Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 59

‫اﻟﻄﺎﺋﻔﻴﺔ واﻟﻨﻈﺎم اﻟﻄﺎﺋﻔﻲ �� ﺳﻮر�ﺔ‬

‫ﻣﻦ اﻟﺒﻌﺚ إ�� اﻟﺜﻮرة‬


‫وﺣﺪة اﻟﺒﺤﻮث اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ‬

‫ﻣﺎهﺮ ﻣﺴﻌﻮد‬
‫‪ 25‬ﺣﺰ�ﺮان ‪ /‬ﻳﻮﻧﻴﻮ ‪2016‬‬
‫ﻣﺮﻛﺰﺣﺮﻣﻮن ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﳌﻌﺎﺻﺮة‬

‫ﻣﺆﺳﺴــﺔ ﺑﺤﺜﻴﺔ وﺛﻘﺎﻓﻴﺔ وإﻋﻼﻣﻴﺔ ﻣﺴــﺘﻘﻠﺔ‪ ،‬ﻻ �ﺴــ��ﺪف‬ ‫ﻣﺮﻛﺰ ﺣﺮﻣﻮن ﻟﻠﺪراﺳــﺎت اﳌﻌﺎﺻﺮة هﻮ ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ﺧﺼﻮﺻــﺎ‬ ‫اﻟﺮ�ــﺢ‪� ،‬ﻌ�ــ� �ﺸــ�ﻞ رﺋ�ــﺲ ﺑﺈﻧﺘــﺎج اﻟﺪراﺳــﺎت واﻟﺒﺤــﻮث اﳌﺘﻌﻠﻘــﺔ ﺑﺎﳌﻨﻄﻘــﺔ اﻟﻌﺮ�ﻴــﺔ‪،‬‬
‫اﻟﻮاﻗــﻊ اﻟﺴــﻮري‪ ،‬و��ﺘــﻢ ﺑﺎﻟﺘﻨﻤﻴــﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴــﺔ واﻟﺘﻄﻮ�ــﺮ اﻹﻋﻼﻣــﻲ و�ﻌﺰ�ــﺰ أداء ا��ﺘﻤــﻊ اﳌﺪ�ــﻲ‪،‬‬
‫و�ﺸــﺮ اﻟﻮ�ــ� اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃــﻲ و�ﻌﻤﻴــﻢ ﻗﻴــﻢ ا��ــﻮار واﺣ� ـ�ام ﺣﻘــﻮق اﻹ�ﺴــﺎن‪ ،‬إ�ــ� ﺟﺎﻧــﺐ ﺗﻘﺪﻳــﻢ‬
‫اﻻﺳ�ﺸــﺎرات واﻟﺘﺪر�ــﺐ �ــ� اﳌﻴﺎدﻳــﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ واﻹﻋﻼﻣﻴــﺔ ﻟ��هــﺎت اﻟ�ــ� ﺗﺤﺘــﺎج إﻟ��ــﺎ �ــ� ا��ﺘﻤــﻊ‬
‫ً‬
‫اﻟﺴﻮري اﻧﻄﻼﻗﺎ ﻣﻦ اﻟهﻮ�ﺔ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﻟﺴﻮر�ﺔ‪.‬‬

‫�ﻌﻤــﻞ ﻣﺮﻛــﺰ ﺣﺮﻣــﻮن ﻟﻠﺪراﺳــﺎت اﳌﻌﺎﺻــﺮة ﻟﺘﺤﻘﻴــﻖ أهﺪاﻓــﮫ ﻣــﻦ ﺧــﻼل ﻣﺠﻤﻮﻋــﺔ ﻣــﻦ اﻟﻮﺣــﺪات‬
‫اﻟﺘﺨﺼﺼﻴــﺔ )وﺣــﺪة دراﺳــﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳــﺎت‪ ،‬وﺣــﺪة اﻟﺒﺤــﻮث اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴــﺔ‪ ،‬وﺣــﺪة ﻣﺮاﺟﻌــﺎت اﻟﻜﺘــﺐ‪،‬‬‫ّ‬
‫ـﺪد ﻣــﻦ ﺑﺮاﻣــﺞ اﻟﻌﻤــﻞ )ﺑﺮﻧﺎﻣــﺞ‬
‫وﺣــﺪة اﻟ��ﺟﻤــﺔ واﻟﺘﻌﺮ�ــﺐ‪ ،‬وﺣــﺪة اﳌﻘﺎر�ــﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴــﺔ( وﻋـ ٍ‬
‫اﻻﺳ�ﺸــﺎرات واﳌﺒــﺎدرات اﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ‪ ،‬ﺑﺮﻧﺎﻣــﺞ ا��ﺪﻣــﺎت وا��ﻤــﻼت اﻹﻋﻼﻣﻴــﺔ وﺻﻨﺎﻋــﺔ اﻟ ـﺮأي‬
‫اﻟﻌــﺎم‪ ،‬ﺑﺮﻧﺎﻣــﺞ دﻋــﻢ ا��ــﻮار واﻟﺘﻨﻤﻴــﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴــﺔ واﳌﺪﻧﻴــﺔ‪ ،‬ﺑﺮﻧﺎﻣــﺞ ﻣﺴــﺘﻘﺒﻞ ﺳــﻮر�ﺔ(‪ ،‬و�ﻤﻜــﻦ‬
‫ﻟﻠﻤﺮﻛــﺰ أن ﻳﻀﻴــﻒ ﺑﺮاﻣــﺞ ﺟﺪﻳــﺪة ﺑﺤﺴــﺐ ﺣﺎﺟــﺔ اﳌﻨﻄﻘــﺔ واﻟﻮاﻗــﻊ اﻟﺴــﻮري‪ ،‬و�ﻌﺘﻤــﺪ اﳌﺮﻛــﺰ‬
‫آﻟﻴــﺎت ﻣﺘﻌـ ِّـﺪدة �ــ� إﻧﺠــﺎز ﺑﺮاﻣﺠــﮫ‪� ،‬ﺎ��ﺎﺿ ـﺮات وورﺷــﺎت اﻟﻌﻤــﻞ واﻟﻨــﺪوات واﳌﺆﺗﻤ ـﺮات‬
‫واﻟﺪورات اﻟﺘﺪر��ﻴﺔ واﻟ�ﺸﺮ اﻟﻮر�� واﻹﻟﻜ��و�ﻲ‪.‬‬
‫املحتويات‬
‫ا‬
‫أوًل‪ :‬مقدمة‪2.....................................................................................................................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬الطائفية خارج الطوائف ‪3.......................................................................................................................‬‬ ‫ا‬
‫‪ -1‬في مفهوم الطائفية ‪3.................................................................................................................................‬‬
‫‪ -2‬الطائفية والنظام الطائفي‪5.....................................................................................................................‬‬
‫‪ -3‬سياسة األقليات وسياسة األكثرية ‪7........................................................................................................‬‬
‫‪ -4‬الطائفية والعلمانية‪10 ............................................................................................................................‬‬
‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬التاريخ والوعي الطائفي في سورية‪12 .......................................................................................................‬‬
‫‪ -1‬الدائرة املغلقة (اًلحتالل واًلستقالل) ‪12 ...............................................................................................‬‬
‫‪ -2‬العسكر‪ ،‬البعث‪ ،‬والطائفية‪16 ...............................................................................................................‬‬
‫‪ -3‬البعث واإلسالميون ‪23 ............................................................................................................................‬‬
‫‪ -4‬في طائفية "سورية األسد" ‪27 ...................................................................................................................‬‬
‫‪ -5‬نهاية األسد‪ ،‬بداية األسد‪29 .....................................................................................................................‬‬
‫ابعا‪ :‬الثورة السورية والتاريخ املستعاد ‪32 .....................................................................................................‬‬ ‫ر ا‬
‫‪ -1‬في هزلية التكرار األسدي‪ ،‬ومأساته‪32 .....................................................................................................‬‬
‫‪ -2‬اًلستثناء السوري في سياق الربيع العربي‪35 ...........................................................................................‬‬
‫‪ -3‬ثالثة مظاهر استثنائية في الثورة السورية ‪38 .........................................................................................‬‬
‫أ‪ -‬اإلنكار املديد ‪39 ...................................................................................................................................‬‬
‫ب‪ -‬ثورة األطفال ‪41 .................................................................................................................................‬‬
‫ج‪ -‬إسالميو الثورة ‪44 ..............................................................................................................................‬‬
‫‪ -4‬الخالص السوري‪ -‬عالم مغلق وتاريخ مفتوح ‪50 ......................................................................................‬‬
‫ا‬
‫خامسا‪ :‬خاتمة ‪52 .............................................................................................................................................‬‬

‫‪1‬‬
‫ا‬
‫أوًل‪ :‬مقدمة‬
‫ًّ‬
‫ومذهبيا‪ ،‬هو تحويل السكان‬ ‫قوميا ا‬
‫ودينيا‬ ‫بافتراض أن موضوع السياسة ّ‬
‫األول واألمثل‪ ،‬في بلد متعدد ًّ‬
‫فإن سياسة الحزب الواحد خالل نصف‬ ‫املختلفين ‪-‬على هذه األسس‪ -‬إلى شعب واحد‪ ،‬وإلى مواطني دولة؛ ّ‬

‫عاما من الحكم الشخص ي املطلق لألسد ووريثه‪ ،‬لم تفشل في صناعة الدولة كمقر عام‬ ‫قرن‪ ،‬منها أربعون ا‬
‫وطني فحسب‪ ،‬بل وعززت اًلنقسامات األهلية والطائفية كذلك‪ ،‬ونقلتها من ُبعدها اًلجتماعي والثقافي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عد سياس ي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قار ومفخخ‪ ،‬ومحكوم بقابلية اًلنفجار‪ ،‬وكل ذلك في ظل‬ ‫والتطور‪ ،‬إلى ب ٍ‬ ‫والتبدل‬ ‫القابل للتغير‬
‫فتي‪ ،‬يقل عمره عن القرن‪ ،‬واستقالله عن السبعين ا‬
‫عاما؛ األمر الذي يحرمه من التقاليد‬ ‫كيان سياس ي ّ‬
‫السياسية العريقة‪ ،‬والتاريخ السياس ي املستقل‪.‬‬

‫يتأسس البحث على قاعدة‪ّ :‬أن النظام السياس ي في عهد األسدين نظام طائفي بامتياز‪ ،‬إًل أنه ليس نظام‬
‫ّ‬
‫طائفة بعينها في كل األحوال؛ فقد تجلت طائفية هذا النظام من خالل تثبيته التمايز واًلمتيازات الطائفية‪،‬‬
‫وإعادة إنتاج الوعي الذاتي الطائفي لدى جميع الطوائف‪ ،‬مع اًلستفادة القصوى من عالقات الوًلء‬
‫والقرابة العائلية والعشائرية والطائفية في تثبيت الحكم "الطغموي" الفردي؛ وذلك كله ضمن سياسة‬
‫"هوبزية" تستوعب "امليكافيلية"‪ ،‬وتتجاوزها نحو التعامل مع املجتمع السوري‪ ،‬ونخبه‪ ،‬كمجتمع من‬
‫الذئاب التي يجب أن يبقى فيها "األسد" هو الذئب األكبر املسيطر‪ ،‬دون أن ينازعه سلطته املطلقة أحد‪.‬‬
‫أصلي و"ماهوي" َ‬
‫وقيمي بين الطوائف‪ ،‬ومن أن التمايز واًلمتيازات‬ ‫ّ‬ ‫سينطلق البحث من ْأن ًل تفاضل‬
‫الطائفية ًل تعود إلى من يحكم‪ ،‬وإنما إلى الكيفية التي يحكم بها؛ مما يطرح للنقاش اًلستراتيجيات‬
‫اإلسالمية الوسطية والسلفية واملتطرفة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬في مقارعة النظام‪ ،‬ومقاربة التغيير السياس ي املأمول‪،‬‬
‫وباستخدام منهجيات متعددة‪ ،‬وفي ثالثة محاور رئيسة‪ ،‬يتجه البحث ‪-‬خاللها‪ -‬من التأسيس النظري‬
‫واملفهومي ملعنى الطائفية وأشكالها‪ ،‬نحو القراءة التاريخية ّ‬
‫لتعيناتها السياسية في الكيان السوري الحديث‪،‬‬
‫ثم يعاين في املحور الثالث الثورة السورية ‪ ،‬ويناقش إمكانية الخالص السوري في عالم مغلق‪ ،‬وتاريخ مفتوح‬
‫على املمكن واًلحتماًلت كافة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ا‬
‫ثانيا‪ :‬الطائفية خارج الطوائف‬
‫‪ -1‬في مفهوم الطائفية‬
‫يحيل اًلنطباع العام‪ ،‬و"الحس املشترك" تجاه مصطلح الطائفية‪ ،‬إلى وجود مجتمع متعدد الطوائف‬
‫واإلثنيات‪ ،‬تنتج عنه بشكل "طبيعي" مشكلة طائفية‪ ،‬كما هو الحال في سورية‪ ،‬لكن النظر العقلي والتحديد‬
‫املفهومي‪ ،‬إضافة إلى البحث التاريخي‪ ،‬يذهب أبعد من تلك اإلحالة وذلك اًلنطباع العام؛ إذ يأخذنا نحو‬
‫رؤية املشكلة الطائفية من خارج الطوائف ذاتها؛ فالتعدد الطائفي واإلثني‪ ،‬في أي مجتمع كان‪ ،‬ليس مشكلة‬
‫ٌ‬
‫مظهر من مظاهر التنوع الثقافي‪ ،‬والغنى اًلجتماعي و"اإلثنولوجي" الحميد من حيث املبدأ‪،‬‬ ‫بحد ذاته‪ ،‬وإنما‬
‫ّ‬
‫األهلي والثقافي‬ ‫ولكنه يصبح مشكلة عندما يحتكم إلى نظام سياس ي "أوليغاركي" أو "طغموي"‪ ،‬يقلب التمايز‬
‫ا‬
‫وحاكما عليها‪.‬‬ ‫إلى امتيازات سياسية‪ ،‬تخدم بقاءه في السلطة َح ا‬
‫كما بين الطوائف‪،‬‬
‫في كتابه "املسألة الطائفية ومشكلة األقليات"‪ّ ،‬‬
‫يعرف "برهان غليون" الطائفية بأنها "اًلستخدام السياس ي‬
‫للدين"‪ ،1‬ثم يضيف في سياق آخر‪" :‬الطائفية هي التعبير السياس ي عن املجتمع العصبوي الذي يعاني من‬
‫نقص اًلندماج الذاتي واًلنصهار؛ حيث تعيش الجماعات املختلفة بجوار بعضها ا‬
‫بعضا‪ ،‬لكنها تظل ضعيفة‬
‫التبادل والتواصل في ما بينها‪ 2".‬وفي اشتغاله باملوضوع ذاته ّ‬
‫يعرف "ياسين الحاج صالح" الطائفية بأنها‬
‫ّ‬
‫"مركب عمليات صر َّ‬
‫اعية متعددة الجوانب‪ ،‬تتكون فيها الطوائف كفاعلين سياسيين متنازعين بدرجات‬
‫ائيا‪ -‬في سياق بحثه حول "الصراع على السلطة‬ ‫فيعرف الطائفية ‪-‬إجر ًّ‬
‫متفاوتة"‪ .3‬أما "نيكوًلس فان دام"‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫"التصرف أو التسبب في القيام بعمل‪ ،‬بدافع اًلنتماء إلى مجموعة دينية معينة"‪.4‬‬ ‫في سورية" فيقول ّإنها‪:‬‬
‫ّ‬
‫واملالحظ ‪-‬في التعاريف السابقة‪ -‬أنها تركز على الطبيعة السياسية للطائفية‪ ،‬ودور الفعل السياس ي في‬

‫‪ - 1‬برهان غليون‪ :‬املسألة الطائفية ومشكلة األقليات‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،1979‬ص‪.71‬‬
‫‪ - 2‬املرجع ذاته‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ - 3‬ياسين الحاج صالح‪ :‬صناعة الطوائف‪ ،‬أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية‪ .‬مجلة اآلداب‪ 1،‬شباط‪ /‬فبراير ‪ .2007‬املقال موجود في‬
‫الرابط‪. http://adabmag.com/sites/default/files/archive/topics/taifiya/yaseenhajjsaleh.pdf‬‬
‫‪ - 4‬نيقوًلس فان دام‪ :‬الصراع على السلطة في سوريا‪ ،‬الطائفية واإلقليمية والعشائرية في السياسة‪ ،‬الطبعة اإللكترونية األولى املعتمدة باللغة‬
‫العربية‪ ،‬كانون األول‪ /‬ديسمبر ‪ ،2006‬ص‪.7‬‬

‫‪3‬‬
‫تطييف املكونات اًلجتماعية املتنوعة‪ ،‬دون اإلشارة الصريحة إلى مصدر الفاعل السياس ي‪ ،‬من حيث ّ‬
‫تعينه‬
‫في سلطة نظام حكم يسعى ًلحتكار النفوذ والهيمنة والثروة‪ ،‬ويجد دوامه وبقاءه في اًلرتكاز على الوًلء‬
‫تطوره إلى اندماج ّ‬
‫وطني‪ .‬والفاعل‬ ‫الطائفي والعشائري‪ ،‬وحماية اًلنقسام الطائفي املوروث‪ ،‬والحيلولة دون ّ‬
‫السياس ي املذكور إما أن يكون سلطة احتالل خارجي‪ ،‬كاًلحتالل الفرنس ي لسورية قبل منتصف القرن‬
‫املاض ي‪ ،‬أو "سلطة احتالل" داخلي‪ ،‬كما هو األمر في نظام األسدين؛ فمن غير وجود مثل هذين النوعين من‬
‫احتالل السلطة‪ ،‬أو سلطة اًلحتالل‪ً ،‬ل وجود للطائفية‪ ،‬فالطائفية هي ما "يصنع" الطوائف بمعنى ما‪،‬‬
‫وليس العكس؛ وهذا مبني على اعتبار أن مجرد وجود الطوائف ًل يصنع الطائفية‪ ،‬بل إن مفتاح فهم‬
‫الطائفية ليس الطوائف‪ ،‬وإنما هو نظام السلطة ذاته‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطائفية ‪-‬كما نراها إذن‪ -‬هي الناتج املركب من اجتماع التعدد الطائفي مع نظام تسلطي واستبدادي‪ ،‬في‬
‫ظل دولة لم تحقق شرط الدولة‪ /‬األمة بعد‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولكن السؤال الذي يطرح نفسه فور سماع تلك الصيغة‪ ،‬هو‪ :‬أًل يشكل لبنان استثناء ينسف تلك‬
‫القاعدة؟ ففي لبنان نزعة طائفية باقية عن سنوات الحرب األهلية‪ ،‬وناتجة عن التعدد الطائفي‪ ،‬دون أن‬
‫يعوض‬‫قطعا؛ فلبنان لم يحقق شرط الدولة‪ /‬األمة ‪ ،‬وما ّ‬
‫استبداديا!‪ ،‬والجواب هو‪ً :‬ل ا‬
‫ًّ‬ ‫يكون نظام الحكم‬
‫ّ‬
‫عن نظام "اًلنتداب الداخلي" فيه أنظمة انتدابية خارجية عديدة‪ ،‬مثلها األوروبيون بشكل أساس ي؛ وًل‬
‫مثلها اًلنتداب السوري ا‬
‫ًلحقا؛ ليلتحق به النظام اإليراني في ما بعد‪ ،‬ويزرعا ا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫معا أكبر‬ ‫سيما فرنسا ‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬
‫مشكلة سياسية تواجه لبنان املعاصر ‪-‬اليوم‪ -‬وهي إيجاد حزب هللا الطائفي العقائدي املسلح‪ ،‬وعلى ذلك؛‬
‫فإن الحل اللبناني للمسألة الطائفية ‪-‬عبر نظام املحاصصة الطائفية‪ -‬يطرح نفسه كمشكلة لبنانية أكثر‬
‫ا‬ ‫ًّ‬
‫لبنانيا‪ ،‬بكل هزالها وقابليتها الدائمة‬ ‫من كونه حال‪ ،‬على الرغم من كون "الديمقراطية الطائفية" املعتمدة‬
‫عربيا (باملعيار الديمقراطي ا‬
‫مقاسا فيحرية الرأي والفكر والتعبير السياس ي‬ ‫لالنفجار‪ ،‬تظل النظام األرقى ًّ‬
‫واإلعالمي) مقارنة باألنظمة الديكتاتورية الحاكمة في الدول العربية من املحيط إلى الخليج‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ -2‬الطائفية والنظام الطائفي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نظامأقلية‪ ،‬وإنما هو‬ ‫تتولد الطائفية عن النظام الطائفي‪ ،‬لكن النظام الطائفي ليس نظام طائفة‪ ،‬وًل‬
‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫مثاًل‪ ،‬بوصفه ا‬‫ا‬ ‫َّ‬
‫أنموذجيا‪ ،‬سنجد أنه ليس نظام‬ ‫طائفيا‬ ‫نظاما‬ ‫نظام القلة‪ .‬فإذا أخذنا النظام السوري‬
‫ّ‬
‫العلوية ‪ ،‬على الرغم من اعتماده "العلوية السياسية"‪ 5‬كآلية حكم منذ عهد األسد األب؛ فمعظم‬ ‫الطائفة‬
‫أعدائه السياسيين (وليس خصومه) الذين تمت تصفيتهم منذ استالمه مام الحكم (كما سنرى ا‬
‫ًلحقا) كانوا‬ ‫ز‬
‫كأي طائفة سورية أخرى‪ ،‬ليست أفضل أو أسوأ من غيرها‬‫من الطائفة العلوية ذاتها‪ ،‬فالطائفة العلوية ّ‬
‫باملعنى املاهوي والنوعي للوصف‪ ،‬وليست كتلة مصمتة متجانسة ومشابهة لذاتها في كل وقت‪ ،‬كما أنها‬
‫ليست "وحدة سياسية" في األصل ‪ ،‬لكنها ُأخذت هينة لدى النظام الطائفي؛ ليحتمي بها ّ‬
‫ويدعي حمايتها من‬ ‫ر‬
‫طوائف أقلية وأكثرية أخرى في سورية جاهزة لالنقضاض عليها و"تشليحها" السلطة‪ ،‬كما صور النظام ذلك‬
‫علنا بمشاركة بعض معارضيه؛ فأصبحت الطائفة العلوية تبدو‬ ‫ا‬
‫سابقا بشكل غير معلن‪ ،‬ويصوره اليوم ا‬

‫"كوحدة سياسية" بين "وحدات سياسية" متصارعة هي الطوائف‪ ،‬واملالحظ منذ انطالق الثورة السورية‬
‫ّ‬
‫ضم "الكتلة العلوية" إلى كتلة أكبر هي "كتلة األقليات"؛ ليتسنى للنظام تصوير نفسه على أنه "حامي‬
‫ّ‬
‫السنية‪ ،‬وهو ما نجح فيه إلى حد مؤثر‬ ‫األقليات"‪ ،‬وتصوير الثورة على أنها صراع "األقليات" مع "األكثرية"‬
‫وكبير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعة الطائفية لنظام األسد‪ ،‬ووريثه من بعده‪ ،‬شكلت ما ندعوه بـ"نظام القلة العصبوية" ضمن‬
‫ّ‬ ‫الطائفة َ‬
‫العلوية ذاتها‪ ،‬فاملتمتع بامتيازات السلطة والثروة والنفوذ ليس الطائفة العلوية‪ ،‬بكليتها وشمولها‪،‬‬
‫ا‬ ‫ّ‬
‫وإنما قلة علويين من بين األقلية العلوية التي ًل يعيش أفرادها ‪ -‬جميعهم‪ -‬شروطا اقتصادية أو سياسية‬
‫أفضل مما تعيشه بقية السوريين‪ .‬وعلى هذا األساس قلنا‪ :‬إن النظام الطائفي ليس نظام طائفة‪ ،‬ونقول‬

‫‪ - 5‬حول هذا املوضوع انظر " صادق جالل العظم‪ :‬نجاح "جنيف ‪ "2‬مرهون بإنهاء العلوية السياسية على غرار الطائف اللبناني" حوار أجرته‬
‫معه ريتا فرح‪ ،‬منشور على موقع كلنا شركاء على الرابط ‪.http://all4syria.info/Archive/100645‬‬

‫‪5‬‬
‫ا‬
‫أيضا‪ً :‬ل يوجد نظام طائفي ‪-‬على اإلطالق‪ّ -‬‬
‫يعم خيره أكثرية أبناء طائفته؛ فما بالك أن نتحدث عن خير عام‬
‫ا‬
‫جميعا بغض النظر عن انتمائهم الطائفي‪.‬‬ ‫ممكن أن يصيب أبناء البلد‬
‫ّ‬
‫األقلية"‪ ،‬فإذا كان نظام األقلية اًلجتماعية الثقافية واملذهبية‬ ‫هناك فارق بين النظام الطائفي و"نظام‬
‫فإن النظام الطائفي ذاته قد يكون نظام أكثرية اجتماعية ثقافية؛ ذلك عندما‬ ‫طائفيا بالضرو ة ؛ ّ‬
‫ًّ‬ ‫ا‬
‫نظاما‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫تمثله أقلية‪ ،‬أو "قلة" من األكثرية ذاتها‪ ،‬فإذا افترضنا ّأن إحدى الحركات اإلسالمية التي تقاتل النظام اليوم‬
‫ا‬
‫جميعا من‬ ‫ا‬
‫(قياسا إلى تجربتهم القصيرة في حكم مصر)؛ وهؤًلء‬ ‫"كالنصرة" أو "داعش" أو األخوان املسلمين‬
‫ا‬
‫مقلوبا‬ ‫ا‬
‫طائفيا‬ ‫نظاما‬ ‫ّ‬
‫السنية؛ إذا تسنى إلحدى تلك الحركات أن تحكم البالد‪ ،‬لن تكون إًل ا‬ ‫األكثرية الثقافية‬
‫عن نظام األسد‪ ،‬بحكم احتكامها إلى املعيار الثقافي "األكثري"؛‪ ،‬فتلك الحركات ليست سوى أقليات‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫السنية‪ ،‬ومن املتوقع أن أول املتضررين من حكمها ‪-‬بحسب املعيار نفسه‪ -‬هي األكثرية‬ ‫"قلة" من األكثرية‬
‫السنية ذاتها‪ .‬فإن لم يتم التفريق بين األكثرية واألقلية الثقافية‪ ،‬واألكثرية واألقلية السياسية‪ ،‬وإن لم‬
‫يحتكم نظام السلطة إلى األكثرية السياسية وحدها؛ لن تتحول سورية‪ ،‬أو أي بلد من بلدان "الربيع‬
‫العربي"‪ ،‬نحو الديمقراطية؛ ا‬
‫علما بأنه من غير املمكن ألكثرية اجتماعية ثقافية؛ في مجتمع متعدد‪ ،‬أن‬
‫تصبح أغلبية سياسية دون أن تنتهي إلى الديكتاتورية‪ ،‬ومن غير املمكن ألقلية اجتماعية ثقافية أن تصبح‬
‫جدا‪ -‬ألقلية سياسية أن تصبح أغلبية سياسية؛‬‫أغلبية سياسية دون أن تصبح طائفية‪ ،‬بينما من املمكن ‪ -‬ا‬
‫ّ‬
‫للتحول ومنافاتها لالعتقاد‪" ،‬فاألغلبية الدينية ثابتة وغير قابلة للتغيير‪ ،‬بينما األغلبية‬ ‫نتيجة قابليتها‬
‫‪6‬‬
‫السياسية في األنظمة الحديثة ممكنة التغيير ما دامها ًل تقوم على ثبات اًلعتقاد‪".‬‬

