Professional Documents
Culture Documents
بيان مأخذ المالكية في علة الائتمام بصلاة الجماعة عن بعد
بيان مأخذ المالكية في علة الائتمام بصلاة الجماعة عن بعد
احلمد هلل والصالة والسالم على من ال نيب بعده ,وآله وصحبه ومن تبعهم إبحسان.
أما بعد ,فرأيت كتاابت حتاملت على أصل مذهب مالك أو على القائل به ,من غري تصور صحيح
ألصلهم ,فأردت أن أبني مأخذهم يف هذا األصل ,وهو اشرتاط القرب املكاين أو عدمه يف صالة
اجلماعة.
وأول ما ينبغي القيام به هو معرفة علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة عند املالكية.
صورة املسألة
وصورة املسألة فيمن صلى مع مجاعة يف غري مجعة يف مكان بعيد جدا عن مسجد إمامه ,أو كان
يف دار ليست من املسجد وال مالصقة ابملسجد ,ومل تصل إليه الصفوف ,كأن يصلي يف دكانه بصالة
اإلمام وبينه وبينهما طريق مسلوك يفصله عرفا عن املسجد ,بواسطة الصوت أو الرؤية عن بعد.
فإن املذاهب الثالثة -ما سوى املالكية -يشرتطون يف حقيقة صالة اجلماعة القرب املكاين مع
إمكان االقتداء ,مث خيتلفون يف بعض تفاصيل ما هو قرب مكاين عرفا ,ليس هو غرضنا هنا.
واملالكية يصححون هذه الصالة يف كتبهم ,ما مل تكن مجعة ,فإذا كانت مجعة اشرتطوا القرب املكاين
ألجل اشرتاط اجلامع ,مث حدوه عرفا بتحديدات املذاهب الثالثة نفسها يف صالة اجلماعة عموما.
وهلذا مل يصحح األحناف والشافعية واحلنابلة هذه الصالة على املشهور من مذاهبهم ,ومن هذا قول
الطحاوي يف خمتصره" :والصالة خارج املسجد بصالة اإلمام يف املسجد جائزة إذا كانت الصفوف
متصلة".
وقال الرازي اجلصاص يف شرح خمتصر الطحاوي (" :)22 /2فإن الصفوف إذا كانت متصلة ,ومل
يكن هناك حاجز بينهم وبني اإلمام من الطريق فكأهنم معه يف املسجد ,وإذا مل تكن الصفوف متصلة,
مل جتز صالة من كان بينه وبني اإلمام طريق".
وقال السرخسي يف املبسوط (" :)191 /1واملراد طريق متر فيه العجلة فما دون ذلك الطريق ال
طريق ,واملراد من النهر ما جتري فيه السفن فما دون ذلك مبنزلة اجلدار ال مينع صحة االقتداء ,فإن
كانت الصفوف متصلة على الطريق جاز االقتداء حينئذ؛ ألن ابتصال الصفوف خرج هذا املوضع من
أن يكون ممرا للناس وصار مصلى يف حكم هذه الصالة".
1
ومنه قول أيب دمحم اجلويين يف كتاب الفروق (" :)909 /1وأما الواقف يف البيت جبوار املسجد فهو
منقطع مبكانه عن املسجد وعن املصلني الواقفني يف املسجد ,وال بد من االجتماع مع اإلمام واالتصال
ابجلماعة يف املكان ,كما ال بد من املتابعة واالتصال يف األفعال ,ولوال ذلك لبطل االجتماع يف
اجلماعات ,وجلاز أن يصلي اإلمام يف احملراب يف اجلامع والناس يصلون يف مساكنهم وخاانهتم وأسواقهم
ومدارسهم من غري اتصال الصفوف على وجه من وجوه االتصال".
وقال أبو املعايل يف هناية املطلب (" :)301 /2وال يعد من اجلماعة أن يقف اإلنسان يف منزله
اململوك ,وهو يسمع أصوات املرتمجني يف املسجد ,ويصلي بصالة اإلمام".
املنجى احلنبلي يف املمتع (" :)390 /1وإمنا اعترب االتصال يف خارج املسجد؛ ألن املكان ومنه قول َّ
ليس معدا لالجتماع فاشرتط االتصال ليحصل ذلك ,واالتصال مقدر ابلعرف؛ ألنه ال توقيف فيه".
وانظر الفرق بني هذا وبني مذهب مالك اآليت بعد قليل ,فإنه واضح ,يقول أبو املعايل يف هناية
املطلب (" :)303 /2وملا مل ير الشافعي االكتفاء ابالطالع على حاالت اإلمام وانتقاالته ,ومل جيد
توقيفا شرعيا يقف عنده ,أخذ يتمسك ابلتقريب".
وقال يف هناية املطلب (" :)302 /2الذي جيب ضبطه قبل اخلوض يف التفاصيل :أن الشافعي مل
يكتف يف جواز االقتداء أبن يكون املأموم حبيث يقف على حاالت اإلمام وانتقاالته ,وقد نَ َق َل عن
عطاء أنه اكتفى هبذا يف األماكن كلها ,وب لِّغت عن مالك أنه صار إىل ذلك ,ومل يفصل بني بقعة
وبقعة ,وهذا قياس بني ,ليس خيفى على املتأمل ,ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حاالت
اإلمام أن يكون اإلمام واملأموم حبيث يعدان جمتمعني يف بقعة".
ففرق كبري بني هذا وبني كالم املالكية ومأخذهم ,وادعاء أن مأخذ مالك يف املسألة هو مأخذ بقية
املذاهب الثالثة دعوى عريضة ال طائل من ورائها ,فإنه بناء على قول املذاهب الثالثة يكون التفريع
الصحيح على ما قاله أبو املعايل يف هناية املطلب (" :)309 /2إن اختلف البناء ,ومل يكن اتصال
صفوف ,مل تصح قدوة من يف بناء غري البناء الذي فيه اإلمام".
وقال أبو دمحم اجلويين يف موقف اإلمام واملأموم (ص" :)12 :العلم بركوع اإلمام وسجوده :ال يكفي,
خبالف ما ذهب إليه عطاء ابن أيب رابح".
2
والذي ذهب إليه هؤالء ُيتمل أنه قول أشهب أيضا من املالكية ,فإنه قال كما يف النوادر والزايدات
(" :)299 /1إال الطريق العريض جدا حىت يكون كأنه ليس مع اإلمام ,فهذا ال جتزئه صالته ,إال أن
يكون يف الطريق قوم يصلون بصالة اإلمام صفوفا متصلة ,فصالته اتمة".
وإمنا ذكرته احتماال ألين مل أجده إال يف النوادر ,وهو فيها مصحوب بكالم ملالك ساقه ملا يعترب يف
صالة اجلمعة عنده من التقارب يف املكان عرفا ,ال يف صالة اجلماعة ,وسيأيت الفرق بينهما عند مالك.
فإن قصد به أشهب تفسري كالم مالك فهو تفسري ملقصده يف اجلمعة ,وليس يف صالة اجلماعة,
والذي يدلك على ذلك أيضا أن املالكية مل ُيكوه يف كتبهم يف االئتمام يف صالة اجلماعة ال قوال وال
خترجيا.
