Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 77

‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬

‫المدخل للقانون الدستور ّ‬


‫‪2024/2023‬‬

‫درس في الق انون الدستوري‬

‫يتش ّكل درس القانون الدستور ّ‬


‫ي من‪:‬‬
‫ـ المقدمة العا ّمة الّتي تطرح اإلطار المفاهيمي العام للما ّدة وتعريفها‬
‫ومنهجها‪.‬‬
‫ـ النظرية العا ّمة الّتي تعرض لعناصر ومكونات النظريّة العا ّمة للقانون‬
‫الدستوري‪.‬‬

‫المقدمة العامة‬
‫ي على أنّه مجموعة من القواعد القانونيّة ذات موضوع‬ ‫يقدم القانون الدستور ّ‬
‫مخصوص والتي تفترض بالنظر لطابعها التقني وخصوصيّاتها المضمونيّة تكوينا‬
‫متخصصا‪ ،‬غير ّ‬
‫أن هذا ال يمنع من القول بأن هذا الفرع من فروع القانون يحظى‬
‫اليوم باهتمام واسع من العموم وهو ما يعود‪:‬‬
‫ي من ناحية موضوعاته‬ ‫ـ في وجه أول إلى التصاق القانون الدستور ّ‬
‫بالظاهرة السياسية كظاهرة اجتماعية معاشة من المواطنين سواء في اليومي‬
‫بتفاصيله (تعيين الوالة‪ ،‬االنتخابات‪ ،‬تحوير وزاري‪ )...‬أوفي الخيارات المجتمعية‬
‫في كلياتها (مسألة الهويّة ‪ ،‬مسألة الحوكمة ‪ ،‬حقوق اإلنسان‪)..‬‬
‫ـ في وجه ثان إلى تط ّور اهتمام المواطنين بالشأن السياسي سواء بمقتضى‬
‫االنخراط الواعي (التنظم في جمعيات وأحزاب‪ )..‬أو المشاركة العرضية (‬
‫االنتخابيّة‪ )..‬أو االعتبارات الظرفيّة ( أحداث سياسية‪ ،)...‬وهو ما يتأيّد في الحالة‬
‫التونسية بما تلي ثورة ‪ 17‬ديسمبر ـ ‪ 14‬جانفي من اهتمام غير مسبوق بالقانون‬
‫الدستوري‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ي‪ ،‬فإن قواعد‬‫وإن تبرز هذه االعتبارات األه ّمية العمليّة لما ّدة القانون الدستور ّ‬
‫التقديم العلمي لها تفترض التّعرّض لسياقها االصطالحي واللّغوي (قسم أول) بما‬
‫يساهم في بلورة تعريفها (قسم ثان) و بيان مصادرها (قسم ثالث) و تحديد منهجها‬
‫(قسم رابع)‪.‬‬

