إال القوة ‪ ،‬وال يعرفون احلق إال لألقوياء ‪ ،‬ومن مث‬
‫بالغ الشارع ىف الوصية بالضعيفني ‪ :‬املرأة ‪ ،‬واليتيم‪.‬‬

‫والقوة اليت حيفظ هبا املرء ماله ىف هذا العصر هى اتزان الفكر ‪ ،‬والرشد العقلي واألخالق‬
‫بكثرة املران والتج ارب ىف املع امالت ‪ ،‬لكثرة الفسق واحلي ل ووج ود أعوان السوء الذين‬
‫يوسوسون إىل الوارثني ويزينون هلم اإلسراف ىف اللذات والشهوات على مجيع ضروهبا حىت‬
‫ال يرتكوهم إال وهم فقراء ‪ ،‬وقلما يستيقظون من غفلتهم إال إذا بلغ وا سن الكهولة اليت‬
‫يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف احلياة ويهتمون فيها بأمر النسل‪.‬‬

‫وق د شرط الش ارع احلكيم إليتاء اليتامى أمواهلم بلوغ سن احللم وظهور الرشد ىف‬
‫املعامالت املالية باالختبار كما سلف ىف سورة النساء من قوله ‪َ « :‬و اْبَتُلوا اْلَيتامى » اآلية‪.‬‬

‫(‪َ( )7‬و َأْو ُف وا اْلَك ْي َل َو اْلِم يزاَن ِباْلِق ْس ِط )أي وأمتوا الكي ل إذا كلتم للن اس أو اكتلتم عليهم‬
‫ألنفسكم ‪ ،‬وأوفوا امليزان إذا وزنتم ألنفسكم فيما تبتاعون أو لغريكم فيما تبيعون ‪ ،‬فليكن‬
‫كل ذلك وافيا تاما بالعدل ‪ ،‬وال تكونوا من أولئك املطففني الذين وصفهم الّل ه بقوله ‪« :‬‬
‫اَّلِذ يَن ِإَذا اْك تاُلوا َعَلى الَّناِس َيْس َتْو ُفوَن ‪َ ،‬و ِإذا كاُلوُه ْم َأْو َو َز ُنوُه ْم ْخُيِس ُر وَن »‪.‬‬
‫واخلالصة ‪ -‬أن اإليفاء يكون من اجلانبني ‪ :‬حني البيع ‪ ،‬وحني الشراء ‪ ،‬فريضى املرء لغريه‬
‫ما يرض اه لنفسه‪ .‬وقوله ‪ِ( :‬باْلِق ْس ِط )يدل على حترى الع دل ىف الكي ل وامليزان حال البيع‬
‫والشراء بقدر املستطاع‪.‬‬

‫(ال ُنَك ِّلُف َنْف سًا ِإاَّل ُو ْس َعها)أي إن الّل ه تعاىل ال يكلف نفسا إال ما يسعها فعله ‪ ،‬بأن تأتيه‬
‫بال عسر وال حرج ‪ ،‬فهو ال يكلف من يبيع أو يشرتى األقوات وحنوها أن يزهنا أو يكيلها‬
‫حبيث ال تزيد حبة وال مثقاال ‪ ،‬بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء حبيث‬
‫يعتقد أنه مل يظلم بزيادة وال نقص يعتد هبما عرفا‪.‬‬

‫والقاعدة الشرعية ‪ :‬أن التكليف إمنا يكون مبا ىف وسع املكلف بال حرج وال مشقة عليه ‪،‬‬
‫ولو اتبع املسلمون هذه الوصية وعملوا هبا الستقامت أمور مع امالهتم وعظمت الثقة‬
‫واألمانة بينهم ‪ ،‬ولكن وا أسفا فسدت أمورهم وقّلت ثقتهم بأنفسهم ‪ ،‬ووثقوا بغ ريهم‬
‫التباعهم هذه الوصية وأمثاهلا‪.‬‬

‫وق د قص علين ا الكتاب الكرمي قصص من طّف فوا الكي ل وامليزان فأخذهم رهبم أخذ عزيز‬
‫مقتدر مبا كان من ظلمهم ‪ ،‬كقوم شعيب وقد حكى الّل ه عنهم ما قال هلم نبيهم شعيب ‪:‬‬
‫« يا َقْو ِم َأْو ُف وا اْلِم ْك ي اَل اْلِم يزاَن ِباْلِق ِط ال َتْبَخ وا الَّن ا َأْش يا ُه ْم ال َتْع َثْو ا يِف‬
‫َء َو‬ ‫َس‬ ‫ُس‬ ‫ْس َو‬ ‫َو‬ ‫َو‬
‫اَأْلْر ِض ُمْف ِس ِد يَن »وقال النيب صلى الّل ه عليه وسلم ألصحاب الكيل وامليزان‪ « :‬إنكم وليتم‬
‫أمرا هلكت فيه األمم السالفة قبلكم » ‪.‬‬

‫(‪َ( )8‬و ِإذا ُقْلُتْم َفاْع ِدُلوا َو َلْو كاَن ذا ُقْر ىب )أي وعليكم أن تعدلوا ىف القول إذا قلتم قوال ىف‬
‫شهادة أو حكم على أحد ‪ ،‬ولو كان املقول له أو عليه ذا قرابة منكم ‪ ،‬إذ بالعدل تصلح‬
‫شئون األمم واألفراد ‪ ،‬فهو ركن ركني ىف العمران ‪ ،‬وأساس ىف األمور االجتماعي ة ‪ ،‬فال‬
‫حيل ملؤمن أن حياىب في ه أحدا لقرابة وال غريها ‪ ،‬فالع دل كما يكون ىف األفع ال كالوزن‬
‫والكيل يكون ىف األقوال‪.‬‬
‫َّل ِذ‬ ‫ِم ِب ِق ِط‬ ‫َّل ِذ‬
‫وحنو اآلية قوله ‪ « :‬يا َأُّيَه ا ا يَن آَم ُن وا ُك وُنوا َقَّو ا َني اْل ْس » وقوله ‪ «:‬يا َأُّيَه ا ا يَن‬
‫آَم ُنوا ُك وُنوا َقَّو اِم َني ِلَّلِه ُش َه داَء ِباْلِق ْس ِط » ‪.‬‬

‫(‪َ( )9‬و ِبَعْه ِد الَّلِه َأْو ُفوا)أي وأوفوا بعهد الّله ‪ ،‬وهذا شامل ملا يأتى ‪:‬‬

‫(ا) ما عهده الّله تعاىل إىل الناس على ألسنة الرسل‪.‬‬

‫(ب) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال ‪َ « :‬أْمَل َأْع َه ْد ِإَلْيُك ْم يا َبيِن آَدَم‬
‫َأْن ال َتْع ُبُد وا الَّش ْيطاَن » وقال ‪َ « :‬و َلَقْد َعِه ْد نا ِإىل آَدَم ِم ْن َقْبُل » ‪.‬‬

‫(ج) ما عاهده الناس عليه كما قال ‪َ « :‬و َأْو ُفوا ِبَعْه ِد الَّلِه ِإذا عاَه ْد ْمُت » وقال ‪:‬‬

‫« َأَو ُك َّلما عاَه ُد وا َعْه دًا َنَبَذ ُه َفِر يٌق ِم ْنُه ْم » ‪.‬‬
‫(د) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال ىف وصف املؤمنني ‪ « :‬اْل وُفوَن ِب ِدِه‬
‫َعْه ْم‬ ‫َو ُم‬
‫ِإذا عاَه ُد وا » ‪.‬‬

‫فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد الّل ه حني اإلميان به أن ميتث ل أمره وهني ه ‪ ،‬وما شرعه‬
‫للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم ‪ ،‬وما التزمه اإلنسان من عمل الرب بنذر أو ميني فهو‬
‫عهد عاهد عليه ربه كما قال تعاىل ناعيا على املنافقني سوء فعلهم ‪َ « :‬و ِم ْنُه ْم َمْن عاَه َد‬
‫الَّل َه َلِئْن آتانا ِم ْن َفْض ِلِه َلَنَّص َّد َقَّن َو َلَنُك وَنَّن ِم َن الَّص اِحِلَني ‪َ ،‬فَلَّم ا آتاُه ْم ِم ْن َفْض ِلِه ِخَب ُل وا ِب ِه »‬
‫اآلية ‪ ،‬وكذلك من عاهد السلطان وبايع ه على الطاعة ىف املع روف ‪ ،‬أو عاهد غريه على‬
‫القيام بعمل مشروع ‪ ،‬وجب عليه الوفاء إذا مل يكن من قبيل املعصية‪.‬‬

‫روى البخاري ومسلم عن عبد الّله بن عمر أن النيب صلى الّله عليه وسلم قال ‪ « :‬أربع من‬
‫كن فيه كان منافقا خالصا ‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حىت‬
‫يدعها ‪ :‬إذا حدث كذب ‪ ،‬وإذا وعد أخلف ‪ ،‬وإذا عاهد غدر ‪ ،‬وإذا خاصم فجر » ‪.‬‬

‫(ذِلُك ْم َو َّص اُك ْم ِبِه َلَعَّلُك ْم َتَذ َّك ُر وَن )التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء ىف القلب أو‬
‫التدرج فيه بفعله املرة إثر األخرى ‪ ،‬وحينا على االتعاظ والتدبر كما قال تعاىل ‪َ « :‬و ما‬
‫َيَتَذ َّك ُر ِإاَّل َمْن ُيِنيُب » وقال ‪َ « :‬سَيَّذ َّك ُر َمْن ْخَيشى » ‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن ذلك الذي تلوته عليكم من األوامر والن واهي وصاكم الّل ه به رج اء أن‬
‫يذكره بعضكم لبعض ىف التعليم والتواصي الذي أمر الّله به ىف مثل قوله ‪َ « :‬و َتواَص ْو ا ِباَحْلِّق‬
‫َو َتواَص ْو ا ِبالَّص ِرْب » ملا في ه من مصاحل ومن افع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الش واغل‬
‫الدنيوية ‪ ،‬أو رجاء أن يتعظ به من مسعه أو قرأه‪.‬‬

‫(‪َ( )10‬و َأَّن هذا ِص راِط ي ُمْس َتِق يمًا َفاَّتِبُعوُه َو ال َتَّتِبُعوا الُّس ُبَل َفَتَف َّرَق ِبُك ْم َعْن َس ِبيِلِه) أي وإن‬
‫هذا القرآن الذي أدعوكم إلي ه وأدعوكم به إىل ما حيييكم ‪ ،‬هو صراطى ومنهاجىالذي‬
‫أسلكه إىل مرضاة الّل ه ونيل سعادة الدنيا واآلخرة ‪ ،‬حال كونه مستقيما ال يضل سالكه ‪،‬‬
‫وال يهتدى تاركه ‪ ،‬فاتبعوه وحده ‪ ،‬وال تتبع وا السبل األخرى اليت ختالفه وهى كث رية ‪،‬‬
‫فتتفرق بكم عن سبيله ‪ ،‬حبيث يذهب كل منهم ىف سبيل ضاللة ينتهى هبا إىل اهللكة ‪ ،‬إذ‬
‫ليس بعد احلق إال الضالل‪.‬‬
‫واخلالصة ‪ -‬إن هذا صراطى مستقيما ال عوج في ه ‪ ،‬فعليكم أن تتبع وه إن كنتم تؤثرون‬
‫االستقامة على االعوجاج وترجحون اهلدى على الضالل‪.‬‬

‫أخرج أمحد والنسائي وأبو الشيخ واحلاكم عن عبد الّله بن مسعود قال ‪ « :‬خط رسول الّله‬
‫خطا بيده مث قال ‪ :‬هذا سبيل الّله مستقيما ‪ ،‬مث خط خطوطا عن ميني ذلك اخلط وعن مشاله‬
‫مث ق ال ‪ :‬وهذه السبل ليس منها سبيل إال علي ه شيطان يدعو إلي ه ‪ ،‬مث ق رأ ‪َ :‬و َأَّن هذا‬
‫ِص راِط ي ُمْس َتِق يمًا َفاَّتِبُعوُه َو ال َتَّتِبُعوا الُّس ُبَل َفَتَفَّرَق ِبُك ْم َعْن َس ِبيِلِه » ‪.‬‬

‫وروى أمحد والرتمذي والنسائي مرفوعا ‪ « :‬ضرب الّل ه مثال صراطا مستقيما ‪ ،‬وعن جنبىت‬
‫الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ‪ ،‬وعلى األبواب ستور مرخاة ‪ ،‬وعلى باب الصراط‬
‫داع يقول ‪ :‬أيها الناس هلّم وا ادخلوا الصراط املستقيم مجيعا وال تفرقوا ‪ ،‬وداع يدعو من‬
‫جوف الصراط ‪ ،‬فإذا أراد اإلنسان أن يفتح شيئا من تلك األبواب قال له‪:‬‬

‫وحيك ال تفتح ه ‪ ،‬فإنك إن تفتح ه تلج ه فالصراط اإلسالم ‪ ،‬والسوران حدود الّل ه ‪،‬‬
‫واألبواب املفّتحة حمارم الّل ه ‪ ،‬وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الّل ه ‪ ،‬والداعي من‬
‫جوف الصراط واعظ الّله ىف قلب كل مسلم » ‪.‬‬

‫وجعل الصراط املستقيم واحدا ‪ ،‬والسبل املخالفة متعددة ‪ ،‬ألن احلق واحد والباطل وهو ما‬
‫خالفه كثري ‪ ،‬فيشمل األديان الباطلة سواء أ كانت وضعية أو مساوية حمرفة أو منسوخة‪.‬‬

‫وهنى عن التفرق ىف صراط احلق وسبيله ‪ ،‬ألن التفرق ىف الدين الواحد وجعله مذاهب‬
‫يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له وخيطئون من خالفه ويرمون أتباعه‬
‫باجلهل والضالل ‪ -‬سبب إلض اعته ‪ ،‬إذ كل شيعة تنظ ر فيما يؤيدمذهبها ويظهرها على‬
‫خمالفيها ‪ ،‬وال يهمها إثبات احلق وفهم النصوص ‪ ،‬واحلق ال يكون وقفا على عامل معني وال‬
‫على أتباعه ‪ ،‬بل كل باحث خيطىء ويصيب ‪ ،‬وذلك ما دل علي ه العقل وأثبته الكتاب‬
‫والسنة واإلمجاع‪.‬‬

‫وملا كان اتباع الصراط املستقيم وعدم التفرق فيه جيمع الكلمة ويعز أهل احلق كان التفرق‬
‫فيه سبب ضعف املتفرقني وذهلم وضياع حقهم‪.‬‬

‫روى ابن جرير عن ابن عباس ىف قوله ‪َ « :‬و ال َتَّتِبُع وا الُّس ُبَل » ق ال ‪ :‬أمر الّل ه املؤمنني‬
‫باجلماعة وهناهم عن االختالف والفرق ة ‪ ،‬وأخربهم أنه إمنا أهلك من كان قبلهم باملراء‬
‫واخلصومات‪.‬‬

‫(ذِلُك ْم َو َّص اُك ْم ِبِه َلَعَّلُك ْم َتَّتُق وَن ) التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام واخلاص مهما‬
‫يكن نوعه وقد ذكرت ىف القرآن ىف سياق األوامر والنواهي املختلفة من عبادات ومعامالت‬
‫وآداب وعشرة وزواج ‪ ،‬وتفسر ىف كل موضوع مبا يناسبه‪.‬‬

‫أي ذلك األمر باتباع صراط احلق املستقيم ‪ ،‬والنهى عن سبل الضالالت واألباطي ل ‪،‬‬
‫وصاكم ربكم به ليهيئكم التقاء كل ما يشقي ويردى ىف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ويوصلكم إىل‬
‫السعادة العظمى واحلياة الصاحلة‪.‬‬

‫وقال الرازي ‪ :‬ختمت اآلية األوىل بقوله ‪ :‬لعلكم تعقلون ‪ ،‬والثانية بقوله ‪ :‬لعلكم تذكرون‬
‫‪ ،‬ألن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل األوالد وقربان الزنا وقتل النفس احملرمة بغري‬
‫حق غري مستنكفني وال عاقلني قبحها ‪ ،‬فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا‬
‫عنها ويرتكوها ‪ ،‬وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكي ل والع دل ىف القول والوفاء‬
‫بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون باالتصاف به ‪ ،‬فأمرهم الّل ه تعاىل بذلك لعلهم يذكرون‬
‫إن عرض هلم نسيان‪.‬‬

‫وقال أبو حيان ‪ :‬وملا كان الصراط املستقيم هو اجلامع للتكاليف ‪ ،‬وقد أمرسبحانه باتباعه‬
‫وهنى عن اتباع غريه من الطرق ‪ ،‬ختم اآلية الثالثة بالتقوى اليت هى اتقاء النار ‪ ،‬إذ من اتبع‬
‫صراطه جنا النجاة األبدية وحصل على السعادة السرمدية‪.‬‬

‫وقد وردت أحاديث كثرية بشأن هذه الوصايا نقلها احلفاظ الثقات فمن ذلك ‪:‬‬

‫(‪ )1‬ما أخرجه الرتمذي وحّس نه وابن املنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال ‪:‬‬
‫من سره أن ينظر إىل وصية حممد اليت عليها خامتة فليقرأ هؤالء اآليات (ُق ْل َتع اَلْو ا َأْت ُل ما‬
‫َح َّر َم َر ُّبُك ْم َعَلْيُك ْم ‪ -‬إىل قوله ‪َ -‬تَّتُقوَن )‪.‬‬

‫(‪ )2‬ماأخرجه عبد بن محيد وابن أيب حامت وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت‬
‫قال ‪ :‬قال رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم ‪ « :‬أيكم يبايعىن على هؤالء اآليات الثالث ؟‬
‫مث تال ‪ :‬قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ‪ ،‬إىل ثالث آيات مث قال ‪ :‬فمن وىف هبن فأجره‬
‫على الّل ه ‪ ،‬ومن انتقص منهّن شيئا فأدركه الّل ه ىف الدنيا كانت عقوبته ‪ ،‬ومن أّخ ره إىل‬
‫اآلخرة كان أمره إىل الّله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه » ‪.‬‬
‫(‪ )3‬ما أخرجه عبد بن محيد وأبو عبيد وابن املنذر عن منذر الثوري قال ‪:‬قال الربيع بن‬
‫خيثم ‪ « :‬أ يسرك أن تلقى صحيفة من حممد صلى الّله عليه وسلم خبامته ؟‬

‫قلت نعم ‪ ،‬فقرأ هؤالء اآليات من آخر سورة األنع ام ‪ُ( :‬ق ْل َتع اَلْو ا َأْت ُل ما َح َّر َم َر ُّبُك ْم‬
‫َعَلْيُك ْم ) إىل آخر اآليات » ‪.‬‬

‫[سورة آل عمران (‪ : )3‬اآليات ‪ 18‬الى ‪]20‬‬


‫ِز ِك‬ ‫ِع ِم ِئ ِب ِق ِط ِإ ِإ‬ ‫ِئ‬ ‫ِإ ِإ‬ ‫ِه َّل‬
‫َش َد ال ُه َأَّنُه ال لَه َّال ُه َو َو اْلَم ال َك ُة َو ُأوُلوا اْل ْل قا مًا اْل ْس ال لَه َّال ُه َو اْلَع يُز اَحْل يُم‬
‫جا‬ ‫ما‬ ‫(‪ِ )18‬إَّن الِّدي ِعْنَد الَّل ِه اِإْل ال ا ا َل اَّل ِذ ي ُأوُتوا اْلِكتا ِإَّال ِم ِد‬
‫ُه‬
‫َء ُم‬ ‫ْن َبْع‬ ‫َب‬ ‫ْس ُم َو َم ْخ َت َف َن‬ ‫َن‬
‫ِإ‬ ‫ِب ِت َّل ِه ِإ َّل ِر ِحْل ِب‬ ‫ِع‬
‫اْل ْلُم َبْغي ًا َبْيَنُه ْم َو َمْن َيْك ُف ْر آيا ال َف َّن ال َه َس يُع ا سا (‪َ )19‬ف ْن َح اُّج وَك َفُق ْل‬
‫ِه ِلَّلِه ِن اَّت ِن ُق ِلَّل ِذ ي ُأوُتوا اْلِكتا اُأْلِّمِّي َأَأ َل َفِإْن َأ َل وا َق ِد‬
‫ْس ُم َف‬ ‫َب َو َني ْس ْم ُتْم‬ ‫َأْس َلْم ُت َو ْج َي َو َم َبَع َو ْل َن‬
‫اْه َتَد ْو ا َو ِإْن َتَو َّلْو ا َفِإمَّن ا َعَلْيَك اْلَبالُغ َو الَّلُه َبِص ٌري ِباْلِعباِد (‪)20‬‬

‫تفسير المفردات‬
‫ِلِه‬ ‫ِل‬
‫يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال ‪ « :‬ما َش ِه ْد نا َم ْه َك َأْه » وقال « َفَم ْن‬
‫َش ِه َد ِم ْنُك ُم الَّش ْه َر َفْلَيُصْم ُه » والشهادة بالشيء اإلخبار به عن علم إما باملشاهدة احلسية ‪،‬‬
‫وإما باملشاهدة املعنوية وهى احلجة والربهان ‪ ،‬وأولو العلم هم أهل الربهان القادرون على‬
‫اإلقن اع ‪ ،‬وهم يوج دون يف هذه األمة ويف مجي ع األمم السالفة ‪ ،‬بالقسط ‪:‬أي بالع دل يف‬
‫الدين والشريعة ويف الكون والطبيعة‪ .‬والدين له يف اللغة عدة معان ‪:‬‬
‫منها اجلزاء ‪ ،‬والطاعة واخلضوع ‪ ،‬وجمموعة التكاليف اليت هبا يدين العباد لّل ه ‪ -‬وما يكلف‬
‫به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ‪ ،‬ودينا باعتبار اخلضوع وطاعة الشارع ‪،‬‬
‫وملة باعتبار أهنا أمّلت وكتبت ‪ -‬واإلسالم يأيت مبعىن اخلضوع واالستسالم ‪ ،‬ومبعىن األداء‬
‫تقول أسلمت الشيء إىل فالن إذا أديته إليه ‪ ،‬ومبعىن الدخول يف السلم أي الصلح والسالمة‬
‫‪ ،‬وتسمية الدين احلق إسالما يناسب كل هذه املع اين وأوهلا أوفقها بالتسمية ‪ ،‬يرشد إىل‬
‫ذلك قوله تعاىل ‪َ « :‬و َمْن َأْح َسُن ِدينًا َّمِمْنَأْس َلَم َو ْجَهُه ِلَّلِه َو ُه َو ْحُمِس ٌن َو اَّتَبَع ِم َّلَة ِإْب راِه يَم َح ِنيفًا‬
‫»وحاجوك ‪ :‬جادلوك ‪ ،‬وأسلمت ‪ :‬أي أخلصت ‪ ،‬واألميون مشركو العرب واحدهم أمي‬
‫نسبوا إىل األم جلهلهم كأهنم على الفطرة ‪ ،‬البالغ ‪ :‬أي التبليغ للناس‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن بني سبحانه جزاء املتقني ‪ ،‬وشرح أوصافهم اليت استحقوا هبا هذا اجلزاء ‪ -‬ذكر هنا‬
‫أصول اإلميان وأسسه‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َش ِه َد الَّلُه َأَّنُه ال ِإلَه ِإاَّل ُه َو َو اْلَم الِئَك ُة َو ُأوُلوا اْلِعْلِم قاِئمًا ِباْلِق ْس ِط ) أي بنّي سبحانه وحدانيته‬
‫بنصب الدالئل التكويني ة يف اآلفاق واألنفس ‪ ،‬وإنزال اآليات التش ريعية الناطقة بذلك ‪،‬‬
‫واملالئكة أخربوا الرسل هبذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند األنبياء أقوى‬
‫من مجيع اليقينيات ‪ ،‬وأولو العلم أخربوا بذلك وبّينوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدالئل‬
‫واحلجج ‪ ،‬ألن العامل بالشيء ال تعوزه احلجة عليه‪.‬‬
‫وقوله بالقسط أي بالعدل يف االعتقاد ‪ ،‬فالتوحيد هو الوسط بني إنكار اإلله والشرك به ‪،‬‬
‫والعدل يف العبادات واآلداب واألعمال ‪ ،‬فعدل بني القوى الروحية والبدنية ‪ ،‬فأمر بشكره‬
‫يف الصالة وغريها لرتقي ة الروح وتزكي ة النفس ‪ ،‬وأباح كث ريا من الطيبات حلفظ البدن‬
‫وتربيته ‪ ،‬وهنى عن الغلّو يف الدين واإلسراف يف حب الدنيا وبالع دل يف األحكام يف حنو‬
‫قوله ‪ِ « :‬إَّن الَّل َه َي ْأُمُر ِباْلَع ْد ِل َو اِإْل ْح ساِن » وقوله « َو ِإذا َح َك ْم ُتْم َبَنْي الَّن اِس َأْن ْحَتُك ُم وا‬
‫ِباْلَعْد ِل » ‪.‬‬

‫كما جعل سنن اخلليقة قائمة على أساس العدل ‪ ،‬فمن نظر يف هذه السنن ونظمها الدقيقة‬
‫جتلى له عدل الّله فيها على أمت ما يكون وأوضحه‪.‬‬

‫فقيامه تعاىل بالقسط يف كل هذا برهان على صدق شهادته تعاىل ‪ ،‬فإن وحدة النظام يف‬
‫هذا العامل تدل على وحدة واضعه‪.‬مث أكد كونه منفردا باأللوهية وقائما بالعدل بقوله‪:‬‬

‫(ال ِإلَه ِإاَّل ُه َو اْلَعِز يُز اَحْلِكيُم) فإن العزة إشارة إىل كمال القدرة ‪ ،‬واحلكمة إمياء إىل كمال‬
‫العلم ‪ ،‬والقدرة ال تتم إال بالتفرد واالستقالل ‪ ،‬والعدالة ال تكمل إال باالطالع على املصاحل‬
‫واألحوال ‪ ،‬ومن كان كذلك فال يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ‪ ،‬وال خيرج من‬
‫اخلليقة شىء عن حكمته البالغة‪.‬‬

‫مث ذكر الدستور العام الذي عليه املعّو ل يف كل دين فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن الِّديَن ِعْنَد الَّلِه اِإْل ْس الُم) أي إن مجيع امللل والشرائع اليت جاء هبا األنبياء روحها اإلسالم‬
‫واالنقياد واخلضوع ‪ ،‬وإن اختلفت يف بعض التكاليف وصور األعمال ‪ ،‬وبه كان األنبياء‬
‫يوصون‪ .‬فاملسلم احلقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ‪ ،‬خملصا ىف أعماله مع اإلميان‬

‫من أّى ملة كان ‪ ،‬ويف أي زمان وج د ‪ ،‬وهذا هو املراد بقوله عز امسه « َو َمْن َيْبَت ِغ َغْيَر‬
‫اِإْل ْس الِم ِدينًا َفَلْن ُيْق َبَل ِم ْنُه » ‪.‬‬

‫ذاك أن الّله شرع الدين ألمرين ‪:‬‬

‫(‪ )1‬تصفية األرواح وختليص العقول من شوائب االعتقاد بسلطة غيبي ة للمخلوق ات هبا‬
‫تستطيع التصرف يف الكائنات لتسلم من اخلضوع والعبودية ملن هم من أمثاهلا‪.‬‬

‫(‪ )2‬إصالح القلوب حبسن العمل وإخالص النية لّله وللناس‪.‬‬

‫وأما العبادات فإمنا شرعت لرتبي ة هذا الروح اخللقي ليسهل على صاحبه القي ام بسائر‬
‫التكاليف الدينية‪.‬‬

‫أخرج ابن جرير عن قتادة قال ‪ :‬اإلسالم شهادة أن ال إله إال الّل ه واإلقرار مبا جاء من عند‬
‫الّل ه ‪ ،‬وهو دين الّل ه تع اىل الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ‪ ،‬ودّل علي ه أولياءه ال يقبل‬
‫غريه ‪ ،‬وال جيزى إال به‪.‬‬

‫وخطب على كرم الّله وجهه قال ‪ :‬اإلسالم هو التسليم ‪ ،‬والتسليم هو اليقني ‪ ،‬واليقني هو‬
‫التصديق ‪ ،‬والتصديق هو اإلقرار ‪ ،‬واإلقرار هو األداء ‪ ،‬واألداء هو العمل ‪ ،‬مث قال‪:‬‬

‫إن املؤمن أخذ دين ه عن ربه ‪ ،‬ومل يأخذه عن رأيه ‪ ،‬إن املؤمن يع رف إميانه يف عمله ‪،‬‬
‫والكافر يعرف كفره بإنكاره ‪ ،‬أيها الناس دينكم دينكم ‪ ،‬فإن السيئة فيه خري من احلسنة يف‬
‫غريه ‪ ،‬إن السيئة فيه تغفر ‪ ،‬وإن احلسنة يف غريه ال تقبل‪.‬‬
‫(َو َم ا اْخ َتَل َف اَّل ِذ يَن ُأوُت وا اْلِكتاَب ِإاَّل ِم ْن َبْع ِد ما جاَءُه ُم اْلِعْلُم َبْغي ًا َبْيَنُه ْم ) أي وما خرج‬
‫أهل الكتاب من اإلسالم الذي جاء به أنبياؤهم على حنو ما فصلناه آنفا ‪ ،‬وصاروا مذاهب‬
‫وشيعا يقتتلون يف الدين ‪ -‬والدين واحد ال جمال فيه لالختالف واالقتتال إال بسبب البغي‬
‫وجتاوز احلدود من الرؤساء ‪ ،‬ولو ال بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من‬
‫خالفهم بتفسريهم نصوص الدين بالرأى واهلوى وتأويل بعضه أو حتريفه ملا حدث هذا‬
‫االختالف‪.‬‬

‫والتاريخ شهيد بأن امللوك واألحبار هم الذين جعلوا الدين املسيحي مذاهب ينقض بعضها‬
‫بعضا ‪ ،‬وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض‪ .‬فآريوس وأتباعه الذين دعوا إىل التوحيد‬
‫بعد فش ّو الشرك ‪ ،‬قد حكم عليهم اجملمع الذي ألفه امللك قسطنطني سنة ‪ 325‬م باإلحلاد‬
‫وإحراق كتبهم وحترمي اقتنائها ‪ ،‬وملا انتش رت تعاليمه فيما بع د حكم تيودوسيوس الث اين‬
‫بإبادة اآلريوسية بقانون روماىن صدر سنة ‪ 628‬م ‪ ،‬وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن‬
‫ويغالب بعضها بعضا‪.‬‬

‫والعربة من هذا القصص أن نبتعد عن اخلالف يف الدين والتفرق فيه إىل شيع ومذاهب كما‬
‫فعل من قبلنا ‪ ،‬ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ‪ ،‬وتفرقنا طرائق قددا ‪ ،‬وأصابنا‬
‫من اخلذالن والذل بسبب هذا التفرق ما ال نزال نئّن من ه ‪ ،‬ونرج و أن يش ملنا الّل ه بعفوه‬
‫ورمحته ‪ ،‬وميدنا بروح من عنده فيسعى أهل اإلميان الصادق يف نبذ االختالف والشقاق ‪،‬‬
‫والعودة إىل الوحدة واالتفاق ‪ ،‬حىت يعوداملسلمون إىل سريهتم األوىل يف عهد النيب صلى الّله‬
‫عليه وسلم وخلفائه الراشدين ‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان‪.‬‬
‫(َو َمْن َيْك ُف ْر ِبآياِت الَّل ِه َف ِإَّن الَّل َه َس ِر يُع اِحْلساِب ) أي ومن يكفر بآيات الّل ه الدالة على‬
‫وج وب االعتصام بالدين ووحدته وحرمة االختالف والتفرق في ه ‪ ،‬ويرتك اإلذعان هلا ‪-‬‬
‫فالّله جيازيه ويعاقبه على ما اجرتح من السيئات ‪ ،‬والّله سريع احلساب‪.‬‬

‫واملراد بآيات الّل ه هنا هى آياته التكوينية يف األنفس واآلفاق ‪ ،‬ويدخل يف ترك اإلذعان هلا‬
‫صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ واإلحلاد وآياته التشريعية اليت أنزهلا على رسله‪.‬‬

‫(َفِإْن َح اُّج وَك َفُقْل َأْس َلْم ُت َو ْج ِه َي ِلَّل ِه َو َم ِن اَّتَبَعِن ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غريهم‬
‫‪ -‬وقد كان النيب صلى الّله عليه وسلم يدعو اليهود يف املدينة إىل ترك ما أحدثوه ىف دينهم‬
‫وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إىل حقيقة الدين وإسالم الوجه لّل ه واإلخالص له‬
‫‪ -‬بعد أن أقمت هلم الرباهني والبينات ‪ ،‬وجئتهم باحلق ‪ -‬فقل هلم ‪:‬‬

‫أقبلت بعباديت على رىب خملصا له ‪ ،‬معرضا عما سواه ‪ ،‬أنا ومن اتبعىن من املؤمنني‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه ال فائدة من اجلدل مع مثل هؤالء ألنه ال يكون إال فيما فيه خفاء أما وقد‬
‫قامت األدلة ‪ ،‬وبطلت شبهات الضالني فهو مكابرة وعناد ‪ ،‬وال يستحق منك إال اإلعراض‬
‫وعدم إضاعة الوقت سدى‪.‬‬

‫(َو ُق ْل ِلَّل ِذ يَن ُأوُت وا اْلِكتاَب َو اُأْلِّمِّيَني َأَأْس َلْم ُتْم ؟ ) أي وق ل لليهود والنصارى ومش ركى‬
‫العرب ‪ -‬وخص هؤالء بالذكر مع أن البعثة عامة ‪ ،‬ألهنم هم الذين خوطبوا أوال بالدعوة‬
‫‪ -‬أ أسلمتم كما أسلمت بع د أن وض حت لكم احلج ة ‪ ،‬وج اءكم من البين ات ما يوجبه‬
‫ويقتضيه ‪ ،‬أم تصّر ون على كفركم وعدم ترككم للعناد ؟‬
‫ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ‪ ،‬وال يدع طريقا من طرق البيان إال سلكه ‪ ،‬مث‬
‫يقول له ‪ :‬أ فهمتها ؟‬

‫ويف ذلك تعي ري هلم بالبالدة ومجود القرحية وتوبيخ هلم على العن اد وقلة اإلنصاف (َف ِإْن‬
‫َأْس َلُم وا َفَق ِد اْه َتَد ْو ا) أي فإن أسلموا هذا اإلسالم الذي هو روح الدين ‪ ،‬فقد فازوا باحلظ‬
‫األوفر وجنوا من مهاوى الضالل ‪ ،‬فإن إسالمهم على هذا الوجه يستتبع اتباعك فيما جئت‬
‫به ‪ ،‬ألن من هذه حاله فهو مستنري القلب متجه إىل طلب احلق ‪ ،‬فهو أقرب الناس إىل قبوله‬
‫مىت الح له وظهر‪.‬‬

‫(َو ِإْن َتَو َّل ْو ا َفِإمَّن ا َعَلْي َك اْلَبالُغ) أي وإن أعرض وا عن االعرتاف مبا سألتهم عن ه فلن يضريك‬
‫ذلك شيئا إذ ما عليك إال البالغ ‪ ،‬وقد أديته على أمت وجه وأكمله‪.‬‬

‫(َو الَّلُه َبِص ٌري ِباْلِعباِد ) فهو أعلم مبن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة ‪ ،‬فوقع اليأس‬
‫من اهتدائه ‪ ،‬ومبن يرجى له اهلداية والتوفيق بعد البالغ‪.‬‬

‫[سورة الروم (‪ : )30‬اآليات ‪ 33‬الى ‪]37‬‬


‫ًة ِإذا َفِر ي ِم ِب ِهِّب‬ ‫ا َّب ِنيِب ِإَل ِه َّمُث ِإذا َأذا ِم‬
‫ْم َر ْم‬ ‫ُه‬‫ْن‬ ‫ٌق‬ ‫َمْح‬ ‫َر‬ ‫ُه‬ ‫ْن‬ ‫َقُه ْم‬ ‫َو ِإذا َم َّس الَّن اَس ُض ٌّر َدَع ْو َر ُه ْم ُم َني ْي‬
‫ُيْش ِر ُك وَن (‪ِ )33‬لَيْك ُف ُر وا مِب ا آَتْيناُه ْم َفَتَم َّتُع وا َفَس ْو َف َتْع َلُم وَن (‪َ )34‬أْم َأْنَز ْلنا َعَلْيِه ْم ُس ْلطانًا‬
‫َفُه َو َيَتَك َّلُم مِب ا كاُنوا ِبِه ُيْش ِر ُك وَن (‪َ )35‬و ِإذا َأَذْقَن ا الَّناَس َر َمْحًة َفِر ُح وا هِب ا َو ِإْن ُتِص ْبُه ْم َس ِّيَئٌة‬
‫مِب ا َقَّد َم ْت َأْيِد يِه ْم ِإذا ُه ْم َيْق َنُطوَن (‪َ )36‬أَو ْمَل َيَر ْو ا َأَّن الَّلَه َيْبُس ُط الِّرْز َق ِلَم ْن َيشاُء َو َيْق ِدُر ِإَّن‬
‫يِف ذِلَك آَل ياٍت ِلَق ْو ٍم ُيْؤ ِم ُنوَن (‪)37‬‬
‫المعنى الجملي‬

‫ملا أرشد سبحانه إىل التوحي د ‪ ،‬وأق ام األدلة علي ه ‪ ،‬وض رب له املث ل أعقبه بذكر حال‬
‫للمشركني يعرفون هبا ‪ ،‬وسيماء ال ينكروهنا ‪ ،‬وهى أهنم حني الش ّد ة يتضرعون إىل رهبم ‪،‬‬
‫وينيبون إليه ‪ ،‬فإذا خلصوا منها رجعوا إىل شنشنتهم األوىل ‪ ،‬وأشركوا به األوثان واألصنام‬
‫‪ ،‬فليضلوا ما شاءوا ‪ ،‬فإن هلم يوما يرجعون فيه إىل رهبم ‪ ،‬فيحاسبهم على ما اجرتحوا من‬
‫السيئات ‪ ،‬وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل ‪ ،‬حىت يكون هلم شبه العذر فيما يفعلون ‪ ،‬بل هو‬
‫اهلوى املطاع ‪ ،‬والرأى املّتبع ‪ ،‬مث ذكر حال طائفة من املشركني دون سابقيهم ‪ ،‬وهم من‬
‫تكون عبادهتم لّل ه رهن إصابتهم من الدنيا ‪ ،‬فإن آتاهم رهبم منها رضوا ‪ ،‬وإذا منعوا منها‬
‫سخطوا وقنطوا ‪ ،‬وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده ‪ ،‬وقد‬
‫جعل لذلك أسبابا مىت سلكها فاعلها وصل إىل ما يريد ‪ ،‬وليس علينا إال أن تطمئن نفوسنا‬
‫إىل ما يكون ‪ ،‬فكله بقدر الّله وقضائه ‪ ،‬وعلينا أن نستسلم له ‪ ،‬ونعمل ما طلب إلينا عمله‬
‫من األخذ من األسباب واجلد ىف العمل جهد الطاقة‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو ِإذا َم َّس الَّناَس ُض ٌّر َدَع ْو ا َر َّبُه ْم ُمِنيِبَني ِإَلْي ِه) أي وإذا مس هؤالء املش ركني الذين جيعلون‬
‫مع الّله إهلا آخر ‪ -‬ض ّر فأصاهبم جدب وقحط أخلصوا لرهبم التوحيد ‪ ،‬وأفردوه بالتضرع‬
‫إليه واستغاثوا به منيبني إليه ‪ ،‬تائبني إليه من شركهم وكفرهم‪.‬‬
‫(َّمُث ِإذا َأذاَقُه ْم ِم ْن ُه َر َمْحًة ِإذا َفِر يٌق ِم ْنُه ْم ِب َر ِهِّبْم ُيْش ِر ُك وَن ) أي مث إذا كش ف رهبم عنهم ذلك‬
‫الضر وفرجه عنهم ‪ ،‬وأصاهبم برخاء وخصب وسعة ‪ ،‬إذا مجاعة منهم يشركون به فيعبدون‬
‫معه اآلهلة واألوثان‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ :‬إهنم حني الضرر يدعون الّل ه وحده ال شريك له ‪ ،‬وإذا أسبغ عليهمنعمه إذا‬
‫فريق منهم يشركون به سواه ‪ ،‬ويعبدون معه غريه‪.‬مث أمرهم أمر هتديد كما يقول السيد‬
‫لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره ‪:‬‬

‫اعصىن ما شئت ‪ ،‬قال ‪:‬‬

‫(ِلَيْك ُف ُر وا مِب ا آَتْين اُه ْم ) أي فليجح دوا نعمى عليهم وإحساىن إليهم كي ف شاءوا ‪ ،‬فإن هلم‬
‫يوما حناسبهم في ه ‪ ،‬يوم يؤخذون بالنواصي ‪ ،‬وجيّر ون بالسالسل واألغالل ‪ ،‬ويقال هلم ‪:‬‬
‫ذوقوا ما كنتم تعملون‪.‬‬

‫ومثله األمر بعده وهو ‪:‬‬

‫(َفَتَم َّتُعوا) أي فتمتعوا مبا آتيناكم من الرخاء ‪ ،‬وسعة النعمة ىف الدنيا ‪ ،‬فما هى إال أو يقات‬
‫قصرية متضى كلمح البصر‪.‬‬

‫مث هددهم أشد التهديد بقوله ‪:‬‬

‫(َفَس ْو َف َتْع َلُم وَن ) إذا وردمت علّى ما يصيبكم من شديد عذاىب ‪ ،‬وعظيم عقاىب ‪ ،‬على‬
‫كفركم يب ىف الدنيا‪.‬‬
‫روى عن بعض السلف أنه ق ال ‪ :‬والّل ه لو توعدىن حارس درب خلفت في ه ‪ ،‬فكي ف‬
‫واملتوّعد هو الّله الذي يقول للشىء كن فيكون ؟ ‪.‬‬

‫مث أنكر على املشركني ما اختلقوه من عبادة غريه بال دليل ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫(َأْم َأْنَز ْلن ا َعَلْيِه ْم ُس ْلطانًا َفُه َو َيَتَك َّلُم مِب ا كاُنوا ِب ِه ُيْش ِر ُك وَن ) أي أ أنزلن ا على هؤالء الذين‬
‫يش ركون ىف عبادتن ا اآلهلة واألوث ان كتابا في ه تصديق ملا يقولون ‪ ،‬وإرشاد إىل حقيقة ما‬
‫يّد عون‪.‬وإمجال القصد ‪ :‬إنه مل ينّز ل مبا يقولون كتابا وال أرسل به رسوال ‪ ،‬وإمنا هو شىء‬
‫افتعلوه اتباعا ألهوائهم‪.‬مث ذكر طبيعة اإلنسان وجبّلته إال من عصمه الّله فقال‪:‬‬

‫(َو ِإذا َأَذْقَنا الَّناَس َر َمْحًة َفِر ُح وا هِب ا َو ِإْن ُتِص ْبُه ْم َس ِّيَئٌة مِب ا َقَّد َم ْت َأْيِد يِه ْم ِإذا ْمُهَيْق َنُطوَن )‬

‫أي إن اإلنسان قد رّك ب ىف طبيعته الفرح والبطر حني تصيبه النعمة ‪ ،‬كما حكى الّله عنه ‪:‬‬
‫« َلَيُق وَلَّن َذَه َب الَّس ِّيئاُت َعيِّن ِإَّن ُه َلَف ِر ٌح َفُخ وٌر » وإذا أصابته شدة جبهله بسنن احلي اة ‪،‬‬
‫وعصيانه أوامر الدين ‪ ،‬قنط من رمحة الّله وأيس منها ‪ ،‬فهو كما قيل ‪:‬‬

‫كحمار السوء إن أعلفته رمح الناس وإن جاع هنق‪ِ« .‬إاَّل اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َعِم ُلوا الَّص احِل اِت »‬
‫فإهنم راضون مبا قسمه هلم رهبم من خري أو شر ‪ ،‬علما منهم أن الّل ه حكيم ‪ ،‬ال يفعل إال‬
‫ما فيه خري للعبد ‪ ،‬وىف احلديث الصحيح ‪:‬‬

‫« عجبا للمؤمن ال يقضى الّل ه له قضاء إال كان خريا له ‪ ،‬إن أصابته سراء شكر ‪ ،‬فكان‬
‫خريا له ‪ ،‬وإن أصابته ضراء صرب ‪ ،‬فكان خريا له » ‪.‬‬

‫مث أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫(َأَو ْمَل َيَر ْو ا َأَّن الَّل َه َيْبُس ُط الِّرْز َق ِلَم ْن َيشاُء َو َيْق ِد ُر ؟ ) أي أمل يشاهدوا ويعلموا أن األمرين‬
‫من الّله ‪ ،‬فما باهلم مل يشكروا ىف السراء ‪ ،‬وحيتسبوا ىف الضراء ‪ ،‬كما يفعل املؤمنون ‪ ،‬فإن‬
‫من فطر هذا الع امل ال ينزل الش دة بعباده إال ملا هلم فيها من اخلري كالتأديب والتذكري‬
‫واالمتحان ‪ ،‬فهو كما يرىب عباده بالرمحة يربيهم بالتعذيب فلو أهنم شكروه حني السراء ‪،‬‬
‫وتضرعوا إليه ىف الضراء ‪ ،‬لكان خريا هلم‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ :‬إنه جيب عليهم أن ينيبوا إلي ه ىف الرخاء والش دة ‪ ،‬وال يع وقهم عن اإلنابة إلي ه‬
‫نعمة تبطرهم ‪ ،‬وال شدة حتدث ىف قلوهبم الي أس ‪ ،‬بل يكونون ىف السراء والضراء منيبني‬
‫إليه‪.‬‬

‫(ِإَّن يِف ذِلَك آَل ياٍت ِلَق ْو ٍم ُيْؤ ِم ُنوَن ) أي إن ىف ذلك البسط على من بسط له والقدر على من‬
‫قدر عليه ‪ -‬لداللة واضحة ملن صّد ق حبجج الّله إذا عاينها‪.‬‬

‫[سورة األنبياء (‪ : )21‬اآليات ‪ 105‬الى ‪]107‬‬

‫َو َلَقْد َك َتْبنا يِف الَّز ُبوِر ِم ْن َبْع ِد الِّذ ْك ِر َأَّن اَأْلْر َض َيِر ُثها ِعباِدَي الَّص اُحِلوَن (‪ِ )105‬إَّن يِف هذا‬
‫َلَبالغًا ِلَق ْو ٍم عاِبِد يَن (‪َ )106‬و ما َأْر َس ْلناَك ِإَّال َر َمْحًة ِلْلعاَلِم َني (‪)107‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫الزبور ‪ :‬الكتب اليت أنزلت على األنبي اء ‪ ،‬والذكر ‪ :‬اللوح احملفوظ ‪ ،‬والبالغ الكفاية ‪،‬‬
‫والعابد ‪ :‬من عمل مبا يعلم من أحكام الشريعة وآداهبا‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬
‫بعد أن ذكر أحوال كل من الكافرين واملؤمنني ىف اآلخرة ‪ -‬ذكر أن الدنيا ليست كاآلخرة‬
‫‪ ،‬فال يرثها إال من كان ق ادرا على إصالحها ‪ ،‬واالنتفاع خبرياهتا ‪ ،‬واالستفادة مما على‬
‫ظاهرها وباطنها ‪ ،‬فمن كان أحصف رأيا ‪ ،‬وأحكم فكرا ‪ ،‬ملكها وتسلط عليها ‪ ،‬وجىن‬
‫مثارها واهتدى إىل ما أودع فيها من اخلري‪.‬‬

‫مث بني أن ما أوحى إىل الرسول من الش رائع وض روب اهلداية كاف ج ّد الكفاية ملن يعترب‬
‫بسنن الّله ىف الكون ‪ ،‬فيستفيد منها ما ينفعه ىف دينه ودنياه ‪ ،‬فجميع ما جاء به الوحى من‬
‫املواعظ وأحكام الشرائع هداية وذكرى لو تدبرها املتدبرون ‪ ،‬وتأملها املنصفون‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو َلَق ْد َك َتْبن ا يِف الَّز ُب وِر ِم ْن َبْع ِد الِّذ ْك ِر َأَّن اَأْلْر َض َيِر ُثها ِعباِدَي الَّص اُحِلوَن ) أي ولقد كتب‬
‫الّل ه عن ده ‪ ،‬وأثبت ىف ق دمي علمه األزىل الذي ال ينسى ‪ ،‬مث أثبت ىف الكتب السماوية من‬

‫بع د ذلك أن األرض ال يعمرها من عباده إال من يصلح لعمارهتا من أي دين كان وأّى‬
‫مذهب انتجل‪.‬‬

‫وصالح األمة يقوم على أربعة عمد ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أن يكون قادهتا علماء مفكرين ‪ ،‬وساستها حكماء عادلني ‪ ،‬بعيدين عن اجلور والظلم‬
‫واحملاباة ‪ ،‬يأخذون بي د املظلوم وينصفونه من الظ امل ‪ ،‬ويعملون خلري األمة وسعادهتا ‪،‬‬
‫ويواصلون ليلهم بنهارهم ىف كل ما يرفع من شأهنا ‪ ،‬ويسمو هبا على األمم‪.‬‬
‫(‪ )2‬أن يكون هلا جيش منظم حيمى حرميها ‪ ،‬ويدافع عنها إذا ج ّد اجلّد ‪ ،‬وادهّل م اخلطب ‪،‬‬
‫ولن يكون كذلك إال إذا كان في ه املهندسون واملخ رتعون والقادة البارعون ‪ ،‬ولديه من‬
‫السالح وعدد احلرب ما يكشف عنه العلم من وسائل الدفاع ‪ ،‬طائرات وغواصات وسفن‬
‫خربية وآالت للهدم والتدمري ‪ ،‬وجند حذقوا فنون احلرب ‪ ،‬ويلوا أساليبها املختلفة‪.‬‬

‫(‪ )3‬أن يقوم أبن اء احلرف املختلفة ‪ ،‬من جتار وصناع وزراع بأداء أعماهلم على الوج ه‬
‫املرضى ‪ ،‬وكل طائفة منها تظاهر الطوائف األخرى وتعاوهنا خلري اجلميع ‪ ،‬وتقوم مبا جيب‬
‫حنوها من املساعدة فيما يكفل جناح األعمال‪.‬‬

‫(‪ )4‬أن تنّظم هذه الطوائف أعماهلا حبيث تتوزع هذه املهن بني األفراد حبسب حاجة األمة‬
‫إليها حىت ال متد يدها إىل غريها ملعونتها ‪ ،‬ويكون ىف كل طائفة مجاعة مّربزون ‪ ،‬يفكرون‬
‫فيما يرقى شئون الطائفة ‪ ،‬حبيث تنافس أمثاهلا ىف األمم األخرى أو تفوقها ‪ ،‬مبا أوتيت من‬
‫حسن التدبري والتصرف‪.‬‬

‫وهذا حكم أيدته التجارب ىف سائر العصور لدى مجيع الدول ‪ ،‬فما من أمة هتاونت ىف هذه‬
‫األمور أو ىف شىء منها إال حكم عليها بالفن اء والزوال ‪ ،‬وتواريخ الفرس والروم واألمم‬
‫اإلسالمية والدولة الرتكية تدل على صدق ما نقول‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله تعاىل ‪ِ « :‬إَّن اَأْلْر َض ِلَّل ِه ُيوِر ُثها َمْن َيشاُء ِم ْن ِعباِدِه َو اْلعاِقَب ُة ِلْلُم َّتِق َني ‪َ ،‬و َع َد‬
‫ِذ ِم‬ ‫ِل‬ ‫حِل ِت‬ ‫ِم‬ ‫ِم‬ ‫ِذ‬
‫الَّل ُه اَّل يَن آَم ُن وا ْنُك ْم َو َع ُل وا الَّص ا ا َلَيْس َتْخ َف َّنُه ْم يِف اَأْلْر ِض َك َم ا اْس َتْخ َلَف اَّل يَن ْن‬
‫َقْبِلِه ْم َو َلُيَم ِّك َنَّن ُهَلْم ِديَنُه ُم اَّلِذي اْر َتضى ُهَلْم » ‪.‬‬
‫(ِإَّن يِف هذا َلَبالغًا ِلَق ْو ٍم عاِب ِد يَن ) أي إن فيما ذكر ىف هذه السورة من أنظمة الدول‬
‫والتسلط على ألطف األشياء كاهلواء ‪ ،‬وعلى أصلبها كاحلديد ‪ ،‬ومن اجلمع بني حرب‬
‫األعداء ‪ ،‬واالستغراق ىف ذكر الّل ه ‪ ،‬وتسخري العمال ىف املباىن العظيمة ‪ ،‬واستخراج ما ىف‬
‫البحار من أصناف الآللئ ‪ ،‬وما ىف باطن األرض من خمتلف املعادن ‪ -‬لكفاية لقوم جيمعون‬
‫بني العلم والعمل ‪ ،‬إذ يعلمون أن العلم شجرة ‪ ،‬مثرهتا العمل‪.‬‬

‫فعلى املسلمني قاطبة أن يصدعوا مبا أمروا به ىف هذا الكتاب ‪ ،‬وأن يعرض وا عن اجلاهلني‬
‫بأمور دينهم ‪ ،‬فالّله حماسبهم على أعماهلم ‪ ،‬كما حياسبهم على قدرهم اجلسميةوليعلموا أنه‬
‫مىت ذاعت هذه اآلراء ىف األمة ‪ ،‬قامت كلها قومة رجل واحد ‪ ،‬ىف تنظيم شئوهنا ‪ ،‬وتربية‬
‫أبنائها تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العامل اإلنساىن‪.‬‬

‫(َو ما َأْر َس ْلناَك ِإاَّل َر َمْحًة ِلْلع اَلِم َني ) أي وما أرسلناك هبذا وأمثاله من الشرائع واألحكام اليت‬
‫هبا مناط السعادة ىف الدارين ‪ -‬إال لرمحة الناس وهدايتهم ‪ ،‬ىف شئون معاشهم ومعادهم‪.‬‬

‫بيان هذا أنه عليه الصالة السالم أرسل مبا فيه املصلحة ىف الدارين ‪ ،‬إال أن الكافر فّو ت على‬
‫نفسه االنتفاع بذلك ‪ ،‬وأعرض عما هنالك ‪ ،‬لفساد استعداده وقبح طوّيته ‪ ،‬ومل يقبل هذه‬
‫الرمحة ‪ ،‬ومل يش كر هذه النعمة ‪ ،‬فلم يسعد ال ىف دين وال دني ا ‪ ،‬كما ق ال « َأْمَل َتَر ِإىَل‬
‫اَّل ِذ يَن َب َّد ُلوا ِنْع َم َت الَّل ِه ُكْف رًا َو َأَح ُّل وا َقْو َمُه ْم داَر اْلَب واِر ‪َ :‬جَه َّنَم َيْص َلْو هَن ا َو ِبْئَس اْلَق راُر »‬
‫ِهِن‬ ‫ِم‬ ‫َّلِذ‬ ‫ِش‬ ‫ِل ِذ‬
‫وقال ىف صفة القرآن « ُقْل ُه َو َّل يَن آَم ُن وا ُه دًى َو فاٌء َو ا يَن ال ُيْؤ ُن وَن يِف آذا ْم َو ْقٌر‬
‫َو ُه َو َعَلْيِه ْم َعًم ى ُأولِئَك ُيناَدْو َن ِم ْن َم كاٍن َبِعيٍد »وقال صّلى الّله عليه وسلم « إن الّل ه بعثين‬
‫رمحة مهداة » ‪.‬‬
‫[سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 183‬الى ‪]185‬‬

‫يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك ِتَب َعَلْيُك ُم الِّص ياُم َك ما ُك ِتَب َعَلى اَّل ِذ يَن ِم ْن َقْبِلُك ْم َلَعَّلُك ْم َتَّتُق وَن (‬
‫َلى اَّلِذ‬ ‫ِع ِم‬ ‫ِم‬ ‫ٍت‬
‫َن‬ ‫ي‬ ‫‪َ )183‬أَّيامًا َم ْع ُد ودا َفَم ْن كاَن ْنُك ْم َم ِر يضًا َأْو َعلى َس َف ٍر َف َّد ٌة ْن َأَّياٍم ُأَخ َر َو َع‬
‫ِإ‬ ‫ُيِط يُقوَن ُه ِفْد َي ٌة َطعاُم ِم ِكٍني‬
‫َفَم ْن َتَط َّو َع َخرْي ًا َفُه َو َخ ْيٌر َل ُه َو َأْن َتُص وُموا َخ ْيٌر َلُك ْم ْن ُك ْنُتْم‬ ‫ْس‬
‫َتْع َلُم وَن (‪َ )184‬ش ْه ُر َرَم ضاَن اَّل ِذ ي ُأْن ِز َل ِفي ِه اْلُق ْر آُن ُه دًى ِللَّن اِس َو َبِّين اٍت ِم َن اُهْلدى‬

‫َخ‬ ‫ُأ‬ ‫كاَن ِر يضًا َأ َعلى َف ٍر َفِع َّد ٌة ِم َأَّياٍم‬ ‫ُه‬ ‫ْل‬ ‫ْه‬ ‫الَّش‬ ‫ُك‬ ‫ْن‬ ‫اْلُف قاِن َف َش ِه َد ِم‬
‫َر‬ ‫ْن‬ ‫َس‬ ‫ْو‬ ‫َم‬ ‫َمْن‬ ‫َو‬ ‫َيُصْم‬ ‫َف‬ ‫ُم َر‬ ‫َو ْر َم ْن‬
‫ِل ِم ِع ِل‬ ‫ِب‬ ‫ِب‬
‫ُيِر يُد الَّل ُه ُك ُم اْلُيْس َر َو ال ُيِر يُد ُك ُم اْلُعْس َر َو ُتْك ُل وا اْل َّد َة َو ُتَك ِّبُر وا الَّل َه َعلى ما َه داُك ْم‬
‫َو َلَعَّلُك ْم َتْش ُك ُر وَن (‪)185‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫الصيام يف اللغة ‪ :‬اإلمساك والكّف عن الشيء ‪ ،‬ويف الشرع اإلمساك ‪ :‬عن األكل والش رب‬
‫وغش يان النساء من الفج ر إىل املغ رب احتسابا لّل ه ‪ ،‬وإعدادا للنفس وهتيئة هلا لتقوى الّل ه‬
‫مبراقبته يف السّر والعلن ‪ ،‬واإلطاقة ‪ :‬القدرة على الشيء مع حتمل املشقة الشديدة والفدية ‪:‬‬
‫هى طعام مسكني من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة عن كل يوم‬
‫يفطرونه ‪ ،‬واليسر ‪ :‬السهولة والتخفيف ‪ ،‬وضده العسر‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫فرض الّله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا ‪ ،‬ألنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس ‪،‬‬
‫وأق وى العبادات يف كبح مجاع الش هوات ‪ ،‬ومن مث كان مش روعا يف مجي ع امللل حىت‬
‫الوثنية ‪ ،‬فهو معروف لدى قدماء املصريني ‪ ،‬ومنهم انتقل إىل اليونان والرومان ‪ ،‬وال يزال‬
‫اهلنود الوثنيون يصومون إىل اآلن ‪ ،‬ويف التوراة مدحه ومدح الصائمني ‪ ،‬وليس فيها ما يدل‬
‫على أنه فرض ‪ ،‬وثبت أن موسى صام أربعني يوما كما أنه ليس يف اإلجني ل نص على‬
‫الفريضة ‪ ،‬بل فيها مدحه وعّد ه عبادة ‪ ،‬وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبري الذي‬
‫قبل عيد الفصح ‪ ،‬وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى واحلواريون ‪ ،‬وقد وضع‬
‫رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام ختتلف فيها املذاهب والطوائف‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك ِتَب َعَلْيُك ُم الِّص ياُم َك ما ُك ِتَب َعَلى اَّل ِذ يَن ِم ْن َقْبِلُك ْم ) أي فرض‬
‫عليكم الصيام كما فرض على املؤمنني من أهل امللل قبلكم من لدن آدم عليه السالم‪.‬‬

‫ويف هذا تأكي د له وترغيب في ه ‪ ،‬وتطييب ألنفس املخ اطبني فإنه عبادة شاقة ‪ ،‬واألمور‬
‫الشاقة إذا عّم ت كثريا من الناس سهل حتملها ورغب كل أحد يف عملها‪.‬‬

‫مث بني فائدة الصوم وحكمته فقال ‪:‬‬

‫(َلَعَّلُك ْم َتَّتُق وَن ) أي إنه فرض ه عليكم ليع ّد كم لتقوى الّل ه برتك الش هوات املباحة امليسورة‬
‫امتثاال ألمره واحتسابا لألجر عنده ‪ ،‬فترتيب بذلك العزمية واإلرادة على ضبط النفس وترك‬
‫الشهوات احملّر مة والصرب عنها ‪،‬وقد جاء يف احلديث ‪« :‬الصيام نصف الصرب»‬
‫وهبذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إال ملنفعتنا ‪ ،‬ال كما يعتقد الوثنيون من أن القصد منه‬
‫تسكني غضب اآلهلة إذا عملوا ما يغضبهم ‪ ،‬أو استمالتهم يف بعضالشئون واألغراض ‪ ،‬ألن‬
‫اآلهلة ال ترض ى إال بتع ذيب النفس وإماتة حظ وظ اجلسد ‪ ،‬وشاع هذا االعتقاد بني أهل‬
‫الكتاب فجاء اإلسالم وحماكل هذا‪.‬‬