وهبذا قول أشهب هنا ليس قول املالكية املعتمد عندهم يف صالة اجلماعة قطعا ,ونصبوا اخلالف
وانظروا على ما خيالف هذا القول يف صالة اجلماعة ,ومل يدرجه كل من عمل على املدونة اختصارا أو
شرحا أو حنو ذلك من أئمة املالكية بعده يف مباحث صالة اجلماعة ,فإنه قال ابن القاسم يف املدونة
(" :)121 /1وسألنا مالكا عن النهر الصغري يكون بني اإلمام وبني قوم وهم يصلون بصالة اإلمام؟
قال :ال أبس بذلك إذا كان النهر صغريا ,قال :وإذا صلى رجل بقوم فصلى بصالة ذلك الرجل قوم
آخرون بينهم وبني ذلك اإلمام طريق فال أبس بذلك ,قال :وذلك أين سألته عن ذلك فقلت له :إن
أصحاب األسواق يفعلون ذلك عندان يف حوانيتهم ,فقال :ال أبس بذلك".
وقال سحنون كما يف املدونة (" :)121 /1وأخربين ابن وهب عن سعيد بن أيب أيوب عن دمحم بن
عبدالرمحن :أن أزواج النيب ‘ كن يصلني يف بيوهتن بصالة أهل املسجد ,قال سحنون :وأخربين ابن
وهب عن رجال من أهل العلم عن عمر بن اخلطاب وأيب هريرة وعمر بن عبدالعزيز وزيد بن أسلم
وربيعة مثله ,إال أن عمر بن اخلطاب قال :ما مل تكن مجعة".
وهذا خالف قول أشهب إذا قصد به صالة اجلماعة وليس اجلمعة ,فإنه اشرتط اتصال الصفوف
فيما إذا كانت الطريق عريضة ,ومل يقيده إبمكان االقتداء ,وهلذا قال املازري يف شرح التلقني (/1
)200يف حديث هبذا املعىن ال أصل له" :وإن صح محل على طريق مينع االقتداء".
ويف املدونة (" :)129 /1ما قول مالك يف صالة الرجل على قعيقعان وعلى أيب قبيس بصالة اإلمام
يف املسجد احلرام؟ قال :مل أمسع فيه شيئا وال يعجبين".
3
وهذا النقل عن ابن القاسم ,فسره ابن يونس بقوله يف اجلامع (" :)931 /2يريد لبعده عن اإلمام؛
فإنه ال يستطيع مراعاة فعله يف الصالة".
ويف املدونة ( )129 /1قال مالك يف" :القوم يكونون يف السفن يصلي بعضهم بصالة بعض,
وإمامهم يف إحدى السفائن وهم يصلون بصالته وهم يف غري سفينته ,قال :فإن كانت السفن بعضها
قريبة من بعض فال أبس بذلك".
ويف اجلامع ( )931 /2ساق ابن يونس كالم ابن عبداحلكم تفسريا ملقصد مالك ,قال" :إذا مسعوا
تكبريه ورأوا أفعاله فإن َّفرقهم الريح بعد دخوهلم يف الصالة فليستخلفوا من يتم هبم ,ذكره ابن
كحدثِّه؛ ألهنم خرجوا من إمامته ملا تعذر عليهم االئتمام به ,فأشبه خروجهعبداحلكم ,وهو الصوابَ ,
من اإلمامة بغري قصد إلفسادها".
وهذا واضح يف عدم حتديد قرب مكاين إال ما ميكن معه معرفة أفعال اإلمام.
وأهل املذهب يفهمون من علة ذكر مالك للنهر الصغري ما مينع السماع أو الرؤية ,كما قال الدسوقي
يف حاشيته (" :)111 /1وأما الفصل ابلنهر الكبري وهو ما مينع من مساع اإلمام ومأمومه ومن رؤية فعل
أحدمها فال جيوز" ,فيجعلون علة منع مالك للنهر الكبري عدم التمكن من مساع اإلمام ,وكذا كراهته
ابقتداء من أبسفل السفينة مبن أبعالها؛ ألنه ال يتمكن من ضب أفعال إمامه ,خبالف العكس.
وهناك كالم ملالك يف صالة اجلمعة يسوقه بعض املشايخ يظن أن مالكا يقصد هبا القرب املكاين يف
صالة اجلماعة ,ومالك إمنا يشرتط يف اجلمعة اجلامع ,وليس القرب املكاين من اإلمام ,فيخل بني هذا
وبني تلك يظن أن قول مالك فيه هو قول بقية املذاهب.
ومنه قول مالك يف املدونة (" :)129 /1لو أن دورا حمجورا عليها صلى قوم فيها بصالة اإلمام يف
غري اجلمعة فصالهتم اتمة إذا كان لتلك الدور كوى أو مقاصري يرون منها ما يصنع الناس واإلمام,
فريكعون بركوعه ويسجدون بسجوده فذلك جائز ,وإن مل يكن هلا كوى وال مقاصري يرون منها ما تصنع
الناس واإلمام إال أهنم يسمعون اإلمام فريكعون بركوعه ويسجدون بسجوده فذلك جائز".
وهذا نص صريح من مالك يف الفرق بني اجلمعة يف اعتبار املكان ,وبني صالة اجلماعة ,مث نص يف
صالة اجلماعة على أنه ال يعترب غري إمكان االقتداء ابلرؤية أو ابلسماع ,مع أن البيوت احملجورة املغلقة
على مالكيها ليست من املسجد يف عرف الناس ابعرتاف املانعني واجمليزين.
4
وقال مالك يف املدونة ( )212 /1يف سياق صالة اجلمعة" :وإن كان الطريق بينهما فصلى يف تلك
األفنية بصالة اإلمام ومل تتصل الصفوف إىل تلك األفنية فصالته اتمة".
يقصد به أن هذا قريب يف املكان عرفا ولو مل تتصل الصفوف ,فيكون له حكم اجلامع يف املكان.
وأصرح منه يف املدونة (" :)212 /1قال مالك فيمن صلى يوم اجلمعة على ظهر املسجد بصالة
اإلمام ,قال :ال ينبغي ذلك؛ ألن اجلمعة ال تكون إال يف املسجد اجلامع".
ويف املدونة (" :)211 /1قال ابن وهب :وقال يل مالك :فأما من صلى يف دار مغلقة ال تدخل إال
إبذن ,فإين ال أراها من املسجد ,وال أرى أن تصلى اجلمعة فيها".
إ ًذا فهذه النصوص عن مالك ال تدع جماال للشك يف أن القرب املكاين عرفا عند مالك ليس هو علة
صحة االئتمام يف اجلماعة ,وإال فأي معىن فرق فيه بني اجلمعة ,وبني اجلماعة؟ مث إنه لو اشرتط القرب
املكاين يف صالة اجلماعة لكان حتديده عنده كتحديده يف صالة اجلمعة.
ومما يوضح هذا أكثر تفريع املالكية أبمجعهم أن الراعف يف صالة اجلماعة إذا خرج لغسل الدم
وأمكنه البناء على صالة إمامه فال يتجاوز أول مكان ميكن له فيه االقتداء ابلسماع أو ابلرؤية ,فإن
جاوزه بطلت صالته؛ ألنه زاد فيها ما ليس حباجة إليه ,خبالف اجلمعة فال بد من العودة للجامع حىت
يتحقق فيه القرب املكاين عرفا؛ إذ ال تصح عندهم إال فيه على املعتمد املشهور ,وأكتفي بنقل واحد
لكثرته ,قال عبدالوهاب بن نصر يف املعونة (ص" :)282 :وإمنا يرجع إذا طمع أنه يدرك مع ِّ
اإلمام
بقية الصالة ليتم الصالة على الوجه الذي ابتدأها من اجلماعة ,وإن مل يطمع يف إدراكها أمتها يف موضع
غسل الدم أو يف أقرب املواضع إليه ,ليسلم من أن يزيد يف الصالة عمال من غري حاجة ,هذا يف غري
اجلمعة ,فأما يف اجلمعة فال بد من عوده إىل اجلامع أدرك ِّ
اإلمام أو مل يدركه ,وألهنا ال تكون إال يف
املسجد أو ما هو يف حكمه ,فلذلك رجع إليه ألجل موافقة ِّ
اإلمام".