‫‪ - 6‬غليون‪ ،‬ص‪.26‬‬

‫‪6‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ -3‬سياسة األقليات وسياسة األكثرية‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫املقصود بسياسة األقليات السياسة َّ‬
‫املوجهة‪ ،‬صراحة أو مراوغة‪ ،‬نحو التالعب بالتمايز اًلجتماعي‬
‫الثقافي املوروث‪ ،‬والعمل على تثبيت التمايز بين "األكثرية" و"األقليات" وإدامته‪ ،‬واعتبار العالقة بينهما‬
‫عالقة خصومة جبرية‪ ،‬وهو ما يقتض ي "تحالف األقليات"‪ ،‬أو "حمايتها" من األكثرية وصون حقوقها؛ وليس‬
‫املقصود بحقوق األقليات‪ ،‬في سياق "سياسة األقليات"‪ ،‬أن ينال املنحدرون منها الحقوق ذاتها التي ينالها‬
‫املنحدرون من األكثرية املفترضة‪ ،‬أي‪ :‬تعميم مبدأ املواطنة واملساواة الحقوقية‪ ،‬وإنما املقصود ضمان‬
‫أوضاع خاصة باألقليات‪ ،‬ككتل أو كمجاميع‪ّ .‬إن املساواة الحقوقية بين األفراد ًل تمر بمفهوم حقوق‬
‫األقليات‪ ،‬أو حماية األقليات‪ ،‬وليست مما تتضمنه "سياسة األقليات"‪.‬‬

‫يعود ظهور سياسة األقليات إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬زمن "املسألة الشرقية" الذي‬
‫تقاطعت فيه النزعات اًلمبراطورية األوروبية مع عقيدة التقدم‪ ،‬ومع معارف استشراقية ّ‬
‫متحيزة‪ ،‬يملؤها‬
‫ا‬
‫مالئما للقول‪ :‬إن األقليات في وضع خطر ا‬ ‫ا‬
‫دوما في املجال‬ ‫الشعور بالتفوق والحق الذاتي‪ ،‬مما أسس مناخا‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وإن هذا (في عصر السلطنة العثمانية‪ :‬فترة إنشاء األحزاب) نتيجة خلط السياسة بالدين‪ ،‬ا‬
‫وتاليا‬
‫التطابق املؤكد والدائم بين "األكثرية السياسية" الحاكمة واألكثرية الثقافية السائدة‪.‬‬

‫سلطنة لم يكن توازن القوة ليتيح تقاسمها بين تلك‬


‫ٍ‬ ‫كانت القوى األوروبية ‪-‬تلك‪ -‬تبحث عن موطئ قدم في‬
‫القوى‪ ،‬لكنها في الوقت نفسه " تقاضمت" مقاطعات من السلطنة‪ :‬في اليونان والبلقان وفي الجزائر‪ ،‬ثم‬
‫مصر وتونس‪ ،‬وتقاسم مناطق النفوذ كان يساعد في تصفية الحسابات البينية بين "الضواري اإلمبريالية"‬
‫ا‬ ‫التي كانت ضارية في مواجهة بعضها ا‬
‫بعضا‪ ،‬فضال عن ضراوتها في مواجهة العالم غير األوروبي‪.‬‬

‫‪ - 7‬سنعتمد في هذه الفقرة (بتصرف شديد) على بحث طويل لياسين الحاج صالح بعنوان "في نقد سياسة األقليات"‪ .‬موجود على الرابط‬
‫‪http://therepublicgs.net/2013/02/21/%D9%81%D9%8A-%D9%86%D9%82%D8%AF-‬‬
‫‪%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA/‬‬

‫‪7‬‬
‫ا‬ ‫يسوغ لنا القول‪ :‬إن سياسة األقليات‪ ،‬على نحو ما ُد ِّ ّشنت في املسألة الشرقية‪ ،‬ليست ا‬
‫ذلك ّ‬
‫أمرا منفصال‬
‫عن السياسات اًلستعمارية التي أفضت إلى اًلحتالل األوروبي لبلداننا‪ ،‬ومنه احتاللها سورية ولبنان بعد‬
‫ًّ‬
‫إنسانيا في تلك السياسة‪.‬‬ ‫الحرب العاملية األولى؛ إذ ًل ش يء ًّ‬
‫غيريا وًل‬
‫ُ‬
‫لكن "سياسة األقليات" لم تنته مع نهاية اًلستعمار‪ ،‬بل أعيد استئنافها في عهد حافظ األسد؛ فالعالقة بين‬
‫ّ‬
‫األقليات‪،‬‬ ‫الجماعات السورية‪ ،‬والتفكير فيها‪ ،‬هو بقدر كبير نتاج أوضاع صنعتها نسخة األسد من سياسة‬
‫ملهددة‬ ‫األقليات‪ ،‬وليست األكثرية السنية ّ‬
‫املهددة وحدها نتاج لهذه السياسة‪ ،‬بل واألقليات ا َّ‬ ‫واسمها تحالف ّ‬
‫ِّ‬
‫موجه نحو حكم شخص ي يدوم "إلى األبد"‪ ،‬وللحيلولة‬ ‫معا‪ -‬نتاج تكوين سياس ي عمره عقود‪َّ ،‬‬ ‫ا‬
‫أيضا‪ .‬وهما ‪ -‬ا‬
‫مهمة لحماية هذا التكوين‪،‬‬ ‫متحدين داخليين في وجه هذا الحكم؛ فسياسة األقليات أداة ّ‬ ‫دون ظهور ّ‬

‫وضمان "إعادة إنتاجه"‪ .‬وما أسسته هذه السياسة ليس سوى مجتمعات مفخخة‪ ،‬استدرجت الخصومة‬
‫و"الحرب" إلى مؤسساتها وثقافتها وسيكولوجية أفرادها وجماعاتها‪ ،‬وهو ما يصادق عليه بالفعل تاريخ‬
‫سورية املعاصر في ظل نظام األسد‪.‬‬

‫مكونة من أبعاض يمتنع أن تختلط وتتمازج‪ ،‬وأن‬ ‫فافتراض أن مجتمعاتنا‪ ،‬بطبيعتها الثابتة التي ًل تتغير‪ّ ،‬‬
‫ا‬
‫العالقة بينها صراعية‪ ،‬ومحصلتها صفرية‪ ،‬وأن مكسب قوم هو ‪-‬حتما‪ -‬خسارة لقوم آخرين‪ً ،‬ل يؤسس‬
‫معا؛ فهذا خارج أفق "سياسة األقليات"‪،‬‬ ‫معا ويخسران ا‬ ‫ألوطان قابلة للحياة‪ .‬أما أن يكسب الطرفان ا‬
‫ّ‬
‫خارجها بالقدر نفسه الذي تكون فيه األطراف متغيرة‪ ،‬وأن تاريخنا‪ ،‬مثل تواريخ غيرنا‪ ،‬تاريخ اختالط وتشكل‬
‫تمايز إضافي باستمرار‪ ،‬وأكثريات وأقليات جديدة‪ ،‬وأن أجدى نهج لحماية األقليات‪ ،‬والجميع‪ ،‬هو الكفاح‬
‫املشترك بين منحدرين من أصول مختلفة؛ من أجل املساواة‪ ،‬وأسوأ نهج ممكن هو عزل األقليات عن غيرها‬
‫عبر "سياسة األقليات"‪.‬‬

‫يخيا‪ -‬سوى الكوارث الوطنية لسورية‪ ،‬يتم الحديث‪ ،‬بعد‬ ‫لكن مقابل سياسة األقليات‪ ،‬التي لم تجلب ‪-‬تار ا‬
‫مواجهة‬ ‫ا‬ ‫ّ‬
‫املآًلت املؤملة والكارثية للثورة السورية‪ ،‬وًل سيما وقعها على األكثرية السنية تحديدا؛ عن سياسة ِّ‬
‫لسياسة األقليات في الشكل واملضمون‪ ،‬وهو ما يمكن وصفه بـ "سياسة األكثرية" التي يجري "تأصيلها"‪ ،‬عبر‬

‫‪8‬‬
‫ربطها بأصول َعقدية وتاريخية عريقة في الفكر اإلسالمي‪ ،‬وخاصة في مفهوم "أهل الذمة" الذي أدرج‬
‫مجموعات غير مسلمة في "دار اإلسالم"‪ ،‬لكنه خفض مرتبتها؛ لتكون أدنى من املسلمين‪ .‬وبقدر ما يستعيد‬
‫اإلسالميون املعاصرون خالصات التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ويمزجون بين هذه الخالصات التي يطلقون عليها اسم‬
‫"الشريعة"‪ ،‬وبين مواجهة "سياسة األقليات" بـ "سياسة األكثرية"؛ فإنهم يثيرون مخاوف مفهومة لدى‬
‫"األقليات اإلسالمية" أو غير اإلسالمية‪ ،‬وكذلك لدى مسلمين ُس ّنة غير نمطيين كثر‪ ،‬فاإلسالميون‪ ،‬وهم‬
‫طمأن إليهم بخصوص معالجة هذه املخاوف‪ ،‬بعضهم‬ ‫الس ّنة‪ ،‬ليسوا ممن ُي َ‬
‫تيار نافذ في أوساط املسلمين ُ‬
‫ُم ّ‬
‫تفضل في أحسن األحوال (اإلخوان)‪ ،‬وبعضهم عدائي (السلفيون والسلفيون الجهاديون)؛ وهو ما يوجب‬
‫ِّ‬
‫‪-‬من حيث املبدأ‪ -‬وضع مواجهة سياسة األقليات في سياق يشمل مواجهة هذا الضرب من سياسة األكثرية‪،‬‬
‫وبالعكس‪ ،‬من شأن سياسة األكثرية هذه أن تضفي ‪-‬بمفعول راجع‪ -‬شرعية كاملة على سياسة األقليات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫التحاصص الطائفي‪.‬‬ ‫وتزكي إقامة النظام العام على‬

‫وسياسة األكثرية ‪-‬هذه‪ -‬احتمال وارد‪ ،‬بالنظر إلى وجود مشكلة أكثرية في سورية‪ ،‬يلتقي فيها اغتراب سياس ي‬
‫بـ"استالب" ثقافي‪ ،‬وشعور عميق‪ ،‬ومتعدد الطبقات‪ ،‬باًلضطهاد والنقص‪ ،‬من نوع ما تشعر به ‪-‬عادة‪-‬‬
‫األقليات‪ ،‬ولكن إذا كانت مشكلة األقليات من أخطر ثمار سياسة األكثرية السنية املحتملة‪ّ ،‬‬
‫فإن أولى هذه‬
‫متدين محافظ‬ ‫الثمار تهميش السني الالنمطي‪ ،‬عبر افتراض أن السني النمطي‪ ،‬أو القويم‪ ،‬مسلم مؤمن ّ‬
‫ًّ‬
‫سياسيا‪ ،‬قريب من اإلخوان أو السلفيين‪ .‬في واقع األمر ًل يشكل هذا السني النمطي‬ ‫ًّ‬
‫اجتماعيا وإسالمي‬
‫ا‬ ‫املزعوم غير أقلية في املجموع ّ‬
‫السني السوري‪ ،‬وغير السوري‪ً( ،‬ل نستطيع تقدير النسبة‪ ،‬نظرا ألنها متغيرة‬
‫ّ‬ ‫ا‬
‫يخيا بين صعود وهبوط)‪ ،‬لكن النظر إلى تنوع بيئة اإلسالم السني السوري ّ‬
‫يسوغ ‪-‬بقدر كاف‪ -‬التشكك‬ ‫تار‬
‫الس ّنة‪ ،‬وأقلية أكثر ضمن عموم السوريين‪.‬‬ ‫في أن يكون املسلمون النمطيون ّ‬
‫السنة أقلية ضمن ُ‬

‫وما نريده أن سياسة اإلسالميين تندرج في "سياسة األقليات" التي نتكلم عنها‪ ،‬أكثر من كونها ضمن أي‬
‫"سياسة أكثرية"‪ .‬ليس هناك سياسة أكثرية ممكنة على أساس سني أو إسالمي‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪" ،‬الدولة‬
‫اإلسالمية" ليست قطيعة مع النظام الطائفي‪ ،‬بل هي مجرد صيغة أخرى له‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ -4‬الطائفية والعلمانية‬
‫ا‬ ‫ّ‬
‫تجلت الطائفية طوال عهد "األسدين" في هيئة نظام "علماني"‪ ،‬فكيف يكون النظام العلماني طائفيا؟ أو‬
‫ا‬
‫كيف يكون النظام الطائفي علمانيا؟!‬

‫يحدث ذلك عندما يتم تحويل العلمانية إلى عقيدة شكلية‪ ،‬مفرغة من محتواها التحرري الذي ارتبط‬
‫ّ‬ ‫بصعودها في العالم‪ ،‬ويتم تجييرها ألهداف سياسية‪ّ ،‬‬
‫تصب في مصلحة دولة "اًلستبداد العلماني" التي مثلها‬
‫قدم والتحرر و"العلمانية" في‬‫نظام البعث في سورية‪ ،‬فحزب البعث الذي ا تبط صعوده بصعود أفكار الت ّ‬
‫ر‬
‫مفرغ من محتواه التحرري‪ ،‬وأداة ضاربة واستبعادية‬ ‫خمسينيات القرن املاض ي وستينياته‪ ،‬تحول إلى حزب ّ‬
‫في دولة اًلستبداد‪ ،‬وذلك عندما أصبح "الحزب القائد للدولة واملجتمع"؛ حيث بات عقيدة مقدسة أرضية‪،‬‬
‫يضاهي في تطرفه العلماني عقائد أصولية إسالمية متطرفة‪ ،‬تقص ي ّ‬
‫التنوعات اإلسالمية األخرى جميعها‬
‫خارج اإلسالم‪ .‬وإن كانت دولة البعث دولة علمانية‪ ،‬أو "آخر معاقل العلمانية"‪ 8‬كما أسماها األسد‪ /‬اًلبن‪،‬‬
‫ّ‬
‫فإن علمانيتها لم تعن ا‬
‫يوما حياد الدولة اًليجابي تجاه مكوناتها الدينية واإلثنية واملذهبية‪ ،‬بل إن مؤسسات‬
‫الدولة‪ ،‬املدنية والعسكرية واألمنية والسياسية‪ ،‬كانت تعج بطائفية مغلفة باملعتقد العلماني البعثي‪ ،‬وإن‬
‫بدت تلك العلمانية "متسامحة مع األديان وضامنة لحرية اًلعتقاد الديني؛ فألنها ليست مهددة ا‬
‫أبدا على‬
‫هذا الصعيد‪ ،‬ولكنها على صعيد حرية اًلعتقاد الحقيقي‪ ،‬حرية الرأي والصحافة والتنظيم السياس ي‪ ،‬تبدو‬
‫‪9‬‬ ‫ا‬
‫تعصبا للفكرة التي يتبناها جالوزتها‪".‬‬ ‫أكثر من أي دولة دينية‬
‫ّ‬
‫لذلك كله؛ "ًل تبدو الدولة العلمانية في العالم الثالث دولة مساواة بين األديان‪ ،‬إًل ألنها تغطي‪ -‬بهذه املساواة‬
‫ًّ‬
‫اجتماعيا‪ -‬الالمساواة‬ ‫الشكلية التي لم تعد تلعب أي دور سياس ي في تحديد مكانة الجماعات واألفراد‬
‫الحقيقية بين الطبقات‪ ،‬واًلحتكار املطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم‪ ،‬أي املساواة ّ‬
‫الفعالة في املجتمع‬
‫الحديث‪ ،‬وما يترتب عليها من نتائج سياسية مباشرة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬تبدو العلمانية ‪ ،‬التي تعاني من تثبيت مرض ي‬

‫‪ - 8‬انظر تصريح األسد حول هذا املوضوع على الرابط ‪. http://www.levantnews.com/archives/19989‬‬


‫‪ - 9‬غليون‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪10‬‬
‫ملسألة الصراع بين الدين والدولة املوروثة عن القرون الوسطى األوروبية‪ ،‬أيديولوجية تبرير ضرب حرية‬
‫اًلعتقاد األساسية‪ ،‬ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع واملمارسة‪ .‬وبقدر ما كانت‬
‫اًلعتقادية العلمانية األوروبية وسيلة لتحرير العقل‪ ،‬وفرض حرية التعبير‪ ،‬بقدر ما جاءت العلمانية‬
‫ًّ‬
‫شرعيا‬ ‫العربية لتنقذ اًلستبداد العصري‪ ،‬ولتقدم ملصادرة حرية الرأي والتعبير اًلجتماعي والطبقي غطاء‬
‫من املساواة الشكلية بين الطوائف؛ لذلك بقيت عقيدة مستلبة تجاه الدولة‪ ،‬مأخوذة بتقديس السلطة‬
‫والقوة‪ 10".‬ولكن عقيدة البعث العلمانية لم تتوقف عند حدود اًلستالب للدولة املستبدة‪ ،‬بل ّأدت دو ارا‬
‫بعثيا؛ فاختزال العلمانية بفصل‬ ‫طائفيا ا‬
‫مميزا في سورية‪ ،‬لم يتوقف خالل نصف قرن من حكم سورية ًّ‬ ‫ًّ‬
‫الدين عن الدولة أيديولوجيا مناسبة لألقليات (حيث اًلنتشار األوسع للبعث)‪ ،‬على اعتبار أن املقصود‬
‫السنية‪ ،‬ولذلك ًل تخسر األقليات ا‬
‫شيئا بهذا النوع من‬ ‫ّ‬ ‫بالدين ‪-‬في هذا السياق‪ -‬دين األكثرية املسلمة‬
‫تعرف نفسها بذلك النحو‪،‬‬ ‫العلمانية‪ ،‬بل إن هذا الشكل األيديولوجي دعا األكثرية إلى نبذ العلمانية التي ّ‬
‫ّ‬
‫وتوجه نخبتها نحو املطالبة بالديمقراطية على نحو أيديولوجي معكوس‪ ،‬أي بعد اختزالها بصندوق اًلقتراع‪،‬‬
‫ًّ‬
‫وثقافيا ضمن هذا السياق‪.‬‬ ‫املعرفة ًّ‬
‫دينيا‬ ‫بحيث تكون نتائج الديمقراطية مضمونة ملصلحة األكثرية َّ‬

‫بهذا الوعي اًلختزالي املتبادل تخسر العلمانية‪ ،‬وتخسر الديمقراطية‪ ،‬وًل تربح الطوائف سوى زيادة التقوقع‬
‫على ذاتها‪ ،‬وإعادة إنتاج الوعي الذاتي الطائفي‪ ،‬فال "تدخل العلمانية هنا كمذهب سياس ي يدعم ا‬
‫نظاما ًّ‬
‫حرا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بل تظهر كبديل ثقافي للذات الدينية‪ ،‬أي مجرد نفي للذات القومية‪ .‬وهذا ما يمكن اإلسالم املستعاد من أن‬
‫يدخل الحلبة السياسية العصرية كمقاتل من أجل الديمقراطية واملساواة الغائبتين عن الدولة العلمانية‪،‬‬
‫واللتين تصطدمان مباشرة‪ ،‬مع األسف‪ ،‬بالنزعة اًلستبعادية الحصرية التي ينطوي عليها كل دين‪ ،‬وهذا ما‬
‫تعقيدا‪ّ .‬إن ميل األقليات لدعم دولة علمانية يلتقي مع رغبة النخبة في إبعاد الجمهور عن‬
‫ا‬ ‫يزيد الوضع‬
‫السياسة والسلطة؛ وهو ًل يتناقض مع محافظتها على هويتها الدينية أو القومية ولكنه يظهر كضامن لهما‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫بينما تشعر األغلبية أنها فقدت الكثير"‪.‬‬

‫‪ - 10‬املرجع ذاته‪ ،‬ص‪.12‬‬


‫‪ - 11‬غليون‪ ،‬ص‪.13‬‬

‫‪11‬‬
‫إن الوجه الطائفي للعلمانية‪ ،‬على النحو املذكور ا‬
‫آنفا‪ً ،‬ل يفعل أكثر من رفع الفوارق واًلختالف بين‬
‫الطوائف إلى درجة اإلطالق‪ ،‬وتقليص التشابه بينها في التركيب الداخلي إلى الدرجة صفر‪ ،‬مع أن املفعول‬
‫الرجعي لهذا النزوع الطائفي يغدو عقبة كبرى أمام اًلندماج اًلجتماعي السياس ي‪ ،‬القادر وحده على صناعة‬
‫"الشعب" كمقولة سياسية‪ ،‬وتكوين الدولة‪ /‬األمة‪ ،‬كدولة لجميع مواطنيها‪ ،‬والتي ستكون باملحصلة دولة‬
‫محايدة علمانية‪.‬‬

‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬التاريخ والوعي الطائفي في سورية‬
‫‪ -1‬الدائرة املغلقة (اًلحتالل واًلستقالل)‬
‫ولد الكيان السياس ي السوري‪ ،‬أول مرة‪ ،‬في التاريخ الحديث‪ ،‬عام ‪ ،1918‬مع دخول امللك فيصل إلى‬
‫دمشق ورفع العلم العربي مكان علم الدولة العثمانية في ساحة املرجة بدمشق‪ ،‬ولكن على الرغم من أن‬
‫حكم فيصل لم يكن أكثر من وقت مستقطع بين شوطين‪ :‬عثماني وفرنس ي‪ ،‬و أنه لم يستمر ألزيد من عامين‬
‫منتهيا بدخول القوات الفرنسية‪ ،‬بعد معركة ميسلون ‪ 24‬تموز‪ /‬يوليو ‪ ،1920‬إلى دمشق؛ ّ‬
‫فإن الكيان‬ ‫ا‬
‫السوري لم يكن ا‬
‫شبيها بما نعرفه اليوم عن سورية القائمة؛ إذ كان يؤمل للحكم امللكي الفيصلي أن يمتد‬
‫من جبال طوروس إلى بحر العرب‪ ،‬ومن املتوسط الشرقي إلى الخليج‪ ،‬لكن ما حدث كان العكس؛ ذلك ّأن‬
‫ا‬
‫معاهدة سايكس‪-‬بيكو كانت قد دخلت حيز التنفيذ؛ فـ "اقتطع منه أوًل‪ ،‬دولة لبنان الكبير في ‪ 31‬آب‪/‬‬
‫أغسطس ‪ ،1920‬ثم ُجزئ الباقي إلى دويالت‪ :‬دولة دمشق‪ ،‬ودولة حلب‪ ،‬وحكومة العلويين املستقلة‪،‬‬
‫وحكومة جبل الدروز‪ُ .‬‬
‫وجعل لواء اسكندرون يتمتع باستقالل إداري ومالي خاص‪ 12".‬ومن املعروف أن‬
‫فرنسا قدمت لواء اسكندورن لتركيا عام ‪1938‬؛ لضمان دخولها إلى جانب الحلفاء في الحرب العاملية‬
‫ّ‬
‫تخلى األسد‪ /‬األب عنه ًّ‬
‫نهائيا عام ‪ ،1998‬بعد أن هددت تركيا بمهاجمة نظامه الداعم لحزب‬ ‫الثانية‪ ،‬ثم‬