‫القسم األ ّول‪ :‬السياق االصطالحي‬


‫القانون ال ّدستوري مصطلح مر ّكب يحيل على كونه باألساس قانونا (المبحث‬
‫األوّل) يستق ّل كما يتميّز بمعناه المرتبط بال ّدستور (المبحث الثّاني)‪.‬‬
‫المبحث األ ّول‪ :‬القانون الدّستوري هو باألساس قانون‬
‫يحتم وجود المجتمع ـ لكونه تنازعيّا بطبيعته ـ ضرورة استنباط قواعد ملزمة تنظّم‬
‫المصالح المتضاربة داخله مهما تنوّعت و تحول دون التّنافر والعنف بين مكوّناته‬
‫مهما اختلفت والقانون بهذا المعنى ظاهرة اجتماعيّة (=نتاج تقعيدي لمجتمع ما)‪،‬‬
‫وهو من هذه الزاوية عاكس لتص ّور مح ّدد للقيم والسلطة وهو أيضا نظام ضابط أي‬
‫مجموعة من القواعد الناظمة للمجتمع‬
‫ويستوعب القانون ال ّدستوري هذه المعاني باعتبار أن المجتمع السياسي‬
‫يتوفر على الخصائص المذكورة كما يحتاج الدور المذكور‬
‫وال ينفرد القانون وكذلك القانون الدستوري بتأطير الحياة االجتماعية حيث‬
‫أن للقيم الدينية واألخالقية دورها في ذلك ولكنه دور يختلف عن دور القانون من‬
‫حيث األساس (الوازع الديني وااللتزام األخالقي) ومن حيث التمثل (القاعدة‬
‫والقيمة) ومن حيث النتيجة (البعد العقابي)‪.‬‬
‫هذا التمييز والتمايز ال يمنع من حضور للقيمة األخالقية وللمعطى الديني صلب النص‬
‫الدستوري‪ ،‬فدستور ‪ 27‬جانفي ‪ 2014‬أشار في أكثر من فصل (الفصول ‪ 55‬و‪128‬‬
‫و‪ 129‬و‪ )..130‬إلى النزاهة وهو مفهوم أخالقي باألساس‪ ،‬كما استحضر المعطى‬
‫الديني في توطئته ( تمسك شعبنا بتعاليم اإلسالم ومقاصده المتّسمة بالتفتّح واالعتدال )‬
‫وفصله األول (تونس دولة ‪..‬اإلسالم دينها) والفصل ‪( 74‬الترشح لمنصب رئيس‬
‫الجمهورية حق لكل ناخبة أو ناخب‪ ...‬دينه اإلسالم)‪ ،‬كما يستحضر دستور ‪ 2022‬في‬
‫توطئته نفس هذه األبعاد (حرصنا على التمسّك باألبعاد اإلنسانيّة لل ّدين اإلسالمي)‬
‫أن "تونس جزء من األمة اإلسالميّة‪ ،‬وعلى ال ّدولة‬ ‫وينصّ في فصله الخامس على ّ‬
‫وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد االسالم الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض‪،‬‬
‫والمال‪ ،‬وال ّدين والحريّة"‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫إن هذا الحضور للمعطيين الديني واألخالقي حضور محدود ال يضفي على‬
‫الدستور ال وصف األخالقي وال وصف الديني‪ ،‬فهي إشارات تقوم على الطابع‬
‫المعياري بحيث أنها لم تض ّمن كقيمة أخالقية أو قيمة دينية‪ ،‬كما أنها تفتقد تمثال‬
‫تقعيديا واضحا (حيث يستخلص منها التزام قانوني محدد)‪.‬‬
‫واعتمادا على تعريف القانون عادة بكونه مجموعة القواعد العا ّمة المجرّدة و‬
‫الملزمة الحاكمة للروابط االجتماعية‪ ،‬تستوعب القاعدة الدستورية عناصر التعريف‬
‫المذكور‪ ،‬فقواعد القانون الدستوري من جهة أولى ال توجّه إلى شخص أو وضعيّة‬
‫مس ّماة أو مح ّددة بذاتها و إنما تكفي بضبط شروط إعمالها‪ ،‬هذا من جهة‪.‬‬
‫و من جهة أخرى فإ ّن هذه القواعد ال توجّه ضرورة للجميع بل قد يكون‬
‫شخص واحد معن ّي بها (رئيس ال ّدولة‪ ،‬رئيس الحكومة‪ ،‬الوزير األول‪ )...‬أو هيئة‬
‫واحدة (مجلس النّواب‪ ،‬المجلس ال ّدستوري‪ ،‬هيئة االنتخابات‪)...‬‬
‫و قواعد القانون الدستوري من جهة ثالثة وأخيرة ملزمة واجبة اإلتباع‬
‫مصحوبة بجزاء‪ ،‬فهي إن تستم ّد قوّتها من وجودها و تطبّق بذلك اختياريّا فان لم‬
‫أن الجزاء يثير التباسا يتعلّق‬
‫يحصل ت ّم ذلك إكراها بواسطة سلطة عا ّمة‪ .‬غير ّ‬
‫بتوفّره من عدمه في القاعدة القانونيّة ذات الطّبيعة ال ّدستورية طالما الجزاء هو من‬
‫أن السّلطة العا ّمة ستوقّع العقاب على‬‫اختصاص السّلطة العا ّمة (المفارقة هل ّ‬
‫نفسها؟)‬
‫بأن القاعدة ال ّدستورية ينقصها عنصر الجزاء‪ ،‬فإ ّنه متوفّر‬
‫دون شطط القول ّ‬
‫ضمنها ولكن بشكل يتناسب ومضمونها وخصوصيّة موضوعاتها‪ ،‬إذ توجد صور‬
‫الجزاء (المنظّم أو بمعناه المتعارف عليه) الذي يكفل حماية القاعدة ال ّدستورية‪ ،‬من‬
‫ق القضاء أو المجالس ال ّدستورية في إلغاء القوانين‬
‫ذلك تنصيص ال ّدستور على ح ّ‬
‫المخالفة لل ّدستور(الفصل ‪ 121‬من الدستور التونسي ‪ ،2014‬الفصل ‪ 127‬من‬
‫ق التقدم بالئحة إلعفاء رئيس الجمهورية في صورة‬ ‫الدستور التونسي ‪ ،)2022‬وح ّ‬
‫الخرق الجسيم للدستور (الفصل ‪ 88‬من الدستور التونسي‪ ) 2014‬والتي وقع‬
‫إلغاءها في دستور ‪ 2022‬وأدرجت إمكانية سحب الوكالة من النائب بمجلس نواب‬
‫الشعب (الفصل ‪ 61‬من الدستور التونسي ‪ ،)2022‬كما توجد صور أخرى متميّزة‬
‫من الجزاء من ذلك دور الرأي العام (المطالب السلميّة‪ ،‬الثّورة‪ )...‬والمجتمع‬
‫المدني (األحزاب‪ ،‬الجمعيات‪ ،‬الصّحافة‪ )...‬في الحرص على ضمان احترام قواعد‬
‫ال ّدستور‪ ،‬وهو دور ضاغط دون أن يكون زجريّا‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫و ضمن هذه المعاني يش ّكل القانون ال ّدستوري قانونا أي مجموعة من‬


‫القواعد و األحكام و المبادئ القانونيّة‪ ،‬و التّي تؤطّر ظواهر اجتماعيّة ته ّم المجتمع‬
‫بر ّمته وتتّصل بمستوى مقوّمات كيانه وهي الظّواهر السياسية‪.‬‬
‫وان يستوفي بذلك القانون ال ّدستوري معنى القانون فإنّه يرتبط في اآلن نفسه‬
‫بمعنى ال ّدستور‪.‬‬
‫المبحث الثّاني‪ :‬القانون الدّستوري و ارتباطه المبدئي بالدّستور‬
‫لم يكن المعنى اللّغوي لعبارة "ال ّدستور" غائبا عن النّشأة التّاريخيّة للقانون‬
‫ال ّدستوري حتّى ارتقى فرعا قائما بذاته ضمن فروع القانون‪.‬‬

