Professional Documents
Culture Documents
Document From Nourhan
Document From Nourhan
الفصل الثاني
في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية
الرئاسة في الدّولة
استقرت ّ
ّ ألن ّأولها يصعب على النفوس االنقياد لها ّإال ّ
بقوة قويّة فإذا ّ
األوليّة ورسخ االنقياد لهم والتّسليم ,فلم يحتاجوا
وتوارثوه واحدا بعد آخر نسيت النّفوس شأن ّ
كأن طاعتها كتاب من الله ويكون استظهارهم حينئذ على حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل ّ
سلطانهم ودولتهم وإ ّما بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في واليتها
فإن عصبيّة العرب فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواث إنّما كان ومثل هذا لبني العبّاس ّ
ّ
بالموالي من العجم والتّرك وغيرهم ث ّم تغلب العجم فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتّى زحف إليها
سلجوقيّة من بعدهم فصاروا الدّيلم وملكوها وصار الخالئق في حكمهم ث ّم انقرض أمرهم وملك ال ّ
في حكمهم ث ّم انقرض أمرهم وزحف آخر التّتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدّولة وكذلك
المغرب وأفريقيا
كالهر يحكي انتفاخا صورة
ّ انما أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ...
األسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين على األندلس من أهل العدوة من قبائل
البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة حين ضعفت عصبيّة العرب واستب ّد بن أبي عامر على
ّ
وحظ كبير من الملك الدّولة فكان لهم دول عظيمة استبدّت ك ّل واحدة منها بجانب من األندلس
على نسبة الدّولة الّتي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون
أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا
على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة
فالرجل إنّما
صبغة ألهله ّ الدّول األخيرة بعد التّمهيد واستقرار الملك في النّصاب واستحكام ال ّ
صنائع ث ّم إلى المستخدم من ورائهم باألجر على المدافعة أدرك الدّولة عند هرمها بالموالي وال ّ
الطوائف وذلك عند اختالل بني أميّة وانقراض عصبيّتها من العرب وكان في فإنّه أدرك دول ّ
ّ
يتفطن ي القول في ذلك ولمالطرطوش ّ إيالة المستعين بن هود وابنه المظفّر أهل سرقسطة فأطلق ّ
سر الله فيه َوالله ّ
فتفطن أنت له وافهم ّ وإن ال يت ّم ّإال ألهل العصبيّة
لكيفيّة األمر منذ ّأول الدّولة ّ
يؤْ تِي م ْل َكه من يَشاء
الفصل الثالث
في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي الدولة تستغني عن العصبية
وذلك أنّه إذا كان لعصبيّة غلب كثير على األمم واألجيال إنقياد لهم فإذا نزع إليهم هذا الخارج
مقر ملكه ظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله وانتبذ عن ّ
األمر من يد أعياصه وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو
قيادة وال يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليما لعصبيّته وانقيادا لما استحكم له
استقرت في اإلذعان لهم فلو راموها معه أو ّ ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانيّة
دونه لزلزلت األرض زلزالها وهذا كما وقع للدارسة بالمغرب األقصى والعبيديّين بإفريقيّة
ومصر
الفصل الرابع
في أن الدول العامة االستيالء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة
حق
ألن الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة وجمع القلوب وتأليفها إنّما وذلك ّ
َّ َ َ
يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى «لَ ْو أ ْنفَ ْقتَ ما في ْاأل َ ْر ِ
ض َج ِميعا ً ما أل ْفتَ َبيْنَ
أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل حصل التّنافس وفش الخالف وإذا وسره ّ
ّ قلوبِ ِه ْم »36 :8
أقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وق ّل الخالف وحسن التّعاون واتّسع نطاق الكلمة
لذلك فعظمت الدولة
الفصل الخامس
في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها
من عددها
صبغة الدّينيّة تذهب بالتنافس فإذا حصل لهم االستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء ّ
ألن ّ
ألن ال ّ
الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وأهل الدّولة الّتي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم
فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقيّة الموت حاصل فال يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل
يغلبون عليهم وهذا كما وقع للعرب صدر اإلسالم في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين
بالقادسيّة واليرموك بضعة وثالثين ألفا في ك ّل معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا
ي أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقد ّ
قوة عصبيّتهم كما قلنا
ي ضاعف ّ وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم ّإال ّ
أن االجتماع الدّين ّ
واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض األمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة
وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو ّ
الزائدة
لقوتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأش ّد بداوة واعتبرالقوة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين ّ ّ
َ