‫وإعداد الصوم لتقوى الّله يظهر من وجوه كثرية أعظمها شأنا ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أنه يع ّو د اإلنسان اخلش ية من ربه يف السّر والعلن ‪ ،‬إذ أن الصائم ال رقيب علي ه إال‬
‫ربه ‪ ،‬فإذا ترك الشهوات اليت تع ّر ض له من أكل نفيس ‪ ،‬وشراب عذب ‪ ،‬وفاكهة يانعة ‪،‬‬
‫وزوجة مجيلة ‪ ،‬امتثاال ألمر ربه ‪ ،‬وخضوعا إلرشاد دينه مدة الصيام شهرا كامال ‪ ،‬ولوال‬
‫ذلك ملا صرب عليها وهو يف أشّد الشوق إليها ‪ ،‬ال جرم أنه بتكراره ذلك يتع ّو د احلياء من‬
‫ربه ‪ ،‬واملراقبة له يف أمره وهنيه ‪ ،‬ويف ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواهتا ‪ ،‬وشدة‬
‫مراقبتها لبارئها‪.‬‬

‫ومن كملت لديه هذه اخلّل ة ال يقدم على غّش الن اس وخمادعتهم ‪ ،‬وال على أكل أمواهلم‬
‫بالباط ل ‪ ،‬وال على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة ‪ ،‬وال على اق رتاف املنكرات ‪،‬‬
‫واج رتاح السيئات ‪ ،‬وإذا أّمل بش ىء منها يكون سريع التذكر ق ريب الرج وع بالتوبة‬

‫ُه‬ ‫ذا‬ ‫الصحيحة كما قال تعاىل ‪ِ « :‬إَّن اَّلِذ ي اَّتَق ا ِإذا َّس ُه طاِئٌف ِم الَّش ْيطاِن َتَذ َّك وا َف ِإ‬
‫ْم‬ ‫ُر‬ ‫َن‬ ‫َن ْو َم ْم‬
‫ُمْبِص ُر وَن » ‪.‬‬

‫وملا للصوم من جليل األثر يف هتذيب النفس‬


‫جاء يف احلديث ‪ « :‬من صام رمضان إميانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه »‬

‫أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم ‪،‬‬

‫وجاء يف احلديث القدسي ‪ « :‬كل عمل ابن آدم له إال الصوم فإنه ىل ‪ ،‬وأنا أجزىبه » ‪.‬‬

‫(‪ )2‬أنه يكسر حّد ة الشهوة ‪ ،‬وجيعل النفس مصّر فة لشهواهتا حبسب الشرع ‪ ،‬كماجاء يف‬
‫احلديث ‪ « :‬يا معش ر الش باب ‪ ،‬من استطاع منكم الباءة فلي تزّو ج ‪ ،‬فإنه أغّض للبصر‬
‫وأحصن للفرج ‪ ،‬ومن مل يستطع فعلي ه بالصوم فإنه له وج اء »والوج اء ‪ :‬رّض األنث يني ‪،‬‬
‫وهو كاخلصاء مضعف للشهوة الزوجية‬

‫(‪ )3‬أنه يعّو د الشفقة والرمحة الداعيتني إىل البذل والصدقة ‪ ،‬فهو عند ما جبوع يتذكر من ال‬
‫جيد قوتا من أولئك البائسني ‪ ،‬فريّق قلبه هلم ويشفق عليهم ‪ ،‬ويف ذلك تكافل لألمة وشعور‬
‫باألخوة الدينية‪.‬‬

‫(‪ )4‬أن فيه املساواة بني األغنياء والفقراء ‪ ،‬وامللوك والسوقة ‪ ،‬ىف أداء فريضة دينية واحدة‪.‬‬

‫(‪ )5‬تعويد األمة النظ ام يف املعيش ة ‪ ،‬فهم يفطرون يف وقت واحد ‪ ،‬ال يتقدم واحد على‬
‫آخر‪.‬‬

‫(‪ )6‬أنه يفىن املواد الراسبة يف البدن ‪ ،‬وال سيما يف أجسام املرتفني أوىل الّنهم قليلى العمل ‪،‬‬
‫وجيفف الرطوبات الضارة ‪ ،‬ويطهر األمعاء من السموم اليت حتدثها البطنة ‪ ،‬ويذيب الشحم‬
‫الذي هو شديد اخلطر على القلب ‪،‬‬

‫وقد أثر عنه صلى الّله عليه وسلم أنه قال ‪ « :‬صوموا تصّح وا »‬
‫وقال بعض علماء أوربا ‪ :‬إن صيام شهر واحد يف السنة يذهب الفضالت امليتة يف البدن‬
‫مدة سنة‪ .‬ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرض ّيا مطمئّن ا ال جيد يف نفسه اض طرابا‬
‫وال قلقا من مزعجات احلوادث ‪ ،‬وال عظيم املصايب والكوارث ‪ ،‬نعم إن وجد شىء من‬
‫هذا كان جثمانّيا ال روحانّيا‪.‬‬

‫وأين هذا من الصوم الذي علي ه أكثر املسلمني الي وم من إثارته للسخط والغضب ألدىن‬
‫سبب حىت صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعى للصوم ‪ ،‬وهو وهم استحوذ على النفوس حىت‬
‫صار كأنه حقيقة واقعة‪.‬‬

‫وهذا األثر يف نفوسهم مناف للتقوى اليت شرع الصيام ألجلها ‪ ،‬وخمالف ملا جاء من اآلثار‬
‫من حنوقوله صلى الّله عليه وسلم ‪ « :‬الصيام جّنة »أي سرت ووقاية من املعاصي واآلثام‪.‬‬

‫ويرى األوزاعى أن الغيبة تفطر الصائم ‪ ،‬وق ال ابن حزم يبطله كل معصية من متعّم د هلا‬
‫ذاكر لصومه ‪ ،‬وق ال الغ زايل ‪ :‬من يعصى الّل ه وهو صائم كمن يبىن قصرا ‪ ،‬ويهدم‬
‫مصراوأين هذا مما نرى عليه الناس من االستعداد ملآكل رمضان وشرابه ‪ ،‬حىت لينفقون فيه‬
‫ما يكاد يساوى نفقة السنة كلها ‪ ،‬فكأّن رمضان موسم أكل ‪ ،‬وكأّن اإلمساك عن الطعام‬
‫يف النهار ألجل االستكثار منه يف الليل‪.‬‬

‫(َأَّيامًا َم ْع ُد وداٍت ) أي أياما معّينات بالعدد وهى أيام رمضان ‪ ،‬فالّل ه مل يفرض علينا صوم‬
‫الدهر كله وال أكثره ختفيفا ورمحة باملكلفني‪.‬‬
‫(َفَم ْن كاَن ِم ْنُك ْم َم ِر يضًا َأْو َعلى َس َف ٍر َفِع َّد ٌة ِم ْن َأَّياٍم ُأَخ َر ) أي فمن كان على إحدى احلالني‬
‫فالواجب عليه ‪ -‬إذا أفطر ‪ -‬القضاء بقدر عدد األيام اليت مل يصمها ألن كلتيهما عرضة‬
‫الحتمال املشقة بالصوم ‪ ،‬وأكثر األئمة على اشرتاط أن يكون املرض شديدا يصعب معه‬
‫الصوم بدليل قوله ‪ُ « :‬يِر يُد الَّلُه ِبُك ُم اْلُيْسَر َو ال ُيِر يُد ِبُك ُم اْلُعْسَر »‬

‫ويرى مجاعة منهم ابن سريين وعطاء والبخاري أن أّى مرض هو رخصة يف اإلفطار فرّب‬
‫مرض ال يش ّق مع ه الصوم يضّر في ه الصوم املريض ‪ ،‬ويكون سببا يف زيادة مرض ه وطول‬
‫مدته ‪ ،‬وضبط املشقة عسر ‪ ،‬ومعرفة الضرر أعسر‪.‬‬

‫والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح فيه قصر الصالة ‪،‬روى أمحد ومسلم وأبو داود‬
‫عن أنس قال ‪ :‬كان رسول الّله صلى الّل ه عليه وسلم إذا خرج مسرية ثالثة أميال أو ثالثة‬
‫فراسخ صلى ركعتني ‪ -‬يريد أنه يقصر الصالة‬

‫‪ -‬وهذه املسافة وإن قطعت اآلن يف دق ائق مع دودات مبيح ة للفطر ‪ ،‬إذ الع ربة بقطع مث ل‬
‫هذه املسافة ال بالزمن الذي تقطع فيه‪.‬‬

‫ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة ‪ ،‬ومن أفطر وجب عليه القضاء‬
‫‪ ،‬وبذلك كان عمل الصحابة ‪،‬‬

‫فقد ورد يف الصحيح أهنم كانوا يسافرون مع النيب صلى الّله عليه وسلم منهم املفطر ومنهم‬
‫الصائم ال يعيب أحد على اآلخر ‪ ،‬وأنه كان يأمرهم باإلفطار عند توقع املشقة فيفطرون‬
‫مجيعا ‪،‬‬
‫روى أمحد ومسلم عن أيب سعيد قال ‪ :‬سافرنا مع رسول الّله صلى الّله عليه وسلم إىل مكة‬
‫وحنن صيام فنزلن ا منزال ‪ ،‬فقال رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم ‪ « :‬إنكم ق د دنومت من‬
‫عدّو كم والفطر أق وى لكم » فكانرتخصة ‪ ،‬فمن ا من صام ومن ا من أفطر ‪ ،‬مث نزلن ا منزال‬
‫آخر فقال ‪ « :‬إنكم مصّبحو عدوكم والفطر أق وى لكم فأفطرنا » فكانت عزمة‬
‫فأفطرنا‪.‬وروى عن عائشة أن محزة األسلمى قال للنىب صلى الّل ه عليه وسلم ‪ :‬أ أصوم يف‬
‫السفر ؟‬

‫وكان كثري الصيام ‪ ،‬فقال له ‪ « :‬إن شئت فصم وإن شئت فأفطر »ويف رواية مسلم أنه‬
‫أجابه بقوله ‪ « :‬هى رخصة من الّل ه ‪ ،‬فمن أخذ هبا فحسن ‪ ،‬ومن أحّب أن يصوم فال‬
‫جناح عليه »‬

‫وأكثر األئمة كمالك وأيب حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل ملن قوي عليه ومل يش ّق ‪،‬‬
‫ويرى أمحد واألوزاعى أن الفطر أفضل عمال بالرخصة‪.‬‬

‫(َو َعَلى اَّل ِذ يَن ُيِط يُقوَن ُه ِفْد َي ٌة َطع اُم ِم ْس ِكٍني ) والذين يطيقون هم الش يوخ الضعفاء والّز مىن‬
‫الذين ال يرجى برء أمراضهم ‪ ،‬والعمال الذين جعل الّل ه معاشهم الدائم باألشغال الشاقة‬
‫كاستخراج الفحم من املن اجم ‪ ،‬واجملرمون الذين حيكم عليهم باألشغال الش اقة املؤبدة إذا‬
‫كان الصيام يشق عليهم ‪ ،‬واحلبلى واملرضع إذا خافتا على ولديهما ‪ ،‬فكل هؤالء يفطرون‬
‫وعليهم الفدية ‪ ،‬وهى طعام مسكني من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة‬
‫واحدة بقدر شبع املعتدل األكل ‪ ،‬عن كل يوم يفطرونه‪.‬‬

‫وخالصة ما تقدم ‪ :‬أن املؤمنني يف صيامهم أقسام ثالثة ‪:‬‬


‫‪ - 1‬املقيم الصحيح القادر على الصيام بال ضرر وال مشقة ‪ ،‬والصوم حتم واجب عليه ‪،‬‬
‫وتركه من الكبائر‪.‬‬

‫‪ - 2‬املريض واملسافر ويباح هلما اإلفطار مع وج وب القضاء ‪ ،‬ملا يف املرض والسفر من‬
‫التعرض للمشقة ‪ ،‬فإذا علما أو ظنا ظّنا قوّيا أن الصوم يضرمها وجب اإلفطار‪.‬‬

‫‪ - 3‬من يشّق عليه الصوم لسبب ال يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن ال يرجى‬
‫برؤه ‪ ،‬وأشغال شاقة دائمة ‪ ،‬ومحل وإرض اع ‪ ،‬وهؤالء هلم أن يفطروا ويطعموا مسكينا‬
‫عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل املعتدل األكل‪.‬‬

‫(َفَم ْن َتَطَّو َع َخرْي ًا َفُه َو َخ ْيٌر َل ُه) أي فمن زاد يف الفدية فذلك خري له ‪ ،‬ألن ثوابه عائد إليه‬
‫ومنفعته له ‪ ،‬وهذا التطوع شامل ألصناف ثالثة ‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن يزيد يف اإلطعام على مسكني واحد ‪ ،‬فيطعم بدل كل يوم مسكينني أو أكثر‪.‬‬

‫‪ - 2‬أن يطعم املسكني الواحد أكثر من القدر الواجب‪.‬‬

‫‪ - 3‬أن يصوم مع الفدية‪.‬‬

‫(َو َأْن َتُص وُموا َخ ْيٌر َلُك ْم ) أي وصومكم أيها املرض ى واملسافرون والذين يطيقونه ‪ ،‬خري‬
‫لكم من الفدية ‪ ،‬ملا فيه من رياضة اجلسد والنفس وتفدية االميان بالتقوى ومراقبة الّله‪،‬‬

‫روى أن أبا أمامة قال للنىب صلى الّل ه عليه وسلم ‪ :‬مرين بأمر آخذه عنك قال ‪ « :‬عليك‬
‫بالصوم فإنه ال مثل له » ‪.‬‬
‫(ِإْن ُك ْنُتْم َتْع َلُم وَن ) وج ه اخلريية في ه وكونه ملصلحة املكلفني ‪ ،‬ألن الّل ه غىن عن الع املني ‪،‬‬
‫وماروى من قوله عليه الصالة والسالم ‪ « :‬ليس من الرب الصوم يف السفر »‬

‫فقد خّص ص مبن جيهده الصوم ويشّق عليه حىت خياف عليه اهلالك‪.‬‬
‫ِف ِه‬ ‫َّلِذ‬
‫مث بني األيام املعدودات اليت كتبت علينا فقال ‪َ(:‬ش ْه ُر َرَم ضاَن ا ي ُأْنِز َل ي اْلُق ْر آُن ُه دًى‬
‫ِللَّناِس َو َبِّيناٍت ِم َن اُهْلدى َو اْلُف ْر قاِن ) أي هذه األيام هى شهر رمضان الذي بدئ فيه بإنزال‬
‫القرآن ‪ ،‬مث نزل منّج ما يف ثالث وعشرين سنة ‪ ،‬هلداية الناس إىل الصراط السوّى والنهج‬
‫املستقيم ‪ ،‬مع وض وح آياته وإرشادها إىل احلق ‪ ،‬وجعلها فارق ة بني احلق والباط ل ‪،‬‬
‫والفضائل والرذائل‪.‬‬

‫ومن التذكر هلدايته أن يعبد يف هذا الشهر ما ال يعبد يف غريه ‪ ،‬ليكون ذلك كفاء فيضه‬
‫اإلهلى باإلحسان ‪ ،‬وتظاهر نعمه على عباده ‪ ،‬فهو من شعائر ديننا ‪ ،‬ومواسم عبادتنا‪.‬‬

‫(َفَم ْن َش ِه َد ِم ْنُك ُم الَّش ْه َر َفْلَيُص ْم ُه) أي فمن شهد منكم دخول الش هر بأن مل يكن مسافرا‬
‫فليصمه ‪ ،‬وشهوده برؤية هالله ‪ ،‬فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غريه أن يصومه ‪،‬‬
‫واألحاديث يف هذا ثابتة يف الصحاح والسنن ‪ ،‬وجرى عليها العمل من الصدر األول إىل‬
‫اليوم‪.‬‬

‫ومن مل يشهدوا الشهر كسكان البالد القطبية ‪ -‬اليت يكون فيها الليل نصف سنة ىف القطب‬
‫الشمايل ‪ ،‬بينما يكون هنارا يف القطب اجلنويب والعكس بالعكس ‪ -‬فعليهم أن يقدروا مدة‬
‫تساوى مدة شهر رمضان ‪ ،‬والتقدير على البالد املعتدلة اليت وق ع فيها التش ريع كمكة‬
‫واملدينة ‪ ،‬وقيل على أقرب بالد معتدلة إليهم‪.‬‬

‫(َو َمْن كاَن َم ِر يضًا َأْو َعلى َس َف ٍر َفِعَّد ٌة ِم ْن َأَّياٍم ُأَخ َر ) أعيد ذكر رخصة اإلفطار مرة أخرى ‪،‬‬
‫لئال يظن أن صوم هذا الشهر حمتم ال تتناوله رخصة ‪ ،‬أو تتناوله ولكنها غري حممودة ‪ ،‬وال‬
‫سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه ‪ ،‬ملا له من املناقب واملزايا اليت سبق ذكرها ‪ ،‬حىت روى أن‬
‫بعض الصحابة رض ى الّل ه عنهم مع علمهم بالرخصة يف القرآن كانوا يتح امون الفطر يف‬
‫السفر ‪ ،‬حىت إن النيب صلى الّل ه عليه وسلم كان يأمرهم به يف بعض األسفار فال ميتثلون‬
‫حىت يفطر هو‪.‬‬

‫(ُيِر يُد الَّل ُه ِبُك ُم اْلُيْس َر َو ال ُيِر يُد ِبُك ُم اْلُعْس َر ) أي يريد الّل ه يف هذه الرخصة يف الصيام ويف‬
‫كل ما شرعه لكم من األحكام ‪ ،‬أن جيعل دينكم يسرا ال عسر فيه‪.‬‬

‫ويف هذا إمياء إىل أن األفضل الصيام إذا مل يلح ق الصائم مش قة أو عسر ‪ ،‬النتفاء علة‬
‫الرخصة حينئذ ‪ ،‬وقد ورد يف هذا املعىن أحاديث كثرية ‪ ،‬منهاحديث أنس ‪ « :‬يّس روا وال‬
‫تعّس روا ‪ ،‬وبّش روا وال تنّف روا » ‪.‬‬

‫(َو ِلُتْك ِم ُلوا اْلِعَّد َة) أي رخص لكم يف اإلفطار يف حاىل املرض والسفر ‪ ،‬ألنه يريد بكم اليسر‬
‫‪ ،‬وأن تكملوا العدة ‪ ،‬فمن مل يكملها أداء لعذر املرض أو السفر أكملها قضاء بعده ‪ ،‬وبذا‬
‫حتّص لون خرياته ‪ ،‬وال يفوتكم شىء من بركاته‪.‬‬
‫(َو ِلُتَك ِّبُر وا الَّل َه َعلى ما َه داُك ْم ) إلي ه من األحكام اليت فيها سعادتكم يف الدنيا واآلخرة ‪،‬‬
‫وذلك بذكر عظمته وحكمته يف إصالح حال عباده ‪ ،‬برتبيتهم مبا يش اء من األحكام ‪،‬‬
‫ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص اليت تليق حباهلم‪.‬‬

‫(َو َلَعَّلُك ْم َتْش ُك ُر وَن ) له نعمه كلها ‪ ،‬فتعطوا كال من العزمية والرخصة حقها ‪ ،‬فيكمل‬
‫إميانكم ويرضى عنكم ربكم‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 6‬الى ‪]7‬‬

‫يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُن وا ِإذا ُقْم ُتْم ِإىَل الَّص الِة َفاْغ ِس ُلوا ُو ُج وَه ُك ْم َو َأْي ِد َيُك ْم ِإىَل اْلَم راِف ِق َو اْم َس ُح وا‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِب ِس‬
‫ُر ُؤ ُك ْم َو َأْر ُج َلُك ْم ىَل اْلَك ْع َبِنْي َو ْن ُك ْنُتْم ُج ُنبًا َف اَّطَّه ُر وا َو ْن ُك ْنُتْم َمْر ضى َأْو َعلى َس َف ٍر َأْو‬
‫جاَء َأَح ٌد ِم ْنُك ْم ِم َن اْلغاِئِط َأْو الَم ْس ُتُم الِّنساَء َفَلْم ِجَت ُد وا ماًء َفَتَيَّم ُم وا َص ِعيدًا َطِّيبًا َفاْم َس ُح وا‬
‫ِبُو ُج وِه ُك ْم َو َأْي ِد يُك ْم ِم ْن ُه ما ُيِر يُد الَّل ُه ِلَيْجَع َل َعَلْيُك ْم ِم ْن َح َر ٍج َو لِكْن ُيِر يُد ِلُيَطِّه َر ُك ْم َو ِلُيِتَّم‬
‫ِنْع َم َت ُه َعَلْيُك ْم َلَعَّلُك ْم َتْش ُك ُر وَن (‪َ )6‬و اْذُك ُر وا ِنْع َم َة الَّل ِه َعَلْيُك ْم َو ِم يثاَق ُه اَّل ِذ ي واَثَق ُك ْم ِب ِه ِإْذ‬
‫ُقْلُتْم ِمَس ْع نا َو َأَطْع نا َو اَّتُقوا الَّلَه ِإَّن الَّلَه َعِليٌم ِبذاِت الُّص ُد وِر (‪)7‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫اعلم أن بني العبد وربه عهدين ‪ :‬عهد الربوبية واإلحسان ‪ ،‬وعهد العبودية والطاعة ‪ ،‬وبعد‬
‫أن وىف له سبحانه بالعهد األول وبنّي له ما حيل وما حيرم من لذات احلي اة ىف الطع ام‬
‫والنكاح ‪ ،‬طلب إليهم الوفاء بالعهد الث اين ‪ ،‬وهو عهد الطاعة ‪ ،‬وأعظم الطاعات بع د‬
‫اإلميان الصالة ‪ ،‬والصالة ال ميكن إقامتها إال بالطهارة ‪ ،‬ال ج رم بدأ الّل ه بذكر فرائض‬
‫الوضوء‪.‬‬

‫وبعد أن بني لنا طائفة من األحكام املتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا‬
‫وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه احلق لنقوم به خملصني‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ِإذا ُقْم ُتْم ِإىَل الَّص الِة) أي إذا أردمت القيام إىل الصالة على حد قوله تعاىل‬
‫‪َ « :‬ف ِإذا َقَر ْأَت اْلُق ْر آَن َفاْس َتِعْذ ِبالَّل ِه ِم َن الَّش ْيطاِن الَّر ِج يِم » أي إذا أردت قراءته ‪ ،‬ومجهور‬
‫املسلمني على أن الطهارة ال جتب على من قام إىل الصالة إال إذا كان حمدثا‪.‬‬

‫أي إذا قمتم إىل الصالة حمدثني فاغسلوا إخل‪ .‬وهذا التقيي د مستفاد من السنة العملي ة ىف‬
‫الصدر األول ‪ ،‬فقد روى أمحد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة ق ال ‪ « :‬كان‬
‫النيب صلى الّل ه عليه وسلم يتوضأ عند كل صالة ‪ ،‬فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على‬
‫خّف يه ‪ ،‬وصلى الصلوات بوضوء واحد‪ .‬فقال له عمر يا رسول الّله إنك فعلت شيئا مل تكن‬
‫تفعله فقال ‪ :‬عمدا فعلته يا عمر »‬

‫وروى البخ اري وأصحاب السنن عن عمرو ابن عامر األنصاري مسعت أنس بن مالك‬
‫يقول ‪ « :‬كان النيب صلى الّل ه عليه وسلم يتوضأ عند كل صالة ‪ ،‬قال قلت ‪ :‬فأنتم كيف‬
‫تصنعون ؟ قال ‪ :‬كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما مل حندث »‬
‫وروى أمحد والش يخان من حديث أىب هريرة مرفوعا « ال يقبل الّل ه صالة أحدكم إذا‬
‫أحدث حىت يتوضأ »‬

‫فهذه األخبار تدل على أن املسلمني مل يكونوا ىف عهد الن يب يتوض ئون لكل صالة ‪ ،‬وإمنا‬
‫كان الن يب صلى الّل ه علي ه وسلم يتوض أ لكل صالة غالبا ‪ ،‬وصلى الصلوات يوم الفتح‬
‫بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك‪.‬‬

‫ومن ذلك يعلم أن الوض وء لكل صالة عزمية وهو األفضل ‪ ،‬وإمنا جيب على من أحدث‪.‬‬
‫وآخر اآلية يدل على ذلك ‪ ،‬فإنه ذكر احلدثني ووجوب التيمم على من مل جيد املاء بعدمها‬
‫فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما ‪ ،‬ولو كانت الطهارة واجبة لكل‬
‫صالة ملا كان هلذا معىن‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن الوض وء ال جيب إال على احملدث ‪ ،‬وإمنا يستحب جتديده لكل صالة‬
‫(َفاْغ ِس ُلوا ُو ُج وَه ُك ْم َو َأْيِد َيُك ْم ِإىَل اْلَم راِفِق ) الغسل (بالفتح) إسالة املاء على الشيء إلزالة ما‬
‫عليه من وسخ وحنوه ‪ ،‬والوجوه واحدها وجه ‪ ،‬وحّد ه من أعلى تسطيح اجلبهة إىل أسفل‬
‫الّلحيني طوال ومن شحمة األذن إىل شحمة األذن عرضا ‪ ،‬واأليدى واحدها يد ‪ ،‬وحّد ها‬
‫ىف الوضوء من رءوس األصابع إىل املرفق ‪ ،‬وهو أعلى الذراع وأسفل العضد‪.‬‬

‫روى مسلم من حديث أىب هريرة ‪ :‬أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ‪ ،‬مث غسل يده‬
‫اليمىن حىت أشرع ىف العضد ‪ ،‬مث غسل يده اليسرى حىت أشرع ىف العضد ‪ ،‬مث مسح‬
‫رأسه ‪ ،‬مث غسل رجله اليمىن حىت أشرع ىف الساق ‪ ،‬مث غسل رجله اليسرى حىت أشرع ىف‬
‫الساق ‪ ،‬مث قال ‪ :‬هكذا رأيت رسول الّله صلى الّله عليه وسلم يتوضأ‪.‬‬
‫(َو اْم َس ُح وا ِبُر ُؤ ِس ُك ْم ) الرأس معروف وميسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء األمصار‬
‫ىف أق ل ما حيصل به فرض مسح الرأس ‪ ،‬فقال الش افعي يكفى أق ل ما يصدق علي ه اسم‬
‫املسح ولو شعرة ‪ ،‬وقال مالك حيب مسح الكل أخذا باالحتياط ‪ ،‬وأوجب أبو حنيفة مسح‬
‫الربع ‪ ،‬ألن املسح إمنا يكون باليد وهى تستوعب مقدار الربع ىف الغالب‪ .‬وملا روى « أن‬
‫رسول الّله صلى الّله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته » (وهى مقدار الربع)‪.‬‬

‫(َو َأْر ُج َلُك ْم ِإىَل اْلَك ْع َبِنْي ) الكعبان مها العظمان الناتئان عند مفصل الساق من اجلانبني ‪ ،‬أي‬
‫واغسلوا أرجلكم إىل الكعبني ‪ ،‬ويؤيده عمل النيب صلى الّل ه علي ه وسلم وعمل الصحابة‬
‫وقول أكثر األئمة فقد روى مسلم عن أىب هريرة أن النيب صلى الّل ه عليه وسلم رأى رجال‬
‫مل يغسل عقبه فقال ‪ « :‬ويل لألعقاب من الن ار » وروى البخ اري ومسلم عن ابن عمر‬
‫قال ‪ :‬ختّلف عنا رسول الّله صلى الّله عليه وسلم ىف سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر‬
‫فجعلن ا نتوض أ ومنسح على أرجلن ا ق ال فن ادى بأعلى صوته « ويل لألعقاب من الن ار »‬
‫مرتني أو ثالثا‪.‬‬

‫ويقوم املسح على اخلفني عن د لبسهما مقام غسل األرج ل ‪ ،‬وق د روى ذلك خالئق ال‬
‫حيصون من الصحابة ‪ ،‬قال احلسن ‪ :‬حدثىن سبعون من أصحاب رسول الّل ه صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم أن رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم (كان ميسح على اخلفني) وق ال احلافظ بن‬
‫حجر ‪ :‬قد صرح مجع من احلفاظ بأن املسح على اخلفني متواتر ‪ ،‬وأقوى األحاديث حجة‬
‫فيه حديث جرير فقد روى أمحد والشيخان وأبو داود والرتمذي أنه بال مث توضأ ومسح‬
‫على خفيه فقيل له ‪ :‬تفعل هكذا ؟ قال نعم‪ .‬رأيت رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم بال مث‬
‫توضأ ومسح على خفيه‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن غسل الرجلني املكش وفتني ومسح املستورتني هو الث ابت بالسنة ملتواترة‬
‫املبينة للقرآن ‪ ،‬واملوافق حلكمة هذه الطهارة‪.‬‬

‫(َو ِإْن ُك ْنُتْم ُج ُنبًا َف اَّطَّه ُر وا) اجلنب ‪ :‬لفظ يستعمل للمفرد واملثىن واجلمع واملذكر واملؤنث ‪،‬‬
‫واملراد به املضاجعة والوق اع ‪ :‬أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إىل صالتكم‬
‫فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم ىف صالتكم اليت قمتم إليها وىف‬
‫مع ىن الوق اع خروج املّىن باالحتالم فهو جنابة شرعا ‪ ،‬وىف احلديث « إمنا املاء من املاء »‬
‫رواه مسلم ‪ ،‬أي إمنا جيب ماء الغسل من املاء الدافق الذي خيرج من اإلنسان بأى سبب‬
‫كان خروجه‪.‬‬

‫وملا بني سبحانه وجوب الطهارتني ‪ ،‬وكان املسلم ال بّد له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر‬
‫من ذلك ىف اليوم ‪ ،‬وال بد له من الغسل ىف كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا ‪ -‬بني الرخصة‬
‫ىف تركهما عند املشقة أو العجز ‪ ،‬ألن الّد ين يسر ال حرج فيه وال عنت فقال‪:‬‬

‫(َو ِإْن ُك ْنُتْم َمْر ضى ) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كاجلدرّى واجلرب وغريمها القروح‬
‫واجلروح أو أّى مرض يشّق فيه استعمال املاء أو يضر‪.‬‬

‫(َأْو َعلى َس َف ٍر ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه ‪ ،‬ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء‬
‫والغسل‪.‬‬
‫(َأْو جاَء َأَح ٌد ِم ْنُك ْم ِم َن اْلغاِئِط ) الغائط املكان املنخفض من األرض ‪ ،‬ويراد به شرعا قضاء‬
‫احلاج ة من بول وغائط ‪ ،‬أي أحدثتم احلدث املوجب للوض وء عن د إرادة الصالة وحنوها‬
‫كالطواف ‪ ،‬ويسمى احلدث األصغر‪.‬‬

‫(َأْو الَم ْس ُتُم الِّنساَء) املراد باملالمسة املباشرة املش رتكة بني الرج ال والنساء ‪ ،‬واحلدث‬
‫املوجب للغسل يسمى احلدث األكرب‪.‬‬

‫(َفَلْم ِجَت ُد وا ماًء َفَتَيَّم ُم وا َص ِعيدًا َطِّيبًا َفاْم َس ُح وا ِبُو ُج وِه ُك ْم َو َأْي ِد يُك ْم ِم ْن ُه) أي إذا كنتم على‬
‫حال من هذه األحوال الثالث ‪ :‬املرض أو السفر أو فقد املاء عن د احلاج ة إلي ه إلحدى‬
‫الطهارتني فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه األرض طاهرا ال جناسة عليه فاضربوا بأيديكم‬
‫عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إىل الرسغني حبيث يصيبها أثر منه‪.‬‬

‫(ما ُيِر يُد الَّل ُه ِلَيْجَع َل َعَلْيُك ْم ِم ْن َح َر ٍج ) أي ما يريد الّل ه ليجعل عليكم فيما شرعه لكم ىف‬
‫هذه اآلية وىف غريها حرجا ما ‪ ،‬أي أدىن ضيق وأقل مشقة ‪ ،‬ألنه تعاىل غّىن عنكم رحيم‬
‫بكم ‪ ،‬فال يشرع لكم إال ما فيه اخلري والنفع لكم‪.‬‬

‫(َو لِكْن ُيِر يُد ِلُيَطِّه َر ُك ْم ) من األق ذار والرذائل واملنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظ ف‬
‫الناس أبدانا ‪ ،‬وأزكاهم نفوسا ‪ ،‬وأصحهم أجسادا ‪ ،‬وأرقاهم أرواحا‪.‬‬

‫(َو ِلُيِتَّم ِنْع َم َت ُه َعَلْيُك ْم ) فيجمع لكم بني طهارة األبدان وطهارة األرواح ‪ ،‬واإلنسان إمنا هو‬
‫روح وجسد ‪ ،‬والصالة تطهر الروح وتزكى النفس ‪ ،‬فهى تنهى عن الفحش اء واملنكر‬
‫وتع ّو د املصلى مراقبة ربه ىف السر والعلن ‪ ،‬وخش يته حني اإلساءة والرج اء في ه لدى‬
‫اإلحسان ‪ ،‬والطهارة اليت جعلها الّل ه شرطا للدخول ىف الصالة ومقدمة هلا تطهر البدن‬
‫وتنش طه ‪ ،‬فيسهل بذلك العمل من عبادة وغريها ‪ ،‬فما أج ّل نعم الّل ه على عباده ‪ ،‬وما‬
‫أجدر من هدى هبداه بدوام الشكر عليه ‪ ،‬ومن مث ختم اآلية الكرمية بقوله ‪:‬‬

‫(َلَعَّلُك ْم َتْش ُك ُر وَن ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫احلكمة ىف شرع الوضوء والغسل للوضوء والغسل فوائد أمهها ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أن غسل البدن كله وغسل األطراف يفيد صاحبه نشاطا ومهة ويزيل ما يعرض للجسد‬
‫من الفتور واالسرتخاء بسبب احلدث أو بغ ريه من األعمال اليت تؤثر تأثريه ‪ ،‬وبذا يقيم‬
‫الصالة على وجهها ويعطيها حقها من اخلشوع ومراقبة الّله تعاىل‪.‬‬

‫إذ املشاهد أنه إذا بلغ اإلنسان من هذه اللذة اجلسمية غايتها بالوقاع أو اإلنزال حصل هتيج‬
‫عصىب كبري يعقبه فتور شديد حبسب سنة رد الفعل ‪ ،‬وال يعيد نشاطه إال غسل البدن كله‪.‬‬

‫(‪ )2‬أن النظافة ركن الصحة البدنية ‪ ،‬فإن الوسخ واألقذار جملبة األمراض واألدواء الكثرية ‪،‬‬
‫ومن مث نرى األطباء يش ددون ىف أيام األوبئة واألمراض املعدية ىف املبالغ ة ىف النظافة ‪،‬‬
‫وج دير باملسلمني أن يكونوا أصح الن اس أجسادا وأقلهم أمراض ا ‪ ،‬ألن دينهم مبىن على‬
‫املبالغة ىف نظافة األبدان والثياب واألمكنة ‪ ،‬فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى األسباب‬
‫اليت تولد جراثيم األمراض عند الناس‪.‬‬

‫(‪ )3‬تكرمي املسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم ‪ ،‬إذ من كان نظي ف‬
‫البدن للثياب كان جديرا حبضور كل جمتمع ولقاء أشراف الناس وفضالئهم ‪ ،‬ومن كان‬
‫وسخا قذرا فإنه يكون حمتقرا عند كرام الناس وال يعدونه أهال ألن حيضر جمالسهم ويشعر‬
‫ىف نفسه بالضعة واهلوان‪.‬‬

‫وألجل هذا ورد األمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم اجلمعة ألنه يوم جيتمع فيه‬
‫الن اس ىف املساجد لعبادة الّل ه تع اىل ‪ ،‬روى مالك والش افعي وأمحد والبخ اري ومسلم من‬
‫طرق عدة أن النيب صلى الّله عليه وسلم قال « غسل اجلمعة واجب على كل حمتلم أي بالغ‬
‫مكلف‪.‬‬

‫وبعد أن بني سبحانه هذه األحكام وذكر رفع احلرج الذي مت به اإلنعام ذّك رنا بنعمه اليت‬
‫أنعم هبا علينا فقال ‪:‬‬

‫(َو اْذُك ُر وا ِنْع َم َة الَّل ِه َعَلْيُك ْم َو ِم يثاَق ُه اَّل ِذ ي واَثَق ُك ْم ِب ِه ِإْذ ُقْلُتْم ِمَس ْع نا َو َأَطْع ن ا) أي وتذكروا‬
‫أيها املؤمن ون إذ كنتم كفارا متباغضني فأصبحتم هبداية الدين إخوانا متح ابني وتذكروا‬
‫العهد الذي عاهدكم به حني بايعتم رسوله حممدا صلى الّله عليه وسلم على السمع والطاعة‬
‫ىف املنش ط واملكره (احملبوب ‪ -‬واملكروه) والعسر واليسر حني قلتم له مسعنا ما أمرتن ا به‬
‫وهنيتنا عنه ‪ ،‬وأطعناك فيه فال نعصيك ىف معروف ‪ ،‬وكل ما جئتنا به فهو معروف‪ .‬وكل‬
‫نىب بعث ىف قوم أخذ عليهم ميثاق الّله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة‪.‬‬

‫والدخول ىف الدين يع ّد قبوال هلذا العهد ‪ ،‬فعلينا أن نعد هذا التذكري خطابا لنا كما عده‬
‫السلف من الصحابة خطابا هلم‪.‬‬
‫واتقوا الّل ه فال تنقضوا عهده وختالفوا ما أمركم به وما هناكم عن ه سواء أ كان ىف هذه‬
‫اآليات أم ىف غريها‪.‬‬

‫(ِإَّن الَّلَه َعِليٌم ِبذاِت الُّصُد وِر ) فال خيفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه امليثاق من‬
‫نية الوفاء به أو عدم الوفاء ‪ ،‬وما تنطوى عليه السرائر من اإلخالص أو الرياء‪.‬‬

‫[سورة الحج (‪ : )22‬اآليات ‪ 77‬الى ‪]78‬‬

‫يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا اْر َك ُع وا َو اْس ُج ُد وا َو اْع ُب ُد وا َر َّبُك ْم َو اْفَعُل وا اَخْلْيَر َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن (‪)77‬‬
‫ِم ِب‬ ‫ِم‬ ‫ِج ِدِه‬ ‫ِه‬ ‫ِه‬
‫َو جا ُد وا يِف الَّل َح َّق ها ُه َو اْج َتباُك ْم َو ما َجَع َل َعَلْيُك ْم يِف الِّديِن ْن َح َر ٍج َّل َة َأ يُك ْم‬
‫ِإْب راِه يَم ُه َو َّمَساُك ُم اْلُمْس ِلِم َني ِم ْن َقْب ُل َو يِف هذا ِلَيُك وَن الَّر ُس وُل َش ِه يدًا َعَلْيُك ْم َو َتُك وُن وا‬
‫ُش َه داَء َعَلى الَّناِس َف َأِقيُم وا الَّص الَة َو آُت وا الَّز كاَة َو اْعَتِص ُم وا ِبالَّل ِه ُه َو َم ْو الُك ْم َفِنْع َم اْلَم ْو ىل‬
‫َو ِنْع َم الَّنِص ُري (‪)78‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫ىف الّله ‪ :‬أي ىف سبيله ‪ ،‬واجلهاد كما قال الراغب ‪ :‬هو استفراغ الوسع ىف جماهدة العدو ‪،‬‬
‫وهو ثالثة أضرب ‪:‬‬

‫(ا) جماهدة العدو الظاهر كالكفار‪.‬‬

‫(ب) جماهدة الشيطان‪.‬‬


‫(ج) جماهدة النفس واهلوى ‪ ،‬وهذه أعظمها فقد أخرج البيهقي وغريه عن جابر قال ‪« :‬‬
‫قدم على رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم قوم غزاة فقال ‪ :‬قدمتم خري مقدم ‪ ،‬قدمتم من‬
‫اجلهاد األصغر إىل اجلهاد األكرب ‪ ،‬قيل وما اجلهاد األكرب ؟ قال ‪ :‬جماهدة العبد هواه » ‪.‬‬

‫واملراد باجلهاد هنا ما يشمل األنواع الثالثة ‪ ،‬كما يؤيده ما روى عن احلسن أنه قرأ اآلية‬
‫وقال ‪ « :‬إن الرجل ليجاهد ىف الّله تعاىل وما ضرب بسيف » ‪.‬‬

‫واجتباكم ‪ :‬أي اختاركم ‪ ،‬حرج ‪ :‬أي ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم ‪ ،‬واعتصموا بالّل ه‬
‫أي استعينوا به وتوكلوا عليه ‪ ،‬موالكم ‪ :‬أي ناصركم‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن تكلم ىف اإلهليات مث ىف النبوات ‪ -‬أتبعهما بالكالم ىف الشرائع واألحكام‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اْر َك ُعوا َو اْسُج ُد وا َو اْع ُبُد وا َر َّبُك ْم ‪َ ،‬و اْفَعُلوا اَخْلْيَر َلَعَّلُك ْم ُتْف ِلُح وَن ) أي يا‬
‫أيها الذين صدقوا الّل ه ورسوله ‪ ،‬اخضعوا لّل ه ‪ ،‬وخروا له سجدا ‪ ،‬واعبدوه بسائر ما‬
‫تعّبدكم به ‪ ،‬وافعلوا اخلري الذي أمركم بفعله من صلة األرحام ومكارم األخالق ‪ ،‬لتفلحوا‬
‫وتفوزوا من ربكم مبا تؤّم لون من الثواب والرضوان‪.‬‬

‫(َو جاِه ُد وا يِف الَّل ِه َح َّق ِج هاِدِه) أي وجاهدوا ىف سبيل الّل ه جهادا حقا خالصا لوجهه ال‬
‫ختشون فيه لومة الئم‪.‬‬

‫(هو اجتباكم) أي هو اختاركم من سائر األمم ‪ ،‬وخصكم بأكرم رسول ‪ ،‬وأكمل شرع‪.‬‬
‫(َو ما َجَعَل َعَلْيُك ْم يِف الِّديِن ِم ْن َح َر ٍج ) أي وما جعل عليكم ىف الدين الذي تعبدكم به ضيقا‬
‫ال خمرج لكم من ه ‪ ،‬بل وّس ع عليكم وجع ل لكم من كل ذنب خملصا ‪ ،‬فرخص لكم ىف‬
‫املضايق فالصالة وهى أعظم أركان اإلسالم بعد الشهادتني جتب ىف احلضر أربعا وىف السفر‬
‫تقصر إىل اثنتني ‪ ،‬ويصليها املريض جالسا ‪ ،‬فإن مل يستطع فعلى جنبه ‪ ،‬وأباح الفطر حني‬
‫السفر وحني اإلرض اع واحلمل والش غل ىف شاّق األعمال ‪ ،‬ومل يوجب علين ا اجلمع ة ىف‬
‫املساجد حني السفر أو اخلوف من عدو أو سبع أو مطر إىل حنو أولئك ‪ ،‬كما فتح لكم‬
‫باب التوبة وشرع لكم الكفارات ىف حقوقه ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الويل‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله سبحانه ‪َ « :‬ف اَّتُقوا الَّل َه َم ا اْس َتَطْع ُتْم » وقوله ‪ُ « :‬يِر يُد الَّل ُه ِبُك ُم اْلُيْس َر َو ال‬
‫ُيِر يُد ِبُك ُم اْلُعْسَر » وقوله ‪َ « :‬ر َّبنا َو ال ْحَتِم ْل َعَلْينا ِإْص رًا َك ما َمَحْلَتُه َعَلى اَّلِذ يَن ِم ْن َقْبِلنا » ‪.‬‬

‫(ِم َّل َة َأِبيُك ْم ِإْب راِه يَم ) أي وملتكم هى ملة أبيكم إبراهيم احلنيفي ة السمحة اليت مل يعتورها‬
‫جنف وال إشراك‪.‬‬
‫ِق يٍم ‪ِ ،‬دين ًا ِق مًا ِم َّل َة ِإ راِه‬
‫ي‬
‫ْب َم‬ ‫َي‬ ‫وحنو اآلية قوله تع اىل ‪ُ « :‬ق ْل ِإَّنيِن َه دايِن َر يِّب ِإىل ِص راٍط ُمْس َت‬
‫َح ِنيفًا » اآلية‪.‬‬

‫(ُه َو َّمَساُك ُم اْلُمْس ِلِم َني ِم ْن َقْبُل ‪َ ،‬و يِف هذا) أي إن الّله مساكم يا معشر من آمن مبحمد صّلى‬
‫الّله عليه وسّلم ‪ -‬املسلمني ىف الكت ب املتقدمة وىف هذا الكتاب‪.‬‬
‫وخالصة هذا ‪ -‬إنه تع اىل ذكر أنه اختارهم من بني سائر األمم ‪ ،‬مث حثهم على اتباع ما‬
‫ج اءهم به الرسول ‪ ،‬ألنه ملة أبيهم إبراهيم ‪ ،‬مث نّو ه بذكره والثن اء علي ه ىف كتب األنبي اء‬
‫قبله وىف القرآن‪.‬‬

‫(ِلَيُك وَن الَّر ُس وُل َش ِه يدًا َعَلْيُك ْم َو َتُك وُن وا ُش َه داَء َعَلى الَّن اِس ) أي إمنا جعلكم هكذا أمة‬
‫وسطا عدوال مش هودا بع دالتكم بني األمم ‪ ،‬ليكون حممد صّلى الّل ه علي ه وسّلم شهيدا‬
‫عليكم يوم القيامة بأنه ق د بلغكم ما أرسل به إليكم ‪ ،‬وتكونوا شهداء على الن اس بأن‬
‫الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم‪.‬‬

‫وإمنا قبلت شهادهتم على الن اس لسائر األنبي اء ‪ ،‬ألهنم مل يفرق وا بني أحد منهم وعلموا‬
‫أخبارهم من كتاهبم على لسان نبيهم ‪ ،‬والعرتاف سائر األمم يومئذ بفضلهم على سواهم ‪،‬‬
‫وقد تقدم ذكر هذا ىف سورة األنعام عند قوله ‪َ « :‬و َك ذِلَك َجَعْلناُك ْم ُأَّم ًة َو َس طًا » اآلية‪.‬‬

‫وملا ندهبم ألداء الش هادة على األمم مجيع ا طلب منهم دوام عبادته واالعتصام حببله املتني‬
‫فقال ‪:‬‬

‫(َف َأِقيُم وا الَّص الَة َو آُت وا الَّز كاَة َو اْعَتِص ُم وا ِبالَّل ِه ُه َو َم ْو الُك ْم ) أي فقابلوا هذه النعم العظيمة‬
‫بالقيام بشكرها ‪ ،‬فأّدوا حق الّله عليكم بطاعته فيما أوجب وترك ما حرم ‪ ،‬ومن أهم ذلك‬
‫إقامة الصالة اليت هى وصلة بينكم وبني ربكم ‪ ،‬وإيتاء الزكاة اليت هى طهرة أبدانكم ‪،‬‬
‫وصلة ما بينكم وبني إخوانكم ‪ ،‬واستعينوا بالّل ه ىف مجيع أموركم ‪ ،‬وهو ناصركم على من‬
‫يعاديكم‪.‬‬
‫مث علل االعتصام به بقوله ‪:‬‬

‫(َفِنْع َم اْلَم ْو ىل َو ِنْع َم الَّنِص ُري) أي إن من تواله كفاه كل ما أمهه ‪ ،‬وإذا نصر أحدا أعاله على‬
‫كل من خاصمه ‪ ،‬إذ ال ناصر ىف احلقيقة سواه وال وّىل غريه ‪ ،‬فله احلمد وهو رب العاملني‪.‬‬

‫خالصة ما تضمنته السورة من احلكم واألحكام‬

‫(‪ )1‬وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان‪.‬‬

‫(‪ )2‬جدال عبدة األصنام واألوثان بال حجة وال برهان‪.‬‬

‫(‪ )3‬إثبات البعث وإقامة األدلة عليه‪.‬‬

‫(‪ )4‬وصف املنافقني املذبذبني ىف دينهم وعدم ثباهتم على حال واحدة‪.‬‬

‫(‪ )5‬ما أعد الّله لعباده املؤمنني من الثواب املقيم ىف جنات النعيم‪.‬‬

‫(‪ )6‬بيان أن الّله ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر األديان‪.‬‬

‫(‪ )7‬بيان أن الّل ه حيكم يوم القيامة بني عباده من أرباب الديانات املختلفة وجيازى كال مبا‬
‫يستحق‪.‬‬

‫(‪ )8‬إقامة األدلة على وجود خالق السموات واألرض وبيان أن العامل كله خاضع لقدرته‪.‬‬

‫(‪ )9‬أمر املؤمنني بقتال املشركني الذين أخرجوهم من ديارهم ‪ ،‬وبيان أن هذا القتال ال بد‬
‫منه لنصرة احلق ىف كل زمان ومكان وأن الّله ينصر من يدافع عنه‪.‬‬
‫(‪ )10‬تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأهنم ليسوا بدعا ىف األمم ‪ ،‬فكث ري ممن‬
‫قبلهم كذبوا رسلهم مث كانت العاقبة للمتقني ‪ ،‬وأهلك الّل ه القوم الظاملني ‪ ،‬والعربة ماثلة‬
‫أمامهم ىف حلهم وترحاهلم‪.‬‬

‫(‪ )11‬بيان أن املفسدين يلقون الشبهات على احلق ليزلزلوا عقائد املؤمنني ‪ ،‬لكنها ال تلبث‬
‫أن تزول وينكشف نور احلق ويزيل ظالم الباطل‪.‬‬

‫(‪ )12‬الثواب على اهلجرة لّله ورسوله سواء قتل املهاجر أو مات‪.‬‬

‫(‪ )13‬وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن ‪ ،‬مبا يظهر على وج وههم من أمارات‬
‫الغضب‪.‬‬

‫(‪ )14‬بيان أن الّله يرسل رسال من املالئكة ورسال من البشر وأن الّل ه عليم مبن يصلح هلذه‬
‫الرسالة‪.‬‬

‫(‪ )15‬أمر املؤمنني بدوام الصالة والزكاة وفعل اخلريات واجلهاد حق اجلهاد ىف سبيل احلق‪.‬‬

‫(‪ )16‬بيان أن الدين يسر ال عسر ‪ ،‬وأنه كّم لة إبراهيم مسح ال شدة فيه‪.‬‬

‫(‪ )17‬بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه األمة تشهد على األمم السالفة‬
‫بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الّله وما قّص روا ىف ذلك‪.‬‬

‫اللهم أهلمنا احلق ‪ ،‬واهدنا سبيل الرشاد ‪ ،‬وتقبل أعمالنا ‪ ،‬إنك أنت السميع اجمليب‪.‬‬
‫قد انتهى تفسري هذا اجلزء ىف اليوم الثامن عشر من ذى احلجة سنة ثالث وستني وثالمثائة‬
‫وألف بعد اهلجرة مبدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار املصرية ‪ ،‬وفقنا الّل ه إلمتام‬
‫تفسري كتابه الكرمي‪.‬‬

‫[سورة األعراف (‪ : )7‬اآليات ‪ 178‬الى ‪]179‬‬

‫َّن‬ ‫نا‬‫ْأ‬ ‫َذ‬ ‫ْد‬ ‫َق‬‫َل‬ ‫)‬ ‫‪178‬‬ ‫(‬ ‫َن‬ ‫و‬ ‫ْض ِل َفُأولِئ َك اخْل اِس‬ ‫ي‬ ‫اْل ِد‬
‫َت‬ ‫َّل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِد‬
‫َم‬ ‫َجِلَه‬ ‫َر‬ ‫َو‬ ‫ُر‬ ‫ُم‬ ‫ُه‬ ‫َو َمْن ُي ْل‬ ‫ْه‬ ‫َف َو ُم‬‫ُه‬ ‫ُه‬ ‫َمْن َيْه‬
‫َك ِث ريًا ِم َن اِجْلِّن َو اِإْل ْنِس ُهَلْم ُقُل وٌب ال َيْف َق ُه وَن هِب ا َو ُهَلْم َأْعٌنُي ال ُيْبِص ُر وَن هِب ا َو ُهَلْم آذاٌن ال‬
‫َيْسَم ُعوَن هِب ا ُأولِئَك َك اَأْلْنعاِم َبْل ُه ْم َأَض ُّل ُأولِئَك ُه ُم اْلغاِفُلوَن (‪)179‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫الذرء ‪ :‬لغة اخللق ‪ ،‬يقال ذرأ الّل ه اخللق أي أوجد أشخاصهم ‪ ،‬واخللق ‪ :‬التقدير أي إجياد‬
‫األشياء بتقدير ونظ ام ال جزافا ‪ ،‬واجلن ‪ :‬األحي اء العاقلة املكلفة اخلفّي ة غري املدركة‬
‫باحلواس ‪ ،‬والقلب يطلق أحيانا على املضغة الصنوبرّية الشكل ىف اجلانب األيسر من جسد‬
‫اإلنسان ‪ -‬وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا (بالضمري) وهو حمل‬
‫احلكم ىف أنواع املدركات والش عور الوج داىن ملا يالئم أو يؤمل وهو كث ري هبذا املع ىن ىف‬
‫ِئٍذ ِج‬ ‫ِب ِذ‬ ‫ِق‬
‫الكتاب الكرمي ‪َ « :‬س ُأْل ي يِف ُقُل و اَّل يَن َك َف ُر وا الُّر ْع َب ‪ُ -‬قُل وٌب َيْو َم وا َف ٌة ‪َ -‬أَفَلْم‬
‫صا‬ ‫ْب‬‫اَأْل‬ ‫ى‬ ‫ْع‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫هَّن‬ ‫ِس وا يِف اَأْلْر ِض َتُك وَن ُهَل ُلوٌب ْع ِق ُل وَن هِب ا َأ آذاٌن ُعوَن هِب ا َفِإ‬
‫ُر‬ ‫َت َم‬ ‫َيْس َم‬ ‫ْو‬ ‫ْم ُق َي‬ ‫َف‬ ‫َي ُري‬
‫َو لِكْن َتْع َم ى اْلُقُلوُب اَّليِت يِف الُّصُد وِر » ‪.‬‬
‫وسر استعمال القلب ىف هذا املع ىن ما يراه اإلنسان من انقباض أو انش راح حني اخلوف‬
‫واالمشئزاز أو حني السرور واالبتهاج ‪ ،‬والفقه ‪ :‬العلم بالشيء والفهم له ‪ ،‬وفسره الراغب‬
‫بالتوصل بعلم شاهد إىل علم غائب ‪ ،‬وقد استعمله القرآن ىف مواضع كثرية مبعىن دقة الفهم‬
‫والتعمق ىف العلم لي رتتب علي ه أث ره وهو االنتفاع به ‪ ،‬ومن مث نفاه عن الكفار واملن افقني‬
‫ألهنم مل يدركوا كنهه املراد مما نفى فقهه عنهم فقاتتهم املنفعة مع العلم املتمكن من النفس‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن أمر النيب صلى الّل ه عليه وسلم بأن يقص قصص املنسلخ عن آيات الّل ه على أولئك‬
‫الضالني الذين حاهلم كحاله ليتفكروا في ه ويرتكوا ما هم علي ه من اإلخالد إىل الضاللة‬
‫ويع ودوا إىل حظ رية احلق ‪ -‬قفى على ذلك ببي ان أن أسباب اهلدى والضالل ينتهي ان‬
‫للمستعد ألحدمها إىل إحدى الغ ايتني بتقدير الّل ه والسري على سنته ىف استعمال مواهبه‬
‫وهداياته الفطرية من العقل واحلواس ىف أحد السبيلني كما قال ‪َ « :‬و َه َد ْيناُه الَّنْج َد ْيِن » «‬
‫ِإَّم ا شاِكرًا َو ِإَّم ا َك ُف ورًا » ‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َمْن َيْه ِد الَّلُه َفُه َو اْلُم ْه َتِد ي) أي من يوفقه الّله لسلوك سبل اهلداية باستعماله عقله وحواسه‬
‫فيما خلقا له مبقتضى الفطرة وإرشاد الدين فهو املهتدى الذي شكر نعم الّل ه عليه وأدى‬
‫حقه عليه ففاز بسعادة الدنيا وسعادة اآلخرة‪.‬‬
‫(َو َمْن ُيْض ِلْل َفُأولِئ َك ُه ُم اخْل اِس ُر وَن ) أي ومن خيذله وحيرمه التوفي ق فيتبع شيطانه وهواه‬
‫ويرتك استعمال عقله وحواسه ىف فقه آياته وشكر ما أنعم به عليه ‪ ،‬فهو الكفور الضال‬
‫الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة اآلخرة ‪ ،‬إذ هو قد خسر تلك املواهب اليت كان هبا إنسانا‬
‫مستعد للسعادتني الدنيوية واألخروية‪.‬‬

‫وال شك أن اهلداية اإلهلي ة نوع واحد وهو اإلميان الذي مثرته العمل الصاحل أما أنواع‬
‫الضالل فال حصر هلا ‪ ،‬يرشد إىل ذلك قوله تع اىل ىف سورة األنع ام ‪َ( :‬و َأَّن هذا ِص راِط ي‬
‫ُمْس َتِق يمًا َفاَّتِبُعوُه َو ال َتَّتِبُعوا الُّس ُبَل َفَتَفَّرَق ِبُك ْم َعْن َس ِبيِلِه)‪.‬‬

‫مث فصل سبحانه ما أمجله ىف اآلية السالفة مع بيان سببه فقال ‪َ( :‬و َلَق ْد َذَر ْأنا َجِلَه َّنَم َك ِث ريًا‬
‫ِم َن اِجْلِّن َو اِإْل ْنِس ) أي نقسم إنا ق د خلقن ا ىف الع امل كث ريا من اجلن واإلنس لسكىن جهنم‬
‫ِق‬ ‫ِم‬
‫واملقام فيها ‪ ،‬وخلقنا للجنة مثل ذلك مبقتضى استعداد الفريقني كما قال ‪َ « :‬ف ْنُه ْم َش ٌّي‬
‫َو َس ِعيٌد » وقال ‪َ « :‬فِر يٌق يِف اَجْلَّنِة َو َفِر يٌق يِف الَّس ِعِري » ‪.‬‬

‫مث بني سبب كوهنم معّد ين جلهنم وصفاهتم املؤهلة لذلك فقال ‪:‬‬

‫(ُهَلْم ُقُلوٌب ال َيْف َق ُه وَن هِب ا) أي إهنم ال يفقهون بقلوهبم ما تزكو به أنفسهم من توحيد الّل ه‬
‫املبعد هلا عن اخلرافات واألوهام وعن الذلة والصغار ‪ ،‬فإن من يعبد الّل ه وحده تسمو نفسه‬
‫مبعرفته فال تذل بدعاء غريه وال اخلوف منه وال الرجاء فيه واالتكال عليه ‪ ،‬بل يطلب من‬
‫الّله ما حيتاج إليه ‪ ،‬فإن كان مما أقدر الّل ه عليه خلقه بإعالمهم بأسبابه ومتكينهم منها طلبه‬
‫بسببه مع مراعاة سننه ىف خلقه ‪ ،‬وإن مل يكن كذلك توجه إىل الّل ه هلدايته إىل العلم مبا مل‬
‫يعلم من سببه وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله أو تسخري من شاء من خلقه ملساعدته‬
‫عليه كاألطباء ملداواة األمراض ‪ ،‬وأقوياء األبدان لرفع األثقال ‪ ،‬والعلماء الراسخني للفتوى‬
‫ىف املسائل العلمي ة وحل إشكال ما غمض من حقيقتها ‪ ،‬وال يتوج ه ىف طلبه إىل غري ما‬
‫يع رف البش ر من األسباب املّط ردة كالّر قى والع زائم والتبخ ريات وكرامات الصاحلني من‬
‫األحي اء واألموات والدعاء إليهم مبا يع ّد من العبادات فالّل ه يقول ‪َ « :‬فال َتْد وا الَّل ِه‬
‫ُع َم َع‬
‫َأَح دًا » ويقول ‪َ « :‬بْل ِإَّياُه َتْد ُعوَن َفَيْك ِش ُف ما َتْد ُعوَن ِإَلْيِه ِإْن شاَء َو َتْنَس ْو َن ما ُتْش ِر ُك وَن »‬
‫‪.‬‬

‫كما ال يفقهون بقلوهبم احلياة الروحية واللذات املعنوية املوصلة إىل السعادة األبدية ‪:‬‬

‫« َيْع َلُم وَن ظاِه رًا ِم َن اَحْلياِة الُّد ْنيا َو ُه ْم َعِن اآْل ِخ َر ِة ُه ْم غاِفُلوَن » ‪.‬‬

‫وال يفقهون أن ترك الش رور واملنكرات واحلرص على فع ل اخلريات هو من اط السعادة ىف‬
‫الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وال سبيل إىل ذلك إال بالرتبية البدنية الصحيحة‪.‬‬

‫وال يفقهون سنن الّل ه ىف االجتماع وتأثري العقائد الدينية ىف مجع الكلمة وقوة اجلماعة وال‬
‫سيما ىف عهد النبوات ورمن املعج زات ‪ ،‬وال يفقهون مع ىن اآليات اإلهلي ة ىف األنفس‬
‫واآلفاق وال آياته اليت يؤيد هبا رسله من علمية وكونية وما أودعه منها كتابه‪.‬‬