‫‪ - 12‬هاشم عثمان‪ :‬األحزاب السياسية في سورية‪ ،‬السرية والعلنية‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪ ،‬الطبعة األولى تشرين األول‪ /‬أكتوبر ‪.2001‬‬
‫ص‪ ،25‬كتاب نسخة إلكترونية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫العمال الكردستاني‪ ،‬حيث كان يأوي زعيمه عبد هللا أوجالن‪ ،‬قبل طرده و"تسليمه" للسلطات التركية؛‬
‫لتدخل عالقات البلدين ‪-‬بعدها‪ -‬في حالة ربيع وردي‪ ،‬لم يعكره سوى اندًلع الثورة السورية في العام ‪،2011‬‬
‫وتداعياتها التي لم تنته بعد‪.‬‬
‫التركيب الطائفي واإلثني لسورية لم يكن ا‬
‫عائقا أمام وحدة "الشعب" السوري في مواجهة اًلحتالل الفرنس ي‪،‬‬
‫كما تجلى في "الثورة السورية الكبرى" التي قادها سلطان باشا األطرش عام ‪1925‬؛ بحيث لم تكن أقلوية‬
‫ا‬
‫قائد الثورة (درزيته) حائال دون إعالنه "قائد جيوش الثورة الوطنية السورية العام"‪ 13،‬أو "مبايعته" من‬
‫قبل قادة الثوار في املناطق السورية كافة‪ ،‬و لم تكن الثورة لتغدو "عروس" الثورات الوطنية في التاريخ‬
‫السوري الحديث برمته‪ ،‬لوًل تحالف الفئات الوسطى الوطنية معها؛ فتحولت من حادثة "أدهم خنجر" إلى‬
‫ثورة وطنية كبرى‪ ،‬انخرط فيها مسيحيون ومسلمون‪ْ ،‬بدو وريفيون وحضر‪ ،‬دمشقيون وحمويون وأبناء‬
‫جبل وعشائر‪ ،‬قطاع طرق ولصوص‪ ،‬وسياسيون ينبضون بالقيم الوطنية والتحررية العليا‪ 14.‬وقد كان على‬
‫رأسهم "عبد الرحمن الشهبندر" زعيم حزب الشعب الدمشقي آنذاك‪.‬‬
‫ا‬
‫متمركزا حول ذاته‬ ‫إن الوعي الطائفي لم يتجاوز بعده الثقافي واًلجتماعي الذاتي في تلك املرحلة‪ ،‬كونه ا‬
‫وعيا‬
‫سيس أو خاضع للتمايز السياس ي للطوائف‪ ،‬وهذا الوعي نفسه لم يكن ا‬
‫عائقا أمام انتخاب‬ ‫أهليا‪ ،‬وغير ُم ّ‬
‫ًّ‬
‫فارس الخوري ر ا‬
‫ئيسا للمجلس النيابي السوري عام ‪ ،1936‬أو توليه منصب رئاسة مجلس الوزراء السوري‬
‫ووز ايرا للمعارف والداخلية‪ ،‬في تشرين األول‪ /‬أكتوبر عام ‪ ،1944‬وأعاد تشكيل وزارته ثالث مرات في ظل‬
‫‪15‬‬
‫تولي شكري القوتلي رئاسة الجمهورية السورية‪.‬‬

‫‪ - 13‬حول قيادة سلطان باشا للثورة السورية‪ ،‬انظر الرابط ‪http://www.ormanland.com/caoaiica-aa-aac/caeane-caoanie-casseni-‬‬


‫‪. oyie-acoue-aa-ecnii-caaae-cauneie-aaai-uaaiceac-cauossnie-sscae-ao%DEco-caeacn-oca.html‬‬
‫‪ - 14‬محمد جمال باروت‪ :‬العقد األخير في تاريخ سورية‪ ،‬جدلية الجمود واإلصالح‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ -‬قطر‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬آذار‪ /‬مارس ‪ ،2012‬ص‪.304‬‬
‫الرابط‪،‬‬ ‫انظر‬ ‫الخوري‬ ‫وفارس‬ ‫القوتلي‬ ‫شكري‬ ‫عهد‬ ‫في‬ ‫السورية‬ ‫الجمهورية‬ ‫حول‬ ‫‪-15‬‬
‫‪http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%88%D8%B1%D9‬‬
‫‪.%8A‬‬

‫‪13‬‬
‫أصبحت سورية جمهورية وهي تحت اًلحتالل الفرنس ي‪ّ ،‬‬
‫وألن فرنسا ذاتها جمهورية‪ ،‬تميل إلى نسخ نفسها‪،‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫محددا لتشكل الجمهورية في سورية بعد أن تشكلت‬ ‫أو مظهرها الخارجي‪ ،‬حيث حكمت؛ فقد كان هذا عامال‬
‫منيا؛ فاستقر الرأي في أوساط نخب اًلستقالل‪ ،‬املنحدرة من طبقة‬ ‫ملكيا في عهد فيصل القصير ز ًّ‬ ‫ا‬
‫كيانا ًّ‬
‫ًّ‬
‫تمثيليا‪ ،‬ا‬
‫علما بأن املبدأ‬ ‫اطيا‬ ‫ًّ‬
‫جمهوريا وديمقر ًّ‬ ‫أعيان املدن التقليدية ّ‬
‫عامة؛ على أن يكون النظام السياس ي‬
‫الجمهوري الذي يحيل إلى عالم الشعب واملواطنين والعالقات السياسية‪ً ،‬ل عالم الهويات والقرابة‬
‫ا‬
‫ضعيفا وغير معمم في الثقافة السياسية؛ نتيجة غياب تيار فكري وسياس ي واسع‪ ،‬يتمحور‬ ‫الثقافية‪ ،‬بقي‬
‫‪16‬‬
‫تفكيره حول مبادئ املواطنة الفاعلة وسيادة الشعب والحرية واملساواة‪.‬‬
‫عندما نالت سورية استقاللها عام ‪ 1946‬كانت دولة في كثير من النواحي‪ ،‬دون أن تكون أمة‪ ،‬وكانت ا‬
‫كيانا‬
‫ًّ‬
‫سياسيا‪ 17،‬ولكن بتأثير التعليم والجيش والصحافة واألحزاب السياسية‪،‬‬ ‫ا‬
‫مجتمعا‬ ‫ًّ‬
‫سياسيا دون أن تكون‬
‫ّ‬
‫ونشوء مجال اقتصادي موحد؛ كان يتشكل شعب سوري‪ ،‬متميز ‪-‬بدرجات متفاوتة‪ -‬عن روابطه العضوية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واستمر‬ ‫العشيرة واملحلة والجماعة الدينية‪ .‬وكان هذا امليل هو الغالب في العشرية األولى لالستقالل‪،‬‬
‫ا‬
‫متفاوتا حتى سبعينيات القرن العشرين‪ ،‬حيث تعرض لنكسة كبيرة على يدي حافظ األسد‪.‬‬

‫تمض ثالث سنوات على استقاللها حتى دخلت سورية زمن اًلنقالبات العسكرية؛ وهو مؤشر تداعي‬
‫لم ِّ‬
‫هيمنة طبقة األعيان‪ ،‬وتداعي الوجه املدني للنخب الحاكمة والنظام "الجمهوري"‪ ،‬والذي سيكتمل على‬
‫دفعتين في السنوات الالحقة‪ :‬عند قيام الوحدة السورية‪ -‬املصرية في شباط‪ /‬فبراير ‪ ،1958‬ثم في اًلنقالب‬
‫البعثي في آذار‪ /‬مارس ‪ .1963‬وخالل العقدين التاليين ألول انقالب عسكري كان تاريخ سورية تاريخ صراعات‬
‫سياسية‪ ،‬وانقالبات عسكرية‪ ،‬واستقطابات أيديولوجية حادة‪ ،‬وتجاذبات دولية وإقليمية على البلد الفتي‪،‬‬
‫وفي الخلفية تبدًلت متسارعة في الجيولوجيا اًلجتماعية في ظل بيئة سياسية محلية ودولية جديدة ا‬
‫تماما‪،‬‬
‫دون توفر أطر مؤسسية أو فكرية مرنة ًلستيعابها‪ ،‬بل رافقها تطور استعدادت استبعادية في الداخل‬

‫‪ - 16‬ياسين الحاج صالح‪ :‬من اململكة األسدية إلى الجمهورية الثالثة‪ ،‬مجلة كلمن الفصلية الثقافية‪ ،‬عدد ‪ ،4‬خريف ‪ .2011‬متاحة على الرابط‬
‫‪.http://www.kalamon.org/articles-details-100#axzz2ffd2qezf‬‬
‫‪ - 17‬فان دام‪ ،‬ص‪.22‬‬

‫‪14‬‬
‫السوري‪ ،‬بوجود مناخات سياسية وفكرية دولية مشجعة لالستبعاد‪ ،‬لكن منسوب اًلستبعاد ارتفع إلى‬
‫مرتبة نظام سياس ي في عام ‪ ،1963‬واستقر و"تمأسس" عام ‪ .1970‬حيث وقعت البالد تحت الوطأة الثقيلة‬
‫‪18‬‬
‫لنظام جعل من ديمومته أولوية وطنية عليا‪.‬‬

‫كان ظهور فكرة القومية والتغيير اًلجتماعي املستمر قد ساعد على إضعاف الروابط الطائفية واإلقليمية‬
‫والعشائرية‪ ،‬منذ فجر اًلستقالل خاصة؛ فنجد ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬أن تحسن سبل اًلتصال واًلنتقال قد‬
‫بدد عزلة مجتمعات بعينها‪ .‬أما التحديث والتصنيع؛ فقد مكنا من اختالط أعضاء املجتمعات املختلفة‬
‫بصورة أكبر وأشد من ذي قبل‪ ،‬ونجد اًلنتشار الواسع للتعليم‪ ،‬منذ عهد اًلستقالل وتوحيده على املستوى‬
‫الوطني‪ ،‬قد تسببا في كبت العقليات اًلنصرافية الطائفية واإلقليمية وغيرها‪ .‬أضف إلى ذلك أن التمدن قد‬
‫أدى إلى إضعاف الروابط األسرية‪ .‬و"على الرغم من عدم املباًلة تجاه الدين‪ ،‬إًل أن أهمية املجتمع الديني‬
‫كوحدة سياسية اجتماعية قد استمرت‪ ،‬فتكاثرت أعداد املنظمات واألندية والجماعات الالسياسية من‬
‫ًّ‬
‫"طبيعيا" على صعيد الوعي‬ ‫خالل القنوات اًلجتماعية التقليدية للمجتمع الديني"‪ 19.‬ولكن ما كان يتطور‬
‫الثقافي واًلجتماعي واألهلي‪ ،‬كان يتقهقر على صعيد الوعي السياس ي‪ ،‬حيث يقول مايكل ه‪ .‬فان دوزن‪" :‬لقد‬
‫أظهر نمو الوعي السياس ي الوًلء فوق الوطني (أي‪ :‬القومي العربي) والوًلء تحت الوطني (أي‪ :‬اإلقليمي)؛‬
‫وذلك على حساب اًللتزام بالدولة الوطنية ككل‪ .‬إن اًلقتطاعات العديدة من سورية‪ ،‬منذ بداية هذا‬
‫ا‬
‫القرن‪ ،‬قد وقفت حائال دون نمو أي وًلء متالحم‪ ،‬أو محدد‪ ،‬للدولة السورية كوطن‪ ،‬وما زالت تأثيرات هذه‬
‫التغييرات الحدودية على التكامل الوطني واضحة حتى اآلن؛ فمن ناحية نجد أنه يتم مراعاة هذه الحدود‪،‬‬
‫من الناحية الفنية فحسب‪ ،‬وأن الهوية العربية أقوى بكثير من الهوية السورية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬نجد‬
‫أن عدم وجود وًلء معتدل قد أدى إلى توجيه الصراعات السياسية املحلية إلى الساحة السياسية الوطنية‪،‬‬
‫‪20‬‬
‫والتي بالفعل قد سيطرت على السياسة الوطنية‪".‬‬

‫‪ - 18‬ياسين الحاج صالح‪ ،‬ذاته‪ً ،‬ل يوجد ترقيم للصفحات في املصدر‪.‬‬


‫‪ - 19‬فان دام‪ ،‬ص‪24‬‬
‫‪ - 20‬مقتبس من كتاب فان دام‪ ،‬الصراع على السلطة في سوريا‪ ،‬ص‪22‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ -2‬العسكر‪ ،‬البعث‪ ،‬والطائفية‬
‫قيض للحقبة الفيصلية اًلستمرار ألكثر من عامين ‪( ،‬من ‪1918‬إلى ‪)1920‬؛ لتدخل سورية ‪-‬بعدها‪-‬‬ ‫لم ُي َّ‬
‫يتسن لحقبة اًلستقالل عن الفرنسيين أن تستمر أكثر من سنتين ا‬
‫أيضا‪( ،‬من‬ ‫َّ‬ ‫عهد اًلنتداب الفرنس ي‪ ،‬ولم‬
‫‪1946‬إلى ‪)1948‬؛ لتدخل سورية‪ ،‬واملنطقة العربية معها‪ ،‬في مرحلة جديدة‪ ،‬كانت تداعياتها أخطر من‬
‫تداعيات سايكس‪ /‬بيكو ذاتها‪ ،‬تمثلت بنكبة فلسطين وإعالن دولة إسرائيل‪ ،‬وإذا كان أثر النكبة على‬
‫مباشرا‪ّ ،‬‬
‫فإن أثره على املنطقة برمتها كان غير مباشر‪ ،‬ما زلنا ‪-‬إلى اليوم‪ -‬ندفع‬ ‫ا‬ ‫فلسطين والشعب الفلسطيني‬
‫أثمانه الباهظة بطريقة أو بأخرى؛ ففي سورية تراجعت النخب السياسية املدنية لصالح تقدم العسكر‬
‫ّ‬ ‫ا‬
‫عاما تلو اآلخر‪ ،‬وشاعت ثقافة شعبية ترى في العسكر مخلصين‪ ،‬وساد وعي زائف بالقوة املفترضة للعسكر‪،‬‬
‫ّ‬
‫املكثف بهدر الكرامة ّ‬ ‫ا‬
‫جراء فقدان فلسطين‪ ،‬وقد انعكس ذلك في اًلنقالبات‬ ‫تعويضا عن اإلحساس‬
‫العسكرية التي تلت عام النكبة‪ .‬ومن املالحظات التي يغفلها املؤرخون ‪-‬عادة‪ -‬هي أن تقدم العسكر إلى واجهة‬
‫ُ‬
‫الحياة السياسية‪ ،‬في غياب مفهوم الشعب بمعناه السياس ي‪ ،‬وعدم تشكل دولة أمة‪ ،‬لم تتحقق حتى يومنا‬
‫هذا‪ ،‬جعل العسكر يتجهون؛ بوعي منهم أو دون وعي‪ ،‬نحو الوًلء العشائري واملناطقي والطائفي‪ ،‬حتى لو‬
‫كانت شعاراتهم‪ ،‬أو "آمالهم الصادقة"‪ ،‬متجهة نحو بناء الدولة أو سيادة الوطن؛ فالطبيعة العسكرية‬
‫مضادة لالعتراف باًلختالف‪ ،‬ومحكومة بفرض الطاعة عن طريق القوة ّ‬
‫الفجة والوًلء املطلق‪ ،‬وًل يمكن أن‬
‫يتحقق هذا النوع من الوًلء في ظل غياب "الدولة األمة" من غير اًلعتماد على القرابة األهلية والطائفية‪،‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫واضحا عن هذه "املبادئ" إطالقا‪.‬‬ ‫خروجا‬ ‫واملتتبع لحكم الجنراًلت ‪،‬في سورية منذ استقاللها‪ ،‬لن يجد‬

‫لقد ساهم العديد من العوامل السياسية التاريخية واًلجتماعية اًلقتصادية في إيجاد تمثيل قوي ألعضاء‬
‫األقليات في القوات املسلحة السورية‪ ،‬قبل استيالء الضباط البعثيين على السلطة عام ‪1963‬؛ ويرجع تاريخ‬
‫أحد تلك العوامل إلى وقت كانت فيه سورية تحت اًلنتداب الفرنس ي‪ ،‬وكان الفرنسيون قد فضلوا تجنيد‬
‫مختلف األقليات الدينية والعرقية‪ ،‬كالدروز واإلسماعيليين واملسيحيين واألكراد والشراكسة فيما يسمى‬
‫بـ"القوات الخاصة للشرق األدنى"‪ ،‬والتي تطورت ‪-‬فيما بعد‪ -‬لتصبح "القوات املسلحة السورية واللبنانية"‪،‬‬
‫الس ّنة ؛ مما يفصح عن‬‫يضموا إلى تلك القوات األغلبية السورية من العرب ُ‬
‫لكنهم ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬لم ّ‬

‫‪16‬‬
‫ّ َ‬
‫"فرق ت ُسد" اًلستعمارية‪ ،‬والتي كانت تهدف إلى منعهم من الوصول إلى مكانة قوية‪ ،‬تجعلهم يشكلون‬
‫سياسة ِّ‬
‫خطرا على وضع اإلدا ة املركزية‪ .‬إن سياسة التجنيد الفرنسية اتبعت ا‬
‫تقليدا رسمته القوى اًلستعمارية في‬ ‫ا‬
‫ر‬
‫ا‬ ‫العديد من الدول التابعة لها‪ ،‬إذ ّ‬
‫تجند –في البداية‪ -‬عاملين‪ ،‬ثم ضباطا من بين املجموعات العشائرية‬
‫النائية عن العاصمة املركزية‪ ،‬ومن مجموعات األقليات‪ ،‬وخاصة املجموعات ذات التطلعات املحدودة نحو‬
‫ا‬
‫تطورا من الناحية اًلقتصادية؛‬ ‫اًلستقالل‪ ،‬وعادة ما كانت تنحدر تلك املجموعات من املناطق األقل‬
‫‪21‬‬
‫لذلك‪ ،‬فقد جذبتهم الفرص املتاحة لهم داخل الجيش‪.‬‬

‫َبيد أن فرنسا املحكومة بتصورات اًلستشراق‪ ،‬ووريثة "املسألة الشرقية"‪ ،‬حافظت على بقاء الحكم بيد‬
‫ّ‬
‫(السنة)‪ ،‬كونه من الطبيعي أًل تهتم دولة محتلة ببناء أكثرية سياسية‪ ،‬ومجتمع سياس ي‬ ‫األكثرية الثقافية‬
‫َّ‬
‫انصب في الحفاظ على الطابع "الفسيفسائي"‬ ‫يقود لالندماج الوطني‪ ،‬بل إن اهتمامها األول كان قد‬
‫ملجمعاتنا‪ ،‬ونقل الوضع اًلجتماعي إلى حيز الوضع السياس ي؛ ليسهل عليها تطبيق سياسة "فرق تسد"‬
‫املعروفة‪.‬‬
‫في املرحلة التي تلت اًلستقالل أصبح الجيش قوة فاعلة على الساحة السياسية السورية‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما بعد‬
‫قدم العسكر أنفسهم على أنهم الجهة التي يناط بها استعادة الحقوق والتحرير‪ ،‬ومن‬‫نكبة فلسطين‪ ،‬إذ َّ‬
‫ا‬
‫الطبيعي ؛ أن يصبح قادة الجيش السنة قادة للبالد‪ ،‬تبعا لالتفاق الضمني بين الطوائف والعرف املكتسب‬
‫من عهد اًلحتالل‪ ،‬وهو ما حصل خالل اًلنقالبات العسكرية التي تلت اًلستقالل مباشرة‪ ،‬ومن الجدير‬
‫ذكره في هذا السياق أن قادة اًلنقالبات‪( :‬حسني الزعيم‪ ،‬سامي الحناوي‪ ،‬أديب الشيشكلي) التي شهدتها‬
‫"س ّنة"‪ ،‬وكذلك قادة اًلنقالب على الوحدة مع مصر عام ‪ ،1961‬حيث كان بقيادة‬
‫سورية في تلك املرحلة هم ُ‬
‫الضابط الدمشقي عبد الكريم النحالوي‪.‬‬
‫"نظرية َّ‬
‫ثورية" تتكئ عليها‪ ،‬وهذا هو الدور الذي لعبه حزب‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫العملية بحاجة دائمة إلى‬ ‫كانت "ثورية" الجيش‬
‫ا‬
‫ترحيبا من‬ ‫البعث منذ انقالبه األول عام ‪ ،1963‬لكن حزب البعث‪ ،‬ومنذ تشكيله عام ‪ ،1947‬لم َ‬
‫يلق‬

‫‪ - 21‬فان دام‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫‪17‬‬
‫ًّ‬
‫طبقيا‪ ،‬وبين األقليات‬ ‫املدينيين باملعنى الطبقى‪ ،‬وا ّ‬
‫لسنة باملعنى الطائفي؛ لذا انتشر في املناطق الريفية‬
‫مهما للسنة‬ ‫ا‬
‫جديدا ًّ‬ ‫طائفيا؛ فالقومية العربية التي كانت أحد أهداف الحزب لم تعن‬ ‫ًّ‬ ‫اإلثنية واملذهبية‬
‫ّ‬
‫العرب؛ حيث لم يتشكل في وعيهم‪ ،‬أو ًلوعيهم‪ ،‬فارق كبير بين العروبة واإلسالم‪ ،‬على عكس األقليات‪ ،‬ممثلة‬
‫بنخبها‪ ،‬التي عنت لها القومية‪ ،‬كما طرحها الحزب‪ ،‬املساواة السياسية والحقوقية واًلقتصادية مع األكثرية‬
‫في الدولة القومية‪ ،،‬لكن التناقضات املتوارية خلف الشعارات ما لبثت أن ظهرت فور انقالب البعث على‬
‫حكومة اًلنفصال؛ ففي صراعه على السلطة‪ ،‬واًلنفراد بها منذ عام ‪ ،1963‬تميز حزب البعث باملرونة في‬
‫ا‬
‫فشيئا‪،‬‬ ‫اعتماد عصبيات تتالءم مع كل محطة من محطات هذا الصراع‪ ،‬والتي كانت دوائرها تضيق ا‬
‫شيئا‬
‫فمن اًلعتماد على "العصبية" القومية عندما تحالف مع الناصريين في مواجهة اًلنفصاليين‪ ،‬إلى اًلعتماد‬
‫على "العصبية البعثية" من أجل تصفية حلفاء األمس‪ :‬الناصريين والوحدويين املستقلين؛ الذين حاولوا‬
‫استعادة حضورهم ودورهم في ‪ 18‬تموز‪ /‬يوليو ‪ 1963‬عبر انقالب فاشل بقيادة الضابط الناصري جاسم‬
‫علوان‪ ،22‬ثم اًلعتماد ‪-‬بعد ذلك‪ -‬على صالت القرابة الطائفية واملناطقية‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما حين انتقلت دائرة‬
‫الصراع إلى قلب البعث ذاته؛ لتصل إلى اًلعتماد على األهل والدائرة الضيقة من أهل الثقة‪ ،‬إثر الخالف‬
‫الذي نشأ بين صالح جديد وحافظ األسد‪ ،‬وسيستمر هذا األمر بدرجات متفاوتة بعد حسم الخالف لصالح‬
‫األسد‪ ،‬والذي كان أول رئيس من أصول علوية يحكم سورية‪ ،‬ليصل إلى ذروته إبان املواجهات بين السلطة‬
‫واألخوان املسلمين في ثمانينيات القرن املنصرم؛ حيث سيضطر األسد بعد انتهائها إلى التخلص من أخيه‬
‫فعت؛ أكبر مسانديه في مواجهة األخوان ّ‬
‫ومنفذ مجزرة سجن تدمر؛ فيستبعد ‪-‬هذا األخير‪ -‬خارج البالد‬ ‫ر‬
‫بعد تحميله أموال البنك املركزي‪ ،‬وتنتهي األمور بحكم ساللي مطلق‪ ،‬يعود للرئيس وأوًلده دون غيرهم‪.‬‬

‫كما أن املتتبع للبنية اإلبستمولوجية املغلقة للبعث‪ ،‬منذ استيالئه على السلطة‪ ،‬سيجد أن الطرق اإلجبارية‬
‫التي سار عبرها‪ ،‬بقوة دفع منفصلة عن النوايا‪ ،‬قد انتهت بتصفية طائفية ومناطقية مرتبطة باحتكار‬
‫السلطة ومراكز القوة‪ ،‬دون أن يكون أعضاء طائفة معينة أقل طائفية‪ ،‬أو أكثر "وطنية"‪ ،‬من الطوائف‬
‫األخرى‪ ،‬باملعنى املطلق للعبارة‪ ،‬فالصراع على السلطة في سورية لم يكن له دين سوى السلطة ذاتها‪ ،‬وهذا‬

‫‪ - 22‬فان دام‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫‪18‬‬
‫الدرس هو الدرس الذي حفظه عن ظهر قلب‪ ،‬ثم قام بتنفيذه ًّ‬
‫حرفيا‪ ،‬حافظ األسد خالل الفترة الطويلة‬
‫لحكمه‪.‬‬

‫ذكرنا أنه بعد تصفية املنافسين من خارج الحزب‪ ،‬بدأت التصفيات داخل الحزب ذاته‪ ،‬على أسس طائفية‬
‫ّا‬ ‫َ‬
‫ومناطقية وعشائرية مختلفة‪ ،‬وطفت التناقضات العسكرية واملدنية بين يمين الحزب‪ ،‬ممثال بميشيل‬
‫عين‪ ،‬والضابط‬‫عفلق وصالح البيطار والضابط محمد عمران‪ ،‬ويساره بقيادة نور الدين األتاس ي‪ ،‬ويوسف ز ّ‬
‫صالح جديد؛ "وقد ّ‬
‫جر زعماء الحزب املدنيون األعضاء العسكريين في هذه الصراعات؛ فاستعانت القيادة‬
‫القومية بمحمد عمران وأمين الحافظ وحسين ملحم ومصطفى الحاج‪ ،‬واستعانت القيادة القطرية بصالح‬
‫جديد وعبد الكريم الجندي وأحمد املير وحافظ أسد وسليم حاطوم وحمد عبيد‪ ،‬وجميعهم من أعضاء‬
‫اللجنة العسكري للحزب‪ 23".‬واللجنة العسكرية للحزب كانت قد تشكلت ‪-‬بداية‪ -‬من خمسة ضباط‪( :‬ثالثة‬
‫علويون‪ :‬حافظ األسد‪ ،‬صالح جديد‪ ،‬ومحمد عمران‪ ،‬وإثنان إسماعيليان‪ :‬عبد الكريم الجندي وأحمد‬
‫َّ‬ ‫جميعا كانوا في مصر عام ‪ ،1959‬ثم ّ‬
‫ا‬
‫توسعت اللجنة ‪-‬في ما بعد‪ -‬لتؤلف من خمسة عشر‬ ‫املير)‪ ،‬وهؤًلء‬
‫ا‬
‫ضابطا‪( :‬ستة ضباط ّ‬
‫سنة وخمسة علويون ودرز ّيان وإسماعيليان)‪ 24.‬وقد بقي معظم ضباط اللجنة ‪-‬‬
‫هؤًلء‪ -‬بعيدين عن أي دور سياس ي أثناء الوحدة‪ ،‬إًل أن دورهم أصبح ر ا‬
‫ئيسا في اًلنقالب على حكم‬
‫اًلنفصال‪ ،‬الذي أعاد السلطة إلى الدمشقيين وأعيان املدن ممن ّ‬
‫همشهم عبد الناصر أثناء الوحدة‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ّ‬
‫مزدوجا ملصالح النخب املدينية‪ ،‬صاحبة اًلمتيازات اًلقتصادية‬ ‫تهديدا‬ ‫شكل انقالب البعث العسكري‬
‫واًلجتماعية والتقاليد املحافظة؛ فإضافة إلى أن من قام به ضباط وحدويون ينتمون إلى تيارات عروبية‬
‫اشتراكية (ناصرية وبعثية)‪ ،‬فإنه يفتح ‪-‬كذلك‪ -‬إمكانية عودة الوحدة مع مصر‪ ،‬وما يعنيه ذلك من تهميش‬
‫ا‬
‫وخصوصا دمشق؛ لذلك كانت أحد ردود الفعل على انقالب البعث القول بأنه‬ ‫جديد للمدن السورية‪،‬‬