على أ ْم ِر ِه .12 :21
هذا في الموحدين َوالله غالِبٌ َ
الفصل السادس
في أن الدعوة الدينية من غير عصبية ال تتم
《ما بعث الله نبيّا ّإال في منعة من قومه》وإذا كان هذا في األنبياء وهم أولى النّاس بخرق
العوائد فما ظنّك بغيرهم أن ال تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة فلم يلبث حين استولى
المو ّحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة بحصن أركش
وأمكنهم من ثغره وكان ّأول داعية لهم باألندلس وكانت ثورته تس ّمى ثورة المرابطين ومن هذا
فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة الباب أحوال الث ّ ّوار القائمين بتغيير المنكر من العا ّمة والفقهاء ّ
وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من األمراء داعين إلى تغيير المنكر
والنّهي عنه واألمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من
ألن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما ويعرضون أنفسهم للمهالك غير مأجورين ّ ّ الغوغاء
أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم« :من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن
لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك ال يزحزحها ويهدم بناءها ّإال المطالبة
سالم في دعوتهم صالة وال ّالقويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل وهكذا كان حال األنبياء عليهم ال ّ
إلى الله بالعصائب وهم المؤيّدون من الله ,والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من نّاس هذا المذهب
هوة الهالك وأ ّما إن كان من المتلبّسين صر به االنفراد عن العصبيّة فطاح في ّ وكان فيه محقّا ق ّ
الرئاسة فأجدر تنقطع به المهالك ألنّه أمر الله ال يت ّم ّإال برضاه والنّصيحة بذلك في طلب ّ
وأول ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر يشك في ذلك مسلم ّ ّ للمسلمين وال
الرضى من ي بن موسى ّ 21وقتل األمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ث ّم عهد لعل ّ
آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون
الزعرة بها من ي فوقع الهرج ببغداد وانطلقت أيدي ّ واالستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهد ّ
سبيل وامتألت أيديهم من نهاب النّاس صون وقطعوا ال ّ طار والحربيّة على أهل العافية وال ّ ش ّال ّ
صالح على وباعوها عالنية في األسواق واستعدى أهلها الح ّكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين وال ّ
وكف عاديتهم ّ ساقمنع الف ّ
بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع ك ّل من أخاف ا ّ
لمارة
سلطان فقال له سهل طار وقال له خالد الدّريوش أنا ال أعيب على ال ّ ش ّ
ومنع الخفارة ألولئك ال ّ
سنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وج ّهز له لكني أقاتل ك ّل من خالف الكتاب وال ّ
ي العساكر فغلبه وأسره وانح ّل أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ث ّم اقتدى بهذا إبراهيم بن المهد ّ
الحق وال يعرفون ما يحتاجون إليه في ّ العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة
إقامته من العصبيّة وال يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤالء إ ّما
المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإ ّما التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإ ّما إذاعة
ي المنتظر إ ّما بأنّه هو صفّاعين وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطم ّ سخريّة منهم وعدّهم من جملة ال ّ ال ّ
ي وال ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا أو بأنّه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطم ّ
تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبّسين يطلبون بمثل هذه الدّعوة رئاسة امتألت بها جوانحهم
أن هذا من األسباب البالغة بهم صل إليها بشيء من أسبابها العاديّة فيحسبون ّ وعجزوا عن التّو ّ
إلى ما يؤ ّملونه من ذلك وال يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من
المتصوفة يدعى
ّ سوس رجل من ألول هذه المائة خرج بال ّ الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان ّ
ي المنتظر تلبيسا على ي عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنّه الفاطم ّ التّويذر ّ
وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته العا ّمة هنالك بما مأل قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك ّ
فتهافتت عليه طوائف من عا ّمة البربر تهافت الفراش ث ّم خشي رؤساؤهم اتّساع نطاق الفتنة
ي من قتله في فراشه وكذلك خرج في غماره سكسيو ّ فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر ال ّّ
ألول هذه المائة رجل يعرف بالعبّاس وادّعى مثل هذه الدّعوة واتّبع نعيقه األرذلون من أيضا ّ
سفهاء تلك القبائل وأعمارهم وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة .ث ّم قتل ألربعين
األولين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن
يوما من ظهور دعوته ومضى في الهالكين ّ
اعتبار العصبيّة في مثلها وأ ّما إن كان التّلبيس فأحرى أن ال يت ّم له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك
جزاء ّ
الظالمين والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق ال ربّ غيره وال معبود سواه.