‫(َو ُهَلْم َأْعٌنُي ال ُيْبِص ُر وَن هِب ا َو ُهَلْم آذاٌن ال َيْس َم ُعوَن هِب ا) أي وكذلك هلم أبصار وأمساع ال‬
‫يوجهوهنا إىل التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الّل ه ىف خلقه ‪ ،‬وفيما يسمعون من آياته‬
‫املنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعاىل ىف خلقه ‪ ،‬فيهتدوا بكل منها إىل‬
‫ما فيه سعادهتم ىف دنياهم وآخرهتم‪.‬‬
‫فاآلذان إمنا خلقت لإلنسان ليستفيد من كل ما يسمع ‪ ،‬واألبصار خلقت لينتفع بكل ما‬
‫يبصر ‪ ،‬وإمنا يكون ذلك بتوجيه اإلرادة إىل استعمال كل منهما فيما خلق له كما قال تعاىل‬
‫‪ :‬أومل يهد هلم كم أهلكنا من قبلهم من القرون ميشون ىف مساكنهم إّن ىف ذلك آليات أفال‬
‫يسمعون‪ .‬أ ومل يروا أّن ا نسوق املاء إىل األرض اجلرز فنخ رج به زرعا تأكل من ه أنع امهم‬
‫وأنفسهم أفال يبصرون‪.‬‬

‫ولكن املسلمني وا أسفا أصبحوا أشد الناس إمهاال الستعمال أمساعهم وأبصارهم وأفئدهتم‬
‫ىف النظر ىف آيات الّل ه ىف األنفس واآلفاق ‪ ،‬وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم اليت تعرف هبا‬
‫آياته ىف مشاعر اإلنسان وانفعاالته النفسية وقواه العقلية ‪ ،‬وآياته ىف احليوان والنبات واجلماد‬
‫واهلواء واملاء والبخار وسنن النور والكهرباء والعلوم الفلكية‪.‬‬

‫ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإمنا يعرفها لالنتفاع هبا ىف احلياة الدنيا من غري مراعاة‬
‫أهنا آيات دالة على أن هلا رّب ا خالقا مدّبرا عليما ق ديرا رحيما جيب أن يعبد وحده وأن‬
‫خيشى وحيب فوق كل أحد ‪ ،‬وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه احلياة‪.‬‬

‫(ُأولِئ َك َك اَأْلْنع اِم َب ْل ُه ْم َأَض ُّل ُأولِئ َك ُه ُم اْلغ اِفُلوَن ) أي أولئك الذين اتصفوا مبا ذكر من‬
‫الصفات ‪ :‬كاألنع ام من إبل وبقر وغنم ‪ ،‬فهم ال حظ هلم من عقوهلم إال استعماهلا فيما‬
‫يتعلق مبعيش تهم ىف هذه احلي اة ‪ ،‬بل هم أض ل سبيال منها ‪ ،‬إذ هذه ال جتىن على أنفسها‬
‫بتجاوز سنن الفطرة وحدود احلاجة الطبيعية ىف أكلها وشرهبا ومجيع حاجاهتا ‪ ،‬لكن عبيد‬
‫الشهوات يسرفون ىف كل ذلك إسرافا عظيما قد تتوالد من ه األمراض الكثرية ‪ ،‬كما قد‬
‫جياهدون هذه الشهوات جهادا يفّر طون فيه حبقوق البدن ‪ ،‬فال يعطونه ما يكفيه من الغذاء‬
‫أو يقصرون ىف احلقوق الزوجية فيجنون على أشخاصهم أو على النوع كله بالتفريط كما‬
‫جيىن عليهما عبيد الشهوات باإلفراط ‪ ،‬وهداية اإلسالم حتظر هذا وذاك وتوجب األكل من‬
‫الطيبات بشرط عدم اإلسراف ‪ ،‬ولو سلك الناس مسلك االهتداء بالقرآن ىف فهم أسرار‬
‫اخللق ومعرفة منافع ه الستفادوا السعادة ىف معاشهم واالستعداد ملع ادهم ‪ ،‬وأولئك هم‬
‫الغافلون عما فيه صالحهم ىف احلياتني‪.‬‬

‫وهم ىف الغفلة على درجات ‪ ،‬فمنهم الغافلون عن آيات الّل ه ىف األنفس واآلفاق اليت هتدى‬
‫العبد إىل معرفة ربه ‪ ،‬والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقوهلم ىف أفضل ما خلقت ألجله‬
‫‪ ،‬والغافلون عن ضروريات حياهتم الشخصية والقومية والدينية‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن أهل النار هم األغبياء اجلاهلون الغافلون الذين ال يستعملون عقوهلم ىف فقه‬
‫حقائق األمور ‪ ،‬وأبصارهم وأمساعهم ىف استنباط املعارف واستفادة العلوم ‪ ،‬وال ىف معرفة‬
‫آيات الّل ه الكونية وآياته التنزيلية ‪ ،‬ومها سبب كمال اإلميان والباعث النفسّى على كمال‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫[سورة القصص (‪ : )28‬اآليات ‪ 76‬الى ‪]78‬‬


‫ِإَّن ق ا وَن كاَن ِم ِم وسى غى َل ِه آ ن ا ِم اْلُك ُن وِز ما ِإَّن فا َل ُن وُأ ِباْل ِة‬
‫ُعْص َب‬ ‫َم َحِتُه َت‬ ‫َفَب َع ْي ْم َو َتْي ُه َن‬ ‫ْن َقْو ُم‬ ‫ُر‬
‫ِف‬ ‫ِح‬ ‫ِحُي‬ ‫ِة‬
‫ُأويِل اْلُق َّو ِإْذ ق اَل َل ُه َقْو ُم ُه ال َتْف َر ْح ِإَّن الَّل َه ال ُّب اْلَف ِر َني (‪َ )76‬و اْبَت ِغ يما آتاَك الَّل ُه‬
‫الَّداَر اآْل ِخ َة ال َتْن َنِص يَبَك ِم الُّد ْنيا َأْح ِس ْن َك ما َأْح الَّل ُه ِإَلْي َك ال َتْب ِغ اْلَف ساَد يِف‬
‫َو‬ ‫َس َن‬ ‫َو‬ ‫َن‬ ‫َر َو َس‬
‫ِع ِع ِد‬ ‫ِت‬ ‫اَأْلْر ِض ِإَّن الَّل َه ال ِحُي ُّب اْلُم ْف ِس ِد يَن (‪ )77‬ق اَل‬
‫ِإمَّن ا ُأو يُت ُه َعلى ْلٍم ْن ي َأَو ْمَل َيْع َلْم َأَّن الَّل َه‬
‫ِهِب‬
‫ْن ُه ُقَّوًة َو َأْك َثُر ْمَجع ًا َو ال ُيْس َئُل َعْن ُذُن و ُم‬
‫ِم‬ ‫َق ْد َأْه َل َك ِم ْن َقْبِل ِه ِم َن اْلُق ُر وِن َمْن ُه َو َأَش ُّد‬
‫اْلُم ْج ِر ُموَن (‪)78‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫فبغى عليهم ‪ :‬أي تكرّب وجترب ‪ ،‬والكنز ‪ :‬املال املدفون ىف باطن األرض ‪ ،‬واملراد به هنا املال‬
‫املّد خر ‪ ،‬ومفاحته ‪ :‬أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح امليم) وتنوء ‪ :‬من ناء به احلمل ينوء ‪:‬‬
‫إذا أثقله حىت أماله‪ .‬قال ذو الرمة ‪ :‬تنوء بأخراها فأليا قيامها ومتشى اهلويىن عن قريب فتبهر‬
‫والعصبة ‪ :‬اجلماعة الكثرية يتعصب بعضهم لبعض بال تعيني عدد خاص ‪ ،‬والقوة ‪ :‬الشدة ‪،‬‬
‫ال تفرح ‪ :‬أي ال تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاهتا حىت تتلهى عن اآلخرة ‪ ،‬قال بيهس العذرى‬
‫‪ :‬ولست مبفراح إذا الدهر سّر ىن وال جازع من صرفه املتقّلب والدار اآلخرة ‪ :‬أي ثواب‬
‫الّل ه بإنفاق املال فيما يوصل إىل مرض اته ‪ ،‬على علم عن دى ‪ :‬أي على حسن تصرف ىف‬
‫املتاجر واكتساب األموال‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضاللة وما يلقونه من اإلهانة واالحتقار يوم القيامة ‪،‬‬
‫ومناداهتم على رءوس األشهاد مبا يفضحهم ويبني هلم سوء مغبتهم‪ .‬أعقبه بقصص قارون ‪،‬‬
‫ليبني عاقبة أهل البغي واجلربوت ىف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فقد أهلك قارون باخلسف ‪ ،‬وزلزلت‬
‫به األرض ‪ ،‬وهوت من حتته ‪ ،‬مث أصبح مثال يضرب للناس ىف ظلمه وعتّو ه ‪ ،‬ويستبني هلم‬
‫به سوء عاقبة البغاة ‪ ،‬وما يكون هلم من النكال والوبال ىف الدنيا واآلخرة‪ .‬فيندمون على ما‬
‫فعلوا ‪ :‬ندم البغاة والت ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم‬

‫اإليضاح‬

‫(ِإَّن ق اُر وَن كاَن ِم ْن َقْو ِم ُموسى ) أي إنه كان من بىن إسرائيل ‪ ،‬ألنه ابن عم موسى ‪،‬‬
‫فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن الوى بن يعقوب عليه السالم ‪ ،‬وقارون ابن يصهر بن‬
‫قاهث إخل‪.‬‬

‫وكان يسمى املنّو ر حلسن صورته ‪ ،‬وكان أحفظ بىن إسرائيل للتوراة ‪ ،‬وأقرأهم هلا ‪ ،‬لكنه‬
‫نافق كما نافق السامري وقال ‪ :‬إذا كانت النبوة ملوسى ‪ ،‬واملذبح والقربان هلرون ‪ ،‬فما ىل‬
‫إذا ؟ ‪.‬‬

‫(َفَبغى َعَلْيِه ْم ) أي جتاوز احلد ىف احتقارهم‪ .‬والقرابة كثريا ما تدعو إىل البغي‪.‬‬

‫مث ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله ‪:‬‬

‫(َو آَتْيناُه ِم َن اْلُك ُنوِز ما ِإَّن َم فاَحِتُه َلَتُنوُأ ِباْلُعْص َبِة ُأويِل اْلُقَّو ِة) أي وأعطيناه املال املذخور الذي‬
‫يثقل محل مفاتيح خزائنه على العدد الكثري من األقوياء من الناس‪.‬‬

‫روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائن ه كان حيملها أربع ون رجال من األقوياء ‪ ،‬وكانت‬
‫أربعمائة ألف حيمل كل رجل عشرة آالف ‪ ،‬وال شك أن مثل هذا التحديد حيتاج إىل سند‬
‫ق وى يعسر الوصول إلي ه ‪ ،‬ومث ل هذا األسلوب يدل على إرادة الكثرة دون حتديد شىء‬
‫معني‪.‬‬
‫وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال ‪:‬‬

‫(ِإْذ قاَل َلُه َقْو ُم ُه ال َتْف َر ْح ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح مبا أوتى حني قال له قومه من بىن‬
‫إسرائيل ‪ :‬ال تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك ‪ ،‬فإن ذلك جيعلك تتكالب على مجع حطام‬
‫الدنيا ‪ ،‬وتتلهى عن شئون اآلخرة ‪ ،‬وفعل ما يرضى ربك‪.‬‬

‫مث علل النهى عن الفرح بكونه مانعا حمبة الّله فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن الَّل َه ال ِحُي ُّب اْلَف ِر ِح َني ) أي إنه تع اىل ال يكرم الفرحني بزخارف الدنيا وال يقّر هبم من‬
‫جواره ‪ ،‬بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته‪.‬‬

‫وأثر عن بعضهم أنه قال ‪ :‬ال يفرح بالدنيا إال من رضى هبا واطمأن إليها ‪ ،‬أما من يعلم أنه‬
‫سيفارقها عن قريب فال يفرح هبا ‪ ،‬وما أحسن ما قال املتنيب ‪:‬‬

‫أشّد الغم عندى ىف سرور تيّق ن عنه صاحبه انتقاال وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه ‪« :‬‬
‫ِلَك ْيال َتْأَسْو ا َعلى ما فاَتُك ْم َو ال َتْف َر ُح وا مِب ا آتاُك ْم » ‪.‬‬

‫مث نصحوه بعدة نصائح فقالوا ‪:‬‬

‫(‪َ( )1‬و اْبَتِغ ِفيما آتاَك الَّلُه الَّداَر اآْل ِخ َر َة) أي واستعمل ما وهبك الّل ه من هذا املال اجلزيل ‪،‬‬
‫والنعمة الطائلة ىف طاعة ربك ‪ ،‬والتقرب إليه بأنواع القربات اليت حيصل لك هبا الثواب ىف‬
‫الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وىف احلديث ‪ « :‬اغتنم مخسا قبل مخس ‪ :‬شبابك قبل هرمك ‪ ،‬وصحتك‬
‫قبل سقمك ‪ ،‬وغناك قبل فقرك ‪ ،‬وفراغك قبل شغلك ‪ ،‬وحياتك قبل موتك‪.‬‬
‫(‪َ( )2‬و ال َتْنَس َنِص يَبَك ِم َن الُّد ْنيا) أي وال ترتك حظ ك من لذات الدنيا ىف مآكلها ‪،‬‬
‫ومشارهبا ومالبسها فإن لربك عليك حقا ‪ ،‬ولنفسك عليك حقا ‪ ،‬وألهلك عليك حقا‪,‬‬
‫وروى عن ابن عمر ‪ « :‬اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ‪ ،‬واعمل آلخرتك كأنك متوت‬
‫غدا » وعن احلسن ‪ « :‬قّد م الفضل وأمسك ما يبّلغ » ‪.‬‬

‫(‪َ( )3‬و َأْح ِس ْن َك ما َأْح َس َن الَّل ُه ِإَلْي َك ) أي وأحسن إىل خلقه ‪ ،‬كما أحسن هو إليك فيما‬
‫أنعم به عليك ‪ ،‬فأعن خلقه مبالك وجاهك ‪ ،‬وطالقة وجهك ‪ ،‬وحسن لقائهم ‪ ،‬والثناء‬
‫عليهم ىف غيبتهم‪.‬‬

‫(‪َ( )4‬و ال َتْبِغ اْلَف ساَد يِف اَأْلْر ِض ) أي وال تصرف مهتك ‪ ،‬مبا أنت فيه إىل الفساد ىف األرض‬
‫‪ ،‬واإلساءة إىل خلق الّله‪.‬‬

‫مث أتبعوا هذه املواعظ بعلتها فقالوا ‪:‬‬

‫(ِإَّن الَّلَه ال ِحُي ُّب اْلُم ْف ِس ِد يَن ) أي إن الّله ال يكرم املفسدين ‪ ،‬بل يهينهم ويبعدهم من حظرية‬
‫قربه ‪ ،‬وني ل مودته ورمحته‪ .‬مث بني أنه مع كل هذه املواعظ أىب وزاد ىف كفران النعمة‬
‫فقال ‪:‬‬

‫(قاَل ِإمَّن ا ُأوِتيُتُه َعلى ِعْلٍم ِعْنِد ي) أي قال قارون ملن وعظوه ‪ :‬إمنا أوتيت هذه الكنوز لفضل‬
‫علم عندى ‪ ،‬علمه الّله مىن ‪ ،‬فرضى بذلك عىن ‪ ،‬وفّض لىن هبذا املال عليكم‪.‬‬

‫وتلخيص ذلك ‪ :‬إىن إمنا أعطيته لعلم الّله أىن له أهل‪.‬‬


‫وحنو اآلية قوله « َف ِإذا َم َّس اِإْل ْنساَن ُض ٌّر َدعانا َّمُث ِإذا َخ َّو ْلناُه ِنْع َم ًة ِم َّنا قاَل ِإمَّن ا ُأوِتيُت ُه َعلى‬
‫ِعْلٍم » ‪ .‬فرد الّله عليه مقاله بقوله ‪:‬‬

‫(َأَو ْمَل َيْع َلْم َأَّن الَّل َه َق ْد َأْه َل َك ِم ْن َقْبِل ِه ِم َن اْلُق ُر وِن َمْن ُه َو َأَش ُّد ِم ْن ُه ُقَّوًة َو َأْك َثُر ْمَجع ًا) أي‬
‫أنسى ومل يعلم ‪ ،‬حني زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده ‪ ،‬فاستحق بذلك أن يؤتى ما‬
‫أوتى ؟ أن الّل ه ق د أهلك من قبله من األمم ‪ ،‬من هم أشد من ه بطش ا ‪ ،‬وأكثر مجع ا‬
‫لألموال ؟ ولو كان الّل ه يؤتى األموال من يؤتي ه لفضل في ه وخري عن ده ورض اه عن ه ‪ ،‬مل‬
‫يهلك من أهلك من أرباب األموال ‪ ،‬الذين كانوا أكثر منه ماال ‪ ،‬ألن من يرضى الّله عنه ‪،‬‬
‫فمحال أن يهلكه وهو عنه راض ‪ ،‬وإمنا يهلك من كان عليه ساخطا ‪ ،‬أمل يشاهد فرعون‬
‫وهو ىف أهّب ة ملكه ‪ ،‬وحّق ق أمره يوم هلكه‪.‬‬

‫وىف هذا األسلوب تعجيب من حاله ‪ ،‬وتوبيخ له على اغرتاره بقوته وكثرة ماله ‪ ،‬مع علمه‬
‫بذلك‪.‬‬

‫وبع د أن هدده سبحانه بذكر إهالك من قبله من أض رابه يف الدنيا ‪ -‬أردف ذلك هتديد‬
‫اجملرمني كافة مبا هو أشد من عذاب اآلخرة وهو عدم سؤاهلم عن ذنوهبم ‪ ،‬إذ أنه يؤذن‬
‫بشدة الغضب عليهم ‪ ،‬واإليقاع هبم ال حمالة ‪ ،‬فقال ‪َ « :‬و ال ُيْس َئُل َعْن ُذُنوِهِبُم اْلُم ْج ِر ُم وَن‬
‫» أي إنه تعاىل حني إرادة عقاهبم ال يسأهلم عن مقدار ذنوهبم وال عن كنهها ‪ ،‬ألنه عليم‬
‫ِب‬ ‫ِم‬
‫هبا ‪ ،‬وال يع اتبهم عليها ‪ ،‬كما ق ال تع اىل ‪َ « :‬فما ُه ْم َن اْلُم ْع َت َني » وق ال ‪َ « :‬و ال ُه ْم‬
‫ُيْس َتْع َتُبوَن » ‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله « َفَيْو َم ِئٍذ ال ُيْس َئُل َعْن َذْنِبِه ِإْنٌس َو ال َج اٌّن » ‪.‬‬
‫وهذا ال مينع أهنم يسألون سؤال تقريع وإهانة ‪ ،‬كما جاء ىف قوله ‪َ « :‬فَو َر ِّبَك َلَنْس َئَلَّنُه ْم‬
‫َأَمْجِعَني ‪َ .‬عَّم ا كاُنوا َيْع َم ُلوَن » ‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬آية ‪]3‬‬

‫ُح ِّر َم ْت َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَت ُة َو الَّد ُم َو ْحَلُم اِخْلْنِز يِر َو ما ُأِه َّل ِلَغِرْي الَّل ِه ِب ِه َو اْلُم ْنَخ ِنَق ُة َو اْلَمْو ُق وَذُة‬
‫َو اْلُم َتَر ِّدَي ُة َو الَّنِط يَح ُة َو ما َأَك َل الَّس ُبُع ِإَّال ما َذَّك ْيُتْم َو ما ُذِبَح َعَلى الُّنُص ِب َو َأْن َتْس َتْق ِس ُم وا‬
‫ِن‬ ‫ِم ِد ِن‬ ‫ِئ ِذ‬ ‫ِل ِف‬
‫ِباَأْلْز الِم ذ ُك ْم ْس ٌق اْلَيْو َم َي َس اَّل يَن َك َف ُر وا ْن ي ُك ْم َفال ْخَتَش ْو ُه ْم َو اْخ َش ْو اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت‬
‫ٍة‬ ‫يِف‬ ‫ِد‬ ‫ِإْل‬ ‫ِض‬ ‫ِن‬ ‫ِد‬
‫َلُك ْم يَنُك ْم َو َأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ْع َم يِت َو َر يُت َلُك ُم ا ْس الَم ين ًا َفَم ِن اْض ُطَّر ْخَمَم َص َغْيَر‬
‫ُمَتجاِنٍف ِإِلٍمْث َفِإَّن الَّلَه َغُف وٌر َر ِح يٌم (‪)3‬‬

‫اإليضاح‬

‫هذا شروع ىف بيان احملرمات اليت أشري إليها ىف أول السورة بقوله (ِإاَّل ما ُيْتلى َعَلْيُك ْم ) وهى‬
‫عشرة أنواع ‪:‬‬

‫(األول امليتة) ويراد هبا عرفا ما مات حتف أنفه ‪ :‬أي بدون فعل فاعل ‪ ،‬ويراد هبا ىف عرف‬
‫الشرع ما مات ومل يذكه اإلنسان ألجل أكله‪ .‬واحلكمة ىف التحرمي ‪:‬‬

‫‪ )1‬استقذار الطباع السليمة هلا‪.‬‬

‫‪ )2‬أن ىف أكلها مهانة تناىف عزة النفس وكرامتها‪.‬‬

‫‪ )3‬الضرر الذي ينش أ من أكلها سواء كانت ق د ماتت مبرض أو شدة ض عف أو جبراثيم‬
‫(ميكروبات) احنلت هبا قواها‪.‬‬
‫‪ )4‬تعويد املسلم أال يأكل إال مما كان له قصد ىف إزهاق روحه‪.‬‬

‫(الث اين الدم) واملراد به الدم املسفوح ‪ :‬أي املائع الذي يسفح ويراق من احلي وان وإن مجد‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬خبالف املتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه ال يسمى‬
‫مسفوحا‪.‬‬

‫وحكمة حترمي الدم الضرر واالستقذار أيضا ‪ ،‬أما الضرر فألنه عسر اهلضم ج ّد العسر ‪،‬‬
‫وحيمل كث ريا من املواّد العفن ة اليت تنح ّل من اجلسم ‪ ،‬وهى فضالت لفظتها الطبيع ة كما‬
‫تلفظ الرباز وحنوه واستعاض ت عنها مبواّد جديدة من الدم ‪ ،‬وق د يكون في ه ج راثيم بعض‬
‫األمراض املعدية وهى تكون فيه أكثر مما تكون ىف اللحم ومن أجل هذا اتفق األطباء على‬
‫وج وب غلى اللنب قبل شربه ‪ ،‬لقتل ما عسى أن يكون ق د علق به من ج راثيم األمراض‬
‫املعدية‪.‬‬

‫(الث الث حلم اخلنزير) ملا في ه من الضرر واالستقذار ملالزمته للقاذورات ورغبته فيها ‪ ،‬أما‬
‫ضرره فقد أثبته الطب احلديث ‪ ،‬إذ أثبت أن له ضررا يأتى من أكله القاذورات ‪ ،‬فإن أكله‬
‫يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة احللزونية وهى تنشأ‬
‫من أكله الفريان امليتة ‪ ،‬كما أثبت أن حلمه أعسر اللح وم هضما لكثرة الش حم ىف أليافه‬
‫العضلية ‪ ،‬وأن املواّد الدهنية اليت فيه متنع وصول عصري املعدة إىل الطعام فيعسر هضم املواّد‬
‫الزاللي ة وتتعب مع دة آكله ويش عر بثقل ىف بطن ه واض طراب ىف قلبه ‪ ،‬فإن ذرعه القيء‬
‫فقذف هذه املواد اخلبيث ة خّف ض رره ‪ ،‬وإال هتيجت املع دة وأصيب باإلسهال ‪ ،‬ولوال أن‬
‫الع ادة ق د ج رت بتن اول السموم أكال وشر با وتدخينا ولوال ما يع اجلون به حلم اخلنزير‬
‫لتخفيف ضرره ملا أمكن الناس أن يأكلوه وال سيما أهل البالد احلارة‪.‬‬

‫(الرابع ما أهّل لغري الّل ه به) اإلهالل رفع الصوت ‪ ،‬يقال أهّل فالن باحلج إذا رفع صوته‬
‫بالّتلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهّل الصّىب إذا صرخ عند الوالدة واملراد به ما ذبح على‬
‫ذكر غري الّله تعاىل من املخلوقات اليت يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح ‪،‬‬
‫وكانوا يذحبون ألصنامهم فريفعون أصواهتم بقوهلم باسم الالت أو باسم العّز ى‪.‬‬

‫وحكمة التحرمي ىف هذا أنه من عبادة غري الّل ه ‪ ،‬فاألكل منه مشاركة ألهله ومشايعة هلم‬
‫عليه ‪ ،‬وهو مما جيب إنكاره ال إقراره‪.‬‬

‫ويدخل ىف ذلك ما ذكر عند ذحبه اسم نىب أو وّىل كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة‬
‫املسلمني الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على هنجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا‪.‬‬

‫(اخلامس املنخنقة) وقد روى ابن جرير ىف تفسريها أقواال فعن السدى أهنا اليت تدخل رأسها‬
‫بني شعبتني من شجرة فتختنق فتموت ‪ ،‬وعن ابن عباس والضحاك هى اليت ختتنق فتموت ‪،‬‬
‫وىف رواية عن الضحاك هى الشاة توثق فيقتلها خناقها ‪ ،‬مث قال ‪:‬‬

‫وأوىل هذه األقوال بالصواب قول من قال ‪ :‬هى اليت ختتنق إما ىف وثاقها أو بإدخال رأسها‬
‫ىف املوضع الذي ال تقدر على التخلص منه فتختنق حىت متوت‪.‬‬
‫وهى هبذا املعىن من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه مل ميت بتذكية اإلنسان له ألجل‬
‫أكله فهى داخلة ىف امليتة ‪ ،‬وإمنا خصها بالذكر ألن بعض الع رب ىف اجلاهلي ة كانوا‬
‫يأكلوهنا ‪ ،‬ولئال يشتبه فيها بعض الناس ألن ملوهتا سببا معروفا‪.‬‬

‫والع ربة ىف الش رع بالتذكي ة اليت تكون بقصد اإلنسان ألج ل األكل حىت يكون واثقا من‬
‫صحة البهيمة اليت يريد التغذي هبا‪.‬‬

‫(السادس املوقوذة) الوقذ ‪ :‬شدة الضرب ‪ ،‬وشاة وقيذ وموقوذة ‪ ،‬واملوقوذة هى اليت تقتل‬
‫بعصا أو حبجارة الحّد هلا فتموت بال ذكاة ‪ ،‬وكانوا يأكلوهنا ىف اجلاهلية‪.‬‬

‫والوق ذ حيرم ىف اإلسالم ‪ ،‬ألنه تع ذيب للحي وان ‪ ،‬ق ال صلى الّل ه علي ه وسلم ‪ « :‬إن الّل ه‬
‫كتب اإلحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذحبتم فأحسنوا الّذ حبة ‪،‬‬
‫وليحّد أحدكم شفرته ولريح ذبيحته » رواه أمحد ومسلم وأصحاب السنن‪.‬‬

‫وملا كان الوقذ حمرما حرم ما قتل به ‪ ،‬وهى تدخل ىف عموم امليتة على الوجه الذي ذكرنا ‪،‬‬
‫فإهنا مل تذّك تذكية شرعية ‪ ،‬ويدخل ىف املوقوذة ما رمى بالبندق (وهو حنو كرة من الطني‬
‫جتفف ويرمى هبا بع د يبسها) ملا روى « أن رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم هنى عن‬
‫اخلذف (الرمي باحلصا واخلزف وكل يابس غري حمدد سواء رمى بالي د أو املخذفة أو‬
‫املقالع) وقال‪ .‬إنه ال يفقأ العني وال ينكى العدّو وال حيرز صيدا »‬
‫ففى هذا احلديث نص على العلة وهو أنه تع ذيب للحي وان وليس سببا مطردا وال غالبا‬
‫للقتل‪ .‬أما بندق الّر صاص املستعمل اآلن وما ىف حكمه فإنه يصيد وينكأ ‪ ،‬ولذا أفىت العلماء‬
‫جبواز الصيد به‪.‬‬

‫(السابع املرتّدية) وهى اليت تقع من مكان مرتفع كجبل ‪ ،‬أو منخفض كبئر وحنوها‬
‫فتموت ‪ ،‬وهى ىف حكم امليتة ‪ ،‬ألنه مل يكن لإلنسان عمل ىف إماتتها وال قصد به إىل‬
‫أكلها‪.‬‬

‫(الث امن النطيح ة) وهى اليت تنطحها هبيمة أخرى فتموت من الّنطاح من غري أن يكون‬
‫لإلنسان عمل ىف أمانتها‪.‬‬

‫(التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كاالسد والذئب والنمر ليأكله ‪،‬‬
‫وأكله منه ليس بشرط للتحرمي ‪ ،‬إذ يكفى فرسه إياه وقتله ىف حترميه‪.‬‬

‫وكان الع رب ىف اجلاهلي ة يأكلون بعض فرائس السباع ‪ ،‬ولكن ه مما تأنفه أكثر الطباع ‪،‬‬
‫وأكثر الناس يعّد أكله ذلة ومهانة وإن كانوا ال خيشون منه ضررا‪.‬‬

‫(ِإاَّل ما َذَّك ْيُتْم ) أي إال ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب املذبوح فذكيتموه‬
‫وأمتموه إماتة شرعية ألجل أكله ‪ -‬وهو استثناء من مجيع ما تقدم ذكره من احملرمات سوى‬
‫ما ال يقبل التذكية من امليتة والدم واخلنزير وما أكل السبع ‪ ،‬وذلك هو ‪ -‬ما أهّل لغري الّل ه‬
‫به واملنخنقة واملوقوذة واملرتدية والنطيحة‪.‬‬
‫وخالصة املع ىن ‪ -‬ولكن ال حيرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكي ة ‪ ،‬ويكفى ىف‬
‫صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من احلياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه ‪،‬‬

‫وقد قال على كرم الّله وجهه ‪ :‬إذا أدركت ذكاة املوقوذة واملرتدية والنطيحة وهى حترك يدا‬
‫أو رجال فكلها‪.‬‬

‫(العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد األنصاب ‪ ،‬وهى حجارة كانت حول الكعبة‬
‫عددها ثالمثائة وستون حجرا وكان أهل اجلاهلية يذحبون عليها ويعدون ذلك قربة‪.‬‬

‫ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهّل به لغري الّل ه من حيث إنه يذبح‬
‫بقصد العبادة لغ ري الّل ه تع اىل ‪ ،‬وخص بالذكر إلزالة وهم من يتوهم أنه ق د حيل لقصد‬
‫تعظيم البيت احلرام إذا مل يذكر اسم غري الّل ه علي ه ‪ ،‬وهو من خرافات اجلاهلي ة اليت ج اء‬
‫اإلسالم مبحوها‪.‬‬

‫وخالصة ما تقدم ‪ -‬إن الّل ه تعاىل أحّل أكل هبيمة األنعام وسائر الطيبات من احليوان ‪ ،‬ما‬
‫دّب منها على األرض ‪ ،‬وما طار ىف اهلواء ‪ ،‬وما سبح ىف البحر ‪ ،‬ومل حيرم إال امليتة والدم‬
‫املسفوح وحلم اخلنزير وما أهل به لغري الّله‪.‬‬

‫وقد كان بعض العرب يذبح احليوان على اسم غري الّل ه وهو شرك وفسق ‪ ،‬وبعضهم يأكل‬
‫امليتة ويقول مل تأكلون ما قتلتم وال تأكلون ما قتل الّل ه ؟ ولكن الفارق بينهما ما ىف هذا‬
‫من مظنة الضرر ‪ ،‬وفيه مهانة للنفس ‪ ،‬ومن مث جعل الّله حل أكل املسلم لذلك منوطا بإمتام‬
‫موته واإلجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الّل ه عليه فال يكون من عمل الشرك ‪ ،‬ولئال يقع‬
‫ىف مهانة أكل امليتة وخسة آكلها بأكله املنخنقة واملوقوذة واملرتدية والنطيحة وفريسة السبع‬
‫‪ -‬إىل ما ىف املوقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم احليوان وذلك حمرم شرعا‪.‬‬

‫مث أض اف إىل حمرمات الطع ام اليت كان أهل اجلاهلي ة يستحلوهنا عمال آخر من أعماهلم‬
‫وخرافاهتم فقال ‪:‬‬

‫(َو َأْن َتْس َتْق ِس ُم وا ِباَأْلْز الِم ) األزالم واحدها زمل ‪ :‬وهو قطعة من اخلشب على هيئة السهم ‪،‬‬
‫لكن ال يركب فيه النصل الذي جيرح ما يرمى به من صيد وغريه وكانت األزالم ثالثة ‪،‬‬
‫كتب على أحدها « أمرىن رىب » وعلى الث اين « هناىن رىب » والث الث غفل ليس علي ه‬
‫شىء ‪ ،‬فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو حنو ذلك أجال « حّر ك » هذه‬
‫األزالم ‪ ،‬فإن خرج له الزمل املكتوب علي ه « أمرىن رىب » مضى ملا أراد ‪ ،‬وإن خرج‬
‫املكتوب علي ه « هناىن رىب » أمسك عن ذلك ومل ميض في ه ‪ ،‬وإن خرج الغفل الذي ال‬
‫كتابة علي ه أعاد االستقسام ‪ ،‬وهو ‪ :‬طلب معرفة ما قسم له دون ما مل يقسم بواسطة‬
‫األزالم‪.‬‬

‫أي وحّر م عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم باألزالم كما كانت تفعل العرب ىف اجلاهلية‪.‬‬
‫وحكمة هذا التح رمي أنه من اخلرافات واألوهام اليت ال يركن إليها إال من كان ض عيف‬
‫العقل ‪ ،‬يفعل ما يفعل من غري بينة وال بصرية ‪ ،‬ويرتك ما يرتك كذلك ‪ ،‬وجيعل نفسه ألعوبة‬
‫للكهنة والّس دنة ‪ ،‬ويتفاءل ويتشاءم مبا ال فأل فيه وال شؤم ‪ ،‬ومن ّمث أبطل ذلك دين العقل‬
‫والبصرية كما أبطل التطرّي والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات اجلاهلية ‪ ،‬إىل أن فيها‬
‫افرتاء على الّله إن أرادوا بقوهلم « أمرىن رىب » الّله عز وجل ‪ ،‬وجهال وشركا إن أرادوا به‬
‫الصنم ‪ ،‬إىل أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الّله به‪.‬‬

‫وقد اسّنت بعض جهال املسلمني بسنة مشركى اجلاهلية ‪ ،‬أو مبا يشبهها فرتاهم يستقسمون‬
‫بالّس بح وغريها ويسمون ذلك استخارة أو فأال فيقتطع ون طائفة من حب الّس بحة‬
‫وحيركوهنا حبة بع د أخرى ‪ ،‬يقولون ‪ « :‬افع ل » على واحدة « ال تفع ل » على الثاني ة ‪،‬‬
‫ويكون احلكم الفصل للحبة األخرية ‪ ،‬وما هذا باالستخارة اليت ورد اإلذن هبا ‪ ،‬بل قد ورد‬
‫ما يؤيد حترميها‪.‬‬

‫ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكرمي فيصبغون عملهم بصبغة الدين‬
‫ويلبسون الباط ل ث وب احلق ‪ ،‬ومل يرد ىف هذا نص جيّو ز العمل به ‪ ،‬ولكن اإللف والع ادة‬
‫جعال هذا البدع مستحسنة وتأولوا هلا اسم الفأل احلسن ورووا ىف ذلك حديث أىب هريرة‬
‫عن عائشة أن رسول الّله صلى الّله عليه وسلم « كان يعجبه الفأل احلسن » وليس هذا من‬
‫الفأل احلسن ‪ ،‬بل الفأل ضد الطرية اليت أبطلتها األحاديث‪.‬‬

‫والعجيب من أمر بعض املسلمني أهنم تركوا االهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم‬
‫واكتفوا من اإلميان به والتعظيم له باالستقسام به كما كانت اجلاهلية تستقسم باألزالم ‪ ،‬أو‬
‫االستش فاء مبداد تكتب به آياته ىف كاغد أو ج ام (فنج ان) وكل هذا من الضالالت‬
‫واخلرافات اليت مل يرد شىء منها عن رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم وال عن السلف‬
‫الصاحل‪ .‬وأعجب من ذلك جع ل بعض الدجالني االستقسام من قبي ل االستخارة وجع ل‬
‫بعضهم له من قبيل القرعة املشروعة ‪ ،‬وكل ذلك ضالل ‪ ،‬إذ ال بينة فيه وال سلطان‪.‬‬
‫واالستخارة اليت وردت هبا السنة هى التوج ه إىل الّل ه وااللتج اء إلي ه بالصالة والدعاء بأن‬
‫يزيل عن املستخري احلرية ويرشده إىل ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدالئل والبينات ‪ ،‬فال‬
‫يستبني له إن كان اخلري ىف اإلقدام أو ىف الرتك ‪ ،‬فإذا شرح الّله صدره لشىء أمضاه‪.‬‬

‫وق د روى أمحد والش يخان وأصحاب السنن من حديث ج ابر بن عبد الّل ه ق ال ‪ :‬كان‬
‫رسول الّله صلى الّله عليه وسلم يعّلمنا االستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول ‪:‬‬

‫«إذا هّم أحدكم باألمر فلريكع ركع تني من غري الفريضة مث ليقل ‪ :‬اللهم إىن أستخريك‬
‫بعلمك ‪ ،‬وأستقدرك بقدرتك ‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم ‪ ،‬فإنك تقدر وال أقدر ‪ ،‬وتعلم‬
‫وال أعلم ‪ ،‬وأنت عالم الغي وب ‪ ،‬اللهم إن كنت تعلم أن هذا األمر خري ىل ىف ديىن‬
‫ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاقدره ىل ويسره ىل مث بارك ىل فبه ‪ ،‬وإن كنت تعلم أن هذا‬
‫األمر شر ىل ىف ديىن ومعاشى وعاج ل أمرى وآجله فاصرفه عىن واصرفين عن ه واق در ىل‬
‫اخلري حيث كان مث أرضىن به » قال ويسمى حاجته‪.‬‬

‫والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر ‪ ،‬فإهنا إمنا تكون للرتجيح بني املتساويني قطعا كالقسمة‬
‫بني اث نني ‪ ،‬إذ ال وج ه إللزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه احلصة وعمرو‬
‫األخرى ‪ ،‬فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة‪.‬‬

‫(ذِلُك ْم ِفْس ٌق ) أي كل حمرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الّل ه ورغبة عن شرعه إىل‬
‫معصيته‪.‬‬
‫(اْلَيْو َم َيِئَس اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْن ِد يِنُك ْم َفال ْخَتَش ْو ُه ْم َو اْخ َش ْو ِن ) اليوم هو يوم عرفة من حج ة‬
‫الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم مجعة ‪ ،‬وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه اآلية‬
‫املبينة ملا يقر من األحكام اليت أبطل هبا اإلسالم بقايا مهانة اجلاهلية وخبائثها وأوهامها ‪،‬‬
‫واملبشرة بظهور املسلمني على املشركني ظهورا تاما ال مطمع هلم ىف زواله ‪ ،‬وال حاجة مع ه‬
‫إىل شىء من مداراهتم أو اخلوف من عاقبة أمرهم‪.‬‬

‫روى البيهقي ىف كتاب شعب اإلميان عن ابن عباس ىف قوله ‪ « :‬اْلَيْو َم َيِئَس اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا‬
‫ِم ْن ِديِنُك ْم » يقول يئس أهل مكة أن ترجع وا إىل دينهم ‪ ،‬وهو عبادة األوث ان أبدا (َفال‬
‫ْخَتَش ْو ُه ْم ) ىف اتباع حممد (واخشون) ىف عبادة األوثان وتكذيب حممد‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن الّله أخرب املؤمنني بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم ‪ ،‬وأنه ينبغى هلم ‪-‬‬
‫وق د بّد هلم بضعفهم ق وة ‪ ،‬وخبوفهم أمن ا ‪ ،‬وبفقرهم غىن ‪ -‬أاّل خيش وا غريه ‪ ،‬وق د عرفوا‬
‫فضله وإعزازه هلم‪.‬‬

‫وإمجال املع ىن ‪ -‬الي وم انقطع رج اؤهم من إبطال دينكم ورج وعكم عن ه ‪ ،‬ملا شاهدوا من‬
‫فضل الّله عليكم ‪ ،‬إذ وىّف بوعده ‪ ،‬وأظهره على الدين كله‪.‬‬

‫(اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِد يَنُك ْم َو َأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ِنْع َم يِت َو َر ِض يُت َلُك ُم اِإْل ْس الَم ِد ين ًا) ىف اآلية‬
‫بشارات ثالث فسرها السلف مبا سنذكره بعد ‪:‬‬

‫روى عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ملا كان النيب صلى الّل ه عليه وسلم واقفا بعرفات نزل عليه‬
‫جربيل وهو رافع يده واملسلمون يدعون الّل ه (اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِديَنُك ْم ) أي حاللكم‬
‫وحرامكم ‪ ،‬فلم ينزل بع ده حالل وال حرام (َو َأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ِنْع َم يِت ) أي مّن ىت فلم حيج‬
‫معكم مشرك (َو َر ِض يُت ) أي اخرتت (َلُك ُم اِإْل ْس الَم ِدينًا)‪.‬‬

‫وق د مكث رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم بع د نزول هذه اآلية واحدا ومثانني يوما مث‬
‫قبضه الّله إليه‪ .‬وروى ابن جرير وابن املنذر عنه أيضا أنه قال ‪ :‬أخرب الّل ه نبيه واملؤمنني أنه‬
‫قد أكمل هلم اإلميان فال حيتاجون إىل زيادة أبدا ‪ ،‬وقد أمته فال ينقص أبدا ‪ ،‬وقد رضيه فال‬
‫يسخط أبدا ‪ :‬وقال صاحب الكشاف ‪( :‬اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِديَنُك ْم ) كفيتكم أمر عدوكم‬
‫وجعلت اليد العليا لكم كما تقول امللوك ‪ :‬اليوم كمل لنا امللك ‪ ،‬وكمل لنا ما نريد‪ .‬إذا‬
‫كفوا من ينازعهم امللك ووصلوا إىل أغراضهم ومنافعهم‪.‬‬

‫(َو َأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ِنْع َم يِت ) بفتح مكة ودخوهلا آمنني ظ اهرين ‪ ،‬وهدم من ار اجلاهلي ة وإبطال‬
‫مناسكها وأن مل حيج معكم مشرك ومل يطف بالبيت عريان‪.‬‬

‫(َو َر ِض يُت َلُك ُم اِإْل ْس الَم ِدين ًا) يع ىن اخرتته لكم من بني األديان وآذنتكم بأنه هو الدين‬
‫املرضى وحده « َو َمْن َيْبَتِغ َغْيَر اِإْل ْس الِم ِدينًا َفَلْن ُيْق َبَل ِم ْنُه » اه‪.‬‬

‫(َفَم ِن اْض ُطَّر يِف ْخَمَم َص ٍة َغْيَر ُمَتجاِنٍف ِإِلٍمْث ) االضطرار ‪ :‬محل اإلنسان على ما يضره وإجلاؤه‬
‫إليه ‪ ،‬واملخمصة ‪ :‬اجملاعة ختمص هلا البطون ‪ :‬أي تضمر ‪ ،‬واملتجانف لإلمث ‪:‬‬

‫املائل املنحرف إليه املختار له ‪ ،‬أي فمن وقع ىف ضرورة تناول شىء من احملرمات بسبب‬
‫جماعة ختمص هلا البطون وخياف منها املوت أو مبادئه حال كونه غري خمتار لإلمث ‪ ،‬بأن يأكل‬
‫من ه ما يزيد على ما ميسك به رمقه ‪ ،‬فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس وجماهد‬
‫وقتادة رضى الّله عنهم‪ .‬وىف معىن اآلية ما جاء ىف سورة البقرة « َفَم ِن اْض ُطَّر َغْيَر باٍغ َو ال‬
‫عاٍد َفال ِإَمْث َعَلْي ِه » أي فمن اضطر غري طالب له وال متع ّد ومتجاوز قدر الضرورة فال إمث‬
‫عليه‪ .‬وإمنا اشرتط هذا ألن اإلباحة للضرورة وهى تقّد ر بقدرها ‪ ،‬وذلك نافع للمضطر أدبا‬
‫وطبعا ألنه مينعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر‪.‬‬

‫(َف ِإَّن الَّل َه َغُف وٌر َر ِح يٌم) أي فمن اضطر إىل أكل شىء مما ذكر فأكل ىف جماعة ال جيد فيها‬
‫غريه وهو غري مائل إليه لذاته وال جائر فيه متجاوز قدر الضرورة ‪ ،‬فإن الّل ه غفور ملثله ال‬
‫يؤاخذه عليه ‪ ،‬وهو رحيم به يرمحه وحيسن إليه‪.‬‬

‫وملا كان األصل ىف األشياء احلّل ‪ ،‬ألن الّل ه سخر لن ا ما ىف األرض مجيع ا لننتفع به ‪،‬‬
‫واحملظور علينا هو ما يضرنا ‪ ،‬ولكن الناس يتصّد ون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم‬
‫‪ ،‬كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل امليتة والدم وحنوها من اخلبائث وحرمت على‬
‫نفسها بعض الطيبات من األنعام خبرافات وأوهام باطلة كالبحرية والسائبة وحنومها ‪ -‬كانت‬
‫احلاجة ماسة إىل بيان ما حيله الّله تعاىل مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال ‪:‬‬

‫َيْس َئُلوَنَك م‪BB B‬ا ذا ُأِح َّل َلُه ْم ُق ْل ُأِح َّل َلُك ُم الَّطِّيب‪BB B‬اُت َو م‪BB B‬ا َعَّلْم ُتْم ِم َن اْلَج واِر ِح‬
‫ا‬ ‫وا‬ ‫ُك‬ ‫اْذ‬ ‫ُك‬ ‫َل‬ ‫ْك‬ ‫َأ‬ ‫ا‬ ‫َّم‬ ‫َك ِّلِبي ِّل و َّن ِم َّم ا َّل ُك الَّل َفُكُل وا ِم‬
‫َم‬ ‫ْس‬ ‫ْم َو ُر‬ ‫ْي‬ ‫َع‬ ‫َس َن‬ ‫ْم‬ ‫َع َم ُم ُه‬ ‫ُم َن ُتَع ُم َنُه‬
‫الَّل ِه َعَلْي ِه َو اَّتُق وا الَّل َه ِإَّن الَّل َه َس ِر يُع اْلِح س ‪BB‬اِب (‪ )4‬اْلَيْو َم ُأِح َّل َلُك ُم الَّطِّيب ‪BB‬اُت‬
‫ِم‬ ‫ِح‬ ‫ِح‬ ‫ِك‬ ‫َّل ِذ‬
‫َو َطع‪BB B‬اُم ا يَن ُأوُت وا اْل تاَب ٌّل َلُك ْم َو َطع‪BB B‬اُمُك ْم ٌّل َلُه ْم َو اْلُم ْحَص ناُت َن‬
‫اْلُم ْؤ ِم ن ‪BB B‬اِت َو اْلُم ْحَص ناُت ِم َن اَّل ِذ يَن ُأوُت وا اْلِكتاَب ِم ْن َقْبِلُك ْم ِإذا آَتْيُتُم وُه َّن‬
‫ُأُج وَر ُه َّن ُمْح ِص ِنيَن َغْيَر ُمس‪BB‬اِفِح يَن َو ال ُمَّتِخ ِذ ي َأْخ داٍن َو َمْن َيْك ُف ْر ِباِإْل يم‪BB‬اِن َفَق ْد‬
‫َح ِبَط َعَم ُلُه َو ُه َو ِفي اآْل ِخ َر ِة ِم َن اْلخاِس ِر يَن (‪)5‬‬

‫[سورة البينة (‪ : )98‬اآليات ‪ 1‬الى ‪]8‬‬

‫ْمَل َيُك ِن اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْن َأْه ِل اْلِكتاِب َو اْلُم ْش ِر ِكَني ُمْنَف ِّك َني َح ىَّت َت ْأِتَيُه ُم اْلَبِّيَن ُة (‪َ )1‬رُس وٌل‬
‫ِم َن الَّل ِه َيْتُل وا ُص ُح فًا ُم َطَّه َر ًة (‪ِ )2‬فيها ُك ُتٌب َقِّيَم ٌة (‪َ )3‬و ما َتَف َّرَق اَّل ِذ يَن ُأوُت وا اْلِكتاَب ِإَّال‬
‫ِم ْن َبْع ِد ما جاَءْتُه ُم اْلَبِّيَن ُة (‪َ )4‬و ما ُأِم ُر وا ِإَّال ِلَيْع ُب ُد وا الَّل َه ْخُمِلِص َني َل ُه الِّديَن ُح َنفاَء َو ُيِق يُم وا‬
‫ِك‬ ‫ِك‬ ‫ِم‬ ‫ِذ‬ ‫ِة‬ ‫ِل ِد‬
‫الَّص الَة َو ُيْؤ ُتوا الَّز كاَة َو ذ َك يُن اْلَق ِّيَم (‪ِ )5‬إَّن اَّل يَن َك َف ُر وا ْن َأْه ِل اْل تاِب َو اْلُم ْش ِر َني‬
‫يِف ناِر َّن خاِل ِد ي ِفيها ُأولِئ َك َش ُّر اْلِرَب َّي ِة (‪ِ )6‬إَّن اَّل ِذ ي آ ُن وا ِم ُل وا الَّص احِل اِت‬
‫َن َم َو َع‬ ‫ُه ْم‬ ‫َن‬ ‫َجَه َم‬
‫ِلِد‬ ‫ِم ِت‬ ‫ٍن‬ ‫ِع ِهِّب‬ ‫ِرَب ِة‬ ‫ِئ‬
‫ُأول َك ُه ْم َخ ْيُر اْل َّي (‪َ )7‬ج زاُؤ ُه ْم ْنَد َر ْم َج َّناُت َع ْد ْجَتِر ي ْن ْحَت َه ا اَأْلهْن اُر خا يَن‬
‫ِفيها َأَبدًا َر ِض َي الَّلُه َعْنُه ْم َو َر ُضوا َعْنُه ذِلَك ِلَم ْن َخ ِش َي َر َّبُه (‪)8‬‬

‫شرح المفردات‬

‫أهل الكتاب ‪ :‬اليهود والنصارى ‪ ،‬املش ركون ‪ :‬عبدة األوث ان واألصنام من الع رب‬
‫وغريهم ‪ ،‬منفكني ‪ :‬أي مفارقني ما هم عليه ‪ ،‬والبينة ‪ :‬احلجة الواضحة ‪ ،‬واملراد هبا النيب‬
‫صلى الّل ه عليه وسلم ‪ ،‬والصحف ‪ :‬واحدها صحيفة ‪ :‬وهى ما يكتب فيه ‪ ،‬مطهرة ‪ :‬أي‬
‫مربأة من الزور والضالل ‪ ،‬والقيمة ‪ :‬املستقيمة اليت ال عوج فيها الشتماهلا على احلق ‪،‬‬
‫والبينة ‪ :‬الثابتة الدليل ‪ ،‬واإلخالص ‪ :‬أن يأتى بالعمل خالصا له تعاىل ‪ ،‬ال يشرك به سواه ‪،‬‬
‫الدين ‪ :‬العبادة ‪ ،‬وإخالص الدين لّله ‪ :‬تنقيته من أدران الشرك ‪ ،‬حنفاء ‪ :‬واحدهم حنيف ‪،‬‬
‫وهو ىف األصل املائل املنحرف واملراد به املنحرف عن الزيغ إىل إسالم الوجه لّل ه ‪ ،‬والربية ‪:‬‬
‫اخلليقة ‪ ،‬خشى الّله ‪ :‬أي خاف عقابه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب ىف ظالم دامس من اجلهل مبا جيب االعتقاد به‬
‫والسري عليه من شرائع أنبيائهم ‪ ،‬إال من عصم الّله ‪ ،‬ألن أسالفهم غريوا وبّد لوا ىف شرائعهم‬
‫‪ ،‬وأدخلوا فيها ما ليس منها ‪ ،‬إما لسوء فهمهم ملا أنزل على أنبيائهم ‪ ،‬وإما الستحساهنم‬
‫ضروبا من البدع تومهوها مؤيدة للدين ‪ ،‬وهى هادمة ألركانه ‪ ،‬وإما إلفحام خصومهم ‪،‬‬
‫والرغبة ىف الظفر هبم‪ .‬وقد توالت على ذلك األزمان ‪ ،‬وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه‬
‫من قبلهم حىت خفيت مع امل احلق ‪ ،‬وطمست أنوار اليقني‪ .‬وكان إىل ج وار هؤالء عبدة‬
‫األوث ان من الع رب وغريهم ممن مرنت نفوسهم على عبادهتا ‪ ،‬واخلن وع هلا ‪ ،‬وأصبح من‬
‫العسري حتويلهم عنها ‪ ،‬زعما منهم أن هذا دين اخلليل إبراهيم عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫وكان اجلدل ينش ب حين ا بني املش ركني واليهود ‪ ،‬وحين ا آخر بني املش ركني والنصارى ‪،‬‬
‫وكان اليهود يقولون للمشركني ‪ :‬إن الّل ه سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة ‪ ،‬وينعتونه‬
‫هلم ويتوعدوهنم بأنه مىت جاء نصروه ‪ ،‬وآزروه ‪ ،‬واستنصروا به عليهم حىت يبيدهم‪.‬‬
‫قد كان هذا وذاك ‪ ،‬فلما بعث حممد صلى الّله عليه وسلم قام املشركون يناوئونه ويرفعون‬
‫راية العصيان ىف وجهه ‪ ،‬وأّلبوا الناس عليه ‪ ،‬وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الّل ه‬
‫بصائرهم ‪ ،‬وشرح صدورهم ملعرفة احلق‪ .‬كذلك قلب له اليهود ظهر اجملّن بعد أن كانوا‬
‫من قبل يستفتحون به ‪ ،‬إذا وجدوا نعته عندهم ىف التوراة ‪ ،‬فزعموا أن ما جاء به من الدين‬
‫ليس بالبدع اجلديد ‪ ،‬بل هو معروف ىف كتبهم اليت جاءت على لسان أنبيائهم ‪ ،‬فال ينبغى‬
‫أن يرتكوا ما هم عليه من احلق ‪ ،‬ليتبعوا رجال ما جاء بأفضل مما بني أيديهم ‪ ،‬بل قد بلغ‬
‫األمر هبم أن كانوا عليه مع املشركني الذين كانوا يعاندوهنم ويتهددوهنم بأهنم سيتبعون هذا‬
‫الن يب وينصرونه‪ .‬ففى الرد على مزاعم هؤالء الكافرين الذين جيح دون واض ح احلق ‪،‬‬
‫ويغمضون أعينهم عن النظر فيه ‪ -‬نزلت هذه السورة‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫أي مل )لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة(‬
‫يكن الذين جحدوا رسالة حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى‬
‫واملشركني مبفارقني لكفرهم ‪ ،‬تاركني ملا هم عليه من الغفلة عن احلق ‪ ،‬والوقوف عند ما‬
‫كان عليه آباؤهم ولو كانوا ال يعقلون شيئا ‪ ،‬حىت يأتيهم الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فيحدث جميئه رجة فيما رسخ من عقائدهم ‪ ،‬ومتكن من عاداهتم ‪ ،‬ومن مث أخذوا حيتجون‬
‫لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بني أيديهم وليس مبستحسن أن يتبع ‪ ،‬والبقاء على ما‬
‫‪.‬هم عليه أجدر وأمجل ‪ ،‬والسري على هنج اآلباء أشهى إىل النفس وأسلم‬

‫‪ :‬مث فسر البينة اليت تعرفهم وجه احلق فقال‬


‫(رسول من اهلل يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) أي هذه البينة هى حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يتلو هلم صحف القرآن املطهرة من اخللط والزيغ والتدليس ‪ ،‬واليت تنبعث منها أشعة‬
‫احلق كما قال ‪ « :‬ال َيْأِتيِه اْلباِط ُل ِم ْن َبِنْي َيَد ْيِه َو ال ِم ْن َخ ْلِفِه » وفيها الصحيح القومي من‬
‫كتب األنبياء السابقني كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال « َو ِإَّنُه َلِف ي ُز ُبِر اَأْلَّو ِلَني » ‪،‬‬
‫وقال ‪ِ « :‬إَّن هذا َلِف ي الُّصُح ِف اُأْلوىل ‪ُ .‬صُح ِف ِإْبراِه يَم َو ُموسى‪.‬‬

‫وقد يكون املراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قومي ‪ ،‬أو األحكام‬
‫والشرائع اليت تضمنها كالم الّل ه ‪ ،‬واليت هبا يتبني احلق من الباطل كما قال ‪ « :‬ا ُد ِلَّل ِه‬
‫َحْلْم‬
‫ِّش‬ ‫ْن‬ ‫ُد‬‫َل‬ ‫َل ِع ج ًا ‪ِّ ،‬يمًا ِل ْن ِذ ْأسًا َش ِد يدًا ِم‬ ‫تا‬ ‫اَّلِذ ي َأ َل لى ِدِه اْلِك‬
‫َر‬ ‫َب‬
‫ُي‬ ‫َو‬ ‫ُه‬ ‫ْن‬ ‫َب‬ ‫َر‬ ‫ُي‬ ‫َق‬ ‫ُه‬
‫ْل َو‬ ‫َع‬ ‫ْجَي‬ ‫ْمَل‬ ‫َو‬ ‫َب‬ ‫ْنَز َع َعْب‬
‫اْلُم ْؤ ِمِنَني » ‪.‬‬

‫وقصارى ذلك ‪ -‬إن حال الكافرين من اليهود والنصارى واملش ركني بع د حمى الرسول‬
‫ختالف حاهلم قبلها ‪ ،‬فقد كانوا قبل جميئه كفارا يتيهون ىف عماية من األهواء واجلهاالت ‪،‬‬
‫فلما بعث آمن به قوم منهم ‪ ،‬فلم تبق حاهلم كما كانت قبل ‪ ،‬إىل أهنم قبل بعثته صلى الّل ه‬
‫علي ه وسلم كانوا ج ازمني مبا هم علي ه ‪ ،‬واثقني بصحته ‪ ،‬فلما بعث إليهم تغ ريت حال‬
‫مجيعهم ‪ ،‬فمنهم من آمن به ‪ ،‬واعتقد أن ما كان في ه ض الل وباط ل ‪ ،‬ومنهم من مل يؤمن‬
‫ولكن ه صار مرتددا ىف صحة ما هو علي ه ‪ ،‬أو هو واث ق بع دم صحته ‪ ،‬ولكن مينع ه العن اد‬
‫والتكرب واالقتداء باآلباء من متابعة الرسول صلى الّله عليه وسلم‪.‬‬

‫مث سّلى رسوله صلى الّله عليه وسلم عن تفرق القوم ىف شأنه فقال ‪:‬‬
‫(َو ما َتَف َّرَق اَّل ِذ يَن ُأوُتوا اْلِكتاَب ِإاَّل ِم ْن َبْع ِد ما جاَءْتُه ُم اْلَبِّيَن ُة) أي ال تبخع نفسك عليهم‬
‫حسرات ‪ ،‬وال يكونّن ىف صدرك حرج منهم ‪ ،‬فإن هذا شأهنم الذي درج وا علي ه ‪،‬‬
‫وديدهنم وديدن أسالفهم الذين بدلوا وافرتوا على أنبيائهم ‪ ،‬وتفرقوا طرائق قددا حىت صار‬
‫أهل كل مذهب يبطل ما عند غريه بغيا وعدوانا وقوال بالتشهى واهلوى ‪ ،‬ومل يكن تفرقهم‬
‫لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم ‪ ،‬فهم إن جيحدوا‬

‫مث فسر البينة اليت تعّر فهم وجه احلق فقال ‪:‬‬

‫(َرُس وٌل ِم َن الَّل ِه َيْتُل وا ُص ُح فًا ُمَطَّه َر ًة ِفيها ُك ُتٌب َقِّيَم ٌة) أي هذه البينة هى حممد صلى الّل ه‬
‫عليه وسلم يتلو هلم صحف القرآن املطهرة من اخللط والزيغ والتدليس ‪ ،‬واليت تنبعث منها‬
‫أشعة احلق كما قال ‪ « :‬ال َيْأِتيِه اْلباِط ُل ِم ْن َبِنْي َيَد ْي ِه َو ال ِم ْن َخ ْلِف ِه » وفيها الصحيح القومي‬
‫من كتب األنبياء السابقني كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال « َو ِإَّنُه َلِف ي ُز ُبِر اَأْلَّو ِلَني » ‪،‬‬
‫وقال ‪ِ « :‬إَّن هذا َلِف ي الُّصُح ِف اُأْلوىل ‪ُ .‬صُح ِف ِإْبراِه يَم َو ُموسى»‪.‬‬

‫وقد يكون املراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قومي ‪ ،‬أو األحكام‬
‫والشرائع اليت تضمنها كالم الّل ه ‪ ،‬واليت هبا يتبني احلق من الباطل كما قال ‪ « :‬ا ُد ِلَّل ِه‬
‫َحْلْم‬
‫ِد ِم‬ ‫ِل ِذ‬ ‫ِع‬ ‫ِدِه ِك‬ ‫َّلِذ‬
‫ا ي َأْنَز َل َعلى َعْب اْل تاَب َو ْمَل ْجَيَعْل َلُه َو ج ًا ‪َ ،‬قِّيمًا ُيْن َر َبْأسًا َش يدًا ْن َلُد ْنُه َو ُيَبِّش َر‬
‫اْلُم ْؤ ِمِنَني » ‪.‬‬