‫‪ -1‬المعنى اللغوي و االصطالحي لعبارة الدستور‪:‬‬

‫تبدو ال ّداللة المعجميّة لعبارة "ال ّدستور" مفيدة في ضبط داللته االصطالحية‬
‫ومن وراءهما القانون ال ّدستوري‪ ،‬لكن دون أن يكونا المح ّددين الوحيدين في ذلك‬
‫باعتبار قصورهما عن استيعاب تعريفه‪ /‬معناه‪ .‬و لفظ ال ّدستور لفظ دخيل من اللّغة‬
‫الفارسيّة و معناه الوزير الكبير ال ّذي يرجع إليه و أصله ال ّدفتر تجمع فيه قوانين‬
‫الملك وضوابطه وقد عرف القاموس المحيط للفيروز أبادي هذا اللّفظ المعرّب بأنّه‬
‫النّسخة المعمولة للجماعات (والتّي منها تحريرها)‪ ،‬وهو في قاموس محيط المحيط‬
‫ال ّدفتر ال ّذي تدوّن فيه أسماء الجنود و مرتّباتهم‪.‬‬
‫أ ّما في اللّغة الفرنسيّة فإ ّن عبارة "‪ "La constitution‬تحيل على ال ّتأسيس‬
‫والتّكوين‪.‬‬
‫إن مجمل هذه الشروحات اللّغويّة تحيل على معاني الوثيقة المكتوبة وعلى السّلطة‬‫ّ‬
‫وعلى الجماعة وعلى التّأسيس‪ ،‬وهي أبعاد حاضرة بشكل أو بآخر داخل المعنى‬
‫االصطالحي لعبارة ال ّدستور‪.‬‬
‫لقد اعتمد المعنى االصطالحي لعبارة "ال ّدستور" معيارين‪ :‬المعيار ال ّشكلي‬
‫والمعيار الموضوع ّي‪.‬‬
‫ويمثّل ال ّدستور من الناحية الشكلية مجموعة قواعد قانونيّة مض ّمنة في وثيقة‬
‫رسميّة تتولّى وضعها هيئة خاصّة وفقا إلجراءات متميّزة‪ ،‬غير أنّه تعريف قاصر‬
‫على اإلحاطة بال ّدستور لكونه يتغاضى عن وجود دساتير عرفيّة (تفتقد شرط‬
‫الكتابة) و دساتير مرنة (ال تتطلّب إجراءات مختلفة عن تلك المعتمدة في وضع‬
‫القوانين العاديّة)‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ومن ث ّمة كانت الحاجة إلى المعيار الموضوعي أو الما ّدي في تعريف‬
‫ال ّدستور وهو المعيار ال ّذي يعتمد ما ّدة ال ّدستور ومحتواه بقطع النّظر عن شكله و‬
‫إجراءاته‪ ،‬وتبعا لذلك يمثّل ال ّدستور من النّاحية الموضوعيّة مجموعة القواعد‬
‫القانونيّة التّي تنظّم السلطة السّياسيّة وحقوق األفراد و عالقات الفرد بالسّلطة داخل‬
‫ال ّدولة‪.‬‬
‫إن تعريف ال ّدستور ال يتماهى بداهة و تعريف القانون ال ّدستوريّ‪ ،‬و لك ّنه‬ ‫ّ‬
‫يساهم في توضيح داللة الطّابع ‪/‬الوصف "ال ّدستوري" المسبغ عليه‪ ،‬بل و يعكس‬
‫ي و تطوّره و تبلور‬ ‫من خالل تطوّر تعريفاته (أي ال ّدستور) نشأة القانون ال ّدستور ّ‬
‫تعريفه‪.‬‬

‫‪ -2‬نشأة الق انون الدستوري و تطوره‪:‬‬

‫تعرّض أرسطو في مجموعته المعنونة "بال ّدساتير" ‪ 325‬ق‪.‬م إلى التاريخ‬


‫ي ألثينا كما استعرض مؤسّسات "المدينة" السياسيّة التّنفيذيّة والقضائيّة‬‫ال ّدستور ّ‬
‫والتّشريعية مبيّنا اختصاصاتها والعالقات القائمة بينهما‪ ،‬وإن اهت ّم أرسطو بدراسة‬
‫القواعد التّي تنظّم السّلطة السّياسية إال أنّه لم يستعمل اصطالح "القانون‬
‫ي" بالمعنى المعاصر‪ ،‬و األمر ال يعدو أن يكون تناول مف ّكر سياس ّي‬ ‫ال ّدستور ّ‬
‫لقواعد غير مكتوبة تنظّم السّلطة السّياسية وال تختلف عن بقيّة النّصوص القانونيّة‬
‫العاديّة‪.‬‬
‫ي بدأ في الظّهور في ال ّدراسات القانونيّة‪ ،‬وقد‬
‫إن اصطالح القانون ال ّدستور ّ‬
‫ّ‬
‫كان تبلور فكرة ونتاج عوامل مختلفة فكريّة فلسفيّة‪ ،‬وسياسية وأكاديميّة ارتبطت‬
‫بالفضاء الغربي األوروبي‪ ،‬وكان توسّعها نحو غيرها نتيجة التّأثّر باألنموذج‬
‫الغربي‪.‬‬
‫‪-‬العامل الفكري و الفلسفي‪:‬‬
‫فيما يتعلّق بهذا العامل الفكري‪ ،‬فقد تبلورت فكرة القانون الدستوري كوسيلة‬
‫لتنظيم السلطة وتقييدها على أرضيّة فكريّة وفلسفيّة تمت ّد للقرن ‪ 18‬مع بروز‬
‫مدرسة القانون الطبيعي (وجود نواة من الحقوق غير قابلة لالنتهاك والمسّ بها)‪.‬‬
‫وقد تبنّى هذه التصوّرات عديد المف ّكرين السياسيين كـمنتسكيو وقد اعتبر ّ‬
‫أن‬
‫الحرية قيمة مركزيّ ة تعني أو ترادف حكم القانون واالعتدال ومن ثمة دعا إلى‬
‫اعتماد وسائل كفيلة لتحقيقها كمبدأ الفصل بين السلط واختيار الحاكمين والتداول‬
‫السلمي على السلطة والدستور المكتوب‪ :‬هذه أه ّم الوسائل لبلورة قيمة الحريّة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫أن بنجمان كوينستان ‪ Benjamin Constant‬أقام معادلة بين الدستور‬ ‫كما ّ‬


