Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 18

‫بسمميحرلا نمحرلا هللا ‬

‫احلمد هلل والصالة والسالم على من ال نيب بعده‪ ,‬وآله وصحبه ومن تبعهم إبحسان‪.‬‬
‫أما بعد‪ ,‬فرأيت كتاابت حتاملت على أصل مذهب مالك أو على القائل به‪ ,‬من غري تصور صحيح‬
‫ألصلهم‪ ,‬فأردت أن أبني مأخذهم يف هذا األصل‪ ,‬وهو اشرتاط القرب املكاين أو عدمه يف صالة‬
‫اجلماعة‪.‬‬
‫وأول ما ينبغي القيام به هو معرفة علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة عند املالكية‪.‬‬
‫صورة املسألة‬
‫وصورة املسألة فيمن صلى مع مجاعة يف غري مجعة يف مكان بعيد جدا عن مسجد إمامه‪ ,‬أو كان‬
‫يف دار ليست من املسجد وال مالصقة ابملسجد‪ ,‬ومل تصل إليه الصفوف‪ ,‬كأن يصلي يف دكانه بصالة‬
‫اإلمام وبينه وبينهما طريق مسلوك يفصله عرفا عن املسجد‪ ,‬بواسطة الصوت أو الرؤية عن بعد‪.‬‬
‫فإن املذاهب الثالثة ‪-‬ما سوى املالكية‪ -‬يشرتطون يف حقيقة صالة اجلماعة القرب املكاين مع‬
‫إمكان االقتداء‪ ,‬مث خيتلفون يف بعض تفاصيل ما هو قرب مكاين عرفا‪ ,‬ليس هو غرضنا هنا‪.‬‬
‫واملالكية يصححون هذه الصالة يف كتبهم‪ ,‬ما مل تكن مجعة‪ ,‬فإذا كانت مجعة اشرتطوا القرب املكاين‬
‫ألجل اشرتاط اجلامع‪ ,‬مث حدوه عرفا بتحديدات املذاهب الثالثة نفسها يف صالة اجلماعة عموما‪.‬‬
‫وهلذا مل يصحح األحناف والشافعية واحلنابلة هذه الصالة على املشهور من مذاهبهم‪ ,‬ومن هذا قول‬
‫الطحاوي يف خمتصره‪" :‬والصالة خارج املسجد بصالة اإلمام يف املسجد جائزة إذا كانت الصفوف‬
‫متصلة"‪.‬‬
‫وقال الرازي اجلصاص يف شرح خمتصر الطحاوي (‪" :)22 /2‬فإن الصفوف إذا كانت متصلة‪ ,‬ومل‬
‫يكن هناك حاجز بينهم وبني اإلمام من الطريق فكأهنم معه يف املسجد‪ ,‬وإذا مل تكن الصفوف متصلة‪,‬‬
‫مل جتز صالة من كان بينه وبني اإلمام طريق"‪.‬‬
‫وقال السرخسي يف املبسوط (‪" :)191 /1‬واملراد طريق متر فيه العجلة فما دون ذلك الطريق ال‬
‫طريق‪ ,‬واملراد من النهر ما جتري فيه السفن فما دون ذلك مبنزلة اجلدار ال مينع صحة االقتداء‪ ,‬فإن‬
‫كانت الصفوف متصلة على الطريق جاز االقتداء حينئذ؛ ألن ابتصال الصفوف خرج هذا املوضع من‬
‫أن يكون ممرا للناس وصار مصلى يف حكم هذه الصالة"‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪1‬‬
‫ومنه قول أيب دمحم اجلويين يف كتاب الفروق (‪" :)909 /1‬وأما الواقف يف البيت جبوار املسجد فهو‬
‫منقطع مبكانه عن املسجد وعن املصلني الواقفني يف املسجد‪ ,‬وال بد من االجتماع مع اإلمام واالتصال‬
‫ابجلماعة يف املكان‪ ,‬كما ال بد من املتابعة واالتصال يف األفعال‪ ,‬ولوال ذلك لبطل االجتماع يف‬
‫اجلماعات‪ ,‬وجلاز أن يصلي اإلمام يف احملراب يف اجلامع والناس يصلون يف مساكنهم وخاانهتم وأسواقهم‬
‫ومدارسهم من غري اتصال الصفوف على وجه من وجوه االتصال"‪.‬‬
‫وقال أبو املعايل يف هناية املطلب (‪" :)301 /2‬وال يعد من اجلماعة أن يقف اإلنسان يف منزله‬
‫اململوك‪ ,‬وهو يسمع أصوات املرتمجني يف املسجد‪ ,‬ويصلي بصالة اإلمام"‪.‬‬
‫املنجى احلنبلي يف املمتع (‪" :)390 /1‬وإمنا اعترب االتصال يف خارج املسجد؛ ألن املكان‬ ‫ومنه قول َّ‬
‫ليس معدا لالجتماع فاشرتط االتصال ليحصل ذلك‪ ,‬واالتصال مقدر ابلعرف؛ ألنه ال توقيف فيه"‪.‬‬
‫وانظر الفرق بني هذا وبني مذهب مالك اآليت بعد قليل‪ ,‬فإنه واضح‪ ,‬يقول أبو املعايل يف هناية‬
‫املطلب (‪" :)303 /2‬وملا مل ير الشافعي االكتفاء ابالطالع على حاالت اإلمام وانتقاالته‪ ,‬ومل جيد‬
‫توقيفا شرعيا يقف عنده‪ ,‬أخذ يتمسك ابلتقريب"‪.‬‬
‫وقال يف هناية املطلب (‪" :)302 /2‬الذي جيب ضبطه قبل اخلوض يف التفاصيل‪ :‬أن الشافعي مل‬
‫يكتف يف جواز االقتداء أبن يكون املأموم حبيث يقف على حاالت اإلمام وانتقاالته‪ ,‬وقد نَ َق َل عن‬
‫عطاء أنه اكتفى هبذا يف األماكن كلها‪ ,‬وب لِّغت عن مالك أنه صار إىل ذلك‪ ,‬ومل يفصل بني بقعة‬
‫وبقعة‪ ,‬وهذا قياس بني‪ ,‬ليس خيفى على املتأمل‪ ,‬ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حاالت‬
‫اإلمام أن يكون اإلمام واملأموم حبيث يعدان جمتمعني يف بقعة"‪.‬‬
‫ففرق كبري بني هذا وبني كالم املالكية ومأخذهم‪ ,‬وادعاء أن مأخذ مالك يف املسألة هو مأخذ بقية‬
‫املذاهب الثالثة دعوى عريضة ال طائل من ورائها‪ ,‬فإنه بناء على قول املذاهب الثالثة يكون التفريع‬
‫الصحيح على ما قاله أبو املعايل يف هناية املطلب (‪" :)309 /2‬إن اختلف البناء‪ ,‬ومل يكن اتصال‬
‫صفوف‪ ,‬مل تصح قدوة من يف بناء غري البناء الذي فيه اإلمام"‪.‬‬
‫وقال أبو دمحم اجلويين يف موقف اإلمام واملأموم (ص‪" :)12 :‬العلم بركوع اإلمام وسجوده‪ :‬ال يكفي‪,‬‬
‫خبالف ما ذهب إليه عطاء ابن أيب رابح"‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪2‬‬
‫والذي ذهب إليه هؤالء ُيتمل أنه قول أشهب أيضا من املالكية‪ ,‬فإنه قال كما يف النوادر والزايدات‬
‫(‪" :)299 /1‬إال الطريق العريض جدا حىت يكون كأنه ليس مع اإلمام‪ ,‬فهذا ال جتزئه صالته‪ ,‬إال أن‬
‫يكون يف الطريق قوم يصلون بصالة اإلمام صفوفا متصلة‪ ,‬فصالته اتمة"‪.‬‬
‫وإمنا ذكرته احتماال ألين مل أجده إال يف النوادر‪ ,‬وهو فيها مصحوب بكالم ملالك ساقه ملا يعترب يف‬
‫صالة اجلمعة عنده من التقارب يف املكان عرفا‪ ,‬ال يف صالة اجلماعة‪ ,‬وسيأيت الفرق بينهما عند مالك‪.‬‬
‫فإن قصد به أشهب تفسري كالم مالك فهو تفسري ملقصده يف اجلمعة‪ ,‬وليس يف صالة اجلماعة‪,‬‬
‫والذي يدلك على ذلك أيضا أن املالكية مل ُيكوه يف كتبهم يف االئتمام يف صالة اجلماعة ال قوال وال‬
‫خترجيا‪.‬‬
‫وهبذا قول أشهب هنا ليس قول املالكية املعتمد عندهم يف صالة اجلماعة قطعا‪ ,‬ونصبوا اخلالف‬
‫وانظروا على ما خيالف هذا القول يف صالة اجلماعة‪ ,‬ومل يدرجه كل من عمل على املدونة اختصارا أو‬