‫وقصارى ذلك ‪ -‬إن حال الكافرين من اليهود والنصارى واملش ركني بع د حمى الرسول‬
‫ختالف حاهلم قبلها ‪ ،‬فقد كانوا قبل جميئه كفارا يتيهون ىف عماية من األهواء واجلهاالت ‪،‬‬
‫فلما بعث آمن به قوم منهم ‪ ،‬فلم تبق حاهلم كما كانت قبل ‪ ،‬إىل أهنم قبل بعثته صلى الّل ه‬
‫علي ه وسلم كانوا ج ازمني مبا هم علي ه ‪ ،‬واثقني بصحته ‪ ،‬فلما بعث إليهم تغ ريت حال‬
‫مجيعهم ‪ ،‬فمنهم من آمن به ‪ ،‬واعتقد أن ما كان في ه ض الل وباط ل ‪ ،‬ومنهم من مل يؤمن‬
‫ولكن ه صار مرتددا ىف صحة ما هو علي ه ‪ ،‬أو هو واث ق بع دم صحته ‪ ،‬ولكن مينع ه العن اد‬
‫والتكرب واالقتداء باآلباء من متابعة الرسول صلى الّله عليه وسلم‪.‬‬

‫مث سّلى رسوله صلى الّله عليه وسلم عن تفرق القوم ىف شأنه فقال ‪:‬‬

‫(َو ما َتَف َّرَق اَّل ِذ يَن ُأوُتوا اْلِكتاَب ِإاَّل ِم ْن َبْع ِد ما جاَءْتُه ُم اْلَبِّيَن ُة) أي ال تبخع نفسك عليهم‬
‫حسرات ‪ ،‬وال يكونّن ىف صدرك حرج منهم ‪ ،‬فإن هذا شأهنم الذي درج وا علي ه ‪،‬‬
‫وديدهنم وديدن أسالفهم الذين بدلوا وافرتوا على أنبيائهم ‪ ،‬وتفرقوا طرائق قددا حىت صار‬
‫أهل كل مذهب يبطل ما عند غريه بغيا وعدوانا وقوال بالتشهى واهلوى ‪ ،‬ومل يكن تفرقهم‬
‫لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم ‪ ،‬فهم إن جيح دوا يّينتك فقد جح دوا بين ة من‬
‫قبلك ‪ ،‬وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الّله بعد ما استيقنتها أنفسهم‪.‬‬

‫وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظن ك باملش ركني وهم أعرق ىف اجلهالة وأسلس‬
‫مقادة للهوى‪.‬‬

‫مث أّنبهم ووخبهم على ما صاروا إليه من األفعال ‪ ،‬وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضالل‬
‫فقال ‪:‬‬

‫(َو ما ُأِم ُر وا ِإاَّل ِلَيْع ُبُد وا الَّلَه ْخُمِلِص َني َلُه الِّديَن ُح َنفاَء َو ُيِق يُم وا الَّص الَة َو ُيْؤ ُتوا الَّز كاَة) أي إهنم‬
‫تفرق وا واختلفوا وهم مل يؤمروا إال مبا يصلح دينهم ودني اهم ‪ ،‬وما جيلب هلم سعادة ىف‬
‫معاشهم ومع ادهم من إخالص لّل ه ىف السر والعلن ‪ ،‬وختليص أعماهلم من الش رك به ‪،‬‬
‫واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إىل التوحيد وإخالص العبادة له كما قال‬
‫‪َّ « :‬مُث َأْو َح ْينا ِإَلْيَك َأِن اَّتِبْع ِم َّلَة ِإْبراِه يَم َح ِنيفًا » وقال ‪:‬‬

‫« ما كاَن ِإْبراِه يُم َيُه وِدًّيا َو ال َنْص راِنًّيا َو لِكْن كاَن َح ِنيفًا ُمْس ِلمًا » ‪.‬‬

‫واملراد من إقامة الصالة اإلتي ان هبا مع إحضار القلب هليبة املعبود ‪ ،‬ليعتاد اخلضوع له ‪،‬‬
‫وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عني هلا ىف الكتاب الكرمي من املصارف‪.‬‬

‫(َو ذِلَك ِد يُن اْلَق ِّيَم ِة) أي هذا الذي ذكر من إخالص العبادة للخالق ‪ ،‬وامليل عن الشرك مع‬
‫إقامة الصالة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬هو الدين الذي جاء ىف الكتب القيمة‪.‬‬

‫وقصارى ما سلف ‪ -‬إن أهل الكتاب افرتقوا ىف أصول الدين وفروعه ‪ ،‬مع أهنم ما أمروا‬
‫إال بأن يعبدوا الّله وخيلصوا له ىف عقائدهم وأعماهلم ‪ ،‬وأال يقلدوا فيها أبا وال رئيسا ‪ ،‬وأن‬
‫يردوا إىل رهبم وحده كل ما يعرض هلم من خالف‪.‬‬

‫وهذا ما نعاه الّل ه من حال أهل الكتاب ىف افرتاقهم ىف دينهم ‪ ،‬فما بالنا حنن املسلمني وقد‬
‫مألنا ديننا بدعا وحمدثات ‪ ،‬وتفرقنا فيه شيعا ‪ ،‬أ فليس ما حنن فيه من ذّل وهوان ‪ ،‬وضعف‬
‫بني األمم ج زاء من ربن ا ملا صرنا إلي ه من احنراف عن منهج الش رع القومي ‪ ،‬والسري على‬
‫الصراط املستقيم ؟ مث بني جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله صلى الّله عليه وسلم فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْن َأْه ِل اْلِكتاِب َو اْلُم ْش ِر ِكَني يِف ناِر َجَه َّنَم خاِلِد يَن ِفيها) أي إن هؤالء‬
‫الذين دّس وا أنفسهم بقبيح الشرك واجرتاح املعاصي ‪ ،‬وإنكار احلق الواضح بعد أن عرفوه‬
‫كما يعرفون أبن اءهم ‪ ،‬جيازيهم رهبم بالعقاب الذي ال خيلصون من ه أبدا ‪ ،‬في دخلهم نارا‬
‫تلظى ج زاء ما كسبت أيديهم ‪ ،‬وج زاء إعراض هم عما دعا إلي ه الداعي ‪ ،‬وهدت إلي ه‬
‫الفطرة‪ .‬مث حكم عليهم حبكم آخر فقال ‪:‬‬

‫(ُأولِئَك ُه ْم َش ُّر اْلِرَب َّيِة) أي هم شر اخلليقة على اإلطالق ‪ ،‬إذ منكر احلق بعد معرفته ‪ ،‬وقيام‬
‫الدليل عليه منكر لعقله ‪ ،‬جالب لنفسه الدمار والوبال‪.‬‬

‫وبعد أن ذكر جزاء اجلاحدين الكافرين ‪ ،‬أردفه جزاء املؤمنني املخبتني فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َعِم ُلوا الَّص احِل اِت ُأولِئَك ُه ْم َخ ْيُر اْلِرَب َّيِة) أي إن الذين سطع نور الدليل ىف‬
‫قلوهبم ‪ ،‬فاهتدوا به وصدقوا مبا جاء به النيب صلى الّل ه عليه وسلم وعملوا صاحل األعمال ‪،‬‬
‫فبذلوا النفس ىف سبيل الّل ه وجهاد أعدائه ‪ ،‬وبذلوا نفيس املال ىف أعمال الرب ‪ ،‬وأحسنوا‬
‫معاملة خلقه ‪ ،‬أولئك هم خري اخلليقة ‪ ،‬ألهنم مبتابع ة اهلدى أّدوا حق العقل الذي شرفهم‬
‫الّله به ‪ ،‬وبعملهم للصاحلات حفظوا الفضيلة اليت جعلها الّله قوام الوجود اإلنساىن‪.‬‬

‫مث بني ما سيلقون من جزاء عند رهبم فقال ‪:‬‬

‫(َج زاُؤ ُه ْم ِعْن َد َر ِهِّبْم َج َّن اُت َع ْد ٍن ْجَتِر ي ِم ْن ْحَتِتَه ا اَأْلهْن اُر خاِل ِد يَن ِفيها َأَب دًا) أي هؤالء‬
‫جيازيهم رهبم جبن ات يقيمون فيها أبدا ‪ ،‬وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات‬
‫الدنيا‪ .‬وعلينا أن نؤمن باجلنة وال نبحث عن حقيقتها ‪ ،‬وال أين موضعها ‪ ،‬وال كيف نتمتع‬
‫فيها ‪ ،‬فإن علم ذلك عند ربنا ال يعلمه إال هو ‪ ،‬فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه‪ .‬مث‬
‫ذكر أسباب هذا اجلزاء فقال ‪:‬‬
‫(َر ِض َي الَّل ُه َعْنُه ْم َو َر ُض وا َعْن ُه) أي إهنم حازوا رضا الّل ه بالتزام حدود شريعته ‪ ،‬فحمدوا‬
‫مغبة أعماهلم ‪ ،‬ونالوا ما يرضيهم ىف دنياهم وآخرهتم‪.‬‬

‫(ذِلَك ِلَم ْن َخ ِش َي َر َّبُه) أي هذا اجلزاء احلسن إمنا يكون ملن مألت قلبه اخلشية واخلوف من‬
‫ربه‪ .‬وىف ذلك حتذير من خشية غري الّل ه ‪ ،‬وتنفري من إشراك غريه به ىف مجيع األعمال كما‬
‫أن في ه ترغيبا ىف تذكر الّل ه ورهبته لدى كل عمل من أعمال الرب حىت يكون العمل له‬
‫خالصا ‪ ،‬إىل أن في ه إمياء إىل أن أداء بعض العبادات كالصالة والصوم حبركات وسكنات‬
‫جمردين عن اخلشية ال يكفى ىف نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصاحلات من اجلزاء ‪ ،‬ألن‬
‫اخلش ية مل حتّل قلوهبم ‪ ،‬ومل هتذب نفوسهم‪ .‬نسأل الّل ه أن يطهر قلوبن ا ‪ ،‬وين ري بصائرنا ‪،‬‬
‫حىت ال نرهب سواه ‪ ،‬وال خنشى إال إياه ‪ ،‬واحلمد لّله رب العاملني‪.‬‬

‫[سورة المنافقون (‪ : )63‬اآليات ‪ 1‬الى ‪]4‬‬

‫ِإذا جاَءَك اْلُم ناِفُقوَن قاُلوا َنْش َه ُد ِإَّن َك َلَر ُس وُل الَّل ِه َو الَّل ُه َيْع َلُم ِإَّن َك َلَر ُس وُلُه َو الَّل ُه َيْش َه ُد ِإَّن‬
‫اْلُم ن اِفِق َني َلكاِذُبوَن (‪ )1‬اَخَّتُذ وا َأمْي اَنُه ْم ُج َّن ًة َفَص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّل ِه ِإَّنُه ْم ساَء ما كاُنوا‬
‫َيْع َم ُل وَن (‪ )2‬ذِل َك ِب َأَّنُه ْم آَم ُن وا َّمُث َك َف ُر وا َفُطِب َع َعلى ُقُل وِهِبْم َفُه ْم ال َيْف َق ُه وَن (‪َ )3‬و ِإذا‬
‫َر َأْيَتُه ْم ُتْع ِج ُب َك َأْج ساُمُه ْم َو ِإْن َيُقوُل وا َتْس َم ْع ِلَق ْو ِهِلْم َك َأَّنُه ْم ُخ ُش ٌب ُمَس َّنَد ٌة ْحَيَس ُبوَن ُك َّل‬
‫َصْيَح ٍة َعَلْيِه ْم ُه ُم اْلَعُد ُّو َفاْح َذ ْر ُه ْم قاَتَلُه ُم الَّلُه َأىَّن ُيْؤ َفُك وَن (‪)4‬‬

‫شرح المفردات‬
‫املنافق ‪ :‬من يظهر اإلميان ويبطن الكفر ‪ ،‬جّنة ‪ :‬أي وقاية وسرتا لدمائهم وأمواهلم ‪ ،‬آمنوا ‪:‬‬
‫أي بألسنتهم ‪ ،‬كفروا ‪ :‬أي بقلوهبم ‪ ،‬طبع ‪ :‬أي ختم عليها كما خيتم بالطابع على ما يراد‬
‫حفظ ه حىت ال يؤخذ من ه شىء ‪ ،‬ال يفقهون ‪ :‬أي ال يعلمون ‪ ،‬تعجبك أجسامهم ‪ :‬أي‬
‫لصباحتها وتناسب أعضائها ‪ ،‬تسمع لقوهلم ‪ :‬أي لفصاحتهم وحسن حديثهم ‪ ،‬خشب ‪:‬‬
‫واحدها خشباء وهى اخلشبة اليت خنرجوفها ‪ ،‬والصيحة ‪ :‬الصوت ‪ ،‬قاتلهم الّل ه ‪ :‬أي لعنهم‬
‫وطردهم من رمحته ‪ ،‬يؤفكون ‪ :‬أي يصرفون عما هم عليه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫وصف الّله تعاىل املنافقني بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أهنم كذابون يقولون غري ما يعتقدون‪.‬‬

‫(‪ )2‬أهنم ال يبالون باحللف بالّله كذبا ‪ ،‬سرتا لنفاقهم ‪ ،‬وحقنا لدمائهم‪.‬‬

‫(‪ )3‬أهنم جبن اء ‪ ،‬فهم على ض خامة أجسامهم ‪ ،‬وفصاحة ألسنتهم ‪ ،‬يظن ون أن كل من اد‬
‫ينادى إمنا يقصدهم لإليقاع هبم‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ِإذا جاَءَك اْلُم ناِفُقوَن قاُلوا َنْش َه ُد ِإَّن َك َلَر ُس وُل الَّل ِه) أي إذا حضر جملسك املنافقون كعبد‬
‫الّله بن أّىب وصحبه قالوا نشهد شهادة ال نشك ىف صدقها ‪ ،‬إنك رسول من عند الّله حقا ‪،‬‬
‫أوحى إليك وحيه ‪ ،‬وأنزل عليك كتابه رمحة منه بعباده‪ .‬مث أىن جبملة معرتضة بني ما قبلها‬
‫وما بعدها ‪ ،‬حتقيقا لرسالته فقال ‪:‬‬
‫(َو الَّلُه َيْع َلُم ِإَّنَك َلَر ُس وُلُه) أي والّله يعلم إنك لرسوله إىل الناس كافة بشريا ونذيرا ‪ ،‬لتنقذهم‬
‫من الضالل إىل اهلدى‪ .‬مث بنّي كذهبم ىف مقاهلم الذي حّد ثوا به فقال ‪:‬‬

‫(َو الَّل ُه َيْش َه ُد ِإَّن اْلُم ناِفِق َني َلكاِذُبوَن ) فيما أخربوا به ‪ ،‬ألهنم ال يعتقدون صدق ما يقولون‬
‫وال تواطئ قلوهبم ألسنتهم ىف هذه الش هادة‪ .‬مث ذكر أهنم حيتالون على تصديق الن اس هلم‬
‫بكل ميني حمرجة فقال ‪:‬‬

‫(اَخَّتُذ وا َأمْي اَنُه ْم ُج َّن ًة) أي جعلوا أمياهنم الكاذبة وقاية وسرتا حلقن دمائهم وحفظ أمواهلم ‪،‬‬
‫فيحلفون بالّل ه إهنم ملنكم ‪ ،‬ويقولون نشهد إنك لرسول الّل ه ‪ ،‬حىت ال جترى عليهم أحكام‬
‫الكفار من القتل واألسر وأخذ األموال غنيمة‪ .‬ق ال قتادة ‪ :‬كلما ظهر عليهم ما يوجب‬
‫مؤاخذهتم حلفوا كاذبني ‪ ،‬عصمة لدمائهم وأمواهلم‪ .‬وىف هذا تعداد لقبائح أفعاهلم ‪ ،‬وأن‬
‫من عادهتم أن يستجّنوا باألميان الكاذبة ‪ ،‬كما استجنوا بالشهادة الكاذبة‪.‬‬

‫مث حكى عنهم جرمية أخرى وهى إضالل الناس وصدهم عن اإلسالم فقال ‪:‬‬

‫(َفَص ُّدوا َعْن َس ِبيِل الَّل ِه) أي فمنع وا الن اس عن الدخول ىف اإلسالم ‪ ،‬وعن اإلنفاق كما‬
‫حكى عنهم سبحانه بعد‪ .‬وقصارى ذلك ‪ -‬أهنم أجرموا جرمني ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أعدوا األميان الكاذبة وهيئوها لوقت احلاجة ‪ ،‬ليحلفوا هبا ويتخلصوا من املؤاخذة‪.‬‬

‫(‪ )2‬أهنم مينع ون الن اس عن الدخول ىف اإلسالم وينّف روهنم من ه مىت استطاعوا إىل ذلك‬
‫سبيال‪.‬‬

‫مث بني قبح مغّبة ما يعملون ‪ ،‬ووبال ما يصنعون فقال ‪:‬‬


‫(ِإَّنُه ْم ساَء ما كاُنوا َيْع َم ُلوَن ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على اإلميان ‪ ،‬وأظهروا خالف‬
‫ما أضمروا ‪ ،‬وسيلقون نكاال ووباال ىف الدنيا واآلخرة‪ .‬أما ىف الدنيا فسيفضحهم الّل ه على‬
‫رءوس األشهاد ‪ ،‬ويظهر نفاقهم للمؤمنني بنح و قوله ‪ « :‬وال تصّل على أحد منهم مات‬
‫أبدا وال تقم على ق ربه ‪ ،‬إهّن م كفروا بالّل ه ورسوله » ‪ .‬وأما ىف اآلخرة فحسبهم جهنم‬
‫وبئس املهاد‪ .‬مث ذكر ما جرأهم على الكذب واالستخفاف باألميان احملرجة فقال ‪:‬‬

‫(ذِلَك ِبَأَّنُه ْم آَم ُنوا َّمُث َك َف ُر وا َفُطِبَع َعلى ُقُلوِهِبْم َفُه ْم ال َيْف َق ُه وَن ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء‬
‫سريرهتم ‪ ،‬وقبح طويتهم ‪ ،‬فاستهانوا مبا يأتون وما يذرون ‪ ،‬ومل يكن مههم إال احملافظة على‬
‫دمائهم وأمواهلم ‪ ،‬ومن مث أظهروا للن اس إميانا وأبطن وا كفرا ‪ ،‬وق د ختم على قلوهبم فال‬
‫هتتدى إىل حق ‪ ،‬وال يصل إليها خري ‪ ،‬ومن جراء ذلك عموا عما نصب من األدلة على‬
‫صدق الرسول ‪ ،‬وصمت اآلذان عن مساع ما يوجب اإلميان ‪ ،‬فهم صم بكم عمى فهم ال‬
‫يعقلون‪ .‬مث ذكر ما هلم من مجال ىف الصورة واعتدال ىف القوام فقال‪:‬‬

‫(َو ِإذا َر َأْيَتُه ْم ُتْع ِج ُب َك َأْج ساُمُه ْم ) أي الستواء خلقهم ‪ ،‬ومجال صورهم‪ .‬كما وصفهم‬
‫بالفصاحة وذرابة اللسان فقال ‪:‬‬

‫(َو ِإْن َيُقوُلوا َتْس َم ْع ِلَق ْو ِهِلْم ) حلالوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا مسعهم سامع أحب‬
‫أن يصفى إليهم ‪ ،‬وأن يطول حديثهم جهد االستطاعة‪ .‬مث وصفهم بأن أفئدهتم هواء ال‬
‫عقول هلم وال أحالم فقال ‪:‬‬
‫(َك َأَّنُه ْم ُخ ُش ٌب ُمَس َّنَد ٌة) أي هم أشباح بال أرواح ‪ ،‬هلم مجال ىف املنظر ‪ ،‬وقبح ىف املخرب ‪،‬‬
‫فسدت بواطنهم ‪ ،‬وحسنت ظ واهرهم ‪ ،‬فكانت كاخلش ب اجلوفاء اليت خنرها السوس ‪،‬‬
‫فهى مع حسنها ال ينتفع فيها بعمل ‪ ،‬وال يستفاد منها خري ‪ ،‬ولّله در أىب نواس ‪:‬‬

‫الختذ عنك اللحى وال الّصور تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسراب منتشرا وليس فيه‬
‫لطالب مطر ىف شجر الّس رو منهم مثل له رواه وما له مثر مث وصفهم باجلنب والذلة فقال ‪:‬‬

‫(ْحَيَس ُبوَن ُك َّل َص ْيَح ٍة َعَلْيِه ْم ) أي كلما نادى مناد ىف العسكر ‪ ،‬أو انفلتت دابة أو نشدت‬
‫ضالة ‪ -‬ظنوا أن العدو قد فجأهم ‪ ،‬وأن أمرهم قد افتضح ‪ ،‬وأهنم هالكون ال حمالة ‪ ،‬ولقد‬
‫قالوا ‪ :‬يكاد املريب يقول خذوىن ‪ ،‬ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد ‪ :‬ضعوه ىف يدى ‪،‬‬
‫ملا ألقى من الرعب ىف قلوهبم ‪ ،‬فهم خيافون أن هتتك أستارهم ‪ ،‬وتكش ف أسرارهم ‪،‬‬
‫ويتوقعون اإليقاع هبم ساعة فساعة‪.‬‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِش‬
‫وحنو اآلية قوله تع اىل ‪َ « :‬أ َّح ًة َعَلْيُك ْم ‪َ ،‬ف ذا ج اَء اَخْلْو ُف َر َأْيَتُه ْم َيْنُظ ُر وَن َلْي َك َت ُد وُر‬
‫َأْع ُيُنُه ْم َك اَّل ِذي ُيْغشى َعَلْي ِه ِم َن اْلَم ْو ِت ‪َ ،‬ف ِإذا َذَه َب اَخْلْو ُف َس َلُقوُك ْم ِبَأْلِس َنٍة ِح داٍد » وقد‬
‫نظر املتنيب إىل اآلية ىف قوله ‪:‬‬

‫وضاقت األرض حىت ظن هارهبم إذا رأى غري شىء ظنه رجال (ُه ُم اْلَع ُد ُّو ) الذي بلغ الغاية‬
‫ىف العداوة‪.‬‬
‫(َفاْح َذ ْر ُه ْم ) وال تأمنهم على سر ‪ ،‬وال تلتفت إىل ظاهرهم ‪ ،‬فقلوهبم متحرقة حسدا وبغضا‬
‫‪ ،‬وأعدى األعداء العدو املداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وحتت ضلوعه الداء الدوّى ‪،‬‬
‫والشر املستطري‪ .‬مث زاد سبحانه ىف ذمهم وتوبيخهم ‪ ،‬وعّج ب من حاهلم فقال ‪:‬‬

‫(قاَتَلُه ُم الَّل ُه) أي لعنهم الّل ه وطردهم من رمحته ‪ ،‬فما أفظع حاهلم ‪ ،‬وما أشدهم غفلة عن‬
‫مآهلم‪.‬‬

‫وهذا تعليم منه لعباده املؤمنني أن يلعنوهم ‪ ،‬فكأنه قال ‪ :‬قولوا قاتلهم الّله‪.‬‬

‫(َأىَّن ُيْؤ َفُك وَن ) أي كيف يصرفون عن احلق إىل الباطل ‪ ،‬وقد كان هلم مّد كر فيما حوهلم ‪،‬‬
‫وفيما أمامهم من صدق الداعي مبا أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه‪.‬‬

‫وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أهنم على احلق ‪ ،‬فما أعظمها‬
‫حمنة ‪ ،‬وأعجب هبا نقمة ‪ ،‬جازاهم الّله هبا على سوء أعماهلم ‪ ،‬وقبح فعاهلم‬

‫[سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 109‬الى ‪]110‬‬


‫ِم ِع ِد ِس ِم‬ ‫ِم ِد ِإ ِن‬ ‫ِك ِب‬ ‫ِث ِم‬
‫َو َّد َك ٌري ْن َأْه ِل اْل تا َل ْو َيُر ُّدوَنُك ْم ْن َبْع ميا ُك ْم ُك َّف ارًا َح َس دًا ْن ْن َأْنُف ِه ْم ْن‬
‫َبْع ِد ما َتَبَنَّي ُهَلُم اَحْلُّق َف اْع ُف وا َو اْص َف ُح وا َح ىَّت َيْأَيِت الَّل ُه ِب َأْم ِرِه ِإَّن الَّل َه َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء َق ِد يٌر (‬
‫ِجَت ِع ِه‬ ‫ِس ِم‬ ‫ِق‬
‫‪َ )109‬و َأ يُم وا الَّص الَة َو آُتوا الَّز كاَة َو ما ُتَق ِّد ُموا َأِلْنُف ُك ْم ْن َخ ٍرْي ُد وُه ْنَد الَّل ِإَّن الَّل َه‬
‫مِب ا َتْع َم ُلوَن َبِص ٌري (‪)110‬‬

‫تفسير المفردات‬
‫العفو ‪ :‬ترك العقاب على الذنب كما ق ال ‪ِ( :‬إْن َنْع ُف َعْن طاِئَف ٍة ِم ْنُك ْم ُنَع ِّذ ْب طاِئَف ًة)‬
‫والصفح ‪ :‬اإلعراض عن املذنب بصفحة الوج ه ‪ ،‬وهو يش مل ترك العقاب وترك اللوم‬
‫والتثريب ‪ ،‬وأمر الّله ‪ :‬نصره ومعونته‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن هنى عز امسه املؤمنني يف اآليات السالفة عن االستماع لنصح اليهود وعدم قبول‬
‫آرائهم يف شىء من أمور دينهم ‪ -‬ذكر هن ا وج ه العلة يف ذلك ‪ ،‬وهى أن كث ريا منهم‬
‫يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبّيكم ‪ ،‬فهم ال يكتفون بكفرهم بالنيب صلى الّل ه‬
‫عليه وسلم والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه ‪ ،‬بل حيسدونكم على نعمة اإلسالم ويتمنون‬
‫أن حترموا منها‪ .‬وقد كان ألهل الكتاب حيل يف تشكيك املسلمني يف دينهم ‪ ،‬فقد طلب‬
‫بعضهم من بعض أن يؤمنوا أّو ل النهار ويكفروا آخره كى يتأسى هبم بعض ضعاف اإلميان‬
‫من املسلمني ‪ ،‬وكانوا يلقون بعض الشبه على املؤمنني ليشّك كوهم يف دينهم‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو َّد َك ِثٌري ِم ْن َأْه ِل اْلِكتاِب َلْو َيُر ُّدوَنُك ْم ِم ْن َبْع ِد ِإمياِنُك ْم ُك َّف ارًا َح َس دًا ِم ْن ِعْن ِد َأْنُفِس ِه ْم ) أي‬
‫متىن كثري من اليهود والنصارى أن يصرفوكم عن توحيد الّله واإلميان مبحمد صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم ويرجع وكم كفارا كما كنتم ‪ ،‬حسدا لكم‪ .‬ويف هذا إشارة إىل أن النصح الذي‬
‫يش ريون به منش ؤه احلسد وخبث النفوس وسوء الطوّي ة واجلمود على الباط ل ‪ -‬ال الغ رية‬
‫على احلق وصرف اهلمة يف الدفاع عنه‪.‬‬

‫(ِم ْن َبْع ِد ما َتَبَنَّي ُهَلُم اَحْلُّق ) أي من بع د أن ظهر هلم بساطع األدلة أن حممدا على احلق مبا‬
‫جاء به من اآليات اليت تنطبق على ما حيفظونه من بشارات كتبهم بنيب يأيت آخر الزمان‪.‬‬

‫(َف اْع ُفوا َو اْص َف ُح وا َح ىَّت َي ْأَيِت الَّل ُه ِب َأْم ِرِه) أي فع املوهم بأحاسن األخالق من العفو عن‬
‫مذنبهم برتك عقابه ‪ ،‬والصفح عن ه برتك لومه وتعنيفه حىت يأتى نصر الّل ه لكم مبعونته‬
‫وتأييده‪ .‬وقد يكون املعىن ‪ -‬حىت يأتى أمر الّل ه ونصره ‪ ،‬وقد حتقق ذلك بقتل بىن قريظة‬
‫وإجالء بىن النضري من املدين ة بع د أن غدروا ونقضوا العهد مبواالة املش ركني بع د أن عفا‬
‫عنهم وصفح مرات كثريات‪ .‬ويف أمره تعاىل هلم بالعفو والصفح إشارة إىل أن املؤمنني على‬
‫قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة ‪ ،‬ألن الصفح ال يكون إال من القادر ‪ ،‬فكأنه يقول هلم‬
‫‪ :‬ال تغّر ّنكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ‪ ،‬فأنتم على قلتكم أقوى منهم مبا أنتم عليه من‬
‫احلق ‪ ،‬وأهل احلق مؤيدون بعناية الّل ه ‪ ،‬وهلم الع زة ما ثبتوا علي ه‪ .‬مث أكد الوعد السابق‬
‫بالنصرة بقوله ‪:‬‬

‫(ِإَّن الَّلَه َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء َقِد يٌر ) أي فالّله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه‬
‫مجيع القوى ‪ ،‬ويثبتكم مبا أنتم عليه من احلق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان‬
‫اغرتارا بكثرته ‪ ،‬واعتزازا بقوته ‪َ( :‬و َلَيْنُصَر َّن الَّلُه َمْن َيْنُصُر ُه ِإَّن الَّلَه َلَق ِو ٌّي َعِز يٌز )‪.‬‬

‫مث ذكر سبحانه بعض الوسائل اليت حتقق النصر الذي وعدوا به فقال ‪:‬‬
‫(َو َأِقيُم وا الَّص الَة َو آُت وا الَّز كاَة) ملا يف الصالة من توثيق عرا اإلميان ‪ ،‬وإعالء اهلمة ‪ ،‬ورفعة‬
‫النفس مبناج اة الّل ه ‪ ،‬وتأليف قلوب املؤمنني حني االجتماع ألدائها ‪ ،‬وتع ارفهم ىف‬
‫املساجد ‪ ،‬وهبذا ينمو اإلميان ‪ ،‬وتقوى الثقة بالّله ‪ ،‬وتتنزه النفس أن تأتى الفواحش ما ظهر‬
‫منها وما بطن ‪ ،‬وتكون أق وى نفاذا يف احلق ‪ ،‬فتكون ج ديرة بالنصر وملا يف الزكاة من‬
‫توكي د الصلة بني األغني اء والفقراء ‪ ،‬فتتحقق وحدة األمة وتكون كاجلسم الواحد إذا‬
‫اشتكى من ه عضو تأمل باقى األعضاء باحلمى والسهر‪ .‬وق د ج رت سنة القرآن أن يقرن‬
‫الزكاة بالصالة ‪ ،‬ملا يف الصالة من إصالح حال الفرد ‪ ،‬وملا يف الزكاة من إصالح حال‬
‫اجملتمع ‪ ،‬إىل أن املال شقيق الروح ‪ ،‬فمن جاد به ابتغاء مرضاة الّله سهل عليه بذل نفسه يف‬
‫سبيل الّله تأييدا لدينه وإعالء لكلمته‪ .‬وبعد أن أبان أن الصالة والزكاة من أسباب النصر يف‬
‫الدنيا أردف هذا ببيان أهنما من أسباب السعادة يف اآلخرة أيضا فقال ‪:‬‬

‫(َو ما ُتَق ِّد ُموا َأِلْنُف ِس ُك ْم ِم ْن َخ ٍرْي ِجَت ُد وُه ِعْنَد الَّل ِه) أي وما تعملوا من خري جتدوا جزاءه عند‬
‫ربكم يوم توىف كل نفس جزاء عملها بالقسطاس املستقيم‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله ‪َ( :‬فَم ْن َيْع َمْل ِم ْثقاَل َذَّر ٍة َخرْي ًا َيَر ُه)‪.‬‬

‫ونسب الوج ود إىل العمل والذي يوج د هو ج زاؤه ‪ ،‬ملا للعمل من أث ر يف نفس العامل ‪،‬‬
‫فكأن اجلزاء مبثابة العمل نفسه‪ .‬مث ختم اآلية مبا حيّث املرء على اإلحسان يف العمل فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن الَّل َه مِب ا َتْع َم ُل وَن َبِص ٌري) فهو عامل جبميع أعمالكم كثريها وقليلها ‪ ،‬ال ختفى عليه خافية‬
‫من أمركم ‪ ،‬خريا كانت أو شّر ا وهو جمازيكم عليها‪ .‬وال خيفى ما يف هذا من الرتغيب‬
‫والرتهيب‪ .‬ومن مواعظ على كرم الّله وجهه أنه كان إذا دخل املقربة قال ‪ :‬السالم عليكم‬
‫أهل هذه الديار املوحشة ‪ ،‬واحملاّل املقفرة ‪ ،‬من املؤمنني واملؤمنات ‪ -‬مث قال ‪ :‬أما املنازل‬
‫فقد سكنت ‪ ،‬وأما األموال فقد قسمت ‪ ،‬وأما األزواج فقد نكحت ‪ ،‬فهذا خرب ما عندنا ‪،‬‬
‫فليت شعرى ما عن دكم ؟ والذي نفسى بي ده لو أن هلم يف الكالم لقالوا ‪ :‬إن خري الزاد‬
‫التقوى‪.‬‬

‫ويف احلديث الصحيح ‪ « :‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث ‪ :‬صدقة جارية ‪ ،‬أو‬
‫علم ينتفع به ‪ ،‬أو ولد صاحل يدعوله) واألول يش مل بن اء املساجد ومعاهد العلم‬
‫واملستش فيات واملالجئ ‪ ،‬واألحباس على املع وزين واحملتاجني ‪ ،‬والث اين ‪ :‬ينضوى حتته ما‬
‫خيلفه اإلنسان من تصنيف نافع ‪ ،‬أو تعليم للعلوم الديني ة‪ .‬وقي د الولد بكونه صاحلا ‪ ،‬ألن‬
‫األجر ال حيصل من غريه ‪ ،‬أما الوزر فال يلحق األب سيئة ابنه‪.‬‬

‫[سورة آل عمران (‪ : )3‬اآليات ‪ 113‬الى ‪]115‬‬

‫َلْيُس وا َس واًء ِم ْن َأْه ِل اْلِكتاِب ُأَّم ٌة قاِئَم ٌة َيْتُلوَن آياِت الَّل ِه آناَء الَّلْي ِل َو ُه ْم َيْس ُج ُد وَن (‪)113‬‬
‫َن ِن اْل ْنَك ِر ساِر وَن يِف ا اِت‬ ‫ِف‬ ‫ِم ِخ‬ ‫ِه‬ ‫ِم‬
‫َخْلرْي‬ ‫ُيْؤ ُنوَن ِبالَّل َو اْلَيْو اآْل ِر َو َيْأُمُر وَن ِباْلَم ْع ُر و َو َيْنَه ْو َع ُم َو ُي ُع‬
‫َو ُأولِئَك ِم َن الَّصاِحِلَني (‪َ )114‬و ما َيْف َعُلوا ِم ْن َخ ٍرْي َفَلْن ُيْك َف ُر وُه َو الَّلُه َعِليٌم ِباْلُم َّتِق َني (‪)115‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫يقال فالن وفالن سواء ‪ :‬أي متساويان ‪ ،‬ويستعمل للواحد واملثىن واجلمع فيقال مها سواء ‪،‬‬
‫وهم سواء ‪ ،‬وقائمة ‪ :‬أي مستقيمة عادلة ‪ ،‬من قولك أقمت الع ود فقام ‪ :‬أي استقام ‪،‬‬
‫والتالوة القراءة وأصلها اإلتباع ‪ ،‬فكأهنا إتباع اللفظ اللفظ ‪ ،‬وآيات الّل ه ‪ :‬هى القرآن‬
‫واآلناء ‪ :‬الساعات ‪ ،‬واحدها أىن كعصا أو أىن كظ ىب أو إنو كج رو ‪ ،‬ويسجدون ‪ :‬أي‬
‫يصلون ‪ ،‬واملسارعة ىف اخلري ‪ :‬فرط الرغبة فيه ‪ ،‬فلن يكفروه ‪ :‬أي مينعوا ثوابه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات ‪ ،‬وق بيح األعمال وذكر‬
‫اجلزاء الذي استحقوه بسوء عملهم ‪ ،‬أعقبه ببيان أهنم ليسوا مجيعا على تلك الشاكلة ‪ ،‬بل‬
‫فيهم من هو متصف حبميد اخلالل ومجيل الصفات‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َلْيُس وا َس واًء) أي ليس أهل الكتاب متساوين ىف تلك الصفات القبيحة ‪ ،‬بل منهم املؤمنون‬
‫وأكثرهم الفاسقون ‪ ،‬وهذه اجلملة كالتأ كيد لتلك‪ .‬وبعد أن وصف الفاسقني وذكر سوء‬
‫أعماهلم ‪ -‬وصف املؤمنني ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها‬
‫الثواب عليها ‪:‬‬

‫‪ِ( - 1‬م ْن َأْه ِل اْلِكتاِب ُأَّم ٌة قاِئَم ٌة) أي منهم مجاعة مستقيمة على احلق ‪ ،‬متبعة للعدل ‪ ،‬ال‬
‫تظلم أحدا ‪ ،‬وال ختالف أمر الدين ‪ ،‬وكان من متام الكالم أن يقال ومنهم أمة مذمومة ‪ ،‬إال‬
‫أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغىن به عن ذكر اآلخر كما قال الشاعر ‪ :‬دعاىن إليها‬
‫القلب إىن ألمرها مطيع فما أدرى أرشد طالهبا يريد أم غّى ‪.‬‬

‫وهذه اجلملة مبينة لعدم التساوي مزيلة إلهبامه‪ .‬واملراد هبذه األمة مجاعة من اليهود أسلموا‬
‫كعبد الّله بن سالم وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضراهبم كما رواه ابن جرير عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬وقال ىف تفسري اآلية ‪:‬‬

‫األمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الّل ه مل تنزع عن ه وترتكه كما تركه اآلخرون‬
‫وض يعوه‪ .‬وروى عن قتادة أنه كان يقول ىف اآلية ‪ :‬ليس كل القوم هلك ‪ ،‬ق د كان لّل ه‬
‫فيهم بقي ة‪ .‬وهذه اآلية حج ة على أن دين الّل ه واحد على ألسنة مجي ع األنبي اء ‪ ،‬وأن من‬
‫أخذه مذعنا ‪ ،‬وعمل به خملصا ‪ ،‬وأمر مبعروف وهنى عن منكر فهو من الصاحلني‪.‬‬

‫كما أن فيها استمالة ألهل الكتاب ‪ ،‬وتقديرا للعدل اإلهلى ‪ ،‬وقطعا الحتجاج من يعرفون‬
‫اإلميان واإلخالص ‪ ،‬إذ لو ال هذا النص لكان هلم أن يقولوا ‪ :‬لو كان هذا القرآن من عند‬
‫الّل ه ملا ساوانا بغرينا من الفاسقني‪ .‬واستقامة بعضهم على احلق من دينهم ال ين اىف ض ياع‬
‫بعض كتبهم ‪ ،‬وحتريف بعضهم ملا ىف أيديهم منها ‪ ،‬أال ترى أن من حيفظ بعض األحاديث‬
‫ويعمل مبا علم ‪ ،‬ويستمسك به خملصا فيه ‪ -‬يقال إنه قائم بالسنة عامل باحلديث‪.‬‬

‫‪َ( - 3 ، 2‬يْتُلوَن آياِت الَّلِه آناَء الَّلْيِل َو ُه ْم َيْس ُج ُد وَن ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون‬
‫متهج دين ‪ ،‬وخص السجود بالذكر من بني أركان الصالة لداللته على كمال اخلضوع‬
‫واخلشوع‪.‬‬
‫‪ُ( - 5 ، 4‬يْؤ ِم ُنوَن ِبالَّلِه َو اْلَيْو ِم اآْل ِخ ِر ) أي يؤمنون إميان إذعان هبما على الوجه املقبول عند‬
‫الّله ‪ ،‬ومن مثرات ذلك اخلشية واخلضوع واالستعداد لذلك اليوم ‪ ،‬ال إميانا ال حّظ لصاحبه‬
‫منه إال الغرور والدعوى ‪ ،‬كما هو حال سائر اليهود ‪ ،‬إذ يؤمنون بالّله واليوم اآلخر ‪ ،‬لكنه‬
‫إميان هو والعدم سنواء ‪ ،‬ألهنم يقولون عزيز ابن الّل ه ‪ ،‬ويكفرون ببعض الرسل ‪ ،‬ويصفون‬
‫اليوم اآلخر خبالف صفته‪.‬‬

‫وملا كان كمال اإلنسان أن يع رف احلق لذاته ‪ ،‬واخلري للعمل به ‪ ،‬وكان أفضل األعمال‬
‫الصالة ‪ ،‬وأفضل األذكار ذكر الّله ‪ ،‬وأفضل العلوم معرفة املبدإ واملعاد ‪ -‬وصفهم الّله بقوله‬
‫‪َ( :‬يْتُلوَن آياِت الَّلِه) للداللة على أهنم يعملون صاحل األعمال ‪ ،‬وبقوله ‪:‬‬

‫(ُيْؤ ِم ُنوَن ِبالَّلِه) لإلشارة إىل فضل املعارف احلاصلة ىف قلوهبم‪.‬‬

‫‪َ( - 6‬و َي ْأُمُر وَن ِب اْلَم ْع ُر وِف َو َيْنَه ْو َن َعِن اْلُم ْنَك ِر ) أي إهنم بع د أن كملوا أنفسهم علما‬
‫وعمال كما تقدم ‪ ،‬يسعون ىف تكمي ل غريهم إما بإرشادهم إىل ما ينبغى بأمرهم‬
‫باملعروف ‪ ،‬أو مبنعهم عما ال ينبغى بالنهى عن املنكر‪ .‬وىف هذا تع ريض باليهود املداهنني‬
‫الصاّدين عن سبيل الّله‪.‬‬

‫‪َ( - 7‬و ُيساِر ُعوَن يِف اَخْلرْي اِت ) أي ويعملون صاحل األعمال راغبني فيها غري متثاقلني علما‬
‫منهم جباللة موقعها ‪ ،‬وحسن عاقبتها ‪ ،‬وإمنا يتباط أ الذين ىف قلوهبم مرض ‪ ،‬كما وصف‬
‫الّله املنافقني بقوله ‪َ « :‬و ِإذا قاُموا ِإىَل الَّص الِة قاُموا ُك ساىل ُيراُؤ َن الَّناَس »‪.‬‬
‫وهذه الصفة مجاع الفضائل الدينية واخللقية ‪ ،‬وىف ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن‬
‫ذلك‪ .‬وعرب بالسرعة ومل يعرب بالعجلة ‪ ،‬ألن األوىل التقدم فيما ينبغى تقدميه وهى حممودة ‪،‬‬
‫وضدها اإلبطاء ‪ ،‬والثانية التقدم فيما ال ينبغى أن يتقدم في ه ‪ ،‬ومن مث قال علي ه السالم «‬
‫العجلة من الشيطان ‪ ،‬والتأىّن من الرمحن » وضدها ‪ :‬األناة ‪ ،‬وهى حممودة‪.‬‬

‫‪َ( - 8‬و ُأولِئ َك ِم َن الَّص اِحِلَني ) أي وهؤالء الذين اتصفوا جبليل الصفات من الذين صلحت‬
‫أحواهلم ‪ ،‬وحسنت أعماهلم ‪ ،‬فرض يهم رهبم ‪ ،‬وىف هذا رد على اليهود الذين ق الوا فيمن‬
‫أسلم منهم ‪ :‬ما آمن مبحمد إال شرارنا ‪ ،‬ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا‬
‫إىل غريه‪ .‬والوصف بالصالح هو غاية املدح ‪ ،‬وهناية الشرف والفضل ‪ ،‬فقد مدح الّل ه به‬
‫ِت ِإ ِم‬ ‫يِف‬
‫أكابر األنبي اء كإمساعيل وإدريس وذى الكفل فقال ‪َ « :‬و َأْد َخ ْلن اُه ْم َر َمْح ن ا َّنُه ْم َن‬
‫الَّص اِحِلَني » وقال حكاية عن سليمان ‪َ « :‬و َأْد ِخ ْليِن ِبَر َمْحِت َك يِف ِعباِد َك الَّص اِحِلَني » ‪ .‬وألنه‬
‫ضد الفساد ‪ ،‬وهو ما ال ينبغى ىف العقائد واألفعال ‪ ،‬فهو حصول ما ينبغي ىف كل منهما ‪،‬‬
‫وذلك منتهى الكمال ‪ ،‬ورفعة القدر ‪ ،‬وعلّو الشأن‪.‬‬

‫(َو ما َيْف َعُلوا ِم ْن َخ ٍرْي َفَلْن ُيْك َف ُر وُه) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن حيرموا ثوابه ولن يسرت‬
‫عنهم كأنه غري موج ود‪ .‬وملا مسى الّل ه إثابته للمحسنني شكرا ىف قوله ‪َ « :‬فُأولِئ َك كاَن‬
‫َس ْع ُيُه ْم َم ْش ُك ورًا » ومسى نفسه شاكرا ىف قوله ‪َ « :‬ف ِإَّن الَّل َه شاِكٌر َعِليٌم » حسن أن يعرب‬
‫عن عدم اإلثابة بالكفر‪ .‬وهذه اجلملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا ملن أسلم منهم ‪:‬‬
‫أنتم خسرمت بسبب هذا اإلميان ‪ ،‬وإشارة إىل أهنم فازوا بالسعادة العظمى ‪ ،‬والدرجات‬
‫العليا‪ .‬وفيها تعظيم هلم ليزيل من صدورهم أثر كالم أولئك األوغاد‪.‬‬
‫(َو الَّل ُه َعِليٌم ِب اْلُم َّتِق َني ) فهو جيزى الع املني حبسب ما يعلم من أحواهلم ‪ ،‬وما تنطوى علي ه‬
‫سرائرهم‪ .‬فمن كان إميانه صحيحا واتقى الّل ه فاز بالسعادة‪ .‬وهذا كالدليل على ما قبله ‪،‬‬
‫ألن عدم اإلثابة إما للسهو والنسيان ‪ ،‬وإما للجهل ‪ ،‬وذلك ممتنع ىف حقه ‪ ،‬ألنه عليم بكل‬
‫شىء ‪ ،‬وإما للعج ز أو البخ ل أو احلاج ة ‪ ،‬وكل ذلك حمال علي ه ‪ ،‬ألنه خالق مجي ع‬
‫الكائنات ‪ ،‬وهو القادر على كل شىء‪ .‬وملا انتفى كل هذا كان املنع من اجلزاء حماال‪.‬‬

‫[سورة النساء (‪ : )4‬اآليات ‪ 150‬الى ‪]152‬‬

‫ِإَّن اَّل ِذ يَن َيْك ُف ُر وَن ِبالَّل ِه َو ُرُس ِلِه َو ُيِر يُد وَن َأْن ُيَفِّرُق وا َبَنْي الَّل ِه َو ُرُس ِلِه َو َيُقوُل وَن ُنْؤ ِم ُن ِبَبْع ٍض‬
‫َو َنْك ُف ُر ِبَبْع ٍض َو ُيِر يُد وَن َأْن َيَّتِخ ُذ وا َبَنْي ذِل َك َس ِبيًال (‪ُ )150‬أولِئ َك ُه ُم اْلكاِفُر وَن َح ًّق ا‬
‫ٍد ِم‬ ‫ِب ِه ِلِه‬ ‫ِذ‬ ‫ِه‬ ‫ِل ِف‬
‫َو َأْعَتْد نا ْلكا ِر يَن َع ذابًا ُم ين ًا (‪َ )151‬و اَّل يَن آَم ُنوا الَّل َو ُرُس َو ْمَل ُيَفِّرُقوا َبَنْي َأَح ْنُه ْم‬
‫ُأولِئَك َسْو َف ُيْؤ ِتيِه ْم ُأُج وَر ُه ْم َو كاَن الَّلُه َغُفورًا َر ِح يمًا (‪)152‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بني سبحانه ىف هذه اآليات أن لإلميان ركنني يبىن عليهما ما عدامها ‪ ،‬وال يقبل اإلميان‬
‫بدوهنما ‪ ،‬ومها اإلميان به وجبمي ع رسله بدون تفرق ة بني رسول وآخر‪ .‬ومن أنكرمها أو‬
‫أحدمها فقد كفر وعاقبته العذاب األليم ىف جهنم وبئس القرار‪.‬‬

‫اإليضاح‬
‫(ِإَّن اَّلِذ يَن َيْك ُف ُر وَن ِبالَّل ِه َو ُرُس ِلِه َو ُيِر يُد وَن َأْن ُيَفِّرُقوا َبَنْي الَّل ِه َو ُرُس ِلِه َو َيُقوُلوَن ُنْؤ ِم ُن ِبَبْع ٍض‬
‫َو َنْك ُف ُر ِبَبْع ٍض َو ُيِر يُد وَن َأْن َيَّتِخ ُذ وا َبَنْي ذِل َك َس ِبياًل ‪ُ .‬أولِئ َك ُه ُم اْلكاِفُر وَن َح ًّق ا) ليس املراد‬
‫أهنم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم ‪ ،‬وقوله ‪ :‬نؤمن ببعض ونكفر‬
‫ببعض ‪ ،‬بيان لتفريقهم بني الّله ورسله‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن الكافرين بالرسل فريقان ‪ :‬فريق ال يؤمن بأحد منهم ‪ ،‬إلنكارهم النبوات‬
‫وزعمهم أن ما أتى به األنبي اء من اهلدى والش رائع هو من عن د أنفسهم ال من عن د الّل ه ‪،‬‬
‫وأكثر امللحدين ىف هذا العصر من ذلك الفريق‪ .‬وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض‬
‫كقول اليهود نؤمن مبوسى ونكفر بعيسى وحممد فهما ليسا برسولني ‪ ،‬وق ول النصارى‬
‫نؤمن مبوسى وعيسى ونكفر مبحمد ‪ ،‬والفريقان كافرون مستحقون للعذاب ‪ ،‬وال عربة مبا‬
‫يدعونه إميانا‪.‬‬

‫(َو َأْعَت ْد نا ِلْلكاِفِر يَن َع ذابًا ُمِه ين ًا) أي وأعددنا لكل كافر سواء أ كان منهم أم من غريهم‬
‫عذابا فيه ذل وإهانة هلم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة‪ .‬ذاك أن من يؤمن بالّل ه‬
‫وال يؤمن بوحيه إىل رسله ال يكون إميانه صحيحا وال يهتدى إىل ما جيب له من الشكر وال‬
‫يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه ‪ ،‬ومن مث نرى أمثال هؤالء ماديني الهتمهم إال‬
‫شهواهتم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون‪.‬‬

‫ببعض كأهل الكتاب ال يعتّد بقوهلم ‪ ،‬ألن اإلميان بالرسالة على الوج ه احلق إمنا يكون‬
‫بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثري هدايتهم‪ .‬ومن فهم هذا حق الفهم علم أن‬
‫صفات الرسل قد ظهرت بأكملها ىف حممد صلى الّل ه عليه وسلم ‪ ،‬فهو قد جاء بكتاب‬
‫حوى ما مل حيوه كتاب آخر مع أنه نشأ بني قوم أميني ‪ ،‬ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر‬
‫القطعي واألسانيد املتصلة دون غريه من الكتب‪ .‬وبع د أن ذكر حال الفريقني السالفى‬
‫الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال ‪:‬‬

‫(َو اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ِبالَّل ِه َو ُرُس ِلِه َو ْمَل ُيَفِّرُقوا َبَنْي َأَح ٍد ِم ْنُه ْم ُأولِئ َك َس ْو َف ُيْؤ ِتيِه ْم ُأُج وَر ُه ْم ) أي‬
‫والذين آمنوا بالّله ومجيع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم ‪ ،‬علما منهم بأن مجيعهم مرسل من‬
‫عند الّل ه ‪ ،‬وما مثلهم إال مثل والة يرسلهم السلطان إىل البالد ومثل الكتب اليت جاءوا هبا‬
‫مث ل القوانني اليت يصدر السلطان مراسيم للعمل هبا ‪ ،‬فكل وال منهم إمنا ينفذ أوامر‬
‫السلطان وكل قانون يعمل به ألنه منه ‪ ،‬وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ومينع العمل به‪.‬‬
‫وأولئك يؤتيهم الّل ه أجورهم حبسب حاهلم ىف العمل ‪ ،‬ألهنم وق د صح إمياهنم به وبرسله‬
‫يهديهم إىل العمل الصاحل ‪ ،‬إذ هو األثر الالزم لذلك اإلميان الصحيح‪.‬‬

‫ومل يقل ىف هؤالء إهنم هم املؤمنون حقا كما قال ىف أولئك هم الكافرون حقا ‪ ،‬لئال يدور‬
‫خبلد أحد أن كمال اإلميان يوجد بدون العمل الصاحل فيغرت بذلك ويرتك العمل النافع وهذا‬
‫مما ال يتالءم مع نصوص الدين ‪ ،‬فلقد وصف الّل ه املؤمنني حقا بقوله ‪ِ « :‬إَمَّنا اْلُم ْؤ ِم ُن وَن‬
‫ِهِّب‬ ‫ِإ‬ ‫ِه‬ ‫ِإ ِل‬ ‫ِج‬ ‫ِذ ِإ ِك‬
‫اَّل يَن ذا ُذ َر الَّل ُه َو َلْت ُقُل وُبُه ْم َو ذا ُت َيْت َعَلْي ْم آياُت ُه زاَدْتُه ْم ميانًا َو َعلى َر ْم‬
‫ا‬ ‫ًّق‬ ‫َن‬ ‫و‬ ‫ُن‬ ‫َّك ُل وَن ‪ .‬اَّل ِذ ي ِق ي وَن الَّص الَة َّمِما ْقن ا ْنِف ُق وَن ‪ُ .‬أولِئ َك اْل ْؤ ِم‬
‫ُهَل‬
‫ْم‬ ‫َح‬ ‫ُه ُم ُم‬ ‫َو َر َز ُه ْم ُي‬ ‫َن ُي ُم‬ ‫َيَتَو‬
‫َدَر جاٌت ِعْنَد َر ِهِّبْم َو َم ْغِف َر ٌة َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌمي » ‪.‬‬
‫(َو كاَن الَّلُه َغُفورًا َر ِح يمًا) أي وكان الّله غفورا هلفوات من صح إميانه ومل يشرك بربه أحدا‬
‫‪ ،‬ومل يفّر ق بني أحد من رسله ‪ ،‬رحيما به يعامله باإلحسان ويضاعف حسناته ويزيد على‬
‫ما وعد تفضال منه ورمحة‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 51‬الى ‪]53‬‬

‫ٍض‬ ‫ا‬ ‫ي‬‫َأ ِل‬ ‫ا‬ ‫ي‬‫يا َأُّي ا اَّل ِذ ي آ وا ال َّتِخ ُذ وا اْل و الَّنصارى َأ ِل‬
‫ُهَّل‬ ‫ْع‬
‫ْو َء َب ْم ْو ُء َب َو َمْن َيَتَو ْم‬ ‫ُه‬ ‫ُض‬ ‫ْع‬ ‫َيُه َد َو‬ ‫َت‬ ‫َن َم ُن‬ ‫َه‬
‫ِهِب‬ ‫ِذ‬ ‫ِلِم‬ ‫ِد‬ ‫ِم‬ ‫ِم‬
‫ْنُك ْم َفِإَّن ُه ْنُه ْم ِإَّن الَّل َه ال َيْه ي اْلَق ْو َم الَّظ ا َني (‪َ )51‬فَتَر ى اَّل يَن يِف ُقُل و ْم َم َر ٌض‬
‫ساِر وَن ِفيِه ُقوُل وَن ْخَنشى َأْن ُتِص ي نا داِئ ٌة ى الَّل َأْن ْأ ِب اْلَفْتِح َأ َأ ٍر ِم ِعْن ِدِه‬
‫ْو ْم ْن‬ ‫َب َر َفَعَس ُه َي َيِت‬ ‫ْم َي‬ ‫ُي ُع‬
‫َفُيْص ِبُح وا َعلى ما َأَس ُّر وا يِف َأْنُف ِس ِه ْم ناِدِم َني (‪َ )52‬و َيُقوُل اَّلِذ يَن آَم ُن وا َأهُؤ الِء اَّلِذ يَن َأْقَس ُم وا‬
‫ِبالَّلِه َج ْه َد َأمْي اِهِنْم ِإَّنُه ْم َلَم َعُك ْم َح ِبَطْت َأْع ماُهُلْم َفَأْص َبُح وا خاِس ِر يَن (‪)53‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫الوالية ‪ :‬والية التناصر واحملالفة على املؤمنني ‪ ،‬ىف قلوهبم مرض ‪ :‬أي إن إمياهنم معتل غري‬
‫صحيح ‪ ،‬الدائرة ‪ :‬ما يدور به الزمان من املصايب والدواهي اليت حتيط باملرء إحاطة الدائرة‬
‫مبا فيها ‪ ،‬والفتح ‪ :‬القضاء ‪ ،‬وهو يكون بفتح البالد وبغ ري ذلك ‪ ،‬وحبطت أي بطلت‬
‫أعماهلم اليت كانوا يتكلفوهنا نفاقا كالصالة والصيام واجلهاد معكم فخسروا أجرها وثواهبا‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬
‫أخرج ابن أىب شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال ‪ « :‬جاء عبادة بن الصامت من بىن‬
‫اخلزرج إىل رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول الّل ه إن ىل مواىل من اليهود‬
‫كثري عددهم ‪ ،‬وإىن أبرأ إىل الّله ورسوله من والية يهود ‪ ،‬وأتوىّل الّل ه ورسوله ‪ ،‬فقال عبد‬
‫الّله بن أّىب ‪ :‬إىن رجل أخاف الدوائر ‪ ،‬ال أبرأ من مواالة مواّىل ‪ ،‬فقال رسول الّله صلى الّله‬
‫عليه وسلم لعبد الّل ه بن أّىب « يا أبا احلباب ‪ ،‬أ رأيت الذي نفست به من والء يهود على‬
‫ِخ‬ ‫ِذ‬
‫عبادة فهو لك دونه » قال إذن أقبل فأنزل الّل ه ‪( :‬يا َأُّيَه ا اَّل يَن آَم ُن وا ال َتَّت ُذ وا اْلَيُه وَد‬
‫َو الَّنصارى ‪ ...‬إىل قوله ‪َ :‬و الَّلُه َيْع ِص ُم َك ِم َن الَّناِس )‪.‬‬

‫وروى أرباب السري ‪ :‬أن النيب صلى الّل ه عليه وسلم ملا قدم املدينة صار الكفار معه ثالثة‬
‫أقسام ‪ :‬قسم صاحلهم ووادعهم على أال حياربوه وال يظ اهروا علي ه أحدا وال يوالوا علي ه‬
‫عدوه ‪ ،‬وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأمواهلم ‪ ،‬وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة‪.‬‬
‫وقسم تاركوه فلم يصاحلوه ومل حياربوه ‪ ،‬بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ‪ ،‬مث من‬
‫هؤالء من كان حيب ظهوره وانتصاره ىف الباطن ‪ ،‬ومنهم من دخل معه ىف الظاهر وهو مع‬
‫عدوه ىف الباطن ليأمن الفريقني ‪ ،‬وهؤالء هم املنافقون‪.‬‬

‫وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف مبا أمره ربه به ‪ ،‬فصاحل يهود املدينة وكتب بينه‬
‫وبينهم كتاب أمن ‪ ،‬وكانوا ثالث ة طوائف حول املدين ة ‪ :‬بىن قينقاع وبىن النضري ‪ ،‬وبىن‬
‫قريظة ‪ -‬فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي واحلسد ‪ ،‬مث نقض العهد بنو النضري‬
‫بعد ذلك بستة أشهر ‪ ،‬مث نقض بنو النضري العهد ملا خرج إىل غزوة اخلندق ‪ ،‬وكانوا من‬
‫أشد اليهود عداوة للنىب صلى الّله عليه وسلم ‪ ،‬وقد حارب كل طائفة وأظهره الّل ه عليها ‪،‬‬
‫وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ال َتَّتِخ ُذ وا اْلَيُه وَد َو الَّنصارى َأْو ِلياَء) إخل أي ال يواىل أفراد أو مجاعات‬
‫من املسلمني أولئك اليهود والنصارى املعاندين للنىب واملؤمنني ‪ ،‬ويعاهدوهنم على التناصر‬
‫من دون املؤمنني ‪ ،‬رجاء أن حيتاجوا إىل نصرهم إذا خذل املسلمون وغلبوا على أمرهم‪.‬‬

‫ق ال ابن جرير ‪ :‬إن الّل ه تع اىل هنى املؤمنني مجيع ا أن يتخ ذوا اليهود والنصارى أنصارا‬
‫وحلفاء على أهل اإلميان بالّله ورسوله ‪ ،‬وأخرب أن من اختذهم نصريا وحليفا وولّي ا من دون‬
‫الّله ورسوله فهو منهم ىف التحزب على الّله ورسوله واملؤمنني ‪ ،‬وأن الّله ورسوله منه بريئان‬
‫‪ ...‬إىل أن قال ‪ :‬غري أنه ال شك أن اآلية نزلت ىف منافق كان يواىل يهود أو نصارى جزعا‬
‫على نفسه من دوائر الدهر ألن اآلية اليت بعد هذه تدل على ذلك اه‪.‬‬