‫والحريّة "ال حريّة بدون دستور وال دستور بدون حريّة" وهي أفكار لقيت صداها‬
‫لدى روّاد اإلصالح في العالم العربي اإلسالمي مثل عبد الرحمان الكواكبي‪ ،‬خير‬
‫الدين التونسي‪ ،‬الطهطاوي‪ ،‬أحمد بن أبي الضياف والذين بلوروا أرضيّة لألفكار‬
‫الغربيّة‪.‬‬
‫‪-‬العامل السّياسي‪:‬‬
‫يستوعب العامل السياسي ال ّتحوّالت االقتصاديـّة واالجتماعيّة التي مسّت‬
‫المجتمع األوروبي و األمريك ّي وضمنها تبلورت فكرة القانون الدستوري كأداة‬
‫السّلطة بتقييدها و حماية الحرّيات لقد تطلّب ظهور الطّبقة البورجوازيّة و صعودها‬
‫بداية ق‪ 17‬ظهور عالقات و هياكل جديدة (تهيكال جديدا) قادرة على خدمة مصالح‬
‫هذه الطّبقة التّي دعمت سيطرتها على وسائل اإلنتاج‪ ،‬و قد انتهجت تمشيا تدريجيّا‬
‫لبسط نفوذها اعتمد تفكيك البنى القائمة مع توظيف التّحوّالت الفكريّة و الثّقافية‬
‫(تع ّمم قيم الفردنة‪ ،‬األنسنة‪ ،‬العقلنة ‪ ،‬المساواة والحريّة)‪ ،‬فتحالفت مع الملك لتحجيم‬
‫اإلقطاعيين‪ ،‬ومن ث ّمة اتّجهت نحو تقييد سلطاته‪ ،‬وفي هذا السّياق ظهرت هياكل‬
‫مركزيّة كانت نواة لوجود ال ّدولة الحديثة كما ظهرت قواعد قانونيّة لتقييد السّلطة و‬
‫ضمان الحرّيات‪.‬‬
‫و قد عبّرت ال ّتجارب السّياسية البريطانيّة واألمريكيّة والفرنسيّة عن هذه‬
‫التّحوّالت‪ ،‬ففي بريطانيا يعتبر العهد األكبر الصّادر ‪ 1215‬أوّل محاولة تاريخيّة‬
‫تجسّم بعض مبادئ النّظام ال ّدستوري بما تقتضيه من تحديد لنفوذ السّلطة السّياسيّة‬
‫و احترام للحرّيات السّياسيّة و الفرديّة‪ ،‬والتّي وقع تأكيدها في قانون الحقوق ‪1689‬‬
‫وفي ص ّ‬
‫ك الحقوق‪.‬‬
‫و قد أفرزت التجربة ال ّدستوريّة في الواليات المتحدة األمريكية عددا من‬
‫اآلليات الدستوريّة‪ :‬تقنيّة الدستور المكتوب ‪ ،1787‬التنظيم الفيدرال ّي لل ّدولة‪ ،‬علويّة‬
‫القواعد ال ّدستورية ورقابة دستوريّة القوانين عن طريق الدفع ‪ ،1803‬مع طريقة‬
‫االقتراع باألغلبية في االنتخابات‪.‬‬
‫وقد كرّست التجربة الفرنسيّة ح ّ‬
‫ق المشاركة السّياسيّة ومختلف الحرّيات‬
‫الفر ّدية صلب إعالن حقوق اإلنسان و الموطن ‪ ،1789‬كما ساهمت في تطوير‬
‫فكرة التمثيليّة النيابيّة ومفهوم االنتخابات‪.‬‬
‫لقد عبّرت مجمل هذه التطو ّرات صلب مختلف هذه التجارب الدستورية عن‬
‫دور ال ّدستور بدالالته المختلفة (الحجّة‪ ،‬الضمان‪ ،‬العلوية‪ ،‬المرجعية) في انتشار‬

‫‪6‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫فكرة القانون ال ّدستوري وذلك ضمن موجات اختلفت في سياقاتها وخصائصها‪،‬‬