الفصل السابع
في أن كل دولة لها حصة من الممالك واألوطان ال تزيد عليه
ألن عصابة الدّولة وقومها القائمين بها الب ّد من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي ّ
توزعت العدو وإمضاء أحكام الدّولة فيها من ردع فإذا ّ ّ تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من
العصائب كلّها فال ب ّد من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى ح ّد يكون ثغرا للدّولة ونطاقا
لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا
العدو ويعود وبال ذلك على الدّولة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد ّ النتهاز الفرصة من
قوة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى عددها في توزيع الحصص بقي في الدّولة ّ
قوة يصدر عنها فعل والدّولة في مركزها قوة العصبيّة وك ّل ّ الطبيعيّة في ذلك هي ّ غايته والعلّة ّ
الطرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق عجزت وأقصرت ع ّما وراءه شأن أش ّد م ّما يكون في ّ
األشعّة واألنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ث ّم إذا
أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة األطراف وال يزال المركز محفوظا إلى
أن يتأذّن الله بانقراض األمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من
مركزها فال ينفعها بقاء األطراف والنّطاق بل تضمح ّل لوقتها فإ ّن المركز كالقلب انظر هذا في
الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فل ّما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع
شام ل ّما كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بال ّ
شام تحيّزوا إلى الروميّة بال ّ
و الدّولة ّ
شام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصال بها إلى أن يضرهم انتزاع ال ّ
ّ مركزهم بالقسطنطينيّة ولم
تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب ّأول اإلسالم ل ّما كانت عصائبهم موفورة كيف
شام والعراق ومصر ألسرع وقت ث ّم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه غلبوا على ما جاورهم من ال ّ
تفرقوا حصصا ونزلوها حامية ونفد سند والحبشة وإفريقية والمغرب ث ّم إلى األندلس فل ّما ّ من ال ّ
عددهم في تلك التّوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر اإلسالم ولم يتجاوز تلك
الحدود ومنها تراجعت الدّولة حتّى تأذّن الله بانقراضها وكذا كان حال الدّول من بعد عند نفاد
عددهم بالتّوزيع ينقطع لهم الفتح واالستيالء سنّة الله في خلقه.
الفصل الثامن
في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة
والكثرة
ألن الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم الحامية وكان ملكها أوسع وبالدّولة اإلسالميّة ّ
ل ّما ألّف الله كلمة العرب على اإلسالم وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النّب ّ
ي
صلّى الله عليه وسلّم مائة ألف وعشرة آالف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل إلى من
أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فل ّما تو ّجهوا لطلب ما في أيدي األمم من الملك لم يكن دونه حمى
وال وزر فاستبيح حمى التّرك بالمشرق واإلفرنجة والبربر بالمغرب والقوط باألندلس وخطوا
شمال واستولوا على األقاليم سوس األقصى ومن اليمن إلى التّرك بأقصى ال ّ من الحجاز إلى ال ّ
شام ومصر والحجاز ث ّم انظر بعد ذلك سبعة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب وال ّ ال ّ
صر ملكهم عن ملك المو ّحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ ّأول أمرهم ث ّم حال زناتة ق ّ
الدّولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد ,كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقا وكان
وإن بنيألول ملكهم كان ثالثة آالف ّ إن عدد بني مرين ّ مرة بعد أخرى .يقال ّ لهم عليهم الغلب ّ
بالرفه كثّرت من أعدادهم وعلى هذه النّسبة في أعداد المتغلّبين أن الدّولة ّ عبد الواد كانوا ألفا ّإال ّ
وقوتها وطول أمدها أيضا فعلى تلك النّسبة والعصبيّة إنّما هي أل ّول الملك يكون اتّساع الدّولة ّ
أن النّقص إنّما يبدو في الدّولة من
صحيح في ذلك ّ سبب ال ّبكثرة العدد ووفوره كما قلناه وال ّ
األطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وك ّل نقص يقع فال
ب ّد له من زمن فتكثر أزمان النّقص لكثرة الممالك فيكون أمدها أطول ال بنو العبّاس أهل
المركز وال بنو أميّة المستبدون باألندلس .ولم ينقص أمر جميعهم ّإال بعد األربعمائة من الهجرة
ودولة العبيديّين كان أمدها قريبا من مائتين وثمانين سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد
معز ودولة المو ّحدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين سنة وهكذا نسب الدّول في أعمارها على ّ
نسبة القائمين بها سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
الفصل التاسع
في ان األوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة
وأن وراء ك ّل رأي منها تمانع بعضها فيكثر االنتقاض على الدولة الختالف اآلراء واألهواء ّ
فإن ساكن هذه األوطان وانظر ما وقع من ذلك بإفريقيّة والمغرب منذ ّأول اإلسالم ولهذا العهد ّ
مفرقة
أن إفريقة ّ األول وما ينقل عن عمر ّ من البربر أهل قبائل وعصبيّات فلم يغن فيهم الغلب ّ
لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم اإلذعان
شام إنّما كانت حاميتها من فارس ّ