‫شرحا أو حنو ذلك من أئمة املالكية بعده يف مباحث صالة اجلماعة‪ ,‬فإنه قال ابن القاسم يف املدونة‬
‫(‪" :)121 /1‬وسألنا مالكا عن النهر الصغري يكون بني اإلمام وبني قوم وهم يصلون بصالة اإلمام؟‬
‫قال‪ :‬ال أبس بذلك إذا كان النهر صغريا‪ ,‬قال‪ :‬وإذا صلى رجل بقوم فصلى بصالة ذلك الرجل قوم‬
‫آخرون بينهم وبني ذلك اإلمام طريق فال أبس بذلك‪ ,‬قال‪ :‬وذلك أين سألته عن ذلك فقلت له‪ :‬إن‬
‫أصحاب األسواق يفعلون ذلك عندان يف حوانيتهم‪ ,‬فقال‪ :‬ال أبس بذلك"‪.‬‬
‫وقال سحنون كما يف املدونة (‪" :)121 /1‬وأخربين ابن وهب عن سعيد بن أيب أيوب عن دمحم بن‬
‫عبدالرمحن‪ :‬أن أزواج النيب ‘ كن يصلني يف بيوهتن بصالة أهل املسجد‪ ,‬قال سحنون‪ :‬وأخربين ابن‬
‫وهب عن رجال من أهل العلم عن عمر بن اخلطاب وأيب هريرة وعمر بن عبدالعزيز وزيد بن أسلم‬
‫وربيعة مثله‪ ,‬إال أن عمر بن اخلطاب قال‪ :‬ما مل تكن مجعة"‪.‬‬
‫وهذا خالف قول أشهب إذا قصد به صالة اجلماعة وليس اجلمعة‪ ,‬فإنه اشرتط اتصال الصفوف‬
‫فيما إذا كانت الطريق عريضة‪ ,‬ومل يقيده إبمكان االقتداء‪ ,‬وهلذا قال املازري يف شرح التلقني (‪/1‬‬
‫‪ )200‬يف حديث هبذا املعىن ال أصل له‪" :‬وإن صح محل على طريق مينع االقتداء"‪.‬‬
‫ويف املدونة (‪" :)129 /1‬ما قول مالك يف صالة الرجل على قعيقعان وعلى أيب قبيس بصالة اإلمام‬
‫يف املسجد احلرام؟ قال‪ :‬مل أمسع فيه شيئا وال يعجبين"‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪3‬‬
‫وهذا النقل عن ابن القاسم‪ ,‬فسره ابن يونس بقوله يف اجلامع (‪" :)931 /2‬يريد لبعده عن اإلمام؛‬
‫فإنه ال يستطيع مراعاة فعله يف الصالة"‪.‬‬
‫ويف املدونة (‪ )129 /1‬قال مالك يف‪" :‬القوم يكونون يف السفن يصلي بعضهم بصالة بعض‪,‬‬
‫وإمامهم يف إحدى السفائن وهم يصلون بصالته وهم يف غري سفينته‪ ,‬قال‪ :‬فإن كانت السفن بعضها‬
‫قريبة من بعض فال أبس بذلك"‪.‬‬
‫ويف اجلامع (‪ )931 /2‬ساق ابن يونس كالم ابن عبداحلكم تفسريا ملقصد مالك‪ ,‬قال‪" :‬إذا مسعوا‬
‫تكبريه ورأوا أفعاله فإن َّفرقهم الريح بعد دخوهلم يف الصالة فليستخلفوا من يتم هبم‪ ,‬ذكره ابن‬
‫كحدثِّه؛ ألهنم خرجوا من إمامته ملا تعذر عليهم االئتمام به‪ ,‬فأشبه خروجه‬‫عبداحلكم‪ ,‬وهو الصواب‪َ ,‬‬
‫من اإلمامة بغري قصد إلفسادها"‪.‬‬
‫وهذا واضح يف عدم حتديد قرب مكاين إال ما ميكن معه معرفة أفعال اإلمام‪.‬‬
‫وأهل املذهب يفهمون من علة ذكر مالك للنهر الصغري ما مينع السماع أو الرؤية‪ ,‬كما قال الدسوقي‬
‫يف حاشيته (‪" :)111 /1‬وأما الفصل ابلنهر الكبري وهو ما مينع من مساع اإلمام ومأمومه ومن رؤية فعل‬
‫أحدمها فال جيوز"‪ ,‬فيجعلون علة منع مالك للنهر الكبري عدم التمكن من مساع اإلمام‪ ,‬وكذا كراهته‬
‫ابقتداء من أبسفل السفينة مبن أبعالها؛ ألنه ال يتمكن من ضب أفعال إمامه‪ ,‬خبالف العكس‪.‬‬
‫وهناك كالم ملالك يف صالة اجلمعة يسوقه بعض املشايخ يظن أن مالكا يقصد هبا القرب املكاين يف‬
‫صالة اجلماعة‪ ,‬ومالك إمنا يشرتط يف اجلمعة اجلامع‪ ,‬وليس القرب املكاين من اإلمام‪ ,‬فيخل بني هذا‬
‫وبني تلك يظن أن قول مالك فيه هو قول بقية املذاهب‪.‬‬
‫ومنه قول مالك يف املدونة (‪" :)129 /1‬لو أن دورا حمجورا عليها صلى قوم فيها بصالة اإلمام يف‬
‫غري اجلمعة فصالهتم اتمة إذا كان لتلك الدور كوى أو مقاصري يرون منها ما يصنع الناس واإلمام‪,‬‬
‫فريكعون بركوعه ويسجدون بسجوده فذلك جائز‪ ,‬وإن مل يكن هلا كوى وال مقاصري يرون منها ما تصنع‬
‫الناس واإلمام إال أهنم يسمعون اإلمام فريكعون بركوعه ويسجدون بسجوده فذلك جائز"‪.‬‬
‫وهذا نص صريح من مالك يف الفرق بني اجلمعة يف اعتبار املكان‪ ,‬وبني صالة اجلماعة‪ ,‬مث نص يف‬
‫صالة اجلماعة على أنه ال يعترب غري إمكان االقتداء ابلرؤية أو ابلسماع‪ ,‬مع أن البيوت احملجورة املغلقة‬
‫على مالكيها ليست من املسجد يف عرف الناس ابعرتاف املانعني واجمليزين‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪4‬‬
‫وقال مالك يف املدونة (‪ )212 /1‬يف سياق صالة اجلمعة‪" :‬وإن كان الطريق بينهما فصلى يف تلك‬
‫األفنية بصالة اإلمام ومل تتصل الصفوف إىل تلك األفنية فصالته اتمة"‪.‬‬
‫يقصد به أن هذا قريب يف املكان عرفا ولو مل تتصل الصفوف‪ ,‬فيكون له حكم اجلامع يف املكان‪.‬‬
‫وأصرح منه يف املدونة (‪" :)212 /1‬قال مالك فيمن صلى يوم اجلمعة على ظهر املسجد بصالة‬
‫اإلمام‪ ,‬قال‪ :‬ال ينبغي ذلك؛ ألن اجلمعة ال تكون إال يف املسجد اجلامع"‪.‬‬
‫ويف املدونة (‪" :)211 /1‬قال ابن وهب‪ :‬وقال يل مالك‪ :‬فأما من صلى يف دار مغلقة ال تدخل إال‬
‫إبذن‪ ,‬فإين ال أراها من املسجد‪ ,‬وال أرى أن تصلى اجلمعة فيها"‪.‬‬
‫إ ًذا فهذه النصوص عن مالك ال تدع جماال للشك يف أن القرب املكاين عرفا عند مالك ليس هو علة‬
‫صحة االئتمام يف اجلماعة‪ ,‬وإال فأي معىن فرق فيه بني اجلمعة‪ ,‬وبني اجلماعة؟ مث إنه لو اشرتط القرب‬
‫املكاين يف صالة اجلماعة لكان حتديده عنده كتحديده يف صالة اجلمعة‪.‬‬
‫ومما يوضح هذا أكثر تفريع املالكية أبمجعهم أن الراعف يف صالة اجلماعة إذا خرج لغسل الدم‬
‫وأمكنه البناء على صالة إمامه فال يتجاوز أول مكان ميكن له فيه االقتداء ابلسماع أو ابلرؤية‪ ,‬فإن‬
‫جاوزه بطلت صالته؛ ألنه زاد فيها ما ليس حباجة إليه‪ ,‬خبالف اجلمعة فال بد من العودة للجامع حىت‬
‫يتحقق فيه القرب املكاين عرفا؛ إذ ال تصح عندهم إال فيه على املعتمد املشهور‪ ,‬وأكتفي بنقل واحد‬
‫لكثرته‪ ,‬قال عبدالوهاب بن نصر يف املعونة (ص‪" :)282 :‬وإمنا يرجع إذا طمع أنه يدرك مع ِّ‬
‫اإلمام‬
‫بقية الصالة ليتم الصالة على الوجه الذي ابتدأها من اجلماعة‪ ,‬وإن مل يطمع يف إدراكها أمتها يف موضع‬
‫غسل الدم أو يف أقرب املواضع إليه‪ ,‬ليسلم من أن يزيد يف الصالة عمال من غري حاجة‪ ,‬هذا يف غري‬