والقول أبن هذا البعد جدا مع إمكان االقتداء إمنا جييزه مالك ألنه داخل يف عرف املكان عنده ,مل
يفهمه أحد من أصحابه يف صالة اجلماعة ,بل هذا النوع عند اجلميع خارج عن العرف املكاين يف
االجتماع ,وألجل ذلك انظروا عليه ,ولو كان داخال فيه ملا لزمتهم املناظرة عليه ,ولقالوا :إن العرف
عندان إىل ثالثة أميال أو حنو ذلك مما ميكن أن يصل إليه الصوت املعتاد ,كما قالوا يف وجوب السعي
للجمعة ,فلما مل يقله أحد منهم مع احلاجة إليه عند اجلدال عرفنا أنه ليس حجتهم ,وال قوال هلم.
5
وألهنم صرحوا بعكسه ,وأن العربة عندهم إبمكان االقتداء ال اعتبار املسافة ,ومنه قول عبدالوهاب
بن نصر يف اإلشراف (" :)101 /1فأما تقدير الشافعي فإنه دعوى ال فصل بينه وبني من عكسها
فزاد فيها أو نقص منها ,وألن العربة بسماعهم صوت املكرب وذلك خيتلف حبسب قرب املوضع وبعده
فلم يكن يف ذلك حد أكثر من إمكانه وتعذره".
وهذا صريح يف عدم اعتبار القرب املكاين؛ إذ صريه دعوى ال دليل عليها ,مث صرح ابلعلة املؤثرة.
اإلمام واملأموم حائل مينع املشاهدة ومساع وقال املازري يف شرح التلقني (" :)198 /1إذا كان بني ِّ
الصوت حىت ال جيد طريقا لالقتداء به فال خفاء أبن االئتمام ال يتصور".
وهذا صريح يف أن العربة عندهم ليس هو املسافة املكانية ,بل وجود طريق لالقتداء ,وأن البعد الذي
خيتفي معه املشاهدة والسماع غري متصور معه االقتداء يف زماهنم ,ومفهومه أنه لو وجدت وسيلة ميكن
معها االقتداء ألجازه مبجرد اإلمكان ,وإال لكان هذا الكالم كله لغوا وعبثا ال فائدة منه.
اإلمام؛ فإن كانوانظر بقية كالم املازري" :وإذا كان بينهما حائل مينع املشاهدة وال مينع مساع نطق ِّ
اإلمام فقد مضى كراهته ,وذكر اختالف الناس فيه". أمام ِّ
مكان املأموم َ
يعين :أنه تصح صالة من تقدم على اإلمام يف املكان مع الكراهة ,وهذه مسألة أخرى عند املالكية,
هلا أثر يف هذه املسألة الطارئة ,وذكر أن جمرد مساع اإلمام كاف يف صحة االقتداء به.
وقال ابن عبدالرب يف الكايف (" :)212 /1وكل من رأى إمامه أو مسعه وعرف خفضه ورفعه وكان
خلفه جاز أن أيمت به يف غري اجلمعة اتصلت الصفوف به أو مل تتصل إذا ركع بركوعه وسجد بسجوده
ومل خيتل شيء من ذلك عليه وسواء كان بينهما هنر أو طريق أو مل يكن".
وقال ابن جزي يف القوانني الفقهية (ص" :)39 :ويصلي أهل السفن إبمام واحد يف سفينة منها,
فإن فرقتهم الريح كانوا كمن طرأ على إمامهم ما مينعه اإلمامة ,وصالة املستمع جائزة على األصح".
وهذا قول املالكية مجيعا قال خليل يف خمتصره (ص" :)31 :واقتداء ذوي سفن إبمام ,وفصل مأموم
بنهر صغري ,أو طريق ,وعلو مأموم ,ولو بسطح ,ال عكسه ..ومسمع ,واقتداء به ,أو برؤية وإن بدار".
وقال التتائي يف جواهر الدرر ( )122 /2شارحا منت املختصر" :وجاز اقتداء به ,أي :مبا يسمعه
املسمع لعمل أهل األمصار من غري نكري ,وظاهره :أنه ال فرق بني فرض العني والكفاية كاجلنازة ,وال
عمهم صوت اإلمام أم ال ,كان يف بني السنة كالعيد والنفلِّ ,أذن اإلمام أم ال ,تكلَّف رفع صوته أم الَّ ,
مجاعة أم ال ,كان املبلِّغ اإلمام أو غريه".
6
ويف منت خمتصر خليل أثناء الكالم على الراعف إذا غسل الدم ورجع يظن إدراك اإلمام ,قال:
"ورجع إن ظن" ,وقال اخلرشي يف شرحه (" :)231 /1أي يرجع إىل أقرب موضع يصح فيه االقتداء
إبمامه إخل فإن تعدى املوضع الذي يصح االقتداء به أبن يسمع أقوال املبلغني أو يرى أفعال املأمومني
بطلت صالته وأوىل لو اعتقد".
وقال احلطاب يف مواهب اجلليل (" :)122 /2أهل املذهب قالوا :مراتب االقتداء أربعة :إما رؤية
أفعال اإلمام ,أو أفعال املأمومني ,أو مساع قوله ,أو مساع قوهلم".
وهذا صريح يف عدم اعتبار املسافة املكانية يف صحة االئتمام ,وبناء عليه يلغِّز فقهاء املالكية هلذه
املراتب بقوهلم :شخص تصح صالته فذا وإماما ,ال مأموما ,وهو األعمى إذا كان االقتداء ال ميكن إال
عن طريق الرؤية ,واألصم إذا كان االقتداء ال ميكن إال عن طريق السماع.
وهذا اللغز ال يستقيم على مذهب غريهم؛ ألن سبب البطالن أعم من جمرد إمكان االقتداء
ابملشاهدة أو السماع.
وأما القول أبن األعمى يصح ائتمامه عند اجلميع وال يرى من يقتدي به ,وأن األصم يصح ائتمامه
وال يسمع ,فيدل على أن املعترب ليس هو السماع وال الرؤية ,وإمنا هو االجتماع يف املكان عرفا.
فهذا ال يستقيم؛ ألن غري املالكية إمنا يصحح صالهتما للقرب املكاين مع إمكان االقتداء ,وليس
هناك قائل بصحة االئتمام مبجرد االجتماع يف املكان من غري إمكان االقتداء ابحلس ,رؤية أو مساعا,
أو ما يقوم مقامهما من اللمس عند من اجتمع فيه العمى والصمم ,وسيأيت بيان أكثر يف بيان العلة.
إذًا هذه الصالة اليت يبطلها هؤالء ,صحيحة عند املالكية ,منصوص عليها يف مذهبهم ,وادعاء
التقارب يف املكان على هذا العرف منقوض مبا نقلوا عليه عمل أهل املدينة الظاهر الذي ال يكون إال
عن توقيف ,فإن أزواج النيب ‘ يصلني يف حجرهن بصالة اإلمام ,وصلى بعض الصحابة يف بيوت
بينها وبني اإلمام شارع مسلوك ,ومل يكن بعض هذه البيوت هلا أبواب شارعة إىل املسجد ,وال انفذة
إليه ,وأجاز مالك صالة الناس يف حوانيتهم ودكاكينهم بصالة اإلمام إذا متكنوا من االقتداء به ,وهبذا
ليس التقارب يف املكان هو علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة عندهم قطعا.