‫مث ذكر علة هذا النهى فقال ‪:‬‬

‫(َبْع ُضُه ْم َأْو ِلياُء َبْع ٍض ) أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض ‪،‬‬
‫ومل يكن للمؤمنني منهم وىل وال نصري إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من‬
‫العهد من غري أن يبدأهم بقتال وال عدوان فصار اجلمي ع حربا للرسول ومن مع ه من‬
‫املؤمنني‪ .‬مث توعد من يفعل ذلك فقال ‪:‬‬
‫(َو َمْن َيَتَو ُهَّلْم ِم ْنُك ْم َفِإَّن ُه ِم ْنُه ْم ) أي ومن ينصرهم أو يستنصر هبم من دون املؤمنني وهم‬
‫أعداء لكم فإنه ىف احلقيقة منهم ال منكم ألنه معهم عليكم ‪ ،‬إذ ال يتصور أن يقع ذلك من‬
‫مؤمن صادق‪ .‬قال ابن جرير فإن من توالهم ونصرهم على املؤمنني فهو من أهل دينهم ‪،‬‬
‫فإنه ال يتوىل متوّل أحدا إال وهو به وبدينه وما هو عليه راض ‪ ،‬وإذا رضيه ورضى دينه فقد‬
‫عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اه‪.‬‬

‫ومن هذا تعلم أنه إذا وقعت املواالة واحملالفة واملناصرة بني املختلفني ىف الدين ملصاحل دنيوية‬
‫ال تدخل ىف النهى الذي ىف اآلية ‪ ،‬كما إذا حالف املسلمون أمة غري مسلمة على أمة مثلها‬
‫ال تفاق مصلحة املسلمني مع مصلحتها ‪ ،‬فمثل هذا ال يكون حمظورا‪.‬‬

‫مث ذكر العلة والسبب ىف الوعيد السابق فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّن الَّلَه ال َيْه ِد ي اْلَق ْو َم الَّظاِلِم َني ) أي إن من يواىل أعداء املؤمنني وينصرهم أو يستنصر هبم‬
‫فهو ظامل بوضعه الوالية ىف غري موضعها ‪ ،‬والّله ال يهديه خلري وال يرشده إىل حق‪.‬‬

‫مث أخرب أن فريقا من ضعاف اإلميان يفعل ذلك فقال ‪:‬‬

‫(َفَتَر ى اَّل ِذ يَن يِف ُقُل وِهِبْم َم َر ٌض ُيساِر ُعوَن ِفيِه ْم ) أي فرتى املن افقني الذين اعتل إمياهنم ومل‬
‫يصل إىل مرتبة اليقني كعبد الّل ه بن أّىب وغريه من املن افقني ميّت ون إىل اليهود بالوالء‬
‫والعهود ‪ ،‬ويسارعون ىف هذه السبيل اليت سلكوها ‪ ،‬وكلما سنحت هلم الفرصة لتوثي ق‬
‫والئهم وتأكيده ابتدروها ليزيد متكنا وثباتا‪.‬‬

‫مث ذكر السبب الذي حداهم إىل ذلك فقال ‪:‬‬


‫(َيُقوُل وَن ْخَنشى َأْن ُتِص يَبنا داِئ َر ٌة) أي يقولون بألسنتهم ‪ :‬حنن خنشى أن تقع بنا مصيبة من‬
‫مصايب الدهر فنحتاج إىل نصرهتم لنا ‪ ،‬فعلينا أن نتخذ لنا أيادى عندهم ىف السراء ‪ ،‬ننتفع‬
‫هبا إذا مستنا الضراء‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬إهنم خيشون أن تدول الّد ولة لليهود أو املشركني على املؤمنني فيحل هبم‬
‫العقاب ‪ ،‬ألهنم ىف شك من نصر الّله لنبيه وإظهار دينه على الدين كله ‪ ،‬إذ مل يوقنوا بنبوته‬
‫وال بصدقها ‪ ،‬وهكذا شأن املنافقني ىف كل زمان ومكان ‪ ،‬فكثري من وزراء بعض الدول‬
‫الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدول ىف‬
‫أحشاء هذه الدولة ‪ ،‬وضعف استقالهلا ىف بالدها بعملهم ‪ ،‬ولّله األمر من قبل ومن بعد‪.‬‬

‫مث رد على هؤالء املنافقني وقطع أطماعهم وبشر املؤمنني فقال ‪:‬‬

‫(َفَعَس ى الَّلُه َأْن َيْأَيِت ِباْلَفْتِح َأْو َأْم ٍر ِم ْن ِعْنِدِه َفُيْص ِبُح وا َعلى ما َأَس ُّر وا يِف َأْنُف ِس ِه ْم ناِدِم َني ) أي‬
‫فلعل الّله بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتى بالفتح والفصل بني للمؤمنني ومن يعاديهم‬
‫من اليهود والنصارى ‪ ،‬أو بأمر من عن ده ىف هؤالء املن افقني كفضيحتهم أو اإليقاع هبم ‪،‬‬
‫فيصبحوا نادمني على ما كتموه وأض مروه ىف أنفسهم من اختاذ األولي اء على املؤمنني ‪،‬‬
‫وتوقع الدوائر عليهم‪.‬‬

‫والفتح ‪ :‬إما فتح مكة الذي كان به ظهور اإلسالم والثقة بقوته وإجناز الّل ه وعده لرسوله ‪،‬‬
‫وإما فتح بالد اليهود ىف احلجاز كخيرب وغريها ‪ ،‬واألمر إما اإليقاع باليهود وإجالؤهم عن‬
‫موطنهم وإخراجهم من حصوهنم وصياصيهم ‪ ،‬وإما القهر واإلجياف عليهم باخلي ل‬
‫والركاب كبىن قريظة ‪ ،‬وإما بإلقاء الرعب ىف قلوهبم حىت يعطوا بأيديهم كبىن الّنضري ‪،‬‬
‫وإما ضرب اجلزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل املنافقني ويندمون على ما كان من‬
‫إسرارهم بالوالء هلم‪.‬‬

‫(َو َيُق وُل اَّل ِذ يَن آَم ُن وا َأهُؤ الِء اَّل ِذ يَن َأْقَس ُم وا ِبالَّل ِه َج ْه َد َأمْي اِهِنْم ِإَّنُه ْم َلَم َعُك ْم ؟ ) أي ويقول‬
‫بعض املؤمنني لبعض متعجبني من حال املنافقني ‪ ،‬إذا أقسموا بأغلظ األميان هلم إهنم معكم‬
‫وإهنم معاضدوكم على أعدائكم اليهود ‪ ،‬فلما حل هبم ما حل أظهروا ما كانوا يسّر ونه من‬
‫مواالهتم ومماألهتم على املؤمنني كما قال ىف سورة براءة « َو ْحَيِلُف وَن ِبالَّل ِه ِإَّنُه ْم َلِم ْنُك ْم َو ما‬
‫ُه ْم ِم ْنُك ْم َو لِكَّنُه ْم َقْو ٌم َيْف َر ُقوَن » أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون اإلسالم تقّية‪.‬‬

‫(َح ِبَطْت َأْع ماُهُلْم َفَأْص َبُح وا خاِس ِر يَن ) أي ويقول املؤمن ون ‪ :‬حبطت أعماهلم اليت كانوا‬
‫يتكلفوهنا نفاقا كالصالة والصوم واجلهاد معنا ليقنعونا بأهنم منا ‪ ،‬فخسروا بذلك ما كانوا‬
‫يرجون هلا من أجر وثواب لو صلحت حاهلم وقوى إمياهنم‪.‬‬

‫وىف هاتني اآليتني إخبار بالغيب ‪ ،‬وق د صدق الّل ه وعده ‪ ،‬وخذل الكافرين ‪ ،‬وفضح‬

‫املن افقني ‪ ،‬والعاقبة للمتقني ‪ ،‬ولكن أىّن هلم أن يعتربوا مبث ل هذا ؟ « َو َمْن ْمَل ْجَيَع ِل الَّل ُه َل ُه‬
‫ُنورًا َفما َلُه ِم ْن ُنوٍر » ‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 57‬الى ‪]63‬‬


‫ِك ِم‬ ‫ِع ِم ِذ‬ ‫ِد‬ ‫ِذ‬ ‫ِخ‬ ‫ِذ‬
‫يا َأُّيَه ا اَّل يَن آَم ُن وا ال َتَّت ُذ وا اَّل يَن اَخَّتُذ وا يَنُك ْم ُه ُز وًا َو َل بًا َن اَّل يَن ُأوُتوا اْل تاَب ْن‬
‫َقْبِلُك ْم َو اْلُك َّف اَر َأْو ِلي اَء َو اَّتُق وا الَّل َه ِإْن ُك ْنُتْم ُم ْؤ ِمِنَني (‪َ )57‬و ِإذا ناَدْيُتْم ِإىَل الَّص الِة اَخَّتُذ وها‬
‫ُهُز وًا َو َلِعبًا ذِلَك ِبَأَّنُه ْم َقْو ٌم ال َيْع ِق ُلوَن (‪ُ )58‬قْل يا َأْه َل اْلِكتاِب َه ْل َتْنِق ُم وَن ِم َّنا ِإَّال َأْن آَم َّنا‬
‫ِب ِم‬ ‫ِس‬ ‫ِم‬ ‫ِإ‬ ‫ِب ِه‬
‫الَّل َو ما ُأْنِز َل َلْينا َو ما ُأْنِز َل ْن َقْب ُل َو َأَّن َأْك َثَر ُك ْم فا ُقوَن (‪ُ )59‬قْل َه ْل ُأَنِّبُئُك ْم َش ٍّر ْن‬
‫ِق‬ ‫ِم‬ ‫ِه‬ ‫ِض‬ ‫ِع ِه‬ ‫ِل‬
‫ذ َك َم ُثوَبًة ْنَد الَّل َمْن َلَعَنُه الَّلُه َو َغ َب َعَلْي َو َجَعَل ْنُه ُم اْل َر َدَة َو اَخْلناِز يَر َو َعَبَد الَّطاُغوَت‬
‫ُأولِئَك َش ٌّر َم كانًا َو َأَض ُّل َعْن َس واِء الَّس ِبيِل (‪َ )60‬و ِإذا جاُؤ ُك ْم قاُلوا آَم َّنا َو َقْد َدَخ ُلوا ِباْلُك ْف ِر‬
‫َو ُه ْم َقْد َخ َر ُج وا ِبِه َو الَّلُه َأْع َلُم مِب ا كاُنوا َيْك ُتُم وَن (‪)61‬‬

‫َو َت رى َك ِث ريًا ِم ْنُه ْم ُيساِر ُعوَن يِف اِإْلِمْث َو اْلُع ْد واِن َو َأْك ِلِه ُم الُّس ْحَت َلِبْئَس ما كاُنوا َيْع َم ُل وَن (‬
‫‪َ )62‬ل ْو ال َيْنهاُه ُم الَّر َّب اِنُّيوَن َو اَأْلْح باُر َعْن َقْو ِهِلُم اِإْل َمْث َو َأْك ِلِه ُم الُّس ْحَت َلِبْئَس ما كاُنوا‬
‫َيْص َنُعوَن (‪)63‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫نقم منه كذا ‪ :‬إذا أنكره عليه وعابه به بالقول أو الفعل ‪ ،‬واملثوبة ‪ :‬من ثاب إليه إذا رجع ‪،‬‬
‫ويراد به اجلزاء والث واب ‪ ،‬والطاغوت ‪ :‬من الطغي ان ‪ ،‬وهو جماوزة احلد املش روع وهو‬
‫يشمل كل من أطاعوه ىف معصية الّله تعاىل ‪ ،‬والسحت ‪ :‬الدينء من احملرمات‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن هنى سبحانه عن اختاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه وبني العلة ىف ذلك فأرشد‬
‫إىل أن بعضهم أولياء بعض ‪ ،‬وال يواىل املؤمنني منهم أحد ‪ ،‬وال يواليهم ممن يدعون اإلميان‬
‫إال مرضى القلوب واملنافقون الذين يرتبصون باملؤمنني الدوائر‪.‬‬
‫أعاد النهى هنا عن اختاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي ألجله كان النهى ‪ ،‬وهو‬
‫إيذاؤهم للمؤمنني جبميع ضروب اإليذاء ‪ ،‬ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إىل ذلك سبيال‪.‬‬

‫اإليضاح‬
‫ِك ِم‬ ‫ِع ِم ِذ‬ ‫ِد‬ ‫ِذ‬ ‫ِخ‬ ‫ِذ‬
‫(يا َأُّيَه ا اَّل يَن آَم ُنوا ال َتَّت ُذ وا اَّل يَن اَخَّتُذ وا يَنُك ْم ُه ُز وًا َو َل بًا َن اَّل يَن ُأوُتوا اْل تاَب ْن‬
‫َقْبِلُك ْم َو اْلُك َّف اَر َأْو ِلي اَء) أي ال تتخ ذوا اليهود والنصارى الذين ج اءهتم الرسل واألنبي اء‬
‫وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبين ا صلى الّل ه علي ه وسلم ومن قبل نزول كتابن ا ‪-‬‬
‫أولي اء وأنصارا حلفاء ‪ ،‬فإهنم ال يألونكم خباال وإن أظهروا لكم مودة وصداقة ‪ ،‬ذلك‬
‫ألهنم اختذوا هذا الدين هزوا ولعبا فكان أحدهم يظهر اإلميان للمؤمنني وهو على كفره‬
‫مقيم ‪ ،‬وبع د اليسري من الزمن يظهر الكفر بلسانه بع د أن كان يبدى اإلميان ق وال وهو‬
‫مستبطن للكفر تالعبا بالدين واستهزاء به كما قال تعاىل عنهم « َو ِإذا َلُقوا اَّلِذ يَن آَم ُنوا قاُلوا‬
‫آَم َّنا َو ِإذا َخ َلْو ا ِإىل َش ياِط يِنِه ْم قاُلوا ِإَّنا َمَعُك ْم ِإمَّن ا ْحَنُن ُمْس َتْه ِز ُؤ َن » ‪.‬‬

‫وكذلك هنى الّله عن مواالة مجيع املشركني ‪ ،‬ألن مواالة املسلمني هلم بعد أن أظهرهم الّل ه‬
‫عليهم بفتح مكة ودخول الناس ىف دين الّل ه أفواجا ‪ -‬تكون قوة هلم وإقرارا على شركهم‬
‫الذي جاء اإلسالم حملوه من جزيرة العرب‪ .‬وقد هنج اإلسالم مع أهل الكتاب سياسة غري‬
‫سياسته مع مشركى العرب ‪ ،‬فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم وشرع قبول اجلزية منهم‬
‫وإق رارهم على دينهم‪ .‬وخصهم هن ا بلقب أهل الكتاب ولّق ب املش ركني بالكفار ‪ ،‬وىف‬
‫آيات أخرى باملشركني والذين أشركوا ‪ ،‬ألهنم لوثنيتهم عريقون ىف الشرك والكفر أصالء‬
‫في ه ‪ ،‬أما أهل الكتاب فالش رك والكفر ق د عرض للكث ري منهم عروض ا وليس من أصل‬
‫دينهم‪.‬‬

‫(َو اَّتُق وا الَّل َه ِإْن ُك ْنُتْم ُم ْؤ ِمِنَني ) أي وخافوا الّل ه أيها املؤمنون ىف مواالة هؤالء الذين اختذوا‬
‫دينكم هزوا ولعبا حىت ال يضيع الغ رض منها وتكون وهن ا لكم ونصرا هلم ‪ -‬إن كنتم‬
‫صادقى اإلميان حتفظ ون كرامته وجتتنبون مهانته ‪ ،‬وتصدقون باجلزاء والوعي د علىمعصيته‬
‫تعاىل (َو ِإذا ناَدْيُتْم ِإىَل الَّص الِة اَخَّتُذ وها ُه ُز وًا َو َلِعبًا) أي وإذا أّذن مؤذنكم داعيا إىل الصالة‬
‫سخر من دعوتكم إليها من هنيتم عن واليتهم من أهل الكتاب واملشركني ‪ ،‬واختذوها هزوا‬
‫ولعبا‪.‬‬

‫(ذِل َك ِب َأَّنُه ْم َقْو ٌم ال َيْع ِق ُل وَن ) أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو اهلزؤ والسخرية إمنا كان‬
‫جلهلهم حبقيقة األديان وما أوجب الّل ه فيها من تعظيمه والثناء عليه مبا هو أهله ‪ ،‬ولو كان‬
‫عندهم عقل خلشعت قلوهبم كلما مسعوا املؤذن يكرب الّله تعاىل وميجده بصوته الندّى ويدعو‬
‫إىل الصالة له والفالح مبناجاته وذكره ‪ ،‬فهو ذكر مؤّثر ىف النفوس ال ختفى حماسنه على من‬
‫يعقل احلكمة ىف إرسال الشرائع ويؤمن بالّله العلى الكبري‪.‬‬

‫(ُقْل يا َأْه َل اْلِكتاِب َه ْل َتْنِق ُم وَن ِم َّنا ِإاَّل َأْن آَم َّنا ِبالَّل ِه َو ما ُأْنِز َل ِإَلْينا َو ما ُأْنِز َل ِم ْن َقْب ُل َو َأَّن‬
‫َأْك َثَر ُك ْم فاِس ُقوَن ؟ ) أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ‪:‬‬

‫هل تعيبون علين ا من شىء وتكرهونن ا ألجله ‪ ،‬إال إميانن ا الصادق بالّل ه وتوحي ده وإثبات‬
‫صفات الكمال له ‪ ،‬وإميانن ا مبا أنزل إلين ا ومبا أنزل من قبل على رسله ‪ ،‬لقلة إنصافكم ‪،‬‬
‫وألن أكثركم فاسقون خارجون عن حظ رية اإلميان الصحيح وليس لكم من الدين إال‬
‫العصبية اجلنسية ‪ ،‬والتقاليد الباطلة‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه ما عندنا سوى ذلك ‪ ،‬وهذا مما ال يعاب وال ينقم منه ‪ ،‬بل ميدح صاحبه‬
‫ويكرم ‪ ،‬لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظرية الدين الصحيح عبتم احلسن من غريكم ‪،‬‬
‫ورضيتم بالقبيح من أنفسكم‪.‬‬

‫روى ابن جرير عن ابن عباس قال « أتى رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم نفر من اليهود‬
‫أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أىب رافع ىف مجاعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال ‪:‬‬
‫(أومن ِبالَّلِه َو ما ُأْنِز َل ِإَلْينا َو ما ُأْنِز َل ِإىل ِإْبراِه يَم َو ِإمْس اِعيَل َو ِإْس حاَق َو َيْع ُق وَب َو اَأْلْس باِط َو ما‬
‫ُأوَيِت ُموسى َو ِعيسى َو ما ُأوَيِت الَّنِبُّيوَن ِم ْن َر ِهِّبْم ‪ ،‬ال ُنَفِّرُق َبَنْي َأَح ٍد ِم ْنُه ْم َو ْحَنُن َلُه ُمْس ِلُم وَن )‬

‫فلما ذكر عيسى جح دوا نبوته وق الوا ال نؤمن مبن آمن به فأنزل الّل ه فيهم (ُق ْل يا َأْه َل‬
‫اْلِكتاِب ‪ » )...‬إخل‪.‬‬

‫وىف قوله ‪َ( :‬و َأَّن َأْك َثَر ُك ْم فاِس ُقوَن ) دق ة ىف األحكام على األمم والش عوب ‪ ،‬إذ هو حيكم‬
‫على الكث ري أو األكثر وما عمم إال استثىن ‪ ،‬وق د كان ىف أهل الكتاب ناس ال يزالون‬
‫معتصمني بأصول الدين وج وهره من التوحي د وحب احلق والع دل ‪ ،‬وهؤالء هم الذين‬
‫سارعوا إىل اإلسالم عن د ما عرفوا حقيقة أمره وجتلى هلم صدق الداعي إلي ه مث رّد على‬
‫االستفهام التهكمى باستفهام هتكمى مثله فقال ‪:‬‬

‫(ُق ْل َه ْل ُأَنِّبُئُك ْم ِبَش ٍّر ِم ْن ذِل َك َم ُثوَب ًة ِعْن َد الَّل ِه) استعمال املثوبة ىف اجلزاء احلسن أكثر من‬
‫استعماهلا ىف اجلزاء السّي ء ‪ ،‬وقيل إن استعماهلا ىف اجلزاء السّي ء من باب التهكم واالزدراء‪.‬‬
‫أي هل أنبئكم أيها املستهزءون بديننا وأذاننا مما هو شر من عملكم هذا جزاء وثوابا عند‬
‫الّله‪.‬‬

‫وهذا السؤال يستدعى سؤاال منهم عن ذلك الذي هو شر (ما هو) فأجاهبم بقوله (َمْن َلَعَن ُه‬
‫الَّل ُه َو َغِض َب َعَلْي ِه َو َجَع َل ِم ْنُه ُم اْلِق َر َدَة َو اَخْلناِز يَر َو َعَب َد الَّطاُغوَت ) من لعنه الّل ه ‪ :‬أي جزاء‬
‫من لعن ه على حد قوله تع اىل « َو لِكَّن اْلَّرِب َم ِن اَّتقى » أي ولكن الرب بّر من اتقى أي إن‬
‫الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء جزاء من لعنه الّله وغضب عليه إخل‪.‬‬

‫وىف هذا انتقال هبم من تبكيت هلم بإقامة احلجة على هزئهم ولعبهم مبا ذكر ‪ -‬إىل ما هو‬
‫أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم ‪ ،‬ذلك هو التذكري بسوء حال آبائهم مع أنبيائهم وما كان‬
‫من جزاء الّله هلم على فسقهم ومتردهم بأشد ما جازى به الفاسقني الذين ظلموا أنفسهم ‪-‬‬
‫من اللعن والغضب واملسخ وعبادة الطاغوت‪ .‬أما اللعن فقد ذكر ىف عدة مواضع من القرآن‬
‫الكرمي مع بي ان أسبابه ‪ ،‬والغضب اإلهلى يستلزم اللعن ة ‪ ،‬واللعن ة تلزمه ‪ ،‬إذ هى منتهى‬
‫املؤاخذة ملن غضب الّل ه عليه‪ .‬وأما جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم ىف سورة البقرة «‬
‫َو َلَق ْد َعِلْم ُتُم اَّل ِذ يَن اْعَت َد ْو ا ِم ْنُك ْم يِف الَّس ْبِت َفُقْلن ا ُهَلْم ُك وُن وا ِق َر َدًة خاِس ِئَني » وسيأتى ىف‬
‫سورة األعراف « َفَلَّم ا َعَتْو ا َعْن ما ُنُه وا َعْن ُه ُقْلن ا ُهَلْم ُك وُن وا ِق َر َدًة خاِس ِئَني » ومجهرة‬
‫العلماء على أهنم مسخوا فكانوا ق ردة وخن ازير على احلقيقة وانقرض وا ‪ ،‬ألن املمسوخ ال‬
‫يكون له نسل ‪ ،‬ونقل ابن جرير عن جماهد أنه قال ‪ :‬مسخت قلوهبم ومل ميسخوا قردة ‪،‬‬
‫وإمنا هو مثل ضربه الّله هلم كما ضرب املثل بقوله « َك َم َثِل اِحْلماِر ْحَيِم ُل َأْس فارًا » ‪.‬‬
‫(ُأولِئ َك َش ٌّر َم كانًا َو َأَض ُّل َعْن َس واِء الَّس ِبيِل ) أي إن أولئك الذين اتصفوا مبا ذكر من‬
‫املخ ازي وشنيع األمور شر مكانا ‪ ،‬إذ ال مكان هلم ىف اآلخرة إال الن ار ‪ ،‬وهم أض ل عن‬
‫قصد سواء الطريق ووسطه الذي ال إفراط في ه وال تفريط‪ .‬ومث ل هؤالء ال حيملهم على‬
‫االستهزاء بدين املسلمني وبصالهتم وأذاهنم إال اجلهل وعمى البصرية‪ .‬مث بني حال املنافقني‬
‫منهم فقال ‪:‬‬

‫(َو ِإذا جاُؤ ُك ْم قاُلوا آَم َّنا َو َقْد َدَخ ُل وا ِباْلُك ْف ِر َو ُه ْم َقْد َخ َر ُج وا ِب ِه) أي وإذا جاءكم املنافقون‬
‫من اليهود قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه ‪ ،‬وحاهلم الواقعة منهم أهنم‬
‫دخلوا عليكم وهم مقيمون على الكفر والضالل وخرج وا وهم كذلك ‪ ،‬فح اهلم عن د‬
‫خروجهم كحاهلم عند دخوهلم مل يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من احلق ؟‬

‫ولكنهم قوم دأهبم اخلداع والنفاق كما جاء ىف سورة البقرة ‪َ « :‬و ِإذا َلُق وا اَّلِذ يَن آَم ُن وا قاُلوا‬
‫آَم َّنا َو ِإذا َخ ال َبْع ُضُه ْم ِإىل َبْع ٍض قاُلوا َأَحُتِّد ُثوَنُه ْم مِب ا َفَتَح الَّلُه َعَلْيُك ْم ؟ » اآلية‪.‬‬

‫(َو الَّل ُه َأْع َلُم مِب ا كاُنوا َيْك ُتُم وَن ) حني دخوهلم من قصد تسّق ط األخبار والتوسل إىل ذلك‬
‫بالنفاق واخلداع ‪ ،‬وحني خروجهم من الكيد واملكر والكذب الذي يلقونه إىل البعداء من‬
‫قومهم كما علمت مما سلف عند قوله (َّمَساُعوَن ِلْلَك ِذ ِب َّمَساُعوَن ِلَق ْو ٍم آَخ ِر يَن )‪.‬‬

‫وىف قوله ‪ :‬وهم قد خرجوا به تأكيد لكوهنم حني اخلروج كما هم حني الدخول ‪ ،‬واحتيج‬
‫إلي ه جمليئه على خالف املع روف ‪ ،‬ألن من كان جيالس الرسول صلى الّل ه علي ه وسلم‬
‫وأصحابه يسمع منه العلم واحلكمة ‪ ،‬ويرى من أحاسن أخالقه ما يؤّثر ىف القلوب ويلني‬
‫قاسيها ‪ -‬يرجع عن سوء عقيدته ‪ ،‬وتصفو نفسه من كدورهتا إال إذا كان متعنتا خمادعا ‪،‬‬
‫فإن الذكرى ال تنفعه ‪ ،‬والعظات والزواجر ال تؤثر فيه‪.‬‬

‫وقد كان الرجل جيىء إىل النيب صلى الّل ه عليه وسلم يريد قتله حىت إذا رآه ومسع كالمه‬
‫اجنابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق وآمن به وأحبه ‪ ،‬وما شّذ هؤالء إال لسوء نيتهم ‪،‬‬
‫وفساد ط وّيتهم ‪ ،‬وذلك ما صرف قلوهبم عن التذكر واالعتبار ووّج ه مهمهم إىل الكي د‬
‫واخلداع ‪ ،‬فلم يكن لديهم عقول تعى وتفقه مغزى احلكم واآلداب‪ .‬مث ذكر من شئوهنم ما‬
‫هو شر مما سلف فقال ‪:‬‬

‫(َو َت رى َك ِث ريًا ِم ْنُه ْم ُيساِر ُعوَن يِف اِإْلِمْث َو اْلُع ْد واِن َو َأْك ِلِه ُم الُّس ْحَت ) أي وترى أيها الرسول‬
‫كث ريا من هؤالء اليهود الذين اختذوا دين ك هزوا ولعبا ‪ -‬يسارعون ىف الظلم والع دوان‬
‫وجتاوز احلدود اليت ضرهبا الّله للناس ‪ ،‬وىف أكل السحت وكل ما يعود على فاعله بالضرر‬
‫ىف الدين والدنيا ‪ ،‬فهم غارقون ىف اإلمث والع دوان ‪ ،‬فكلما ق دروا عليهما ابتدرومها ومل‬
‫يتأخروا عن ارتكاهبما‪ .‬مث بالغ ىف قبح هذه األعمال فقال ‪:‬‬

‫(َلِبْئَس ما كاُنوا َيْع َم ُلوَن ) أي والّله ما أقبح هذا العمل الذي يعمله هؤالء من مسارعتهم ىف‬
‫كل ما يفسد األخالق ‪ ،‬ويدّنس النفوس ‪ ،‬ويقّو ض نظم اجملتمع ‪ ،‬وويل لألمة اليت يعيش‬
‫فيها أمثال هؤالء ‪ ،‬فهاّل هناهم علماؤهم وزهادهم وعّب ادهم عن أفعاهلم بأمرهم باملعروف‬
‫وهنيهم عن املنكر قبل أن يستفحل الشر ‪ ،‬ويعم الّض ر ؟ وإىل هذا أشار بقوله‪:‬‬

‫(َلْو ال َيْنهاُه ُم الَّر َّباِنُّيوَن َو اَأْلْح باُر َعْن َقْو ِهِلُم اِإْل َمْث َو َأْك ِلِه ُم الُّس ْحَت َلِبْئَس ما كاُنوا َيْص َنُعوَن )‬
‫ق ال ىف الكش اف ‪ :‬ال يسمى العامل صانعا وال العمل صناعة حىت يتمكن في ه العامل‬
‫ويتدرب وينسب إليه ‪ ،‬وفاعل املعصية معه الشهوة اليت تدعوه إليها وحتمله على ارتكاهبا ‪،‬‬
‫وأما الذي ينهاه فال شهوة معه ىف فعل غريه ‪ ،‬فإذا فّر ط ىف اإلنكار على املعصية كان أشد‬
‫إمثا وأعظم جرما من الفاعل هلا اه‪ .‬أي هال ينهى هؤالء الذين يسارعون فيما ذكر من‬
‫املعاصي ‪ -‬أئمتهم ىف الرتبي ة والسياسة ‪ ،‬وعلماء الدين من األحبار والرهبان ‪ ،‬لبئس ما‬
‫كانوا يصنعون من الرضى هبذه األوزار واخلطايا ‪ ،‬وتركهم فريضة األمر باملعروف والنهى‬
‫عن املنكر‪ .‬روى عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ما ىف القرآن أشد توبيخا من هذه اآلية ‪ -‬يريد‬
‫بذلك أهنا حجة على العلماء إذا هم قصروا ىف اهلداية واإلرشاد ‪ ،‬وتركوا النهى عن الشرور‬
‫واآلث ام اليت تفسد نظم احلي اة للفرد واجملتمع ‪ ،‬فح ق على العلماء واحلكام أن يعتربوا هبذا‬
‫النعي على اليهود ساسة وعلماء ومرّبني فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى هلم إن‬
‫نفعت الذكرى‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 82‬الى ‪]86‬‬


‫ِل ِذ‬ ‫ِج‬ ‫َّلِذ‬ ‫ِل ِذ‬ ‫ِج‬
‫َلَت َد َّن َأَش َّد الَّناِس َع داَو ًة َّل يَن آَم ُن وا اْلَيُه وَد َو ا يَن َأْش َر ُك وا َو َلَت َد َّن َأْقَر َبُه ْم َم َو َّدًة َّل يَن‬
‫آَم ُن وا اَّل ِذيَن قاُلوا ِإَّن ا َنصارى ذِل َك ِب َأَّن ِم ْنُه ْم ِقِّس يِس َني َو ُر ْه بانًا َو َأَّنُه ْم ال َيْس َتْك ُرِبوَن (‪)82‬‬
‫َو ِإذا ِمَس ُعوا ما ُأْنِز َل ِإىَل الَّر ُس وِل َترى َأْع ُيَنُه ْم َتِف يُض ِم َن الَّد ْم ِع َّمِما َعَر ُفوا ِم َن اَحْلِّق َيُقوُلوَن َر َّبنا‬
‫آَم َّن ا َفاْك ُتْبن ا َم َع الَّش اِهِد يَن (‪َ )83‬و ما َلن ا ال ُنْؤ ِم ُن ِبالَّل ِه َو ما جاَءنا ِم َن اَحْلِّق َو َنْطَم ُع َأْن‬
‫ِم ِت‬ ‫ٍت‬ ‫مِب‬ ‫ِحِل‬ ‫ِم‬ ‫ِخ‬
‫ُي ْد َلنا َر ُّبن ا َم َع اْلَق ْو الَّص ا َني (‪َ )84‬فَأث اَبُه ُم الَّل ُه ا ق اُلوا َج َّنا ْجَتِر ي ْن ْحَت َه ا اَأْلهْن اُر‬
‫ِب ِت ِئ‬ ‫ِذ‬ ‫ِس ِن‬ ‫ِل‬ ‫ِلِد ِف‬
‫خا يَن يها َو ذ َك َج زاُء اْلُم ْح َني (‪َ )85‬و اَّل يَن َك َف ُر وا َو َك َّذ ُبوا آيا نا ُأول َك َأْص حاُب‬
‫اَجْلِح يِم (‪)86‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫الع داوة ‪ :‬البغضاء يظهر أثرها ىف القول والعمل ‪ ،‬واملودة ‪ :‬حمبة يظهر أثرها يف القول‬
‫والعمل ‪ ،‬والن اس هم يهود احلج از ومش ركو الع رب ونصارى احلبش ة ىف عصر التنزيل ‪،‬‬
‫والقسيسون ‪ :‬واحدهم قسيس ‪ ،‬وقسوس ‪ ،‬واحدهم قّس ‪ :‬وهو الرئيس الديين فوق‬
‫الشماس ودون األسقف ‪ ،‬واألصل ىف القسيسني أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم ‪،‬‬
‫ألهنم رعاة ومفتون ‪ ،‬والرهبان ‪ ،‬واحدهم راهب ‪ :‬وهو املتبّت ل املنقطع ىف دير أو صومعة‬
‫للعبادة وحرمان النفس من التنعيم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة ‪ ،‬وذكر القسيسني‬
‫والرهبان للجمع بني العّب اد والعلماء ‪ ،‬تفيض من الدمع ‪ :‬أي متتلىء دمع ا حىت يتدفق من‬
‫جوانبها لكثرته ‪ ،‬مع الشاهدين ‪ :‬أي مع الذين يشهدون حبقية نبيك صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫وكتابك ‪ ،‬اإلثابة ‪ :‬اجملازاة ‪ ،‬وقوله مبا قالوا ‪ :‬أي مبا قالوه عن اعتقاد‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن حاّج سبحانه وتعاىل أهل الكتاب ‪ ،‬وذكر من خمازيهم أهنم اختذوا الدين اإلسالمى‬
‫هزوا ولعبا ‪ ،‬وأن اليهود منهم قالوا ‪ :‬يد الّل ه مغلولة ‪ ،‬وأهنم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم‬
‫أخرى ‪ ،‬وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة فمنهم من ق ال املسيح ابن الّل ه ‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال إن الّل ه ثالث ثالثة ‪ ،‬وقد عاهبم على ذلك وكّر عليهم باحلجة إثر احلجة لتفنيد ما‬
‫كانوا يعتقدون‪.‬‬
‫ذكر هنا أحواهلم يف عداوهتم للمؤمنني وحمبتهم هلم ومقدار تلك احملبة والعداوة ‪ ،‬وبني حال‬
‫املشركني مع املؤمنني بالتبع هلم‪.‬‬

‫أخرج ابن جرير وابن أيب حامت عن السدى قال ‪ :‬بعث النجاشي إىل رسول الّل ه صلى الّل ه‬
‫عليه وسلم اثىن عشر رجال ‪ ،‬سبعة قسيسني ومخسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه‬
‫وقرأ عليهم ما أنزل الّل ه بكوا وآمنوا‪ .‬وأنزل الّل ه فيهم « َو ِإذا ِمَس ُعوا ما ُأْن ِز َل ِإىَل الَّر ُس وِل »‬
‫اآلية‪.‬‬

‫وأخرج ابن جرير وابن أيب حامت وابن مردويه عن ابن عباس قال ‪ :‬كان رسول الّل ه صلى‬
‫الّل ه علي ه وسلم وهو مبكة خياف على أصحابه من املش ركني فبعث جعفر ابن أيب ط الب‬
‫وابن مسعود وعثمان بن مظعون ىف رهط من أصحابه إىل النجاشي ملك احلبشة فلما بلغ‬
‫ذلك املشركني بعثوا عمرو بن العاص ىف رهط منهم ذكروا أهنم سبقوا أصحاب رسول الّل ه‬
‫صلى الّل ه علي ه وسلم إىل النجاشي فقالوا ‪ :‬إنه ق د خرج فين ا رج ل سّف ه عقول ق ريش‬
‫وأحالمها ‪ ،‬زعم أنه نىب وأنه بعث إلي ك رهطا ليفسدوا علي ك قومك فأحببن ا أن نأتي ك‬
‫وخنربك خربهم‪ .‬ق ال ‪ :‬إن ج اءوىن نظ رت فيما يقولون ‪ ،‬فلما ق دم أصحاب رسول الّل ه‬
‫صلى الّله عليه وسلم فأتوا إىل باب النجاشي قالوا له ‪ :‬استأذن ألولياء الّل ه ‪ ،‬فقال ائذن هلم‬
‫فمرحبا بأولياء الّل ه ‪ ،‬فلما دخلوا عليه سلموا فقال هلم ما مينعكم أن حتيوىن بتحيىت ؟ قالوا‬
‫إنا حييناك بتحية أهل اجلنة وحتية املالئكة ‪ ،‬فقال هلم ما يقول صاحبكم ىف عيسى وأمه ؟‬
‫قالوا بقول عبد الّله ورسوله وكلمة من الّله وروح منه ألقاها إىل مرمي ‪ ،‬ويقول ىف مرمي إهنا‬
‫العذراء الطيبة البتول ‪ ،‬قال فأخذ عودا من األرض فقال ‪ :‬مازاد عيسى وأمه على ما قال‬
‫صاحبكم هذا العود « أي مثله ىف صغره » فكره املشركون قوله ‪ ،‬وتغريت له وجوههم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم ؟ ق الوا نعم ‪ ،‬ق ال فاقرءوا فقرءوا ‪ ،‬وحوله‬
‫القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسني والرهبان كلما قرءوا آية‬
‫احندرت دموعهم مما عرفوا من احلق وهذا ما أشار إلي ه بقوله « ذلك بأن منهم قسيسني‬
‫ورهبانا وأهنم ال يستكربون‪ .‬وإذا مسعوا ما أنزل إىل الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع‬
‫مما عرفوا من احلق » ‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َلَتِج َد َّن َأَش َّد الَّن اِس َع داَو ًة ِلَّل ِذ يَن آَم ُن وا اْلَيُه وَد َو اَّل ِذ يَن َأْش َر ُك وا) أي قسما لتج دن أيها‬
‫الرسول أشد الن اس عداوة للذين صّد قوك واتبع وك وصدقوا مبا جئتهم به ‪ ،‬اليهود‬
‫واملشركني من عبدة األوثان الذين اختذوها آهلة يعبدوهنا من دون الّله‪.‬‬

‫وأشد ما القى النيب صلى الّل ه عليه وسلم من العداوة واإليذاء ‪ ،‬كان من يهود احلجاز ىف‬
‫املدينة وما حوهلا ‪ ،‬ومن مشركى العرب وال سيما مكة وما قرب منها‪.‬‬

‫وقد كان اليهود واملشركون مشرتكني ىف بعض الصفات واألخالق اليت اقتضت عداوهتم‬
‫الش ديدة للمؤمنني كالكرب ‪ ،‬والعتّو ‪ ،‬والبغي ‪ ،‬وغلبة احلي اة املادية ‪ ،‬واألث رة والقسوة ‪،‬‬
‫وضعف عاطفة احلنان والرمحة ‪ ،‬والعصبية اجلنسية ‪ ،‬واحلمّية القوية ‪ ،‬ولكّن مشركى العرب‬
‫على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا ‪ ،‬وأعظم سخاء وإيثارا ‪ ،‬وأكثر حرية يف الفكر‬
‫واستقالال ىف الرأى‪.‬‬
‫وق ّد م سبحانه ذكر اليهود لإلشارة إىل تفوقهم على الع رب فيما وصفوا به ‪ ،‬فضال عما‬
‫امتازوا به من قتل بعض األنبياء وإيذاء بعض آخر ‪ ،‬واستحالل أكل أموال غريهم بالباطل‪.‬‬
‫ومل يكن ميلهم مع املسلمني ىف البالد املقدسة والش ام واألندلس إال ميال وراء مصلحتهم‬
‫اخلاصة ‪ ،‬إذ هم تفيئوا ظالل عدهلم ‪ ،‬واسرتاحوا به من اضطهاد النصارى ىف تلك البالد‪.‬‬

‫(َو َلَتِج َد َّن َأْقَر َبُه ْم َم َو َّدًة ِلَّل ِذ يَن آَم ُن وا ‪ ،‬اَّل ِذ يَن ق اُلوا ِإَّن ا َنصارى ) أي ولتج دّن أق رب الن اس‬
‫حمبة للذين آمنوا بك وصدقوك ‪ -‬الذين قالوا إنا نصارى ‪ -‬فإن النيب صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫رأى من نصارى احلبشة أحسن املودة حبماية املهاجرين الذين أرسلهم صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫ىف أول اإلسالم من مكة إىل احلبشة ‪ ،‬خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذوهنم أشد‬
‫اإليذاء ‪ ،‬ليفتنوهم عن دينهم‪ .‬وملا أرسل النيب صلى الّله عليه وسلم كتبه إىل امللوك ورؤساء‬
‫الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا ‪ ،‬فهرقل ملك الروم ىف الشام حاول إقناع رعيته‬
‫بقبول اإلسالم فلم يستطع ‪ ،‬جلمودهم على التقليد فاكتفى بالرد احلسن ‪ ،‬واملقوقس عظيم‬
‫القبط ىف مصر كان أحسن منه ردا ‪ ،‬وإن مل يكن أكثر منه ميال إىل اإلسالم ‪ ،‬وأرسل للنىب‬
‫صلى الّل ه عليه وسلم هدية حسنة ‪ ،‬مث ملا فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما لإلسالم‬
‫من مزايا أهر عوا إىل الدخول ىف الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبوال‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن النيب صلى الّل ه عليه وسلم واملؤمنني به رأوا ىف عصره من مودة النصارى‬
‫وقرهبم من اإلسالم بقدر مارأوا من عداوة اليهود واملشركني ‪ ،‬وأن من توقف من ملوكهم‬
‫عن اإلسالم فما كان توقفه إال ضنا مبلكه ‪ ،‬وأن النجاشي أصحمة ملك احلبشة قد أسلمت‬
‫مع ه بطانته من رج ال الدين والدنيا ‪ ،‬ولكن اإلسالم مل ينتش ر ىف احلبش ة بع د موته ‪ ،‬ومل‬
‫يهتم املسلمون بإقامة دينهم ىف تلك البالد كما فعلوا ىف مصر والشام‪.‬‬

‫مث بني سبحانه وتعاىل سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال ‪:‬‬

‫(ذِل َك ِب َأَّن ِم ْنُه ْم ِقِّس يِس َني َو ُر ْه بانًا َو َأَّنُه ْم ال َيْس َتْك ُرِبوَن ) أي إن السبب ىف هذه املودة أن‬
‫منهم قسيسني يتولون تعليمهم التعليم الديين ويهذبون أخالقهم ويربون فيهم اآلداب‬
‫والفضائل ‪ ،‬ورهبانا يع ّو دوهنم الزهد والتقش ف واإلعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها ‪،‬‬
‫ويكربون ىف نفوسهم اخلوف من الّل ه واالنقطاع لعبادته ‪ ،‬وأهنم ال يستكربون عن اإلذعان‬
‫للحق إذا ظهر أنه احلق ‪ ،‬إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل واخلضوع لكل حاكم ‪ ،‬بل‬
‫إهنم أمروا مبحبة األعداء ‪ ،‬وإدارة اخلّد األيسر ملن ضرب اخلد األمين‪ .‬فكل أولئك يؤّثر ىف‬
‫مجهور األمة وسوادها األعظم ‪ ،‬وق د عهد من النصارى قبول سلطة املخ الف هلم طوعا‬
‫واختيارا ‪ ،‬خبالف اليهود فإهنم إذا أظهروا الرضا اض طرارا أسّر وا الكيد وأضمروا املكر ‪،‬‬
‫ألن الش ريعة اليهودية تولد ىف نفوسهم العصبية اجلنسية واحلمّي ة القومي ة ‪ ،‬ألهنا خاصة‬
‫بشعب إسرائيل ‪ ،‬وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك‪.‬‬

‫(َو ِإذا ِمَس ُعوا ما ُأْنِز َل ِإىَل الَّر ُس وِل َترى َأْع ُيَنُه ْم َتِف يُض ِم َن الَّد ْم ِع َّمِما َعَر ُفوا ِم َن اَحْلِّق ) أي وإذا‬
‫مسع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إىل الرسول حممد صلى الّل ه عليه وسلم الذي‬
‫بعثه الّله رمحة للعاملني ترى أعينهم تفيض من الدمع حىت يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل‬

‫ما عرفوه من احلق الذي بّين ه هلم القرآن الكرمي ‪ ،‬ومل مينعهم ما مين ع غريهم من عتّو‬
‫واستكبار‪ .‬مث ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حاهلم فقال ‪:‬‬
‫(َيُقوُلوَن َر َّبنا آَم َّنا َفاْك ُتْبنا َم َع الَّش اِهِد يَن ) أي يقولون هذه املقالة قاصدين هبا إنشاء اإلميان‬
‫والتضرع إىل الّله واخلضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة حممد صلى الّل ه عليه وسلم‬
‫الذين جعلهم الّل ه تع اىل شهداء على الن اس ‪ ،‬ألهنم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه‬
‫عن أسالفهم أن الن يب األخري الذي يكمل به الدين ويتم به التش ريع الع ام يكون متبع وه‬
‫شهداء على الن اس ويكونون حج ة على املش ركني واملبطلني كما جاء ىف اآلية األخرى «‬
‫َو َك ذِلَك َجَعْلناُك ْم ُأَّم ًة َو َس طًا ِلَتُك وُنوا ُش َه داَء َعَلى الَّناِس َو َيُك وَن الَّر ُس وُل َعَلْيُك ْم َش ِه يدًا » ‪.‬‬

‫مث زادوا كالمهم توكيدا فقالوا ‪:‬‬

‫(وما لنا ال نؤمن بالّله وما جاءنا من احلق ؟ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصاحلني) أي‬
‫وأّى مانع مينعنا من اإلميان بالّل ه الذي ال إله إال هو ‪ ،‬ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من احلق‬
‫على لسان هذا النيب الكرمي ‪ ،‬بعد أن ظهر لنا أنه هو روح احلق الذي بشر به املسيح ؟ وإننا‬
‫لنطمع أن يدخلنا ربن ا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة ‪ ،‬والفضائل‬
‫واآلداب الكاملة ‪ ،‬وهم أتباع هذا الن يب الكرمي الذين استبان لن ا أث ر صالحهم وشاهدناه‬
‫بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد ىف األرض وعتّو كبري ىف جاهليتهم‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه ال مانع لن ا من هذا اإلميان بع د أن تظ اهرت أسبابه ‪ ،‬وحتققت موجباته‬


‫فوجب علينا اجلري على سننه ‪ ،‬واتباع هنجه وطريقه‪ .‬مث بني سبحانه ما جازاهم به على‬
‫ذلك فقال ‪:‬‬

‫(َفَأثاَبُه ُم الَّل ُه مِب ا قاُلوا َج َّناٍت ْجَتِر ي ِم ْن ْحَتِتَه ا اَأْلهْن اُر خاِلِد يَن ِفيها َو ذِل َك َج زاُء اْلُم ْح ِس ِنَني )‬
‫أي فجزاهم الّله وأعطاهم من الثواب مبا نطقت به ألسنتهم معربا عما ىف قلوهبم من خالص‬
‫اإلميان وصحيح االعتقاد ‪ -‬جن ات وحدائق ىف دار النعيم جترى من حتت أشجارها الوارفة‬
‫الظالل ‪ ،‬األهنار اليت تسيل مياهها سلسبيال ‪ ،‬خيلدون فيها أبدا فال يسلبها منهم أحد ‪ ،‬وال‬
‫هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها ‪ ،‬ومث ل هذا اجلزاء ق د أعده للذين أخلصوا ىف‬
‫عقائدهم وأحسنوا أعماهلم‪ .‬وعلينا أن نقف ىف وصف نعيم اآلخرة على ما جاء به القرآن‬
‫الكرمي وصحت به السنة النبوية ‪ ،‬وال نع د وذلك إىل ما وراءه ‪ ،‬فإن النعيم الروحاين‬
‫والرضوان اإلهلى ال ميكن أن يعرب عنه الكالم وال حييط به الوصف ‪ ،‬فنحن ىف عامل خيالف‬
‫ذلك العامل ىف أوصافه وخواصه ‪ ،‬مهما أكثرنا من الوصف ‪ ،‬فال نصل إىل شىء مما أعده‬
‫الّله هلم هناك « َفال َتْع َلُم َنْف ٌس ما ُأْخ ِف َي ُهَلْم ِم ْن ُقَّر ِة َأْع ٍنُي ‪َ ،‬ج زاًء مِب ا كاُنوا َيْع َم ُلوَن » ‪.‬‬

‫وبع د أن بني سبحانه ما أعّد لعباده احملسنني من عظيم الث واب ج زاء صادق إمياهنم ذكر‬
‫جزاء املسيئني إىل أنفسهم بالكفران والتكذيب جريا على سنة القرآن ىف اجلمع بني الوعد‬
‫والوعيد قال ‪:‬‬

‫(َو اَّلِذ يَن َك َف ُر وا َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتنا ‪ُ ،‬أولِئ َك َأْص حاُب اَجْلِح يِم ) اجلاحم واجلحيم ‪ :‬ما اشتد حّر ه‬
‫من الن ار أي وأما الذين جح دوا توحي د الّل ه وأنكروا نبوة حممد صلى الّل ه علي ه وسلم‬
‫وكذبوا بآيات كتابه ‪ ،‬فأولئك هم أصحاب النار وسكاهنا املقيمون فيها ال يربحوهنا‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 87‬الى ‪]88‬‬


‫يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ال َحُتِّر ُموا َطِّيباِت ما َأَح َّل الَّلُه َلُك ْم َو ال َتْع َتُد وا ِإَّن الَّلَه ال ِحُي ُّب اْلُم ْع َتِد يَن (‬
‫‪َ )87‬و ُك ُلوا َّمِما َر َز َقُك ُم الَّلُه َح الًال َطِّيبًا َو اَّتُقوا الَّلَه اَّلِذ ي َأْنُتْم ِبِه ُمْؤ ِم ُنوَن (‪)88‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن مدح سبحانه النصارى بأهنم أقرب الناس مودة للمؤمنني وذكر من أسباب ذلك أن‬
‫منهم قسيسني ورهبانا ‪ ،‬ظن املؤمنون أن ىف هذا ترغيبا ىف الرهبانية وظن امليالون للتقشف‬
‫والزهد أهنا منزلة تقّر هبم إىل الّله ‪ ،‬ولن تتحقق إال برتك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس‬
‫والنساء إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج ‪ ،‬وإما ىف أوقات معينة كأنواع الصيام اليت‬
‫ابتدعوها ‪ ،‬فأزال الّله هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهى الصريح‪.‬‬

‫روى ابن جرير وابن أىب حامت وابن مردويه عن ابن عباس ىف قوله ‪( :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ال‬
‫َحُتِّر ُموا َطِّيباِت ما َأَح َّل الَّل ُه َلُك ْم ) قال ‪ :‬نزلت هذه اآلية ىف رهط من تفسري الصحابة قالوا‬
‫نقطع مذاكرينا ونرتك شهوات الدنيا ونسيح ىف األرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النيب‬
‫صلى الّله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر هلم ذلك فقالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال النيب صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم « لكىن أصوم وأفطر ‪ ،‬وأصّلى وأنام ‪ ،‬وأنكح النساء فمن أخذ بسنىت فهو مىن ‪،‬‬
‫ومن مل يأخذ بسنىت فليس مىن » ‪.‬‬

‫وأخرج ابن جرير وابن املنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أىب‬
‫ط الب وابن مسعود واملقداد بن األسود وساملا موىل أىب حذيفة وقدامة تبتّل وا فجلسوا ىف‬
‫البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا املسوح وحّر موا طيبات الطعام واللباس إال ما يأكل ويلبس‬
‫أهل السياحة من بىن إسرائيل ‪ ،‬وّمهوا باالختصاء وأمجعوا على القيام باللي ل وصيام النهار‬
‫فنزلت اآلية « يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ال َحُتِّر ُم وا َطِّيباِت ما َأَح َّل الَّل ُه َلُك ْم » اآلية فلما نزلت‬
‫بعث إليهم رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم فقال ‪ « :‬إن ألنفسكم حقا ‪ ،‬وإن ألعينكم‬
‫حقا ‪ ،‬وإن ألهلكم حقا ‪ ،‬فصلوا وناموا ‪ ،‬وصوموا ‪ ،‬وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا »‬
‫فقالوا ‪ :‬اللهم صّد قنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا ال َحُتِّر ُموا َطِّيباِت ما َأَح َّل الَّلُه َلُك ْم َو ال َتْع َتُد وا) الطيبات ‪:‬‬

‫األشياء اليت تستلذها النفوس ومتيل إليها القلوب ‪ ،‬أي ال حتّر موا على أنفسكم ما أحل الّل ه‬
‫لكم من الطيبات بأن ترتكوا التمتع هبا عمدا تنسكا وتقربا إىل الّل ه ‪ ،‬وال تعتدوا فيها‬
‫وتتج اوزوا حد االعتدال إىل اإلسراف الضار باجلسد بأن تزيدوا على الّش بع والّر ى ‪ ،‬أو‬
‫جتعلوا التمتع هبا أكرب مهكم ىف احلياة ‪ ،‬أو تشغلكم عن األمور النافعة من العلوم واألعمال‬
‫املفيدة لكم ولبىن وطنكم‪.‬‬

‫واآلية مبع ىن قوله تع اىل ‪َ « :‬و ُك ُل وا َو اْش َر ُبوا َو ال ُتْس ِر ُفوا » أو ال تعتدوها ‪ :‬أي الطيبات‬
‫بتجاوزها إىل اخلبائث احملرمة‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن االعتداء يشمل أمرين ‪ :‬االعتداء ىف الشيء نفسه باإلسراف فيه ‪ ،‬واالعتداء‬
‫بتجاوزه إىل غريه مما ليس من جنسه وهو اخلبائث‪.‬‬

‫مث علل اهلى عن االعتداء مبا ينفر منه فقال ‪:‬‬


‫(ِإَّن الَّل َه ال ِحُي ُّب اْلُم ْع َت ِد يَن ) أي ال حيب الّل ه من يتج اوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته‬
‫وحترمي طيباته اليت أحلها ‪ ،‬سواء أ كان التح رمي من غري التزام بيمني أو نذر أو بالتزام ‪،‬‬
‫وكل منهما غري جائز‪.‬‬

‫وااللتزام ق د يكون لرياض ة النفس وهتذيبها باحلرمان من الطيبات ‪ ،‬وق د يكون ناشئا عن‬
‫بادرة غضب من زوجة أو ولد كمن حيلف بالّل ه أو بالطالق أال يأكل من هذا الطعام أو‬
‫حنوه من املباحات ‪ ،‬أو يقول إن فعل كذا فهو برىء من اإلسالم أو من الّل ه ورسوله أو حنو‬
‫ذلك وكل هذا منهى عن ه شرعا وال حيرم على أحد شىء منها حيرمه على نفسه هبذه‬
‫األقوال ‪ ،‬وال كفارة ىف ميني حيلفه احلالف ىف حنو ذلك عند الشافعي‪.‬‬

‫وحترمي الطيبات والزين ة وتع ذيب النفس من العبادات املأثورة عن د ق دماء اليهود واليونان‬
‫قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى فإهنم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما‬
‫مل حتّر مه الكتب املقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة واملبالغة ىف الزهد‪.‬‬

‫وملا جاء اإلسالم وأرسل الّل ه نبيه حممدا خامت النبيني مبا فيه السعادة التامة للبشر ىف دنياهم‬
‫وآخرهتم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إىل إعطاء البدن حقه والروح‬
‫حقه ‪ ،‬فاإلنسان ما هو إال روح وجسد فيجب العدل بينهما ‪ ،‬وبذا كانت األمة اإلسالمية‬
‫أمة وسطا تشهد على مجيع األمم وتكون حجة عليها يوم القيامة‪.‬‬

‫واحلكمة ىف ذلك النهى أن الّل ه حيب أن يستعمل عباده نعمه فيها خلقت ألجله ويشكروه‬
‫على ذلك ‪ ،‬ويكره هلم أن جينوا على الشريعة اليت شرعها هلم فيغلوا فيها بتحرمي ما مل حيرمه‬
‫‪ ،‬كما يكره هلم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرض ه ‪ ،‬وق د أشار إىل ذلك‬
‫ِل ِه ِإ‬ ‫ِت‬ ‫ِم‬ ‫ِذ‬
‫بقوله ‪ « :‬يا َأُّيَه ا اَّل يَن آَم ُن وا ُك ُل وا ْن َطِّيبا ما َر َز ْقناُك ْم تفسري َو اْش ُك ُر وا َّل ْن ُك ْنُتْم‬
‫ِإَّياُه َتْع ُبُد وَن »‬

‫وورد ىف األثر « إن الّله طّيب ال يقبل إال طيبا » ‪.‬‬

‫(َو ُك ُل وا َّمِما َر َز َقُك ُم الَّل ُه َح الاًل َطِّيبًا) أي وكلوا مما رزقكم الّل ه من احلالل ىف نقسه ال من‬
‫احملرمات كامليتة والدم املسفوح وجلم اخلنزير ‪ ،‬ومن احلالل ىف كسبه وتناوله بأال يكون ربا‬
‫وال سحتا ‪ ،‬وال سرقة ‪ ،‬مع كونه مستلذا غري مستقذر لذاته أو لطارئ‪ .‬يطرأ عليه من فساد‬
‫أو تغري لطول مكث وحنوه‪.‬‬

‫واألكل ىف اآلية يراد به التمتع الشامل للشرب وحنوه من حالل غري مسكر وال ضار ‪ ،‬ومن‬
‫كل طيب غري مستقذر ىف ذاته أو لطارئ يطرأ عليه‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه ينبغى للمؤمن أن يتمتع مبا تيسر له من الطيبات بال تأمث وال حترج ‪ ،‬وحيضر‬
‫قلبه أنه عامل بشرع الّله مقيم لسنة الفطرة اليت فطر الّل ه الناس عليها ‪ ،‬شاكر له باالعرتاف‬
‫واحلمد والثناء عليه ‪ ،‬كما أن امتناعه عن الطيبات اليت رزقه الّل ه إياها مع الداعية الفطرية‬
‫إىل االستمتاع هبا إمث جينيه على نفسه ىف الدنيا ويستحق به عقاب اآلخرة ‪ ،‬لزيادته ىف دين‬
‫الّله قربات مل يأذن هبا ‪ ،‬وإلضاعة حقوق الّله وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله‪.‬‬

‫والتح رمي والتحلي ل تش ريع وهو من حقوق الّل ه فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبي ة أو‬
‫كاملدعى هلا‪.‬‬
‫ِتِه‬ ‫ٍة ِم‬ ‫ِل ِف‬
‫وعن احلسن البصري ‪ :‬إن الّله أدب عباده فأحسن أدهبم فقال ‪ُ « :‬يْن ْق ُذو َس َع ْن َس َع‬
‫» ما عاب الّل ه قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأط اعوا ‪ ،‬وال عذر قوما زواها عنهم‬
‫فعصوه‪ .‬وعنه أنه قيل له فالن ال يأكل الفالوذج ويقول ال أؤدى شكره ‪ ،‬قال أ فيشرب‬
‫املاء البارد ؟ قالوا نعم ‪ ،‬قال إنه جاهل ‪ ،‬إن نعمة الّل ه علي ه ىف املاء البارد أكثر من نعمته‬
‫عليه ىف الفالوذج (البلوظة)‪.‬‬

‫(َو اَّتُق وا الَّل َه اَّل ِذ ي َأْنُتْم ِب ِه ُمْؤ ِم ُن وَن ) أي واتقوه ىف األكل واللباس والنساء وغريها ‪ ،‬فال‬
‫تفتاتوا علي ه ىف حتلي ل وال حترمي ‪ ،‬وال تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم ‪ ،‬تفسري إذ من‬
‫جعل شهوة بطنه أكرب مهه كان من املسرفني ‪ ،‬ومن بالغ ىف الشبع وعّر ض معدته وأمعاءه‬
‫للّتخمة كان من املسرفني ‪ ،‬ومن أنفق ىف ذلك أكثر من طاقته وعّر ض نفسه لذل الدين أو‬
‫أكل أموال الناس بالباطل فهو من املسرفني والّل ه يقول « َو ُك ُلوا َو اْش َر ُبوا َو ال ُتْس ِر ُفوا ِإَّنُه ال‬
‫ِحُي ُّب اْلُمْس ِر ِفَني » واخلالصة ‪ -‬إن هدى القرآن ىف الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة‬
‫املعتدلة من التمتع هبا مع االعتدال والتزام احلالل‪ .‬واالعتدال هو الصراط املستقيم الذي يقل‬
‫سالكه ‪ ،‬فكث ري من الن اس حيي دون عن ه ومييلون ىف التمتع إىل ج انب اإلفراط واإلسراف ‪،‬‬
‫ويكونون كاألنع ام بل أض ل ألهنم جين ون على أنفسهم حىت ق ال بعض احلكماء إن أكثر‬
‫الناس حيفرون قبورهم بأسناهنم‪.‬‬

‫وقليلون منهم ينحرفون إىل ج انب التفريط والتقتري إما اض طرارا لبؤسهم وعدمهم وإما‬
‫اختيارا كالزهاد واملتقشفني‪.‬‬
‫وسبيل االعتدال سبيل شاقة على النفوس ‪ ،‬عسرة على سالكها ‪ ،‬كلها تدل على فضيلة‬
‫العقل ورجحانه‪.‬‬