‫اجلمعة‪ ,‬فأما يف اجلمعة فال بد من عوده إىل اجلامع أدرك ِّ‬
‫اإلمام أو مل يدركه‪ ,‬وألهنا ال تكون إال يف‬
‫املسجد أو ما هو يف حكمه‪ ,‬فلذلك رجع إليه ألجل موافقة ِّ‬
‫اإلمام"‪.‬‬
‫والقول أبن هذا البعد جدا مع إمكان االقتداء إمنا جييزه مالك ألنه داخل يف عرف املكان عنده‪ ,‬مل‬
‫يفهمه أحد من أصحابه يف صالة اجلماعة‪ ,‬بل هذا النوع عند اجلميع خارج عن العرف املكاين يف‬
‫االجتماع‪ ,‬وألجل ذلك انظروا عليه‪ ,‬ولو كان داخال فيه ملا لزمتهم املناظرة عليه‪ ,‬ولقالوا‪ :‬إن العرف‬
‫عندان إىل ثالثة أميال أو حنو ذلك مما ميكن أن يصل إليه الصوت املعتاد‪ ,‬كما قالوا يف وجوب السعي‬
‫للجمعة‪ ,‬فلما مل يقله أحد منهم مع احلاجة إليه عند اجلدال عرفنا أنه ليس حجتهم‪ ,‬وال قوال هلم‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪5‬‬
‫وألهنم صرحوا بعكسه‪ ,‬وأن العربة عندهم إبمكان االقتداء ال اعتبار املسافة‪ ,‬ومنه قول عبدالوهاب‬
‫بن نصر يف اإلشراف (‪" :)101 /1‬فأما تقدير الشافعي فإنه دعوى ال فصل بينه وبني من عكسها‬
‫فزاد فيها أو نقص منها‪ ,‬وألن العربة بسماعهم صوت املكرب وذلك خيتلف حبسب قرب املوضع وبعده‬
‫فلم يكن يف ذلك حد أكثر من إمكانه وتعذره"‪.‬‬
‫وهذا صريح يف عدم اعتبار القرب املكاين؛ إذ صريه دعوى ال دليل عليها‪ ,‬مث صرح ابلعلة املؤثرة‪.‬‬
‫اإلمام واملأموم حائل مينع املشاهدة ومساع‬ ‫وقال املازري يف شرح التلقني (‪" :)198 /1‬إذا كان بني ِّ‬
‫الصوت حىت ال جيد طريقا لالقتداء به فال خفاء أبن االئتمام ال يتصور"‪.‬‬
‫وهذا صريح يف أن العربة عندهم ليس هو املسافة املكانية‪ ,‬بل وجود طريق لالقتداء‪ ,‬وأن البعد الذي‬
‫خيتفي معه املشاهدة والسماع غري متصور معه االقتداء يف زماهنم‪ ,‬ومفهومه أنه لو وجدت وسيلة ميكن‬
‫معها االقتداء ألجازه مبجرد اإلمكان‪ ,‬وإال لكان هذا الكالم كله لغوا وعبثا ال فائدة منه‪.‬‬
‫اإلمام؛ فإن كان‬‫وانظر بقية كالم املازري‪" :‬وإذا كان بينهما حائل مينع املشاهدة وال مينع مساع نطق ِّ‬
‫اإلمام فقد مضى كراهته‪ ,‬وذكر اختالف الناس فيه"‪.‬‬ ‫أمام ِّ‬
‫مكان املأموم َ‬
‫يعين‪ :‬أنه تصح صالة من تقدم على اإلمام يف املكان مع الكراهة‪ ,‬وهذه مسألة أخرى عند املالكية‪,‬‬
‫هلا أثر يف هذه املسألة الطارئة‪ ,‬وذكر أن جمرد مساع اإلمام كاف يف صحة االقتداء به‪.‬‬
‫وقال ابن عبدالرب يف الكايف (‪" :)212 /1‬وكل من رأى إمامه أو مسعه وعرف خفضه ورفعه وكان‬
‫خلفه جاز أن أيمت به يف غري اجلمعة اتصلت الصفوف به أو مل تتصل إذا ركع بركوعه وسجد بسجوده‬
‫ومل خيتل شيء من ذلك عليه وسواء كان بينهما هنر أو طريق أو مل يكن"‪.‬‬
‫وقال ابن جزي يف القوانني الفقهية (ص‪" :)39 :‬ويصلي أهل السفن إبمام واحد يف سفينة منها‪,‬‬
‫فإن فرقتهم الريح كانوا كمن طرأ على إمامهم ما مينعه اإلمامة‪ ,‬وصالة املستمع جائزة على األصح"‪.‬‬
‫وهذا قول املالكية مجيعا قال خليل يف خمتصره (ص‪" :)31 :‬واقتداء ذوي سفن إبمام‪ ,‬وفصل مأموم‬
‫بنهر صغري‪ ,‬أو طريق‪ ,‬وعلو مأموم‪ ,‬ولو بسطح‪ ,‬ال عكسه‪ ..‬ومسمع‪ ,‬واقتداء به‪ ,‬أو برؤية وإن بدار"‪.‬‬
‫وقال التتائي يف جواهر الدرر (‪ )122 /2‬شارحا منت املختصر‪" :‬وجاز اقتداء به‪ ,‬أي‪ :‬مبا يسمعه‬
‫املسمع لعمل أهل األمصار من غري نكري‪ ,‬وظاهره‪ :‬أنه ال فرق بني فرض العني والكفاية كاجلنازة‪ ,‬وال‬
‫عمهم صوت اإلمام أم ال‪ ,‬كان يف‬ ‫بني السنة كالعيد والنفل‪ِّ ,‬أذن اإلمام أم ال‪ ,‬تكلَّف رفع صوته أم ال‪َّ ,‬‬
‫مجاعة أم ال‪ ,‬كان املبلِّغ اإلمام أو غريه"‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪6‬‬
‫ويف منت خمتصر خليل أثناء الكالم على الراعف إذا غسل الدم ورجع يظن إدراك اإلمام‪ ,‬قال‪:‬‬
‫"ورجع إن ظن"‪ ,‬وقال اخلرشي يف شرحه (‪" :)231 /1‬أي يرجع إىل أقرب موضع يصح فيه االقتداء‬
‫إبمامه إخل فإن تعدى املوضع الذي يصح االقتداء به أبن يسمع أقوال املبلغني أو يرى أفعال املأمومني‬
‫بطلت صالته وأوىل لو اعتقد"‪.‬‬
‫وقال احلطاب يف مواهب اجلليل (‪" :)122 /2‬أهل املذهب قالوا‪ :‬مراتب االقتداء أربعة‪ :‬إما رؤية‬
‫أفعال اإلمام‪ ,‬أو أفعال املأمومني‪ ,‬أو مساع قوله‪ ,‬أو مساع قوهلم"‪.‬‬
‫وهذا صريح يف عدم اعتبار املسافة املكانية يف صحة االئتمام‪ ,‬وبناء عليه يلغِّز فقهاء املالكية هلذه‬
‫املراتب بقوهلم‪ :‬شخص تصح صالته فذا وإماما‪ ,‬ال مأموما‪ ,‬وهو األعمى إذا كان االقتداء ال ميكن إال‬
‫عن طريق الرؤية‪ ,‬واألصم إذا كان االقتداء ال ميكن إال عن طريق السماع‪.‬‬
‫وهذا اللغز ال يستقيم على مذهب غريهم؛ ألن سبب البطالن أعم من جمرد إمكان االقتداء‬
‫ابملشاهدة أو السماع‪.‬‬
‫وأما القول أبن األعمى يصح ائتمامه عند اجلميع وال يرى من يقتدي به‪ ,‬وأن األصم يصح ائتمامه‬
‫وال يسمع‪ ,‬فيدل على أن املعترب ليس هو السماع وال الرؤية‪ ,‬وإمنا هو االجتماع يف املكان عرفا‪.‬‬
‫فهذا ال يستقيم؛ ألن غري املالكية إمنا يصحح صالهتما للقرب املكاين مع إمكان االقتداء‪ ,‬وليس‬
‫هناك قائل بصحة االئتمام مبجرد االجتماع يف املكان من غري إمكان االقتداء ابحلس‪ ,‬رؤية أو مساعا‪,‬‬
‫أو ما يقوم مقامهما من اللمس عند من اجتمع فيه العمى والصمم‪ ,‬وسيأيت بيان أكثر يف بيان العلة‪.‬‬
‫إذًا هذه الصالة اليت يبطلها هؤالء‪ ,‬صحيحة عند املالكية‪ ,‬منصوص عليها يف مذهبهم‪ ,‬وادعاء‬
‫التقارب يف املكان على هذا العرف منقوض مبا نقلوا عليه عمل أهل املدينة الظاهر الذي ال يكون إال‬
‫عن توقيف‪ ,‬فإن أزواج النيب ‘ يصلني يف حجرهن بصالة اإلمام‪ ,‬وصلى بعض الصحابة يف بيوت‬
‫بينها وبني اإلمام شارع مسلوك‪ ,‬ومل يكن بعض هذه البيوت هلا أبواب شارعة إىل املسجد‪ ,‬وال انفذة‬
‫إليه‪ ,‬وأجاز مالك صالة الناس يف حوانيتهم ودكاكينهم بصالة اإلمام إذا متكنوا من االقتداء به‪ ,‬وهبذا‬