‫وذلك سواء قبل الحرب العالميّة األولى التي ميّزت موجة الدساتير األولى التي‬
‫تكيف بموجة الدساتير الليبيراليّة (السّويد ‪ ، 1809‬إسبانيا ‪ ، 1812‬النرويج ‪1861‬‬
‫‪ ،‬تونس ‪ ،1861‬مصر ‪ ،)1876‬أو بعدها مع موجة ال ّدساتير االشتراكية (روسيا‬
‫‪ ،1918‬الصين)‪ ،‬وفي السّتينات مع موجة دساتير االستقالل (سوريا ‪،1920‬‬
‫غينيا ‪ ،1957‬تونس ‪ ،)1959‬وبدءا من التسعينات إلى اليوم فيما وصف بالموجة‬
‫الرابعة أو موجة دساتير الديمقراطيّة واالنتقال الديمقراطي‪.‬‬
‫من ث ّمة تبلور تعريف القانون ال ّدستوري يقوم على كونه مجموعة من‬
‫القواعد المض ّمنة بالدستور‪ ،‬الضابطة لعالقات السّلط داخل ال ّدولة و الضامنة‬
‫لحقوق األفراد‪ .‬و قد ساهم العامل األكاديمي في تبنّي أ ّولي لهذا التّعريف‪.‬‬
‫‪-‬العامل األكاديم ّي‪:‬‬
‫تأثّرت فكرة القانون ال ّدستوري و تعريفه بالظّروف التّي أحاطت بإنشاء أوّل‬
‫كرس ّي له بكلّية الحقوق بجامعة باريس بموجب األمر الصّادر في ‪ 22‬أغسطس‬
‫أن الغرض من تدريس القانون ال ّدستوري هو شرح‬ ‫‪ ،1834‬وال ّذي نصّ على ّ‬
‫أحكام الوثيقة ال ّدستوريّة والضّمانات الفرديّة و المؤسسّات السّياسيّة‪ ،‬ول ّما كان‬
‫النّظام السّياسي القائم آنذاك في ظ ّل حكم لويس فيليب لفرنسا نظاما ملكيّا برلمانيا‬
‫ح ّرا‪ ،‬فقد أخذ القانون ال ّدستوري معنى تاريخيّا وأصليّا يربطه بال ّدستور والحرّية‬
‫والمؤسّسات السّياسية في ظ ّل ال ّدولة‪.‬‬
‫إن ظروف ال ّدراسة األكاديميّة ليست محد ّدة في تعريف القانون ال ّدستوري‬
‫ّ‬
‫بقدر ما تعكس تناوال (و برمجة) دراسيّا تختلف منطلقاته وأهدافه‪ .‬غير أنّه تناول‬
‫مفيد في تحديد مكانة هذا الفرع من فروع القانون ال ّذي تطوّرت فكرته وتبلور‬
‫تعريفه‪.‬‬
‫‪ -3‬مكانة القانون ال ّدستوري ضمن فروع القانون‪:‬‬
‫يغلب الطّابع المر ّكب على المنظومة القانونيّة داخل ال ّدولة بحيث تفترض‬
‫تقسيمها‪ ،‬و ضمنها يش ّكل القانون ال ّدستوري فرعا من فروع القانون العا ّم و إن‬
‫تتميّز مكانته صلب مجمل مكوّنات المنظومة القانونيّة‪.‬‬
‫❖ القانون ال ّدستوري فرع من فروع القانون العا ّم‪:‬‬
‫قسّم الفقهاء القانون إلى قسمين رئيسيين وهما القانون العا ّم و القانون الخاصّ ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫فالقانون العا ّم هو مبدئيا مجموعة القواعد التّي تنطبق على ال ّدولة وبقية األشخاص‬
‫العمومية في عالقاتها‪ ،‬في حين يش ّكل القانون الخاصّ مجموعة القواعد التّي تنطبق‬
‫على العالقات بين األشخاص الخاصة ( = األشخاص الطبيعيّة ـ اإلنسان‬
‫ـواألشخاص المعنويّةـ الشركات ‪ ،‬النقابات‪ ،‬الجمعيات ‪.)...‬‬
‫ويقيم فقهاء القانون هذا ال ّتقسيم على أسس ثالث‪ ،‬أوّلها اختالف الرّابطة‬
‫القانونيّة‪ ،‬فأطراف القانون العام هي ال ّدولة وباقي األشخاص العموميّة (مبدئيا) أ ّما‬
‫أطراف القانون الخاصّ فهي األشخاص الخاصة‪ .‬ويمثّل اختالف األهداف ثاني‬
‫أسس التّقسيم فقواعد القانون العا ّم تهدف أساسا إلى تحقيق الصالح العام‪ ،‬أ ّما قواعد‬
‫القانون الخاصّ فإنها ترمي إلى تحقيق مصلحة خاصّة‪ .‬و أ ّما آخر أسس التقسيم هو‬
‫اختالف الوسائل‪ ،‬فأساليب ّ‬
‫تدخل القانون العا ّم تتسّم بإلزاميّتها و قوّتها اآلمرة‬
‫دونما حاجة لموافقة األفراد‪ ،‬بحيث يتوفّر القانون العام على وسائل تنفيذية غير‬
‫مألوفة في القانون الخاصّ (التنفيذ المباشر ‪ ،‬قرينة الشرعية‪ ،‬االنتزاع‪ ،‬التوظيف‬
‫الجبري‪ )...‬خالفا للقانون الخاصّ الذي يعتمد التراضي الّذي تجسّده آلية التعاقد‬
‫أساسا‪.‬‬
‫وقد تعرّض هذا التقسيم للنّقد من حيث تأصيله‪ ،‬فالفقيه ‪Léon Deguit‬‬
‫أن أساس القانون واحد بمعنى أن الح ّكام والمحكومين يخضعون لنفس‬ ‫يرى ّ‬
‫القواعد القانونية التي هي وليدة التضامن االجتماعي والتي تهدف لتحقيقه ‪.‬‬
‫في حين يرى الفقيه ‪ Hans Kelsen‬أن ال ّدولة بناء قانوني متدرّج الطّبقات‬
‫في سلّم واحد ال مجال ضمنه للتفرقة بين قواعد قانونيّة تحكم ال ّدولة وأخرى تحكم‬
‫أن بعض‬ ‫وأن التمييز الممكن هو من زاوية القيمة القانونيّة للقواعد‪ .‬غير ّ‬
‫األفراد ّ‬
‫الفقهاء يرون التّمييز واجبا ولكن من زاوية مختلفة بمعنى التّمييز بين القانون‬
‫الموضوعي ال ّذي يبيّن الحقوق والواجبات والقانون ال ّشكلي ال ّذي يضبط إجراءات‬
‫وضع أحكام القانون الموضوعي موضع التّنفيذ‪.‬‬
‫كما وجّ هت للتّقسيم بين القانون العام والقانون الخاص انتقادات من حيث‬
‫فاعليّته وعمليّته حيث ال يمكن واقعيّا الجزم بح ّد فاصل حاسم بين القانون العام‬
‫والقانون الخاصّ إذ يصعب أحيانا تبويب بعض المواد القانونيّة (القانون‬
‫الجزائي‪ ،‬قانون الضمان االجتماعي) ضمنهما هذا من جهة أولى‪ ،‬أ ّما من جهة‬
‫ثانية فإ ّن ال ّدولة قد تخضع للقانون الخاصّ في بعض معامالتها‪ ،‬كما ّ‬
‫أن األفراد‬
‫يمكن أن يخضعوا للقانون العا ّم إذ ما قاموا بنشاط مرفقي و تلبّسوا بالطّابع‬
‫السّلطوي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫فإن ال ّتقسيم يستم ّر قائما ومجديا بين‬


