Professional Documents
Culture Documents
طوّر ديكارت من مفهوم الجسد خلافا لما سبقه من فلسفات القرون الوسطى - 073842
طوّر ديكارت من مفهوم الجسد خلافا لما سبقه من فلسفات القرون الوسطى - 073842
ومرّك بات أعضائه واعتبره جوهرا ملموسا ومخلوقا في غاية من الدقة والنظام .لم يغّيب ديكارت الجسد ولم
يسحقه كّليا مثلما فعل سقراط وأفالطون اللذان أرذال وحّقرا الجسد وامتنعا عن االعتراف به ألّن ه كان بمثابة
العائق للروح والفكر ومحّط ه األرض ألّن ه يتبع العالم السفلي ،بينما الروح ،هي من هلل ،تابعة للعالم العلوي ،وقد
وضعه ديكارت في خانة الوظيفة اآللّية باعتباره امتداد للذات االنسانّية ،لكّن ذلك ال ينفي تحقيره له ،واعتماد
ثنائية الفصل بينه وبين الروح ماهي إال رغبة في إزاحته وإبعاده عن الروح التي عّظ مها واعتبرها قيمة أساسّية
.وأوّلية ،بل هي أساس الوجود اإلنساني ومركزه
لقد قّد مت كل من الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة وجهات نظر متشابهة في اعتبار المكانة المتدنّية للجسد ،في
المقابل ،تمّيزت باالنزياح الكلي لتعظيم ملكة الفكر .لقد حافظ ديكارت على علوّية النفس والفصل بينها وبين
الجسد ،بل ُاعتبر كل تقّدم وتطّو ر وكل اكتشاف وإنتاج وكل ما من شأنه أن ُيسهم في تسيير الحياة وشؤونها هو
راجع فقط للعقل وأّن الجسد مجّرد كتلة ممتّد ة يمكن االستغناء عنها أمام عظمة الروح .ورغم أّن سبينوزا ينتمي
إلى رّو اد الفلسفة الحديثة ،إّال أّن ه اختلف في مسألة تناول اشكالّية الروح والجسد ،فقد حاول إيجاد عالقة ترابط
وتالحم بينهما كصفتين مختلفتين ولكن لجوهر واحد هو هللا ،بمنطلق أّن اإلنسان هو جوهر واحد يحمل في ذاته
صفتين وهما صفتي الفكر واالمتداد ،يقول سبينوزا“ :إّن الروح والجسد هما نفس الشيء الذي يتم تصوره أحيانا
.تحت صفة الفكر ،وأحيانا تحت صفة االمتداد”()10
إّن الفكر هو من الروح واالمتداد هو امتداد الجسد ،وأّن كل إنسان يحمل عقال مختلفا عن اإلنسان اآلخر ،أي أّن
كل عقل هو حالة خاصة لجسد إنساني معّين ،فكّل حادثة جسدّية توازيها حادثة أخرى مماثلة لها على مستوى
العقل ،بمعنى أّن كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساسا يشعر به العقل باعتباره شعوًر ا أو فكرة ،ويضرب
سبينوزا مثال عن الطعام والرغبة في الطعام ،فالجوع مثال هو إحساس جسدي ،أّما الرغبة في تناول الطعام فهي
شعور عقلي ،ومثلما يشعر الجسد بالجوع يشعر العقل بالرغبة في الطعام ،إّن كل ما هو نفسي هو جسدي أيضا
والعكس صحيح ،فكل ما هو جسدي هو نفسي .إّن أحكام العقل ورغبات الجسم ليست إّال شيئا واحدا ال يمكن
فصل األول عن الثاني أو عكس ذلك ،وهذه الثنائّية إّن ما ُت فّسر كعملّية ازدواجّية موّح دة يضع فيها سبينوزا الجسد
.والنفس في مرتبة واحدة
إلى هذا الحد ،يعتبر سبينوزا من الفالسفة الثوريين اللذين أحدثوا الفارق في هدم الثنائّية الديكارتّية للعقل والجسد
ومّهدوا الطريق لفالسفة الفكر المعاصر في بناء وتطوير النظرّيات السابقة .فكيف نظرت الفلسفة المعاصرة إلى
مفهوم الجسد؟
اتخذ مفهوم الجسد في الفكر الفلسفي المعاصر بنية أساسّية وسلطة مركزّية تمحورت عليها الذات االنسانية،
حيث قام نيتشه بقلب المفاهيم والتنظيرات الكالسيكّية والحديثة واتخذ من الجسد القاعدة األساسّية لوجودّية
اإلنسان وعلى عكس سقراط وأفالطون وديكارت ،فقد رّفع من قيمته وفّضله على العقل في ترتيب تفاضلي
يرّجح الكّف ة لسلطة الجسد ،لقد اعتبره مصدرا للطاقة والفاعلية والقدرات الكامنة ،فهو جمع من األعضاء
المتناسقة والمتكاملة والمتآلفة ،البيولوجية والغريزية ،وهو ما يجعلنا نتواجد ونتكاثر ونحافظ على استمرارّيتنا
.واحساسنا بإنسانيتنا ووجودنا في هذه الحياة