إذًا ما هي علة صحة االئتمام يف صالة اجلماعة ؟
فعلة االئتمام لو اعتربان الوصف املناسب ,فهو مما يؤثر نوعه يف نوع احلكم ابتفاق ,فإن السماع
والرؤية كالمها مؤثر يف نوع االئتمام انفرادا واجتماعا ,فوجب أن يكون معتربا عن بعد؛ إذ الوصف فيه
7
أقوى ممن كان يف الصف الثاين وما بعده ,وهذا النوع أقوى أنواع الوصف املناسب ,وفيه حتقيق مصلحة
كلية أصلية يف حتصيل اجلماعة ,وحىت لو مل يكن ضروراي وال حاجيا يف هذه املسألة فال أقل من أن
يكون من التتمات؛ ألن حتصيل فضل اجلماعة إذا أمكن خري من تفويته ,قال القرايف يف شرح تنقيح
ِّ
اخلصوصيَّ نني قد حصال فيه: الفصول (ص" :)193 :وأتثري النوع يف النوع مقدَّم على اجلميع؛ ألن
َّم على األعم".
خصوص الوصف وخصوص احلكم ,واألخص ابلشيء مقد ٌ
ولو اعتربان الدوران فهو عند غالب املستدلني دليل على احلكم ,وهو :اقرتان ثبوت احلكم مع ثبوت
الوصف ,وعدمه مع عدمه ,فإان وجدان االئتمام صحيحا يف املسجد وخارجه مبجرد إمكان االقتداء
ابلسماع أو الرؤية أو ما يقوم مقامهما لصأصم األعمى ,ووجدانه ابطال ابنتفائه سواء يف املسجد أو
خارجه ,فوجب أن يكون صحيحا بوجوده يف الفرع.
ولو قيل ابلسرب والتقسيم ,فعلة صحة االئتمام إما ما يطلق عليه اجلماعة شرعا ,وإما جمرد إمكان
االقتداء ,وإما مركبة منهما ,ال يذكر املختلفون يف هذا وصفا آخر ميكن السرب عليه.
أما ما يطلق عليه اجلماعة شرعا ,فيقال :احلقيقة الشرعية فيها ,إما يف املكان ,وهو :املوضع احلاوي
للشيء ,وإما يف الزمان ,وإما يف كليهما على حسب السياق ,وعلى حسب اجملتمع عليه أو فيه.
فإن اعتربان يف حقيقته التقارب يف املكان وهو املقصود ابتصال الصفوف وحنوه ,دل على بطالن
صالة من أغلق عليه داره ,وبينه وبني اإلمام شارع مير فيه الناس ,فهذا ليس مع اجلماعة يف املكان قطعا
حسب تعريف املانعني واجمليزين على حد سواء ,ولو اجتمعوا على تدبري أمر يسمع أصواهتم ملا قيل :هو
معهم يف املكان ,ولو كان معهم يف الزمان والعلم مبا هم عليه.
ودل هذا وما سيأيت على أن التقارب يف املكان ليس عند املالكية علة لصحة االئتمام يف صالة
اجلماعة ,إذ صح االئتمام بدونه على ما نقلوه وذهبوا إليه.
وأما اجلماعة يف الزمان أو يف غريه فهي عائدة إىل ما كان االجتماع فيه ,وإذا كان االجتماع يف
األفعال والزمان كان االعتبار هبا ,وهو املقصود إبمكان االقتداء ابلسماع أو ابلرؤية أو مبا يقوم مقامهما
من األعمى واألصم ,وقد نص الشارع على أن علة اإلمامة أن يؤمت ابإلمام ,لقوله ‘« :إمنا جعل
اإلمام ليؤمت به ,»...مث رتب صحة هذا االئتمام على األفعال الظاهرة ,ابلفاء ,فقال« :فإذا كرب فكربوا
وإذا ركع فاركعوا ,»...فدل على أهنا هي العلة املومأ إليها بصحة االئتمام ,وإال لكان هذا الكالم عبثا,
والشارع منزه عنه.
8
وملَّا َّبوب البخاري ملا هو قريب من هذا ,أو هلذه املسألة نفسها ,أورد آاثرا تدل على صحة االئتمام
إبمام بينه وبني املأموم طريق مسلوك ,فلم يشرتط أن تتصل إليه الصفوف ,وأورد أثر أيب جملز" :تصلي
املرأة بصالة اإلمام وإن كان بينهما طريق أو جدار بعد أن تسمع التكبري فال أبس" ,مث أورد احلديث
الصحيح« :إمنا جعل اإلمام ليؤمت به ,»...وهذه طريقة أهل العلم يف إيراد األدلة العامة احملكمة إذا
تعذر يف املسألة دليل صحيح أخص منها.
وهذا احلديث أصح ما ورد يف هذه املسألة؛ ألنه إمنا سيق لبيان االئتمام ابإلمام ,وقصد بيان وجهه,
وكيفيته ,وميَّز ما يفعل فيه مثل فعله ,ومبا يفعل فيه خبالف فعله ,والعلة فيه واضحة من طريق النص أو
االستنباط.
وإذا عدان للعمل لو قيل :هذا ال يعرف عن طريق االستنباط ,فمثل هذه املسألة املتعلقة ابلفعل
الظاهر املنقول ,وليس سبيلها االستنباط يكون قول أهل املدينة فيه أرجح من غريهم ,وتدبَّر ملثل هذا
قول أمحد كما يف فتح الباري البن رجب (" :)291 /1قال األثرم :قلت أليب عبدهللا :الصف األول يف
ويدعون الصف األول؟ قال :ما أدري ,قلت مسجد النيب ‘ هو ,فإين رأيتهم يتوخون دون املنربَ ,
أليب عبدهللا :فما زيد يف مسجد النيب ‘ فهو عندك منه؟ فقال :وما عندي ,إمنا هم أعلم هبذا يعين:
أهل املدينة".
وإذا قيل :هذا جماز ,فاجلواب أنه ال مشاحة يف االصطالح ,واجملاز إذا تعذرت احلقيقة صري إليه,
واستمعلت مادة اجلمع كثريا حسب سياقها خالية من معىن املكان ,قال هللا تعاىل« :أولئك عليهم لعنة
هللا واملالئكة والناس أمجعني» ,وال ميكن القول أبهنم جمتمعون يف مكان واحد حني تصدر منهم هذه
اللعنة ,من أول الكون إىل ما ال هناية ,وقال هللا تعاىل« :فلو شاء هلداكم أمجعني» ,والقول أبنه لو
هداهم لكان يف حال مجعهم يف مكان واحد ,نوع من الذهول ,وقال هللا تعاىل« :فأمجعوا أمركم
وشركاءكم» ,واألمر ال جيمع يف مكان حمسوس ,وقال تعاىل« :فو ربك لنسألنهم أمجعني» ,وقوله تعاىل:
«فسجد املالئكة كلهم أمجعون» ,وقوله« :هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعا» ,وقوله:
«واعتصموا حببل هللا مجيعا وال تفرقوا» ,وقوله« :فانفروا ثبات أو انفروا مجيعا» ,وقوله« :فإن العزة هلل
مجيعا» ,وقوله« :فمن ميلك من هللا شيئا إن أراد أن يهلك املسيح ابن مرمي وأمه ومن يف األرض
مجيعا» ,ومثل هذا كثري.
