Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 2

‫طّو ر ديكارت من مفهوم الجسد خالفا لما سبقه من فلسفات القرون الوسطى‪ ،‬فاجتهد في فهم جهازه الوظيفي‬

‫ومرّك بات أعضائه واعتبره جوهرا ملموسا ومخلوقا في غاية من الدقة والنظام‪ .‬لم يغّيب ديكارت الجسد ولم‬
‫يسحقه كّليا مثلما فعل سقراط وأفالطون اللذان أرذال وحّقرا الجسد وامتنعا عن االعتراف به ألّن ه كان بمثابة‬
‫العائق للروح والفكر ومحّط ه األرض ألّن ه يتبع العالم السفلي‪ ،‬بينما الروح‪ ،‬هي من هلل‪ ،‬تابعة للعالم العلوي‪ ،‬وقد‬
‫وضعه ديكارت في خانة الوظيفة اآللّية باعتباره امتداد للذات االنسانّية‪ ،‬لكّن ذلك ال ينفي تحقيره له‪ ،‬واعتماد‬
‫ثنائية الفصل بينه وبين الروح ماهي إال رغبة في إزاحته وإبعاده عن الروح التي عّظ مها واعتبرها قيمة أساسّية‬
‫‪.‬وأوّلية‪ ،‬بل هي أساس الوجود اإلنساني ومركزه‬

‫لقد قّد مت كل من الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة وجهات نظر متشابهة في اعتبار المكانة المتدنّية للجسد‪ ،‬في‬
‫المقابل‪ ،‬تمّيزت باالنزياح الكلي لتعظيم ملكة الفكر‪ .‬لقد حافظ ديكارت على علوّية النفس والفصل بينها وبين‬
‫الجسد‪ ،‬بل ُاعتبر كل تقّدم وتطّو ر وكل اكتشاف وإنتاج وكل ما من شأنه أن ُيسهم في تسيير الحياة وشؤونها هو‬
‫راجع فقط للعقل وأّن الجسد مجّرد كتلة ممتّد ة يمكن االستغناء عنها أمام عظمة الروح‪ .‬ورغم أّن سبينوزا ينتمي‬
‫إلى رّو اد الفلسفة الحديثة‪ ،‬إّال أّن ه اختلف في مسألة تناول اشكالّية الروح والجسد‪ ،‬فقد حاول إيجاد عالقة ترابط‬
‫وتالحم بينهما كصفتين مختلفتين ولكن لجوهر واحد هو هللا‪ ،‬بمنطلق أّن اإلنسان هو جوهر واحد يحمل في ذاته‬
‫صفتين وهما صفتي الفكر واالمتداد‪ ،‬يقول سبينوزا‪“ :‬إّن الروح والجسد هما نفس الشيء الذي يتم تصوره أحيانا‬
‫‪.‬تحت صفة الفكر‪ ،‬وأحيانا تحت صفة االمتداد”(‪)10‬‬

‫إّن الفكر هو من الروح واالمتداد هو امتداد الجسد‪ ،‬وأّن كل إنسان يحمل عقال مختلفا عن اإلنسان اآلخر‪ ،‬أي أّن‬
‫كل عقل هو حالة خاصة لجسد إنساني معّين‪ ،‬فكّل حادثة جسدّية توازيها حادثة أخرى مماثلة لها على مستوى‬
‫العقل‪ ،‬بمعنى أّن كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساسا يشعر به العقل باعتباره شعوًر ا أو فكرة‪ ،‬ويضرب‬
‫سبينوزا مثال عن الطعام والرغبة في الطعام‪ ،‬فالجوع مثال هو إحساس جسدي‪ ،‬أّما الرغبة في تناول الطعام فهي‬
‫شعور عقلي‪ ،‬ومثلما يشعر الجسد بالجوع يشعر العقل بالرغبة في الطعام‪ ،‬إّن كل ما هو نفسي هو جسدي أيضا‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬فكل ما هو جسدي هو نفسي‪ .‬إّن أحكام العقل ورغبات الجسم ليست إّال شيئا واحدا ال يمكن‬
‫فصل األول عن الثاني أو عكس ذلك‪ ،‬وهذه الثنائّية إّن ما ُت فّسر كعملّية ازدواجّية موّح دة يضع فيها سبينوزا الجسد‬
‫‪.‬والنفس في مرتبة واحدة‬