‫واملع روف من سرية الرسول أنه كان يأكل ما وج ده فتارة يأكل أطيب الطع ام كلح وم‬
‫األنع ام والطري والدجاج ‪ ،‬وتارة يأكل أخش نه كخ بز الش عري بامللح أو الزيت أو اخلل ‪،‬‬
‫وحينا جيوع وأخرى يشبع ‪ ،‬فكان ىف كل ذلك قدوة للموسر واملعسر‪.‬‬

‫وما كان يهمه أمر الطعام ‪ ،‬لكنه كان يعىن بأمر الشراب ففى حديث عائشة « كان أحّب‬
‫الشراب إىل رسول الّله صلى الّله عليه وسلم اخللو البارد » قال احملّد ثون ‪:‬‬

‫ويدخل ىف ذلك املاء القراح واملاء احمللى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب‪.‬‬

‫(َو كاَن الَّل ُه َغُف ورًا َر ِح يمًا) أي وكان الّل ه غفورا هلفوات من صح إميانه ومل يش رك بربه‬
‫أحدا ‪ ،‬ومل يفّر ق بني أحد من رسله ‪ ،‬رحيما به يعامله باإلحسان ويضاعف حسناته ويزيد‬
‫على ما وعد تفضال منه ورمحة‪.‬‬

‫[سورة النساء (‪ : )4‬اآليات ‪ 153‬الى ‪]159‬‬


‫ِل‬ ‫ِء‬
‫َيْس َئُلَك َأْه ُل اْلِكتاِب َأْن ُتَنِّز َل َعَلْيِه ْم ِكتابًا ِم َن الَّس ما َفَق ْد َس َأُلوا ُموسى َأْك َبَر ِم ْن ذ َك‬
‫ِع ِم ِد‬ ‫ِع ِب ِم ِه‬ ‫ِر َّل‬
‫َفقاُلوا َأ َن ا ال َه َج ْه َر ًة َفَأَخ َذ ْتُه ُم الَّص ا َقُة ُظْل ْم َّمُث اَخَّتُذ وا اْل ْج َل ْن َبْع ما ج اَءْتُه ُم‬
‫اْلَبِّيناُت َفَعَف نا َعْن ذِلَك آَتْينا ُموسى ُس ْلطانًا ُمِبين ًا (‪َ )153‬فْع نا َف َقُه الُّطو ِمِبيثاِقِه‬
‫ْم‬ ‫ْو ُم َر‬ ‫َو َر‬ ‫َو‬ ‫ْو‬
‫َو ُقْلن ا ُهَلُم اْد ُخ ُل وا اْلباَب ُس َّج دًا َو ُقْلن ا ُهَلْم ال َتْع ُد وا يِف الَّس ْبِت َو َأَخ ْذ نا ِم ْنُه ْم ِم يثاق ًا َغِليظ ًا (‬
‫‪َ )154‬فِبما َنْق ِض ِه ْم ِم يث اَقُه ْم َو ُكْف ِر ِه ْم ِبآياِت الَّل ِه َو َقْتِلِه ُم اَأْلْنِبي اَء ِبَغِرْي َح ٍّق َو َقْو ِهِلْم ُقُلوُبن ا‬
‫ِهِل‬ ‫ِه‬ ‫ِل‬ ‫ِم‬ ‫ِه‬
‫ُغْلٌف َبْل َطَبَع الَّل ُه َعَلْيها ِبُك ْف ِر ْم َفال ُيْؤ ُنوَن ِإَّال َق يًال (‪َ )155‬و ِبُك ْف ِر ْم َو َقْو ْم َعلى َمْر َمَي‬
‫ُبْه تانًا َعِظ يمًا (‪َ )156‬و َقْو ِهِلْم ِإَّنا َقَتْلَن ا اْلَم ِس يَح ِعيَس ى اْبَن َم ْر َمَي َرُس وَل الَّل ِه َو ما َقَتُل وُه َو ما‬
‫َص َلُبوُه َو لِكْن ُش ِّبَه ُهَلْم َو ِإَّن اَّلِذ يَن اْخ َتَلُفوا ِفيِه َلِف ي َش ٍّك ِم ْنُه ما ُهَلْم ِب ِه ِم ْن ِعْلٍم ِإَّال اِّتباَع الَّظِّن‬
‫َو ما َقَتُل وُه َيِق ين ًا (‪َ )157‬ب ْل َر َفَع ُه الَّل ُه ِإَلْي ِه َو كاَن الَّل ُه َعِز يزًا َح ِكيمًا (‪َ )158‬و ِإْن ِم ْن َأْه ِل‬
‫اْلِكتاِب ِإَّال َلُيْؤ ِم َنَّن ِبِه َقْبَل َمْو ِتِه َو َيْو َم اْلِق ياَم ِة َيُك وُن َعَلْيِه ْم َش ِه يدًا (‪)159‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن بني سبحانه ىف سابق اآليات حال الذين يكفرون بالّل ه ورسله ويفرق ون بني الّل ه‬
‫ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب ‪ ،‬بني ىف هذه اآليات بعض‬
‫حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم حبقيقة الدين‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َيْس َئُلَك َأْه ُل اْلِكتاِب َأْن ُتَنِّز َل َعَلْيِه ْم ِكتابًا ِم َن الَّس ماِء ) فقد قالوا إن موسى عليه السالم‬
‫جاء باأللواح من عند الّله فائتنا بألواح من عنده تكون خبط مساوى يشهد أنك رسول الّل ه‬
‫إلينا‪.‬‬

‫أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال ‪ :‬إن اليهود قالوا حملمد صلى الّله عليه وسلم لن نبايع ك‬
‫على ما تدعونا إليه حىت تأتينا بكتاب من عند الّل ه يكون فيه (من الّل ه تعاىل إىل فالن إنك‬
‫رسول الّل ه وإىل فالن إنك رسول الّل ه ‪ ،‬وهكذا ذكروا أمساء معين ة من أحبارهم ‪ ،‬وما‬
‫مقصدهم من ذلك إال التعنت والتحكم ال طلب احلج ة ألج ل االقتن اع) وق ال احلسن لو‬
‫ِم ِل‬
‫سألوه ذلك اسرتشادا ألعطاهم ما سألوا (َفَقْد َس َأُلوا ُموسى َأْك َبَر ْن ذ َك َفقاُلوا َأِر َنا الَّل َه‬
‫َج ْه َر ًة) أي عيانا ننظر إليه ونشاهده ‪ :‬أي ال تعجب أيها الرسول من سؤاهلم وتستنكره فقد‬
‫سألوا موسى أكرب من ذلك ‪ ،‬وكل من السؤالني يدل على جهل أو عناد‪.‬‬

‫ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على اجلهل بالّله ‪ ،‬إذ هم ظنوا أن الّل ه جسم حمدود تدركه‬
‫األبصار ‪ ،‬وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دلي ل إما على العن اد ألهنم اق رتحوا ما اق رتحوا‬
‫تعجيزا ومراوغة ‪ ،‬وإما على اجلهل مبعىن النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء ‪ ،‬إذ هم‬
‫ال مييزون بني اآليات الصحيحة اليت يؤيد الّل ه هبا رسله وبني الش عوذة وحي ل السحرة‬
‫املخالفة للع ادة ‪ ،‬وكتبهم ق د بينت هلم أنه يقوم فيهم أنبي اء كذبة وأن يع رف بدعوته إىل‬
‫التوحي د واحلق ال مبج رد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة ىف سفر تثني ة‬
‫االشرتاع وغريه‪.‬‬
‫وأيا ما كان فال فائدة ىف إجابتهم إىل ما طلبوا كما قال تعاىل ‪َ « :‬لْو َنَّز ْلنا َعَلْي َك ِكتابًا يِف‬
‫َو‬
‫ِقْر طاٍس َفَلَم ُس وُه ِبَأْيِد يِه ْم َلقاَل اَّلِذ يَن َك َف ُر وا ِإْن هذا ِإاَّل ِس ْح ٌر ُمِبٌني » ‪.‬‬

‫ونسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إمنا هم سلفهم ‪ ،‬ألن اخللف والسلف سواسية ىف‬
‫األخالق والصفات ‪ ،‬فاألبناء يرثون اآلباء وال سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ‪،‬‬
‫وألن سنة القرآن قد جرت على أن األمة تعد كالشخص الواحد ىف اتباع خلفها لسلفها ‪،‬‬
‫فينسب إىل املتأخر ما فعله املتقدم كما سبق هذا ىف سورة البقرة ىف خماطبة اليهود وغريهم‪.‬‬
‫(َفَأَخ َذ ْتُه ُم الَّص اِعَقُة ِبُظْلِم ِه ْم ) الصواعق نريان جوية تنش أ من احتاد الكهرباء املوجبة‬
‫بالكهرباء السالبة ‪ ،‬وقوله بظلمهم ‪ :‬أي بسبب ظلمهم ‪ :‬أي إن الّل ه تع اىل عاقبهم على‬
‫جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا هلم ‪ ،‬إذ شبهوا اخلالق باملخلوق ورفعوا أنفسهم فوق‬
‫أقدارها كما قال تعاىل « َو ما َقَد ُر وا الَّلَه َح َّق َقْد ِرِه » ‪.‬‬

‫(َّمُث اَخَّتُذ وا اْلِعْج َل ِم ْن َبْع ِد ما جاَءْتُه ُم اْلَبِّيناُت َفَعَف ْو نا َعْن ذِلَك ) تقدم هذا ىف سورة البقرة ‪:‬‬
‫أي وبعد أن جاءهتم املعجزات على يد موسى عليه السالم من قلب العصا حية واليد بيضاء‬
‫وفلق البح ر وغريها ‪ ،‬اختذوا العج ل إهلا وعبدوه ‪ ،‬فعفونا عن ذلك الذنب حني تابوا ‪،‬‬
‫فتوبوا أنتم مثلهم حىت نعفو عنكم مثلهم‪.‬‬

‫(َو آَتْين ا ُموسى ُس ْلطانًا ُمِبين ًا) السلطان هن ا مبع ىن السلطة ‪ :‬أي إنن ا أعطين اه سلطة ظ اهرة‬
‫فأخضعناهم له على متردهم وعنادهم حىت ىف قتل أنفسهم‪.‬‬

‫وىف هذا بش ارة للن ىب صلى الّل ه علي ه وسلم بأن هؤالء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك‬
‫ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم‪.‬‬

‫مث حكى عز امسه عنهم سائر جهاالهتم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها ىف سورة‬
‫البقرة فقال ‪:‬‬

‫(َو َر َفْع نا َفْو َقُه ُم الُّطوَر ِمِبيثاِقِه ْم ) الطور اجلبل املعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا ىف‬
‫واديه ‪ ،‬وقوله مبيث اقهم ‪ :‬أي بسبب ميث اقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به‬
‫خملصني مث امتنعوا من العمل مبا جاء به فرفع عليهم اجلبل فخافوا وقبلوا العمل به‪.‬‬
‫(َو ُقْلن ا ُهَلُم اْد ُخ ُل وا اْلباَب ُس َّج دًا) الباب هو باب املدين ة وهى بيت املقدس وقي ل أرحيا ‪،‬‬
‫وقوله سجدا ‪ :‬أي خاض عى الرءوس مائلى األعناق ذلة وانكسارا لعظمته ‪ :‬أي وقلن ا هلم‬
‫على لسان يوشع عليه السالم ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار‪.‬‬

‫(َو ُقْلن ا ُهَلْم ال َتْع ُد وا يِف الَّس ْبِت ) واالعتداء جتاوز احلد ‪ ،‬واالعتداء ىف السبت هو اصطياد‬
‫احليتان فيه ‪ :‬أي وقلنا هلم على لسان داود عليه السالم ال تتجاوزوا حدود الّل ه فيه بالعمل‬
‫الدنيوي ‪ ،‬وقد خالفوا ىف السبت وىف دخول الباب‪.‬‬

‫(َو َأَخ ْذ نا ِم ْنُه ْم ِم يثاق ًا َغِليظ ًا) امليثاق الغليظ العهد املؤكد ‪ :‬أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا‬
‫ليأخذّن التوراة بقوة ‪ ،‬وليقيمّن حدود الّله وال يتعدوهنا ‪ ،‬ويتبع ذلك البشارة بعيسى وحممد‬
‫عليهما السالم وهو موجود إىل اآلن ىف الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية‬
‫االشرتاع وهو آخر التوراة اليت بأيديهم‪.‬‬

‫(َفِبما َنْق ِض ِه ْم ِم يثاَقُه ْم َو ُكْف ِر ِه ْم ِبآياِت الَّلِه َو َقْتِلِه ُم اَأْلْنِبياَء ِبَغِرْي َح ٍّق ) أي فبسبب نقض أهل‬
‫الكتاب للميثاق الذي واثقهم الّل ه به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ‪ ،‬وكفرهم بآياته‬
‫وحجج ه الدالة على صدق أنبيائه ‪ ،‬وقتل األنبي اء الذين أرسلوا هلدايتهم كزكريا وحيىي‬
‫عليهما السالم‪.‬‬

‫(َو َقْو ِهِلْم ُقُلوُبنا ُغْلٌف ) مجع أغلف وهو ما عليه غالف ‪ :‬أي ال ينفذ إليها شىء مما جاء به‬
‫الرسول وال يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن املشركني « َو قاُلوا ُقُلوُبنا يِف َأِكَّن ٍة َّمِما َتْد ُعونا‬
‫ِإَلْي ِه َو يِف آذاِننا َو ْقٌر َو ِم ْن َبْيِننا َو َبْيِن َك ِح جاٌب » وغري ذلك من سيئاهتم اليت ستذكر بعد ‪-‬‬
‫فعلنا هبم ما فعلنا من لعن إىل غضب إىل ضرب الذلة واملسكنة وإزالة امللك واالستقالل ‪،‬‬
‫ألن هذه الذنوب فرقت مشلهم وذهبت بقوهتم وأفسدت أخالقهم إىل غري ذلك من أنواع‬
‫البالء اليت سببها الكفر والعصيان‪.‬‬

‫(َبْل َطَبَع الَّل ُه َعَلْيها ِبُك ْف ِر ِه ْم ) طبع الّل ه عليها جعلها كالسكة املطبوعة (الدراهم مثال) ىف‬
‫قساوهتا وجعلها بوض ع خاص ال تقبل غريه ‪ :‬أي ليس ما وصفوا به قلوهبم هو احلق‬
‫الواقع ‪ ،‬بل ألن الّل ه ختم عليها بسبب كفرهم الكسيب وماله من األثر القبيح ىف أعماهلم‬
‫وأخالقهم ‪ ،‬فهم باستمرارهم على ذلك الكفر ال ينظ رون ىف شىء آخر نظ ر استدالل‬
‫واعتبار ‪ ،‬مع أنه من األمور اليت يصل إليها اختي ارهم ‪ ،‬ولكنهم ال خيتارون إال ما ألفوا‬
‫وتعودوا‪.‬‬

‫(َفال ُيْؤ ِم ُن وَن ِإاَّل َقِلياًل ) أي إال قليال من اإلميان ال يعتد به ‪ ،‬ألنه تفريق بني الّل ه ورسله ‪،‬‬
‫فالكفر ببعضهم كالكفر جبميعهم ‪ ،‬وهم قد كفروا بعيسى وحممد عليهما السالم‪.‬‬

‫(َو ِبُك ْف ِر ِه ْم َو َقْو ِهِلْم َعلى َم ْر َمَي ُبْه تانًا َعِظ يمًا) املراد بالكفر هن ا الكفر بعيسى علي ه السالم‬
‫بدليل ما بعده ‪ ،‬وبالكفر الذي قبله الكفر مبحمد صلى الّل ه عليه وسلم بقرينة قوله ‪ :‬وقالوا‬
‫قلوبن ا غلف ‪ ،‬والبهتان ‪ :‬الكذب الذي يبهت من يقال في ه ‪ :‬أي يدهش ه وحيرّي ه لبع ده‬
‫وغرابته ‪ ،‬واملراد به هنا رميها بالفاحشة‪.‬‬

‫واملعىن ‪ -‬إن الّله طبع على قلوهبم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم ‪،‬‬
‫وأي هبتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا ؟ ‪.‬‬
‫واخلالصة ‪ -‬إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل هبم من غضب الّله‪.‬‬
‫(َو َقْو ِهِلْم ِإَّنا َقَتْلَنا اْلَم ِس يَح ِعيَس ى اْبَن َمْر َمَي َرُس وَل الَّلِه) أي وبسبب قوهلم هذا القول املؤذن‬
‫باجلرأة على الباطل واالستهزاء بآيات الّله‪.‬‬
‫وذكروه بوصف الرسالة هتكما واستهزاء بدعوته ‪ ،‬بناء على أنه إمنا ادعى النبوة والرسالة‬
‫فيهم ال األلوهية كما ادعت النصارى ‪ ،‬إذ جاء ىف إجنيل يوحنا (وهذه هى احلياة األبدية أن‬
‫يعرفوك أنت اإلله احلقيقي وحدك ويسوع املسيح الذي أرسلته)‪.‬‬
‫(َو ما َقَتُلوُه َو ما َص َلُبوُه َو لِكْن ُش ِّبَه ُهَلْم ) أي واحلال أهنم ما قتلوه كما ادعوا ‪ ،‬وما صلبوه‬
‫كما زعموا وشاع بني الناس ‪ ،‬ولكن وقع هلم الشبه فظنوا أهنم صلبوا عيسى وهم إمنا‬
‫صلبوا غريه ‪ ،‬ومثل هذا الشبه حيدث كثريا ىف كل زمان وحتكى عنه نوادر وحوادث غاية‬
‫ىف الغرابة لكنها قد وقعت فعال‪.‬‬
‫فقد ذكر بعض املؤلفني ىف الطب الشرعي من اإلجنليز حادثة وقعت سنة ‪ 1539‬ىف فرنسا‬
‫استحضر فيها ‪ 150‬شخصا ملعرفة شخص يدعى (مارتني جري) جزم أربعون منهم بأنه هو‬
‫هو وقال مخسون انه غريه والباقون ترددوا ومل ميكنهم أن يبدوا رأيا مث اتضح من التحقيق‬
‫أن هذا الشخص كان غري مارتني جري واخندع به هؤالء الشهود املثبتون وعاش مع زوجته‬
‫مارتني حموط ا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثالث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتني ‪ ،‬وملا‬
‫حكمت احملكمة علي ه بظهور كذبه بالدالئل القاطع ة استأنف احلكم ىف حمكمة أخرى‬
‫فأحضر ثالث ون شاهدا أقسم عش رة منهم بأنه هو مارتني ‪ ،‬وق ال سبعة إنه غريه وتردد‬
‫الباقون‪.‬‬

‫على أن هذا احلادث من خوارق الع ادات اليت أيد الّل ه هبا نبي ه عيسى بن مرمي وأنقذه من‬
‫أعدائه فألقى شبهه على غريه وغرّي شكله ‪ ،‬فخ رج من بينهم وهم ال يش عرون ‪ ،‬وىف‬
‫أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل ‪ :‬وإذا كان املسيح قد جنا‬
‫من أعدائه فأين ذهب ؟ واجلواب أنا إذا قلن ا إنه رفع بروحه وجسده إىل السماء فال ترد‬
‫هذه الشبهة ‪ ،‬وإذا قلنا إن الّل ه توفاه ىف الدنيا مث رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السالم‬
‫فال غرابة ىف ذلك ‪ ،‬فإن أخاه موسى عليه السالم قد انفرد عن قومه ىف مكان مل يعرفه أحد‬
‫منهم ‪ ،‬وكانوا ألوفا عدة خاض عني ألمره وهني ه ‪ ،‬فكي ف يستغرب أن يفّر عيسى علي ه‬
‫السالم من قوم هم أعداء له ‪ ،‬ال وىل له فيهم وال نصري إال أفراد من الضعفاء قد انفّض وا من‬
‫حوله وقت الشدة ‪ ،‬وقد أنكره أمثلهم بطرس احلوارى ثالث مرات ؟ ‪.‬‬

‫(َو ِإَّن اَّل ِذ يَن اْخ َتَلُف وا ِفي ِه َلِف ي َش ٍّك ِم ْن ُه ما ُهَلْم ِب ِه ِم ْن ِعْلٍم ِإاَّل اِّتباَع الَّظِّن ) ق ال ىف لسان‬
‫الع رب ‪ :‬الش ك ض د اليقني ‪ ،‬فالش ك ىف صلب املسيح هو الرتدد في ه أهو املصلوب أم‬
‫غريه ؟‬

‫واملعىن ‪ -‬وإن الذين اختلفوا ىف شأن عيسى من أهل الكتاب لفى تردد من حقيقة أمره ‪ ،‬إذ‬
‫ليس هلم به من علم قطعّى الثبوت ‪ ،‬وإمنا هم يتبعون الظن والقرائن اليت ترجح بعض اآلراء‬
‫على بغض ‪ ،‬وق د ج اء ىف بعض األناجي ل اليت يعّو لون عليها أنه ق ال لتالمي ذه (كلكم‬
‫تشّك ون ىف هذه الليلة) أي الليلة اليت يطلب فيها للقتل (إجنيل مىت من ‪ 31 - 26‬ومرقس‬
‫من ‪.)27 - 14‬‬

‫وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخرب تالميذه أو عرف الناس له بأهنم سيشكون فيه ىف ذلك‬
‫الوقت ‪ ،‬وخربه صادق قطعا ‪ ،‬فهل من العجيب اشتباه غريهم وشّك من دوهنم ىف أمره ؟ ‪.‬‬
‫(َو ما َقَتُل وُه َيِق ين ًا) أي وما قتلوا عيسى بن مرمي وهم متيقنون أنه هو بعين ه ‪ ،‬إذ هم مل‬
‫يكونوا يعرفونه حق املعرفة ‪ ،‬واألناجيل اليت يعّو ل عليها صرحية ىف أن الذي أسلمه إىل اجلند‬
‫هو يهوذا االسخريوطي وقد جعل هلم عالمة أن من قبله يكون هو املسيح فلما قّبله قبضوا‬
‫علي ه ‪ ،‬وإجني ل برنابا يصرح بأن اجلن ود أخذوا يهوذا االسخريوطي نفسه ظن ا أنه هو‬
‫املسيح ‪ ،‬ألنه ألقى عليه شبهه ‪ ،‬ومن هذا تعلم أن اجلند ما كانوا يعرفون شخص املسيح‬
‫معرفة يقينية‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن روايات املسلمني مجيعها متفقة على أن عيسى عليه السالم جنا من أعدائه‬
‫ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو‪.‬‬
‫ِف‬
‫(َبْل َر َفَعُه الَّلُه ِإَلْيِه) هذه اآلية كآية آل عمران « ِإْذ قاَل الَّل ُه يا ِعيسى ِإيِّن ُمَتَو ِّفي َك َو را ُع َك‬
‫ِإَّيَل َو ُمَطِّه ُر َك ِم َن اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا » وق د روى عن ابن عباس أنه فسر التوىف باإلماتة ‪ ،‬وعن‬
‫ابن جريج تفسريه باألخذ والقبض واملراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من‬
‫الّله بعد أن اصطفاه إليه وقربه‪.‬‬

‫وق ال ابن جرير نقال عن ابن ج ريج ‪ :‬فرفع ه إياه توفي ه إياه وتطهريه من الذين كفروا أي‬
‫فليس املراد الرفع إىل السماء بالروح واجلسد وال بالروح فقط ‪ ،‬وىف تفسري ابن عباس معىن‬
‫الرفع رفع الروح ‪ ،‬ولكن املشهور بني مجهرة املفسرين وغريهم أن الّل ه تعاىل رفعه بروحه‬
‫وجسده إىل السماء بدليل حديث املعراج ‪ ،‬إذ أن النيب صلى الّل ه عليه وسلم رآه هو وابن‬
‫خالته حيىي ىف السماء الثاني ة ‪ ،‬وأنت ترى أنه ال دلي ل هلم ىف ذلك إذ لو دل هذا على ما‬
‫يقولون لدل على رفع حيىي وسائر من رآهم من األنبياء ىف سائر السموات وال قائل بذلك‪.‬‬
‫وقال الرازي ‪ -‬املعىن رافعك إىل حمل كرامىت ‪ ،‬وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية‬
‫عن إبراهيم « ِإيِّن ذاِه ٌب ِإىل َر يِّب » وهو إمنا ذهب من الع راق إىل الش ام ‪ ،‬واملراد رفع ه إىل‬
‫مكان ال ميلك احلكم فيه عليه إال الّله اه‪.‬‬

‫(َو كاَن الَّل ُه َعِز يزًا َح ِكيمًا) أي إن الّل ه عزيز يغلب وال يغلب ‪ ،‬وهبذه الع زة أنقذ عبده‬
‫ورسوله من اليهود املاكرين وحكام الروم الظ املني ‪ ،‬وحبكمته ج ازى كل عامل بعمله ‪،‬‬
‫ومن مث أحل باليهود ما أحل هبم من الذلة واملسكنة والتش ريد ىف األرض ‪ ،‬وسيوفيهم‬
‫جزاءهم يوم القيامة « َيْو َم ال ْمَتِلُك َنْف ٌس ِلَنْف ٍس َش ْيئًا َو اَأْلْم ُر َيْو َم ِئٍذ ِلَّلِه » ‪.‬‬

‫(َو ِإْن ِم ْن َأْه ِل اْلِكتاِب ِإاَّل َلُيْؤ ِم َنَّن ِبِه َقْب َل َمْو ِتِه) أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عند ما‬
‫يدركه املوت ينكشف له احلق ىف أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إميانا حقا‬
‫ال زيغ في ه وال ض الل ‪ ،‬فاليهودى يعلم أنه رسول صادق ىف رسالته ليس بالكذاب ‪،‬‬
‫والنصراين يعلم أنه عبد الّله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن لّله‪.‬‬

‫وفائدة إخبارهم بذلك ‪ -‬بيان أنه ال ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطّر وا‬
‫إليه مع عدم اجلدوى والفائدة‪.‬‬

‫(َو َيْو َم اْلِق ياَم ِة َيُك وُن َعَلْيِه ْم َش ِه يدًا) أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم مبا تظهر به حقيقة‬
‫حاله معهم كما حكى الّله عنه من قوله ‪ « :‬ما ُقْلُت ُهَلْم ِإاَّل ما َأَمْر َتيِن ِبِه َأِن اْع ُبُد وا الَّل َه َر يِّب‬
‫َو َر َّبُك ْم َو ُك ْنُت َعَلْيِه ْم َش ِه يدًا ما ُدْمُت ِفيِه ْم » فهو يش هد للمؤمنني منهم باإلميان حال‬
‫التكلي ف واالختي ار وعلى الكافر بالكفر ‪ ،‬إذ هو مرسل إليهم وكل نىب شهيد على قومه‬
‫كما قال تعاىل (َفَك ْيَف ِإذا ِج ْئنا ِم ْن ُك ِّل ُأَّم ٍة ِبَش ِه يٍد َو ِج ْئنا ِبَك َعلى هُؤ الِء َش ِه يدًا) وقد ورد‬
‫ىف اآلثار ما يدل على اطالع الناس قبل موهتم على منازهلم من اآلخرة ‪ ،‬فيبّش رون برضوان‬
‫الّله أو بعذابه وعقوبته ‪ ،‬روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال ‪ :‬قال رسول الّل ه صلى‬
‫الّل ه عليه وسلم « إن املؤمن إذا حضره املوت بّش ر برضوان الّل ه وكرامته ‪ ،‬وإن الكافر إذا‬
‫حضر (حضره املوت) بشر بعذاب الّل ه وعقوبته » وروى ابن مردويه عن ابن عباس « ما‬
‫من نفس تفارق الدنيا حىت ترى مقعدها من اجلنة أو النار » ‪ .‬وهذا يؤيد ما روى عن ابن‬
‫عباس ىف تفسري اآلية من أن املالئكة ختاطب من ميوت من أهل الكتاب قبل خروج روحه‬
‫حبقيقة أمر املسيح ‪ ،‬مع اإلنكار الشديد والتقبيح‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 48‬الى ‪]50‬‬

‫َو َأْنَز ْلنا ِإَلْيَك اْلِكتاَب ِباَحْلِّق ُمَص ِّدقًا ِلما َبَنْي َيَد ْيِه ِم َن اْلِكتاِب َو ُمَهْيِم ن ًا َعَلْي ِه َفاْح ُك ْم َبْيَنُه ْم مِب ا‬
‫ِم‬ ‫ِم ِش‬ ‫ِل‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬
‫َأْنَز َل الَّلُه َو ال َتَّت ْع َأْه واَءُه ْم َعَّم ا جاَءَك َن اَحْلِّق ُك ٍّل َجَعْلنا ْنُك ْم ْر َعًة َو ْنهاج ًا َو َلْو شاَء‬
‫ِت ِإ ِه ِج‬ ‫ِب‬ ‫ِك ِل‬ ‫ِح‬
‫الَّل ُه َجَلَعَلُك ْم ُأَّم ًة وا َد ًة َو ل ْن َيْبُل َو ُك ْم يِف ما آتاُك ْم َفاْس َت ُقوا اَخْلرْي ا ىَل الَّل َم ْر ُعُك ْم‬
‫ِب‬ ‫مِب‬ ‫ِن‬ ‫ِف ِه ِل‬ ‫مِب‬ ‫ِمَج‬
‫يع ًا َفُيَنِّبُئُك ْم ا ُك ْنُتْم ي ْخَتَت ُف وَن (‪َ )48‬و َأ اْح ُك ْم َبْيَنُه ْم ا َأْنَز َل الَّل ُه َو ال َتَّت ْع َأْه واَءُه ْم‬
‫ي‬ ‫ِض ما َأ َل الَّل ِإَل َك َفِإْن َّل ا َف اْع َل َأمَّن ا ِر يُد الَّل َأْن ِص‬ ‫َك‬ ‫و‬‫ُن‬‫ا َذ َأْن ْف ِت‬
‫ْم‬ ‫ُه‬‫َب‬ ‫ُي‬ ‫ُه‬ ‫ُي‬ ‫ْم‬ ‫َت‬
‫َو ْو‬ ‫ْي‬ ‫ُه‬ ‫ْن‬
‫َز‬ ‫ْع‬
‫َب‬ ‫ْن‬ ‫َع‬ ‫َو ْح ْر ُه ْم َي‬
‫ِم‬ ‫ِهِل ِة‬ ‫ِس‬ ‫ِهِب ِإ ِث ِم‬ ‫ِب‬
‫َبْع ِض ُذُنو ْم َو َّن َك ريًا َن الَّناِس َلفا ُقوَن (‪َ )49‬أَفُح ْك َم اجْل ا َّي َيْبُغ وَن َو َمْن َأْح َس ُن َن‬
‫الَّلِه ُح ْك مًا ِلَق ْو ٍم ُيوِقُنوَن (‪)50‬‬

‫تفسير المفردات‬
‫املهيمن على الش يء ‪ :‬القائم على شئونه وله حق مراقبته وتوىل رعايته ‪ ،‬والّش رعة‬
‫والشريعة ‪ :‬مورد املاء من النهر وحنوه ‪ ،‬وكل ما شرعت فيه من شىء فهو شريعة‪.‬‬

‫ومن ذلك شريعة اإلسالم لشروع أهلها فيها ‪ ،‬واملنهاج ‪ :‬السبيل والسنة ‪ ،‬واالبتالء ‪:‬‬

‫االختبار ‪ ،‬استبقوا ‪ :‬ابتدروا وسارعوا ‪ ،‬أن يفتنوك ‪ :‬أي مييلوا بك من احلق إىل الباطل‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن بني سبحانه إنزال التوراة مث اإلجنيل على بىن إسرائيل ‪ ،‬وذكر ما أودعه فيهما من‬
‫اهلدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك احلكم هبما‪.‬‬
‫ذكر هن ا إنزاله القرآن على خامت األنبي اء حممد صلى الّل ه علي ه وسلم ومنزلته من الكتب‬
‫قبله ‪ ،‬وأن احلكمة اقتضت تعدد الشرائع واملناهج هلداية البشر‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو َأْنَز ْلن ا ِإَلْي َك اْلِكتاَب ِب اَحْلِّق ُمَص ِّدقًا ِلما َبَنْي َيَد ْي ِه ِم َن اْلِكتاِب َو ُمَهْيِم ن ًا َعَلْي ِه) أي وأنزلن ا‬
‫إليك أيها الرسول الكتاب (القرآن الكرمي) الذي أكملنا به الدين مشتمال على احلق مقررا‬
‫له « ال َيْأِتي ِه اْلباِط ُل ِم ْن َبِنْي َيَد ْي ِه َو ال ِم ْن َخ ْلِف ِه » مصدقا ملا تقدمه من الكتب اإلهلي ة‬
‫كالتوراة واإلجنيل ‪ ،‬ومهيمنا وشهيدا عليها مبا بّينه من حقيقة أمرها ‪ ،‬وما كان من حال من‬
‫خوطبوا هبا من نسيان حظ عظيم منها وحتريف كثري مما بقي وتأويله واإلعراض عن العمل‬
‫به‪.‬‬
‫روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (َو ُمَهْيِم ن ًا َعَلْي ِه) يعىن أمينا عليه حيكم على ما كان‬
‫قبله من الكتب‪.‬‬

‫(َف اْح ُك ْم َبْيَنُه ْم مِب ا َأْنَز َل الَّل ُه) أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب‬
‫اإلهلية ‪ ،‬وهو أنه رقيب وشهيد عليها ‪ ،‬فاحكم بني أهل الكتاب مبا أنزل الّل ه إليك فيه من‬
‫األحكام ‪ ،‬دون ما أنزله إليهم ‪ ،‬إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم‪.‬‬

‫(َو ال َتَّتِب ْع َأْه واَءُه ْم َعَّم ا ج اَءَك ِم َن اَحْلِّق ) أي وال تتبع ما يريدون ‪ ،‬وهو احلكم مبا يسهل‬
‫عليهم وخيفف احتماله مائال بذلك عما جاءك من احلق الذي ال شك فيه وال ريب‪.‬‬

‫(ِلُك ٍّل َجَعْلن ا ِم ْنُك ْم ِش ْر َعًة َو ِم ْنهاج ًا) أي لكل أمة منكم أيها الن اس جعلن ا شريعة أوجبن ا‬
‫عليهم إقامة أحكامها ‪ ،‬ومنهاج ا وطريقا فرض نا عليهم سلوكه لتزكي ة أنفسهم وإصالح‬
‫سرائرهم من قبل أن الش رائع العملي ة ختتلف باختالف أحوال االجتماع وطبائع البش ر‬
‫واستعداداهتم وإن اتفق الرسل مجيع ا ىف أصل الدين ‪ ،‬وهو توحي د الّل ه واإلخالص له ىف‬
‫السر والعلن وإسالم الوجه له‪.‬‬

‫روى عن قتادة أنه قال ىف تفسريها ‪ :‬أي سبيال وسنة ‪ ،‬والسنن خمتلفة ‪ ،‬للتوراة شريعة ‪،‬‬
‫ولإلجنيل شريعة ‪ ،‬وللقرآن شريعة ‪ ،‬حيل الّل ه فيها ما يشاء ‪ ،‬وحيرم ما يشاء ‪ ،‬كى يعلم من‬
‫يطيعه ممن يعصيه ‪ ،‬ولكن الدين الذي ال يقبل غريه هو التوحيد واإلخالص الذي جاءت به‬
‫الرسل وروى عنه أنه قال ‪ :‬الدين واحد والشريعة خمتلفة‪.‬‬
‫ومن هذا يفهم أن الشريعة هى األحكام العملية اليت ختتلف باختالف الرسل وينسخ الالحق‬
‫منها السابق وأن الدين هو األصول الثابتة اليت ال ختتلف باختالف األنبياء‪.‬‬

‫وهذا هو الع رف اجلاري اآلن إذ خيصون الش ريعة مبا يتعلق بالقضاء وما يتخاصم في ه إىل‬
‫احلكام‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن الشريعة اسم لألحكام العملية ‪ ،‬وإهنا أخص من كلمة (الدين) وتدخل ىف‬
‫مسمى الدين من جهة أن العامل هبا يدين لّل ه تعاىل بعمله‪ .‬وخيضع له ويتوجه إليه ‪ ،‬مبتغيا‬
‫مرضاته وثوابه بإذنه‪.‬‬

‫(َو َل ْو شاَء الَّل ُه َجَلَعَلُك ْم ُأَّم ًة واِح َد ًة) أي ولو شاء تعاىل أن جيعلكم أمة واحدة ذات شريعة‬
‫واحدة ومنهاج واحد تسريون علي ه وتعملون به ‪ ،‬بأن خيلقكم على استعداد واحد ‪،‬‬
‫وأخالق واحدة ‪ ،‬وطور واحد ىف معيشتكم ‪ ،‬فتصلح لكم شريعة واحدة ىف كل األزمان ‪،‬‬
‫فتكونون كسائر أنواع املخلوق ات اليت يقف استعدادها عن د مستوى معني كالطري أو‬
‫كالنحل ‪ -‬لفعل ذلك إذ هو داخل حتت قدرته تعاىل ال يستعصى عليه‪.‬‬

‫(َو لِكْن ِلَيْبُل َو ُك ْم يِف ما آتاُك ْم ) أي ولكن مل يشأ ذلك ‪ ،‬بل شاء أن جيعلكم نوعا ذا عقل‬
‫وفكر واستعداد للفهم والعلم ‪ ،‬يرتقى ىف أطوار احلياة بالتدريج وخيضع لسنة االرتقاء ‪ ،‬فال‬
‫تصلح له شريعة واحدة ىف كل أط واره وىف سائر مجاعاته ‪ ،‬فكانت الش رائع ىف أط وار‬
‫الطفولة من نوع يغلب علي ه املادة ‪ ،‬وىف ط ور التمي يز تغلب علي ه العواط ف والوج دانات‬
‫النفسية ‪ ،‬وىف طور الرشد واستقالل العقل ختمت الشرائع واملناهج بالدين احملمدي املبىن‬
‫على فتح باب االجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى ىف القضاء والسياسة وأصول االجتماع‬
‫بني أوىل العلم والرأى‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنه سبحانه عاملن ا معاملة املخترب الستعدادنا فيما آتانا من املن اهج والش رائع‬
‫لتظهر حكمته ىف متييز نوعنا عن غريه من األنواع اليت تدب على وجه البسيطة ‪ ،‬بأن مجع‬
‫لنا بني احليوانية وامللكية‪.‬‬

‫وإنك لو نظرت إىل سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة ‪ ،‬وليس ألهلها‬
‫فيها رأى وال اجتهاد إذ هى نزلت لقوم ألفوا الذل واالستعباد ‪ ،‬فوجب أخذهم بالش دة‬
‫والصرامة ‪ ،‬وترى الش ريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبني عليهم من‬
‫أهل السلطة واحلكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف وجيعلوا عنايتهم باألمور‬
‫الروحية وتربية الوجدانات النفسية ‪ ،‬وترى الديانة اإلسالمية قائمة على أساس االستقالل‬
‫والعقل جامعة بني مصاحل الروح واجلسد « ُك ْنُتْم َخ ْيَر ُأَّم ٍة ُأْخ ِر َج ْت ِللَّناِس » وال يليق ذلك‬
‫إال بأمة بلغت سن الرشد العقلي واالرتقاء الفكرى ‪ ،‬ومن مث كانت أحكامها الدنيوية قليلة‬
‫ىف كتاهبا ‪ ،‬وفوض األمر فيها إىل االجتهاد ‪ ،‬إذ الراشد يفوض أمره إىل نفسه ‪ ،‬ومن مث‬
‫صارت صاحلة لكل زمان ومكان ‪ ،‬إذ مدارها على االجتهاد وطاعة أوىل األمر ‪ ،‬فمن ع‬
‫االجتهاد فيها يبطل مزيتها وجيعلها ال تصلح جلميع األزمان وال جلميع األمكنة ‪ ،‬إذ أنك‬
‫تعلم أن للزمان واملكان واألحوال من التشريع ما يوافقه ‪ ،‬انظر إىل اإلمام الشافعي جتد أنه‬
‫حني كان بالعراق وض ع أسسا للتش ريع واألحكام (املذهب القدمي) فلما انتقل إىل مصر‬
‫ورأى عادات أهلها وأطوارهم غري كثريا من تشريعه إىل ما يناسب الشعب الذي يعيش بني‬
‫ظهرانيه (املذهب اجلديد) وما سّر هذا إال ما علمت من خضوع التشريع للزمان واملكان مث‬
‫بني أن الشرائع إمنا وضعت لالستباق إىل اخلري لتجازى كل نفس مبا عملت فقال ‪:‬‬

‫(َفاْس َتِبُقوا اَخْلرْي اِت ِإىَل الَّل ِه َم ْر ِج ُعُك ْم ِمَج يع ًا َفُيَنِّبُئُك ْم مِب ا ُك ْنُتْم ِفي ِه ْخَتَتِلُف وَن ) أي إذا كان األمر‬
‫كما ذكر فسارعوا إىل ما هو خري لكم ىف دينكم ودني اكم ‪ ،‬وابتدروا اخلريات وصاحل‬
‫األعمال ‪ ،‬انتهازا للفرصة وإحرازا للفضل ‪ ،‬فالسابقون السابقون أولئك املقربون‪.‬‬

‫وإنكم إىل الّل ه دون غريه ترجع ون مجيع ا ىف احلي اة الثاني ة فين بئكم عن د احلساب حبقيقة ما‬
‫كنتم ختتلفون في ه ىف الدنيا من أمور الدين ‪ ،‬وجيازى احملسن على ق در إحسانه ‪ ،‬واملسيء‬
‫بإساءته ‪ ،‬فاجعلوا الش رائع سببا للتن افس ىف اخلريات ‪ ،‬ال إلقامة الش حناء والع داوة بني‬
‫األجناس والعصبيات‪.‬‬

‫(َو َأِن اْح ُك ْم َبْيَنُه ْم مِب ا َأْنَز َل الَّل ُه َو ال َتَّتِب ْع َأْه واَءُه ْم َو اْح َذ ْر ُه ْم َأْن َيْف ِتُن وَك َعْن َبْع ِض ما َأْنَز َل‬
‫الَّلُه ِإَلْيَك ) أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الّله ‪ ،‬وأنزلنا إليك فيه ‪:‬‬

‫أن احكم بينهم مبا أنزل الّل ه وال تتبع أهواءهم باالستماع هلم وقبول كالمهم ولو ملصلحة‬
‫ىف ذلك كتأليف قلوهبم وج ذهبم إىل اإلسالم ‪ ،‬فاحلق ال يوصل إلي ه بطريق الباط ل ‪،‬‬
‫واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل الّله إليك لتحكم بغريه‪.‬‬
‫أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس ق ال ‪ :‬ق ال كعب بن أسد وعبد الّل ه ابن صوريا‬
‫وشاس بن قيس من اليهود ‪ :‬اذهبوا بنا إىل حممد ‪ ،‬لعّلنا نفتنه عن دينه فأتوه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا‬
‫حممد إنك عرفت أّن ا أحبار يهود وأشرافهم وساداهتم ‪ ،‬وإنا إن اتبعن اك اتبعن ا يهود ومل‬
‫خيالفونا ‪ ،‬وإن بينن ا وبني قومن ا خصومة فنخاصمهم إلي ك فتقضى لن ا عليهم ونؤمن لك‬
‫ونصدقك ‪ ،‬فأىب ذلك وأنزل الّله عز وجل فيهم‪.‬‬
‫(َو َأِن اْح ُك ْم َبْيَنُه ْم مِب ا َأْنَز َل الَّل ُه ‪ -‬إىل قوله ‪ِ :‬لَق ْو ٍم ُيوِقُن وَن ) اه‪ .‬يريد أن احلكمة ىف إنزال‬
‫هذه اآلية إقرار النيب على ما فعل واألمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الّل ه ‪،‬‬
‫وعدم االخنداع لليهود‪.‬‬

‫(َفِإْن َتَو َّلْو ا َفاْع َلْم َأمَّن ا ُيِر يُد الَّلُه َأْن ُيِص يَبُه ْم ِبَبْع ِض ُذُنوِهِبْم ) أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد‬
‫حتاكمهم إلي ك ‪ ،‬فما ذاك إال ألن الّل ه يريد أن يع ذهبم ىف احلي اة الدنيا قبل اآلخرة ببعض‬
‫ذنوهبم ‪ ،‬ألن استثقاهلم ألحكام التوراة وحتاكمهم إلي ك لعلك تتبع أهواءهم ‪ ،‬وحماولتهم‬
‫لفتنتك عن بعض ما أنزل إلي ك ‪ -‬كل هذه أمارات على فساد األخالق واحنالل روابط‬
‫االجتماع ‪ ،‬وال بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب هبم ‪ ،‬وقد حل بيهود املدينة وما حوهلا‬
‫بغدرهم ما حل ‪ ،‬فقد أجلى النيب صلى الّله عليه وسلم بىن الّنضري عنها ‪ ،‬وقتل بىن قريظة‪.‬‬

‫(َو ِإَّن َك ِث ريًا ِم َن الَّناِس َلفاِس ُقوَن ) أي متمردون ىف الكفر مصّر ون عليه خارجون من احلدود‬
‫والش رائع اليت اختارها الّل ه لعباده‪ .‬وىف هذا تسلية للن ىب صلى الّل ه علي ه وسلم على عدم‬
‫إذعاهنم ملا جاء به من اهلدى والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه‪.‬‬

‫(َأَفُح ْك َم اجْل اِهِلَّي ِة َيْبُغ وَن ؟ ) أي أ يتولون عن قبول حكمك مبا أنزل الّل ه ‪ ،‬فيبغ ون حكم‬
‫اجلاهلية املبىن على التحيز واهلوى جلانب دون آخر وترجيح القوّى على الضعيف ؟ ‪.‬‬

‫روى « أن بىن النضري حتاكموا إىل الرسول صلى الّل ه عليه وسلم ىف خصومة كانت بينهم‬
‫وبني بىن قريظة وطلب بعضهم من النيب صلى الّل ه عليه وسلم أن حيكم بينهم مبا كان عليه‬
‫أهل اجلاهلي ة من التفاض ل وجع ل دية القرظي ض عفى دية الّنضريى ملكان القوة والضعف‬
‫فقال عليه السالم القتلى بواء (سواء) فقال بنو النضري حنن ال نرضى بذلك فنزلت اآلية » ‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬توبيخهم والتعجيب من حاهلم بأهنم أهل كتاب وعلم ‪ ،‬ومع ذلك كانوا‬
‫يبغون حكم اجلاهلية الذي جيىء به حمض اجلهل وصريح اهلوى‪.‬‬

‫(َو َمْن َأْح َس ُن ِم َن الَّل ِه ُح ْك مًا ِلَق ْو ٍم ُيوِقُن وَن ) أي ال أحد أحسن حكما من حكم الّل ه لقوم‬
‫يوقن ون بدين ه ويذعنون لش رعه ‪ ،‬ألنه حكم ج امع بني منتهى الع دل واحلق من احلاكم ‪،‬‬
‫والقبول واإلذعان من احملكوم له واحملكوم عليه ‪ ،‬وهبذا حيصل التفاضل بني الشرائع اإلهلية‬
‫والقوانني البشرية‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن مما ينبغى التعجب من ه من أحواهلم أهنم يطلبون حكم اجلاهلي ة اجلائر ‪،‬‬
‫ويؤثرونه على حكم الّل ه الع ادل ‪ ،‬وىف األول تفضيل القوّى على الضعيف واستذالله‬
‫واستئصال شأفته ‪ ،‬وىف الثاين العدل الذي يستقيم به أمر اخللق ‪ ،‬وبه يستتب األمن والرضا‬
‫والطمأنينة بني الناس ويشعر كل منهم باهلدوء وراحة الضمري‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 70‬الى ‪]75‬‬


‫مِب‬ ‫ِإ ِه‬ ‫ِإ ِئ‬ ‫ِم‬
‫َلَقْد َأَخ ْذ نا يثاَق َبيِن ْس را يَل َو َأْر َس ْلنا َلْي ْم ُرُس ًال ُك َّلما جاَءُه ْم َرُس وٌل ا ال َتْه وى َأْنُف ُس ُه ْم‬
‫َفِر يقًا َك َّذ ُبوا َفِر يقًا َيْق ُتُلوَن (‪َ )70‬ح ِس ُبوا َأَّال َتُك وَن ِفْتَنٌة َفَع وا َص ُّم وا َّمُث تاَب الَّل ُه َعَلْيِه‬
‫ْم‬ ‫ُم َو‬ ‫َو‬ ‫َو‬
‫ِإ َّل‬ ‫َّلِذ‬ ‫َّل ِص مِب‬ ‫ِث ِم‬
‫َّمُث َعُم وا َو َص ُّم وا َك ٌري ْنُه ْم َو ال ُه َب ٌري ا َيْع َم ُل وَن (‪َ )71‬لَق ْد َك َف َر ا يَن قاُلوا َّن ال َه ُه َو‬
‫ْش ِر ْك ِبالَّل ِه‬ ‫ِإ‬ ‫ِإ ِئ‬ ‫ِس‬ ‫ِس‬
‫اْلَم يُح اْبُن َم ْر َمَي َو قاَل اْلَم يُح يا َبيِن ْس را يَل اْع ُب ُد وا الَّل َه َر يِّب َو َر َّبُك ْم َّن ُه َمْن ُي‬
‫َفَقْد َح َّر َم الَّلُه َعَلْيِه اَجْلَّنَة َو َم ْأواُه الَّناُر َو ما ِللَّظاِلِم َني ِم ْن َأْنصاٍر (‪َ )72‬لَقْد َك َف َر اَّلِذ يَن قاُلوا ِإَّن‬
‫الَّل َه ثاِلُث َثالَث ٍة َو ما ِم ْن ِإلٍه ِإَّال ِإلٌه واِح ٌد َو ِإْن ْمَل َيْنَتُه وا َعَّم ا َيُقوُل وَن َلَيَم َّس َّن اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا‬
‫ِم ْنُه ْم َع ذاٌب َأِليٌم (‪َ )73‬أَفال َيُتوُب وَن ِإىَل الَّل ِه َو َيْس َتْغِف ُر وَنُه َو الَّل ُه َغُف وٌر َر ِح يٌم (‪َ )74‬م ا‬
‫ِن‬ ‫ِص‬ ‫ِم ِلِه‬ ‫ِإ‬ ‫ِس‬
‫اْلَم يُح اْبُن َمْر َمَي َّال َرُس وٌل َقْد َخ َلْت ْن َقْب الُّر ُس ُل َو ُأُّم ُه ِّديَق ٌة كانا َيْأُك ال الَّطعاَم اْنُظْر‬
‫َك ْيَف ُنَبُنِّي ُهَلُم اآْل ياِت َّمُث اْنُظْر َأىَّن ُيْؤ َفُك وَن (‪)75‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن ذكر سبحانه أنه أخذ امليثاق على بىن إسرائيل وبعث فيهم النقباء ‪ -‬أعاد التذكري به‬
‫هنا مرة أخرى ‪ ،‬وبنّي عتّو هم وشدة متردهم وما كان من سوء معاملتهم ألنبيائهم‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َلَق ْد َأَخ ْذ نا ِم يث اَق َبيِن ِإْس راِئيَل َو َأْر َس ْلنا ِإَلْيِه ْم ُرُس اًل ُك َّلما ج اَءُه ْم َرُس وٌل مِب ا ال َتْه وى‬
‫َأْنُفُس ُه ْم َفِر يقًا َك َّذ ُبوا َو َفِر يقًا َيْق ُتُلوَن ) امليثاق هو العهد املوّثق ‪ ،‬وقد أخذ الّله عليهم العهد ىف‬
‫التوراة بتوحي ده واتباع األحكام اليت شرعها هلدى خلقه وحتليهم حبلي الفضائل ومكارم‬
‫األخالق ‪ ،‬وقد نقضوا هذا امليثاق كما تقدم أول السورة وعاملوا الرسل تلك املعاملة ‪-‬‬
‫وهو أنه كلما جاءهم رسول بشىء ال هتواه أنفسهم عاملوه بأحد األمرين إما التكذيب‬
‫املستلزم لإلعراض والعصيان وإما القتل وسفك الدماء‪.‬‬
‫وخالصة ذلك ‪ -‬إهنم بلغ وا من الفساد واتباع األهواء أخش نها مركبا ‪ ،‬وأشدها عتوا‬
‫وضالال ‪ ،‬حىت مل يعد يؤثر ىف قلوهبم وعظ الرسل وال هديهم ‪ ،‬بل صار ذلك مغريا هلم‬
‫بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك اهلداة الربرة والسادة األخيار‪.‬‬

‫مث ذكر ما سولته هلم أنفسهم على سوء أفعاهلم فقال ‪:‬‬

‫(َو َح ِس ُبوا َأاَّل َتُك وَن ِفْتَن ٌة) الفتنة االختبار بشدائد األمور كتسلط األمم القوية عليهم بالقتل‬
‫والتخريب واالضطهاد ‪ :‬أي وظنوا ظنا قويا متكن من نفوسهم أنه ال تقع هلم فتنة مبا فعلوا‬
‫من الفساد ‪ ،‬ألهنم كانوا يقولون حنن أبن اء الّل ه وأحباؤه ‪ ،‬ويعتقدون أن نبوة أسالفهم‬
‫وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب‪.‬‬

‫مث بني نتائج ذلك فقال ‪:‬‬

‫(َفَعُم وا َو َص ُّم وا َّمُث تاَب الَّلُه َعَلْيِه ْم َّمُث َعُم وا َو َص ُّم وا َك ِثٌري ِم ْنُه ْم ) أي فعموا عن آيات الّله اليت‬
‫أنزهلا ىف كتبه مرشدة إىل عقابه لألمم املفسدة الظاملة ‪ ،‬وعما وض عه من السنن ىف خلقه‬
‫مصدقا لذلك ‪ ،‬وصموا عن مساع املواعظ اليت جاءهم هبا أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب‬
‫إذا هم خالفوها ونقضوا امليث اق وخرج وا عن هدى الدين ‪ ،‬وظلموا أنفسهم واتبع وا‬
‫أهواءهم وساروا ىف غيهم ‪ ،‬واهنمكوا ىف ض الهلم ‪ ،‬فسلط الّل ه عليهم من سامهم اخلسف‬
‫وأوقع هبم البوار والدمار ‪ ،‬فجاس البابليون خالل ديارهم ‪ ،‬وأحرقوا املسجد األقصى وهنبوا‬
‫أمواهلم وسبوا أوالدهم ونساءهم وسلبوهم أمواهلم وثلّو ا عروش ملكهم ‪ ،‬مث رمحهم الّل ه‬
‫وتاب عليهم حني أقلع وا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك‬
‫الفرس ‪ ،‬إذ جاء إىل بيت املقدس وعمره ورّد من بقي من بىن إسرائيل ىف أسر خبتنّص ر إىل‬
‫وطنهم ‪ ،‬ورجع من تفرق منهم ىف األقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا‪.‬‬

‫مث عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إىل ظلمهم وفسادهم ىف األرض وقتلوا األنبياء بغري حق‬
‫فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى علي ه السالم ‪ ،‬فسلط الّل ه عليهم الفرس مث الروم‬
‫(الرومانيني) فأزالوا ملكهم واستقالهلم‪.‬‬

‫وىف قوله (َك ِثٌري ِم ْنُه ْم ) إشارة إىل أن عمى البصرية والصمم عن املواعظ مل يكن للجميع بل‬
‫كان للكث ري منهم ‪ ،‬والّل ه تع اىل يع اقب األمم بذنوهبا إذا كثرت وشاعت فيها ‪ ،‬إذ الع ربة‬
‫بالغالب ال باألفل النادر الذي ال يؤثر ىف صالح وال فساد ومن مث قال تعاىل ‪:‬‬

‫« َو اَّتُقوا ِفْتَنًة ال ُتِص يَّنَب اَّلِذ يَن َظَلُم وا ِم ْنُك ْم َخ اَّص ًة » ‪.‬‬

‫(َو الَّل ُه َبِص ٌري مِب ا َيْع َم ُل وَن ) لنبي ه وخامت أنبيائه من الكي د واملكر وتدبري اإليقاع به وتأليب‬
‫القبائل والشعوب املختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به ‪ ،‬وما سبب ذلك إال اتباعهم للهوى‬
‫‪ ،‬وأهنم عموا وصموا مرة أخرى فصاروا ال يبصرون ما ج اء به من الن ور واهلدى وال‬
‫يسمعون ما يتلوه عليهم من اآليات ‪ ،‬وسيعاقبهم الّل ه على ذلك مبثل ما عاقبهم به من قبل‬
‫وينّك ل هبم أشد النكال ‪ ،‬ويذيقهم أنواع الوبال‪.‬‬

‫وبعد أن عدد قبائح اليهود وخمازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقواهلم الفاسدة‬
‫وآراءهم الزائفة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫(َلَقْد َك َف َر اَّلِذ يَن قاُلوا ِإَّن الَّلَه ُه َو اْلَم ِس يُح اْبُن َم ْر َمَي) أي أقسم إن هؤالء الذين اّدعوا أن الّل ه‬
‫هو املسيح بن مرمي ‪ -‬قد كفروا وصّلوا ضالال بعيدا ‪ ،‬إذ هم ىف إطرائه ومدحه غلوا أشد‬
‫من غلّو اليهود ىف الكفر به وحتقريه ‪ ،‬وق وهلم علي ه وعلى أمه الصّد يقة هبتانا عظيما وق د‬
‫صارت هذه املقالة هى العقي دة الش ائعة عن دهم ‪ ،‬ومن عدل عنها عّد مارق ا من الدين‬
‫فقالوا ‪ :‬إن اإلله مركب من ثالث ة أصول يسموهنا (األق انيم الثالث ة) وهى اآلب واالبن‬
‫وروح القدس فاملسيح هو االبن والّل ه هو اآلب وق د حل اآلب ىف االبن واحتد به فكون‬
‫روح القدس ‪ ،‬وكل واحد من هذه الثالثة عني اآلخرين‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬الّله هو املسيح ‪ ،‬واملسيح هو الّله كما يزعمون‪.‬‬

‫مث ذكر أن املسيح يكذبكم ىف ذلك فحكى عنه ‪:‬‬

‫(َو قاَل اْلَم ِس يُح يا َبيِن ِإْس راِئيَل اْع ُبُد وا الَّلَه َر يِّب َو َر َّبُك ْم ) أي واحلال أن املسيح قال هلم ضد ما‬
‫يقولون‪ .‬فقد أمرهم بعبادة الّل ه وحده ‪ ،‬معرتفا بأنه ربه ورهبم ‪ ،‬ودعا بىن إسرائيل الذين‬
‫أرسل إليهم إىل عبادة الّله وحده ‪ ،‬وال يزال هذا األمر حمفوظا ىف األناجيل اليت كتبت لبيان‬
‫بعض سريته وتارخيه ففى إجني ل يوحن ا (وهذه هى احلي اة األبدية أن يعرفوك أنت اإلله‬
‫احلقيقي وحدك ويسوع املسيح الذي أرسلته) فدين املسيح مبىن على التوحيد احملض ‪ ،‬وهو‬
‫دين الّله الذي أرسل به مجيع رسله‪.‬‬

‫وىف هذه املقالة تنبيه إىل ما هو احلجة القاطعة على فساد قول النصارى ألنه عليه السالم مل‬
‫يفرق بني نفسه وغريه ىف أن دالئل احلدوث ظاهرة على اجلميع‪.‬‬
‫وبعد أن أمرهم عليه السالم بالتوحيد اخلالص ‪ ،‬أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬

‫(ِإَّنُه َمْن ُيْش ِر ْك ِبالَّل ِه َفَقْد َح َّر َم الَّل ُه َعَلْي ِه اَجْلَّن َة َو َم ْأواُه الَّناُر َو ما ِللَّظاِلِم َني ِم ْن َأْنصاٍر ) أي إن‬
‫كل من يشرك بالّل ه شيئا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو حنو ذلك فيجعله نّد ا له‬
‫أو متحدا به ‪ ،‬أو يدعوه جللب نفع أو دفع ضرر ‪ ،‬أو يزعم أنه يقّر به إليه زلفى فيتخذه‬
‫شفيعا لي ؤثر ىف إرادته تع اىل وعلمه ‪ ،‬وحيمله على شىء غري ما سبق به علمه وخصصته‬
‫إرادته ىف األزل ‪ -‬من يفع ل ذلك فإن الّل ه ق د حرم علي ه اجلن ة ىف سابق علمه ‪ ،‬ومبقتضى‬
‫شرعه الذي أوحاه إىل مجي ع رسله ‪ ،‬فال مأوى له إال الن ار اليت هى دار الع ذاب والذل‬
‫واهلوان ‪ -‬وما للظاملني ألنفسهم بشركهم بالّله من نصري ينصرهم وال شفيع ينقذهم مما حيل‬
‫هبم « َمْن َذا اَّلِذ ي َيْشَف ُع ِعْنَد ُه ِإاَّل ِبِإْذِنِه » ‪.‬‬

‫وىف هذا إمياء إىل أن النصارى كانوا يتكلمون على كث ري من القديسني ‪ ،‬إذ كانت وثني ة‬
‫الشفاعة قد فشت فيهم وإن مل تكن من أصل دينهم‪.‬‬

‫(َلَقْد َك َف َر اَّلِذ يَن قاُلوا ِإَّن الَّل َه ثاِلُث َثالَثٍة) أي لقد كفر الذين قالوا إن الّل ه خالق السموات‬
‫واألرض وما بينهما ‪ -‬ثالث أقانيم ثالثة ‪ ،‬أب والد غري مولود ‪ ،‬وابن مولود غري والد ‪،‬‬
‫وزوج متتبعة بينهما‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن الفرق ثالثة ‪:‬‬