والروم صفة وال ال ّ
واالنقياد ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك ال ّ
والكافّة دهماء أهل مدن وأمصار فل ّما غلبهم المسلمون على األمر والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر
من أن تحصى وكلّهم بادية وأهل عصائب وكلّما هلكت قبيلة عادت األخرى مكانها وإلى دينها
والردّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولة بوطن إفريقية والمغرب وال تحتاج الدّولة من الخالف ّ
شأن في مصر وال ّ
شام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل فيها إلى كثير من العصبيّة كما هو ال ّ
والرسوخ لقلّة
شام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدّعة ّ والعصبيّات كأن لم يكن ال ّ
الخوارج وأهل العصائب إنّما هو سلطان ورعيّة ودولتها قائمة بملوك التّرك وعصائبهم يغلبون
ي من على األمر واحدا بعد واحد وينتقل األمر فيهم من منبت إلى منبت والخالفة مس ّماة للعبّاس ّ
ألول
فإن عصبيّة ابن األحمر سلطانها لم تكن ّ أعقاب الخلفاء ببغداد وكذا شأن األندلس لهذا العهد ّ
كرات 16إنّما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدّولة األمويّة بقوا دولتهم بقويّة وال كانت ّ
أن أهل األندلس ل ّما انقرضت الدّولة العربيّة منهم وملكهم البربر من لمتونة من ذلك القلّة وذلك ّ
والمو ّحدين سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضائهم وأمكن المو ّحدون
للطاغية 12في سبيل االستظهار به على شأنهم من سادة في آخر الدّولة كثيرا من الحصون ّ وال ّ
تملّك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبيّة القديمة معادن من بيوت
شيء ورسخوا في العصبيّة مثل ابن العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة واألمصار بعض ال ّ
هود وابن األحمر وابن مردنيش وأمثالهم فقام ابن هود باألمر ودعا بدعوة الخالفة العبّاسيّة
بالمشرق وحمل النّاس على الخروج على المو ّحدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم واستق ّل ابن
هود باألمر في األندلس ث ّم سما ابن األحمر لألمر وخالف ابن هود في دعوته فدعا هؤالء البن
أبي حفص صاحب إفريقية من المو ّحدين وقام باألمر وتناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا
الرؤساء ولم يحتج ألكثر منهم لقلّة العصائب باألندلس وإنّها سلطان ورعيّة ث ّم استظهر يس ّمون ّ
ّ
بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على
والربّاط ث ّم سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في االستيالء على األندلس فصار أولئك المثاغرة ّ
ّ
األعياص عصابة ابن األحمر على االمتناع منه إلى أن تأثل 12أمره ورسخ وألفته النّفوس
تظن أنّه بغير عصابة فليس كذلك وقد ّ وعجز النّاس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد فال
فإن قطر األندلس لقلّة العصائب والقبائل فيه كان مبدؤه بعصابة ّإال أنّها قليلة وعلى قدر الحاجة ّ
ي عن العالمين.يغني عن كثرة العصبيّة في التّغلّب عليهم والله غن ّ
الفصل العاشر
في ان من طبيعة الملك االنفراد بالمجد
العصبيّة متألّفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى فتغلب وتستولي حتّى تصيّرها جميعا
ان العناصر إذا اجتمعت متكافئة في ضمنها وبذلك يكون االجتماع والغلب على النّاس والدّول ّ
فال يقع منها مزاج أصال بل ال ب ّد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الك ّل حتّى تجمعها
وتصيّرها عصبيّة واحدة شاملة لجميعها وهي موجودة في ضمنها وتلك العصبيّة الكبرى إنّما
تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم ,وال ب ّد من أن يكون واحد منهم رئيسا لهم فيتعيّن رئيسا
الطبيعة الحيوانيّة خلق الكبر فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في للعصبيّات كلّها فمن ّ
سياسة من انفراد الحاكم لفساد الك ّل باختالف التّح ّكم فيهم ويجيء خلق التّألّه مع ما تقتضيه ال ّ
س َدتا 13 »11 :12فتجدع حينئذ أنوف العصبيّات عن أن الح ّكام «لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال الله لَفَ َ
يسموا إلى مشاركته في التّح ّكم وتقرع عصبيّتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتّى ال يترك
ألحد منهم في األمر ال ناقة وال جمال فينفرد بذلك المجد بكلّيّته ويدفعهم عن مساهمته وقد يت ّم
وقوتها ّإاللألول من ملوك الدّولة وقد ال يت ّم ّإال للثّاني والثّالث على قدر ممانعة العصبيّات ّ ذلك ّ
أنّه أمر ال ب ّد منه في الدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده والله تعالى أعلم
الفصل الحادي عشر
في ان من طبيعة الملك الترف
أن األ ّمة إذا تغلّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم
وذلك ّ
ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقّته وزينته ويذهبون إلى اتّباع من قبلهم
في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النّوافل عوائد ضروريّة في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى
رقّة األحوال في المطاعم والمالبس والفرش واآلنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم
الطيّب ولبس األنيق وركوب الفاره 12ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر من األمم في أكل ّ
حظهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية الّتيالدّولة وعلى قدر ملكهم يكون ّ
قوتها وعوائد من قبلها سنّة الله في خلقه والله تعالى أعلم.
للدّولة إلى أن تبلغها بحسب ّ