‫ليس التقارب يف املكان هو علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة عندهم قطعا‪.‬‬
‫إذًا ما هي علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة ؟‬
‫فعلة االئتمام لو اعتربان الوصف املناسب‪ ,‬فهو مما يؤثر نوعه يف نوع احلكم ابتفاق‪ ,‬فإن السماع‬
‫والرؤية كالمها مؤثر يف نوع االئتمام انفرادا واجتماعا‪ ,‬فوجب أن يكون معتربا عن بعد؛ إذ الوصف فيه‬

‫‪‬‬ ‫‪7‬‬
‫أقوى ممن كان يف الصف الثاين وما بعده‪ ,‬وهذا النوع أقوى أنواع الوصف املناسب‪ ,‬وفيه حتقيق مصلحة‬
‫كلية أصلية يف حتصيل اجلماعة‪ ,‬وحىت لو مل يكن ضروراي وال حاجيا يف هذه املسألة فال أقل من أن‬
‫يكون من التتمات؛ ألن حتصيل فضل اجلماعة إذا أمكن خري من تفويته‪ ,‬قال القرايف يف شرح تنقيح‬
‫ِّ‬
‫اخلصوصيَّ نني قد حصال فيه‪:‬‬ ‫الفصول (ص‪" :)193 :‬وأتثري النوع يف النوع مقدَّم على اجلميع؛ ألن‬
‫َّم على األعم"‪.‬‬
‫خصوص الوصف وخصوص احلكم‪ ,‬واألخص ابلشيء مقد ٌ‬
‫ولو اعتربان الدوران فهو عند غالب املستدلني دليل على احلكم‪ ,‬وهو‪ :‬اقرتان ثبوت احلكم مع ثبوت‬
‫الوصف‪ ,‬وعدمه مع عدمه‪ ,‬فإان وجدان االئتمام صحيحا يف املسجد وخارجه مبجرد إمكان االقتداء‬
‫ابلسماع أو الرؤية أو ما يقوم مقامهما لصأصم األعمى‪ ,‬ووجدانه ابطال ابنتفائه سواء يف املسجد أو‬
‫خارجه‪ ,‬فوجب أن يكون صحيحا بوجوده يف الفرع‪.‬‬
‫ولو قيل ابلسرب والتقسيم‪ ,‬فعلة صحة االئتمام إما ما يطلق عليه اجلماعة شرعا‪ ,‬وإما جمرد إمكان‬
‫االقتداء‪ ,‬وإما مركبة منهما‪ ,‬ال يذكر املختلفون يف هذا وصفا آخر ميكن السرب عليه‪.‬‬
‫أما ما يطلق عليه اجلماعة شرعا‪ ,‬فيقال‪ :‬احلقيقة الشرعية فيها‪ ,‬إما يف املكان‪ ,‬وهو‪ :‬املوضع احلاوي‬
‫للشيء‪ ,‬وإما يف الزمان‪ ,‬وإما يف كليهما على حسب السياق‪ ,‬وعلى حسب اجملتمع عليه أو فيه‪.‬‬
‫فإن اعتربان يف حقيقته التقارب يف املكان وهو املقصود ابتصال الصفوف وحنوه‪ ,‬دل على بطالن‬
‫صالة من أغلق عليه داره‪ ,‬وبينه وبني اإلمام شارع مير فيه الناس‪ ,‬فهذا ليس مع اجلماعة يف املكان قطعا‬
‫حسب تعريف املانعني واجمليزين على حد سواء‪ ,‬ولو اجتمعوا على تدبري أمر يسمع أصواهتم ملا قيل‪ :‬هو‬
‫معهم يف املكان‪ ,‬ولو كان معهم يف الزمان والعلم مبا هم عليه‪.‬‬
‫ودل هذا وما سيأيت على أن التقارب يف املكان ليس عند املالكية علة لصحة االئتمام يف صالة‬
‫اجلماعة‪ ,‬إذ صح االئتمام بدونه على ما نقلوه وذهبوا إليه‪.‬‬
‫وأما اجلماعة يف الزمان أو يف غريه فهي عائدة إىل ما كان االجتماع فيه‪ ,‬وإذا كان االجتماع يف‬
‫األفعال والزمان كان االعتبار هبا‪ ,‬وهو املقصود إبمكان االقتداء ابلسماع أو ابلرؤية أو مبا يقوم مقامهما‬
‫من األعمى واألصم‪ ,‬وقد نص الشارع على أن علة اإلمامة أن يؤمت ابإلمام‪ ,‬لقوله ‘‪« :‬إمنا جعل‬
‫اإلمام ليؤمت به‪ ,»...‬مث رتب صحة هذا االئتمام على األفعال الظاهرة‪ ,‬ابلفاء‪ ,‬فقال‪« :‬فإذا كرب فكربوا‬
‫وإذا ركع فاركعوا‪ ,»...‬فدل على أهنا هي العلة املومأ إليها بصحة االئتمام‪ ,‬وإال لكان هذا الكالم عبثا‪,‬‬
‫والشارع منزه عنه‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪8‬‬
‫وملَّا َّبوب البخاري ملا هو قريب من هذا‪ ,‬أو هلذه املسألة نفسها‪ ,‬أورد آاثرا تدل على صحة االئتمام‬
‫إبمام بينه وبني املأموم طريق مسلوك‪ ,‬فلم يشرتط أن تتصل إليه الصفوف‪ ,‬وأورد أثر أيب جملز‪" :‬تصلي‬
‫املرأة بصالة اإلمام وإن كان بينهما طريق أو جدار بعد أن تسمع التكبري فال أبس"‪ ,‬مث أورد احلديث‬
‫الصحيح‪« :‬إمنا جعل اإلمام ليؤمت به‪ ,»...‬وهذه طريقة أهل العلم يف إيراد األدلة العامة احملكمة إذا‬
‫تعذر يف املسألة دليل صحيح أخص منها‪.‬‬
‫وهذا احلديث أصح ما ورد يف هذه املسألة؛ ألنه إمنا سيق لبيان االئتمام ابإلمام‪ ,‬وقصد بيان وجهه‪,‬‬
‫وكيفيته‪ ,‬وميَّز ما يفعل فيه مثل فعله‪ ,‬ومبا يفعل فيه خبالف فعله‪ ,‬والعلة فيه واضحة من طريق النص أو‬
‫االستنباط‪.‬‬
‫وإذا عدان للعمل لو قيل‪ :‬هذا ال يعرف عن طريق االستنباط‪ ,‬فمثل هذه املسألة املتعلقة ابلفعل‬
‫الظاهر املنقول‪ ,‬وليس سبيلها االستنباط يكون قول أهل املدينة فيه أرجح من غريهم‪ ,‬وتدبَّر ملثل هذا‬
‫قول أمحد كما يف فتح الباري البن رجب (‪" :)291 /1‬قال األثرم‪ :‬قلت أليب عبدهللا‪ :‬الصف األول يف‬
‫ويدعون الصف األول؟ قال‪ :‬ما أدري‪ ,‬قلت‬ ‫مسجد النيب ‘ هو‪ ,‬فإين رأيتهم يتوخون دون املنرب‪َ ,‬‬
‫أليب عبدهللا‪ :‬فما زيد يف مسجد النيب ‘ فهو عندك منه؟ فقال‪ :‬وما عندي‪ ,‬إمنا هم أعلم هبذا يعين‪:‬‬
‫أهل املدينة"‪.‬‬
‫وإذا قيل‪ :‬هذا جماز‪ ,‬فاجلواب أنه ال مشاحة يف االصطالح‪ ,‬واجملاز إذا تعذرت احلقيقة صري إليه‪,‬‬
‫واستمعلت مادة اجلمع كثريا حسب سياقها خالية من معىن املكان‪ ,‬قال هللا تعاىل‪« :‬أولئك عليهم لعنة‬
‫هللا واملالئكة والناس أمجعني»‪ ,‬وال ميكن القول أبهنم جمتمعون يف مكان واحد حني تصدر منهم هذه‬
‫اللعنة‪ ,‬من أول الكون إىل ما ال هناية‪ ,‬وقال هللا تعاىل‪« :‬فلو شاء هلداكم أمجعني»‪ ,‬والقول أبنه لو‬
‫هداهم لكان يف حال مجعهم يف مكان واحد‪ ,‬نوع من الذهول‪ ,‬وقال هللا تعاىل‪« :‬فأمجعوا أمركم‬
‫وشركاءكم»‪ ,‬واألمر ال جيمع يف مكان حمسوس‪ ,‬وقال تعاىل‪« :‬فو ربك لنسألنهم أمجعني»‪ ,‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫«فسجد املالئكة كلهم أمجعون»‪ ,‬وقوله‪« :‬هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعا»‪ ,‬وقوله‪:‬‬
‫«واعتصموا حببل هللا مجيعا وال تفرقوا»‪ ,‬وقوله‪« :‬فانفروا ثبات أو انفروا مجيعا»‪ ,‬وقوله‪« :‬فإن العزة هلل‬
‫مجيعا»‪ ,‬وقوله‪« :‬فمن ميلك من هللا شيئا إن أراد أن يهلك املسيح ابن مرمي وأمه ومن يف األرض‬
‫مجيعا»‪ ,‬ومثل هذا كثري‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪9‬‬