‫(‪ )1‬إن إهلهم ثالث ثالثة (‪ )2‬إن الّله هو املسيح ابن مرمي (‪ )3‬إن املسيح هو ابن الّل ه وليس‬
‫هو الّل ه واملتأخرون من النصارى يقولون باألقانيم الثالثة وأن كل واحد منهما عني اآلخر‬
‫فاآلب عني االبن وعني روح القدس ‪ ،‬وملا كان املسيح هو االبن كان عني اآلب وروح‬
‫القدس أيضا ‪ ،‬وقد ذكرنا فيما سلف أن النصارى أخذوا عقيدة التثليث من قدماء الوثنيني‪.‬‬

‫مث رّد الّله عليهم ما قالوه بال روية وال بصرية ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫(َو ما ِم ْن ِإلٍه ِإاَّل ِإلٌه واِح ٌد ) أي وال يوجد إله إال من اتصف بالوحدانية وهو اإلله الذي ال‬
‫تركيب ىف ذاته وال ىف صفاته ‪ ،‬فليس ّمث تعدد ذوات وأعيان ‪ ،‬وال تعدد أجناس وأنواع ‪،‬‬
‫وال تعدد جزئيات وأجزاء‪.‬‬

‫مث توعدهم على هذه املقالة فقال ‪:‬‬

‫(َو ِإْن ْمَل َيْنَتُه وا َعَّم ا َيُقوُل وَن َلَيَم َّس َّن اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا ِم ْنُه ْم َع ذاٌب َأِليٌم) أي وإن مل يتهوا عن‬
‫ق وهلم بالتثليث ويرتكوه ‪ ،‬ويعتصموا بع روة التوحي د ويعتقدوه ‪ ،‬فو الّل ه ليصيّبهم عذاب‬
‫شديد يوم القيامة جزاء كفرهم‪.‬‬

‫وىف اآلية إمياء إىل أن هذا الع ذاب ال ميس إال الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب‬
‫وأناب إىل الّله تعاىل ورجع عن عقيدة التثليث وغريها‪.‬‬

‫مث تعجب من حاهلم بإصرارهم على التثليث بع د أن ظهرت هلم البين ات ‪ ،‬وق امت عليهم‬
‫احلجج املبطلة له ‪ ،‬والنذر بالعذاب املرتب عليه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫(َأَفال َيُتوُبوَن ِإىَل الَّل ِه َو َيْس َتْغِف ُر وَنُه َو الَّل ُه َغُف وٌر َر ِح يٌم ؟ ) أي أ يسمعون ما ذكر من التفنيد‬
‫آلرائهم والوعيد عليها ‪ ،‬مث ال حيملهم ذلك على التوبة والرجوع إىل التوحيد واستغفار الّل ه‬
‫عما فرط منهم ‪ ،‬واحلال أن رهبم واسع الرمحة عظيم املغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر هلم‬
‫ما فرط من الزالت إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصاحلات‪.‬‬

‫مث ذكر أن املسيح رسول كغريه من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال ‪:‬‬

‫(َم ا اْلَم ِس يُح اْبُن َمْر َمَي ِإاَّل َرُس وٌل َقْد َخ َلْت ِم ْن َقْبِلِه الُّر ُس ُل َو ُأُّم ُه ِص ِّديَق ٌة كانا َيْأُك الِن الَّطعاَم)‬
‫أي ليس املسيح إال رسول من الرسل الذين بعثهم الّل ه هلداية عباده ‪ ،‬ق د مضت من قبله‬
‫رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم باآليات ‪ ،‬وأمه صديقة فلها ىف الفضل مرتبة تلى مرتبة‬
‫األنبياء واملرسلني‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله ‪َ « :‬و َص َّد َقْت ِبَك ِلماِت َر هِّب ا َو ُك ُتِبِه َو كاَنْت ِم َن اْلقاِنِتَني » ‪.‬‬

‫أما حقيقتهما النوعية واجلنسية فهى مساوية حلقيقة غريمها من أفراد نوعهما وجنسهما فهما‬
‫يأكالن الطعام ليقيما بنيتهما وميّد ا حياهتما لئال ينحل بدهنما ويهلكا ‪ ،‬وكذلك يعرض هلما‬
‫ما يستلزمه أكل الطعام من احلاجة إىل دفع الفضالت ‪ ،‬فال ميكن أن يكون كل منهما إهلا‬
‫خالقا وال ربا معبودا ‪ ،‬ومن السفه أن حيتقر اإلنسان نفسه وحيتقر جنسه ويرفع بعض‬
‫املخلوقات املساوية له ىف املاهية واملشخصات واملمتازة مبيزات عرضية فيجعل نفسه عبدا هلا‬
‫ويسميها آهلة أو أربابا‪.‬‬
‫وبعد أن بني حاهلما بيانا ال حيوم حوله شائبة من الريب ‪ ،‬تعجب من حال من يّد عى هلما‬
‫الربوبية وال يرعوى عن غيه وضالله وال يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأى واخلطأ ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫(اْنُظْر َك ْي َف ُنَبُنِّي ُهَلُم اآْل ياِت َّمُث اْنُظ ْر َأىَّن ُيْؤ َفُك وَن ) اآليات هى الدالئل القاطعة ببطالن ما‬
‫يّد عون ‪ ،‬ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم‪.‬‬

‫أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر ‪ ،‬كيف نبني هلؤالء النصارى اآليات والرباهني البالغة‬
‫أقصى الغايات ىف الوضوح على بطالن ما يّد عون ىف أمر املسيح مث هم بعد ذلك يعرضون‬
‫عنها ‪ ،‬وكي ف ال ينتقلون من مقدماهتا إىل نتائجها ‪ ،‬ومن مباديها إىل غاياهتا ‪ ،‬فكأهنم‬
‫فقدوا عقوهلم وصارت أفئدهتم هواء‪.‬‬

‫[سورة اإلخالص (‪ : )112‬اآليات ‪ 1‬الى ‪]4‬‬

‫ِبْس ِم الَّلِه الَّرمْح ِن الَّر ِح يِم‬

‫ُقْل ُه َو الَّلُه َأَح ٌد (‪ )1‬الَّلُه الَّص َم ُد (‪ْ )2‬مَل َيِلْد َو ْمَل ُيوَلْد (‪َ )3‬و ْمَل َيُك ْن َلُه ُك ُفوًا َأَح ٌد (‪)4‬‬

‫شرح المفردات‬

‫أحد ‪ :‬أي واحد ال كثرة ىف ذاته ‪ ،‬فهو ليس مبركب من جواهر خمتلفة مادية وال من أصول‬
‫متعّد دة غري مادية ‪ ،‬والصمد ‪ :‬الذي يقصد ىف احلاجات كما قال ‪:‬‬
‫لقد بكر الناعي خبري بىن أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد‬

‫الكفء واملكافئ ‪ :‬النظري ىف العمل والقدرة‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫هذه السورة تضمنت أهّم األركان اليت ق امت عليها رسالة النيب صلى الّل ه علي ه وسلم ‪،‬‬
‫وهى توحيد الّل ه وتنزيهه ‪ ،‬وتقرير احلدود العامة لألعمال ‪ ،‬ببيان الصاحلات وما يقابلها ‪،‬‬
‫وأحوال النفس بعد املوت من البعث ومالقاة اجلزاء من ثواب وعقاب ‪،‬‬

‫وقد ورد ىف اخلرب ‪ « :‬إهنا تعدل ثلث القرآن »‪ .‬ألن من عرف معناها ‪ ،‬وتدبر ما جاء فيها‬
‫حق التدبر ‪ ،‬علم أن ما جاء ىف الدين من التوحيد والتنزيه تفصيل ملا أمجل فيها‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ُق ْل ُه َو الَّل ُه َأَح ٌد ) أي قل ملن سألك عن صفة ربك ‪ :‬الّل ه هو الواحد املنزه عن الرتكيب‬
‫والتعّد د ‪ ،‬ألن التعدد ىف الذات مستلزم الفتقار اجملموع إىل تلك األجزاء والّل ه ال يفتقر إىل‬
‫شىء‪.‬‬

‫(الَّلُه الَّصَم ُد ) أي هو الّله الذي يقصده العباد ويتوجهون إليه ‪ ،‬لقضاء ما أمههم دون واسطة‬
‫إىل شفيع وهبذا أبطل عقيدة مشركى العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ‪ ،‬وعقيدة‬
‫غريهم من أهل األديان األخرى الذين يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند رهبم ينالون هبا‬
‫التوسط لغ ريهم ىف ني ل مبتغ اهم ‪ ،‬فيلجئون إليهم أحي اء وأمواتا ‪ ،‬ويقومون عن د قبورهم‬
‫خاضعني خاشعني ‪ ،‬كما خيشعون لّله أو أشد خشية‪.‬‬

‫(ْمَل َيِل ْد ) أي تنزه ربن ا عن أن يكون له ولد ‪ ،‬وىف هذا رّد ملزاعم مش ركى الع رب الذين‬
‫زعموا أن املالئكة بن ات الّل ه ‪ ،‬وملزاعم النصارى الذين ق الوا ‪ :‬املسيح ابن الّل ه ‪ ،‬اق رأ إن‬
‫ِئ ِإ‬ ‫ِتِه ِل‬
‫شئت قوله تع اىل ‪َ « :‬فاْس َتْف ْم َأ َر ِّب َك اْلَبن اُت َو ُهَلُم اْلَبُن وَن َأْم َخ َلْق َن ا اْلَم ال َك َة ناث ًا َو ُه ْم‬
‫شاِه ُد وَن ؟ َأال ِإَّنُه ْم ِم ْن ِإْفِكِه ْم َلَيُقوُلوَن ‪َ :‬و َلَد الَّلُه َو ِإَّنُه ْم َلكاِذ ُبوَن » ‪.‬‬

‫(َو ْمَل ُيوَل ْد ) ألن ذلك يقتضى جمانسته لسواه ‪ ،‬وسبق الع دم قبل الوج ود ‪ -‬تنزه ربن ا عن‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وأثر عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬مل يلد كما ولدت مرمي ‪ ،‬ومل يولد كما ولد عيسى وعزير ‪،‬‬
‫وهو رّد على النصارى الذين قالوا املسيح ابن الّله ‪ ،‬وعلى اليهود الذين قالوا ‪:‬‬

‫عزير ابن الّله‪.‬‬

‫(َو ْمَل َيُك ْن َل ُه ُك ُف وًا َأَح ٌد ) أي ليس له نّد وال مماثل ‪ ،‬وىف هذا نفى ملا يعتقده بعض املبطلني‬
‫من أن لّل ه نّد ا ىف أفعاله كما ذهب إىل ذلك مشركو العرب حيث جعلوا املالئكة شركاء‬
‫لّله‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن السورة تضمنت نفى الشرك جبميع أنواعه ‪ ،‬فقد نفى الّل ه عن نفسه أنواع‬
‫الكثرة بقوله ‪ « :‬الّله أحد » ونفى عن نفسه أنواع االحتياج بقوله ‪:‬‬
‫« الَّل ُه الَّص َم ُد » ونفى عن نفسه اجملانسة واملش اهبة لش ىء بقوله ‪ْ « :‬مَل َيِل ْد » ونفى عن‬
‫نفسه احلدوث واألّو لية بقوله ‪َ « :‬و ْمَل ُيوَلْد » ونفى عن نفسه األنداد واألشباه بقوله ‪:‬‬

‫« َو ْمَل َيُك ْن َلُه ُك ُف وًا َأَح ٌد » تعاىل الّله عما يقول الظاملون علوا كبريا‪.‬‬

‫[سورة آل عمران (‪ : )3‬اآليات ‪ 110‬الى ‪]112‬‬


‫ِم ِب ِه‬ ‫ِف‬ ‫ِب‬ ‫ِل‬ ‫ٍة‬
‫ُك ْنُتْم َخ ْيَر ُأَّم ُأْخ ِر َج ْت لَّناِس َت ْأُمُر وَن اْلَم ْع ُر و َو َتْنَه ْو َن َعِن اْلُم ْنَك ِر َو ُتْؤ ُن وَن الَّل َو َل ْو‬
‫ِس‬ ‫ِم‬ ‫ِم‬ ‫ِك ِب‬
‫آَم َن َأْه ُل اْل تا َلكاَن َخرْي ًا ُهَلْم ْنُه ُم اْلُم ْؤ ُنوَن َو َأْك َثُر ُه ُم اْلفا ُقوَن (‪َ )110‬لْن َيُض ُّر وُك ْم‬
‫ِإَّال َأذًى َو ِإْن ُيقاِتُلوُك ْم ُيَو ُّل وُك ُم اَأْلْد باَر َّمُث ال ُيْنَص ُر وَن (‪ُ )111‬ض ِر َبْت َعَلْيِه ُم الِّذ َّل ُة َأْيَن ما‬
‫ِل‬ ‫ِق‬
‫ُث ُف وا ِإَّال َحِبْبٍل ِم َن الَّلِه َو َح ْبٍل ِم َن الَّناِس َو باُؤ ِبَغَض ٍب ِم َن الَّل ِه َو ُض ِر َبْت َعَلْيِه ُم اْلَمْس َك َنُة ذ َك‬
‫ِبَأَّنُه ْم كاُنوا َيْك ُف ُر وَن ِبآياِت الَّلِه َو َيْق ُتُلوَن اَأْلْنِبياَء ِبَغِرْي َح ٍّق ذِلَك مِب ا َعَص ْو ا َو كاُنوا َيْع َتُد وَن (‬
‫‪)112‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫كنتم ‪ :‬أي وجدمت وخلقتم ‪ ،‬أخرجت ‪ :‬أي أظهرت حىت متيزت وعرفت ‪ ،‬واألذى ‪:‬‬

‫الضر اليسري ‪ ،‬يولوكم األدبار ‪ :‬أي ينهرموا ‪ ،‬والذلة هى الذل الذي حيدث ىف النفوس من‬
‫فقد السلطة ‪ ،‬وضرهبا عليهم هو إلصاقها هبم وظهور أثرها فيهم ‪ ،‬كما يكون من ضرب‬
‫السكة مبا ينقش فيها ‪ ،‬وثقفوا وجدوا ‪ ،‬واحلبل ‪ :‬العهد ‪ ،‬وباءوا ‪ :‬أي لبثوا وحلوا فيه ‪ ،‬من‬
‫املباءة وهو املكان ‪ ،‬ومنه تبوأ فالن منزل كذا ‪ ،‬وبوأته إياه ‪ ،‬واالعتداء‪ :‬جتاوز احلد‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن أمر عز امسه عباده املؤمنني باالعتصام حببله ‪ ،‬وذكرهم بنعمته عليهم ‪ ،‬بتأليف قلوهبم‬
‫بأخّو ة اإلسالم ‪ ،‬وحّذ رهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب ىف التمرد والعصيان ‪ ،‬وتوعد‬
‫على ذلك بالعذاب األليم ‪ ،‬واستطرد بني ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسوّد ‪ ،‬وبذكر‬
‫شىء من أحوال اآلخرة‪ .‬أردف ذلك ذكر فضل املتآخني ىف دين ه ‪ ،‬املعتصمني حببله ‪،‬‬
‫ليكون هذا باعثا هلم على االنقياد والطاعة ‪ ،‬إذ كوهنم خري األمم مما يقّو ى داغيتهم ىف أال‬
‫يفّو توا على أنفسهم هذه املزية ‪ ،‬وإمنا يكون ذلك باحملافظ ة على اتباع األوامر وترك‬
‫النواهي‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ُك ْنُتْم َخ ْيَر ُأَّم ٍة ُأْخ ِر َج ْت ِللَّناِس َتْأُمُر وَن ِباْلَم ْع ُر وِف َو َتْنَه ْو َن َعِن اْلُم ْنَك ِر َو ُتْؤ ِم ُنوَن ِبالَّل ِه) أي‬
‫أنتم خري أمة ىف الوج ود اآلن ‪ ،‬ألنكم تأمرون باملعروف ‪ ،‬وتنهون عن املنكر ‪ ،‬وتؤمن ون‬
‫إميانا صادقا يظهر أثره ىف نفوسكم ‪ ،‬فيزعكم عن الشر ‪ ،‬ويصرفكم إىل اخلري ‪ ،‬وغريكم من‬
‫األمم ق د غلب عليهم الش ر والفساد ‪ ،‬فال يأمرون مبع روف ‪ ،‬وال ينهون عن منكر ‪ ،‬وال‬
‫يؤمنون إميانا صحيحا‪.‬‬
‫وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أّو ال ‪ ،‬وهم الن يب صلى الّل ه علي ه وسلم‬
‫وأصحابه الذين كانوا مع ه وقت التنزيل ‪ ،‬فهم الذين كانوا أعداء ‪ ،‬فألف بني قلوهبم ‪،‬‬
‫واعتصموا حببل الّل ه مجيع ا ‪ ،‬وكانوا يأمرون باملعروف ‪ ،‬وينهون عن املنكر ‪ ،‬وال خياف‬
‫ضعيفهم قوّيهم ‪ ،‬وال يهاب صغريهم كبريهم ‪ ،‬وملك اإلميان قلوهبم ومشاعرهم ‪ ،‬فكانوا‬
‫مسخرين ألغراضه ىف مجيع أحواهلم‪.‬‬
‫ِلِه‬ ‫ِه‬ ‫ِذ‬ ‫ِم‬
‫وهذا اإلميان هو الذي ق ال الّل ه ىف أهله « ِإَمَّنا اْلُم ْؤ ُن وَن اَّل يَن آَم ُن وا ِبالَّل َو َرُس و َّمُث ْمَل‬
‫َيْر تاُبوا َو جاَه ُد وا ِبَأْم واِهِلْم َو َأْنُفِس ِه ْم يِف َس ِبيِل الَّلِه ُأولِئَك ُه ُم الَّص اِدُقوَن » وقال فيهم أيضا «‬
‫ِإَمَّنا اْلُم ْؤ ِم ُن وَن اَّل ِذ يَن ِإذا ُذِك َر الَّل ُه َو ِج َلْت ُقُل وُبُه ْم َو ِإذا ُتِلَيْت َعَلْيِه ْم آياُتُه زاَدْتُه ْم ِإميانًا َو َعلى‬
‫َر ِهِّبْم َيَتَو َّك ُلوَن » ‪.‬‬

‫وما فتئت هذه األمة خري األمم حىت تركت األمر باملعروف والنهى عن املنكر ‪ ،‬وما‬
‫تركتهما إال باستبداد امللوك واألمراء من بىن أمية ومن حذا حذوهم‪.‬‬

‫وأول من اج رتأ منهم على إعالن هذه املعصية عبد امللك بن مروان حني ق ال على املن رب ‪:‬‬
‫من قال ىل اتق الّله ضربت عنقه وما زال الشر يزداد ‪ ،‬واألمر يتفاقم حىت سلبت هذه األمة‬
‫أفضل ماهلا من مزية ىف دينها ودنياها بعد اإلميان ‪ ،‬وهى األمر باملعروف والنهى عن املنكر‪.‬‬

‫ومما سلف تعلم أن األمر باملعروف والنهى عن املنكر هو سبب الفضيلة ‪ ،‬كما تقول‪:‬‬

‫حممد كرمي ‪ ،‬يطعم الناس ويكسوهم ‪ ،‬ويعىن بشئوهنم‪.‬‬


‫وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر األمم ‪ ،‬فهى مل تكن فيها على الوج ه الذي هلذه‬
‫األمة ‪ ،‬فاألمر باملعروف كان فيها على آكد وجوهه ‪ ،‬وهو القتال إذا دعت إليه احلاجة ‪،‬‬
‫وقد حيصل بالقلب واللسان ‪ ،‬ولكن أقواه ما كان بالقتال ألنه إلقاء للنفس ىف خطر اهلالك‪.‬‬

‫وأعظم املعروفات الدين احلق ‪ ،‬واإلميان بالتوحي د والنبوة ‪ ،‬وأنكر املنكرات الكفر بالّل ه ‪،‬‬
‫ومن كان فرض اجلهاد ىف الدين حيّم ل اإلنسان أعظم املضار إليصال غريه إىل أعظم‬
‫املن افع ‪ ،‬وختليصه من أعظم الش رور ‪ ،‬هلذا كان عبادة من العبادات ‪ ،‬بل كان أجّلها‬
‫وأعظمها ‪ ،‬وهو ىف ديننا أقوى منه ىف سائر األديان‪.‬‬

‫ال جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه األمة على سائر األمم ‪ ،‬وهذا ما عناه ابن عباس بقوله‬
‫ىف تفسري هذه اآلية أي تأمروهنم أن يش هدوا أن ال إله إال الّل ه ‪ ،‬ويقروا مبا أنزل الّل ه ‪،‬‬
‫وتقاتلوهنم عليه ‪ ،‬وال إله إال الّله أعظم املعروف ‪ ،‬والتكذيب أنكر املنكرات‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن هذه اخلريية ال تثبت هلذه األمة إال إذا حافظت على هذه األصول الثالثة ‪،‬‬
‫فإذا تركتها مل تكن هلا هذه املزية ‪ ،‬ومن مث أكد األمر هبذه الفريضة ىف آيات هذه السورة‬
‫مبا مل يعرف له نظري ىف الكتب السابقة‪.‬‬

‫وق دم األمر باملعروف والنهى عن املنكر على اإلميان بالّل ه ىف الذكر ‪ ،‬مع أن اإلميان مقدم‬
‫على كل الطاعات ‪ ،‬ألهنما سياج اإلميان وحفاظ ه ‪ ،‬فكان تقدميهما ىف الذكر موافقا‬
‫للمعهود عند الناس ىف جعل سياج كل شىء مقدما عليه‪.‬‬
‫(َو َلْو آَم َن َأْه ُل اْلِكتاِب َلكاَن َخرْي ًا ُهَلْم ) أي ولو آمنوا إميانا صحيحا يستوىل على النفوس ‪،‬‬
‫وميلك أزمة القلوب ‪ ،‬فيكون مصدر الفضائل واألخالق احلسنة ‪ ،‬كما تؤمن ون ‪ -‬لكان‬
‫ذلك خريا هلم مما يّد عونه من إميان ال يزع النفوس عن الشرور ‪ ،‬وال يبعدها عن الرذائل ‪،‬‬
‫إذ هو مل يؤت مثرات اإلميان الصحيح الذي حيبه الّله ورسوله ‪ ،‬وال كان أثرا من آثاره األمر‬
‫باملعروف وال النهى عن املنكر‪.‬‬

‫وهبذا تعلم أن اإلميان املنفي عنهم إميان خاص له تلك اآلثار اليت تقدمت ‪ ،‬ال اإلميان الذي‬
‫يدعي ه كل من له دين وكتاب ‪ ،‬كما أنه إمنا نفاه عن أكثر أفراد األمة ‪ ،‬وأهنم هم الذين‬
‫فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين ‪ ،‬ومل يبق عندهم إال بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة ‪ -‬ال‬
‫عن مجيعها ‪ ،‬إذ ال ختلو أمة ذات دين مساوى من هذا اإلميان ‪ ،‬ومن ّمث قال ‪:‬‬

‫(ِم ْنُه ُم اْلُم ْؤ ِم ُن وَن َو َأْك َثُر ُه ُم اْلفاِس ُقوَن ) أي منهم املؤمن ون املخلصون ىف عقائدهم وأعماهلم‬
‫كعبد الّل ه بن سالم ورهطه من اليهود ‪ ،‬والنجاشي ورهطه من النصارى ‪ ،‬وأكثرهم‬
‫فاسقون عن دينهم متمردون ىف الكفر‪.‬‬

‫وما من دين إال يوجد فيه الغالون واملعتدلون واملفّر طون املائلون إىل الفسوق والعصيان‪.‬‬

‫ويكثر االستمساك بالدين ىف أوائل ظهوره ‪ ،‬كما يكثر الفسق بعد طول األمد عليه ‪ ،‬كما‬
‫ق ال تع اىل ‪َ « :‬أْمَل َي ْأِن ِلَّل ِذ يَن آَم ُن وا َأْن ْخَتَش َع ُقُل وُبُه ْم ِل ِذ ْك ِر الَّل ِه َو ما َنَز َل ِم َن اَحْلِّق ‪َ ،‬و ال‬
‫ِث ِم‬ ‫ِه‬ ‫ِك ِم‬ ‫ِذ‬
‫َيُك وُن وا َك اَّل يَن ُأوُت وا اْل تاَب ْن َقْب ُل َفطاَل َعَلْي ُم اَأْلَم ُد ‪َ ،‬فَق َس ْت ُقُل وُبُه ْم َو َك ٌري ْنُه ْم‬
‫فاِس ُقوَن » ‪.‬‬
‫ومل حيكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضالل ‪ ،‬بل تارة يع رب بالكثري ‪ ،‬وأخرى‬
‫ِم‬ ‫ِم ِإ ِل‬
‫باألكثر كقوله ىف بىن إسرائيل « َفال ُيْؤ ُنوَن اَّل َق ياًل » وقوله ىف النصارى واليهود « ْنُه ْم‬
‫ُأَّم ٌة ُمْق َتِص َد ٌة َو َك ِثٌري ِم ْنُه ْم ساَء ما َيْع َم ُلوَن » ‪.‬‬

‫وعلى اجلملة فالقرآن إذا عرض لوصف األمم وبيان عقائدها وأخالقها ‪ ،‬وزن ذلك مبيزان‬
‫دقي ق يتح رى في ه ذكر احلقيقة جمردة عن كل مغ االة أو مبالغ ة مبا مل يعهد مثله ىف كتاب‬
‫آخر‪.‬‬

‫فلو تصفحنا األحكام اليت حكم هبا على أهل الكتاب ‪ ،‬وعرض ناها على علمائهم وفال‬
‫سفتهم ومؤرخيهم لقالوا ‪ :‬إهنا احلق الّص راح‪.‬‬

‫(َلْن َيُض ُّر وُك ْم ِإاَّل َأذًى ) أي إن هؤالء الفاسقني ال يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية‬
‫جهدهم أن يؤذوكم باهلجو القبيح ‪ ،‬والطعن ىف الدين ‪ ،‬وإلقاء الشبهات وحتريف النصوص‬
‫‪ ،‬واخلوض ىف النيب صلى الّله عليه وسلم‪.‬‬

‫(َو ِإْن ُيقاِتُلوُك ْم ُيَو ُّل وُك ُم اَأْلْد باَر ) أي وإن يقابلوكم ىف مي دان القتال ينهزموا من غري أن‬
‫يظفروا منكم بشىء ‪ ،‬واملنهزم من شأنه أن حيّو ل ظهره إىل جهة مقاتله ويستدبره ىف هربه‬
‫منه ‪ ،‬فيكون قفاه إىل وجه من اهنزم منه‪.‬‬

‫(َّمُث ال ُيْنَص ُر وَن ) أي مث إهنم ال ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم ‪ ،‬ودمتم على‬
‫خرييتكم ‪ ،‬تأمرون باملعروف وتنهون عن املنكر وتؤمنون بالّله‪.‬‬

‫وىف اآلية ثالث بشارات من أخبار الغيب حتققت كلها ‪ ،‬وقد صدق الّله وعده‪.‬‬
‫ومما سبق تعلم أن هذا احلكم إمنا يثبت هلم إذا حافظوا على نصر الّل ه بنصر دينه كما قال ‪:‬‬
‫« يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ِإْن َتْنُص ُر وا الَّل َه َيْنُص ْر ُك ْم َو ُيَثِّبْت َأْق داَم ُك ْم » وكما ق ال ىف وصف‬
‫املؤمنني اجملاهدين « اآْل ِم ُر وَن ِباْلَم ْع ُر وِف َو الَّناُه وَن َعِن اْلُم ْنَك ِر َو احْل اِفُظوَن ُحِلُد وِد الَّلِه » ‪.‬‬

‫(ُض ِر َبْت َعَلْيِه ُم الِّذ َّل ُة َأْيَن ما ُثِق ُف وا ِإاَّل َحِبْب ٍل ِم َن الَّل ِه َو َح ْب ٍل ِم َن الَّناِس ) أي إهنم ألزموا الذلة‬
‫فال خالص هلم منها ‪ ،‬فح اهلم معكم أهنم أذالء مهضومو احلقوق رغم أنوفهم ‪ ،‬إال بعهد‬
‫من الّله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا ىف حكمها من املساواة ىف احلقوق والقضاء وحترمي‬
‫اإليذاء ‪ ،‬وعهد من الن اس ‪ ،‬وهو ما تقتضيه املش اركة ىف املعيش ة ‪ ،‬من احتي اجهم إليكم‬
‫واحتياجكم إليهم ىف بعض األمور ‪ ،‬وقد كان النيب صلى الّل ه عليه وسلم حيسن معاملتهم‬
‫ويقرتض منهم ‪ ،‬وكذلك اخللفاء الراشدون‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن هؤالء ال عزة هلم ىف أنفسهم ‪ ،‬ألن السلطان وامللك ق د فقدا منهم‪ .‬وإمنا‬
‫تأتيهم العزة من غريهم هبذين العهدين ‪ :‬العهد الذي قرره الّل ه ‪ ،‬والعهد الذي تواطأ عليه‬
‫الناس‪.‬‬

‫(َو باُؤ ِبَغَض ٍب ِم َن الَّل ِه) أي وصاروا مستحقني غضب الّل ه مستوجبني سخطه ‪ ،‬وأحاطت‬
‫هبم املسكنة والّص غار ‪ ،‬فهم تابعون لغ ريهم يؤدون ما يضرب عليهم من املال وادعني‬
‫ساكنني‪.‬‬

‫وهذا الوصف صادق على اليهود إىل اليوم ىف كل بقاع األرض‪.‬‬


‫وق د ارتفع الذل عنهم ىف بالد اإلسالم حببل من الّل ه ‪ ،‬وهو ما ذكرناه فيما سلف من‬
‫وج وب مع املتهم باملساواة واحرتام دمائهم وأعراض هم وأمواهلم والتزام محايتهم والّذ ود‬
‫عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقني ‪ ،‬وحببل من الناس كما تقدم بيانه‪.‬‬

‫وأما ارتفاع املسكنة بأن يكون هلم ملك وسلطان يوما ما ‪ ،‬فالقرآن ينفيه عنهم ‪ ،‬ألنه مل‬
‫يستثن من ذلك شيئا ‪ ،‬كما استثىن ىف الذلة ‪ ،‬فاقتضى بقاء ذلك عليهم إىل األبد لكنهم‬
‫يقولون إهنم مبش رون بظهور مسيح (مسيا) فيهم ومعن اه ذو امللك والش ريعة ‪ ،‬والنصارى‬
‫يقولون ‪ :‬إن هذا املوعود به هو املسيح عيسى بن مرمي عليه السالم ‪ ،‬واملراد بامللك امللك‬
‫الروحاين‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ :‬إهنم متفرق ون ىف أقطار األرض على قلتم ‪ ،‬منصرفون عن فن ون احلرب‬


‫وأعماهلا ‪ ،‬بعي دون عن الزراعة ومتعلقاهتا ‪ ،‬لعن ايتهم جبمع املال من أيسر سبله ‪ ،‬وأكثرها‬
‫مناء ‪ ،‬وأقلها تعبا وعناء ‪ ،‬وهو الربا‪.‬‬

‫وقد ذكر الّله سبب ذلك وعلته فقال ‪:‬‬

‫(ذِلَك ِبَأَّنُه ْم كاُنوا َيْك ُف ُر وَن ِبآياِت الَّل ِه َو َيْق ُتُلوَن اَأْلْنِبياَء ِبَغِرْي َح ٍّق ) أي ذلك الذي ذكر من‬
‫ضرب الذلة واملسكنة عليهم ‪ ،‬واستحقاقهم للغضب اإلهلى بسبب كفرهم ‪ ،‬وقتلهم النبيني‬
‫بغري حق تعطيهم إياه شريعتهم‪.‬‬

‫وىف النص على أن ذلك بغري حق مع أنه لن يكون إال كذلك تشنيع عليهم ‪ ،‬وإثبات ألن‬
‫ذلك حدث عن عمد ال عن خطا ‪ ،‬مث أشار إىل سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال ‪:‬‬
‫(ذِل َك مِب ا َعَص ْو ا َو كاُنوا َيْع َت ُد وَن ) أي إنه ما ج رأهم على ذلك إال سبق املعاصي ‪،‬‬
‫واعتداؤهم على حدود الّله ‪ ،‬واالستمرار على الصغائر يفضى إىل الوقوع ىف الكبائر‪.‬‬

‫فمن جعلها ديدنا له واختذها عادة وصل به ذلك إىل الكفر وقتل األنبياء املرشدين وقتل‬
‫األنبياء ‪ ،‬وإن كان مل يصدر من اليهود الذين كانوا ىف عصر التنزيل ‪ ،‬بل كان من أسالفهم‬
‫‪ ،‬لكنهم ملا كانوا راضني به مصّو بني له نسب إليهم ‪ ،‬إذ صار خلقا هلم يتوارثه اخللف عن‬
‫السلف ‪ ،‬واألبناء عن اآلباء‪.‬‬

‫واألمم متكافلة ينسب إىل جمموعها ما فشا فيها ‪ ،‬وإن ظهر بعض آثاره ىف زمن دون آخر‪.‬‬

‫[سورة النحل (‪ : )16‬اآليات ‪ 120‬الى ‪]128‬‬


‫ِم ِه‬ ‫ِك‬ ‫ِك‬ ‫ِم‬ ‫ِن ِل ِه ِن‬ ‫ِه‬
‫ِإَّن ِإْب را يَم كاَن ُأَّم ًة قا تًا َّل َح يفًا َو ْمَل َي ُك َن اْلُم ْش ِر َني (‪ )120‬شا رًا َأِلْنُع اْج َتباُه‬
‫َو َه داُه ِإىل ِص راٍط ُمْس َتِق يٍم (‪َ )121‬و آَتْيناُه يِف الُّد ْنيا َح َس َنًة َو ِإَّنُه يِف اآْل ِخ َر ِة َلِم َن الَّص اِحِلَني (‬
‫‪َّ )122‬مُث َأ نا ِإَل َك َأِن اَّتِب ِم َّلَة ِإ راِه ي ِنيفًا ما كاَن ِم اْل ْش ِر ِك (‪ِ )123‬إمَّن ا ِع‬
‫ُج َل‬ ‫َن ُم َني‬ ‫ْع ْب َم َح َو‬ ‫ْو َح ْي ْي‬
‫الَّس ْبُت َعَلى اَّلِذ يَن اْخ َتَلُفوا ِفيِه َو ِإَّن َر َّبَك َلَيْح ُك ُم َبْيَنُه ْم َيْو َم اْلِق ياَم ِة ِفيما كاُنوا ِفيِه ْخَيَتِلُف وَن (‬
‫ِه‬ ‫ِد‬
‫‪ )124‬اْد ُع ِإىل َس ِبيِل َر ِّبَك ِباِحْلْك َم ِة َو اْلَمْو ِعَظ ِة اَحْلَس َنِة َو جا ُهْلْم ِب اَّليِت َي َأْح َس ُن ِإَّن َر َّبَك‬
‫ُه َو َأْع َلُم َمِبْن َض َّل َعْن َس ِبيِلِه َو ُه َو َأْع َلُم ِباْلُم ْه َت ِد يَن (‪َ )125‬و ِإْن عاَقْبُتْم َفع اِقُبوا ِمِبْث ِل ما‬
‫ُع وِقْبُتْم ِب ِه َو َلِئْن َص َبْر ْمُت ُهَلَو َخ ْيٌر ِللَّص اِبِر يَن (‪َ )126‬و اْص ْرِب َو ما َص ْبُر َك ِإَّال ِبالَّل ِه َو ال ْحَتَز ْن‬
‫َعَلْيِه ْم َو ال َت ُك يِف َض ْيٍق َّمِما ْمَيُك ُر وَن (‪ِ )127‬إَّن الَّل َه َم َع اَّل ِذ يَن اَّتَق ْو ا َو اَّل ِذ يَن ُه ْم ْحُمِس ُنوَن (‬
‫‪)128‬‬
‫تفسير المفردات‬

‫األمة ‪ :‬اجلماعة الكث رية ‪ ،‬ومسى إبراهيم أمة ألنه ق د مجع من الفضائل والكماالت ما لو‬
‫تفّر ق لكفى أمة ‪ ،‬أال ترى أبا نواس إذ يقول هلرون الرشيد مادحا ‪:‬‬

‫وليس على الّل ه مبستنكر أن جيمع الع امل ىف واحد والقانت ‪ :‬املطي ع لّل ه القائم بأمره ‪،‬‬
‫واحلنيف ‪ :‬املائل عن الدين الباطل إىل الدين احلق ‪ ،‬واجتباه ‪ :‬اختاره واصطفاه ‪ ،‬واحلسنة ‪:‬‬
‫هى حمبة أهل األديان مجيعا له إجابة لدعوته لربه « واجعل ىل لسان صدق ىف اآلخرين »‬
‫وجعل السبت لليهود ‪ :‬فرض تعظيمه والتخلي فيه للعبادة وترك الصيد ‪ ،‬واحلكمة ‪ :‬املقالة‬
‫احملكمة املصحوبة بالداليا املوّض ح للحق املزيل للشبهة ‪ ،‬واملوعظة احلسنة ‪ :‬الدالئل الظنية‬
‫املقنعة للعامة ‪ ،‬واجلدل ‪:‬‬

‫احلوار واملناظرة إلقناع املعاند ‪ ،‬والعقاب ىف أصل اللغة ‪ :‬اجملازاة على أذى سابق مث استعمل‬
‫ىف مطلق العقاب ‪ ،‬والضيق (بفتح الضاد وكسرها) الغم وانقباض الصدر‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بع د أن زّي ف سبحانه مذاهب املش ركني ىف إثبات الش ركاء واألنداد لّل ه ‪ ،‬وىف طعنهم ىف‬
‫نبوة األنبياء والرسل بنحو قوهلم ‪ :‬لو أرسل الّل ه رسال ألرسل مالئكة‪ .‬وىف حتليلهم أشياء‬
‫حرمها الّل ه ‪ ،‬وحترمي أشياء أحلها الّل ه ‪ ،‬وبالغ ىف رد هذه املعتقدات‪ .‬ختم السورة بذكر‬
‫إبراهيم رئيس املوحدين الذي كان املشركون يفتخرون به ‪ ،‬ويقّر ون بوجوب االقتداء به ‪،‬‬
‫ليصري ذكر طريقته حامال هلم على اإلق رار بالتوحي د والرج وع عن الش رك ‪ ،‬مث بأمر نبي ه‬
‫حممد صلى الّل ه علي ه وسّلم باتباعه ‪ ،‬مث جيع ل األسس اليت يبىن عليها دعوته هى احلكمة‬
‫واملوعظة احلسنة واجلدل باحلسىن ‪ ،‬مث بأمره باللني ىف العقاب إن أراده ‪ ،‬أو برتك العقاب ‪،‬‬
‫وهو أفضل للصابرين ‪ ،‬مث بأمره جبعل الصرب رائده ىف مجيع أعماله ‪ ،‬وهنيه عن احلزن على‬
‫كفر قومه ‪ ،‬وأهنم مل جييبوا دعوته ‪ ،‬وأهنم ميكرون به ‪ ،‬فالّل ه ينصره عليهم ويكفيه أذاهم ‪،‬‬
‫فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقني ‪ ،‬واخلذالن للعاصني اخلائنني‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ِإَّن ِإْبراِه يَم كاَن ُأَّم ًة قاِنتًا ِلَّلِه َح ِنيفًا َو ْمَل َيُك ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني ‪ .‬شاِكرًا َأِلْنُعِمِه اْج َتباُه َو َه داُه ِإىل‬
‫ِص راٍط ُمْس َتِق يٍم ‪َ .‬و آَتْين اُه يِف الُّد ْنيا َح َس َنًة َو ِإَّن ُه يِف اآْل ِخ َر ِة َلِم َن الَّص اِحِلَني ) مدح الّل ه عبده‬
‫ورسوله وخليله إبراهيم إمام احلنفاء ‪ ،‬ووالد األنبياء جبملة صفات من صفات الكمال ‪:‬‬

‫(‪ )1‬إنه وحده كان أّم ة ‪ ،‬قال ابن عباس رضى الّل ه عنهما ‪ :‬إنه كان عنده عليه الصالة‬
‫والسالم من اخلري ما كان عن د أمة ‪ ،‬فهو رئيس املوّح دين ‪ ،‬كسر األصنام ‪ ،‬وج ادل‬
‫الكفار ‪ ،‬ونظر ىف النجوم ‪ ،‬ودرس الطبيعة الكونية ‪ ،‬ليطمئن قلبه باإلسالم‪.‬‬

‫(‪ )2‬إنه كان قانتا أي مطيعا لّله قائما بأمره‪.‬‬

‫(‪ )3‬إنه كان حنيفا أي مائال عن الباطل ‪ ،‬مّتبعا للحق ‪ ،‬ال يفارقه وال حييد عنه‪.‬‬

‫(‪ )4‬إنه ما كان من املش ركني ىف أمر من أمور دينهم ‪ ،‬بل كان من املوّح دين ىف الصغر‬
‫والكرب ‪ ،‬فهو الذي قال للملك ىف عصره « َر َيِّب اَّلِذ ي ْحُيِيي َو ِمُييُت » وهو الذي أبطل عبادة‬
‫األصنام والكواكب بقوله ‪ « :‬ال أحّب اآلفلني » وكسر األصنام حىت ألقوه ألجلها ىف النار‬
‫فكانت عليه بردا وسالما‪.‬‬

‫وعلى اجلملة فقد كان غارقا ىف حبار التوحيد مستغرقا ىف حب اإلله املعبود ‪ ،‬وىف ذلك رّد‬
‫على كفار قريش إذ قالوا حنن على ملة إبراهيم ‪ ،‬وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا عزيز‬
‫ابن الّله ‪ ،‬مع زعمهم أن إبراهيم كان على مثل ما هم عليه‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله ‪ « :‬ما كاَن ِإْبراِه يُم َيُه وِد ًّيا َو ال َنْص راِنًّيا َو لِكْن كاَن َح ِنيفًا ُمْس ِلمًا َو ما كاَن‬
‫ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني » ‪.‬‬

‫(‪ )5‬إنه كان شاكرا ألنعم الّل ه عليه كما قال ‪ « :‬وإبراهيم اّلذى وىّف » أي قام جبميع ما‬
‫أمره الّله تعاىل به ‪ ،‬وىف هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الّل ه فأصاهبم اجلوع‬
‫واخلوف كما تقدم ذكره ىف املثل السابق‪.‬‬

‫(‪ )6‬إنه اجتباه ربه واختاره للنبوة كما قال ‪ « :‬ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكّن ا به‬
‫عاملني » ‪.‬‬

‫(‪ )7‬إنه هداه إىل صراط مستقيم ‪ ،‬وهو عبادة الّله وحده ال شريك له ‪ ،‬مع إرشاد اخللق إىل‬
‫ذلك والدعوة إليه‪.‬‬

‫(‪ )8‬إن الّل ه حّببه إىل مجي ع اخللق ‪ ،‬فجمي ع أهل األديان ‪ ،‬مسلميهم ونصاراهم ويهودهم‬
‫يعرتفون به ‪ ،‬وكفار قريش ال فخر هلم إال به ‪ ،‬وقد أجاب الّل ه دعاءه ىف قوله « واجعل ىل‬
‫لسان صدق ىف اآلخرين » ‪.‬‬
‫(‪ )9‬إنه ىف اآلخرة ىف زمرة الصاحلني ‪ ،‬وهو معهم ىف الدرجات العلى من اجلن ة ‪ ،‬إجابة‬
‫لدعوته قال ‪ « :‬رّب هب ىل حكما وأحلقىن بالّص احلني » ‪.‬‬

‫وبعد أن وصف إبراهيم هبذه الصفات الشريفة اليت بلغت الغاية ىف علّو املرتبة أخرب أنه أمر‬
‫نبيه حممدا صلى الّله عليه وسّلم باتباعه فقال ‪:‬‬

‫(َّمُث َأْو َح ْينا ِإَلْيَك َأِن اَّتِبْع ِم َّلَة ِإْبراِه يَم َح ِنيفًا َو ما كاَن ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني ) أي مث أوحينا إليك أيها‬
‫الرسول وقلنا لك ‪ :‬اتبع ملة إبراهيم احلنيفية املسلمة الربيئة من عبادة األوثان واألنداد اليت‬
‫يعبدها قومك ‪ ،‬كما تربأ إبراهيم من مثلها من قبل ‪ ،‬فأنت متبع له وسائر على طريقه ‪،‬‬
‫وقومك ليسوا كذلك ‪ ،‬ألهنم حيللون وحيرمون من عند أنفسهم‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله ىف سورة األنعام ‪ُ « :‬ق ْل ِإَّنيِن َه دايِن َر يِّب ِإىل ِص راٍط ُمْس َتِق يٍم ِد ين ًا ِقَيمًا ِم َّل َة‬
‫ِإْبراِه يَم َح ِنيفًا َو ما كاَن ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني » ‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬إنه علي ه الصالة والسالم أمر باتباع ملة إبراهيم بنفي الش رك وإثبات‬
‫التوحيد ‪ ،‬وإن كان قد ثبت ذلك بالدليل العقلي ‪ ،‬ليظاهر الدليل النقلى الدليل العقلي‪.‬‬

‫وقوله ‪َ( :‬و ما كاَن ِم َن اْلُم ْش ِر ِكَني ) تكرير لزيادة التوكي د وتقرير لنزاهته علي ه الصالة‬
‫والسالم عما هم عليه من عقيدة وعمل‪.‬‬

‫مث نعى على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت فقال ‪:‬‬

‫(ِإمَّن ا ُج ِعَل الَّس ْبُت َعَلى اَّلِذ يَن اْخ َتَلُف وا ِفي ِه ‪َ ،‬و ِإَّن َر َّبَك َلَيْح ُك ُم َبْيَنُه ْم َيْو َم اْلِق ياَم ِة ِفيما كاُنوا‬
‫ِفي ِه ْخَيَتِلُف وَن ) أي إمنا جعل وبال يوم السبت وهو املسخ على الذين اختلفوا فيه ‪ ،‬فأحلوا‬
‫الصيد في ه تارة وحرموه أخرى ‪ ،‬وكان من احلتم عليهم أن يتفقوا في ه على كلمة واحدة‬
‫بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه‪ .‬كما أن وبال التحرمي والتحليل من املشركني من عند‬
‫أنفسهم واقع عليهم ال حمالة‪.‬‬

‫وإن ربك ليفصل بني الفريقني ىف اخلصومة واالختالف ‪ ،‬وجيازى كل فريق مبا يستحق من‬
‫ثواب وعقاب‪.‬‬

‫وإيراد هذه العبارة بني سابق الكالم والحقه ‪ -‬إنذار للمش ركني وهتديد هلم مبا ىف خمالفة‬
‫األنبياء من عظيم الوبال والنكال ‪ ،‬كما ذكر مثل القرية فيما سلف ‪ ،‬إىل أن فيه حثا على‬
‫إجابة الدعوة اليت تضمنها سابق الكالم وأمروا هبا ىف ال حقه ‪ ،‬مث فصل سبحانه ما أمر‬
‫باتباع إبراهيم فيه فقال ‪:‬‬

‫(اْد ُع ِإىل َس ِبيِل َر ِّب َك ِباِحْلْك َم ِة َو اْلَمْو ِعَظ ِة اَحْلَس َنِة َو ج اِدُهْلْم ِب اَّليِت ِه َي َأْح َس ُن ) أي ادع أيها‬
‫الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إىل شريعته اليت شرعها خللقه بوحي الّل ه الذي‬
‫يوحيه إليك ‪ ،‬وبالعرب واملواعظ اليت جعلها ىف كتابه حجة عليهم ‪ ،‬وذكرهم هبا ىف تنزيله‬
‫كالذى عدده ىف هذه السورة‪ .‬وخاصمهم باخلصومة اليت هى أحسن من غريها بأن تصفح‬
‫عما نالوا به عرضك من أذى ‪ ،‬وترّفق هبم حبسن اخلطاب ‪ ،‬كما قال ىف آية أخرى « َو ال‬
‫جُت اِدُلوا َأْه َل اْلِكتاِب ِإاَّل ِباَّليِت ِه َي َأْح َس ُن ِإاَّل اَّلِذ يَن َظَلُم وا ِم ْنُه ْم » اآلية ‪ ،‬وقال آمرا موسى‬
‫وهرون عليهما السالم حني بعثهما إىل فرعون « فقوال له قوال لّينا لعّل ه يتذّك ر أو خيشى‬
‫»‪.‬‬

‫مث توعد سبحانه ووعد فقال ‪:‬‬


‫(ِإَّن َر َّبَك ُه َو َأْع َلُم َمِبْن َض َّل َعْن َس ِبيِلِه َو ُه َو َأْع َلُم ِباْلُم ْه َت ِد يَن ) أي إن ربك أيها الرسول هو‬
‫أعلم مبن ج ار عن قصد السبيل من املختلفني ىف السبت وغريه ‪ ،‬وأعلم مبن كان منهم‬
‫سالكا قصد السبيل وحمج ة احلق ‪ ،‬وهو جمازيهم مجيع ا حني ورودهم إلي ه حبسب ما‬
‫يستحقون‪.‬‬

‫وخالصة ذلك ‪ -‬اسلك ىف الدعوة واملناظرة الطريق املثلى ‪ ،‬وهى الدعوة باليت هى أحسن ‪،‬‬
‫وليس عليك غريها‪.‬‬

‫أما اهلداية والضالل واجملازاة عليهما فإىل الّل ه سبحانه ال إىل غريه ‪ ،‬إذ هو أعلم حبال من ال‬
‫يرعوى عن الضالل لسوء اختي اره ‪ ،‬وحبال من يصري أمره إىل االهتداء ‪ ،‬ملا ينطوى بني‬
‫جنبيه من اخلري ‪ ،‬فما شرعه لك ىف الدعوة هو الذي تقتضيه احلكمة ‪ ،‬وهو كاف ىف هداية‬
‫املهتدين وإزالة عذر الضالني‪.‬‬

‫وملا أمر الّله رسوله بالدعوة وبني طريقها وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن‬
‫دين آبائهم وأسالفهم واحلكم عليهم بالكفر والضاللة ‪ ،‬وذلك مما حيمل أكثرهم على إيذاء‬
‫الداعي إما بقتله أو بضر به أو بش تمه ‪ ،‬كما أن الداعي يدعوه طبع ه إىل تأديب أولئك‬
‫السفهاء تارة بالقتل وأخرى بالضرب ‪ ،‬ال جرم أمر سبحانه احملقني برعاية العدل واإلنصاف‬
‫ىف العقاب وترك الزيادة فيه فقال ‪:‬‬

‫(َو ِإْن عاَقْبُتْم َفعاِقُبوا ِمِبْث ِل ما ُع وِقْبُتْم ِبِه َو َلِئْن َص َبْر ْمُت ُهَلَو َخ ْيٌر ِللَّص اِبِر يَن ) أي وإن عاقبتم أيها‬
‫املؤمنون من ظلمكم فلكم ىف العقاب إحدى طريقني ‪:‬‬
‫(‪ )1‬أن تعاقبوه مبثل الذي نالكم به ظاملكم من العقوبة‪.‬‬

‫(‪ )2‬أن تصربوا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب ‪ ،‬وتصفحوا عنه ‪ ،‬وحتتسبوا عند الّل ه‬
‫ما نالكم به من الظلم ‪ ،‬وتكلوا أمركم إليه ‪ ،‬والّله يتوىل عقوبته ‪ ،‬والصرب خري للصابرين من‬
‫االنتقام ‪ ،‬ألن الّله ينتقم من الظامل بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إنكم إن رغبتم ىف القصاص فاقنعوا باملثل وال تزيدوا عليه ‪ ،‬فإن الزيادة ظلم ‪،‬‬
‫والظلم ال حيبه الّل ه وال يرضى به ‪ ،‬وإن جتاوزمت عن العقوبة وصفحتم فذلك خري وأبقى ‪،‬‬
‫والّله هو الذي يتوىل عقاب الظامل ويأخذ بناصر املظلوم‪.‬‬

‫مث أمر رسوله بالصرب صراحة بعد أن ندب إليه غريه تعريضا ‪ ،‬ألنه أوىل الناس بعزائم األمور‬
‫‪ ،‬لزيادة علمه بشئونه تعلى فقال ‪:‬‬

‫(َو اْص ْرِب َو ما َص ْبُر َك ِإاَّل ِبالَّل ِه) أي واصرب على ما أصابك منهم من أذى ىف الّل ه ‪ ،‬ومن‬
‫إعراض عن الدعوة ‪ ،‬وما صربك إن صربت إال مبعونة الّل ه وحسن توفيقه ‪ ،‬ومشيئته املبنية‬
‫على احلكم البالغة اليت تنتهى إىل عواقب محيدة‪.‬‬

‫وىف هذا تسلية للنىب صلى الّله عليه وسّلم وهتوين ملشاّق الصرب عليه وتشريف له مبا ال مزيد‬
‫عليه‪.‬‬

‫(َو ال ْحَتَز ْن َعَلْيِه ْم ) أي وال حتزن على إعراض املشركني الذين يكّذ بونك وينكرون ما جئتهم‬
‫به‪.‬‬
‫(َو ال َت ُك يِف َض ْيٍق َّمِما ْمَيُك ُر وَن ) أي وال يضق صدرك مبا يقولون من اجلهل بنسبتك إىل‬
‫السحر والكهانة والشعر احتياال وخديعة ملن أراد اإلميان بك ‪ ،‬وصّد ا عن سبيل الّله‪.‬‬

‫وقصارى ذلك ‪ -‬إنه هنى نبي ه صلى الّل ه علي ه وسّلم أن يضيق صدره مما يلقى من أذى‬
‫ِم ِل ِذ‬
‫املشركني على تبليغهم وحي الّله وتنزيله كما قال ‪َ « :‬فال َيُك ْن يِف َص ْد ِر َك َح َر ٌج ْن ُه ُتْن َر‬
‫ِبِه » وقال ‪َ « :‬فَلَعَّلَك تاِر ٌك َبْعَض ما ُيوحى ِإَلْي َك َو ضاِئٌق ِبِه َص ْد ُر َك َأْن َيُقوُلوا َلْو ال ُأْن ِز َل‬
‫َعَلْيِه َك ْنٌز َأْو جاَء َم َعُه َم َلٌك ِإمَّن ا َأْنَت َنِذ يٌر َو الَّلُه َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكيٌل » ‪.‬‬

‫فالّل ه كافي ك أذاهم ‪ ،‬وناصرك عليهم ‪ ،‬ومؤيدك ومظهرك عليهم ‪ ،‬فمهما حاولوا إيصال‬
‫األذى بك ‪ ،‬فإن الّله مبعده عنك ‪ ،‬وحمبط ما صنعوا وهم ال يشعرون‪.‬‬

‫(ِإَّن الَّل َه َم َع اَّل ِذ يَن اَّتَق ْو ا َو اَّل ِذ يَن ُه ْم ْحُمِس ُنوَن ) أي إن الّل ه مع الذين اتقوا حمارمه فاجتنبوها‬
‫خوفا من عقابه ‪ ،‬والذين حيسنون رعاية فرائضه ‪ ،‬والقيام حبقوقه ‪ ،‬ولزوم طاعته فيما أمرهم‬
‫به ‪ ،‬وىف ترك ما هناهم عنه‪.‬‬

‫وحنو اآلية قوله ملوسى وهرون ‪ « :‬ال خَت افا ِإَّنيِن َمَعُك ما َأَمْسُع َو َأرى » وقول النيب صلى الّل ه‬
‫عليه وسّلم للصّد يق ومها ىف الغار فيما حكى الّله عنه ‪ « :‬ال حتزن إّن الّله معنا »‬

‫وقصارى ذلك ‪ -‬إن الّل ه تعاىل وّىل الذين تبّتلوا إليه ‪ ،‬وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم ‪ ،‬فلم‬
‫حيزنوا لفوت مطلوب ‪ ،‬ومل يفرحوا لني ل حمبوب ‪ ،‬والذين هم حمسنون أعماهلم برعاية‬
‫فرائضه وأداء حقوقه على النحو الالئق جبالله وكماله ‪ ،‬وقد فسر النيب صلى الّله عليه وسلم‬
‫اإلحسان فقال ‪« :‬أن تعبد الّله كأنك تراه ‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنه يراك» ‪.‬‬
‫والّل ه نسأل أن يهدينا إىل سواء السبيل ‪ ،‬وأن يوفقن ا للفقه ىف دين ه ‪ ،‬ويفتح لن ا خزائن‬
‫أسراره ‪ ،‬حبرمة كتابه ‪ ،‬وكنوز شريعته اليت أنزهلا على رسوله النيب األمى ‪ ،‬واحلمد لّل ه رب‬
‫العاملني ‪ ،‬وصالته وسالمه على سيد املرسلني ‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني ‪:‬‬

‫جممل ما حوته السورة الكرمية من اآلداب واألحكام‬

‫(‪ )1‬استعجال املشركني للساعة‪.‬‬

‫(‪ )2‬ذكر األدلة على التوحيد خبلق العامل العلوي والسفلى وخلق اإلنسان‪.‬‬

‫(‪ )3‬االمتن ان على عباده خبلق األنع ام وما فيها من املن افع من أكل ومحل أثقال إىل البالد‬
‫البعيدة‪.‬‬

‫(‪ )4‬النعي على املشركني ىف عبادة األصنام واألوثان‪.‬‬

‫(‪ )5‬إنذار املشركني بأن حيل هبم مثل ما حل مبن قبلهم من املثالت ومبا آتاهم من العذاب‬
‫من حيث ال يشعرون‪.‬‬

‫(‪ )6‬احتج اج املش ركني بع دم احلاج ة إىل إرسال الرسل بأن ما هم في ه من كفر وض الل‬
‫مقدر مكتوب عليهم ‪ ،‬فال فائدة ىف إرساهلم ‪ ،‬وقد رّد الّل ه عليهم بأن وظيفة الرسل البالغ‬
‫واإلنذار ال خلق اهلداية واإلميان‪.‬‬

‫(‪ )7‬إمجال دعوة األنبي اء بأهنا عبادة الّل ه واجتن اب الطاغوت ‪ ،‬ومن الن اس من استجاب‬
‫لدعوهتم ومنهم من حقت عليه الضاللة‪.‬‬
‫(‪ )8‬إنكار املشركني للبعث والنشور وحلفهم على ذلك ‪ ،‬وتكذيب الّله هلم فيما يقولون‪.‬‬

‫(‪ )9‬إنكارهم بعث حممد صلى الّله عليه وسّلم بأنه رجل ال ملك ‪ ،‬فكذهبم الّل ه بأن األنبياء‬
‫مجيعا كانوا رجاال ال مالئكة‪.‬‬

‫(‪ )10‬إنذار املشركني بعذاب اخلسف‪.‬‬

‫(‪ )11‬جعلهم املالئكة بنات مع حزهنم إذا بشر أحدهم باألنثى‪.‬‬

‫(‪ )12‬رمحة الّل ه بعباده وعدم مؤاخذهتم بذنوهبم ‪ ،‬وأنه لو آخذهم ما ترك على ظهر‬
‫األرض دابة‪.‬‬

‫(‪ )13‬ذكر نعمه على عباده بإنزال اللنب من بني الفرث والدم ‪ ،‬وأخذ الثمرات من النخيل‬
‫واألعناب والعسل من النحل‪.‬‬

‫(‪ )14‬تفاضل الناس ىف األعمار واألرزاق‪.‬‬

‫(‪ )15‬ضرب األمثال لدحض الشركاء واألنداد من دون الّله‪.‬‬

‫(‪ )16‬االمتنان على عباده خبلق السمع والبصر وتسخري الطري ىف جو السماء وجعل البيوت‬
‫سكنا ‪ ،‬وجعله لنا سرابيل تقى احلر وسرابيل تقى بأس العدو‪.‬‬

‫(‪ )17‬جع ل األنبي اء شهداء على أممهم وعدم اإلذن للكافرين ىف الكالم وعدم قبول‬
‫معذرهتم‪.‬‬
‫(‪ )18‬األمر بالع دل واإلحسان وصلة األرحام ‪ ،‬والنهى عن الفحش اء واملنكر والبغي ‪،‬‬
‫واألمر بالوفاء بالعهود والوعود وضرب األمثال لذلك‪.‬‬

‫(‪ )19‬األمر باالستعاذة من الشيطان وبيان أن سلطانه على املشركني‪.‬‬

‫(‪ )20‬تكذيبهم للرسول إذا جاءهم حبكم مل يكن ىف شريعة من قبله من األنبياء وادعاؤهم‬
‫بأن هذا القرآن إمنا هو تعليم من عبد رومى ورد الّله عليهم ذلك‪.‬‬

‫(‪ )21‬إنه ال ضري على من كفر بالّله وقلبه مطمئن باإلميان دون من شرح بالكفر صدرا‪.‬‬

‫(‪ )22‬دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة وجزاء كل نفس مبا عملت‪.‬‬

‫(‪ )23‬ذكر ما حرمه الّله من املطاعم والنهى عن تقّو هلم على الّله بغري علم‪.‬‬

‫(‪ )24‬ذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم‪.‬‬

‫(‪ )25‬مدح إبراهيم عليه السالم ووصفه بصفات مل يوصف هبا نىب غريه ‪ ،‬مث أمر النيب صلى‬
‫الّله عليه وسّلم باتباعه وسلوك طريقته ىف العقاب والصرب على األذى‪.‬‬

‫وقد انتهى تصنيف‪ .‬هذا اجلزء مبدينة حلوان من أرباض القاهرة عصر يوم األربعاء الثالثني‬
‫من مجادى اآلخرة من سنة ثالث وستني وثالمثائة من هجرة سيد ولد عدنان‪.‬‬