‫‪ - 23‬بشير زين العابدين‪ :‬الجيش والسياسة في سوريا (‪ ،)2000 -1918‬دراسة نقدية‪ ،‬دار الجابية‪ ،‬ط‪(،2008 1‬نسخة الكترونية) ص‪.353‬‬
‫‪ - 24‬فان دام‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪19‬‬
‫انقالب طائفي‪ ،‬قوامه علويون ودروز وإسماعيليون (عدس)‪ ،‬على الرغم من حضور الضباط السنة من‬
‫التيارين‪ :‬البعثي والناصري في اًلنقالب‪.‬‬

‫أما على الصعيد السياس ي‪ ،‬فقد تبنى البعث سياسة تهدف إلى ترسيخ حكم الحزب الواحد‪ ،‬وإلغاء جميع‬
‫األحزاب الوطنية التقليدية‪ ،‬وتحقيق دمج كامل بين مؤسسات الحكم املدني والجيش‪ ،‬وتم تنفيذ هذه‬
‫السياسة من خالل قالب إيديولوجي‪ ،‬يرتكز على مبدأ "الجيش العقائدي"‪ ،‬وترسيخ البعث كحزب "قائد‬
‫للدولة واملجتمع"‪.‬‬

‫ونتيجة لهذه املتغيرات التي طرأت على العالقات بين الحكم املدني والجيش؛ فقد تغيرت مراكز القوى في‬
‫املشهد السياس ي؛ فلم يعد لرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرملان تلك األهمية السياسية‪ ،‬بل‬
‫انتقل النفوذ الفعلي إلى األجهزة الحزبية التي تمتعت بصالحيات أوسع من املؤسسات الدستورية‪ ،‬ومن‬
‫أهمها‪ :‬مجلس قيادة الثورة‪ ،‬والقيادة القومية‪ ،‬والقيادة القطرية‪ ،‬واللجنة العسكرية‪ ،‬ورئاسة األركان‪،‬‬
‫وأصبح رؤساء الجمهورية والحكومة والبرملان مجرد شخصيات هامشية ّ‬
‫تعينها الزعامة املدنية والقيادة‬
‫‪25‬‬
‫العسكرية لحزب البعث‪.‬‬
‫بعد أن ّ‬
‫ترسخ اًلنقالب البعثي األول عام ‪ ،1963‬جرت وتغيرت عدة تحالفات طائفية‪ ،‬وعابرة للطوائف‪،‬‬
‫وبرز العامل الطائفي كواحد من أهم العوامل املفسرة ملا يجري في سورية آنذاك‪ .‬وإذا قسنا األمور باملعيار‬
‫الطائفي سنجد أن التنافس األقوى على السلطة كان بين العلويين والسنة‪ ،‬ثم يليهم الدروز‪ ،‬وأن موازين‬
‫القوى العسكرية املباشرة كانت تميل بشكل واضح إلى العلويين‪ ،‬وبعدهم الدروز‪ ،‬مع بقاء موازين القوى‬
‫عددا‪ ،‬لذلك نجد ّأن الضباط الذين تمت تصفيتهم خالل السنوات املمتدة‬
‫غير املباشرة بيد السنة األكثر ا‬
‫بين ‪ ،1967 -1963‬وًل ّ‬
‫سيما إبان انقالب البعث الثاني ضد الرئيس أمين الحافظ في ‪ 23‬شباط ‪ ،1966‬هم‬
‫ثانيا‪ ،‬وًل ّ‬ ‫ا‬
‫أوًل‪ ،‬ثم الدروز ا‬
‫سيما الذين ساهموا في اًلنقالب الفاشل الذي قاده سليم حاطوم‬ ‫الضباط السنة‬
‫ضد صالح جديد وحافظ األسد في أيلول‪ /‬سبتمبر من العام نفسه‪ ،‬و"قد وصل عدد الضباط الذين تمت‬

‫‪ - 25‬زين العابدين‪ ،‬ص‪.346‬‬

‫‪20‬‬
‫تصفيتهم‪ ،‬وإزاحتهم بطرق مختلفة‪ ،‬إلى نحو ‪ 700‬ضابط‪ ،‬تم استبدال نصفهم على األقل بعلويين"‪، 26.‬و‬
‫"قد كان هؤًلء الضباط من الدمشقيين‪ ،‬والناصريين‪ ،‬والوحدويين املستقلين‪ ،‬ثم بعد ذلك تبعهم أكثر من‬
‫‪ 400‬ضابط من أنصار أمين الحافظ وسليم حاطوم‪ ،‬وخاصة الضباط الدروز والحوارانيين‪ .‬وعندما دخلت‬
‫سنة ‪ ،1967‬كان الجيش السوري قد فقد أكثر من ألفين ومائتي ضابط‪ ،‬وثالثة آًلف ضابط من اًلحتياط‪،‬‬
‫ويعادل ذلك ثلثي ضباط املؤسسة العسكرية بأسرها‪ ،‬وتم استبدالهم بمجموعات حزبية طائفية تمتلك‬
‫عقلية تنظيمية متطورة‪ ،‬لكنها كانت مرصودة للصراعات الداخلية والسيطرة على السلطة‪ً ،‬ل على مواجهة‬
‫العدو الصهيوني"‪ 27.‬وفي تلك الظروف العصيبة دخل الجيش السوري "العقائدي" معركة حزيران‪ /‬يونيو‬
‫‪ ،1967‬وكان تعداده يقدر بحوالي ‪ 75000‬مقاتل‪ ،‬وفي الوقت الذي كان فيه رئيس اًلستخبارات العسكرية‬
‫ا‬
‫السورية عبد الكريم الجندي مشغوًل بالتحقيقات املتتالية بشأن املحاوًلت اًلنقالبية‪( ،‬وإعدام سليم‬
‫حاطوم الذي عاد من منفاه في األردن عند وقوع الحرب)‪ ، 28‬وبمالحقة املعارضين لحكم صالح جديد‪ ،‬كان‬
‫جهاز اًلستخبارات اإلسرائيلية (املوساد) يعمل على جمع املعلومات عن التحصينات السورية حول هضبة‬
‫الجوًلن‪ ،‬وعندما اقتحم الجيش اإلسرائيلي هضبة الجوًلن بلواءين مدرعين مقابل تسعة ألوية سورية‪،‬‬
‫دخلها دون مقاومة تذكر؛ فقد كانت القوات السورية املحاصرة قد تلقت أوامر مباشرة من وزير الدفاع‬
‫‪29‬‬
‫السوري اللواء حافظ أسد باًلنسحاب "الكيفي" دون قتال؛ فسقطت الجوًلن‪.‬‬

‫في املرحلة الالحقة لإلطاحة بالرئيس أمين الحافظ ومعارض ي صالح جديد اآلخرين في القيادة القومية‪،‬‬
‫تجمع معظم الضباط البعثيين وأعضاء الحزب املدنيون‪ ،‬إما حول صالح جديد‪ ،‬أو حول حافظ األسد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫اللذين كانا أبرز السياسيين في سورية حينذاك‪ 30.‬لكن صالح جديد الذي تخلى عن مهماته العسكرية في‬
‫ا‬
‫شاغرا‬ ‫الحزب؛ ليبقى في شقه املدني ا‬
‫نائبا لألمين العام للحزب‪ ،‬الرئيس نور الدين األتاس ي‪ ،‬ترك املكان‬

‫‪ - 26‬فان دام‪ ،‬ص‪61‬‬


‫‪ - 27‬زين العابدين‪ ،‬ص‪.414‬‬
‫‪ - 28‬فان دام‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪ - 29‬زين العابدين‪ ،‬ص ص ‪.416-415‬‬
‫‪ 30‬فان دام‪ ،‬ص‪102‬‬

‫‪21‬‬
‫لحافظ األسد الذي انتقل من قائد للقوات الجوية عام ‪ 1964‬إلى وزير للدفاع‪ ،‬بعد اًلنقالب على أمين‬
‫الحافظ‪ ،‬ثم بعد الخالفات التي دارت بينه و صالح جديد استقال حافظ من الحزب‪ ،‬على الرغم من انتخابه‬
‫في القيادة القطرية‪ ،‬وقرر إحكام سيطرته على القوات املسلحة‪ ،‬بفصل الجهاز العسكري للحزب عن قيادة‬
‫الحزب املدنية‪ ،‬كما أصدر أوامر بمنع أعضاء القيادة القطرية‪ ،‬أو مسؤولي الحزب املدنيين اآلخرين‪ ،‬من‬
‫زيارة أقسام تنظيم الحزب العسكري‪ ،‬أو القيام باتصاًلت مباشرة مع قطاع الحزب العسكري؛‪31‬مما فاقم‬
‫ا‬
‫حدة النزاع واملناورات بين الشق املدني ممثال بصالح جديد‪ ،‬والشق العسكري الذي يقوده حافظ أسد‪ ،‬إلى‬
‫أن انعقد املؤتمر القومي اًلستثنائي العاشر للحزب في دمشق‪ ،‬أواخر تشرين األول‪ /‬أكتوبر عام ‪،1970‬‬
‫حيث تقرر فيه إعفاء كل من وزير الدفاع حافظ األسد‪ ،‬ورئيس األركان املوالي األبرز لألسد مصطفى طالس‪،‬‬
‫من منصبيهما‪ ،‬وتكليفهما بمهمات حزبية‪ ،‬لكن األسد كان قد اتخذ احتياطاته الالزمة قبل املؤتمر؛ فأمر‬
‫العسكريين باحتالل مكاتب القسم املدني للحزب‪ ،‬وكذلك املنظمات الشعبية البعثية‪ ،‬وإلقاء القبض على‬
‫أبرز قادة الحزب املدنيين‪ ،‬بمن فيهم صالح جديد والرئيس نور الدين األتاس ي‪ ،‬ثم ألقي هؤًلء في السجن‬
‫حتى تسعينيات القرن املاض ي؛ فمات األول في السجن عام ‪ ،1993‬وخرج الثاني ‪-‬بعد عشرين ا‬
‫عاما‪ -‬من‬
‫سجنه ليوافيه املوت بعد خروجه بفترة قصيرة‪ 32.‬وبحافظ األسد ابتدأ عهد جديد في سورية‪ ،‬هو العهد‬
‫ا‬
‫طويال بعد ذاك‪ ،‬فال ّ‬ ‫ُ‬
‫يغير الحزب فحسب‪،‬‬ ‫البعثي الثالث الذي ق ّيض له‪ ،‬بحكم القوة املحضة‪ ،‬أن يستمر‬
‫‪33‬‬ ‫بل ّ‬
‫يغير سورية الحديثة كلها‪.‬‬

‫‪ - 31‬فان دام‪ ،‬ص ‪.104‬‬


‫‪ - 32‬فان دام‪ ،‬ص‪.109‬‬
‫‪ - 33‬حازم صاغية‪ :‬البعث السوري‪ ،‬تاريخ موجز‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ -‬لندن‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2012‬ص‪65‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -3‬البعث واإلسالميون‬
‫وسط انتشار األحزاب "التقدمية" في الستينيات‪ ،‬ومن بينها حزب البعث‪ ،‬برزت جماعة اإلخوان‬
‫املسلمين‪ ،‬بوصفها القوة املعارضة الوحيدة التي تستطيع أن تجابه سلطة البعثيين الجدد‪ ،‬وقد بدأت‬
‫املواجهات بين البعثيين واألخوان املسلمين في حمص عام ‪ ،1963‬حيث حاول اإلخوان تصوير أن معركتهم‬
‫تعود إلى انحراف "البعث امللحد" عن الدين‪ ،‬وإلى إقصاء واضطهاد األكثرية املسلمة السنية لصالح إعطاء‬
‫دور لألقليات يفوق حجمها‪ .‬وما لبث أن وصل الشحن الطائفي إلى بانياس التي تطورت فيها األمور إثر صدام‬
‫وقع بين طالب ّ‬
‫سنة وعلويين عام ‪ ،1964‬وقد اجتهدت املعارضة اإلسالمية‪ ،‬ممثلة باإلخوان‪ ،‬في إعطاء هذا‬
‫ًّ‬
‫طائفيا‪ ،‬كما ساهم النظام البعثي بدوره في هذا األمر‪ ،‬عبر تأكيده على الطابع الطائفي‬ ‫التصادم ا‬
‫طابعا‬
‫للمواجهات‪ ،‬ولكن من موقع الحكم على الطرف اإلسالمي بأنه رجعي‪ ،‬يسعى إلى الفتنة‪ ،‬وفي العام نفسه‪،‬‬
‫قام الشيخ مروان حديد بإعالن عصيانه من جامع السلطان في حماة‪ ،‬على خلفية اعتقال أحد الطالب‬
‫الحمويين؛ فحصلت مواجهات بين اإلسالميين والبعثيين‪ ،‬كانت األعنف بينهما حتى ذلك الوقت؛ لتنتهي ‪-‬‬
‫بعد ذلك‪ -‬باستخدام العنف من قبل السلطة البعثية‪ ،‬والسيطرة على مجريات األمور‪.‬‬

‫بعد انقالب حافظ األسد على رفاقه البعثيين عام ‪ ،1970‬الذي أطلق عليه اسم "الحركة التصحيحية"‪ ،‬ثم‬
‫توليه رئاسة الجمهورية في آذار‪ /‬مارس ‪ ،1971‬حاول التقرب من النخبة املدينية السنية‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما‬
‫اًلقتصاديين والتجار‪ ،‬وقد كانت اًلستجابة في دمشق وحلب كبيرة‪ ،‬حيث تم استقباله في حلب بالهتافات‬
‫والصخب اًلحتفالي‪ ،‬وحمله مع سيارته خالل زيارته أحد األسواق الحلبية‪ ،‬لكن تدهور الوضع اًلقتصادي‬
‫ًّ‬ ‫ا‬ ‫في السنوات الالحقة‪ ،‬وًل ّ‬
‫جوهريا في إطار النظام‬ ‫سيما بعد الحرب املكلفة عام ‪ 34،1973‬أضيف إليه تحوًل‬
‫األمني الذي أخذ شرعيته من الحرب ذاتها‪ ،‬ففي الوقت الذي ساهمت فيه الحرب بتصوير األسد كبطل‬
‫قومي في اإلعالم السوري‪ ،‬ساعدت على تحويل العدو‪ ،‬و الحرب ذاتها‪ ،‬نحو الداخل السوري؛ فقد كانت‬
‫ا‬ ‫حرب تشرين ًّ‬
‫حدا فاصال‪ ،‬تم على إثره توجيه عالقة النظام مع إسرائيل نحو السياسة‪ ،‬وتحويل عالقة‬

‫ُ‬
‫‪ - 34‬قدرت أضرار البنية التحتية السورية التي دمرتها إسرائيل بـ ‪ 4,5‬مليار دوًلر‪ ،‬ونزح نحو ثمانون ألف مواطن من القنيطرة نحو الداخل‪،‬‬
‫خسرت سوريا ‪ 29‬قرية إضافية عما كانت قد خسرته في نكسة حزيران عام ‪.1967‬‬

‫‪23‬‬
‫النظام مع الشعب السوري‪ ،‬ومع املعارضة‪ ،‬نحو الحرب‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ُ ،‬سحبت السياسة من الداخل إلى‬
‫ا‬ ‫الخارج‪ُ ،‬‬
‫وسحبت الحرب من الخارج إلى الداخل‪ .‬كل ذلك بدأت نتائجه بالتصاعد عاما تلو آخر؛ حيث بدأ‬
‫ينمو احتجاج إسالمي على خلفية الدستور الدائم لعام ‪ ،1973‬والذي تشير املادة الثالثة منه ‪-‬صراحة‪ -‬إلى‬
‫أن دين رئيس الجمهورية هو اإلسالم‪ ،‬وهو ما يشكك في شرعية الرئيس "العلوي"‪ ،‬حيث أن معظم‬
‫اإلسالميين ًل يعترفون بالعلويين كمسلمين‪ ،‬إًل أن األسد وجد الحل الفوري في فتوى اإلمام موس ى الصدر‪،‬‬
‫إذ في العام نفسه يعلن أن العلويين مسلمون ينتمون للمذهب الشيعي‪ ،‬وفي العام ‪ ،1975‬بدأ التوتر‬
‫اإلسالمي يتصاعد عندما اعتقل الشيخ الحموي مروان حديد‪ ،‬بعد تأسيسه تنظيم "كتائب محمد" الذي‬
‫سيكون ‪-‬في ما بعد‪ -‬نواة تنظيم "الطليعة املقاتلة" ‪ ،‬والشيخ املعتقل يموت في سجنه تحت التعذيب عام‬
‫‪ ،1976‬وفي العام نفسه بدأت مظاهر التوتر األمني على صورة سلسلة اغتياًلت‪ ،‬تزامنت مع التدخل‬
‫السوري في لبنان‪ ،‬واستهدفت ا‬
‫عددا من املسؤولين السوريين‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما العلويين منهم‪ ،‬وقد اعتبر الكثيرون‬
‫بأن حملة اًلغتياًلت ‪-‬هذه‪ -‬انعكاس لسياسة حافظ أسد الداخلية‪ ،‬في تعيين أبناء طائفته في املناصب‬
‫املدنية والعسكرية على حساب األغلبية السنية‪ 35.‬وبعد ثالث سنوات؛ حيث كان نشاط اإلخوان املسلمين‬
‫في أوجه‪ ،‬قامت مجموعة أطلقت على نفسها اسم " املجاهدين"‪ ،‬وعبر نشرة سرية أصدرتها تحت اسم‬
‫‪36‬‬
‫"النذير"‪ ،‬بتبني هذه اًلغتياًلت‪.‬‬
‫قاتما للغاية في سورية؛ فانتشر الخوف وعم الرعب بين الناس‪ُ ،‬‬
‫وعقد‬ ‫في تلك السنوات أصبح الوضع ا‬
‫ا‬
‫عنصرا من‬ ‫املؤتمر القطري السابع في نيسان‪ /‬أبريل ‪ 1979‬؛ فعرض رفعت األسد مكافأة لكل من يقتل‬
‫عناصر اإلخوان املسلمين‪ ،‬لم يلبث عرض رفعت أكثر من شهرين حتى جاء رد املعارضة اإلسالمية التي‬
‫يقودها اإلخوان ؛ ففي ‪ 16‬حزيران ‪ /‬يونيو من العام ذاته‪ ،‬قام ضابط سني بعثي بارتكاب مجزرة في مدرسة‬
‫ًّ‬
‫عسكريا‪ ،‬وأصيب ‪ ،54‬ومعظم الضحايا كانوا من‬ ‫املدفعية بحلب‪ ،‬راح ضحيتها ما ًل يقل عن ‪ 32‬ا‬
‫طالبا‬

‫‪ - 35‬زين العابدين‪ ،‬ص‪.438‬‬


‫‪ - 36‬فان دام‪ ،‬ص‪129‬‬

‫‪24‬‬
‫العلويين‪ 37.‬لكن جماعة األخوان املسلمين أعلنت عدم مسؤوليتها عن هذه املذبحة‪ ،‬ونفت أي صلة بينها‬
‫وبين تنظيم الطليعة املقاتلة‪ ،‬إًل أن ما حدث ‪-‬بعد ذلك ‪-‬كان اضطرابات مدنية دامية‪ ،‬جرت في طول البالد‬
‫وعرضها؛ حيث شن النظام حملة إعالمية وأمنية شديدة ضد الجماعة‪ ،‬تزامنت مع عمليات خطف‬
‫واغتياًلت واسعة النطاق وقعت ضد املعارضين للحكم‪ ،‬داخل سورية وخارجها‪ ،‬وشملت ا‬
‫عددا من‬
‫‪38‬‬
‫املعارضين للنظام السوري من اللبنانيين والسوريين والفلسطينين‪.‬‬
‫استمر في التفاعل‪ّ ،‬‬
‫وتطور بشكل خطير عندما قام مجاهدو اإلخوان‬ ‫ّ‬ ‫لم يتوقف التحريض الطائفي‪ ،‬بل‬
‫بمحاولة فاشلة ًلغتيال الرئيس حافظ األسد في ‪ 26‬حزيران‪ /‬يونيو ‪ ،1980‬إذ نجا منها بأعجوبة‪ ،‬وبعد أقل‬
‫من أسبوعين أصدر مجلس الشعب السوري في ‪ 7‬تموز‪ /‬يوليو ‪ 1980‬قانونه رقم (‪ ،)49‬الذي يقض ي باعتبار‬
‫عضوية اإلخوان املسلمين جريمة عظمى‪ ،‬عقوبتها اإلعدام‪ ،‬لكن الرد الدموي اًلنتقامي جاء ‪-‬قبل ذلك‪ -‬على‬
‫يد رفعت األسد الذي أرسل وحدتين من سرايا الدفاع‪ ،‬بقيادة صهره الرائد معين ناصيف إلى سجن تدمر‬
‫ا‬
‫جميعا‪ ،‬وتذكر‬ ‫العسكري‪ ،‬بطيران الهليكوبتر‪ ،‬وأمرهم بقتل أعضاء اإلخوان املسلمين املسجونين فيه‬
‫ا‬
‫جميعا بصورة وحشية في‬ ‫مصادر مختلفة أن عدد القتلى تراوح ‪-‬يومها‪ -‬بين ‪ 550‬و ‪ 1000‬معتقل‪ ،‬تم قتلهم‬
‫‪39‬‬ ‫زنازينهم ر ا‬
‫ميا بالرصاص‪.‬‬

‫لم تمنع التدابير القمعية التي اعتمدها النظام السوري ضد اإلخوان املسلمين استمرار معارضة هؤًلء‪ ،‬بل‬
‫على النقيض من ذلك‪ ،‬ومع نهاية عام ‪ّ ،1980‬‬
‫تكون تحالف ّ‬
‫ضم العديد من الجماعات اإلسالمية بقيادة‬

‫‪ - 37‬انظر‪ ،‬زين العابدين ص‪ ،439‬وكذلك فان دام‪ ،‬ص‪.130‬‬


‫عددا من الشخصيات السياسية اللبنانية والفلسطينية والسورية املعارضة للنظام السوري‪ ،‬ومن أبرز ضحاياها‪ :‬كمال‬ ‫‪ - 38‬طالت هذه الحملة ا‬
‫جنبالط (آذار‪ /‬مارس ‪ ،)1977‬صالح الدين البيطار (تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)1980‬الصحفي اللبناني رياض طه (تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)1980‬الصحفي اللبناني‬
‫سليم اللوزي (آذار‪ /‬مارس ‪ ،)1980‬الزعيم اللبناني موس ى شعيب (تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)1980‬الزعيم البعثي علي الزين (تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)1980‬األستاذ‬
‫عبد الوهاب البكري في عمان (تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)1980‬بنان الطنطاوي التي قتلت في محاولة ًلغتيال زوجها عصام العطار في أملانيا (آذار‪ /‬مارس‬
‫‪ ،)1981‬نزار الصباغ الذي اغتيل في اسبانيا (تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر ‪ ،)1981‬العميد سعد صايل قائد فلسطيني في البقاع (أيلول‪ /‬سبتمبر‬
‫‪ ،)1982‬كما تم اختطاف املحامي السوري في قبرص نعمان قواف واقتيد إلى دمشق في فبراير ‪ ،1982‬وتم تفجير مبنى مجلة الوطن العربي في‬
‫باريس في شهر نيسان‪ /‬أبريل ‪ .1982‬انظر بشير زين الدين‪ ،‬ص ‪.439‬‬
‫‪ - 39‬انظر‪ ،‬فان دام ص‪ ،152‬وزين العابدين ص‪.439‬‬

‫‪25‬‬
‫اإلخوان املسلمين باسم "الجبهة اإلسالمية في سورية"‪ ،‬ثم أصد ت ا‬
‫بيانا ًّ‬
‫ثوريا تحت عنوان "بيان الثورة‬ ‫ر‬
‫اإلسالمية في سورية‪ ،‬ومناهجها"‪ ،‬دعت فيه العلويين إلى مراجعة حساباتهم‪ ،‬والعودة للتعقل قبل فوات‬
‫األوان؛ حيث "وصلت األمور إلى مرحلة الالعودة"‪ ،‬وأنه "لن تكون هناك هدنة مع النظام قبل انهياره وذهابه‬
‫ا‬
‫إلى غير رجعة"‪ .40‬في املقابل لجأت السلطات السورية إلى سياسة أدت إلى إذكاء الصراع بدًل من احتوائه؛‬
‫ّ‬
‫فقامت بتطهير أجهزة األمن والجيش من العناصر السنية‪ ،‬وإحالل العلويين مكانها‪ ،‬إذ تردد الحديث في‬
‫شهر أيار‪ /‬مايو ‪ ،1980‬عن قيام النظام السوري بتسريح ‪ 900‬ضابط وضابط صف من الجيش وأجهزة‬
‫األمن‪ ،‬وإحالة عدد آخر من العسكريين ّ‬
‫السنة إلى وظائف مدنية‪ 41.‬ومع استمرار التوتر األمني والعسكري‬
‫وصلت املواجهات الدموية إلى ذروتها في شباط‪ /‬فبراير ‪ ،1982‬في مدينة حماه؛ حيث قامت فرق الجيش‬
‫السوري‪ ،‬مدعمة بالدبابات واملدفعية الثقيلة وراجمات الصورايخ والطائرات املروحية‪ ،‬بحملة عسكرية‬
‫واسعة‪ ،‬قوامها ثالثون ألف جندي تولوا‪ ،‬على مدى أيام‪ ،‬تدمير املدينة القديمة بما فيها بعض أشهر مبانيها‬
‫التراثية‪ ،‬ودور عبادتها اإلسالمية واملسيحية‪ ،‬و"متحف العظم" الحافظ بعض ذاكرتها‪ ،‬وأخذت الصالح‬
‫بجريرة "الطالح"؛ فقتلت القوات ا‬
‫عددا من أهالي املدينة‪ ،‬خفضه النظام إلى ثالثة آًلف نسمة‪ ،‬ورفعه بعض‬
‫معا ضيه إلى أ بعين ا‬
‫ألفا‪ ،‬ومن قبيل محو الجريمة‪ ،‬أقيمت في مكان املدينة القديمة مدينة حديثة‪ ،‬ذات‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫طرقات عريضة‪ ،‬ومبان مرتفعة‪ ،‬ومتاجر ذات واجهات مزركشة‪ ،‬إًل أن قيامها فوق الجماجم واألنقاض‬
‫‪42‬‬
‫وسم "حداثيتها" تلك ببربرية يصعب تمويهها‪.‬‬