‫و بالرّغم من جملة هذه االنتقادات ّ‬
‫القانون العا ّم والقانون الخاصّ ‪ ،‬فمن الناحية األكاديميّة يسهّل التّقسيم دراسة المواد‬
‫ضرورة العمليّة فهذا‬ ‫القانونية التّي تع ّددت فروعها واتّسع نطاقها‪ ،‬كما تحتّم ال ّ‬
‫التّقسيم يسمح بتحديد أفضل للقانون المنطبق من األطراف المعنيّة بإنفاذه‪ ،‬كما‬
‫يوفّر للدوّلة فرض إرادتها واستعمال وسائل السّلطة العا ّمة‪ ،‬وهو في هذا السّياق‬
‫يسمح بإدراك أفضل لحدود ما ّدة القانون ال ّدستوري ويمكن من تل ّمس أبعاد‬
‫عالقاتها بباقي فروع القانون‪.‬‬
‫❖ تميّز عالقة القانون ال ّدستوري بفروع القانون‪:‬‬
‫ال يمنع اإلقرار بكون القانون ال ّدستوري يش ّكل ما ّدة مستقلّة بذاتها تنتمي‬
‫للقانون العا ّم ال ّداخلي من التأكيد على تميّز عالقته بباقي فروع القانون وتد ّعم‬
‫فإن درجتها تختلف‪ ،‬فإن تجد‬ ‫مكانته ضمنها‪ .‬وهي عالقة إن اتّحدت طبيعتها ّ‬
‫إن عالقة القانون‬ ‫مختلف فروع القانون أصوال لها في القانون ال ّدستوري ف ّ‬
‫ال ّدستوري بباقي فروع القانون العا ّم تبدو أكثر وضوحا وأعمق مدى‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن‬
‫فروعه الرّئيسية (القانون ال ّدستوري‪ ،‬القانون المالي‪ ،‬القانون الجزائي و القانون‬
‫ال ّدولي) تلتقي جميعها في أصل واحد وهو ال ّدولة‪ ،‬فك ّل من القوانين يتناول ال ّدولة‬
‫من زاوية معيّنة تتعلّق بنشاط معيّن (السّياسي‪ ،‬اإلداري‪ ،‬المالي‪ ،‬الجزائي‪،‬‬
‫ي‪ .‬ومما يدعم هذه‬ ‫الدولي) ولكنّها تلتمس جميعها أسسا لها ضمن القانون ال ّدستور ّ‬
‫المكانة هو موقع الدستور من باقي تصنيفات القانون وتصدره هرمها‪.‬‬
‫وهنا تبلورت ظاهرة دسترة القانون عبر نزوع السلطة التأسيسيّة (سلطة‬
‫وضع الدستور أو تعديله) لإلحاطة بج ّل الموضوعات وتأطيرها (البيئة‪،‬‬
‫االقتصاد‪ ،‬الماء ‪ ،)..‬وعبر الدور التأويلي للقاضي عموما والقاضي الدستوري‬
‫خصوصا خالل عمليّة رقابة دستوريّة القوانين في تثبيت عالقة القانون‬
‫الدستوري بباقي فروع القانون بوصفه أساسا لها وضابطا وموجها لمضامينها‬
‫عبر القيم واألهداف واألسس الدستوريّة‪.‬‬
‫لقد تضمن الدستور التونسي عددا ها ّما من القواعد واألحكام المتّصلة بصورة‬
‫مباشرة أو غير مباشرة‪:‬‬
‫* بالقانون اإلداري‪ :‬وقد تأثرت القواعد التي تخصه بالخيارات الدستورية‬
‫بشأن النظام السياسي والتحول من النظام البرلماني صلب دستور ‪ 2014‬نحو‬
‫النظام الرئاسي في دستور ‪ ،2022‬فقد ورد بدستور ‪ 2014‬بالفصل ‪ 94‬أنه يكلّف‬
‫رئيس الحكومة بالسّهر على تنفيذ القوانين و بممارسة السّلطة التّرتيبيّة العا ّمة و‬

‫‪9‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ي أو الفصل ‪ 91‬ال ّذي‬‫ما ورد بالفصل ‪ 116‬منه الذي يق ّر إنشاء قضاء إدار ّ‬
‫يضبط دور رئيس الحكومة في تنفيذ السّياسة العا ّمة لل ّدولة‪ .‬والفصل ‪ 15‬الذي‬
‫يضبط قواعد عمل اإلدارة العمومية و الفصل ‪ 14‬والباب السابع الذين يهتمان‬
‫بالتنظيم اإلداري‪.‬‬
‫وطبقا لتحول مركز ثقل النظام السياسي نحو رئيس الجمهورية فقد نص‬
‫الفصل ‪ 104‬من دستور ‪" 2022‬يسهر رئيس الجمهوريّة على تنفيذ القانون‬
‫ويمارس السّلطة ال ّترتيبيّة العامّة وله أن يفوّ ض كامل هذه السّلطة أو جزءا منها‬
‫لرئيس الحكومة"‪ .‬وورد بالفصل ‪" :111‬تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة‬
‫العا ّمة لل ّدولة طبق ال ّتوجهات واالختيارات الّتي يضبطها رئيس الجمهوريّة"‪،‬‬
‫وبالفصل ‪ "113‬يسيّر رئيس الحكومة الحكومة ويٌنسّق أعمالها و يتصرّف في‬
‫دواليب الدّولة‪ .‬كما تعرّض في نفس السياق الفصل ‪ 19‬إلى اإلدارة العموميّة‬
‫بقوله "اإلدارة العموميّة وسائر مرافق الدولة في خدمة المواطن على أساس‬
‫الحياد و المساواة‪ .‬وك ّل تمييز بين المواطنين على أساس أي انتماء جريمة يعاقب‬
‫عليها القانون"‪ .‬كما خصّص الباب السّابع للجماعات المحليّة والجهويّة فصل‬
‫واحدا وهو الفصل ‪ 133‬والّذي ينصّ على أ ّنه "تمارس المجالس البلديّة‬
‫والمجالس الجهوية ومجالس األقاليم والهياكل الّتي يمنحها القانون صفة الجماعة‬
‫المحلّيّة والجهويّة والمصالح المحلّيّة والجهويّة"‪ .‬كما تعرّض ال ّدستور في باب‬
‫الوظيفة القضائيّة إلى وجود قضاء إداري ومالي يهتمان أساسا بقضاء اإلدارة‬
‫ومراقبة التصرف العمومي (المحاسبة العموميّة)‪ .‬فورد بالفصل ‪119‬من دستور‬
‫‪ " 2022‬ينقسم القضاء إلى قضاء عدلي وقضاء إداري وقضاء مالي"‪.‬‬