‫ومنه حديث النيب ‘ يقول‪« :‬إهنا ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه األمة وهو‬
‫مجيع فاضربوا رأسه ابلسيف كائنا من كان»‪ ,‬فوصف أمر األمة أبنه مجيع‪ ,‬وهم ما بني املشرقني‪ ,‬ويف‬
‫مصنف عبدالرزاق (‪ )9132‬عن رجل من ولد حذيفة مرفوعا‪« :‬اللهم اغفر يل مجيع ما سلف من‬
‫ذنويب‪ ,»...‬ويف احلديث املتفق عليه‪« :‬إن ابملدينة أقواما‪ ,‬ما سرمت مسريا‪ ,‬وال قطعتم واداي إال كانوا‬
‫معكم‪ ,‬قالوا‪ :‬اي رسول هللا‪ ,‬وهم ابملدينة؟ قال‪ :‬وهم ابملدينة‪ ,‬حبسهم العذر»‪.‬‬
‫وما تفيده اجلماعة يفيده لفظ املعية‪ ,‬فهما مبعىن واحد‪ ,‬واللفظ املتواطئ ليس له معىن حقيقي يف‬
‫الذهن إال القدر املشرتك‪ ,‬وهو ال وجود له يف اخلارج والواقع‪ ,‬وإذا وقع يف اخلارج تبني بسياقه‪ ,‬وليس‬
‫أحد املعنيني أوىل من اآلخر يف لسان الشارع‪ ,‬إذ مل يستعمل يف الشارع مطلقا‪ ,‬بل معه ما يفيد أحد‬
‫معنييه من قرائن تعني معناه أو ترجحه‪.‬‬
‫وقد يراد به االجتماع يف املكان والزمان واألفعال معا‪ ,‬قال جرير‪:‬‬
‫فامجع ِّ‬
‫أشظَّتها إىل أقتاهبا ‪ ...‬واخرج‪ ,‬فما لك يف الرحال مقيل‪.‬‬
‫ويطلق ويراد به األمور املعنوية اليت ال يناهلا احلس‪ ,‬وهو يف كالم العرب نثره وشعره أكثر من أن ميثل‬
‫له‪ ,‬قال الشاعر‪:‬‬
‫اي ليت شعري واملىن ال تنفع ‪ ...‬هل أغدو نن يوما و ِّ‬
‫أمري جممع‪.‬‬
‫وال خيلو مجيع الفقهاء من محل بعض معاين هذه احلقائق على بعض جمازاهتا ألدلة تقتضيها عندهم‪,‬‬
‫كحمل احلنفية قوله ‘‪« :‬وال يفرق بني جمتمع» على االجتماع يف امللك دون املكان‪ ,‬وخالفهم‬
‫املذاهب الثالثة وغريهم فيها‪ ,‬والتفرق ابألقوال يف خيار اجمللس عند احلنفية واملالكية خبالف الشافعية‬
‫واحلنابلة‪.‬‬
‫ولو نظران لتنقيح املناط على القول أبنه إلغاء الفارق‪ ,‬ال جند فرقا بني صالة من أغلق داره عليه‬
‫إبمام بينهما شارع‪ ,‬وبني صالة من يراه يف بيته صوات أو صورة أو كليهما‪ ,‬وكون األوىل ال تصح‪,‬‬
‫حمجوج بعمل الصحابة والتابعني بعدهم ابملدينة وعمل األمصار من غري نكري‪ ,‬فإن أئمة احلنفية‬
‫والشافعية واحلنابلة ليس يف نظارهم من نقل هذه اآلاثر اليت ينقلها أهل املدينة يف هذه املسألة‪.‬‬
‫وعلى القول أبنه تعيني العلة من أوصاف مذكورة‪ ,‬فقد نص على مساع التكبري وحنوه‪ ,‬مع العلم‬
‫بضرورة االكتفاء ابلرؤية داخل املسجد وخارجه نقال عمليا‪ ,‬فعلم أن املناسب يف ذلك إمكان االقتداء‬
‫أبي وجه مت ضب أفعال اإلمام‪ ,‬مث حتديد خارج املسجد مبا يتعلق ابجلماعة يف املكان‪ ,‬ال يصح؛‬

‫‪‬‬ ‫‪10‬‬
‫لنقضه مبا اتفق اخلصمان على أنه ال يدخل يف عرف اجلماعة يف املكان‪ ,‬فإن الصالة يف بيت مملوك ال‬
‫ينفذ للمسجد ومل تصل إليه الصفوف‪ ,‬ليس من اجلماعة يف املكان حسب تعريف املانعني واجمليزين‪.‬‬
‫وحينئذ يبقى حتديده جمرد دعوى ال دليل عليه‪ ,‬والتزام وجود احلكم يف صورة النقض عند غري‬
‫املالكية ال سبيل إليه‪ ,‬وتلك نصوصهم متوافرة‪ ,‬تدل على بطالن الصالة يف هذه الصورة عندهم‪ ,‬ومنع‬
‫وجود الوصف مع االقتصار عليه أيضا يف هذه احلالة مكابرة ابعرتاف أئمتهم أن هذه الصورة ليست‬
‫مجاعة عرفا‪ ,‬وأما استجالب عرف للمالكية يتعلق ابملكان يف هذا فدونه خرط القتاد‪ ,‬وأئمتهم مل يزالوا‬
‫يفرعون على عدم اعتباره كما تقدم‪ ,‬ويلزم القائل به اآلن أن ُيدد لنا عند املالكية ذلك العرف املكاين‬
‫اخلاص هبم على زعمه‪.‬‬
‫وإمكان االقتداء متفق على أتثريه يف احلكم‪ ,‬وال قائل بفقدان هذا الوصف مع بقاء الصحة‪ ,‬خبالف‬
‫امل َّد َعى يف التقارب املكاين فإن احلكم موجود مع فقدانه يف بعض الصور كما تقدم‪ ,‬وال ميكن عكس‬
‫هذا املؤثر إذ هو يف تعيني العلة نفسها‪ ,‬وليس يف القياس عليها‪.‬‬
‫ولو قال احلنفي والشافعي واحلنبلي‪ :‬االقتداء مشروط ابجلماعة‪ ,‬فال يكفي فيه إمكانه ابلسماع أو‬
‫الرؤية‪ ,‬أصله‪ :‬اهليئة املعروفة للصالة شرعا‪ ,‬قلبناه أبنه مشروط ابجلماعة‪ ,‬فيكفي فيه إمكان االقتداء‬
‫مبعرفة أفعال اإلمام‪ ,‬أصله تلك اهليئة الشرعية‪ ,‬وهذا قلب يصلح إلبطال مذهبهم‪ ,‬وإثبات مذهب‬
‫املالكية‪.‬‬
‫ولو قيل بتسليم املوجب وهو تركيب العلة مع ضعفه‪ ,‬فإن أكثر الفقهاء املعاصرين من القائلني هبذا‬
‫القول خالفوا يف صور معاصرة ما يرتتب عليها من تركيب العلة‪ ,‬فإن أكثر الشافعية واحلنابلة اآلن يثبت‬
‫خيار اجمللس يف العقود اإللكرتونية‪ ,‬بينما يصف االقتداء ابلبث املباشر أبنه وهم ال حقيقة له‪ ,‬ولعله مل‬
‫يعرف معىن الوهم‪ ,‬وما أدري فأية حقيقة أثبت هبا خيار اجمللس عن طريق اهلاتف أو الربيد أو البث‬
‫املباشر‪ ,‬وأصلهم أن قوله ‘ يف احلديث املتفق عليه‪« :‬حىت يتفرقا» ابألبدان ال بغريها عنده‪.‬‬
‫فإذا التزم املنع فيها وله ذلك‪ ,‬فقد خالفه الغزايل وغريه من أئمة املذهب يف املكاتبة فأثبتوا هبا خيار‬
‫اجمللس‪ ,‬وال حقيقة لصأبدان فيها‪ ,‬وعلى قول أكثر املعاصرين القائلني هبذا األصل "يكون احتاد اجمللس‬
‫يف العقد عن طريق اهلاتف‪ :‬هو زمن االتصال‪ ,‬فما دامت احملادثة يف شأن العقد قائمة اعترب اجمللس‬
‫قائما‪ ,‬وإذا انتقال إىل حديث آخر اعترب اجمللس منتهيا"‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪11‬‬
‫فإذا أثبتوا هذا‪ ,‬وشرطهم فيه األبدان‪ ,‬فليثبتوا هذه أيضا‪ ,‬وشرطهم فيها احتاد املكان عرفا‪ ,‬فأي فرق‬
‫بينهما بعد املعرفة أبن احلكم معلل فنوع من اهلذاين‪.‬‬
‫بل خيار اجمللس أقرب إىل التعبد من جمرد إمكان االقتداء يف الصالة‪ ,‬وقد وردت فيه أدلة‪ ,‬منها ما‬
‫هو نص على العلة‪ ,‬ومنها ما هو إمياء‪ ,‬خبالف خيار اجمللس فإنه عند املالكية مندوب إليه على أصل‬
‫اإلقالة‪ ,‬وليس الزما‪ ,‬لإلمجاع على ثبوت امللك وترتب مثراته على متام الصفقة‪ ,‬وأن ما ال جتوز فيه‬