9
ومنه حديث النيب ‘ يقول« :إهنا ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه األمة وهو
مجيع فاضربوا رأسه ابلسيف كائنا من كان» ,فوصف أمر األمة أبنه مجيع ,وهم ما بني املشرقني ,ويف
مصنف عبدالرزاق ( )9132عن رجل من ولد حذيفة مرفوعا« :اللهم اغفر يل مجيع ما سلف من
ذنويب ,»...ويف احلديث املتفق عليه« :إن ابملدينة أقواما ,ما سرمت مسريا ,وال قطعتم واداي إال كانوا
معكم ,قالوا :اي رسول هللا ,وهم ابملدينة؟ قال :وهم ابملدينة ,حبسهم العذر».
وما تفيده اجلماعة يفيده لفظ املعية ,فهما مبعىن واحد ,واللفظ املتواطئ ليس له معىن حقيقي يف
الذهن إال القدر املشرتك ,وهو ال وجود له يف اخلارج والواقع ,وإذا وقع يف اخلارج تبني بسياقه ,وليس
أحد املعنيني أوىل من اآلخر يف لسان الشارع ,إذ مل يستعمل يف الشارع مطلقا ,بل معه ما يفيد أحد
معنييه من قرائن تعني معناه أو ترجحه.
وقد يراد به االجتماع يف املكان والزمان واألفعال معا ,قال جرير:
فامجع ِّ
أشظَّتها إىل أقتاهبا ...واخرج ,فما لك يف الرحال مقيل.
ويطلق ويراد به األمور املعنوية اليت ال يناهلا احلس ,وهو يف كالم العرب نثره وشعره أكثر من أن ميثل
له ,قال الشاعر:
اي ليت شعري واملىن ال تنفع ...هل أغدو نن يوما و ِّ
أمري جممع.
وال خيلو مجيع الفقهاء من محل بعض معاين هذه احلقائق على بعض جمازاهتا ألدلة تقتضيها عندهم,
كحمل احلنفية قوله ‘« :وال يفرق بني جمتمع» على االجتماع يف امللك دون املكان ,وخالفهم
املذاهب الثالثة وغريهم فيها ,والتفرق ابألقوال يف خيار اجمللس عند احلنفية واملالكية خبالف الشافعية
واحلنابلة.
ولو نظران لتنقيح املناط على القول أبنه إلغاء الفارق ,ال جند فرقا بني صالة من أغلق داره عليه
إبمام بينهما شارع ,وبني صالة من يراه يف بيته صوات أو صورة أو كليهما ,وكون األوىل ال تصح,
حمجوج بعمل الصحابة والتابعني بعدهم ابملدينة وعمل األمصار من غري نكري ,فإن أئمة احلنفية
والشافعية واحلنابلة ليس يف نظارهم من نقل هذه اآلاثر اليت ينقلها أهل املدينة يف هذه املسألة.
وعلى القول أبنه تعيني العلة من أوصاف مذكورة ,فقد نص على مساع التكبري وحنوه ,مع العلم
بضرورة االكتفاء ابلرؤية داخل املسجد وخارجه نقال عمليا ,فعلم أن املناسب يف ذلك إمكان االقتداء
أبي وجه مت ضب أفعال اإلمام ,مث حتديد خارج املسجد مبا يتعلق ابجلماعة يف املكان ,ال يصح؛
10
لنقضه مبا اتفق اخلصمان على أنه ال يدخل يف عرف اجلماعة يف املكان ,فإن الصالة يف بيت مملوك ال
ينفذ للمسجد ومل تصل إليه الصفوف ,ليس من اجلماعة يف املكان حسب تعريف املانعني واجمليزين.
وحينئذ يبقى حتديده جمرد دعوى ال دليل عليه ,والتزام وجود احلكم يف صورة النقض عند غري
املالكية ال سبيل إليه ,وتلك نصوصهم متوافرة ,تدل على بطالن الصالة يف هذه الصورة عندهم ,ومنع
وجود الوصف مع االقتصار عليه أيضا يف هذه احلالة مكابرة ابعرتاف أئمتهم أن هذه الصورة ليست
مجاعة عرفا ,وأما استجالب عرف للمالكية يتعلق ابملكان يف هذا فدونه خرط القتاد ,وأئمتهم مل يزالوا
يفرعون على عدم اعتباره كما تقدم ,ويلزم القائل به اآلن أن ُيدد لنا عند املالكية ذلك العرف املكاين
اخلاص هبم على زعمه.
وإمكان االقتداء متفق على أتثريه يف احلكم ,وال قائل بفقدان هذا الوصف مع بقاء الصحة ,خبالف
امل َّد َعى يف التقارب املكاين فإن احلكم موجود مع فقدانه يف بعض الصور كما تقدم ,وال ميكن عكس
هذا املؤثر إذ هو يف تعيني العلة نفسها ,وليس يف القياس عليها.
ولو قال احلنفي والشافعي واحلنبلي :االقتداء مشروط ابجلماعة ,فال يكفي فيه إمكانه ابلسماع أو
الرؤية ,أصله :اهليئة املعروفة للصالة شرعا ,قلبناه أبنه مشروط ابجلماعة ,فيكفي فيه إمكان االقتداء
مبعرفة أفعال اإلمام ,أصله تلك اهليئة الشرعية ,وهذا قلب يصلح إلبطال مذهبهم ,وإثبات مذهب
املالكية.
ولو قيل بتسليم املوجب وهو تركيب العلة مع ضعفه ,فإن أكثر الفقهاء املعاصرين من القائلني هبذا
القول خالفوا يف صور معاصرة ما يرتتب عليها من تركيب العلة ,فإن أكثر الشافعية واحلنابلة اآلن يثبت
خيار اجمللس يف العقود اإللكرتونية ,بينما يصف االقتداء ابلبث املباشر أبنه وهم ال حقيقة له ,ولعله مل
يعرف معىن الوهم ,وما أدري فأية حقيقة أثبت هبا خيار اجمللس عن طريق اهلاتف أو الربيد أو البث
املباشر ,وأصلهم أن قوله ‘ يف احلديث املتفق عليه« :حىت يتفرقا» ابألبدان ال بغريها عنده.
فإذا التزم املنع فيها وله ذلك ,فقد خالفه الغزايل وغريه من أئمة املذهب يف املكاتبة فأثبتوا هبا خيار
اجمللس ,وال حقيقة لصأبدان فيها ,وعلى قول أكثر املعاصرين القائلني هبذا األصل "يكون احتاد اجمللس
يف العقد عن طريق اهلاتف :هو زمن االتصال ,فما دامت احملادثة يف شأن العقد قائمة اعترب اجمللس
قائما ,وإذا انتقال إىل حديث آخر اعترب اجمللس منتهيا".
11
فإذا أثبتوا هذا ,وشرطهم فيه األبدان ,فليثبتوا هذه أيضا ,وشرطهم فيها احتاد املكان عرفا ,فأي فرق
بينهما بعد املعرفة أبن احلكم معلل فنوع من اهلذاين.