لقد اعتبر نيتشه أن الفلسفات القديمة قد حاكت بمثابة المؤامرة على الجسد ،إذ نال من االحتقار والتعتيم ما يجعله
صورة للشر ومصدرا للهالك ،بل سعت إلى كبت العواطف والغرائز وكأّن ها لعنة االنسان وجحيم النفس ،يقول
نيتشه“ :للمستهينين بالجسد أريد أن أقول كلمتي :ليس عليهم أن يتعّلموا من جديد وال أن يعيدوا تعليم اآلخرين بل
.فقط أن يقولوا وداعا لجسدهم – وأن يصيروا بكما إذا” ()11
لقد وجد نيتشه في الجسد سببا للحياة ومبّر را للوجود البشري ،اعترف بالجزء الالماّدي لإلنسان وهو الفكر أو
.الوعي الذي نرمز إليه بالعقل
لكّن الوعي بالنسبة له ال يعدو أن يكون ُمجّر د وسيلة في سلطة الجسد وأداة لخدمته ،إذ يرى أّن “ :الجسد عقلك
الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير ،يمكن خلق
أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذا ،حكيم مجهول يسكنك ،إنه جسدك”( .)12إّن الفكر بالنسبة لنيتشه مستسلم
للغريزة وهي أقوى من الفكر وهي المتحّك مة فيه .هذا الموقف يبّين بأّن فلسفته تقابل جذريا اإلرث الفلسفي
اليوناني الذي آمن بالعقل إيمانا وثنيا واستحضر الوعي كمصدر أعظم بينما استخّف بالجسد وامتنع عن اكتشاف
مكنوناته وأسراره .قطع نيتشه كذلك مع الفلسفة الديكارتّية الحديثة التي حّقرت بدورها الجسد وحافظت على
المنظور الفلسفي اليوناني القائم على الفصل واإلقصاء .يقول نيتشه ” :فيما مضى كانت الروح تنظر إلى الجسد
باحتقار ال نظير له كانت تريده نحيفا وجائعا ،وكانت تظن أنها بذلك ستتخلص منه ومن األرض”( .)13عزلت
الفلسفة اليونانية فكرة اعتبار الجسد ماّدة للدرس والبحث وظّل بمثابة الوحدة المغلقة والمهّمشة ،بينما يراه نيتشه
وحدة حّية ،متحّركة ،مفّك رة ومنتجة وهو مجموعة اإلحساسات التي تسري فيه وتصّيره إلى وحدة قابلة لالنفعال
.والتأويل والتطوير
لقد تباحث في مفهوم الجسد عديد الفالسفة على مّر العصور واختلفت وجهات النظر حسب المنطلقات المادية
والميتافيزيقية ،كما قّدمت العلوم اإلنسانية تصّو را إلشكالية الجسد ،فنّظ ر له فرويد في دراسات التحليل النفسي
واعتبره مصدرا حّيا للطاقة المغذية للدوافع والنزوات رابطا بين البيولوجي والنفسي ،بينما قّدم جيل دولوز
تصّو را فيه الكثير من التعبيرية واللغة النابعة من جسد يضّج بالحركة واالحساسات ،وهو يقول في وصفه
للحركات التي يومئ بها الجسد أّن ها في الحقيقة نابعة من الداخل ،من إحساساتنا“ :إن كانت الحركات تتكّلم ،فذلك
راجع قبل كل شيء إلى كون الكلمات تحاكي الحركات ،إّن ه يوجد تمثيل إيمائي داخل اللغة ،كما يوجد حديث
ورواية داخل الجسد )14(”.حيث بدأنا نفّك ر بانفعاالتنا ،أي أن المحسوس هو الذي يفّك ر وأّن الحواس التابعة
للجسد هي التي تفّك ر والمحسوس هنا يجمع االنفعاالت ،اإلحساسات ،المشاعر ،األحزان ،اآلالم ،األحالم ،اآلمال
أي كل األشياء التي تخترقنا من الداخل بوصفنا كتلة من اإلحساسات التي هي الجسد .في حين ،أبرزه ميشال
فوكو في سياسات األنظمة الدولية واالقتصادية كأنموذج مثالي للتسويق واالستثمار وتطويعه حسب الحاجة
المادية واألغراض السلطوية وقّدره مرلوبونتي على أّن ه الكيان الحّسي الفاعل بوصفه حامال للحواس القادرة
على إدراك الطبيعة واألشياء ،وهو يرى أّن حقيقة العالم ومستوى ادراكنا له ال يمكن أن يكون إّال عن طريق
.االدراك الحّس ي ،ليضرب عرض الحائط أطروحات الفلسفة اليونانية والديكارتية على حّد سواء
لقد بقي هذا المخلوق الحيوي ،المتناسل والمتكاثر ،المحافظ على استمرار النوع البشري ،مادة متحّركة مفّك رة،
تطرح وتجيب على عديد تساؤالت الفالسفة والعلماء ،وباستمرار االنسان على األرض ،يستمر البحث حول
.ماهّية الجسد إلى آفاق غير محدودة تتجاذبها البحوث الفلسفية والعلمية على امتداد التاريخ البشري