‫اإلقالة‪ ,‬ال جيوز فيه خيار اجمللس‪ ,‬كمن اشرتى زوجته‪ ,‬أو ابتاع من يعتق عليه‪ ,‬أو مات بعد متام‬
‫فوات لإلقالة‪ ,‬وليس املقصود هنا‬‫الصفقة‪ ,‬أو اشرتى شيئا فاستهلكه يف اجمللس‪ ,‬أو تصرف فيه تصرفا م ِّ‬
‫هذه املسألة‪ ,‬وإمنا املقصود بيان أن إمكان االقتداء يف الصالة أقرب إىل التعليل مما خالفوا فيه أصلهم‪,‬‬
‫أو عده بعض أئمتهم يف بعض الصور‪ ,‬وألغى فيه اعتبار املكان‪.‬‬
‫وإذا اعتل معتلٌّ أبنه ألغى اعتبار املكان يف خيار اجمللس لتقدمي مصلحة عامة على مفسدة خاصة‪,‬‬
‫فلتكن مصلحة اجلماعة يف الصالة أوىل من التقدمي على مفسدة عدم اتصال الصفوف وحنوه‪ ,‬فإن‬
‫املصلحة األوىل خمتلف فيها من أصلها‪ ,‬ومصلحة اجلماعة عموما وأصال مل يقع فيها خالف‪ ,‬فإن‬
‫مصلحة اجلماعة مصلحة أصلية كلية‪ ,‬ومصلحة القرب يف املكان مصلحة جزئية متممة‪ ,‬فال يعقل أن‬
‫يلغى الكلي األصلي مبعارضة اجلزئي املتمم‪ ,‬فقطع األيدي وجلد القاذف مفسدة جزئية خاصة‪ ,‬وجب‬
‫ارتكاهبا حفاظا على املصلحة األصلية العامة يف حفظ األموال واألعراض‪.‬‬
‫وال ميكن هنا املعارضة وال املزامحة إببداء الفرق من جهة وصف مناسب مفقود يف الفرع وموجود يف‬
‫األصل؛ ألن هذا السؤال مبين على أن الصحة يف مسألتنا ال تكون هلا علتان أو أكثر‪ ,‬فما ال يصلح‬
‫لالستقالل فيه ال يسمع‪ ,‬وهو فارقهم؛ ألنه ليس فيهم من ادعى أن القرب املكاين مع عدم إمكان‬
‫االقتداء تصح به الصالة‪ ,‬والتعليل بعلتني مل ي َّدع يف هذه املسألة‪ ,‬واألصل يف العلل املستنبطة االحتاد أو‬
‫الرتكيب‪ ,‬ال االستقالل‪ ,‬وقد قال أبو املعايل يف هناية املطلب (‪" :)308 /2‬فإنه ليس معنا توقيف‬
‫شرعي يف املواقف‪ ,‬وإمنا نبين تفريعات الباب على أمر مرسل يف التواصل"‪.‬‬
‫والقول ابلرتكيب من القرب املكاين مع إمكان االقتداء‪ ,‬تقدم أنه إذا قصد به أنه هو الذي تقتضيه‬
‫اجلماعة شرعا‪ ,‬فقد منع منه الشرع‪ ,‬ومل يعتربه على رأي املالكية وما استدلوا به من آاثر‪.‬‬
‫فلم يبق إال اعتبار إمكان االقتداء‪ ,‬فهو شرط صحة عند اجلميع‪ ,‬ومن ادعى فيه الرتكيب أو‬
‫االستقالل فقد تقدم جوابه وعليه الدليل‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪12‬‬
‫ورأيت بعض الفضالء الذين هم من أحسن من نقل كالم املالكية يف املسالة أعاد هذا الفرع وهو‬
‫االقتداء بواسطة البث املباشر إىل الصورة النادرة اليت يرتجح عنده أهنا غري مقصودة للشارع‪ ,‬ولو تناوهلا‬
‫العموم‪.‬‬
‫وهذا غريب؛ ألن فرض الصورة النادرة إمنا هو إذا كانت موجودة مع قلتها وندرهتا‪ ,‬وهذه غري‬
‫موجودة أصال‪ ,‬فلما وجدت صارت أكثر من غريها‪ ,‬بل العامل كله صار معتمدا عليها يف حياته اليومية‬
‫حكومات وشعواب‪ ,‬ومعامالت وتعليما وغري ذلك‪ ,‬وإمنا يشملها العموم ابلنص أو تلحق ابلقياس‪,‬‬
‫وتقدم ذلك‪.‬‬
‫ومما ذكره أيضا أن األصل يف اجلماعة التوقيف‪ ,‬والتعليل مث القياس عليه خالف األصل؛ لقوله ‘‪:‬‬
‫«صلوا كما رأيتموين أصلي‪.»...‬‬
‫وهذا أيضا فيه غرابة؛ ألن الصالة منها ما هو معقول املعىن ابتفاق فيقاس عليه غريه عند حدوثه أو‬
‫احلاجة إليه‪ ,‬وهذه املسألة ال وجود هلا يف عهد النيب ‘ وال صحابته‪ ,‬وإمنا املوجود يف عهدهم اقتداء‬
‫الناس ابإلمام‪ ,‬وعلى األحوال اليت يقتدون هبا يعود الكالم يف املسألة‪ ,‬فال وجه لطرح التوقيف إال ببيان‬
‫أن االقتداء بكل أنواعه توقيفي‪ ,‬وهو خمالف ملنهج األئمة املتبوعني‪ ,‬فكل منهم أفىت يف أحوال حادثة يف‬
‫االقتداء يف الصالة بعد عهد النيب ‘ مبا يراه قريبا منه‪ ,‬والقياس على املعقول املعىن ال ينايف االتباع‬
‫واالقتداء ابلشرع‪ ,‬بل هو عني االتباع‪.‬‬
‫وإمنا اختلفوا يف نتيجة احلكم تبعا الختالفهم يف األصل الذي يلحق به‪ ,‬كاالقتداء ابملصلوب وقد‬
‫يكون وجهه على غري جهة القبلة‪ ,‬واقتداء مبومئ‪ ,‬واقتداء من ابلسفينة مبن بسفينة أخرى‪ ,‬واقتداء‬
‫راكب دابة مبن هو راكب خلفه أو أمامه‪ ,‬واقتداء املرأة ابخلنثى‪ ,‬واقتداء أحدمها ابآلخر يف علو أو‬
‫سفل‪ ,‬واقتداء األصم األبكم‪ ,‬واالقتداء ابإلمام العاري الذي ال يقدر على الثياب‪ ,‬وحنو ذلك مما يطول‬
‫ذكره‪.‬‬
‫وليس املراد هنا أن هذه الفروع يشبَّه هبا هذا يف احلكم‪ ,‬بل املقصود أهنا مثله يف احلدوث واالتفاق‬
‫على التعليل مث اإلحلاق أبصل االقتداء‪.‬‬
‫ومما ذكره أيضا أن هذه املسألة ال ميكن إحلاقها إال بقياس الشبه‪ ,‬وهذه أغرب‪ ,‬وقد تقدم تنقيح‬
‫مناط علة أصلها وخترجيه واستنباطه أبكثر أنواع مسالك العلة‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪13‬‬
‫اللوازم اليت يوردها بعض املشايخ‬
‫أما اللوازم اليت يذكرها بعض املشايخ فتدل إما على عدم تصور أصل القائل ابملسألة‪ ,‬وإما على‬
‫القول ابخلل بني األصول وتتبع الرخص‪ ,‬كما يدل على ضعف يف التفريع الفقهي‪ ,‬وهنا يظهر أن‬
‫املؤسسات الرمسية أصابت يف منع اإلذن هبذا النوع من الصلوات لقلة الفقه والتفريع يف مظانه‪ ,‬ونذكر‬
‫ورد منها‪:‬‬
‫أهم ما أ َ‬
‫أوهلا‪ :‬هجران املساجد يف العامل اإلسالمي الذي تقع صالهتم يف وقت صالة املساجد الثالثة‪:‬‬
‫املسجد احلرام واملسجد النبوي واملسجد األقصى واالكتفاء ابالئتمام هبا عن بعد؛ ألن الصالة فيها‬
‫أفضل من بقية املساجد إمجاعا‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬املورد هلذا الالزم مل يتصور أصل املالكية وال قوهلم ألمور نقتصر منها على أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن فضل الصالة عند املالكية يف هذه املساجد الثالثة خمتص ابملكان‪ ,‬كما أن فضل الصف‬
‫األول خمتص ابملكان‪ ,‬فال يناله مأموم يف الصف التاسع أو العاشر مبجرد صحة اقتدائه‪ ,‬ولو مجعهم‬
‫فضل اجلماعة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن فضل اجلماعة املطلوب يف هذا االقتداء عن بعد ال يشرتطون فيه القرب املكاين‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن فضل اجلماعة على صالة الفذ عندهم حمدد خبمس وعشرين‪ ,‬أو سبع وعشرين درجة‪,‬‬