‫*بالقانون المالي‪ :‬حيث وضع ال ّدستور التّونسي لسنة ‪ 2014‬عددا من القواعد‬


‫المتّصلة بهذا الفرع من فروع القانون منها ما ورد بالفصلين ‪ 65‬و‪ .66‬أو ما ورد‬
‫بدستور ‪ 2022‬كالفصل ‪ 15‬الّذي جعل "أداء الضرائب و التكاليف العا ّمة واجب‬
‫على ك ّل شخص على أساس العدل واإلنصاف‪ ،‬وك ّل تهرّب ضريبي يعتبر جريمة‬
‫ق ال ّدولة والمجتمع"‪ ،‬كما نصّ الفصل ‪ 75‬على أنّه‪" :‬تتخذ شكل قانون أساسي‬ ‫في ح ّ‬
‫النّص المتعلّق بالقانون األساسي للميزانيّة‪ .‬وورد بنفس الفصل أنّه تتّخذ شكل قوانين‬
‫عاديّة النصوص المتعلّقة بقوانين الماليّة وغلق الميزانيّة والمصادقة على مخطّطات‬
‫التنمية"‪ ،‬وورد بالفصل ‪ 78‬كيفيّة ترخيص القانون في موارد الدولة و تكاليفها و‬
‫كيفية المصادقة عليها و صالحيات مختلف السلط بشأنها‪ .‬كما منح الفصل ‪ 84‬من‬
‫الدستور صالحية للمجلس الوطني للجهات واألقاليم بشأن ميزانيّة ال ّدولة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫*بالقانون الدولي‪ :‬حيث يجد هذا الفرع من فروع القانون العام في القانون ال ّدستوري‬
‫األسس و اإلجراءات التّي يرتكز عليها للتأثير القانوني داخل ال ّدولة‪ ،‬فال ّدستور‬
‫التونسي ‪ 2022‬يق ّر في توطئته مبادئ بإمكان ال ّدولة أن تلتزم على أساسها من ذلك‬
‫ما ورد في التوطئة من تأكيد لالنتماء العربي و اإلفريقي وعدم الدخول في تحالفات‬
‫وتمسّك بالشرعية الدولية‪ .‬ويلحظ في هذا السياق تراجع دستور ‪ 2022‬عن اإلشارة‬
‫للمعايير الدولية والطابع الكوني الشمولي لحقوق اإلنسان خالفا لتوطئة دستور‬
‫‪ .2014‬كما يضع دستور ‪ 2022‬في فصوله ‪ 16‬و‪ 68‬و‪75‬و‪ 74‬قواعد وأحكام‬
‫تسمح بإدماج القانون ال ّدولي ضمن المنظومة القانونيّة لل ّدولة حيث "تٌعرض‬
‫االتّفاقيّات وعقود االستثمار المتعلقة بالثروات الوطنية على مجلس نواب ال ّشعب‬
‫وعلى المجلس الوطني للجهات واألقاليم للموافقة عليها" (الفصل ‪ ،)16‬كما نشير في‬
‫هذا اإلطار إلى ما ورد في الفصل ‪ 68‬من ناحية النظام القانوني للمعاهدات فقد ورد‬
‫به "يختصّ رئيس الجمهورية بتقديم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات"‪ .‬كما‬
‫أن "رئيس الجمهورية يصادق على المعاهدات و يأذن بنشرها‪ .‬ال‬ ‫ورد بالفصل ‪ّ 74‬‬
‫تجوز المصادقة على المعاهدات المتعلّقة بحدود الدولة والمعاهدات التجارية‬
‫والمعاهدات الخاصّة بالتنظيم الدولي وتلك المتعلقة بالمعاهدات المالية للدولة‬
‫والمعاهدات المتضمنة أحكاما ذات صبغة تشريعية ّإال بعد الموافقة عليها من قبل‬
‫مجلس نواب الشعب‪ .‬ال تع ّد المعاهدات نافذة المفعول إال بعد المصادقة عليها و‬
‫شريطة تطبيقها من الطرف اآلخر‪ .‬والمعاهدات المصادق عليها من قبل رئيس‬
‫الجمهورية و الموافق عليها من قبل مجلس نواب الشعب أعلى من القوانين ودون‬
‫الدستور‪ " .‬كما ورد في الفصل ‪ 75‬أنّه تتّخذ شكل قوانين أساسية النصوص المتعلّقة‬
‫بالموافقة على المعاهدات‪.‬‬
‫*بالقانون الخاص‪ :‬يق ّر ال ّدستور التونسي لسنة ‪ 2022‬بعض المبادئ العا ّمة ال ّتي‬
‫تحكم القانون الخاصّ من ذلك بعض المبادئ العا ّمة الّتي تخصّ القانون الخاصّ من‬
‫ذلك المبادئ ذات الصلة الوثيقة بالقانون الجزائي كقرينة البراءة وحقوق الدفاع‬
‫الواردة بالفصل ‪" 33‬المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له‬
‫فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبّع والمحاكمة"‪ ،‬كما كرّس مبدأ شرعيّة‬
‫صو) وهو ما ورد في الفصل ‪" 34‬العقوبة‬ ‫العقوبة والجرائم (ال عقوبة إال بن ّ‬
‫شخصيّة و ال تكون ّإال بمقتضى نصّ قانوني سابق الوضع باستثناء حالة النصّ‬
‫األرفق بالمتّهم"‪.‬‬
‫كما تضمن دستور ‪ 2022‬بعض المبادئ المتعلقة باإلجراءات الجزائيّة فال يمكن‬
‫إيقاف شخص أو االحتفاظ به ّإال في حالة التّلبّس أو في قرار قضائي ويعلم فورا‬