‫إلى هذا الحد‪ ،‬يعتبر سبينوزا من الفالسفة الثوريين اللذين أحدثوا الفارق في هدم الثنائّية الديكارتّية للعقل والجسد‬
‫ومّهدوا الطريق لفالسفة الفكر المعاصر في بناء وتطوير النظرّيات السابقة‪ .‬فكيف نظرت الفلسفة المعاصرة إلى‬
‫مفهوم الجسد؟‬

‫مركزّية الجسد في الفكر الفلسفي المعاصر ‪3.‬‬

‫اتخذ مفهوم الجسد في الفكر الفلسفي المعاصر بنية أساسّية وسلطة مركزّية تمحورت عليها الذات االنسانية‪،‬‬
‫حيث قام نيتشه بقلب المفاهيم والتنظيرات الكالسيكّية والحديثة واتخذ من الجسد القاعدة األساسّية لوجودّية‬
‫اإلنسان وعلى عكس سقراط وأفالطون وديكارت‪ ،‬فقد رّفع من قيمته وفّضله على العقل في ترتيب تفاضلي‬
‫يرّجح الكّف ة لسلطة الجسد‪ ،‬لقد اعتبره مصدرا للطاقة والفاعلية والقدرات الكامنة‪ ،‬فهو جمع من األعضاء‬
‫المتناسقة والمتكاملة والمتآلفة‪ ،‬البيولوجية والغريزية‪ ،‬وهو ما يجعلنا نتواجد ونتكاثر ونحافظ على استمرارّيتنا‬
‫‪.‬واحساسنا بإنسانيتنا ووجودنا في هذه الحياة‬

‫لقد اعتبر نيتشه أن الفلسفات القديمة قد حاكت بمثابة المؤامرة على الجسد‪ ،‬إذ نال من االحتقار والتعتيم ما يجعله‬
‫صورة للشر ومصدرا للهالك‪ ،‬بل سعت إلى كبت العواطف والغرائز وكأّن ها لعنة االنسان وجحيم النفس‪ ،‬يقول‬
‫نيتشه‪“ :‬للمستهينين بالجسد أريد أن أقول كلمتي‪ :‬ليس عليهم أن يتعّلموا من جديد وال أن يعيدوا تعليم اآلخرين بل‬
‫‪.‬فقط أن يقولوا وداعا لجسدهم – وأن يصيروا بكما إذا” (‪)11‬‬

‫لقد وجد نيتشه في الجسد سببا للحياة ومبّر را للوجود البشري‪ ،‬اعترف بالجزء الالماّدي لإلنسان وهو الفكر أو‬
‫‪.‬الوعي الذي نرمز إليه بالعقل‬
‫لكّن الوعي بالنسبة له ال يعدو أن يكون ُمجّر د وسيلة في سلطة الجسد وأداة لخدمته‪ ،‬إذ يرى أّن ‪“ :‬الجسد عقلك‬
‫الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير‪ ،‬يمكن خلق‬
‫أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذا‪ ،‬حكيم مجهول يسكنك‪ ،‬إنه جسدك”(‪ .)12‬إّن الفكر بالنسبة لنيتشه مستسلم‬
‫للغريزة وهي أقوى من الفكر وهي المتحّك مة فيه‪ .‬هذا الموقف يبّين بأّن فلسفته تقابل جذريا اإلرث الفلسفي‬
‫اليوناني الذي آمن بالعقل إيمانا وثنيا واستحضر الوعي كمصدر أعظم بينما استخّف بالجسد وامتنع عن اكتشاف‬
‫مكنوناته وأسراره‪ .‬قطع نيتشه كذلك مع الفلسفة الديكارتّية الحديثة التي حّقرت بدورها الجسد وحافظت على‬
‫المنظور الفلسفي اليوناني القائم على الفصل واإلقصاء‪ .‬يقول نيتشه‪ ” :‬فيما مضى كانت الروح تنظر إلى الجسد‬
‫باحتقار ال نظير له كانت تريده نحيفا وجائعا‪ ،‬وكانت تظن أنها بذلك ستتخلص منه ومن األرض”(‪ .)13‬عزلت‬
‫الفلسفة اليونانية فكرة اعتبار الجسد ماّدة للدرس والبحث وظّل بمثابة الوحدة المغلقة والمهّمشة‪ ،‬بينما يراه نيتشه‬
‫وحدة حّية‪ ،‬متحّركة‪ ،‬مفّك رة ومنتجة وهو مجموعة اإلحساسات التي تسري فيه وتصّيره إلى وحدة قابلة لالنفعال‬
‫‪.‬والتأويل والتطوير‬