‫وال تتفاضل اجلماعات فيه عندهم بكثرة أو قلة أو صالح؛ ألن الفضل الذي يشرع طلبه هو الفضل‬
‫الذي يشرع للفذ إعادة الصالة ألجله‪ ,‬وضعفوا قول ابن حبيب املخالف يف هذا؛ ألنه ساق آاثرا ال‬
‫أصل هلا‪ ,‬وليس هو ممن يعتمد على روايته‪ ,‬وإمنا يعتمد نقله ملسائل الفقه وخترجيه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن صالة هؤالء يف مساجدهم ابتصال الصفوف أفضل من صالهتم عن بعد هبذه املساجد‬
‫الثالثة؛ ألن الفضل خاص ابملكان‪ ,‬وليسوا فيه‪ ,‬وألن الفضل ال يتفاوت عندهم بنوع اجلماعة‪ ,‬وألن‬
‫القرب املكاين شرط كمال‪ ,‬وشرط الكمال ال يتهاون يف حتصيله على العموم صاحب داينة‪.‬‬
‫وإلغاء هذه القيود لصاحب األصل هو تالعب ابألحكام‪ ,‬واختيار ابلتشهي‪ ,‬فإن مالكا لو‬
‫تعارضت له املصلحة العامة حبكم جممع عليه خاص لرده ومنع منه‪ ,‬فكيف لو كان يف ابله أن الناس‬
‫سيرتكون القيود اليت متنع من التالعب هبذا احلكم حني إجازته‪ ,‬وهبذا فال وجه هلجران تلك املساجد‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪14‬‬
‫وأما من يقول‪ :‬يصح االقتداء دون حصول فضل اجلماعة‪ ,‬فليس هو من قول املالكية‪ ,‬وال أعرف له‬
‫أصال عندهم‪ ,‬ولعل القائل به اعترب القرب املكاين شرطا يف الفضل دون الصحة‪ ,‬وحديث فضل الصالة‬
‫معلل ابجلماعة‪ ,‬فحيث ثبت معىن اجلماعة ثبت الفضل‪.‬‬
‫اثنيها‪ :‬أنه يفتح الباب لقياس مسائل تشبهها أو أغرب منها؛ إذ قد يقول قائل‪ :‬أصلى حاضريت‬
‫اليوم عصرا كانت أم ظهرا بتسجيل صالة األمس مثال يف أحد املساجد الثالثة‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا أيضا من ابب التلفيق الذي ال يقول به فقيه له أصول اثبتة‪ ,‬وهو خمالف ألصل املالكية‬
‫وال يصححونه؛ ألهنم يشرتطون يف صحة الصالة للمأموم احتاد الصالة عينا وفعال ووقتا‪.‬‬
‫فال تصح صالة الظهر خلف إمام بصالة العصر عندهم‪ ,‬وال تصح أيضا صالة حاضرة خلف‬
‫فائتة‪ ,‬وال العكس‪ ,‬لالختالف مع نية اإلمام‪ ,‬وللحديث املتفق عليه الذي سيق لبيان االئتمام‪ ,‬وفيه‪:‬‬
‫«فال ختتلفوا عليه»‪ ,‬وهذا على عمومه عندهم يف االعتقاد والفعل‪ ,‬يقول أبو مصعب يف خمتصره (ص‪:‬‬
‫‪" :)181‬وإن صلى اإلمام ابلناس العصر وهو يرى أهنا ظهر أجزأته صالته‪ ,‬وأعاد من خلفه‪ ,‬ومن‬
‫خالفت نيته نية اإلمام يف الصالة أعادها‪ ,‬ومل يعتد هبا‪ ,‬وإذا خالفت نية من خلفه نيتَه أجزأته صالته‪,‬‬
‫وفسدت صالة من خلفه"‪.‬‬
‫وال يصح عندهم االئتمام إذا شك اإلمام يف كون صالته فائتة‪ ,‬وتيقن املأموم فوات صالته هو‪ ,‬مع‬
‫احتاد عني الصالة‪ ,‬ويلغزون فيه بقوهلم‪" :‬رجالن يف كل شروط اإلمامة‪ ,‬تصح إمامة أحدمها دون اآلخر‬
‫يف صالة بعينها"‪ ,‬وال يصح عندهم االئتمام مع اختالف نيتيهما إال يف حالة واحدة‪ ,‬وهي‪ :‬املتنفل‬
‫خلف مفرتض‪ ,‬للدليل اخلاص فيه‪ ,‬وليس فيه حمذور مع مراعاة بقية القيود يف الصالة على هذا األصل‪,‬‬
‫فتبني أن هذا الالزم من إيراده ذهول عجيب على أصل القائل بصحة املسألة‪.‬‬
‫اثلثها‪ :‬أنه يلزم منه وجوب السعي إىل مجعة بعيدة مبسافات ال يعقل نياط احلكم هبا‪ ,‬ألنه يسمع‬
‫النداء بواسطة هذه اآلالت‪ ,‬وهو أمر معلوم الفساد‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذه حجة على هذا املورد على أصل املالكية؛ إذ مل يفهم أصلهم وهم إمنا ُيدون وجوب‬
‫السعي على من مسع النداء وقت مساعه ال قبله مع القدرة إىل وصول املسجد؛ لقوله تعاىل‪« :‬إذا نودي‬
‫للصالة من يوم اجلمعة فاسعوا إىل ذكر هللا»‪ ,‬وهي عبادة ال تنفك عن السري إليها عندهم‪ ,‬وليست يف‬
‫هذا مثل صالة اجلماعة‪ ,‬فإن كانت عنده حيلة للوصول إىل املسجد الذي مسع فيه النداء قبل صالة‬
‫اإلمام وجب عليه السعي‪ ,‬وإال فال جيب عليه؛ للعجز عنه‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪15‬‬
‫نعم؛ قد يكون يف تطور العصر احلديث مستقبال من يستطيع السعي إىل املسجد يف ظرف ساعة أو‬
‫أقل من مسافات بعيدة فيما بني األذان وبني صالة اإلمام‪ ,‬فإذا حصل هذا بال مشقة غري معتادة لزمه‬
‫السعي عند املالكية ولو كان من الصني إىل أمريكا‪ ,‬إذا مل جيد مكاان للجمعة دونه‪.‬‬
‫هذا إذا ألغينا أصال آخر مينع وجوهبا عند املالكية وهو السفر‪ ,‬فاملسافر عندهم ال تلزمه اجلمعة ولو‬
‫مسع النداء‪ ,‬فدل على أن مساع النداء ال يوجب عندهم سعيا إذا منع منه مانع‪.‬‬
‫ولرتتب املشقة غري املعتادة على من كان بعيدا حدوه يف زماهنم عرفا إىل ثالثة أميال أو بزايدة يسرية‪,‬‬
‫وذلك للعمل املستمر عندهم يف أهل قباء‪ ,‬ومن كان دون العوايل يف املدينة‪ ,‬وقد قال هللا تعاىل‪« :‬ال‬
‫يستوي القاعدون من املؤمنني غري أويل الضرر واجملاهدون يف سبيل هللا أبمواهلم وأنفسهم»‪.‬‬
‫وحديث أيب هريرة الذي أخرجه مسلم وفيه‪« :‬أتسمع النداء‪ ,‬فقال‪ :‬نعم‪ ,‬قال‪ :‬فأجب»‪ ,‬ليس من‬
‫أدلة مالك لعلة معروفة عند أهل الفن‪ ,‬وقد يذكره بعض نظار املذهب بعد القرن الثالث لوجوب السعي‬
‫للجمعة‪ ,‬لكن الدليل عند مالك هو اآلية‪ ,‬واحلديث إمنا ورد يف صالة اجلماعة‪ ,‬والعمدة عند مالك‬
‫فيها للضرير حديث حممود بن الربيع يف قصة عتبان بن مالك «أنه كان يؤم قومه وهو أعمى‪ ,‬وأنه قال‬
‫لرسول هللا ‘‪ :‬إهنا تكون الظلمة واملطر والسيل‪ ,‬وأان رجل ضرير البصر‪ِّ ,‬‬
‫فصل اي رسول هللا يف بييت‬
‫مكاان أختذه مصلى‪ ,‬فجاءه رسول هللا ‘ فقال‪ :‬أين حتب أن أصلي؟ فأشار له إىل مكان من البيت‪,‬‬
‫فصلي فيه رسول هللا ‘»‪.‬‬
‫وليس أيضا من أدلة مالك على عدم اعتبار املكان يف صالة اجلماعة حديث عائشة عند الشيخني‬
‫قالت‪« :‬صلى النيب ‘ يف حجريت‪ ,‬والناس أيمتون به من وراء احلجرة‪ ,‬يصلون بصالته»‪ ,‬ألن هذا إمنا‬