بل خيار اجمللس أقرب إىل التعبد من جمرد إمكان االقتداء يف الصالة ,وقد وردت فيه أدلة ,منها ما
هو نص على العلة ,ومنها ما هو إمياء ,خبالف خيار اجمللس فإنه عند املالكية مندوب إليه على أصل
اإلقالة ,وليس الزما ,لإلمجاع على ثبوت امللك وترتب مثراته على متام الصفقة ,وأن ما ال جتوز فيه
اإلقالة ,ال جيوز فيه خيار اجمللس ,كمن اشرتى زوجته ,أو ابتاع من يعتق عليه ,أو مات بعد متام
فوات لإلقالة ,وليس املقصود هناالصفقة ,أو اشرتى شيئا فاستهلكه يف اجمللس ,أو تصرف فيه تصرفا م ِّ
هذه املسألة ,وإمنا املقصود بيان أن إمكان االقتداء يف الصالة أقرب إىل التعليل مما خالفوا فيه أصلهم,
أو عده بعض أئمتهم يف بعض الصور ,وألغى فيه اعتبار املكان.
وإذا اعتل معتلٌّ أبنه ألغى اعتبار املكان يف خيار اجمللس لتقدمي مصلحة عامة على مفسدة خاصة,
فلتكن مصلحة اجلماعة يف الصالة أوىل من التقدمي على مفسدة عدم اتصال الصفوف وحنوه ,فإن
املصلحة األوىل خمتلف فيها من أصلها ,ومصلحة اجلماعة عموما وأصال مل يقع فيها خالف ,فإن
مصلحة اجلماعة مصلحة أصلية كلية ,ومصلحة القرب يف املكان مصلحة جزئية متممة ,فال يعقل أن
يلغى الكلي األصلي مبعارضة اجلزئي املتمم ,فقطع األيدي وجلد القاذف مفسدة جزئية خاصة ,وجب
ارتكاهبا حفاظا على املصلحة األصلية العامة يف حفظ األموال واألعراض.
وال ميكن هنا املعارضة وال املزامحة إببداء الفرق من جهة وصف مناسب مفقود يف الفرع وموجود يف
األصل؛ ألن هذا السؤال مبين على أن الصحة يف مسألتنا ال تكون هلا علتان أو أكثر ,فما ال يصلح
لالستقالل فيه ال يسمع ,وهو فارقهم؛ ألنه ليس فيهم من ادعى أن القرب املكاين مع عدم إمكان
االقتداء تصح به الصالة ,والتعليل بعلتني مل ي َّدع يف هذه املسألة ,واألصل يف العلل املستنبطة االحتاد أو
الرتكيب ,ال االستقالل ,وقد قال أبو املعايل يف هناية املطلب (" :)308 /2فإنه ليس معنا توقيف
شرعي يف املواقف ,وإمنا نبين تفريعات الباب على أمر مرسل يف التواصل".
والقول ابلرتكيب من القرب املكاين مع إمكان االقتداء ,تقدم أنه إذا قصد به أنه هو الذي تقتضيه
اجلماعة شرعا ,فقد منع منه الشرع ,ومل يعتربه على رأي املالكية وما استدلوا به من آاثر.
فلم يبق إال اعتبار إمكان االقتداء ,فهو شرط صحة عند اجلميع ,ومن ادعى فيه الرتكيب أو
االستقالل فقد تقدم جوابه وعليه الدليل.
12
ورأيت بعض الفضالء الذين هم من أحسن من نقل كالم املالكية يف املسالة أعاد هذا الفرع وهو
االقتداء بواسطة البث املباشر إىل الصورة النادرة اليت يرتجح عنده أهنا غري مقصودة للشارع ,ولو تناوهلا
العموم.
وهذا غريب؛ ألن فرض الصورة النادرة إمنا هو إذا كانت موجودة مع قلتها وندرهتا ,وهذه غري
موجودة أصال ,فلما وجدت صارت أكثر من غريها ,بل العامل كله صار معتمدا عليها يف حياته اليومية
حكومات وشعواب ,ومعامالت وتعليما وغري ذلك ,وإمنا يشملها العموم ابلنص أو تلحق ابلقياس,
وتقدم ذلك.
ومما ذكره أيضا أن األصل يف اجلماعة التوقيف ,والتعليل مث القياس عليه خالف األصل؛ لقوله ‘:
«صلوا كما رأيتموين أصلي.»...
وهذا أيضا فيه غرابة؛ ألن الصالة منها ما هو معقول املعىن ابتفاق فيقاس عليه غريه عند حدوثه أو
احلاجة إليه ,وهذه املسألة ال وجود هلا يف عهد النيب ‘ وال صحابته ,وإمنا املوجود يف عهدهم اقتداء
الناس ابإلمام ,وعلى األحوال اليت يقتدون هبا يعود الكالم يف املسألة ,فال وجه لطرح التوقيف إال ببيان
أن االقتداء بكل أنواعه توقيفي ,وهو خمالف ملنهج األئمة املتبوعني ,فكل منهم أفىت يف أحوال حادثة يف
االقتداء يف الصالة بعد عهد النيب ‘ مبا يراه قريبا منه ,والقياس على املعقول املعىن ال ينايف االتباع
واالقتداء ابلشرع ,بل هو عني االتباع.
وإمنا اختلفوا يف نتيجة احلكم تبعا الختالفهم يف األصل الذي يلحق به ,كاالقتداء ابملصلوب وقد
يكون وجهه على غري جهة القبلة ,واقتداء مبومئ ,واقتداء من ابلسفينة مبن بسفينة أخرى ,واقتداء
راكب دابة مبن هو راكب خلفه أو أمامه ,واقتداء املرأة ابخلنثى ,واقتداء أحدمها ابآلخر يف علو أو
سفل ,واقتداء األصم األبكم ,واالقتداء ابإلمام العاري الذي ال يقدر على الثياب ,وحنو ذلك مما يطول
ذكره.
وليس املراد هنا أن هذه الفروع يشبَّه هبا هذا يف احلكم ,بل املقصود أهنا مثله يف احلدوث واالتفاق
على التعليل مث اإلحلاق أبصل االقتداء.
ومما ذكره أيضا أن هذه املسألة ال ميكن إحلاقها إال بقياس الشبه ,وهذه أغرب ,وقد تقدم تنقيح
مناط علة أصلها وخترجيه واستنباطه أبكثر أنواع مسالك العلة.
13
اللوازم اليت يوردها بعض املشايخ
أما اللوازم اليت يذكرها بعض املشايخ فتدل إما على عدم تصور أصل القائل ابملسألة ,وإما على
القول ابخلل بني األصول وتتبع الرخص ,كما يدل على ضعف يف التفريع الفقهي ,وهنا يظهر أن
املؤسسات الرمسية أصابت يف منع اإلذن هبذا النوع من الصلوات لقلة الفقه والتفريع يف مظانه ,ونذكر
ورد منها:
أهم ما أ َ
أوهلا :هجران املساجد يف العامل اإلسالمي الذي تقع صالهتم يف وقت صالة املساجد الثالثة:
املسجد احلرام واملسجد النبوي واملسجد األقصى واالكتفاء ابالئتمام هبا عن بعد؛ ألن الصالة فيها
أفضل من بقية املساجد إمجاعا.
فيقال :املورد هلذا الالزم مل يتصور أصل املالكية وال قوهلم ألمور نقتصر منها على أربعة:
األول :أن فضل الصالة عند املالكية يف هذه املساجد الثالثة خمتص ابملكان ,كما أن فضل الصف
األول خمتص ابملكان ,فال يناله مأموم يف الصف التاسع أو العاشر مبجرد صحة اقتدائه ,ولو مجعهم
فضل اجلماعة.