‫‪ - 40‬فان دام‪ ،‬ص‪.155‬‬


‫‪ - 41‬زين العابدين‪ ،‬ص‪،442‬‬
‫‪ - 42‬انظر‪ ،‬حازم صاغية‪ ،‬ص‪ ،93‬وفان دام ص‪.160‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ -4‬في طائفية "سورية األسد"‬
‫يذكر باتريك سيل في كتابه عن األسد‪ ،‬أنه في منزل "رفعت" باملزة‪ ،‬وقف األخوان آخر األمر ا‬
‫وجها لوجه‪،‬‬
‫فسأل حافظ‪" :‬أتريد أن تقلب النظام؟ هأنذا‪ .‬أنا النظام"‪ 43.‬والحقيقة بعد تلك الحادثة التي جرت في عام‬
‫‪ ،1983‬والتي كانت نهاية الصراع "األخوي" على السلطة‪ ،‬وبعد أن تخلص حافظ األسد ‪-‬قبل ذلك‪ -‬من‬
‫املعارضة اليمينية اإلسالمية‪ ،‬ممثلة باألخوان املسلمين‪ ،‬وتخلص من املعارضة اليسارية بجريرتها في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬حيث ّزج معظم أعضائها وأهم قادتها في السجون؛ لم يكن األسد هو النظام فحسب‪ ،‬بل أصبح ملك‬
‫سورية بال منازع‪ ،‬إنها "سورية األسد"! وفي سورية األسد حيث كان الكالم الصريح في الطوائف والطائفية‬
‫ا‬
‫محرما كانت أجهزة الدولة‪ ،‬أهم مفاصلها ومؤسساتها‪ ،‬بيد الثقات واألقارب من الطائفة العلوية‪ ،‬وكانت‬
‫ظاهرة "العلي"‪( ،‬أشهرهم علي دوبا‪ ،‬علي أصالن‪ ،‬علي حيدر‪ ،‬وعلي حبيب ‪..‬الخ)‪ ،‬هي األقوى في األمن‬
‫ا‬
‫سيطرا عليها بشكل‬ ‫والدفاع‪ ،‬كما كانت أجهزة األمن التي تدربت وتأهلت وأخذت مجدها منذ عام ‪ُ ،1978‬م‬
‫شبه مطلق من العلويين‪ ،‬هذا إضافة إلى جهاز اإلعالم الذي تناوب على قيادته وزراء علويون في كامل العهد‬
‫ًّ‬
‫وعضويا في نظام األسد؛ ففي‬ ‫ياديا‬ ‫األسدي األول‪ ،‬وفي ذاك العهد ا‬
‫أيضا لعب جهازي األمن واإلعالم دو ارا ر ًّ‬
‫الوقت الذي كان دور أجهزة األمن منع تسمية األشياء بمسمياتها‪ ،‬كان دور الجهاز اإلعالمي تسمية األشياء‬
‫بغير مسمياتها‪ ،‬وفي الوقت الذي كانت سورية بأمس الحاجة إلى نزع سياسة األمن وإعادة األمن ا‬
‫أمنا ًّ‬
‫وطنيا‪،‬‬
‫ا‬
‫وطنيا‪ ،‬ونزع حزبية الدولة ور ّدها دولة وطنية‪ ،‬فإن العكس هو ما‬‫جيشا ًّ‬ ‫"عقيدية" الجيش ور ّده‬
‫ّ‬ ‫ونزع‬
‫ا‬ ‫حصل‪ 44.‬أي أن أجهزة األمن باتت هي الجهة األكثر إر ا‬
‫عابا للسوريين‪ ،‬واألكثر إخالًل بأمنهم؛ وبحصانة‬
‫"قانونية"‪ ،‬والجيش أصبح أكثر عقائدية ووًلء "للحزب والقائد"‪ ،‬بعد أن أصبح الوطن ًل يعني ًّ‬
‫عمليا أكثر‬
‫من النظام ذاته‪ ،‬وأما حزب البعث فقد ّ‬
‫تحول أداة هيمنة شعبية لصناعة "الطالئع" و"الشبيبة" و"اتحاد‬
‫الطلبة" الجامعي‪ ،‬فيما بقي األسد ذاته واألقربون (األولى بالسلطة)؛ وًل ّ‬
‫سيما من يحملون كرت الوًلء‬
‫الطائفي‪ ،‬خارج اللعبة الحزبية‪ ،‬أو باألحرى فوقها‪.‬‬

‫‪ - 43‬باتريك سيل‪ :‬األسد‪ ،‬الصراع على الشرق األوسط‪ ،‬شركة املطبوعات للتوزيع والنشر‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة العاشرة ‪ ،2007‬ص ‪.702‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 44‬ياسين الحاج صالح‪ :‬السير على قدم واحدة‪ -‬سوريا املقالة‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2012‬ص‪.67‬‬

‫‪27‬‬
‫لكن األسد صاحب الهزائم الكبرى (‪-73 -67‬ولبنان ‪ -82‬ثم اتفاق أضنة ‪ ،)98‬واًلنتصارات الصغرى‬
‫(القضاء على جميع أشكال املعارضة من صالح جديد إلى أخوه رفعت‪ ،‬ومن اليمين اإلسالمي إلى اليسار‬
‫العلماني)‪ ،‬لم يكن ليثق بأحد من طائفته أو غيرها على اإلطالق‪ ،‬لذلك عمل على نشر انعدام الثقة من‬
‫ا‬
‫الجميع وبين الجميع‪ ،‬وهذا ما ساد فعال‪ ،‬سواء أكان بين القادة األمنيين أم القادة العسكريين‪ ،‬الطوائف‬
‫فيما بينها أم أهل الطائفة الواحدة فيما بينهم‪ ،‬وباملحصلة‪ ،‬كان خوف الناس بعضهم‪ ،‬وعدم الثقة املتبادل‬
‫بين جميع السوريين‪ ،‬هو الجائزة الكبرى التي ّ‬
‫سهلت قيادة األسد للسوريين‪ ،‬وجعلت الوشاية والفساد أشبه‬
‫بالعقد اًلجتماعي السوري‪ ،‬فمن يزرع الوشاية يحصد الوًلء‪ ،‬ومن يزرع الخوف يحصد الطاعة‪ ،‬أو التمرد‬
‫املطلق مثلما فعل السوريون في ثورتهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُبنيت طائفية "سورية األسد" على عدة ركائز‪ ،‬مغلفة بمقوًلت شكلية ًل تحوي أكثر من أضدادها‪ ،‬مثل‪)1( :‬‬
‫واحدا‪ ،‬أو كتلة سديمية غير متمايزة‪ ،‬خلف‬‫ا‬ ‫الوحدة الوطنية‪ :‬وكان معناها النظري هو الوقوف ا‬
‫صفا‬
‫"القيادة الحكيمة"‪ ،‬أما معناها العملي فهو صيانة اًلنقسام الطائفي املوجود‪ ،‬ومنع املنازعات الطائفية‬
‫املفتوحة بين الطوائف‪ )2( .‬العروبة‪ :‬وكان معناها النظري عروبة سورية املاهوية وقوميتها‪ ،‬أما معناها‬
‫العملي فهو طرد جميع القوميات السورية غير العربية من املجال الرمزي للوطنية السورية‪ ،‬وحرمان ما‬
‫يقارب الربع مليون كردي من الجنسية السورية‪ ،‬إضافة إلى احتكار معنى خاص وفضفاض للعروبة‪ّ ،‬‬
‫يسهل‬
‫تخوين عرب آخرين‪ ،‬مختلفين في التوجه والسياسة؛ بحيث لم يسلم بلد عربي‪ ،‬قريب أو بعيد‪ ،‬من تخوينات‬
‫نظام األسد األب وبعده اًلبن‪ ،‬وقد تم ذلك بحسب الحاجة والغرض السياس ي‪ )3( .‬الحزب القائد للدولة‬
‫واملجتمع‪ :‬لقد بات حزب البعث يبدو كطائفة مستقلة بين الطوائف‪ ،‬فقد كانت طائفة البعثيين تتميز‬
‫بدرجة عن طائفة األحزاب التابعة في "الجبهة الوطنية التقدمية"‪ ،‬وبدرجات (مرتبطة مباشرة بالتمايز في‬
‫التعليم والوظائف الحكومية والبروز اًلجتماعي ومعظم شؤون الحياة األخرى) عن طائفة غير الحزبيين أو‬
‫ا‬
‫"الحياديين اًليجابيين" كما سمتهم قوائم البعث‪ ،‬وتتميز إطالقا عن طائفة املعارضة السياسية املنبوذة‬
‫سرية غير مرخصة‪ ،‬وغير قابلة للترخيص‪ ،‬إضافة إلى حزب‬ ‫و"الخائنة"‪ ،‬املكونة من طائفة أحزاب يسارية ّ‬
‫ا‬
‫اإلخوان املسلمين الذي كان اًلنتساب إليه يعني حكما باإلعدام وفق قانون ‪ 49‬الشهير‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫جمهوريا‪ ،‬يقوم على حكم مدني ضعيف‪ ،‬ومؤسسة عسكرية‬ ‫ًّ‬ ‫ورثت سورية عن اًلنتداب الفرنس ي ا‬
‫نظاما‬
‫مهيمنة‪ ،‬يغلب عليها العنصر الطائفي‪ ،‬كما ذكرنا ا‬
‫سابقا‪ ،‬وعندما تولى حافظ أسد الحكم قام بترسيخ ذلك‬
‫اإلرث عن طريق إضعاف الحكم املدني‪ ،‬وربط توازن نظام الحكم بمجموعة من الفرق العسكرية واألجهزة‬
‫األمنية التي تغلغلت في أجهزة الدولة‪ ،‬وسيطرت على الحياة العامة‪ ،‬وقد تغلب في هذه األجهزة العنصر‬
‫العلوي؛ حيث يمكن مالحظة توظيف الطائفية في تشكيلة الفرق العسكرية التي تتولى أمن النظام‪ ،‬وتنتشر‬
‫يتكدس عناصرها في دمشق‪ ،‬ويتم اختيارهم على‬ ‫في العاصمة وضواحيها‪ ،‬وكذلك في األجهزة األمنية التي ّ‬

‫أسس طائفية وعشائرية‪.‬‬

‫وقد جاءت هذه السياسة نتيجة إلدراك الرئيس السوري خالل تجربته القاسية للوصول إلى السلطة خالل‬
‫فترة ‪ 1970 -1963‬بأن الطوائف تمنح أبناءها‪ :‬انتماء َع ًّ‬
‫قديا‪ ،‬ووحدة إقليمية‪ ،‬وعصبية قبلية في آن واحد‪،‬‬
‫وهو أمر ًل يتوفر لألغلبية السنية في املجتمع السوري؛ فقام بتوظيف تلك العناصر في سبيل تشييد النظام‬
‫الذي ترأسه ملدة ثالثة عقود‪ 45.‬ليستمر وريثه على النهج ذاته حتى يومنا هذا‪.‬‬

‫‪ -5‬نهاية األسد‪ ،‬بداية األسد‬


‫في العشرية األخيرة من القرن العشرين بدأت مظاهر الدولة الشمولية (التوتاليتارية) التي اكتسبتها‬
‫عدة‪ ،‬ذاتية وموضوعية؛ فمظاهر العوملة‬ ‫الجمهورية الشعبوية البعثية بالتفكك التد يجي؛ نتيجة عوامل ّ‬
‫ر‬
‫السياسية‪ ،‬اًلجتماعية واًلقتصادية‪ ،‬بدأت بالتمدد وإرغام جميع الدول والالعبين السياسيين على‬
‫"الت َع ُولم"‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما بعد انهيار اًلتحاد السوفياتي‪ ،‬وظهور أميركا كقطب أوحد مسيطر في العالم‪،‬‬ ‫َ‬
‫واألنموذج الرأسمالي الغربي كأنموذج منتصر تار ًّ‬
‫يخيا‪ً ،‬ل بل إنها "نهاية التاريخ"‪ ،‬كما أعلن املفكر األميركي‪/‬‬
‫تفسخ من السمات الشمولية هو أنموذج (القائد‬ ‫الياباني "فرانسيس فوكوياما"‪ ،‬وفي سورية " كان أبرز ما ّ‬
‫املؤسس على أيديولوجيا وطنية وقومية ر ّ‬
‫سالية‪ ،‬والذي يمثل في شخصيته وحدة الحزب‬ ‫الكاريزمي)‪َّ ،‬‬

‫‪ - 45‬زين العابدين‪ ،‬ص‪.496 -495‬‬

‫‪29‬‬
‫ًّ‬
‫سياسيا فقد التقط حافظ األسد لحظة السقوط التاريخي لالتحاد السوفياتي‬ ‫والدولة واملجتمع‪ 46"،‬أما‬
‫ليبدأ مباشرة بتوجيه البوصلة نحو األميركان والتنسيق معهم‪ ،‬فاشترك في التحالف الدولي في الحرب على‬
‫العراق عام ‪ ،1991‬تحت القيادة األميركية؛ مما ينسف املبدأ القومي الذي تأسس عليه البعث‪ ،‬فأرسل‬
‫قواته العسكرية بقيادة العماد علي حبيب للمشاركة في التحالف ؛ فحصل مقابل ذلك على مباركة أميركية‬
‫كسيد مطلق حتى‬‫إلرسال قواته إلى لبنان من جديد‪ ،‬وطرد ميشيل عون من بعبدا بالقوة؛ ليتربع هناك ّ‬
‫اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري عام ‪ ،2005‬والخروج املذل للجيش السوري من لبنان بعد ذلك‬
‫بأشهر‪.‬‬

‫"بعد وفاة باسل األسد في ‪ ،1994‬ظهر العديد من امللصقات والصور الجدارية‪ ،‬في جميع أنحاء سورية‪،‬‬
‫َّ‬
‫تحمل صورة الرئيس حافظ وابنه املتوفى‪ ،‬وفي عام ‪ 1995‬بدأت تظهر صور الرئيس مع اًلبن الراحل باسل‬
‫ا‬
‫وبشار معا‪ 47".‬و"قد تسبب مصرع باسل في إذكاء نار الخالف بين أجنحة الحكم من جديد‪ ،‬فلم يكن أقطاب‬
‫السلطة واثقين من قدرة شقيقه بشار على إدارة دفة البالد‪ ،‬ونظر كثير منهم إلى دورهم في حماية أمن‬
‫ا‬
‫النظام منذ أوائل السبعينيات من القرن املنصرم‪ ،‬وإلى أحقيتهم في تولي الرئاسة‪ ،‬بدًل من ذلك الشاب‬
‫اليافع الذي ًل يملك من مؤهالت القيادة ما يدفعهم لإلذعان له‪ ،‬ولم يتمكن املعارضون لتولي بشار الحكم‬
‫من إخفاء تذمرهم من ترتيبات الخالفة‪ ،‬وتشككهم في إمكانات املرشح الجديد‪ .‬وتزعم هذه املجموعة العماد‬
‫علي حيدر‪ ،‬الذي سجن عدة أشهر بعد عزله عن منصبه‪ ،‬ثم فرضت عليه اإلقامة الجبرية في منزله عام‬
‫‪48‬‬ ‫‪ ،1994‬وتبع ذلك سلسلة من التسريحات شملت جميع الضباط ّ‬
‫املتنفذين في ذلك الجناح املعارض"‪.‬‬
‫ا‬
‫جيال من الشباب (العلوي) الذي يتكون ًّ‬
‫جزئيا من أبناء‬ ‫ومع صعود بشار األسد قمة هرم السلطة بدا وكأن‬
‫وأقارب األلوية العلويين كان في طريقه إلى التكوين؛ ليخلف في النهاية الجيل السابق‪ .‬وقد دلت بعض‬

‫‪ - 46‬جمال باروت‪ ،‬ص‪.143‬‬


‫‪ - 47‬فان دام‪ ،‬ص‪.185‬‬
‫‪ - 48‬زين العابدين‪ ،‬ص ‪.521-520‬‬

‫‪30‬‬
‫التزكيات والتنقالت والتسريحات‪ 49،‬داخل القوات املسلحة واملخابرات وفروع األمن عامي ‪ 1994‬و‪،1995‬‬
‫على أن هذا هو اًلتجاه املتبع‪ 50.‬لكن جيل الشباب هذا لم يقتصر على أوًلد الضباط العلويين‪ ،‬بل شمل‬
‫معظم أوًلد املسؤولين األمنيين والعسكريين والحزبيين القدامى‪ ،‬ولم يتوقف عند حدود الخالفة في‬
‫املناصب العسكرية واألمنية‪ ،‬بل تعداها نحو السيطرة على اًلقتصاد‪ ،‬بعد اًلنفتاح اًلقتصادي الرأسمالي‬
‫"امللبرل" الذي وسم مرحلة بشار األسد‪ ،‬وهؤًلء هم من يسميهم الباحث جمال باروت (املئة الكبار)‪ 51‬الذين‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ ،‬كان دورهم الداعم للنظام كبيرا أثناء الثورة السورية‪ ،‬عالوة على سيطرتهم اًلقتصادية بقيادة ابن خال‬
‫بشار "رامي مخلوف"‪.‬‬

‫قبل وفاة حافظ األسد بفترة وجيزة ُعقد املؤتمر التاسع لحزب البعث عام ‪2000‬؛ ليخرج بصورة جديدة‪،‬‬
‫ُم ا‬
‫هيئا األوضاع ‪-‬جميعها‪ -‬لتسليم بشار األسد السلطة؛ فبينما حافظ الجيش على صورته التقليدية‪ّ ،‬‬
‫وأمن‬
‫جميع الضباط املوالين لبشار أماكنهم في اللجنة املركزية للحزب‪ ،‬ظهر جناح جديد للسلطة خارج هذا‬
‫الكيان‪ ،‬وأبرز أقطاب هذا الجناح‪ :‬اللواء عدنان مخلوف‪ ،‬اللواء آصف شوكت‪ ،‬اللواء بهجت سليمان‪،‬‬
‫اللواء خالد الحسين‪ ،‬وغيرهم من كبار الضباط‪ ،‬من األقارب وأبناء العمومة واألصهار‪ .‬وفي اليوم التالي لوفاة‬
‫حافظ األسد في العاشر من حزيران‪/‬يونيو عام ‪ ،2000‬أعلن عبد الحليم خدام بصفته الدستورية ‪-‬آنذاك‪-‬‬
‫تعيين بشار ا‬
‫قائدا للقوات املسلحة السورية‪ ،‬وترقيته إلى رتبة فريق‪ ،‬وهي أعلى رتبة عسكرية في الجيش‬
‫صوت مجلس الشعب ‪-‬‬ ‫السوري‪ .‬ثم في ‪ 17‬حزيران‪ /‬يونيو خلف بشار والده كأمين عام لحزب البعث؛ ثم ّ‬

‫‪ - 49‬أخذت هذه التسريحات صفة التدرج وشملت من العلويين‪ :‬العماد علي حيدر‪ ،‬اللواء علي دوبا‪ ،‬اللواء علي صالح‪ ،‬اللواء محمد الخولي‪،‬‬
‫اللواء محمد ناصيف‪ ،‬وزير اإلعالم محمد سلمان‪ ،‬وزير النقل مفيد عبد الكريم‪ ،‬وتم إعفاء رفعت األسد من منصبه كنائب للرئيس عام ‪.1998‬‬
‫ومن السنة‪ :‬رئيس هيئة األركان العماد حكمت الشهابي‪ ،‬رئيس الوزراء محمود الزعبي‪ ،‬نائب رئيس الوزراء سليم ياسين‪ ،‬مدير املخابرات العامة‬
‫اللواء بشير نجار‪ ،‬وكذلك رئيس الوزراء األسبق عبد الرؤوف الكسم الذي ترأس مكتب األمن القومي عام ‪ 1987‬وتم إعفاؤه من عضوية القيادة‬
‫القطرية لحزب البعث عام ‪ .2000‬انظر بشير زين الدين‪ ،‬ص‪.521‬‬
‫‪ - 50‬فان دام‪ ،‬ص‪.183‬‬
‫‪ - 51‬انظر‪ ،‬جمال باروت‪ ،‬ص‪ 152‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫باإلجماع‪ -‬على تعديل نص الدستور الذي يشترط أن يكون سن رئيس الجمهورية أربعين ا‬
‫عاما‪ ،‬بحيث أصبح‬
‫بيعا‪ ،‬وفي الحادي عشر من شهر تموز‪ /‬يوليو أعلن وزير‬ ‫متناسبا مع ّ‬
‫سن بشار ذي الرابع والثالثين ر ا‬ ‫ا‬
‫الداخلية السوري األسبق محمد حربا فوز املرشح الوحيد في انتخابات الرئاسة بشار األسد بنسبة ‪97.29‬‬
‫باملئة‪ 52،‬لتدخل سورية بعدها القرن الجديد برئيس جديد‪ ،‬وآمال كبيرة بالتغيير‪ ،‬تحطمت جميعها على‬
‫صخرة الواقع الوراثي للرئاسة واستمرار النهج‪.‬‬

‫ر ا‬
‫ابعا‪ :‬الثورة السورية والتاريخ املستعاد‬
‫‪ -1‬في هزلية التكراراألسدي‪ ،‬ومأساته‬
‫تميز عهد بشار األسد بثالث سمات رئيسة‪ ،‬طبعت حكمه بطابعها خالل العقد الذي سبق اندًلع الثورة‬
‫السورية نجملها في ما يلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫السمة األولى كانت عبارة عن انفتاح اقتصادي "رأسمالي ُم ْلب َرل"‪ ،‬أطلق عليه اصطالح "اقتصاد‬ ‫‪-1‬‬
‫السوق اًلجتماعي"‪ ،‬ترافق مع سيطرة عائلة األسد‪ ،‬ومخلوف‪ ،‬والدائرة القريبة واملحيطة بهم‪،‬‬
‫على أكثر من ثلثي اًلقتصاد السوري‪ ،‬وصعود نمط السيطرة اًلقتصادية السلطوية‬
‫"املافيوية" على مقدرات البلد إلى الواجهة‪ ،‬مع تراجع محدود للقبضة األمنية العسكرية‬
‫ّ‬
‫التحول اًلقتصادي على النحو‬ ‫الحديدية املغلقة التي ّميزت عهد األسد‪ /‬األب‪ .‬إًل أن طبيعة‬
‫املافيوي املذكور‪ ،‬وضمن منهج التطوير والتحديث لألسد‪ /‬اًلبن؛ أدت إلى فساد مالي وإداري‬
‫عم جميع املؤسسات الحكومية‪ ،‬وغير الحكومية‪ ،‬السورية‪ ،‬في حالة لم يسبق لسورية أن‬ ‫َّ‬
‫عاشت مثلها في تاريخها الحديث؛ حتى أصبح لدينا ما يمكن وصفه بـ "التعاقد اًلجتماعي على‬
‫الفساد"‪ ،‬إذ باتت الرشوة والوصولية واًلنتهازية والوساطة واًلستزًلم الشرط "الطبيعي" الذي‬

‫‪ - 52‬زين العابدين‪ ،‬ص‪.523-522‬‬

‫‪32‬‬
‫َّ‬
‫يواجه السوريون حيثما ولوا وجوههم داخل سورية‪ .‬والحقيقة أن "اقتصاد السوق اًلجتماعي"‬
‫ّ‬
‫(تحسن أحوال‬ ‫الذي تم طرحه لم يكن ا‬
‫أمرا يتعلق ًل بالسوق (التنافس) وًل باًلجتماعي‬
‫ّ‬
‫وشروط مجتمع العمل)‪ ،‬وإنما باندماج الثروة والسلطة؛ فقد تخلت السلطات السورية ‪-‬‬
‫ًّ‬
‫عمليا‪ -‬عن العقد الشعبوي العائد إلى الزمن "اًلشتراكي" القديم‪ ،‬دون أن تتنازل ولو عن قسط‬
‫ّ‬
‫محمية من االنظام بالذات‪،‬‬ ‫قليل من احتكارها السياس ي‪ ،‬بل ّإن "البرجوازية الجديدة" كانت‬
‫في الوقت الذي بقي فيه مجتمع العمل مكبل اليدين واللسان‪ ،‬وعلى هذا النحو أخذ النظام‬
‫ّ‬
‫ُيظهر مالمح تسلطية‪ ،‬تجمع بين لبرلة اًلقتصاد ‪ ،‬واًلحتكار السياس ي‪ ،‬في آن واحد‪ .‬وأبرز‬
‫املالمح اًلجتماعية لهذا النموذج أن السلطات ضعيفة أمام األقوياء النافذين من أصحاب‬
‫الثروات املحليين واألجانب‪ ،‬وقوية في مواجهة الضعفاء اًلجتماعيين والسياسيين‪.‬‬