‫حصل يف املسجد يف حصري ُيتجره‪ ,‬ومالك رواه عن ابن شهاب‪ ,‬عن عروة‪ ,‬وفيه نص أنه كان يف‬
‫املسجد‪ ,‬ومل يذكر االحتجار‪.‬‬
‫واالستدالل ال بد أن يعرف طريقه وداللته‪ ,‬حىت ال يلصق ابإلمام ما ليس من روايته وال من فقهه‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬أنه قد ينقطع البث املباشر‪ ,‬فيختل على املأموم االقتداء إبمامه‪.‬‬
‫وهذا إمنا يذكره العوام غالبا لعدم معرفتهم أبحكام االستخالف إما أهنم نشأوا يف بلد ال يعمل فيه‬
‫ابالستخالف على املشهور من مذهبهم‪ ,‬وإما جهل مطبق‪ ,‬واملأموم إذا تعذر عليه متابعة إمامه أمت‬
‫صالته منفردا‪ ,‬أو استخلف حسب شروط االستخالف عند القائل به‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫‪16‬‬
‫وهذه اللوازم أشبه مبا مسعت شيخنا دمحم بن دمحم املختار الشنقيطي يذكر أن أحد املشايخ قال له‪ :‬ما‬
‫رأيت أصعب من مذهب مالك‪ ,‬حبثت فيه عن بداية مسح اخلف وهنايته حىت تعبت‪ ,‬فلم أحصل على‬
‫فظل يبحث عن عدم‪.‬‬‫شيء‪ ,‬فقال شيخنا‪ :‬وما درى الشيخ أن مالكا ال توقيت عنده يف املسح‪َّ ,‬‬
‫وأنبه يف اخلامتة إىل ثالثة تنبيهات‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه سلك الغماري هنا مسلك الظاهرية يف االستدالل على هذه املسألة‪ ,‬فخالف املالكية يف‬
‫الدليل واملدلول‪ ,‬فأجاز صالة فرض خلف فرض آخر‪ ,‬وفائتة حباضرة‪ ,‬وأجاز صالة اجلمعة يف البيت‪,‬‬
‫ومنع تقدم املأموم على اإلمام يف املكان على أنه شرط صحة‪ ,‬وتقدمه ال يبطل الصالة عند مالك كما‬
‫يف املدونة (‪ )129 /1‬قال‪" :‬ومن صلى يف دور أمام القبلة بصالة اإلمام وهم يسمعون تكبري اإلمام‬
‫فيصلون بصالته ويركعون بركوعه ويسجدون بسجوده‪ ,‬فصالهتم اتمة‪ ,‬وإن كانوا بني يدي اإلمام‪ ,‬قال‪:‬‬
‫وال أحب هلم أن يفعلوا ذلك‪ ,‬قال ابن القاسم‪ :‬قال مالك‪ :‬وقد بلغين أن دارا آلل عمر بن اخلطاب‬
‫وهي أمام القبلة كانوا يصلون بصالة اإلمام فيها فيما مضى من الزمان‪ ,‬قال مالك‪ :‬وما أحب أن يفعله‬
‫أحد ومن فعله أجزأه"‪.‬‬
‫وساق أدلة ليست هي أدلة مالك وال أتباعه‪ ,‬إال مسألة اجلمعة يف البيت إبمكان االقتداء ومساع‬
‫اخلطبة‪ ,‬ففيها قول غري معتمد عندهم‪ ,‬واجتهد يف سياق أحاديث بعضها ال أصل هلا‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن هذا ليس خاصا مبالك وأتباعه‪ ,‬بل قول كثري من أهل العلم‪ ,‬وقال عطاء‪ :‬االعتبار بعلمه‬
‫وجهله أبفعال اإلمام‪ ,‬إن كان عاملا أبفعال إمامه‪ ,‬صح االقتداء به‪ ,‬اختلف البنيان أو اتفق‪ ,‬قربت‬
‫املسافة أو بعدت‪ .‬ينظر‪ :‬موقف اإلمام واملأموم أليب دمحم اجلويين (ص‪.)12 :‬‬
‫وقال أبو جملز كما يف مصنف عبدالرزاق (‪" :)3883‬تصلي املرأة بصالة اإلمام وإن كان بينهما‬
‫طريق أو جدار بعد أن تسمع التكبري فال أبس"‪ ,‬واستشهد به البخاري للمسألة‪.‬‬
‫وقال هشام بن عروة كما يف املصنف أيضا (‪ ,)3889‬ومصنف ابن أيب شيبة (‪" :)1113‬جئت‬
‫أان‪ ,‬وأيب مرة‪ ,‬فوجدان املسجد قد امتصأ‪ ,‬فصلينا بصالة اإلمام يف دار عند املسجد بينهما طريق"‪.‬‬
‫وقال صاحل بن إبراهيم‪" :‬إنه رأى أنس بن مالك صلى اجلمعة يف دار محيد بن عبدالرمحن بصالة‬
‫اإلمام بينهما طريق"‪ ,‬كما يف مصنف عبدالرزاق (‪.)9399( ,)3882‬‬

‫‪‬‬ ‫‪17‬‬
‫وقال منصور كما يف مصنف ابن أيب شيبة (‪" :)1112‬كان إىل جنب مسجدان سطح‪ ,‬عن ميني‬
‫املسجد أسفل من اإلمام‪ ,‬فكان قوم هاربني يف إمارة احلجاج‪ ,‬وبينهم وبني املسجد حائ طويل يصلون‬
‫على ذلك السطح‪ ,‬وأيمتون ابإلمام فذكرته إلبراهيم فرآه حسنا"‪.‬‬
‫وذكر ابن املنذر يف األوس ويف اإلشراف عددا من أهل العلم يقولون بصحة مثل هذا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن كثريا من العوام ينكتون على القائل ابالقتداء بواسطة البث وجيعلونه أضحوكات بكالم‬
‫يتعلق اببتذال هذه الوسائل‪ ,‬أبنه قد ينقطع البث‪ ,‬وأتيت أغنية أم كلثوم أو حنوها مكانه‪ ,‬فما ذا نفعل؟‬
‫صحيح أنه نسي ما ذا يفعل؛ ألنه نسي أن مكرب الصوت الذي خيطب منه اإلمام يف جامعه‪ ,‬هو‬
‫جنس مكرب الصوب الذي تغين فيه أم كلثوم‪ ,‬وأن سيارته اليت يستقلها إىل اجلامع من جنس سيارة‬
‫مايكل جيكسون‪ ,‬وأن السيف الذي جاهد به النيب ملسو هيلع هللا ىلص هو من جنس الذي قاتل به أبو جهل‪ ,‬وأن‬
‫القماش الذي يلبسه يف الصالة هو جنس القماش الذي يلبسه السارق والقاطع للطريق‪.‬‬
‫وأختم بسياق كالم للشوكاين ممن سلك طريقة الظاهرية يف االستدالل‪ ,‬ووافق املالكية يف النتيجة‪,‬‬
‫وإن مل أرض بعض طريقة استدالله‪ ,‬ويف كالمه ما يدل على أن هذه املسألة لو كانت يف عصره لقال‬
‫هبا‪ ,‬وتدبر قوله‪" :‬وال ينقلها إليه انقل"‪ ,‬وها هو كالمه بنصه يف الفتح الرابين (‪:)2823 /1‬‬
‫"وأما ما تقدم من حكاية اإلمجاع على منع البعد املفرط فذلك إمنا هو حيث ال يدرك املؤمت أفعال‬
‫اإلمام كما تقدم عن عطاء‪ ,‬واملنصور‪ ,‬وال ريب أن من كان من البعد حبيث ال يدرك أفعال إمامه‪ ,‬وال‬
‫ينقلها إليه انقل‪ ,‬ال يتمكن من االئتمام واالقتداء ابإلمام‪ ,‬فال يتم صالة اجلماعة لذلك‪ ,‬وما دون هذا‬
‫البعد‪ ,‬وهو حيث يكون مع بعده يدرك أفعال إمامه وميكنه االقتداء به‪ ,‬فال وجه ملنعه ومن يزعم املنع‬
‫يف صورة من الصور مل يقبل منه ذلك‪ ,‬إال بدليل‪ ,‬وكما أنه ال وجه لقول من قال ابلفرق بني املسجد‬
‫وغريه‪ ,‬ال وجه أيضا لقول الشافعي يف التقدير بثالمثائة ذراع‪ ,‬فإن ذلك إمنا نشأ من ظنه أن ذهاب‬
‫الطائفة األوىل مصلية يف صالة اخلوف لقصد احلارسة على النبل‪ ,‬وذلك جمرد ختمني‪ ,‬وال دليل عليه يف‬
‫الرواية فال حجة يف حمض الرأي"‪.‬‬

‫وهللا أعلم‪ ,‬وصلى هللا وسلم على نبينا دمحم وآله وصحبه أمجعني‪ ,‬ومن تبعهم إبحسان إىل يوم الدين‪.‬‬
‫كتبه د‪ /‬دمحماألمني بن عبدالرمحن األنصاري ليلة األحد ‪. ç 1331/9/3‬‬

‫‪‬‬ ‫‪18‬‬

You might also like