الثاين :أن فضل اجلماعة املطلوب يف هذا االقتداء عن بعد ال يشرتطون فيه القرب املكاين.
الثالث :أن فضل اجلماعة على صالة الفذ عندهم حمدد خبمس وعشرين ,أو سبع وعشرين درجة,
وال تتفاضل اجلماعات فيه عندهم بكثرة أو قلة أو صالح؛ ألن الفضل الذي يشرع طلبه هو الفضل
الذي يشرع للفذ إعادة الصالة ألجله ,وضعفوا قول ابن حبيب املخالف يف هذا؛ ألنه ساق آاثرا ال
أصل هلا ,وليس هو ممن يعتمد على روايته ,وإمنا يعتمد نقله ملسائل الفقه وخترجيه.
الرابع :أن صالة هؤالء يف مساجدهم ابتصال الصفوف أفضل من صالهتم عن بعد هبذه املساجد
الثالثة؛ ألن الفضل خاص ابملكان ,وليسوا فيه ,وألن الفضل ال يتفاوت عندهم بنوع اجلماعة ,وألن
القرب املكاين شرط كمال ,وشرط الكمال ال يتهاون يف حتصيله على العموم صاحب داينة.
وإلغاء هذه القيود لصاحب األصل هو تالعب ابألحكام ,واختيار ابلتشهي ,فإن مالكا لو
تعارضت له املصلحة العامة حبكم جممع عليه خاص لرده ومنع منه ,فكيف لو كان يف ابله أن الناس
سيرتكون القيود اليت متنع من التالعب هبذا احلكم حني إجازته ,وهبذا فال وجه هلجران تلك املساجد.
14
وأما من يقول :يصح االقتداء دون حصول فضل اجلماعة ,فليس هو من قول املالكية ,وال أعرف له
أصال عندهم ,ولعل القائل به اعترب القرب املكاين شرطا يف الفضل دون الصحة ,وحديث فضل الصالة
معلل ابجلماعة ,فحيث ثبت معىن اجلماعة ثبت الفضل.
اثنيها :أنه يفتح الباب لقياس مسائل تشبهها أو أغرب منها؛ إذ قد يقول قائل :أصلى حاضريت
اليوم عصرا كانت أم ظهرا بتسجيل صالة األمس مثال يف أحد املساجد الثالثة.
فيقال :هذا أيضا من ابب التلفيق الذي ال يقول به فقيه له أصول اثبتة ,وهو خمالف ألصل املالكية
وال يصححونه؛ ألهنم يشرتطون يف صحة الصالة للمأموم احتاد الصالة عينا وفعال ووقتا.
فال تصح صالة الظهر خلف إمام بصالة العصر عندهم ,وال تصح أيضا صالة حاضرة خلف
فائتة ,وال العكس ,لالختالف مع نية اإلمام ,وللحديث املتفق عليه الذي سيق لبيان االئتمام ,وفيه:
«فال ختتلفوا عليه» ,وهذا على عمومه عندهم يف االعتقاد والفعل ,يقول أبو مصعب يف خمتصره (ص:
" :)181وإن صلى اإلمام ابلناس العصر وهو يرى أهنا ظهر أجزأته صالته ,وأعاد من خلفه ,ومن
خالفت نيته نية اإلمام يف الصالة أعادها ,ومل يعتد هبا ,وإذا خالفت نية من خلفه نيتَه أجزأته صالته,
وفسدت صالة من خلفه".
وال يصح عندهم االئتمام إذا شك اإلمام يف كون صالته فائتة ,وتيقن املأموم فوات صالته هو ,مع
احتاد عني الصالة ,ويلغزون فيه بقوهلم" :رجالن يف كل شروط اإلمامة ,تصح إمامة أحدمها دون اآلخر
يف صالة بعينها" ,وال يصح عندهم االئتمام مع اختالف نيتيهما إال يف حالة واحدة ,وهي :املتنفل
خلف مفرتض ,للدليل اخلاص فيه ,وليس فيه حمذور مع مراعاة بقية القيود يف الصالة على هذا األصل,
فتبني أن هذا الالزم من إيراده ذهول عجيب على أصل القائل بصحة املسألة.
اثلثها :أنه يلزم منه وجوب السعي إىل مجعة بعيدة مبسافات ال يعقل نياط احلكم هبا ,ألنه يسمع
النداء بواسطة هذه اآلالت ,وهو أمر معلوم الفساد.
فيقال :هذه حجة على هذا املورد على أصل املالكية؛ إذ مل يفهم أصلهم وهم إمنا ُيدون وجوب
السعي على من مسع النداء وقت مساعه ال قبله مع القدرة إىل وصول املسجد؛ لقوله تعاىل« :إذا نودي
للصالة من يوم اجلمعة فاسعوا إىل ذكر هللا» ,وهي عبادة ال تنفك عن السري إليها عندهم ,وليست يف
هذا مثل صالة اجلماعة ,فإن كانت عنده حيلة للوصول إىل املسجد الذي مسع فيه النداء قبل صالة
اإلمام وجب عليه السعي ,وإال فال جيب عليه؛ للعجز عنه.
15
نعم؛ قد يكون يف تطور العصر احلديث مستقبال من يستطيع السعي إىل املسجد يف ظرف ساعة أو
أقل من مسافات بعيدة فيما بني األذان وبني صالة اإلمام ,فإذا حصل هذا بال مشقة غري معتادة لزمه
السعي عند املالكية ولو كان من الصني إىل أمريكا ,إذا مل جيد مكاان للجمعة دونه.
هذا إذا ألغينا أصال آخر مينع وجوهبا عند املالكية وهو السفر ,فاملسافر عندهم ال تلزمه اجلمعة ولو
مسع النداء ,فدل على أن مساع النداء ال يوجب عندهم سعيا إذا منع منه مانع.
ولرتتب املشقة غري املعتادة على من كان بعيدا حدوه يف زماهنم عرفا إىل ثالثة أميال أو بزايدة يسرية,
وذلك للعمل املستمر عندهم يف أهل قباء ,ومن كان دون العوايل يف املدينة ,وقد قال هللا تعاىل« :ال
يستوي القاعدون من املؤمنني غري أويل الضرر واجملاهدون يف سبيل هللا أبمواهلم وأنفسهم».
وحديث أيب هريرة الذي أخرجه مسلم وفيه« :أتسمع النداء ,فقال :نعم ,قال :فأجب» ,ليس من
أدلة مالك لعلة معروفة عند أهل الفن ,وقد يذكره بعض نظار املذهب بعد القرن الثالث لوجوب السعي
للجمعة ,لكن الدليل عند مالك هو اآلية ,واحلديث إمنا ورد يف صالة اجلماعة ,والعمدة عند مالك
فيها للضرير حديث حممود بن الربيع يف قصة عتبان بن مالك «أنه كان يؤم قومه وهو أعمى ,وأنه قال
لرسول هللا ‘ :إهنا تكون الظلمة واملطر والسيل ,وأان رجل ضرير البصرِّ ,
فصل اي رسول هللا يف بييت
مكاان أختذه مصلى ,فجاءه رسول هللا ‘ فقال :أين حتب أن أصلي؟ فأشار له إىل مكان من البيت,
فصلي فيه رسول هللا ‘».