‫أما السمة الثانية‪ ،‬فتمثلت بنهاية التوازن اإلقليمي‪ ،‬الذي سار عليه حافظ األسد بين املحور‬ ‫‪-2‬‬
‫اإليراني من جهة واملحور السعودي املصري من جهة ثانية‪ ،‬وخسارة سورية لجزء من وزنها‬
‫اإلقليمي وجزء أكبر من استقاللها وقرارها السياس ي؛ ذلك بعد ارتمائها شبه الكلي في الحضن‬
‫اإليراني‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما بعد اًلحتالل األميركي للعراق‪ ،‬وعودة النظام السوري إلى ما خبره في أواخر‬
‫السبعينيات من صناعة اإلرهاب‪ ،‬وتصديره‪ ،‬واستخدامه بحسب الحاجة‪ ،‬و بالتنسيق مع‬
‫إيران هذه املرة؛ للضغط على األميركان في العراق (ابتزازهم والتقرب منهم في الوقت ذاته)‪ّ ،‬‬
‫وغني‬
‫عن الذكر ّأن ورقة اإل هاب قد أتت ُأكلها‪ ،‬سواء في العراق ا‬
‫سابقا أم في سورية خالل الثورة‬ ‫ر‬
‫السورية؛ إذ استفاد منها النظام استفادة قصوى‪ ،‬وما زال يقطف ثمارها العفنة إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫إضافة إلى ما سبق‪ ،‬وفي السياق ذاته‪ّ ،‬‬
‫تحول الدور السوري في لبنان من اًلحتالل والسيطرة‬
‫املباشرة‪ ،‬قبل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري‪ ،‬إلى السيطرة غير املباشرة بعد‬
‫خروج الجيش السوري‪ ،‬واستخدام حزب هللا‪ ،‬ذي املرجعية اإليرانية؛ إلرهاب لبنان‬
‫واللبنانيين‪ ،‬واستعادة السيطرة السورية على القرار اللبناني بواسطته؛ فعادت من النافذة‬
‫ُ‬
‫بعد أن أخرجت من الباب‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫السمة الثالثة كانت نهاية األحالم واألوهام واآلمال والرغبات السورية‪ ،‬تلك التي رافقت وراثة‬ ‫‪-3‬‬
‫وتوهمت بإمكانية أن ُيجري الرئيس الشاب "الحضاري" اإلصالح واًلنفتاح‬‫بشار األسد الحكم‪ّ ،‬‬
‫السياس ي‪ ،‬بعد اإلغالق املحكم الذي أحكمه والده في وجه السوريين لثالثة عقود متتالية‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫خيبة السوريين كانت كبيرة مع أول خطاب للرئيس الجديد (خطاب القسم)‪ ،‬عندما أعلن‬
‫أولوية اإلصالح اإلداري واًلقتصادي ‪-‬الذي تفاقم خر اابا منذ خطابه‪ -‬على اإلصالح السياس ي‪،‬‬
‫ثم تتالت الخيبات بعد املصير الذي آل إليه "ربيع دمشق"‪ ،‬والذي بدأ بإنشاء املنتديات‬
‫السياسية غير الرسمية التي ُعقدت لتشجيع النقاش املفتوح في القضايا السياسية وقضايا‬
‫املجتمع املدني‪ ،‬كـ"منتدى الحوار الوطني" الذي أنشأه رياض سيف‪ ،‬و"منتدى جمال األتاس ي"‬
‫ُ ّ‬
‫الذي أنشأته سهير األتاس ي‪ ،‬ثم شكلت لجان إحياء املجتمع املدني في سورية‪ ،‬وأعلنت مطالبها‬
‫عبر بيان الـ‪ 99‬ا‬
‫مثقفا‪ ،‬ثم في بيان الـ ‪ 1000‬في عام ‪ ،2001‬ولم يقترب البيانان من الدعوة إلى‬
‫ّ‬
‫تغيير النظام‪ ،‬أو يطعن في شرعية خالفة بشار األسد أبيه في منصب رئاسة الجمهورية‪ ،‬وإنما‬
‫اقتصرت املطالب على إجراء اإلصالح السياس ي والقضائي‪ ،‬والسماح بالتعددية السياسية‬
‫والفكرية في ظل سيادة القانون‪ ،‬ورفع حالة الطوارئ املفروضة منذ عام ‪ ،1963‬والتي لم‬
‫يترافق إعالنها‪ ،‬وًل استمرارها‪ ،‬مع أي حالة حرب مع إسرائيل‪ ،‬و مع األسف؛ لم يزهر "ربيع‬
‫دمشق" سوى اعتقاًلت سياسية جديدة؛ فعلى عادة النظام السوري التاريخية في مزامنة‬
‫"غزواته" مع غزوات جيرانه اإلسرائيليين أو آبائهم األميركيين‪ ،‬فقد زامن ‪-‬هذه املرة‪ -‬اعتقال‬
‫أهم رموز وقيادات لجان إحياء املجتمع املدني‪ ،‬كعارف دليلة‪ ،‬ورياض سيف‪ ،‬وميشيل كيلو‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬مع اقتحام الجيش اإلسرائيلي ‪-‬في ظل حكومة شارون‪ -‬مخيم جنين الفلسطيني‬
‫وارتكابه مجزرة مروعة هناك‪ُ .‬ويقال‪ّ :‬إن من قاد عملية القضاء على "ربيع دمشق" حينها‪ ،‬هو‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫وتخويفا من اإلصالح السياس ي؛‬ ‫عبد الحليم خدام "أكثر البيروقراطيين السياسيين محافظة‬
‫‪53‬‬ ‫ّ‬
‫بحجة انتهاء األشهر الستة املمنوحة‪ ،‬والخوف من "الجزأرة" في سورية‪".‬‬

‫‪ - 53‬جمال باروت‪ ،‬ص‪.46‬‬

‫‪34‬‬
‫بعد ذلك بأربع سنوات جاء "إعالن دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي"؛ ليشكل ّأول إعالن‬
‫ّ‬
‫"التجمع الوطني‬ ‫سياس ي من الداخل‪ ،‬باشتراك أحزاب يسا ية معا ضة ّ‬
‫عدة‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الديمقراطي في سورية" بأحزابه الستة‪ ،‬إلى جانب "التحالف الديمقراطي الكردي"‪ ،‬و"لجان‬
‫إحياء املجتمع املدني"‪ ،‬و"اللجنة السورية لحقوق اإلنسان"‪...‬إلخ‪ ،‬إضافة إلى اإلخوان املسلمين‬
‫ا‬
‫كامال عبر بيان‪ ،‬قرأه ا‬ ‫الذين ّأيدوا اإلعالن ا‬
‫علنا علي العبدهللا في منتدى جمال األتاس ي‪،‬‬ ‫تأييدا‬
‫ودفع حريته ا‬
‫ثمنا لتلك القراءة‪ .‬لكن بشار األسد لم يتزحزح عن وجه نظامه "املمانع"‪ ،‬في منع‬
‫السياسة عن السوريين؛ فأمر باعتقال ومالحقة املوقعين على اإلعالن؛ لتنطفئ ‪-‬بعدها‪ -‬نار‬
‫ُ‬
‫الحراك السياس ي السوري املعارض‪ ،‬النار التي لم ُيستأنف اشتعالها إًل بداية الثورة السورية‬
‫عام ‪.2011‬‬

‫‪ -2‬اًلستثناء السوري في سياق الربيع العربي‬


‫ّ‬
‫لقد شكلت قضية الحرية إزاء اًلستبداد ‪-‬منذ فجر التاريخ‪ -‬وجود السياسة ذاتها‪ ،‬ومع أن الثورات‪ ،‬بمعناها‬
‫‪54‬‬ ‫السياس ي اًلجتماعي‪ ،‬لم تكن موجودة قبل العصر الحديث؛ ّ‬
‫فإن هدف الثورة كان‪ ،‬ولم يزل‪ ،‬هو الحرية‪.‬‬
‫والثورة "عملية اجتماعية سياسية‪ ،‬تسهم في إطالقها مجموعة معقدة ا‬
‫جدا من العوامل‪ ،‬وتختلف دوافع‬
‫وأهداف وغايات املنخرطين فيها‪ ،‬سواء أكانوا فاعلين أم متورطين‪ .‬وهي عملية "مفاجئة" كذلك‪ ،‬بمعنى أنها‬
‫تتفجر من وقائع "بسيطة" غير متوقعة‪ ،‬تشرحها نظرية "املصادفة" أو "الفوض ى"‪ ،‬وليس نظرية السببية‬
‫ّ‬
‫التاريخية؛ فالنظرية األخيرة تشرح اًلتجاهات الكلية في التاريخ الطويل‪ ،‬بمنهج مفكر التاريخ‪ً ،‬ل بمنهج‬
‫ّ‬
‫املعني بما حدث من وقائع وسيرورات‪ ،‬على الرغم من أن املؤرخ املجهري يعتني ببروز آثار التاريخ‬ ‫ّ‬
‫املؤرخ‬
‫الطويل في نقطته املجهرية"‪ 55.‬وًل تحدث الثورات وفق وصفات‪ ،‬بل تنتج كل ثورة سيرورتها ومنطقها‪ّ .‬‬
‫ويؤدي‬

‫‪ْ ّ 54‬‬
‫حنة أرندت‪ :‬في الثورة‪ ،‬ترجمة عطا عبد الوهاب‪ ،‬مراجعة رامز بورسالن‪ ،‬املنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫أيلول‪ /‬سبتمبر ‪ ،2008‬ص‪.14-13‬‬
‫‪ - 55‬جمال باروت‪ ،‬ص‪.304-303‬‬

‫‪35‬‬
‫"املفاجئ" و"العشوائي" دو ارا أكثر برو ازا وأهمية من السببي‪ ،‬وما يلبث حتى ّ‬
‫يورط اآلخرين فيه‪ ،‬وعملية‬
‫‪56‬‬ ‫ّ‬
‫التورط هي تحول "قابلية الثورة" إلى "ثورة"‪.‬‬
‫وفي الثورات العربية "ربما كانت دوافع الناس إلى املشاركة في اًلحتجاج غير واضحة ا‬
‫دائما للمحللين؛ فربما‬
‫كانت النقمة الشعبية املتراكمة ضد األنظمة هي األساس‪ ،‬ونقصد الغضب املتراكم بسبب الفساد‪ ،‬والبطالة‬
‫ّ‬
‫وجحيمية الحياة اليومية‪ ،‬والحرمان اًلجتماعي والسياس ي‪،‬‬ ‫والفقر وهشاشة األمان اًلجتماعي واإلنساني‪،‬‬
‫واإلهانة واإلذًلل وانعدام الحريات‪ ،‬وسوء تعامل أجهزة األمن مع املواطنين‪ ،‬وإذًلل املواطن كطريقة عادية‬
‫في العالقة بين األفراد و جهاز الدولة‪ ،‬وانتشار "الزبائنية" و"املحسوبية" من األلف إلى الياء‪ ،‬وانعدام‬
‫السيادة في العالقة مع الخارج‪ ...‬وغيرها‪ 57 "،‬وتلك سمات ّ‬
‫عامة‪ ،‬تشاركت وتشابهت فيها املجتمعات العربية‬
‫الثائرة‪ ،‬شأنها شأن تشابه الطبائع الديكتاتورية لحكامها‪ ،‬ومن هذه الزاوية للرؤية‪ ،‬لم تكن مصر غير تونس‬
‫وغير ليبيا وغير اليمن‪ ،‬أو غير سورية‪ّ ،‬أما الفوارق‪ ،‬فظهرت ‪-‬في ما بعد‪ -‬من خالل الطريقة التي ر ّد بها كل‬
‫نظام على محكوميه‪ ،‬وفي طبيعة التحالفات اإلقليمية والدولية التي أقامها كل نظام ضد شعبه‪ ،‬وفي مواقف‬
‫الجيوش النظامية‪ ،‬وعقائدها األيديولوجية‪ ،‬وتركيباتها الوطنية أو الطائفية‪.‬‬
‫أما في الثورة السورية ّ‬
‫فنرجح القول‪ :‬إن معظم الشروط واألوضاع كانت مختلفة‪ ،‬وربما استثنائية‪ ،‬ليس‬
‫ّ‬
‫عن مصر أو تونس أو غيرها فحسب‪ ،‬وإنما عن أغلب ثورات العالم كذلك‪ ،‬فمنذ زمن طويل كان حافظ‬
‫األسد قد أدرك أهمية وجود إسرائيل على حدوده‪ ،‬وعندما نذكر إسرائيل‪ ،‬فنحن نتحدث عن تشكيلة‬
‫ًّ‬
‫وغربيا‪ ،‬أي أن كل خطر على إسرائيل هو خطر على العالم‬ ‫ًّ‬
‫أمريكيا‬ ‫اجتماعية سياسية اقتصادية محمية‬
‫األول‪ ،‬املتقدم؛ لذلك يشكل وجود إسرائيل نقمة كبرى على املنطقة بأسرها‪ ،‬لكنه ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬نعمة‬
‫كبرى لنظام طائفي ديكتاتوري يريد البقاء "إلى األبد"‪ ،‬فسياسة "اللعب على شفير الهاوية" التي أتقنها حافظ‬
‫جيدا‪ ،‬منذ حرب تشرين "التحريرية"‪ ،‬لم تكن أكثر من بناء عالقة وجودية تقرن أمن إسرائيل‬ ‫األسد ا‬

‫‪ - 56‬جمال باروت‪ ،‬ص‪.306‬‬


‫‪ - 57‬عزمي بشارة‪ :‬في الثورة والقابلية للثورة‪ ،‬دراسة‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬معهد الدوحة‪ ،2011 ،‬نسخة إلكترونية‪،‬‬
‫ص‪.73‬‬

‫‪36‬‬
‫و"استقرا ها" بأمن النظام السوري واستقرا ه‪ ،‬آخذين بعين اًلعتبار الفارق الكبير بين معنى َ‬
‫"األمن ْين"؛ إذ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ّأن املر َاد بأمن إسرائيل هو أمن دولة إسرائيل‪ ،‬أما املقصود بأمن سورية فهو أمن النظام السوري‪ً ،‬ل الدولة‬
‫السورية؛ لذلك نجد أن كل اعتداءات إسرائيل على األراض ي السورية‪ ،‬منذ اتفاقية فصل القوات عام‬
‫‪ ،1974‬لم ُي َر ّد عليها ولو برصاصة واحدة؛ فاملهم هو النظام ًل الدولة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وبتحليل أوسع‪ ،‬نجد ّأن املقصود بأمن إسرائيل ‪ -‬ا‬
‫أيضا‪ -‬ليس أمنها من اعتداءات النظام عليها‪ ،‬وإنما أمنها‬
‫من سقوطه؛ وعلى هذا األساس ُو ِّضعت استراتيجية نسميها ‪-‬هنا‪" -‬استراتيجية توازن القلق"‪ ،‬بحيث يتوازى‬
‫وص ّنعت األسلحة اًلستراتيجية (الكيماوية‬
‫القلق اإلسرائيلي من وجود النظام مع القلق من غيابه؛ لذلك ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والبيولوجية)‪ ،‬وأقيمت العالقة الصلبة مع إيران‪ ،‬وأنش ئ حزب هللا‪ُ ،‬وبني التشابك األمني السوري في جميع‬
‫قضايا املنطقة؛ بحيث يبقى النظام السوري ‪-‬بالنسبة إلسرائيل‪" -‬العشيق املرذول"‪ .‬وفي املقابل فإن أبنية‬
‫النظام السوري‪ ،‬على هذا األساس "املمانع"‪ ،‬كانت هي العامل الجوهري في شرعيته الداخلية التي ترتكز ‪-‬‬
‫ّ‬
‫مستمدة من القوة الخارجية املفترضة‪،‬‬ ‫ا‬
‫دائما‪ -‬على تلك املقومات الخارجية‪ ،‬أي أن الشرعية الداخلية‬
‫وعناصر تلك القوة الخارجية ّ‬
‫مجرد أور ٍاق للمقايضة (مثلما رأينا في امللف الكيماوي السوري) طاملا أنها ًل‬
‫تستند إلى أي شرعية ديمقراطية داخلية‪ .‬وقد أدرك النظام السوري ا‬
‫دائما هذه املعادلة‪ ،‬إًل أنه ‪-‬خالل‬
‫الثورة‪ -‬أخرج جميع أوراقه للعلن دون حياء‪ ،‬و عادت سياسة اللعب على حافة الهاوية إلى الواجهة‪،‬‬
‫فالصراع الذي تحول مع إسرائيل‪ ،‬منذ مؤتمر مدريد ‪ ،1991‬إلى صراع حدود‪ ،‬أصبح مع الثورة السورية‬
‫صراع وجود‪ ،‬وفي صراع الوجود يصبح شعار "نحن أو الفوض ى" حقيقة واقعة‪ ،‬وموجهة للخارج‪ ،‬مقابل‬
‫َّ ا‬
‫دة في شعار "األسد أو نحرق البلد"؛ ولذلك نرى‬‫الحقيقة األخرى املكملة لها‪ ،‬واملوجهة إلى الداخل‪ ،‬مجس‬
‫تقريبا‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما الفاعلين الدوليين واإلقليميين‪ ،‬واملحليين كذلك‪،‬‬ ‫شراكة الخوف من األسوأ توحد الجميع ا‬
‫الود للنظام‪ ،‬ولكن ًل أحد ّ‬
‫يود زواله في الوقت ذاته‪ ،‬والنظام ‪-‬من‬ ‫يكن عاطفة ّ‬ ‫وًل نظن بأن ا‬
‫أحدا من هؤًلء ّ‬
‫جهته‪ -‬يدرك ذلك ا‬
‫تماما‪ ،‬ويعرف أن تلك أحد أوراقه الهامة؛ إذ أن أحد األشياء التي يهدد بها العالم‪ ،‬وًل‬

‫‪37‬‬
‫ّ‬
‫سيما إسرائيل‪ ،‬هي عواقب انهياره التي ستصيبها من بين من تصيب‪ ،‬وقد صرح ‪-‬منذ بداية الثورة‪ -‬رامي‬
‫مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز بأنه "لن يكون هناك استقرار في إسرائيل دون استقرار في سورية"‪.58‬‬
‫ا‬
‫أحيانا؛ فطائفية إسرائيل‬ ‫بعضا على الرغم من عدائها البيني‬‫ّإن األنظمة الطائفية تدافع عن بعضها ا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وشوفينيتها ظاهرة منذ تكوينها‪ ،‬وتتجلى في خفض القيمة األخالقية واإلنسانية لحياة الفلسطينيين‪ ،‬وتبرير‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قتلهم وتشريدهم‪ ،‬ككائنات أقل بش ّرية من بش ّرية الصهيونيين املتفوقة‪ ،‬ونبذ التعاطف واملتعاطفين معهم‬
‫من أنحاء العالم‪ ،‬بل واتهامهم بمعاداة السامية‪ ،‬وهي ًل ترض ى ‪-‬اليوم‪ -‬بأقل من إعالن يهودية الدولة؛ كذلك‬
‫يفعل النظام السوري منذ بداية الثورة؛ بل منذ أربعين ا‬
‫عاما‪ ،‬فهو ًل يقتل السوريين ألنهم أفراد وكائنات‬
‫بشرية‪ ،‬لها حياتها وعائالتها وأحباؤها ووجودها الخاص‪ ،‬بل ألنهم جراثيم‪ ،‬أو رعاع‪ ،‬أو حثالة‪ ،‬أو مندسين‪،‬‬
‫أو متآمرين‪ ،‬وأخي ارا؛ لكونهم سلفيين جهاديين وإرهابيين‪ ،‬فلكي ّ‬
‫تبرر الجريمة ًل ّبد من أن تشيطن اآلخر‪ ،‬أو‬
‫تخفض قيمته اإلنسانية إلى درجة الصفر‪ ،‬هذا دين النظام الطائفي وديدنه‪.‬‬

‫‪ -3‬ثالثة مظاهراستثنائية في الثورة السورية‬


‫خالل أكثر من ثالث سنوات‪ ،‬مرت الثورة السورية بمراحل متعددة ومتنوعة؛ فصعدت قوى وانهارت‬
‫أخرى‪ ،‬وتغيرت عوامل ديموغرافية وجيوسياسية واجتماعية واقتصادية وسياسية عدة‪ ،‬وعلى جميع‬
‫األصعدة‪ :‬املحلية واإلقليمية والدولية‪ ،‬ونحن سنترك للمؤرخين "املجهريين"‪ ،‬ومراكز توثيق اًلنتهاكات‬
‫العاملية واملحلية وغيرها‪ ،‬كيفية توثيق الثورة السورية‪ ،‬وتأريخ مراحل صعودها وهبوطها وتحوًلتها‪،‬‬
‫وتسجيل ضحاياها من األحياء واألموات‪ .‬وسنكتفي باإلشارة إلى ثالثة مظاهر استثنائية في الثورة‪ ،‬تبدو‬
‫متباعدة ودون رابط مباشر‪ ،‬إًل أن نتائجها متراكبة وحاسمة في مستقبل سورية على املدى القريب‬

‫‪ .http://www.damaspost.com/ - 58‬رابط حول تصريح رامي مخلوف‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫واملتوسط وحتى البعيد‪ ،‬وستترك آثا ارا كبيرة في املرحلة اًلنتقالية‪ ،‬وفي مستقبل سورية والسوريين‪ ،‬إذ ًل ّبد‬
‫"لدرب اآلًلم" السوري من نهاية‪.‬‬

‫سنتناول ظاهرة اإلنكار التي مارسها النظام دون توقف‪ ،‬وآثارها املدمرة على املجتمع السوري‪ ،‬ثم ظاهرة‬
‫أطفال الثورة‪ ،‬وأهميتها للنظام وللثورة وملستقبل السوريين‪ ،‬ثم ظاهرة اإلسالم السلفي‪ ،‬والسلفي الجهادي‬
‫والقاعدي‪ ،‬وخرابه املقابل لخراب النظام في ّ‬
‫كل من الثورة والبلد‪.‬‬
‫ٍ‬

‫أ‪ -‬اإلنكاراملديد‬
‫لقد ًلزم إنكار الثورة مجمل الخطاب السياس ي واإلعالمي للنظام على مدى األعوام املنصرمة‪ ،‬وما زال‬
‫ا‬
‫مستمرا بال توقف‪ ،‬فمنذ خطابه األول أمام مجلس الشعب في ‪ 30‬آذار‪ /‬مارس ‪ ،2011‬أعلن بشار األسد أن‬
‫ما يحدث في سورية مؤامرة كبرى‪ ،‬أدواتها هم "املندسون"‪ ،‬وأن حاجة العائالت السورية للحليب واملازوت‬
‫أهم من حاجاتها السياسية للحرية والديمقراطية‪ ،‬ثم أردف‪" :‬الفضائيات تحاول التشويش على الشعب‬
‫السوري‪ ،‬لكن في الحقيقة إنهم يعتمدون مبدأ اكذب‪ ،‬اكذب حتى تصدق؛ فيصدقون الكذبة‪ ،‬ويقعون في‬
‫الفخ‪ ".‬ثم أنهى محذ ارا من "أن الفتنة أشد من القتل كما جاء في القرآن الكريم؛ فكل من يتورط فيها عن‬
‫قصد‪ ،‬أو من غير قصد‪ ،‬فهو يعمل على قتل وطنه‪ ،‬وبالتالي؛ ًل مكان ملن يقف في الوسط‪ ،‬فالقضية ليست‬
‫الدولة بل الوطن‪ .‬املؤامرة كبيرة ونحن ًل نسعى ملعارك‪ ،‬والشعب السوري شعب مسالم وودود‪ ،‬ولكننا لم‬
‫‪59‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫نتردد ا‬
‫يوما في الدفاع عن قضايانا ومصالحنا ومبادئنا‪ ،‬وإذا فرضت علينا املعركة اليوم فأهال وسهال بها‪".‬‬

‫نالحظ إلى جانب ما يحتويه خطاب املؤامرة من مركزية الذات‪ ،‬واحتقار الشعب‪ ،‬والتعالي األجوف عليه‪،‬‬
‫واحتكاره الوطنية‪ ،‬فإنه خطاب مفتوح على التخوين‪ ،‬ويسهل القيام به في كل اًلتجاهات‪ ،‬بحيث يصبح كل‬
‫ا‬
‫منتقد لسلوك النظام‪ ،‬في الداخل أو الخارج‪ ،‬شريكا في املؤامرة‪ .‬وخطاب املؤامرة هو الرأس الرمزي لعملية‬

‫‪ - 59‬خطاب بشار األسد في ‪ 30‬آذار‪ /‬مارس ‪ 2011‬موجود على الرابط‪. http://www.voltairenet.org/article173297.html .‬‬

‫‪39‬‬
‫ًّ‬
‫نفسيا هو "رفض‬ ‫اإلنكار ذات األبعاد السيكولوجية والسوسيولوجية والسياسية املؤثرة‪ ،‬فإذا كان اإلنكار‬
‫فإن املقابل لرفض الواقع من قبل السلطة السورية هو صناعة الواقع القائم على‬ ‫الواقع املسبب لأللم"؛ ّ‬
‫ًّ‬
‫واقعيا‪ ،‬بل وتصويره على أنه الواقع عينه‪ ،‬وهذه كانت مهمة اإلعالم التي أوحى‬ ‫"توقيع الكذب"‪ ،‬أي‪ :‬جعله‬
‫بها خطاب بشار املذكور‪ ،‬عندما لم يتردد في اإلحالة إلى مبدأ غوبلز "وزير الدعاية النازية" القائل‪" :‬اكذب‪..‬‬
‫ثم اكذب حتى يعلق ش يء ما في أذهان الجماهير"‪ ،‬وكلما "كبرت الكذبة‪ ،‬كلما سهل تصديقها"‪ ،‬كما أن‬
‫"الدعاية الناجحة يجب أن تحتوي على نقاط قليلة‪ ،‬وتعتمد التكرار"‪ ،60‬مع إضافة رذيلة يمتاز بها إعالم‬
‫النظام السوري وهي الكذب‪ ،‬واتهام اآلخرين بالكذبة ذاتها‪ ،‬ولكن إعالم النظام السوري الذي يكذب حتى‬
‫بالنشرة الجوية‪ ،‬كما وصفه املرحوم ممدوح عدوان‪ ،‬جاءته الفرصة املالئمة ‪-‬عبر الثورة‪ -‬ليختبر براعته‬
‫العتيدة في الكذب‪ ،‬وفي اختالق األكاذيب و"توقيعها"‪.‬‬
‫ُ‬
‫ما نريده قوله عن "اإلنكار املديد" هو أنه عملية أتت أكلها خالل سني الثورة؛ فاألشباح التي تحدث عنها‬
‫النظام ‪-‬منذ البداية‪ -‬باتت "موجودة وواقعية"‪ ،‬ورواية النظام لألحداث بأنه يقاتل عصابات إرهابية‬
‫مسلحة باتت "موجودة ومقبولة"‪ ،‬ليس عند جزء مهم من الداخل فحسب‪ ،‬وهو الجزء الخاص باملؤيدين‬
‫ّ‬ ‫و"الحياديين" و"الطرف الثالث" أو ما ّ‬
‫يسمى بـ "املعارضة الوطنية الشريفة"‪ ،‬وإنما في الخارج اإلعالمي‬
‫والسياس ي والرأي العام العالمي كذلك‪ .‬وما يهمنا من نتائج هذا اإلنكار أثره املعرقل املعيق ألي مصالحة‬
‫سهل شيطنتهم‪ ،‬وبالتالي؛ ّبرر‬ ‫وطنية مقبلة؛ فإنكار الثورة‪ ،‬ووسم الثائرين‪ -‬ا‬
‫جميعا‪ -‬بالسلفية واإلرهاب‪َّ ،‬‬
‫قتلهم بدم بارد؛إذ كيف يمكن إجراء مصالحة مع "عصابات إرهابية مسلحة"؟ كما أن القتل‪ ،‬والقتل‬
‫ا‬ ‫املضاد‪ّ ،‬‬
‫وسع الشرخ الوطني أضعافا مضاعفة‪ ،‬وبما يكفي لجعل الرواية املقابلة لرواية الثورة‪ ،‬والخاصة‬
‫بالنظام وأتباعه‪ ،‬ذات تاريخ ومصداقية ومظلومية خاصة بها‪ ،‬وفي كل ذلك‪ ،‬لعب اإلنكار دو ارا ًّ‬
‫مهما في حرف‬
‫بوصلة الواقع‪ ،‬وتحريف مفهوم الحق والحقيقة‪ ،‬بحيث بات لكل طرف أحداثه وإحداثياته‪ ،‬وروايته‬
‫ّ‬
‫املدعمة بالحوادث والتواريخ والشواهد‪ ،‬ملا يجري ّ‬
‫وعما يجري‪ ،‬ومن نتائج اإلنكار انقسام عالم السوريين‬