‫لقد تباحث في مفهوم الجسد عديد الفالسفة على مّر العصور واختلفت وجهات النظر حسب المنطلقات المادية‬
‫والميتافيزيقية‪ ،‬كما قّدمت العلوم اإلنسانية تصّو را إلشكالية الجسد‪ ،‬فنّظ ر له فرويد في دراسات التحليل النفسي‬
‫واعتبره مصدرا حّيا للطاقة المغذية للدوافع والنزوات رابطا بين البيولوجي والنفسي‪ ،‬بينما قّدم جيل دولوز‬
‫تصّو را فيه الكثير من التعبيرية واللغة النابعة من جسد يضّج بالحركة واالحساسات‪ ،‬وهو يقول في وصفه‬
‫للحركات التي يومئ بها الجسد أّن ها في الحقيقة نابعة من الداخل‪ ،‬من إحساساتنا‪“ :‬إن كانت الحركات تتكّلم‪ ،‬فذلك‬
‫راجع قبل كل شيء إلى كون الكلمات تحاكي الحركات‪ ،‬إّن ه يوجد تمثيل إيمائي داخل اللغة‪ ،‬كما يوجد حديث‬
‫ورواية داخل الجسد‪ )14(”.‬حيث بدأنا نفّك ر بانفعاالتنا‪ ،‬أي أن المحسوس هو الذي يفّك ر وأّن الحواس التابعة‬
‫للجسد هي التي تفّك ر والمحسوس هنا يجمع االنفعاالت‪ ،‬اإلحساسات‪ ،‬المشاعر‪ ،‬األحزان‪ ،‬اآلالم‪ ،‬األحالم‪ ،‬اآلمال‬
‫أي كل األشياء التي تخترقنا من الداخل بوصفنا كتلة من اإلحساسات التي هي الجسد‪ .‬في حين‪ ،‬أبرزه ميشال‬
‫فوكو في سياسات األنظمة الدولية واالقتصادية كأنموذج مثالي للتسويق واالستثمار وتطويعه حسب الحاجة‬
‫المادية واألغراض السلطوية وقّدره مرلوبونتي على أّن ه الكيان الحّسي الفاعل بوصفه حامال للحواس القادرة‬
‫على إدراك الطبيعة واألشياء‪ ،‬وهو يرى أّن حقيقة العالم ومستوى ادراكنا له ال يمكن أن يكون إّال عن طريق‬
‫‪.‬االدراك الحّس ي‪ ،‬ليضرب عرض الحائط أطروحات الفلسفة اليونانية والديكارتية على حّد سواء‬

‫لقد بقي هذا المخلوق الحيوي‪ ،‬المتناسل والمتكاثر‪ ،‬المحافظ على استمرار النوع البشري‪ ،‬مادة متحّركة مفّك رة‪،‬‬
‫تطرح وتجيب على عديد تساؤالت الفالسفة والعلماء‪ ،‬وباستمرار االنسان على األرض‪ ،‬يستمر البحث حول‬
‫‪.‬ماهّية الجسد إلى آفاق غير محدودة تتجاذبها البحوث الفلسفية والعلمية على امتداد التاريخ البشري‬

You might also like