‫[سورة البقرة (‪ : )2‬اآليات ‪ 256‬الى ‪]257‬‬


‫ِد‬
‫ال ِإْك راَه يِف الِّديِن َقْد َتَبَنَّي الُّر ْشُد ِم َن اْلَغِّي َفَم ْن َيْك ُف ْر ِبالَّطاُغوِت َو ُيْؤ ِم ْن ِبالَّلِه َفَق اْس َتْم َس َك‬
‫ِم‬ ‫َّل ِذ‬ ‫ِمَس ِل‬ ‫ِف‬ ‫ِب ِة‬
‫اْلُعْر َو اْل ُو ْثقى ال اْن صاَم هَل ا َو الَّل ُه يٌع َع يٌم (‪ )256‬الَّل ُه َو ُّيِل ا يَن آَم ُن وا ْخُيِر ُجُه ْم َن‬
‫الُّظُلماِت ِإىَل الُّن وِر اَّل ِذ ي َك َف وا َأ ِلي اُؤ الَّط اُغو ْخُيِر و ِم الُّن وِر ِإىَل الُّظُلماِت‬
‫ُت ُج َنُه ْم َن‬ ‫َو َن ُر ْو ُه ُم‬
‫ُأولِئَك َأْص حاُب الَّناِر ُه ْم ِفيها خاِلُد وَن (‪)257‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫ال إكراه يف الدين ‪ :‬أي ال إكراه يف دخول الدين ‪ ،‬وبان الشيء واستبان ‪ :‬وصح وظهر ‪،‬‬
‫ومنه املثل ‪ :‬تبنّي الصبح لذى عينني ‪ ،‬والرشد ‪ :‬بالضم والتحريك ‪ ،‬والرشاد‪:‬‬

‫اهلدى وكل خري ‪ ،‬وض ده الغى ‪ ،‬واجلهل كالغى إال أن األول يف االعتقاد ‪ ،‬والث اين ىف‬
‫األفع ال ‪ ،‬ومن مث قي ل زوال اجلهل بالعلم ‪ ،‬وزوال الغى بالرشد ‪ ،‬والطاغوت ‪ :‬من‬
‫الطغيان ‪ ،‬وهو جماوزة احلد يف الشيء ‪ ،‬وجيوز تذكريه وتأنيثه وإفراده ومجعه حبسب املعىن‬
‫كما ق ال تع اىل ‪َ « :‬أ ِلي اُؤ الَّط اُغو » وق ال ‪ِ « :‬ر يُد وَن َأْن َتح اَك وا ِإىَل الَّط اُغوِت‬
‫َي ُم‬ ‫ُي‬ ‫ُت‬ ‫ْو ُه ُم‬
‫َو َقْد ُأِم ُر وا َأْن َيْك ُف ُر وا ِبِه » والعروة من الدلو والكوز وحنومها ‪ :‬املقبض الذي ميسك به من‬
‫يأخذمها ‪ ،‬والوثقي ‪ :‬مؤنث األوثق ‪ ،‬وهو احلبل الوثيق احملكم ‪ ،‬واالنفصام‪ .‬االنكسار أو‬
‫االنقطاع ‪ ،‬من قوهلم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه ‪ ،‬والويل ‪:‬‬

‫الناصر واملعني ‪ ،‬والظلمات ‪ :‬هى الضالالت اليت نعرض لإلنسان يف أطوار حياته ‪ ،‬كالكفر‬
‫والش بهات اليت تع رض دون الدين فتصّد عن النظر في ه أو حتول دون فهمه ‪ ،‬واإلذعان له‬
‫كالبدع واألهواء اليت حتمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات اليت تشغل عنه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬
‫كان الكالم قبل هذا يف تقرير أصول الدين من توحي د الّل ه وتنزيهه وانفراده بامللك‬
‫والسلطان يف السموات واألرض ‪ ،‬وبي ان أن علمه حمي ط بكل شىء وأنه العلى العظيم‪.‬‬
‫والكالم هنا يف بيان أن االعتقاد هبذا أمر هتدى إليه الفطرة ‪ ،‬وترشد إليه املشاهدات الكونية‬
‫‪ ،‬فأماراته واض حة ‪ ،‬والّنصب علي ه جلي ة ال لبس فيها وال إهبام ‪ ،‬فمن هدى إلي ه فقد فاز‬
‫بالسعادة ‪ ،‬ومن أعرض عنه خسر الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وذلك هو اخلسران املبني‪.‬‬

‫وسبب نزول اآلية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس ‪ :‬أن رجال من‬
‫األنصار يقال له احلصني كان له ابنان نصرانيان ‪ ،‬وكان هو مسلما ‪ ،‬فقال للنىب صلى الّل ه‬
‫علي ه وسلم ‪ :‬أال أستكرههما ؟ فإهنما ق د أبي ا إال النصرانية ‪ ،‬فأنزل الّل ه اآلية ‪ ،‬ويف بعض‬
‫الروايات أنه حاول إكراههما ‪ ،‬فاختصموا إىل النيب صلى الّل ه عليه وسلم‪ .‬فقال يا رسول‬
‫الّله ‪ :‬أ يدخل بعضى النار وأنا أنظر ‪ ،‬فنزلت فخاّل مها‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ال ِإْك راَه يِف الِّديِن ) أي ال إكراه يف الدخول فيه ‪ ،‬ألن اإلميان إذعان وخضوع ‪ ،‬وال يكون‬
‫ذلك باإللزام واإلكراه ‪ ،‬وإمنا يكون باحلجة والربهان‪.‬‬

‫وكفى هبذه اآلية حجة على من زعم من أعداء الدين ‪ ،‬بل من أوليائه ‪ ،‬أن اإلسالم ما قام‬
‫إال والسيف ناصره ‪ ،‬فكان يع رض على الن اس ‪ ،‬فإن قبلوه جنوا ‪ ،‬وإن رفضوه حكم فيهم‬
‫السيف حكمه‪.‬‬
‫والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا االفرتاء ‪ ،‬فهل كان السيف يعمل عمله ىف إكراه‬
‫الناس على اإلسالم حني كان النيب يصلى مستخفيا واملشركون يفتنون املسلمني بضروب‬
‫من التع ذيب ‪ ،‬وال جيدون زاج را حىت اض طر الن يب وصحبه إىل اهلج رة ؟ أو كان ذلك‬
‫اإلكراه يف املدين ة بع د أن اعتز اإلسالم ؟ وق د نزلت هذه اآلية يف مبدأ هذه الع زة ‪ ،‬فإن‬
‫غزوة بىن النضري كانت يف السنة الرابعة للهجرة ‪ ،‬اللهم ال هذا وال ذاك‪ .‬هذا ‪ ،‬وقد كان‬
‫معهودا عن د بعض امللل وال سيما النصارى إكراه الن اس على الدخول ىف دينهم‪ .‬مث أكد‬
‫عدم اإلكراه بقوله ‪:‬‬

‫(َقْد َتَبَنَّي الُّر ْشُد ِم َن اْلَغِّي ) أي قد ظهر أن يف هذا الدين الرشد والفالح ‪ ،‬وأن ما خالفه من‬
‫امللل األخرى غّى وضالل‪ .‬مث فصل ذلك فقال ‪:‬‬

‫(َفَم ْن َيْك ُف ْر ِبالَّط اُغوِت َو ُيْؤ ِم ْن ِبالَّل ِه َفَق ِد اْس َتْم َس َك ِب اْلُعْر َو ِة اْل ُو ْثقى اَل اْنِف صاَم هَل ا) أي فمن‬
‫يكفر مبا تكون عبادته واإلميان به سببا يف الطغي ان واخلروج عن احلق من عبادة خملوق ‪،‬‬
‫إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما ‪ ،‬أو تقليد رئيس ‪ ،‬أو طاعة هوى ‪ ،‬ويؤمن بالّل ه فال‬
‫يعبد إال إياه ‪ ،‬وال يرجو شيئا من أحد سواه ‪ ،‬ويعرتف بأن له رسال أرسلهم للناس مبشرين‬
‫ومن ذرين بأوامره ونواهي ه اليت فيها مصلحة للن اس كافة ‪ -‬فقد حترى باعتقاده وعمله أن‬
‫يكون ممسكا بأوثق عرا النج اة ‪ ،‬وأمنت وسائل احلق ‪ ،‬وإمنا يكون ذلك باالستقامة على‬
‫الطريق القومي الذي ال يضل سالكه ‪ ،‬فمثله مث ل املمسك بع روة احلبل احملكم املأمون‬
‫االنقطاع لدى محل جسم كبري ثقيل‪ .‬مث أتى مبا يفيد الرتغيب والرتهيب فقال ‪:‬‬
‫(َو الَّلُه ِمَس يٌع َعِليٌم) أي والّله مسيع ألقوال من يدعى الكفر بالطاغوت واإلميان بالّل ه ‪ ،‬عليم مبا‬
‫يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه ‪ ،‬فمن اعتقد أن مجيع األشياء مسرية بقدرة الّل ه ال تأثري‬
‫فيها ألحد سواه ‪ ،‬فهو املؤمن حقا وله اجلزاء األوىف ‪ ،‬ومن انطوى قلبه على شىء من‬
‫نزعات الوثنية ‪ ،‬ونسب ما جهل سره من عجائب اخللق إىل قوة غري طبيعية يتقرب هبا إىل‬
‫الّل ه زلفى ‪ ،‬فقد حق علي ه الع ذاب ‪ ،‬وكان ج زاؤه ج زاء الدين يقولون آمن ا بالّل ه وباليوم‬
‫اآلخر وما هم مبؤمنني‪.‬‬
‫ِمَج‬
‫وج اء مبع ىن اآلية قوله ‪َ « :‬و َل ْو شاَء َر ُّب َك آَل َم َن َمْن يِف اَأْلْر ِض ُك ُّلُه ْم يع ًا َأَف َأْنَت ُتْك ِر ُه‬
‫الَّناَس َح ىَّت َيُك وُنوا ُمْؤ ِمِنَني ؟ » ‪.‬‬

‫وقد جعل املسلمون قوله ‪( :‬ال ِإْك راَه يِف الِّديِن ) أّس ا من أسس الدين ‪ ،‬وركنا عظيما من‬
‫أركان سياسته ‪ ،‬فلم جييزوا إكراه أحد على الدخول في ه ‪ ،‬كما مل جييزوا ألحد أن يكره‬
‫أحدا على اخلروج منه‪.‬‬

‫وإمنا يتم ذلك إذا كانت لنا املنعة والقوة اليت حنمى هبا ديننا وأنفسنا ممن حياول فتتنا فيه أو‬
‫االعتداء علين ا ‪ ،‬وق د أمرنا الّل ه بأن ندعو إىل سبيله باحلكمة واملوعظ ة احلسنة وأن جنادل‬
‫املخالفني باليت هى أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة‪.‬‬

‫وإمنا فرض علينا اجلهاد ليكون سياجا ووقاية لصّد من يقاوم هذه الدعوة ‪ ،‬ومينع نشر هذا‬
‫النور يف أرجاء املعمورة ‪ ،‬وكف شر الكافرين عن املؤمنني ‪ ،‬كيال يزعزعوا ضعيفهم قبل أن‬
‫يتمكن اإلميان من قلبه ‪ ،‬ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه ‪ ،‬كما كانوا يفعلون ذلك يف مكة‬
‫جهرا ‪ ،‬ومن مث قال سبحانه ‪َ « :‬و قاِتُلوُه ْم َح ىَّت ال َتُك وَن ِفْتَن ٌة » أي حىت يكون الدين كله‬
‫خالصا لّل ه غري مزعزع وال مضطرب ‪ ،‬ولن يكون كذلك إال إذا كّف ت الفنت عن ه وق وى‬
‫سلطانه حىت ال جيرؤ على أهله أحد‪ .‬والفنت تكّف بأحد أمرين ‪:‬‬

‫(‪ )1‬بإظهار املعاندين اإلسالم ولو باللسان ‪ ،‬وبدا ال يكونون من خصومنا وال يناصبوننا‬
‫العداء ‪ ،‬وال مينعون أحدا من الدعوة إليه‪.‬‬

‫(‪ )2‬بقبول اجلزية وهى ج زء من املال يؤخذ من أهل الكتاب ج زاء محايتن ا هلم بع د أن‬
‫خيضعوا لنا فنكفى شرهم‪.‬‬

‫(الَّل ُه َو ُّيِل اَّلِذ يَن آَم ُنوا ْخُيِر ُجُه ْم ِم َن الُّظُلماِت ِإىَل الُّنوِر ) أي إن املؤمن ال وّىل له وال سلطان‬
‫ألحد على اعتقاده إال الّل ه تعاىل ‪ ،‬فهو يهديه إىل استعمال ضروب اهلدايات اليت وهبها له‬
‫(احلواس والعقل والدين) على الوج ه الصحيح ‪ ،‬وإذا عرض ت له شبهة الح له شعاع من‬
‫ِذ‬
‫نور احلق يطرد هذه الظلمة حىت خيلص منها كما قال ‪ِ « :‬إَّن اَّل يَن اَّتَق ْو ا ِإذا َم َّس ُه ْم طاِئٌف‬
‫ِم َن الَّش ْيطاِن َتَذ َّك ُر وا َفِإذا ُه ْم ُمْبِص ُر وَن » ‪.‬‬

‫فنظر احلواس يف األكوان وإدراكها ما فيها من بديع اإلتقان ينري هذه احلواس ‪ ،‬ونظر العقل‬
‫يف املعقوالت يزيده نورا على نور ‪ ،‬والنظر فيما جاء به الدين من اآليات يتمم له ما يصل‬
‫به إىل أوج سعادته ومنتهى فوزه وفالحه‪.‬‬

‫(َو اَّل ِذ يَن َك َف ُر وا َأْو ِلي اُؤ ُه ُم الَّط اُغوُت ْخُيِر ُج وَنُه ْم ِم َن الُّن وِر ِإىَل الُّظُلماِت ) أي والكافرون ال‬
‫سلطان على نفوسهم إال لتلك املعبودات الباطلة اليت تسوقهم إىل الطغيان ‪ ،‬فإن كانت من‬
‫األحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد الح هلم شعاع من نور احلق نبههم إىل فساد ما هم‬
‫فيه ‪ -‬بادرت إىل إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات ‪ ،‬وإن كانت من غري األحياء‬
‫فسدنة هياكلها وزعماء حزهبا ال يقّص رون يف تنمي ق هذه الش بهات ‪ ،‬ببي ان أن الواجب‬
‫االعتقاد بتلك السلطة ومبا ينبغي ألرباهبا من التعظيم ‪ ،‬وهو ال شك عبادة وإن مسوه توسال‬
‫أو استشفاعا أو غري ذلك من األمساء‪.‬‬

‫(ُأولِئ َك َأْص حاُب الَّناِر ُه ْم ِفيها خاِلُد وَن ) فإن ما يكون يف اآلخرة ما هو إال جزاء ملا كان‬
‫عليه اإلنسان يف الدنيا ‪ ،‬وال يليق بأهل الظلمات الذين مل يبق لنور احلق مكان ىف نفوسهم‬
‫إال تلك الدار اليت وقودها الناس واحلجارة‪.‬‬

‫وحنن ال نبحث عن حقيقتها ‪ ،‬وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أهنا دار شقاء‬
‫وعذاب ‪ ،‬جزاء ما قدمته أيدى العاصني من سيئ أعماهلم‪.‬‬

‫[سورة األنعام (‪ : )6‬اآليات ‪ 108‬الى ‪]110‬‬


‫ال َت ُّبوا اَّل ِذ ي ْد وَن ِم وِن الَّل ِه ُّبوا الَّل ْد وًا ِبَغِرْي ِعْلٍم َك ذِلَك َّيَّن ا ِلُك ِّل ُأَّم ٍة‬
‫َز‬ ‫َه َع‬ ‫َفَيُس‬ ‫َن َي ُع ْن ُد‬ ‫َو ُس‬
‫ِهِن‬ ‫ِب ِه‬ ‫مِب‬ ‫ِإ ِهِّب ِج‬
‫َعَم َلُه ْم َّمُث ىل َر ْم َم ْر ُعُه ْم َفُيَنِّبُئُه ْم ا كاُنوا َيْع َم ُل وَن (‪َ )108‬و َأْقَس ُم وا الَّل َج ْه َد َأمْي ا ْم‬
‫َلِئْن جاَءْتُه ْم آَيٌة َلُيْؤ ِم ُنَّن هِب ا ُقْل ِإَمَّنا اآْل ياُت ِعْنَد الَّلِه َو ما ُيْش ِعُر ُك ْم َأهَّن ا ِإذا جاَءْت ال ُيْؤ ِم ُنوَن (‬
‫‪َ )109‬و ُنَق ِّلُب َأْفِئَد َتُه ْم َو َأْبصاَر ُه ْم َك ما ْمَل ُيْؤ ِم ُنوا ِبِه َأَّو َل َم َّر ٍة َو َنَذ ُر ُه ْم يِف ُطْغياِهِنْم َيْع َم ُه وَن‬
‫(‪)110‬‬

‫المعنى الجملي‬
‫بعد أن أمر الّل ه رسوله فيما سبق من اآليات بتبليغ وحيه بالقول والعمل ‪ ،‬واإلعراض عن‬
‫املشركني مبقابلة جحودهم وطعنهم ىف الوحى بالصرب واحللم ‪ ،‬وبني أن من مقتضى سنته ىف‬
‫البشر أال يتفقوا على دين الختالف استعدادهم وتفاوهتم ىف درجات الفهم والفكر ‪ ،‬وذكر‬
‫أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغني ال مسيطرين ‪ ،‬وهادين ال جبارين ‪ ،‬فينبغى أال يضيقوا‬
‫ذرعا مبا يرون وما يشاهدون من االزدراء هبم والطعن ىف دينهم ‪ ،‬فإن الّله هو الذي منحهم‬
‫هذه احلرية ومل جيربهم على اإلميان ‪ -‬هنى املؤمنني هن ا عن سب آهلة املش ركني ‪ ،‬ألهنم إذا‬
‫شتموا فرمبا غضبوا ‪ ،‬وذكروا الّل ه مبا ال ينبغى من القول مث ذكر طلب بعضهم لآليات ‪،‬‬
‫ألن القرآن ليس من جنس املعجزات ‪ ،‬ولو جاءهم مبعجزة ظاهرة آلمنوا به ‪ ،‬وحلفوا على‬
‫ذلك وأكدوه بكل ميني حمرجة‪.‬‬

‫ي‬ ‫أخرج ابن جرير وابن أيب حامت وابن مردويه عن ابن عباس ىف قوله ‪ « :‬ال َت ُّبوا اَّل ِذ‬
‫َن‬ ‫َو ُس‬
‫َي ْد ُعوَن ِم ْن ُدوِن الَّل ِه » اآلية ‪ ،‬ق ال ‪ :‬ق الوا يا حممد لتنتهّني عن سب آهلتن ا أو لنهج وّن‬
‫ربك ‪ ،‬فنهاهم أن يسبوا أوثاهنم فيسبوا الّله عدوا بغري علم‪.‬‬

‫وأخرج ابن أيب حامت عن السدى قال ‪ « :‬ملا حضر أبا طالب املوت قالت قريش ‪:‬‬

‫انطلقوا فلندخلّن على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحى أن نقتله بعد‬
‫موته فتقول العرب ‪ :‬كان مينع ه وحيمي ه فلما مات قتلوه ‪ ،‬فانطلق أبو سفيان وأبو جهل‬
‫والنضر بن احلارث وأمية وأّيب ابنا خلف وعقبة بن أيب معيط وعمرو بن العاصي واألسود‬
‫بن البخرتي ‪ ،‬وبعثوا رجال منهم يقال له املطلب فقالوا ‪ :‬استأذن لنا على أيب طالب ‪ ،‬فأتى‬
‫أبا طالب فقال هؤالء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ‪ ،‬فأذن هلم فدخلوا فقالوا ‪ :‬يا‬
‫أبا طالب أنت كبرينا وسيدنا ‪ ،‬وإن حممدا قد آذانا وآذى آهلتنا ‪ ،‬فنحب أن تدعوه فتنهاه‬
‫عن ذكر آهلتن ا ولندعه وإهله ‪ ،‬فدعا الن يب صّلى الّل ه علي ه وسلم فج اءه فقال له ‪ :‬هؤالء‬
‫قومك وبنو عمك ‪ ،‬فقال رسول الّله صّلى الّله عليه وسلم ما يريدون ؟ قالوا نريد أن تدعنا‬
‫وآهلتنا وندعك وإهلك ‪ ،‬قال أبو طالب ‪ :‬قد أنصفك قومك فاقبل منهم ‪ ،‬قال النيب صّلى‬
‫الّل ه علي ه وسلم ‪ :‬أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم هبا ملكتم هبا‬
‫الع رب ودانت لكم هبا العجم وأّدت لكم اخلراج ؟ ق ال أبو جهل ‪ :‬وأبي ك لنعطيّنكها‬
‫وعشر أمثاهلا فما هى ؟ قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬ال إله إال الّل ه ‪ ،‬فأبوا وامشأزوا ‪ ،‬قال أبو طالب ‪ :‬قل‬
‫غريها فإن قومك قد فزعوا منها ‪ ،‬قال يا عم ‪ :‬ما أنا بالذي أقول غريها حىت يأتوا بالش مس‬

‫فيضعوها ىف يدى ‪ ،‬ولو أتوىن هبا فوضعوها ىف يدى ما قلت غريها ‪ ،‬فغضبوا وقالوا لتكّف ّن‬
‫ِم‬ ‫ِذ‬
‫عن شتم آهلتنا أو لنشتمّنك ونشتم من يأمرك ‪ ،‬فأنزل الّل ه ‪َ( :‬و ال َتُس ُّبوا اَّل يَن َيْد ُعوَن ْن‬
‫ُدوِن الَّلِه َفَيُس ُّبوا الَّلَه َعْد وًا ِبَغِرْي ِعْلٍم )‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َو ال َتُس ُّبوا اَّل ِذ يَن َي ْد ُعوَن ِم ْن ُدوِن الَّل ِه َفَيُس ُّبوا الَّل َه َع ْد وًا ِبَغِرْي ِعْلٍم ) أي وال تسبوا أيها‬
‫املؤمن ون معبودات املش ركني اليت يدعوهنا من دون الّل ه جللب نفع هلم أو دفع ض رر عنهم‬
‫بوساطتها وشفاعتها عن د الّل ه ‪ ،‬إذ رمبا نتج عن ذلك سبهم لّل ه سبحانه وتع اىل عدوا أي‬
‫جتاوزا منهم للح د ىف الّس باب واملش امتة ليغيظ وا املؤمنني‪ .‬وقوله بغ ري علم أي جبهالة بالّل ه‬
‫تعاىل ومبا جيب أن يذكر به‪.‬‬
‫وىف ذلك إمياء إىل أن الطاعة إذا أدت إىل معصية راجحة وجب تركها ‪ ،‬فإن ما يؤدى إىل‬
‫الشّر شر ‪ ،‬وإىل أنه ال جيوز أن يعمل مع الكفار ما يزدادون به بعدا عن احلق ونفورا منه ‪،‬‬
‫أال ترى إىل قوله تعاىل ملوسى وهارون ىف خماطبة فرعون ‪:‬‬

‫« َفُقوال َلُه َقْو اًل َلِّينًا َلَعَّلُه َيَتَذ َّك ُر َأْو ْخَيشى » ‪.‬‬

‫(َك ذِلَك َز َّيَّنا ِلُك ِّل ُأَّم ٍة َعَم َلُه ْم ) أي مثل ذلك التزيني الذي حيمل املشركني على ما ذكر محية‬
‫ملن يدعون من دون الّله ‪ -‬زينا لكل أمة عملهم من كفر وإميان وشر وخري‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن سنننا ىف أخالق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما جيرون عليه ويتعودونه ‪،‬‬
‫سواء كان مما عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم ‪ ،‬وسواء أ كان‬
‫ذلك عن تقليد وجهل أم عن بينة وعلم‪.‬‬

‫ومن هذا يعلم أن التزيني أثر ألعماهلم االختيارية بدون جرب وال إكراه ‪ ،‬ال أن الّل ه خلق ىف‬
‫قلوب بعض األمم تزيينا للكفر والشر ‪ ،‬وىف قلوب بعضها تزيينا لإلميان واخلري من غري أن‬
‫يكون هلم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ‪ ،‬وإال كان اإلميان والكفر واخلري والشر من الغرائز‬
‫اخللقي ة اليت تع د الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الّل ه تع اىل عن إرسال الرسل وإنزال‬
‫الكتب ألجله ‪ ،‬وكان عمل الرسل واحلكماء واملؤدبني الذين يؤدبون الناس عمال ال فائدة‬
‫فيه‪.‬‬

‫واخلالصة ‪ -‬إن تزيني األعمال لألمم سنة من سنن الّل ه ج ل شأنه سواء ىف ذلك أعماهلا‬
‫وعاداهتا وأخالقها املوروثة واملكتسبة‪.‬‬
‫(َّمُث ِإىل َر ِهِّبْم َم ْر ِج ُعُه ْم َفُيَنِّبُئُه ْم مِب ا كاُنوا َيْع َم ُل وَن ) أي مث إىل رهبم ومالك أمرهم رج وعهم‬
‫ومصريهم بعد املوت وحني البعث ‪ ،‬ال إىل غريه إذ ال رب سواه ‪ ،‬فينبئهم مبا كانوا يعملون‬
‫ىف الدنيا من خري أو شر وجيزيهم علي ه ما يستحقون وهو هبم عليم (َو َأْقَس ُم وا ِبالَّل ِه َج ْه َد‬
‫َأمْي اِهِنْم َلِئْن ج اَءْتُه ْم آَي ٌة َلُيْؤ ِم ُنَّن هِب ا) أي وأقسم هؤالء املش ركون املعاندون بأوكد األميان‬
‫وأشدها مبالغة ‪ ،‬لئن جاءهتم آية من اآليات الكونية ليؤمنن بأهنا من عند الّل ه وأنك رسول‬
‫من لدنه‪.‬‬

‫وىف هذا إمياء إىل أهنم بلغوا غاية العتو والعناد ‪ ،‬إذ هم مل يع ّد وا ما يشاهدونه من املعجزات‬
‫من نوع اآليات ومن مث اقرتحوا غريها ‪ ،‬وما كان غرضهم من ذلك إال التحكم ىف طلب‬
‫املعجزات ‪ ،‬وعدم االعتداد مبا شاهدوا من البينات‪.‬‬

‫(ُقْل ِإَمَّنا اآْل ياُت ِعْنَد الَّلِه) أي قل أيها الرسول إمنا اآليات عند الّله وحده ‪ ،‬فهو القادر عليها‬
‫واملتصرف فيها يعطيها من يشاء ومينعها من يشاء حبكمته وقضائه كما قال ‪:‬‬

‫« َو ما كاَن ِلَر ُس وٍل َأْن َيْأَيِت ِبآَيٍة ِإاَّل ِبِإْذِن الَّل ِه » فال ميكنىن أن أتصدى إلنزاهلا باالستدعاء‬
‫والطلب‪.‬‬

‫روى « أن قريشا اقرتحوا بعض آيات فقال رسول الّل ه صّلى الّل ه عليه وسلم ‪ :‬فإن فعلت‬
‫بعض ما تقولون أ تصدقونين ؟ فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلت لن ؤمنن مجيع ا ‪ ،‬فسأل‬
‫املسلمون رسول الّل ه صّلى الّل ه علي ه وسلم أن ينزهلا طمع ا ىف إمياهنم ‪ ،‬فهّم علي ه الصالة‬
‫والسالم بالدعاء فنزلت اآلية » ‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير عن حممد بن كعب القرظي ق ال ‪ « :‬كلم رسول الّل ه صّلى الّل ه علي ه‬
‫وسلم قريش ا فقالوا يا حممد ‪ :‬ختربنا أن موسى كان مع ه عصا يضرب هبا احلج ر ‪ ،‬وأن‬
‫عيسى كان حيىي املوتى ‪ ،‬وأن مثود كانت هلم ناق ة ‪ ،‬فأتن ا ببعض تلك اآليات حىت‬
‫نصدقك ‪ ،‬فقال رسول الّل ه صّلى الّل ه علي ه وسلم ‪ :‬أّى شىء حتبون أن آتيكم به ؟ ق الوا‬
‫حتّو ل لنا الصفا ذهبا ‪ ،‬فقال ‪ :‬فإن فعلت تصدقوىن ‪ ،‬ق الوا نعم ‪ ،‬والّل ه لئن فعلت لنتبعن ك‬
‫أمجعني ‪ ،‬فقام رسول الّله صّلى الّله عليه وسلم يدعو فجاءه جربيل عليه السالم فقال‪:‬‬

‫إن شئت أصبح الصفا ذهبا ‪ ،‬فإن مل يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب االستئصال)‬
‫وإن شئت فاتركهم حىت يتوب تائبهم ‪ ،‬فقال صّلى الّل ه عليه وسلم ‪ :‬أتركهم حىت يتوب‬
‫تائبهم ‪ ،‬فأنزل الّله هذه اآلية إىل قوله ‪َ( :‬و لِكَّن َأْك َثَر ُه ْم ْجَيَه ُلوَن ) »‬

‫(َو ما ُيْش ِعُر ُك ْم َأهَّن ا ِإذا جاَءْت ال ُيْؤ ِم ُن وَن ) اخلطاب للمؤمنني الذين متّن وا جمىء اآلية ليؤمنوا‬
‫والنيب صّلى الّله عليه وسلم منهم بدليل مهه بالدعاء ورغبته ىف ذلك‪.‬‬

‫واملعىن ‪ -‬إنه ليس لكم شىء من أسباب الشعور هبذا األمر الغيىب الذي ال يعلمه إال عالم‬
‫الغيوب وهو أهنم ال يؤمنون إذا جاءهتم اآلية‪.‬‬

‫(َو ُنَق ِّلُب َأْفِئَد َتُه ْم َو َأْبصاَر ُه ْم َك ما ْمَل ُيْؤ ِم ُنوا ِبِه َأَّو َل َم َّر ٍة) تقليب األفئدة واألبصار ‪:‬‬

‫الطبع واخلتم عليها أي وما يش عركم أنا نقلب أفئدهتم عن إدراك احلق فال يدركونه ‪،‬‬
‫وأبصارهم عن اجتالئه فال يبصرونه ‪ ،‬لكمال نبّو ها عن ه ومتام إعراض هم عن درك حقيقته‬
‫وتكون حاهلم حينئذ كحاهلم األوىل ىف عدم إمياهنم مبا جاءهم أول مرة من اآليات‪.‬‬
‫ونظ ري اآلية قوله ‪َ « :‬و َل ْو َفَتْح ن ا َعَلْيِه ْم بابًا ِم َن الَّس ماِء َفَظُّل وا ِفي ِه َيْع ُر ُج وَن ‪َ .‬لقاُلوا ِإمَّن ا‬
‫ُس ِّك َر ْت َأْبصاُر نا َبْل ْحَنُن َقْو ٌم َم ْس ُح وُر وَن » ‪.‬‬

‫ومن مل يقنعه ما جاء به القرآن من الدالئل العقلية والرباهني العلمية ال يقنعه ما يراه بعينيه‬
‫من اآليات احلسية ‪ ،‬فله أن يدعى أن عيني ه قد خدعتا أو أصيبتا بآفة ‪ ،‬فهما ال تريان إال‬
‫صورا خيالية أو سحرا مفرتى ‪ ،‬وهذه سنة األولني ىف مكابرة آيات الرسل‪.‬‬

‫(َو َنَذ ُر ُه ْم يِف ُطْغياِهِنْم َيْع َم ُه وَن ) العمه ‪ :‬الرتدد ىف األمر من احلرية فيه ‪ ،‬والطغيان ‪:‬‬

‫جتاوز احلد أي إنا ندعهم يتج اوزون احلد ىف الكفر والعصيان ‪ ،‬ويرتددون متح ريين فيما‬
‫مسعوا ورأوا من اآليات ‪ ،‬حمّد ثني أنفسهم أ هذا هو احلق املبني أم السحر الذي خيدع عيون‬
‫الناظرين وهل األرجح اتباع احلق بعد ما تبني ‪ ،‬أو املكابرة واجلدل كربا وأنفة من اخلضوع‬
‫ملن يرونه دوهنم‪.‬‬

‫وإمنا أسنده اخلالق إىل نفسه لبيان سننه احلكمية ىف ربط املسببات بأسباهبا ‪ ،‬فرسوخهم ىف‬
‫الطغي ان الذي هو غاية الكفر والعصيان هو سبب تقليب القلوب واألبصار أي اخلتم‬
‫عليها ‪ ،‬فال تفقه وال تبصر‪.‬‬

‫واحلمد لّل ه الذي هدانا هلذا وما كن ا لنهتدى لو ال أن هدانا الّل ه ‪ ،‬اللهم ثبت أفئدتنا‬
‫وأبصارنا على احلق ‪ ،‬واحفظنا من العمه والطغيان ىف كل أمر ‪ ،‬واجعلنا ممن يسمعون القول‬
‫فيتبعون أحسنه‪ .‬وصّلى الّله على سيدنا حممد وآله الغر امليامني وأصحابه املطهرين‪.‬‬
‫وكان الفراغ من مسودة هذا اجلزء مبدين ة حلوان من أرباض القاهرة ىف الليلة الثالث ة من‬
‫مجادى األوىل من سنة اثنتني وستني وثالمثائة وألف من اهلجرة النبوية‪.‬‬

‫[سورة الكافرون (‪ : )109‬اآليات ‪ 1‬الى ‪]6‬‬

‫ِبْس ِم الَّلِه الَّرمْح ِن الَّر ِح يِم‬

‫ُق ْل يا َأُّيَه ا اْلكاِفُر وَن (‪ )1‬ال َأْع ُب ُد ما َتْع ُب ُد وَن (‪َ )2‬و ال َأْنُتْم عاِب ُد وَن ما َأْع ُب ُد (‪َ )3‬و ال َأنا‬
‫عاِبٌد ما َعَبْد ْمُّت (‪َ )4‬و ال َأْنُتْم عاِبُد وَن ما َأْع ُبُد (‪َ )5‬لُك ْم ِد يُنُك ْم َو َيِل ِد يِن (‪)6‬‬

‫اإليضاح‬

‫(ُق ْل يا َأُّيَه ا اْلكاِفُر وَن ‪ .‬ال َأْع ُب ُد ما َتْع ُب ُد وَن ) أي ق ل هلم ‪ :‬إن اإلله الذي تزعمون أنكم‬
‫تعبدونه ليس هو الذي أعبده ‪ ،‬ألنكم تعبدون م ن يتخذ الشفعاء أو الولد ‪ ،‬أو يتجلى ىف‬
‫شخص أو يتجلى ىف صورة معينة أو حنو ذلك مما تزعمون ‪ ،‬وأنا أعبد إهلا ال مثيل له وال نّد‬
‫‪ ،‬وليس له ولد وال صاحبة ‪ ،‬وال حيل ىف جسم ‪ ،‬وال تدرك كنهه العقول ‪ ،‬وال حتويه‬
‫األمكن ة ‪ ،‬وال متر به األزمن ة ‪ ،‬وال يتقّر ب إلي ه بالش فعاء ‪ ،‬وال تقدم إلي ه الوسائل‪ .‬وعلى‬
‫اجلملة فبني ما تعبدون وما أعبد ‪ ،‬فارق عظيم ‪ ،‬وبون شاسع ‪ ،‬فأنتم تصفون معبودكم‬
‫بصفات ال جيمل مبعبودى أن يتصف هبا‪.‬‬

‫(َو ال َأْنُتْم عاِب ُد وَن ما َأْع ُب ُد ) أي إنكم لستم بعابدين إهلى الذي أدعو إلي ه ملخالفة صفاته‬
‫إلهلكم ‪ ،‬فال ميكن التوفيق بينهما حبال‪.‬‬
‫وبعد أن نفى االختالف ىف املعبود نفى االختالف ىف العبادة ‪ ،‬من قبل أهنم كانوا يظنون أن‬
‫عبادهتم اليت يؤدوهنا أمام شفعائهم‪ .‬أو ىف املعابد اليت أقاموها هلا أو ىف خلواهتم وهم على‬
‫اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لّل ه ‪ ،‬وأن النيب صلى الّل ه عليه وسلم ال يفضلهم ىف شىء‬
‫فقال ‪:‬‬

‫(َو ال َأنا عاِب ٌد ما َعَب ْد ْمُّت‪َ .‬و ال َأْنُتْم عاِب ُد وَن ما َأْع ُب ُد ) أي وال أنا بعابد عبادتكم وال أنتم‬
‫عابدون عبادتى قاله أبو مسلم األصفهاىن‪.‬‬

‫وخالصة ما سلف ‪ -‬االختالف التاّم ىف املعبود ‪ ،‬واالختالف البنّي ىف العبادة فال معبودنا‬
‫واحد ‪ ،‬وال عبادتن ا واحدة ‪ ،‬ألن معبودى منزه عن الن ّد والنظ ري ‪ ،‬متع ال عن الظهور ىف‬
‫شخص معني ‪ ،‬وعن احملاباة لشعب أو واحد بعينه ‪ ،‬والذي تعبدونه أنتم على خالف ذلك‪.‬‬
‫كما أن عبادتى خالصة لّل ه وحده ‪ ،‬وعبادتكم مشوبة بالشرك ‪ ،‬مصحوبة بالغفلة عن الّل ه‬
‫تعاىل ‪ ،‬فال تسمى على احلقيقة عبادة‪ .‬مث هددهم وتوعدهم فقال ‪:‬‬

‫(َلُك ْم ِديُنُك ْم َو َيِل ِديِن ) أي لكم جزاؤكم على أعمالكم وىل جزائى على عملى كما جاء ىف‬
‫قوله تعاىل ‪َ « :‬لنا َأْع ماُلنا َو َلُك ْم َأْع ماُلُك ْم » ‪ .‬وصل ربنا على حممد الذي جعل الدين لك‬
‫خالصا ‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫[سورة المائدة (‪ : )5‬اآليات ‪ 8‬الى ‪]11‬‬

‫يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك وُن وا َقَّو اِم َني ِلَّل ِه ُش َه داَء ِباْلِق ْس ِط َو ال ْجَيِر َم َّنُك ْم َش َنآُن َقْو ٍم َعلى َأَّال‬
‫َّل ِذ‬ ‫ِب مِب‬ ‫ِإ‬ ‫ِل‬ ‫ِد‬ ‫ِد‬
‫َتْع ُلوا اْع ُلوا ُه َو َأْقَر ُب لَّتْق وى َو اَّتُق وا الَّل َه َّن الَّل َه َخ ٌري ا َتْع َم ُل وَن (‪َ )8‬و َع َد الَّل ُه ا يَن‬
‫ِذ‬ ‫ِف‬ ‫حِل‬
‫آَم ُن وا َو َعِم ُل وا الَّص ا اِت ُهَلْم َم ْغ َر ٌة َو َأْج ٌر َعِظ يٌم (‪َ )9‬و اَّل يَن َك َف ُر وا َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتنا ُأولِئ َك‬
‫َأْص حاُب اَجْلِح يِم (‪ )10‬يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اْذُك ُر وا ِنْع َم َت الَّلِه َعَلْيُك ْم ِإْذ َه َّم َقْو ٌم َأْن َيْبُس ُطوا‬
‫ِإَلْيُك ْم َأْيِد َيُه ْم َفَكَّف َأْيِد َيُه ْم َعْنُك ْم َو اَّتُقوا الَّلَه َو َعَلى الَّلِه َفْلَيَتَو َّكِل اْلُم ْؤ ِم ُنوَن (‪)11‬‬

‫تفسير المفردات‬

‫القّو ام بالشيء ‪ :‬هو القائم به حق القيام ‪ ،‬شهداء بالقسط ‪ :‬أي شهداء بالعدل بال حماباة ‪،‬‬
‫وال جيرمنكم‪ .‬أي وال حيملنكم ‪ ،‬والشنآن ‪ :‬العداوة والبغضاء ‪ ،‬اخلبري ‪ :‬العامل بالشيء على‬
‫وج ه الدق ة والضبط ‪ ،‬واجلحيم ‪ :‬الن ار العظيمة ‪ ،‬وهى هن ا دار الع ذاب وأصحاهبا هم‬
‫مالزموها ‪ ،‬بسط إلي ه يده ‪ :‬بطش به ‪ ،‬وبسط إلي ه لسانه ‪ :‬شتمه ‪ ،‬والتقوى ‪ :‬هى اتقاء‬
‫عقاب الّله وسخطه برتك معاصيه‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة ‪ ،‬مث امنت عليهم بإباحة كثري من الطيبات هلم‬
‫وحترمي ما يضرهم من الطع ام إال ىف حال الضرورة ‪ ،‬مث ذكر حل طع ام أهل الكتاب‬
‫ونسائهم إذا كن حمصنات ‪ ،‬مث أمرهم بالطهارة مع رفع احلرج عنهم ‪ -‬ذكر هنا ما ينبغى‬
‫أن يكون من معاملتهم سواهم سواء أ كانوا أعداء أم أولياء ‪ ،‬مث ذكر وعده لعباده الذين‬
‫يعملون الصاحلات ووعيده ملن كفر وكذب باآليات ‪ ،‬وختمها بذكر املنة الشاملة ‪ ،‬والنعمة‬
‫الكاملة ‪ ،‬إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم ‪ ،‬وكانوا على وشك اإليقاع هبم ‪،‬‬
‫ولكن رمحهم وكبت أعداءهم ورّدهم صاغرين ‪ ،‬ليكون الشكر أمت ‪ ،‬والوفاء ألزم‪.‬‬
‫اإليضاح‬

‫(يا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك وُن وا َقَّو اِم َني ِلَّل ِه) أي ليكن من دأبكم وعادتكم القي ام باحلق ىف‬
‫أنفسكم باإلخالص لّله ىف كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم ‪ ،‬بأن تريدوا بعملكم‬
‫اخلري والتزام احلق بدون اعتداء على أحد ‪ ،‬وىف غريكم باألمر باملعروف والنهى عن املنكر‬
‫ابتغاء مرضاة الّله‪.‬‬

‫(ُش َه داَء ِباْلِق ْس ِط ) الشهادة هنا عبارة عن إظهار احلق للحاكم ليحكم به ‪ ،‬أو إظهاره هو له‬
‫باحلكم به أو اإلق رار به لصاحبه ‪ ،‬وىف كل حال تكون بالع دل بال حماباة ملش هود له وال‬
‫ملشهود عليه ‪ ،‬ألجل قرابة أو مال أو جاه ‪ ،‬وال تركه لفقر أو مسكنة‪ .‬فالعدل هو ميزان‬
‫احلقوق ‪ ،‬إذ مىت وق ع اجلور ىف أمة ألى سبب زالت الثقة من الن اس وانتش رت املفاسد ‪،‬‬
‫وتقطعت روابط اجملتمع ‪ ،‬فال يلبث أن يسلط الّل ه عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم‬
‫إىل الع دل في ذيقوهم الوبال والنكال ‪ ،‬وتلك سنة الّل ه ىف حاض ر األمم وغابرها ‪ ،‬ولكن‬
‫الناس ال يعتربون‪.‬‬

‫(َو ال ْجَيِر َم َّنُك ْم َشَنآُن َقْو ٍم َعلى َأاَّل َتْع ِد ُلوا) أي وال حتملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم‬
‫العدل ىف أمرهم بالشهادة هلم حبقهم إذا كانوا أصحاب حق ‪ ،‬أو احلكم هلم بذلك فاملؤمن‬
‫يؤثر العدل على اجلور واحملاباة ‪ ،‬وجيعله فوق األهواء وحظوظ األنفس وفوق احملبة والعداوة‬
‫مهما كان سببهما‪.‬‬

‫(اْع ِد ُلوا ُه َو َأْقَر ُب ِللَّتْق وى ) هذه اجلملة توكي د للجملة السالفة للعناية بأمر الع دل وأنه‬
‫فريضة ال هوادة فيها ‪ ،‬ألنه أقرب لتقوى الّله والبعد عن سخطه‪ .‬وتركه من أكرب املعاصي ‪،‬‬
‫ملا ينشأ عنه من املفاسد اليت تقّو ض نظم اجملتمعات ‪ ،‬وتقطع الروابط بني األفراد ‪ ،‬وجتعل‬
‫بأسهم بينهم شديدا‪.‬‬

‫(َو اَّتُقوا الَّلَه ِإَّن الَّلَه َخ ِبٌري مِب ا َتْع َم ُلوَن ) أي واتقوا سخطه وعقابه ألنه ال خيفى عليه شىء من‬
‫أعمالكم ظاهرها وباطنها ‪ ،‬واحذروا أن جيازيكم بالعدل على ترككم للعدل ‪ ،‬وقد مضت‬
‫سنته ىف خلقه بأن جيع ل ج زاء ترك الع دل ىف الدنيا الذلة واملهانة لألمم واألفراد ‪ ،‬وىف‬
‫اآلخرة اخلزي يوم احلساب‪.‬‬

‫(َو َعَد الَّلُه اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َعِم ُلوا الَّص احِل اِت ) أي األعمال اليت يصلح هبا أمر العباد ىف أنفسهم‬
‫وىف روابطهم االجتماعية ‪ ،‬ومن أمهها العدل فيما بينهم وتقوى الّله ىف مجيع أحواهلم‪ .‬مث بني‬
‫سبحانه ما وعدهم به بع د أن ذكره أّو ال جممال لتتوج ه النفس للسؤال عن ه حىت إذا ج اء‬
‫تأكد ىف النفس وتقرر هذا الوعد فقال ‪:‬‬

‫(ُهَلْم َم ْغِف َر ٌة َو َأْج ٌر َعِظ يٌم) املغفرة السرت ‪ ،‬واإلميان والعمل الصاحل يسرتان وميحوان من النفس‬
‫ما يكون فيها من سوء أث ر األعمال السالفة فيغلب عليها حب احلق واخلري وتكون أهال‬
‫للوصول إىل عامل القدس والطهر ‪ ،‬واألجر العظيم هو اجلزاء املضاعف على اإلميان والعمل‬
‫الصاحل فضال من الّله ورمحة من لدنه‪.‬‬

‫(َو اَّلِذ يَن َك َف ُر وا َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتنا ُأولِئَك َأْص حاُب اَجْلِح يِم ) الكفر هنا هو الكفر بالّل ه ورسله ‪،‬‬
‫ال فارق ىف ذلك بني كفر باجلميع وكفر بالبعض‪.‬‬
‫وآيات الّله قسمان آياته املنزلة على رسله وآياهتا اليت أقامها ىف األنفس واآلفاق للداللة على‬
‫وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته ‪ ،‬وعلى صدق رسله فيما يبلغ ون عن ه ‪ ،‬واجلحيم الن ار‬
‫العظيمة كما قال تعاىل حكاية عن قوم إبراهيم « قاُلوا اْبُنوا َلُه ُبْنيانًا َفَأْلُقوُه يِف اَجْلِح يِم »‪.‬‬
‫أي إن هؤالء الكفار املكذبني سيصلون العذاب ىف نار عظيمة أعدها الّل ه ملن كفر وكذب‬
‫بآياته ‪ ،‬ألن نفوسهم ق د فسدت ‪ ،‬وسوء أعماهلم ق د ران على قلوهبم ‪ ،‬فأصبحوا صّم ا‬
‫عميا ال يبصرون‪.‬‬

‫« يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوا اْذُك ُر وا ِنْع َم َت الَّل ِه َعَلْيُك ْم ِإْذ َه َّم َقْو ٌم َأْن َيْبُس ُطوا ِإَلْيُك ْم َأْيِد َيُه ْم َفَك َّف‬
‫َأْيِد َيُه ْم َعْنُك ْم » ‪.‬‬

‫روى من طرق عدة أن اآلية نزلت ىف رجل من قبيلة حمارب هّم بقتل النيب صلى الّل ه عليه‬
‫وسلم أرسله قومه لذلك وكان بي ده سيف وليس مع الن يب صلى الّل ه علي ه وسلم سالح‬
‫وكان منفردا‪.‬‬

‫روى احلاكم من حديث ج ابر ق ال ‪ « :‬ق ام على رأس رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم‬
‫وقال ‪ :‬من مينعك ؟ قال الّله ‪ ،‬فوقع السيف من يده فأخذه النيب صلى الّله عليه وسلم وقال‬
‫‪ :‬من مينع ك ؟ ق ال كن خري آخذ ‪ ،‬ق ال تش هد أن ال إله إال الّل ه وأىن رسول الّل ه ق ال ‪:‬‬
‫أعاهدك أال أقاتلك وال أكون مع ق وم يقاتلونك ‪ ،‬فخّلى سبيله ‪ ،‬فج اء إىل قومه وق ال‬
‫جئتكم من عند خري الناس » ‪.‬‬

‫وىف رواية أخرى « إن السيف الذي كان بي د األعراىب كان سيف الن يب صلى الّل ه علي ه‬
‫وسلم عّلقه ىف شجرة وقت الراحة ‪ ،‬فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النيب صلى الّل ه‬
‫علي ه وسلم ‪ ،‬مث سقط من يده فأخذه رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم وق ال من مينع ك‬
‫مىن ؟ قال ال أحد ‪ ،‬مث صاح رسول الّل ه صلى الّل ه عليه وسلم بأصحابه فأخربهم وأىب أن‬
‫يعاقبه » ‪.‬‬

‫وعلى هذا فاملراد تذكريهم بنعمة الّله عليهم بدفع الشر واملكروه عن نبيهم ‪ ،‬فإنه لو حصل‬
‫ذلك لكان من احملن الكربى اليت تصيب املسلمني‪.‬‬

‫وقيل إن املراد تذكريهم مبا أنعم الّله عليهم من قوة اإلسالم وعظمة شوكة املسلمني ‪ ،‬فبعد‬
‫أن كانوا أذالء مغلوبني على أمرهم بّد ل الّل ه احلال غري احلال وأصبحوا أعزة بع د الذلة‬
‫وغالبني بعد أن كانوا مقهورين ‪ ،‬فهو سبحانه يذكر املسلمني بوقائع االعتداء كلها سواء‬
‫ىف ذلك حادثة احملاريب وأمثاهلا ‪ ،‬ألن حفظه ألولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القومي ‪،‬‬
‫فالنىب صلى الّل ه عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى األمانة ‪ ،‬وأصحابه هم الذين تلقوها عنه‬
‫وأّدوها ملن بعدهم قوال وعمال‪.‬‬

‫ومن فوائد هذا التذكري للمتأخر ترغيبه ىف التأسى بالسلف ىف القيام مبا جاء به الدين من‬
‫احلق والعدل والرب‪.‬‬

‫ومع ىن قوله ‪ :‬إذ هّم ق وم أن يبسطوا إليكم أيديهم ‪ ،‬أي شارفوا أن ميدوا أيديهم إليكم‬
‫بصنوف البالء من قتل وهنب فكّف الّل ه تع اىل بلطفه ورمحته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا‬
‫تنفيذ ما ّمهوا به‪.‬‬
‫(َو اَّتُقوا الَّلَه َو َعَلى الَّلِه َفْلَيَتَو َّكِل اْلُم ْؤ ِم ُنوَن ) أي واتقوا الّله الذي أراكم قدرته على أعدائكم‬
‫وقت ضعفكم وقوهتم ‪ ،‬وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته مبن يكلون أمورهم إليه بعد‬
‫مراعاة سننه والسري عليها يف اتقاء كل ما خيش ى ض ره وتسوء عاقبته ‪ ،‬ال على أولي ائكم‬
‫وحلفائكم ‪ ،‬ألن األولي اء ق د تنقطع هبم األسباب وجييبون داعى الي أس إذا اشتد البأس ‪،‬‬

‫واحللفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضري وغريهم ‪ ،‬ولكن املؤمن املتوكل على الّل ه إذا هّم‬
‫أن ييأس تذكر أن الّل ه وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء ‪ ،‬وهو الذي جيري وال جيار‬
‫عليه ‪ ،‬فتتجدد قوته ويفّر منه اليأس فينصره الّل ه وخيذل أعداءه كما حدث ألولئك الكملة‬
‫املتوكلني مع سيد املرسلني أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم‪.‬‬

‫[سورة الممتحنة (‪ : )60‬اآليات ‪ 7‬الى ‪]9‬‬

‫َعَس ى الَّلُه َأْن ْجَيَعَل َبْيَنُك ْم َو َبَنْي اَّلِذ يَن عاَدْيُتْم ِم ْنُه ْم َم َو َّدًة َو الَّل ُه َقِد يٌر َو الَّل ُه َغُف وٌر َر ِح يٌم (‪)7‬‬
‫ِم ِد‬ ‫ِت‬ ‫ِذ‬
‫ال َيْنهاُك ُم الَّل ُه َعِن اَّل يَن ْمَل ُيقا ُلوُك ْم يِف الِّديِن َو ْمَل ْخُيِر ُج وُك ْم ْن ياِر ُك ْم َأْن َتَبُّر وُه ْم‬
‫َو ُتْق ِس ُطوا ِإَلْيِه ْم ِإَّن الَّل َه ِحُي ُّب اْلُم ْق ِس ِط َني (‪ِ )8‬إمَّن ا َيْنهاُك ُم الَّل ُه َعِن اَّل ِذ يَن ق اَتُلوُك ْم يِف الِّديِن‬
‫َفُأولِئ‬ ‫َّل‬ ‫َأ‬ ‫وُك ِم ِد ياِر ُك ظ ا وا لى ِإ راِج‬
‫ُم‬ ‫ُه‬ ‫َك‬ ‫ُهَّل‬
‫َو ْم‬ ‫َت‬
‫َي‬ ‫َمْن‬ ‫ُه‬ ‫َت‬
‫ْم َو ْو ْم َو‬ ‫ْن‬ ‫ُك‬ ‫ْم َو َه ُر َع ْخ‬ ‫َو َأْخ َر ُج ْم ْن‬
‫الَّظاِلُم وَن (‪)9‬‬

‫شرح المفردات‬
‫عسى ‪ :‬كلمة تفي د رج اء حصول ما بع دها ‪ ،‬فإذا صدرت من الّل ه فما بع دها واجب‬
‫الوق وع ‪ ،‬أن تربوهم ‪ :‬أي تفعلوا الرب واخلري هلم ‪ ،‬وتقسطوا إليهم ‪ :‬أي تع دلوا فيهم بالرب‬
‫واإلحسان ‪ ،‬املقسطني ‪ :‬أي الع ادلني ‪ ،‬وظ اهروا ‪ :‬أي ساعدوا ‪ ،‬أن تولوهم ‪ :‬أي أن‬
‫تكونوا أولياء وأنصارا هلم‪.‬‬

‫المعنى الجملي‬

‫ملا هناهم عن مواالة الكفار وإلقاء املودة إليهم ‪ ،‬وضرب هلم املثل بإبراهيم وقومه ‪ -‬محلهم‬
‫ذلك على أن يظهروا براعتهم من أقربائهم ‪ ،‬والتشدد ىف معاداهتم ومقاطعتهم ‪ ،‬وكان ذلك‬
‫عزيزا على نفوسهم ‪ ،‬ويتمنون أن جيدوا املخلص منه ‪ -‬أردف ذلك سبحانه بأنه سيغري من‬
‫طباع املشركني ‪ ،‬ويغرس ىف قلوهبم حمبة اإلسالم ‪ ،‬فيتّم التواّد والتصايف بينكم وبينهم‪.‬‬

‫وىف ذلك إزالة للوحشة من قلوب املؤمنني ‪ ،‬وتطيب لقلوهبم ‪ ،‬وقد أجنز الّل ه وعده ‪ ،‬فأتاح‬
‫للمسلمني فتح مكة ‪ ،‬فأسلم ق ومهم ‪ ،‬ومت هلم ما كانوا يريدون من التح اّب والتواّد ‪ ،‬مث‬
‫رخص هلم ىف صلة الذين مل يقاتلوهم من الكفار ومل خيرجوهم من ديارهم ‪ ،‬ومل يظاهروا‬
‫على إخراجهم‪.‬‬

‫روى أمحد ىف مجاعة آخرين عن عبد الّله بن الزبري قال ‪ :‬قدمت قتيلة بنت عبد الع ّز ى على‬
‫ابنتها أمساء بنت أىب بكر هبدايا ‪ -‬صناب (صباغ يتخ ذ من اخلردل والزبيب) وأق ط ومسن‬
‫وهى مشركة فأبت أمساء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها ‪ ،‬حىت أرسلت إىل عائشة رضى‬

‫الّله عنها أن تسأل رسول الّله صلى الّله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الّله « ال َيْنهاُك ُم‬
‫الَّلُه » اآلية ‪ ،‬فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها‬
‫وقال احلسن وأبو صاحل ‪ :‬نزلت اآلية ىف خزاعة وبىن احلرث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل‬
‫من الع رب ‪ ،‬كانوا صاحلوا رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم على أال يقاتلوه وال يعين وا‬
‫عليه‪.‬‬

‫اإليضاح‬

‫(َعَس ى الَّل ُه َأْن ْجَيَع َل َبْيَنُك ْم َو َبَنْي اَّلِذ يَن عاَدْيُتْم ِم ْنُه ْم َم َو َّدًة ‪َ ،‬و الَّل ُه َقِد يٌر َو الَّل ُه َغُف وٌر َر ِح يٌم)‬
‫أي لعل الّله جيعل بينكم وبني أعدائكم من كفار مكة حمبة بعد البغض ‪ ،‬ومودة بعد النفرة ‪،‬‬
‫وألفة بع د الفرق ة ‪ ،‬والّل ه ق دير على ما يش اء ‪ ،‬فيؤلف بني القلوب بع د الع داوة ‪ ،‬غفور‬
‫خلطيئة من ألقى إليهم باملودة إذا تابوا منها ‪ ،‬رحيم هبم أن يعذهبم بعد التوبة‪.‬‬

‫وق د ّمت ذلك بفتح مكة حني دخل املش ركون ىف دين الّل ه أفواج ا ‪ ،‬ومث بينهم التصايف‬
‫والتصاهر ‪ ،‬وكان بينهم أمت ما يكون من وثيق الصالت كما قال تعاىل ‪:‬‬

‫« َو اْذُك ُر وا ِنْع َم َت الَّل ِه َعَلْيُك ْم ِإْذ ُك ْنُتْم َأْع داًء َف َأَّلَف َبَنْي ُقُل وِبُك ْم َفَأْص َبْح ُتْم ِبِنْع َم ِت ِه ِإْخ وانًا‬
‫ُك ْنُت َعلى َش فا ُح ْف ٍة ِم الَّن اِر َفَأْنَق َذ ُك ِم ْنها » وق ال ‪ُ « :‬ه اَّل ِذ ي َأَّي َد َك ِبَنْص ِرِه‬
‫َو‬ ‫ْم‬ ‫َر َن‬ ‫َو ْم‬
‫َو ِباْلُم ْؤ ِمِنَني َو َأَّل َف َبَنْي ُقُل وِهِبْم َل ْو َأْنَف ْق َت ما يِف اَأْلْر ِض ِمَج يع ًا ما َأَّلْف َت َبَنْي ُقُل وِهِبْم ‪َ ،‬و لِكَّن‬
‫الَّلَه َأَّلَف َبْيَنُه ْم ِإَّنُه َعِز يٌز َح ِكيٌم » ‪ .‬مث أباح هلم صلة الذين مل يقاتلوهم من الكفار فقال ‪:‬‬

‫و‬ ‫ُّر‬ ‫ْن‬‫َأ‬ ‫ُك‬ ‫ِر‬‫يا‬ ‫ي‬ ‫(ال ْنهاُك الَّل ِن اَّل ِذ‬
‫قاِتُلوُك يِف الِّديِن ْخُيِر وُك ِم ِد‬
‫ُه‬
‫ْم َتَب ْم‬ ‫َو ْمَل ُج ْم ْن‬ ‫ْم‬
‫َن‬ ‫َي ُم ُه َع‬
‫ْمَل ُي‬
‫اْلُم ْق ِس ِط َني ) أي ال ينها كم الّل ه عن اإلحسان إىل الكفار الذين‬
‫َو ُتْق ِس ُطوا ِإَلْيِه ْم ِإَّن الَّلَه ِحُي ُّب‬
‫مل يقاتلوكم ىف الدين ‪ ،‬ومل خيرج وكم من دياركم ‪ ،‬ومل يع اونوا على إخراجكم ‪ ،‬وهم‬
‫خزاعة وغريهم ممن كانوا عاهدوا رسول الّل ه صلى الّل ه علي ه وسلم على ترك القتال‬
‫واإلخراج من الديار ‪ ،‬فأمر الّل ه رسوله بالرب والوفاء هلم إىل مدة أجلهم‪ .‬مث زاد األمر‬
‫إيضاحا وبيانا فقال ‪:‬‬

‫(ِإمَّن ا َيْنهاُك ُم الَّل ُه َعِن اَّل ِذ يَن ق اَتُلوُك ْم يِف الِّديِن َو َأْخ َر ُج وُك ْم ِم ْن ِد ياِر ُك ْم َو ظ اَه ُر وا َعلى‬
‫ِإْخ راِج ُك ْم َأْن َتَو َّل ْو ُه ْم ) أي إمنا ينها كم عن مواالة الذين ناصبوكم الع داوة فقاتلوكم‬
‫وأخرج وكم أو عاونوا على إخراجكم كمش ركى مكة ‪ ،‬فإن بعضهم سعوا ىف إخراج‬
‫املؤمنني ‪ ،‬وبعضهم أعان املخرجني‪ .‬مث أكد الوعيد على مواالهتم فقال ‪:‬‬

‫(َو َمْن َيَتَو ُهَّلْم َفُأولِئ َك ُه ُم الَّظاِلُم وَن ) ألهنم تولوا غري الذين جيوز هلم أن يتولوهم ‪ ،‬ووضعوا‬
‫واليتهم ىف غري موضعها ‪ ،‬وخالفوا أمر الّله ىف ذلك‪.‬انتهى‪.‬‬

You might also like