‫‪ - 60‬حول جوزيف غوبلز انظر الرابط‪. http://www.alraimedia.com/alrai/Article.aspx?id=224122&date=01092010 ،‬‬

‫‪40‬‬
‫ًّ‬
‫واقعيا؛ مما يجعل إعادة اللحمة الوطنية‪ ،‬ووضع اإلطار الوطني‬ ‫الواحد إلى عاملين منفصلين ومتناقضين‬
‫الجامع‪ ،‬مسألة في غاية الصعوبة في املرحلة اًلنتقالية‪ ،‬وفي مستقبل سورية املنتظر‪.‬‬

‫ب‪ -‬ثورة األطفال‬


‫ا‬
‫تشاؤما أن تتوقع استمرار الثورة السورية ما يزيد على خمس سنوات مأساوية‪ ،‬دون‬ ‫لم يكن ألكثر الرؤى‬
‫أن ّ‬
‫يتنحى رأس النظام أو يسقط‪ ،‬في الوقت الذي لم يكن فيه أكثر البشر إجر ااما أن يتصور حجم اإلجرام‬
‫الكامن في نظام األسد‪ ،‬والصادر عنه بحق مجتمع الثورة وأطفالها ونسائها؛ فما أثبته النظام السوري من‬
‫انعدام أي حس وطني‪ ،‬أو أخالقي‪ ،‬أو إنساني‪ ،‬تجاه شعبه بالذات‪ُّ ،‬‬
‫يبز روايات التاريخ الحديث واملعاصر عن‬
‫ا‬
‫إنسانا يعيش في القرن‬ ‫الطغاة ومآس ي الشعوب بطغاتها‪ .‬واملدهش في وضع الثورة السورية وأحوالها‪ّ ،‬أن‬
‫الواحد والعشرين‪ ،‬لم يكن ليتوقع ارتكاب كل هذه املجازر‪ ،‬باستخدام كل أنواع األسلحة‪ ،‬وتجاوز كل‬
‫الخطوط الحمر‪ ،‬دون أن يعمل العالم على وضع ّ‬
‫حد لهذه املأساة‪ ،‬فكأننا نعيش في جزيرة معزولة عن‬
‫الكوكب‪ ،‬وليس في عالم "القرية الصغيرة" املعولم!‬

‫أطفال سورية هم مبتدأ هذه "الثورة املستحيلة"‪ ،‬وهم ضحاياها األبرز‪ .‬وربما تكمن إحدى العالمات‬
‫الفارقة للثورة السورية‪ ،‬عن باقي الثورات الكبرى في التاريخ الحديث‪ ،‬كاإلنكليزية واألميركية والفرنسية‬
‫والروسية‪ ،‬في حجم استهداف األطفال فيها‪ ،‬وحضورهم الدائم في مشهدها‪ ،‬وحتى في إطالق شعلتها‬
‫ا‬
‫دروعا بشرية‪،‬‬ ‫وصناعتها؛ فاعتقال األطفال‪ ،‬وتعذيبهم‪ ،‬وقتلهم‪ ،‬وتشويههم‪ ،‬واغتصابهم‪ ،‬واستخدامهم‬
‫وارتكاب املجازر الجماعية بحقهم‪ ،‬فظائع تصدرت مشاهد الثورة منذ انطالقها‪ ،‬وبدت تلك الوحشية‬
‫كاستراتيجية َّ‬
‫متعمدة‪ ،‬أراد النظام من انتهاجها كسر إرادة الثائرين‪ ،‬وإرهابهم‪ ،‬ومنع غيرهم من اًلحتجاج؛‬
‫لذا شملت تلك اًلستراتيجية ضرب نقاط ضعف املجتمع الثالث‪ :‬مقدسات الناس وأعراضهم وأطفالهم‪.‬‬

‫كان لكتابة أطفال درعا على حيطان مدارسهم‪ ،‬ثم اعتقالهم وتعذيبهم‪ ،‬و"رمي رئيس فرع األمن السياس ي‬
‫(ع ُقل وطرايح) الوجهاء الدرعاويين في سلة الزبالة‪ ،‬وسماع األمهات الدرعاويات ا‬
‫كالما من رئيس الفرع ًل‬ ‫ُ‬

‫‪41‬‬
‫أثر ٌ‬
‫كبير في اشتعال الثورة‪ ،‬وبدء دينامية جديدة خاصة‬ ‫يليق حتى بأمهات (الكرخانات) أن يسمعنه"‪ٌ 61‬‬
‫بالغضب؛ نتيجة انتهاك الكرامة بهذا الشكل "ثالثي األبعاد" كما أشرنا أعاله‪ ،‬ثم كان ملقتل حمزة الخطيب‪،‬‬
‫بعد أقل من شهر على احتجاجات درعا‪ ،‬وبطريقة وحشية غير مسبوقة في تاريخ سورية والثورة السورية‪،‬‬
‫ٌ‬
‫أثر بالغ في الرأي العام املحلي و العالمي‪ .‬إًل أنه بعد مجزرة "الحولة"‪ ،‬بشكل خاص‪ ،‬توضحت استراتيجة‬
‫ّا‬
‫وحشية‪،‬‬ ‫النظام في ضرب أطفال سورية‪ ،‬كجزء من استراتيجية أكبر‪ ،‬تكشف عن أقس ى أنواع الجرائم‬
‫ا‬
‫سة في ضرب مجتمع الثورة‪ ،‬كما توضح ا‬
‫شيئا آخر بعد تلك املجزرة‪ ،‬هو ُّ‬
‫تصنع‬ ‫وأحط أشكال الطائفية ممار‬
‫جدي للنظام السوري؛ وهذا يعني منح النظام السوري‬‫أي إجراء عقابي ّ‬
‫املجتمع الدولي "العجز" عن اتخاذ ّ‬
‫غطاء ًّ‬
‫دوليا إلطالق وحشيته في سورية دون أي رادع‪ ،‬أو خوف من حساب‪ ،‬كل ذلك بذريعة الفيتو الروس ي‬ ‫ا‬
‫والصيني!‬

‫بعد ذلك توالت املجازر‪ ،‬وتنوعت أشكالها وأساليبها وأدواتها‪ ،‬بعد أن اعتاد العالم على الخط التصاعدي‬
‫للقتل الذي اعتمده النظام‪ ،‬كاستراتيجية تأهيل للبشرية؛ ّ‬
‫للتكيف واعتياد سماع أخبار القتل في سورية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫و"حلفايا"‪،‬‬
‫حصرا‪ ،‬مجزرة "داريا" ومجزرة "التريمسة" ومجزرة "بانياس" ِّ‬ ‫نذكر من تلك املجازر‪ ،‬تمثيال ًل‬
‫ًّ ‪62‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫وصوًل إلى مجزرة الكيماوي في الغوطتين‪ :‬الشرقية والغربية‪ ،‬والتي راح ضحيتها أكثر من ‪ 429‬طفال سوريا‪.‬‬

‫تؤكد تقارير األمم املتحدة أن األطفال هم أكثر املتضررين من الصراع الدائر في سورية‪ ،‬حيث وصل عدد‬
‫الالجئين من األطفال في آب‪ /‬أغسطس ‪ ،2013‬إلى مليون طفل‪ ،‬فيما نزح مليونان آخران داخل بالدهم‪،‬‬
‫ويشكل األطفال ما ًل يقل عن نصف العدد اإلجمالي لالجئين السوريين‪ ،‬كما تؤكد اإلحصاءات أن هناك‬
‫‪ 740‬ألف ًلجئ سوري تقل أعمارهم عن ‪ 11‬ا‬
‫عاما‪ ،‬وقد لجأ معظمهم إلى لبنان واألردن وتركيا والعراق‬

‫‪ - 61‬جمال باروت‪ ،‬ص‪.306‬‬


‫‪ - 62‬لالطالع على أرقام الضحايا من األطفال في الثورة السورية منذ انطالقها انظر تقرير املركز السوري لحقوق اإلنسان على الرابط‪:‬‬
‫‪. http://www.vdc-sy.info/index.php/ar/reports/children#.UmeJPHAwd5s‬‬

‫‪42‬‬
‫ومصر‪ .‬ويعلق "أنطوني ليك" مدير وكالة األمم املتحدة للطفولة (يونيسيف) على ذلك بالقول‪ :‬إن املليون‬
‫‪63‬‬ ‫ًلجئ ليس ر ا‬
‫قما كسائر األرقام‪ ،‬إنه طفل حقيقي‪ ،‬انتزع من بيته‪ ،‬وحتى ‪-‬ربما‪ -‬من عائلته‪ ،‬ويواجه األهوال‪.‬‬

‫فإن استطاع السوريون‬ ‫ًّ‬


‫أمام أي مرحلة انتقالية‪ ،‬أو تفاوضية‪ ،‬مقبلة في سورية مهمات صعبة جدا؛ ِّ‬
‫الحفاظ على وحدتهم السياسية أمام خطة "حرق البلد" التي اعتمدها النظام‪ ،‬كخيار وحيد وبديل عن‬
‫"حكم األسد"‪ ،‬سيجد السوريون ما هو أصعب بكثير من ترميم البنية التحتية واًلقتصادية لسورية‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬
‫الدمار النفس ي والجسدي والعقلي الهائل الذي خلفته الحرب على أطفال سورية بوجه خاص‪ ،‬وظهور‬
‫ا‬
‫وأعواما‬ ‫"جيل ضائع"‪ 64‬ومشتت في دول اإلقليم واملحافظات السورية‪ ،‬جيل خسر ثالثة أعوام من الدراسة‪،‬‬
‫ا‬
‫مضاعفة من البناء العاطفي والنفس ي واًلجتماعي‪ ،‬وقد يخسر هذا الجيل مستقبله كامال إن لم نتمكن؛‬
‫ويتمكن العالم معنا‪ ،‬من انتشاله من مستنقع العنف والقتل‪ ،‬والحقد واًلنتقام‪ ،‬الذي عاشه‪ ،‬أو شاهده‪،‬‬
‫ّ‬
‫أو استبطنه؛ نتيجة لألوضاع التي أملت به‪.‬‬
‫َّ‬
‫تمنى عالم النفس الفرنس ي "بيير داكو" في كتابه "اًلنتصارات املذهلة لعلم النفس الحديث" أن يصبح عدد‬
‫األطباء النفسيين بعدد العقداء في الجيش؛ كي يتمكنوا من معالجة‪ ،‬ومتابعة املشكالت النفسية املعقدة‬
‫ا‬ ‫ّ‬
‫تحديدا‪،‬‬ ‫لإلنسان‪ ،‬الناجمة عن ضغط الحضارة املعاصرة"؛ ونحن نتوقع أن ما يحتاجه أطفال سورية‬
‫التشوهات ُ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ا‬
‫وعمال ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ا‬ ‫ّ‬
‫والعقد‬ ‫جديا وشاقا؛ ملعالجة‬ ‫إنسانيا‬ ‫تضافرا‬ ‫يتجاوز تمنيات بيير داكو‪ ،‬ويتطلب‬
‫واًلنحرافات واألمراض التي تتركها هذه الحرب الطويلة على أطفال سورية‪.‬‬

‫‪ - 63‬انظر الرابط‪. http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2013/08/23/ .‬‬


‫‪ - 64‬انظر‪ ،‬تقرير األمم املتحدة للطفولة (اليونيسيف)‪ ،‬أطفال سوريا‪ :‬جيل ضائع؟ تقرير عن األزمة خالل عامين‪ :‬مارس‪/‬آذار ‪ -2011‬مارس‪/‬آذار‬
‫سيما ص‪3‬ه‪4‬‬‫‪ ،2013‬كتاب نسخة إلكترونية ‪ ،pdf‬وًل ّ‬

‫‪43‬‬
‫ج‪ -‬إسالميو الثورة‬
‫يتميز اإلسالم ّ‬
‫السني في العالم عن غيره (وهو دين األكثرية الثقافية في سورية)‪ ،‬بعدم وجود هيئة دينية‬
‫ا‬
‫زمنية عليا ثابتة‪ ،‬واحدة وواضحة‪ ،‬تشكل مرجعية فقهية على طريقة ما يمثله خامنئي ‪-‬مثال‪ -‬لإلسالم‬
‫عدة أخرى‪ ،‬ساهمت في عدم تحول ّ‬ ‫ا‬
‫عامال من عوامل ّ‬
‫السنة في سورية‬ ‫الشيعي؛ هذا التعدد (املرجعي) كان‬
‫ّ‬
‫واملوجه بشكل أساس ي ضد‬ ‫إلى طائفة متر ّ‬
‫اصة‪ ،‬على الرغم من كل العنف املمارس من قبل النظام السوري‪،‬‬
‫ّ‬
‫السنية‪ّ .‬‬
‫لكنه‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فسح املجال أمام قبول "الخامة" اإلسالمية في سورية لعدد كبير‬ ‫األكثرية‬
‫من األشكال املتنوعة لإلسالم‪ ،‬واملرجعيات اإلسالمية املتناقضة‪ ،‬التي انقسمت بين إسالم رسمي مؤيد‬
‫ا‬
‫للنظام‪( :‬محمد سعيد رمضان البوطي واملفتي أحمد حسون مثاًل)‪ ،‬وإسالم محايد‪( :‬حركة القبيسيات‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫مثاًل)‪ ،‬وإسالم وسطي معتدل يقبل الديمقراطية والدولة املدنية‪( :‬اإلخوان املسلمين مثاًل)‪ ،‬ثم إسالم‬
‫ا‬
‫سلفي حركي‪( :‬السروريون والعرعور مثاًل)‪ ،‬وإسالم سلفي جهادي‪ ،‬تابع للقاعدة‪ ،‬ويدور في فلكها‪ ،‬كجبهة‬
‫تنظيما ا‬
‫وعنفا و"ثروة" منها‪ ،‬كما هو الحال مع الدولة اإلسالمية‬ ‫ا‬ ‫النصرة‪ ،‬أو منشق عن القاعدة‪ ،‬وأكثر‬
‫"داعش" التي يقودها "خليفة املسلمين" الجديد أبو بكر البغدادي‪.‬‬

‫ومثلما لعبت عوامل معقدة؛ أهمها الحل األمني‪ /‬العسكري الذي اعتمده النظام‪ ،‬في تحول الثورة السلمية‬
‫ّ‬
‫إلى ثورة مسلحة‪ ،‬كذلك أدت عوامل عدة إلى أن يعلو صوت السلفيين‪ ،‬ثم السلفيين الجهاديين في الثورة ‪،‬‬
‫أيضا "تعثر مسارات الحل في األفق السياس ي الداخلي‪ ،‬واستعصاء عملية التغيير‬‫ومن بين تلك العوامل ا‬

‫السلمي‪ ،‬وفشل املجتمع الدولي في التوصل إلى حلول توافقية إليقاف شالًلت الدماء التي ما زالت تتدفق‪،‬‬
‫ما أسفر عن دمار كبير في الداخل وماليين املهجرين وعشرات اآلًلف من القتلى واملعتقلين‪ 65"..‬وفي كل ذلك‬
‫ًل ّبد من األخذ بعين اًلعتبار معادلة التناسب الطردي بين زيادة العنف املادي والرمزي و زيادة التشدد‬
‫ّ‬
‫الديني‪ ،‬وقبول األشكال الدينية املتطرفة واألصولية‪ ،‬فكلما زاد مستوى العنف والقتل والتشريد والتجويع‬
‫ا‬
‫متطرفا‪ ،‬وًل ّ‬ ‫ّ‬
‫سيما أن الدين يصبح أهم ملجأ روحي‬ ‫وغيره‪ ،‬كلما زادت القابلية املبدئية للمعتدل ألن يصبح‬

‫‪ - 65‬محمد أبو رمان‪ :‬اإلسالميون والدين والثورة في سوريا‪ ،‬مؤسسة فريدرش ايبرت‪ ،‬مكتب األردن والعراق‪ /‬مكتب سوريا‪ ،2013 ،‬املوقع‬
‫اإللكتروني ‪ ،www.fes-jordan.org‬كتاب نسخة إلكترونية‪ ،‬غير مخصص للبيع‪ ،‬ص‪8‬‬

‫‪44‬‬
‫ا‬
‫واضحا ‪-‬اليوم‪ -‬من أن اإلسالم الجهادي العنفي‪،‬‬ ‫للبشر في األزمات والحروب‪ ،‬ونضيف إلى كل ذلك‪ ،‬ما بات‬
‫ا‬
‫ممثال بـ"داعش" أكثر من غيرها‪ ،‬إسالم يعتمد استراتيجية متكاملة‪ ،‬تقوم على تحويل "جهاد النخبة" إلى‬
‫جهاد األمة‪ ،‬واًلستفادة من "استمرارية الصراع" ألجل ذلك الهدف‪.‬‬

‫جيدا النظام السوري؛ وذلك على نحو تجريبي‪ ،‬يعود‬ ‫هذا الوضع الخاص بالعالقة مع اإلسالميين‪ ،‬يعرفه ا‬
‫إلى الثمانينيات من القرن املنصرم‪ ،‬وإلى حرب العراق ‪ ، 2003‬ويعرفه على نحو غرائزي ا‬
‫أيضا‪ ،‬ويعود ذلك‬ ‫ٍ‬
‫إلى الغريزة الطائفية العميقة لدى النظام؛ لذلك مض ى نظام األسد في خطين متوازيين‪ ،‬ومتكاملين في‬
‫ّ‬
‫السنية منه‪ ،‬والخط الثاني‬ ‫النتيجة‪ :‬الخط األول إطالقه العنف املفتوح ضد مجتمع الثورة‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما الفئة‬
‫ا‬
‫حصرا‪ ،‬من سجن صيدنايا‪ 66‬والذين وصل عددهم إلى‬ ‫إطالقه سراح املعتقلين السياسيين‪ ،‬اإلسالميين‬
‫‪ 1200‬معتقل‪ ،‬بحسب بعض التقارير‪ ،‬وكان اإلفراج عبر عفو رئاس ي في ‪ 31‬أيار‪ /‬مايو ‪ ،2011‬حيث يعرف‬
‫النظام‪ ،‬من خالل الخبرة والتجربة املديدة في سورية والعراق ولبنان‪ ،‬قيمة الخدمة التي سيقدمها‬
‫اإلسالميون له‪ ،‬بحمل السالح‪ ،‬وعسكرة الثورة‪ ،‬وأسلمتها‪ ،‬ثم نقلها إلى ّ‬
‫الحيز الطائفي والعنفي الذي يريد‪.‬‬
‫ُ‬
‫كان من أبرز املفرج عنهم في العفو الرئاس ي املذكور "زهران علوش"‪ ،‬قائد "لواء اإلسالم" والذي بويع ‪-‬في ما‬
‫عسكريا‪ ،‬ويضم ‪-‬اليوم‪ 30 -‬ألف مقاتل ا‬ ‫ًّ‬ ‫ا‬ ‫بعد‪ -‬كقائد لـ"جيش اإلسالم" الناجم عن ّ‬
‫تقريبا‪،‬‬ ‫توحد ‪ 43‬فصيال‬
‫ُ ّ‬ ‫"حسان عبود" ّ‬
‫(امللقب بأبي عبدهللا الحموي)‪ ،‬قائد "حركة أحرار الشام"‪ ،‬والتي ُيعتقد بأنها تشكل‬ ‫ومعه ّ‬
‫أكبر لواء عسكري في سورية‪ ،‬إذ تضم نحو ‪ 18‬ألف مقاتل‪ ،‬وكذلك "عيس ى الشيخ"‪ ،‬قائد ما ُيعرف بـ"لواء‬
‫صقور اإلسالم"‪ ،‬والذي يبلغ عدد مقاتليه ‪ 9‬آًلف مقاتل‪ ،‬إضافة إلى أبي محمد الفاتح الجوًلني "أمير جبهة‬
‫ّ‬
‫النصرة" التي يعتقد أنها أصغر تلك املجموعات‪ ،‬وتشكل تلك املجموعات ‪-‬بمجملها‪ -‬حوالي ‪60‬في املئة من‬
‫مقاتلي املعارضة اليوم‪( ،‬نهاية ‪ )2013‬وفي الواقع لم يمض وقت طويل على خروجهم من السجن‪ ،‬قبل أن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫علن عن تشكل‬
‫يؤسس األصدقاء الثالثة أكبر ثالثة تشكيالت عسكرية معارضة على امتداد سورية‪ ،‬حتى أ ِّ‬
‫"صقور الشام" في ‪ 25‬تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر من عام ‪ ،2011‬وتشكل ‘لواء اإلسالم‘ في شهر آذار‪ /‬مارس من‬

‫‪ - 66‬أبو رمان‪ ،‬ص‪.35-34 -25‬‬

‫‪45‬‬
‫عام ‪ ،2012‬وبدأ تشكيل ‘لواء أحرار الشام‘ في ‪ 25‬تموز‪ /‬يوليو من عام ‪ ،2012‬بينما عاد صديقهم الرابع‬
‫‪67‬‬
‫(الجوًلني) من رحلة إلى العراق في الفترة ذاتها؛ ليؤسس ‘جبهة النصرة‘‪.‬‬

‫"يحيل باحثون ومراقبون انتشار الفكر السلفي‪ ،‬خالل الفترة الراهنة‪ ،‬إلى طبيعة الثورة املسلحة نفسها‪،‬‬
‫التي انطلقت من األرياف‪ ،‬وانتقلت إلى املدن الرئيسة‪ ،‬أو (التي خرجت من الجوامع وليس الساحات)؛‪ 68‬ما‬
‫ّ‬
‫سهل قبول السلفية‪ ،‬وساعد ‪-‬في ذلك‪ -‬غياب التنمية‪ ،‬وضعف العجلة اًلقتصادية في هذه املناطق‪ ،‬وارتفاع‬
‫وتيرة املشاعر الطائفية تجاه النظام‪ ،...‬وهي حيثيات واقعية‪ ،‬يمتلك الفكر السلفي إجابات مباشرة عنها‪،‬‬
‫سواء على املستوى العقدي أم اًلجتماعي والثقافي‪ 69".‬كما "يحيل الباحث السوري عبد الرحمن الحاج‬
‫تشكل التربة الخصبة لنمو بذور السلفية الجهادية في سورية إلى حقبة التسعينيات‪ ،‬إذ يرى أن سياسات‬
‫الخصخصة التي لجأ إليها النظام السوري‪ ،‬خالل تلك الفترة‪ ،‬وما خلفته من تهميش وفقر وأوضاع‬
‫اقتصادية صعبة في األرياف واألطراف‪ ،‬بالتوازي مع سياسات النظام السوري الداعمة للمقاومة اإلسالمية‬
‫في فلسطين ولبنان‪ ،‬كل ذلك ساعد في تدعيم ثقافة دينية محافظة في هذه املناطق‪ ،‬متقبلة لألفكار‬
‫الراديكالية‪ ،‬مع حرمان اإلسالم املعتدل املديني من العمل املؤسساتي والسياس ي والعلني‪ .‬ومثل تلك التربة‪،‬‬
‫وسهلت لها األمر ‪-‬‬ ‫ا‬
‫عموما‪ّ ،‬‬ ‫سهلت ّ‬
‫تكون الجذور األولى ألفكار السلفية الجهادية‬ ‫أو الشروط املوضوعية‪ّ ،‬‬

‫‪ - 67‬انظر مجموعة الجمهورية للدراسات‪ ،‬مقال لباسل الجنيدي بعنوان‪ ،‬قصة "أصدقاء صيدنايا"‪ :‬أقوى ثالثة رجال في سوريا اليوم!‪ ،‬على‬
‫‪http://therepublicgs.net/2013/10/16/%D9%82%D8%B5%D9%91%D8%A9-‬‬ ‫الرابط‬
‫‪%D8%A3%D8%B5%D8%AF%D9%82%D8%A7%D8%A1-‬‬
‫‪%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D9%82%D9%88%D9%89-‬‬
‫‪. %D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%84/‬‬
‫‪ - 68‬منذ بداية الثورة رأى الشاعر السوري الكبير "أدونيس" في عدة مقابالت ولقاءات ومقاًلت متنوعة أنه ًل خير في ثورة تخرج من الجامع‪،‬‬
‫وحول هذا املوضوع انظر مساهمة نقدية للكاتب في جريدة الحياة بعنوان "الثورة والجامع" على الرابط‬
‫‪http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/2008%20to%202013/Alhayat_2011/06-June-2011/06-‬‬
‫‪. General/2011-06-27/27p10-03.xml.html‬‬
‫‪ - 69‬أبو رمان‪ ،‬ص‪ .25‬وحول التدين والتدين السلفي في سورية انظر‪ ،‬جمال باروت‪ ،‬ص‪-‬ص ‪.336 -330‬‬