وليس أيضا من أدلة مالك على عدم اعتبار املكان يف صالة اجلماعة حديث عائشة عند الشيخني
قالت« :صلى النيب ‘ يف حجريت ,والناس أيمتون به من وراء احلجرة ,يصلون بصالته» ,ألن هذا إمنا
حصل يف املسجد يف حصري ُيتجره ,ومالك رواه عن ابن شهاب ,عن عروة ,وفيه نص أنه كان يف
املسجد ,ومل يذكر االحتجار.
واالستدالل ال بد أن يعرف طريقه وداللته ,حىت ال يلصق ابإلمام ما ليس من روايته وال من فقهه.
رابعها :أنه قد ينقطع البث املباشر ,فيختل على املأموم االقتداء إبمامه.
وهذا إمنا يذكره العوام غالبا لعدم معرفتهم أبحكام االستخالف إما أهنم نشأوا يف بلد ال يعمل فيه
ابالستخالف على املشهور من مذهبهم ,وإما جهل مطبق ,واملأموم إذا تعذر عليه متابعة إمامه أمت
صالته منفردا ,أو استخلف حسب شروط االستخالف عند القائل به.
16
وهذه اللوازم أشبه مبا مسعت شيخنا دمحم بن دمحم املختار الشنقيطي يذكر أن أحد املشايخ قال له :ما
رأيت أصعب من مذهب مالك ,حبثت فيه عن بداية مسح اخلف وهنايته حىت تعبت ,فلم أحصل على
فظل يبحث عن عدم.شيء ,فقال شيخنا :وما درى الشيخ أن مالكا ال توقيت عنده يف املسحَّ ,
وأنبه يف اخلامتة إىل ثالثة تنبيهات:
األول :أنه سلك الغماري هنا مسلك الظاهرية يف االستدالل على هذه املسألة ,فخالف املالكية يف
الدليل واملدلول ,فأجاز صالة فرض خلف فرض آخر ,وفائتة حباضرة ,وأجاز صالة اجلمعة يف البيت,
ومنع تقدم املأموم على اإلمام يف املكان على أنه شرط صحة ,وتقدمه ال يبطل الصالة عند مالك كما
يف املدونة ( )129 /1قال" :ومن صلى يف دور أمام القبلة بصالة اإلمام وهم يسمعون تكبري اإلمام
فيصلون بصالته ويركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ,فصالهتم اتمة ,وإن كانوا بني يدي اإلمام ,قال:
وال أحب هلم أن يفعلوا ذلك ,قال ابن القاسم :قال مالك :وقد بلغين أن دارا آلل عمر بن اخلطاب
وهي أمام القبلة كانوا يصلون بصالة اإلمام فيها فيما مضى من الزمان ,قال مالك :وما أحب أن يفعله
أحد ومن فعله أجزأه".
وساق أدلة ليست هي أدلة مالك وال أتباعه ,إال مسألة اجلمعة يف البيت إبمكان االقتداء ومساع
اخلطبة ,ففيها قول غري معتمد عندهم ,واجتهد يف سياق أحاديث بعضها ال أصل هلا.
الثاين :أن هذا ليس خاصا مبالك وأتباعه ,بل قول كثري من أهل العلم ,وقال عطاء :االعتبار بعلمه
وجهله أبفعال اإلمام ,إن كان عاملا أبفعال إمامه ,صح االقتداء به ,اختلف البنيان أو اتفق ,قربت
املسافة أو بعدت .ينظر :موقف اإلمام واملأموم أليب دمحم اجلويين (ص.)12 :
وقال أبو جملز كما يف مصنف عبدالرزاق (" :)3883تصلي املرأة بصالة اإلمام وإن كان بينهما
طريق أو جدار بعد أن تسمع التكبري فال أبس" ,واستشهد به البخاري للمسألة.
وقال هشام بن عروة كما يف املصنف أيضا ( ,)3889ومصنف ابن أيب شيبة (" :)1113جئت
أان ,وأيب مرة ,فوجدان املسجد قد امتصأ ,فصلينا بصالة اإلمام يف دار عند املسجد بينهما طريق".
وقال صاحل بن إبراهيم" :إنه رأى أنس بن مالك صلى اجلمعة يف دار محيد بن عبدالرمحن بصالة
اإلمام بينهما طريق" ,كما يف مصنف عبدالرزاق (.)9399( ,)3882
17
وقال منصور كما يف مصنف ابن أيب شيبة (" :)1112كان إىل جنب مسجدان سطح ,عن ميني
املسجد أسفل من اإلمام ,فكان قوم هاربني يف إمارة احلجاج ,وبينهم وبني املسجد حائ طويل يصلون
على ذلك السطح ,وأيمتون ابإلمام فذكرته إلبراهيم فرآه حسنا".
وذكر ابن املنذر يف األوس ويف اإلشراف عددا من أهل العلم يقولون بصحة مثل هذا.
الثالث :أن كثريا من العوام ينكتون على القائل ابالقتداء بواسطة البث وجيعلونه أضحوكات بكالم
يتعلق اببتذال هذه الوسائل ,أبنه قد ينقطع البث ,وأتيت أغنية أم كلثوم أو حنوها مكانه ,فما ذا نفعل؟
صحيح أنه نسي ما ذا يفعل؛ ألنه نسي أن مكرب الصوت الذي خيطب منه اإلمام يف جامعه ,هو
جنس مكرب الصوب الذي تغين فيه أم كلثوم ,وأن سيارته اليت يستقلها إىل اجلامع من جنس سيارة
مايكل جيكسون ,وأن السيف الذي جاهد به النيب ملسو هيلع هللا ىلص هو من جنس الذي قاتل به أبو جهل ,وأن
القماش الذي يلبسه يف الصالة هو جنس القماش الذي يلبسه السارق والقاطع للطريق.
وأختم بسياق كالم للشوكاين ممن سلك طريقة الظاهرية يف االستدالل ,ووافق املالكية يف النتيجة,
وإن مل أرض بعض طريقة استدالله ,ويف كالمه ما يدل على أن هذه املسألة لو كانت يف عصره لقال
هبا ,وتدبر قوله" :وال ينقلها إليه انقل" ,وها هو كالمه بنصه يف الفتح الرابين (:)2823 /1
"وأما ما تقدم من حكاية اإلمجاع على منع البعد املفرط فذلك إمنا هو حيث ال يدرك املؤمت أفعال
اإلمام كما تقدم عن عطاء ,واملنصور ,وال ريب أن من كان من البعد حبيث ال يدرك أفعال إمامه ,وال
ينقلها إليه انقل ,ال يتمكن من االئتمام واالقتداء ابإلمام ,فال يتم صالة اجلماعة لذلك ,وما دون هذا
البعد ,وهو حيث يكون مع بعده يدرك أفعال إمامه وميكنه االقتداء به ,فال وجه ملنعه ومن يزعم املنع
يف صورة من الصور مل يقبل منه ذلك ,إال بدليل ,وكما أنه ال وجه لقول من قال ابلفرق بني املسجد
وغريه ,ال وجه أيضا لقول الشافعي يف التقدير بثالمثائة ذراع ,فإن ذلك إمنا نشأ من ظنه أن ذهاب
الطائفة األوىل مصلية يف صالة اخلوف لقصد احلارسة على النبل ,وذلك جمرد ختمني ,وال دليل عليه يف
الرواية فال حجة يف حمض الرأي".
وهللا أعلم ,وصلى هللا وسلم على نبينا دمحم وآله وصحبه أمجعني ,ومن تبعهم إبحسان إىل يوم الدين.
كتبه د /دمحماألمني بن عبدالرمحن األنصاري ليلة األحد . ç 1331/9/3
18