‫‪46‬‬
‫ا‬
‫ًلحقا‪ -‬سياسات النظام السوري نفسه‪ ،‬التي كانت في منزلة األب الروحي للقاعدة‪ ،‬خالل فترة الحرب‬
‫‪70‬‬
‫األميركية على العراق في العام ‪."2003‬‬

‫يمكننا اعتماد التقسيم الذي وضعه الباحث "محمد أبو رمان"؛ لتوضيح األجندات اإلسالمية في الثورة‬
‫السورية والتفريق بينها‪ ،‬حيث يمكن التمييز بين خمس أجندات رئيسة‪ :‬اإلخوانية‪ ،‬السلفية‪ ،‬السلفية‬
‫ا‬
‫وأخيرا اإلسالمية الوسطية العامة‪ ،‬وسنوجز التعريف‬ ‫الجهادية والقاعدة‪ ،‬األجندة املشيخية‪ -‬الصوفية‪،‬‬
‫بهذه األجندات على الشكل التالي‪:‬‬
‫ا‬
‫األجندة األخوانية مدنية بمرجعية إسالمية‪ ،‬وتحرص أوًل على إسقاط النظام الحالي‪ ،‬بالتوازي مع‬ ‫‪-1‬‬

‫إعادة بناء وترميم مؤسسات الجماعة وحضورها الحركي والسياس ي‪ ،‬ودعم العمل املسلح‪،‬‬
‫وتأسيس بعض املجموعات املرتبطة بها‪ .‬وتحظى ‪ -‬ا‬
‫حاليا‪ -‬بعالقات وطيدة مع تركيا وقطر‪ ،‬وتستفيد‬
‫ًّ‬
‫وإعالميا‪ ،‬وقد تحدثت بوضوح‪ ،‬عبر بيانات عدة‪ ،‬قديمة‬ ‫ًّ‬
‫ولوجستيا‬ ‫من دعم هذه الدول سي ًّ‬
‫اسيا‬
‫وحديثة‪ ،‬عن نظام ديمقراطي بمرجعية إسالمية‪ ،‬وعن اًللتزام بتداول السلطة والتعددية الحزبية‬
‫والسياسية والدينية والثقافية‪.‬‬

‫األجندة السلفية إقامة الدولة اإلسالمية‪ ،‬ويعبر عنها‪ ،‬على الصعيد العسكري‪" ،‬الجبهة اإلسالمية"‬ ‫‪-2‬‬

‫التي تتشكل من أحرار الشام‪ ،‬والفجر‪ ،‬والطليعة املقاتلة‪ ،‬ولواء الحق وغيرها‪ ،‬وتتوافق معها‬
‫فصائل أخرى ضمن جبهة التحرير اإلسالمية‪ ،‬مثل‪ :‬كتائب التوحيد والفاروق‪ ،‬والفاروق‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وصقور الشام‪ ،‬ولواء اإلسالم‪ .‬وعلى الصعيد املدني تمثلها هيئة الشام اإلسالمية‪،‬‬
‫والسلفية الحركية‪ ،‬وجمعيات مشاركة في العمل الخيري واإلغاثي والدعوي والتعليمي‪ ،‬تنتمي بعض‬
‫فصائلها إلى لجيش الحر وتتوافق جميعها على مبدأ "تطبيق الشريعة اإلسالمية"‪ ،‬يشارك بعضها‬
‫في تأسيس ودعم الهيئات الشرعية التي تتولى القضاء وفق أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وعلى‬
‫الصعيد األيديولوجي والسياس ي تطرح أغلب فصائلها مفهوم الدولة اإلسالمية‪ ،‬بوصفها النظام‬

‫‪ - 70‬أبو رمان‪ ،‬ص ‪.34‬‬

‫‪47‬‬
‫السياس ي املنشود‪ ،‬وتتجنب معظمها إعالن القبول بالنظام الديمقراطي‪ ،‬وإن كانت ًل تمانع في‬
‫إجراء اًلنتخابات الدورية‪ ،‬وتشكيل مجالس نواب والقبول باآلليات الديمقراطية‪.‬‬
‫‪-3‬‬
‫أجندة القاعدة‪ -‬إقامة الخالفة ومنظور الصراع العالمي‪ :‬تمثلها "الدولة اإلسالمية في العراق‬
‫والشام" و"جبهة النصرة"‪ ،‬مع وجود اختالفات جزئية "تكتيكية" بينهما في التعامل مع مرحلة‬
‫الثورة‪ ،‬والعالقة مع املجتمع والدولة‪ ،‬وتنظر للصراع السوري من الزاوية العقائدية والطائفية‬
‫بالدرجة األولى‪ ،‬فهو صدام مع نظام طائفي‪ -‬نصيري‪ ،‬ومع الشيعة وإيران وحزب هللا‪ ،‬وتتحدث هذه‬
‫الفصائل‪ً ،‬ل بوصفها تعبر عن الشعب السوري وتطلعاته للحرية والديمقراطية‪ ،‬بل بوصفها تمثل‬
‫املسلمين السنة‪ ،‬في سورية وخارجها‪ ،‬وتمزج بين الصراع املحلي واإلقليمي والعالمي؛ فمعركتها‬
‫معركة معسكر اإلسالم ضد معسكر الكفر‪.‬‬
‫‪-4‬‬
‫األجندة املشيخية‪ -‬الصوفية‪ :‬وهي جماعات تتبنى نمط من اإلسالم أقرب إلى الصوفية بوجه عام‪،‬‬
‫ًّ‬
‫وضبابيا‪ ،‬تنتشر في دمشق وحلب بشكل أساس ي‪ ،‬وًل توجد‬ ‫ا‬
‫ضعيفا‬ ‫دورها في العمل املسلح كان‬
‫ا‬
‫واضحا ألجندات هذه الجماعات وتصوراتها األيديولوجية‬ ‫أحزاب أو قوى سياسية تقدم لنا ا‬
‫تعريفا‬
‫للنظام السياس ي املنشود‪ ،‬لكن واقعها واهتماماتها ّ‬
‫توضح غلبة اًلجتماعي على السياس ي‪ ،‬وتركيزها‬
‫التصورات التي ّ‬
‫تقدمها للنظام اإلسالمي‬ ‫ّ‬ ‫على العمل الدعوي والخيري والتربوي‪ ،‬مع اختالف وتباين‬
‫لزم َن الصمت بوجه عام) وبين جماعة زيد التي تتحدث عن‬ ‫املنشود‪ ،‬ما بين القبيسيات (اللواتي ْ‬
‫ّ‬
‫الهوية اإلسالمية‪ ،‬وشارك بعض أفرادها ‪-‬من أتباع الشيخ أسامة الرفاعي‪ -‬في العمل املسلح‪ ،‬وًل‬
‫سيما بعد أحداث كفر سوسة في عيد رمضان ‪ ،2011‬وهناك املؤسسة اإلسالمية الرسمية التي‬ ‫ّ‬
‫تتحالف مع النظام وتدافع عن شرعيته ضد الثورة‪.‬‬

‫اإلسالميون الديمقراطيون‪ :‬وهم جماعات تشارك األخوان املسلمين في قبول الديمقراطية‬ ‫‪-5‬‬

‫والتعددية السياسية وتداول السلطة‪ ،‬وتكريس مبدأ املواطنة‪ ،‬مثل التيار الوطني السوري‪ ،‬وأبرز‬
‫منظريه الدكتور عماد الدين رشيد‪ ،‬وحركة العدالة والبناء‪ ،‬وهي جماعات منفتحة على التيارات‬

‫‪48‬‬
‫كافة‪ ،‬مع الحفاظ على الهوية العربية اإلسالمية لسورية‪ّ ،‬‬
‫ويتعهد التيار الوطني بمشاركة الجميع‪،‬‬
‫واحترام حقوق األقليات‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬واًلهتمام بالوحدة الوطنية‪ ،‬ويختلف عن التيارات‬
‫اإلسالمية األخرى‪ ،‬بوصف اإلسالم أحد مكونات الهوية السورية‪ ،‬وبالتالي؛ تكون الشريعة أحد‬
‫ى ‪71‬‬
‫مصادر التشريع‪ ،‬وليست املصدر الوحيد‪ ،‬كما تقول عدة قوى إسالمية أخر ‪.‬‬

‫من بين تلك األجندات‪ً ،‬ل يؤثر على مستقبل سورية أو يساهم في خراب الثورة السورية وتحطيم‬
‫ّ‬
‫املنشق عنها‪،‬‬ ‫الغطاء الوطني للسوريين‪ ،‬سوى أجندة اإلسالم السلفي الجهادي‪ ،‬التابع للقاعدة أو‬
‫والذي يدور في فلكها‪ ،‬كما ًل يقدم الخدمات الكبرى والجليلة للنظام وحلفائه اإلقليميين والدوليين‬
‫أيضا‪ -‬إسالم بحث عنه النظام منذ بداية الثورة‪ّ ،‬‬
‫وقدم له‬ ‫سوى هذا النوع اإلشكالي من اإلسالم‪ ،‬وهو ‪ -‬ا‬

‫كل الشروط العنفية والتسهيالت الحركية؛ ليوجد ُويكالسكين في جسم الثورة‪ ،‬وفي الوقت الذي تعاني‬
‫ّ‬
‫سورية من دموية النظام الطائفي الذي مثله بال توقف نظام األسد؛ فقد باتت تعاني ‪-‬اليوم‪ -‬من‬
‫يقل طائفية وإر ا‬
‫هابا عن نظام األسد‪ ،‬مع ميزة تخصه‬ ‫حضور هذا اإلسالم الطائفي املقابل‪ ،‬والذي ًل ّ‬
‫وحده هي الفوبيا العاملية واملحلية من التطرف اإلسالمي‪ ،‬والخوف الحقيقي الذي يتركه في قلوب‬
‫األقليات فحسب‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما بعد العنف املشهدي واإلجرامي في سلوكه‪ ،‬إضافة‬ ‫ّ‬ ‫ا‬
‫جميعا وليس‬ ‫السوريين‬
‫إلى تزكية الدعوى القاتلة للنظام حول فكرة البديل عنه‪.‬‬

‫إن استمرار الصراع املسلح لفترة طويلة‪ ،‬مع حفاظ اًلحتجاجات على سماتها الراهنة‪ ،‬وفي ضوء‬
‫ئيسا‪ ،‬ومن املحتمل أن ّ‬ ‫ا‬
‫فاعال ور ا‬
‫تتعزز حالة‬ ‫األجندات اإلقليمية‪ ،‬سيبقى الحضور السلفي الجهادي‬
‫الصدام والصراع بين التيارات اإلسالمية (كما هو الحال مع "داعش" اليوم)‪ ،‬على وقع الخالفات‬
‫ا‬
‫حاضرا‬ ‫ا‬
‫وتحديدا ما يتعلق بإدراة املناطق "املحررة"‪ ،‬وهو الصراع الذي بات‬ ‫األيديولوجية والفكرية‪،‬‬
‫بكل العنف واإلكراه الداخل فيه‪ ،‬بين الدولة اإلسالمية في العراق الشام من جهة‪ ،‬وقوى إسالمية أخرى‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬ونحن نرى كيف أن تطور قدرات "داعش"‪ ،‬وامتدادها اإلقليمي‪ ،‬وتهديدها الفعلي‬

‫‪ - 71‬أبو رمان‪ ،‬بتصرف‪ ،‬ص‪- 50‬ص‪.55‬‬

‫‪49‬‬
‫للمناطق اإلقليمية املجاورة‪ ،‬بات ا‬
‫معززا لدور األجندات الدولية في مواجهتها‪ ،‬سواء أكان عبر دعم‬
‫الفصائل السنية األخرى (تجديد حالة الصحوات كما كانت في العراق)‪ ،‬أم عبر التدخل الجوي املباشر‪،‬‬
‫مثلما شهدناه من ضربات أميركية محدودة لـ"داعش" على حدود كردستان العراق؛ كل ذلك ‪-‬باملحصلة‪-‬‬
‫ما يحصد ثماره النظام اًلنتدابي األسدي‪ ،‬بينما تمض ي سورية الواحدة نحو منحدرات التفكك‪،‬‬
‫والطائفية املظلمة‪ ،‬واألفق املجهول‪.‬‬

‫‪ -4‬الخالص السوري‪ -‬عالم مغلق وتاريخ مفتوح‬


‫بلغة "عقل التاريخ" الهيغلية؛ فإن الثورة السورية‪ ،‬على الرغم من مآسيها وآًلمها‪ ،‬إًل أنها تمض ي في املآل‬
‫"أن البشر يغيرون التاريخ‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫التا يخي الصحيح لوعي الحرية‪ ،‬وبلغة كارل ماركس الذي قال بـ‪ّ :‬‬
‫ر‬
‫فإن التشكيلة اًلجتماعية اًلقتصادية السياسية ‪-‬التي سادت في عهد األسدين‪ -‬في‬ ‫على أهوائهم؛ ّ‬
‫طريقها إلى الزوال‪ ،‬بغض النظر ّ‬
‫عما إذا كان البديل املقبل على هوانا‪ ،‬أم لم يكن‪ ،‬ولكن اللحظة‬
‫التاريخية ًلنطالق الثورة‪ ،‬وصعودها‪ ،‬جاءت معاكسة للحظة التاريخية التي تعيشها القوى الفاعلة في‬
‫العالم‪ ،‬وعلى رأسها أميركا؛ مما جعل ثمن التغيير أكبر‪ ،‬وزمنه أطول‪ ،‬في ظل اًلنغالق السياس ي الذي‬
‫ّ‬
‫املتأصل في تاريخه وتكوينه‪ ،‬لم‬ ‫أصاب العالم خالل مسار الثورة السورية؛ فعنف النظام السوري‪،‬‬
‫يكن ليأخذ كل هذا "املجد" واًلستطالة والعمق والتأثير‪ ،‬لوًل الغطاء الدولي "اًلضطراري ّ‬
‫التكيفي" من‬
‫املوجه" من جهة أخرى‪ ،‬والناتج عن املحصلة الصفرية للتضارب السياس ي بين‬ ‫جهة‪ ،‬و"اًلختياري َّ‬
‫الدول املؤثرة‪ ،‬في لحظة تراجع تاريخي للدور األميركي في العالم‪ ،‬واقتناص الدول الرأسمالية الصاعدة‬
‫كروسيا والصين‪ ،‬أو اإلمبراطورية الدينية كإيران‪ ،‬للفرصة التي قدمها النظام السوري لهم على طبق‬

‫‪50‬‬
‫حرفيا‪ ،‬عندما قال عن الرئيس السوري‬ ‫من ذهب‪ ،‬وقد عبر الرئيس الروس ي "فالديمير بوتين" عن ذلك ًّ‬
‫‪72‬‬
‫مبررا تمسكه به حتى النهاية" ّإن "هذا الولد أتى بالعالم أجمع إلي"‪.‬‬
‫بشار األسد ألحد مستمعيه‪ ،‬ا‬

‫التاريخ السوري اليوم مفتوح على كل اًلحتماًلت‪ ،‬بوصف الفاعلين الحقيقيين في صناعة مستقبل‬
‫سورية‪ ،‬أي‪ :‬الشعب السوري‪ ،‬ليسوا منقسمين على أنفسهم فحسب‪ ،‬ويعيش نصفهم الجوع والتشرد‬
‫والحصار والنزوح والهجرة‪ ،‬وجزء كبير منهم في املعتقالت‪ ،‬وإنما ًل يملكون‪-‬كذلك‪ -‬من التغيير الذي‬
‫صنعوه بدمائهم سوى اإلرادة‪ ،‬أما شكل التغيير وأدواته وطرائقه فهي موزعة بين قوى إقليمية ودولية‬
‫متنازعة‪ ،‬وتشد كل منها محور التغيير باتجاهها‪ ،‬ومادامت مصالح القوى الكبرى‪ ،‬وًل ّ‬
‫سيما أميركا‪،‬‬
‫ا‬
‫تمض ي في مسارها دون خسائر تذكر‪ ،‬فضال عن الخدمات الجليلة التي يقدمها بقاء النظام الضعيف‬
‫فإن مسار الصراع السوري لن يمض ي إًل باتجاه زيادة التفكك في نسيج السوريين‪،‬‬ ‫أكثر من غيابه؛ ّ‬

‫وانحسار الغطاء الوطني عنهم‪ ،‬مع تحول الرئيس السوري إلى أمير الحرب األقوى بين عدة أمراء آخرين‪،‬‬
‫لكل منهم مربطه الخارجي‪ ،‬وأجندته الداخلية‪ .‬وفي الواقع ّإن املسارات والخيارات اإلجبارية التي وضع‬
‫النظام السوري شعبه فيها‪ ،‬لن تأتي بخير وطني عام‪ ،‬أو خاص بأحد‪ً ،‬ل النظام وًل الطائفة العلوية‬
‫التي يحتمي بها‪ ،‬وًل غيرها من الطوائف األقلية أو األكثرية‪ ،‬بل ّإن هذا الواقع الصلب هو ما تتحطم‬
‫عليه إرادة جميع السوريين األحياء؛ ليمض ي وكأنه في العماء‪ ،‬ضد كل الرغبات ‪-‬مجتمعة‪ -‬أو فوقها‪،‬‬
‫وبالتأكيد‪ ،‬دونها‪.‬‬

‫‪ - 72‬راغدة درغام في مقال بعنوان "أسوأ استثمار أمريكي في مستقبل العالقات األمريكية – العربية‪ .‬على الرابط‬
‫‪. http://alhayat.com/OpinionsDetails/544143‬‬

‫‪51‬‬
‫ا‬
‫خامسا‪ :‬خاتمة‬
‫هناك شجرة احتماًلت قابعة في األفق السوري‪ ،‬لكل من فروعها شكله املختلف‪ ،‬وتداعياته وآثاره‬
‫املختلفة على أرض الواقع‪ ،‬وعلى مستقبل سورية والسوريين‪ ،‬وعلى شكل املرحلة املقبلة وطبيعتها‬
‫ا‬
‫أيضا؛ فسيناريو بقاء األسد ‪-‬كاحتمال أول‪ -‬لن يؤدي إًل إلى نمو التطرف اإلسالمي و"تقعيده"‪ ،‬إضافة‬
‫إلى التطرف الطائفي بشكل عام‪ ،‬األمر الذي سيعزز ‪-‬على املدى الطويل‪ -‬التوجه نحو التقسيم‪ ،‬كممر‬
‫إجباري للحل‪ ،‬بل إلى انحالل الكيان السوري وتفككه‪ .‬أما اًلحتماًلت األخرى‪ ،‬في حال رحيل األسد‪،‬‬
‫فتتوزع بين نظام املحاصصة الطائفية على الطريقة اللبنانية‪ ،‬أو النظام شبه الفدرالي على الطريقة‬
‫العراقية‪ ،‬أو نظام الالمركزية اإلدراية مقابل املركزية السياسية‪ ،‬أو نظام يجمع بين عدة خصائص من‬
‫ّ‬ ‫األنظمة السابقة‪ ،‬دون أن يصبح ا‬
‫واحدا منها‪ ،‬ولكن غير املتوقع ‪ -‬إن قيض للحرب األهلية والطائفية‬
‫التي تعيشها سورية أن تنتهي قبل التفكك الكامل والشامل للبلد‪ -‬هو عودة الديكتاتورية الشمولية‬
‫السابقة‪ ،‬التي مثلها ا‬
‫دائما نظام األسدين‪ ،‬إلى الحياة‪ ،‬وإذا كانت رغبة السوريين األحياء ‪-‬اليوم‪ -‬تتأرجح‪،‬‬
‫في النظر إلى املستقبل‪ ،‬بين استعادة‪ ،‬وكسب‪ ،‬الحقوق السياسية والثقافية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬املرتبطة‬
‫بالطائفة واملذهب واإلثنية‪ ،‬وبين الرغبة بدولة مركزية قوية‪ ،‬تضم الجميع ضمن إطارها السياس ي؛ فإن‬
‫الواقع الذي ًل يحقق جميع الرغبات‪ ،‬إن لم يأتي عكسها‪ ،‬يفرض على جميع الفاعلين السياسيين في‬
‫سورية التفكير في استراتيجيات جديدة؛ لنقل القضية السورية إلى قضية تحرر وطني وإنساني‪،‬‬
‫ومواجهة التعقيد الحاصل‪ ،‬واألجندات الدولية واإلقليمية املتضاربة‪ ،‬التي تجعل سورية ساحة‬
‫لإلرهاب "الداعش ي" و"الحالش ي" واألسدي واإليراني وغيره‪ ،‬والتفكير العملي في ما يجب علينا فعله؛ لكي‬
‫نصنع الدولة من رماد املزرعة األسدية‪ ،‬ونبني الشعب السوري الواحد من رماد الطائفية؛ فبين‬
‫التماسك املطلق الذي تمثله الديكتاتورية الشمولية‪ ،‬واًلنفراط الكامل الذي تمثله املحاصصة‬
‫الطائفية‪ ،‬ونقل الطوائف إلى ّ‬
‫حيز السياسة‪ ،‬يمكن للسوريين أن يصنعوا ديمقراطية وطنية توافقية‪،‬‬
‫تقوم على اًلئتالف الواسع‪ ،‬بدل اًلستبعاد السياس ي والثقافي‪ ،‬وترتكز على التعدد الطائفي والتنوع‬
‫اإلثني‪ ،‬دون أن تجعله قاعدة للتنازع على الدولة‪ ،‬ثم تؤكد الحقوق الطائفية والعرقية‪ ،‬ولكن بعد‬

‫‪52‬‬
‫"دسترتها"‪ ،‬ونزع الحالة الخصامية من قلبها‪ ،‬ودمجها في األساس العقدي لحقوق املواطنة املتساوية بين‬
‫الجميع‪ ،‬كما ًل ّبد من اًلعتراف بالواقع املعقد الذي تقوم عليه كل الديمقراطيات في العالم؛ لكي‬
‫نتجاوز اإلنكار املديد الذي خلفته الديكتاتورية األسدية‪ ،‬نحو التعدد األصيل في الهوية السورية‪ ،‬ونحو‬
‫املختلفين في الوطن‪ ،‬الذين ستفرض مصلحتهم ‪-‬في املحصلة‪ -‬اعترافهم باختالفهم‪ ،‬وبأهمية هذا‬
‫اًلختالف في بناء الدول على األساس الوطني والديمقراطي‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫قائمة املراجع‬

‫غليون‪ ،‬برهان‪ ،‬املسألة الطائفية ومشكلة األقليات‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‬ ‫‪-1‬‬
‫‪.1979‬‬
‫فان دام‪ ،‬نيقوًلس‪ ،‬الصراع على السلطة في سوريا‪ ،‬الطائفية واإلقليمية والعشائرية في السياسة‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪-2‬‬
‫اًللكترونية األولى املعتمدة باللغة العربية‪ ،‬كانون األول‪ /‬ديسمبر ‪.2006‬‬
‫عثمان‪ ،‬هاشم‪ ،‬األحزاب السياسية في سورية‪ ،‬السرية والعلنية‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‬ ‫‪-3‬‬
‫تشرين األول‪ /‬أكتوبر ‪.2001‬‬
‫جمال باروت‪ ،‬محمد‪ ،‬العقد األخير في تاريخ سوريا‪ ،‬جدلية الجمود واإلصالح‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة‬ ‫‪-4‬‬
‫السياسات‪ ،‬الدوحة‪ -‬قطر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬آذار‪ /‬مارس ‪.2012‬‬
‫زين العابدين‪ ،‬بشير‪ ،‬الجيش والسياسة في سوريا (‪ ،)2000 -1918‬دراسة نقدية‪ ،‬دار الجابية‪ ،‬ط‪.2008 1‬‬ ‫‪-5‬‬
‫صاغية‪ ،‬حازم‪ ،‬البعث السوري‪ ،‬تاريخ موجز‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ -‬لندن‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2012‬‬ ‫‪-6‬‬
‫سيل‪ ،‬باتريك‪ ،‬األسد‪ ،‬الصراع على الشرق األوسط‪ ،‬شركة املطبوعات للتوزيع والنشر‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪،‬‬ ‫‪-7‬‬
‫الطبعة العاشرة ‪.2007‬‬
‫ُ‬
‫الحاج صالح‪ ،‬ياسين‪ ،‬السير على قدم واحدة‪ -‬سوريا املقالة‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2012‬‬ ‫‪-8‬‬
‫ْ‬
‫أرندت‪ّ ،‬‬
‫حنة‪ ،‬في الثورة‪ ،‬ترجمة عطا عبد الوهاب‪ ،‬مراجعة رامز بورسالن‪ ،‬املنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪-‬‬ ‫‪-9‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬أيلول‪ /‬سبتمبر ‪.2008‬‬
‫بشارة‪ ،‬عزمي‪ ،‬في الثورة والقابلية للثورة‪ ،‬دراسة‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬معهد الدوحة‪،‬‬ ‫‪-10‬‬
‫‪.2011‬‬
‫أبو رمان‪ ،‬محمد‪ ،‬اإلسالميون والدين والثورة في سوريا‪ ،‬مؤسسة فريدرش ايبرت‪ ،‬مكتب األردن والعراق‪/‬‬ ‫‪-11‬‬
‫مكتب سورية‪ ،2013 ،‬كتاب نسخة إلكترونية‪.‬‬
‫تقرير األمم املتحدة للطفولة (اليونيسيف)‪ ،‬أطفال سوريا‪ ،‬جيل ضائع؟ تقرير عن األزمة خالل عامين‪ :‬آذار‪/‬‬ ‫‪-12‬‬
‫مارس ‪ -2011‬آذار‪ /‬مارس ‪ ،2013‬كتاب نسخة إلكترونية‪.‬‬

‫‪54‬‬

You might also like