‫‪11‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫بحقوقه وبالتهمة المنسوبة عليه وله أن يٌنيب محامي وم ّدة اإليقاف واالحتفاظ‬
‫ق ك ّل سجين في‬ ‫بالقانون‪ .‬وهو ما تض ّمنه الفصل ‪ ،‬أو ما تضمنه الفصل ‪" :36‬ح ّ‬
‫معاملة إنسانيّة تحفظ كرامته‪ .‬واجب على الدولة أن تراعي في تنفيذ العقوبات السّالبة‬
‫للحريّة مصلحة األسرة‪".‬‬
‫ورد بالدستور أيضا إشارة إلى القانون المدني من ذلك ما ورد بالفصل ‪ 29‬منه من‬
‫حق الملكيّة مضمون وال يمكن الح ّد منه إال بالحاالت وبالضمانات الّتي‬ ‫كون ّ‬
‫يضبطها القانون كما أق ّر نفس الفصل أنّ الملكية الفكريّة مضمونة‪.‬‬
‫ولم يخل الدستور من بعض اإلشارات للقانون اإلجتماعي‪ ،‬فتضمّن إشارات عامّة‬
‫والحق في العمل‪ .‬فقد ورد بالفصل ‪ 5‬و‪ 75‬منه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والحق في الصّحّة‬ ‫إلى قانون ال ّ‬
‫شغل‬
‫أ ّنه تتخذ شكل قوانين عاديّة النصوص المتعلّقة بالمبادئ األساسيّة لنظام الملكيّة‬
‫والحقوق العينيّة والتعليم والبحث العلمي والثقافي والصحة العمومية والتهيئة‬
‫الترابية وقانون الشغل والمناطق العمرانية والضمان االجتماعي‪ .‬كما ورد بالفصل‬
‫ّ‬
‫الحق في‬ ‫ّ‬
‫الحق في التغطية االجتماعية‪ .‬وكرّس الفصل ‪44‬‬ ‫ّ‬
‫الحق في الصحّة و‬ ‫‪43‬‬
‫حق لك ّل مواطن ومواطنة وت ّتخذ الدّولة‬
‫ال ّتعليم وأشار في الفصل ‪ 46‬إلى أنّ "العمل ّ‬
‫الحق في‬‫ّ‬ ‫ال ّتدابير الضّروريّة لضمانه على أساس اإلنصاف‪ .‬لك ّل مواطن ومواطنة‬
‫شغل‪.‬‬ ‫العمل في ظروف الئقة وبأجر عادل"‪ ،‬وهي مبادئ أساسيّة ّ‬
‫منظمة لقانون ال ّ‬

‫إنّ المكانة المتميّزة للقانون الدستوري إزاء بقيّة فروع القانون خاصّة منها‬
‫فروع القانون العا ّم ال تعني أنّ يش ّكل بديل عنها وإ ّنما تعكس إمكانات ال ّتفاعل بين‬
‫مختلف فروع القانون‪.‬‬

‫القسم الثّاني‪ :‬تعريف القانون الدستوري‬


‫يشترط تعريف الشيء اكتفاء المعرّف به بحيث يكون التعريف جامعا‬
‫مانعا‪ ،‬وال يبدو أن تعريف القانون ال ّدستوري قد استوفى ذلك‪ ،‬فقد تع ّددت‬
‫تعريفاته وغدى من الصّعب إيجاد تعريف واحد أو موحّد له‪ ،‬ويعود ذلك أساسا‬
‫إلى تأثّر للفقه باالعتبارات السياسية و االقتصاديّة و االجتماعيّة و اإليديولوجية‪.‬‬
‫و ل ّما كان تعريف أي فرع من فروع المعرفة يتطلّب تحديد موضوعه و‬
‫مفهومه‪ ،‬فإ ّن سمة التّنوّع الزمت مرتكزي تعريف القانون ال ّدستوري‪.‬‬
‫المبحث األ ّول‪ :‬موضوع القانون الدّستوري‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫يقصد بموضوع القانون ال ّدستوري مدار اهتمامه بمعنى محتواه وما ّدته وقد‬
‫اختلف الفقهاء بشأن اإلطار الخاصّ بالقواعد ال ّدستوريّة بين اتّجاهين رئيسيّين‬
‫اتّجاه تقليدي و اتّجاه حديث‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬االتّجاه التّقليدي في تحديد موضوع القانون الدّستوري‪:‬‬
‫تتع ّدد داخل هذا االتّجاه تعريفات القانون ال ّدستوري التي تأثّرت بعوامل‬
‫نشأته بداياته‪ ،‬وهو ما يتطلب بيان مضمونها الذي لم يسلم من االنتقادات‬

‫أـ ثوابت االتّجاه التّقليدي في تحديد موضوع القانون ال ّدستوري‪:‬‬


‫يعرّف الفقيه ‪ Carré de Melberg‬القانون ال ّدستوري بكونه "جزء‬
‫القانون العا ّم الّذي يحتوي على مجموعة القواعد‪ ،‬والمؤسسات التّي تش ّكل في‬
‫محيط ال ّدولة دستور ال ّدولة"‪.‬‬
‫أن القانون ال ّدستوري يتعلّق بالمؤسسات‬
‫و يرى الفقيه ‪ّ Mercel Prélot‬‬
‫التّي تنشأ السلطة و تضبط طرق نقلها و نظام ممارستها داخل ال ّدولة‪.‬‬
‫وفي رأي الفقيه ‪ Benoît Jenneau‬يهت ّم القانون ال ّدستوري بدراسة ال ّدولة‬
‫كظاهرة‪ ،‬و يعتبر الفقيه ‪ René Chapus‬أ ّن القانون ال ّدستوري يختصّ بدراسة‬
‫أن القانون‬ ‫النّظام القانوني لحكومات ال ّدول‪ ،‬في حين يرى الفقيه ‪ّ Laferrière‬‬
‫ال ّدستوري هو مجموعة القواعد المتعلّقة بشكل ال ّدولة وهيكلتها وبتنظيم وسير‬
‫وصالحيّات وعالقات الهيآت العليا داخلها وبمشاركة المواطنين في الحكم"‪.‬‬
‫و تحيل مجمل هذه التعريفات على توفّر مجموعة من القواسم المشتركة بينها‬
‫وهي لم تكن مح ّل إجماع بحيث وجّهت لها مجموعة االنتقادات‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬االلتزام باإلطار القانوني‪:‬‬
‫فموضوع القانون ال ّدستوري يتعلّق بالقواعد القانونيّة دون سواها ويلتزم‬
‫بالتّأطير القانوني فحسب‪ .‬ويفيد تركيز فقهاء االتّجاه التّقليدي على البعد الوضعي‬
‫دعوة ضمنيّة إلى إقصاء الممارسة والتّطبيق من نطاق موضوع القانون‬
‫أن القانون ال ّدستوري هو باألساس قانون‪،‬‬ ‫ال ّدستوري‪ ،‬وهو أمر مبرّر من جهة ّ‬
‫وهو مبرر ـ من جهة أخرى ـ بوجهة نظر رجل القانون ال ّذي يبحث في ما يجب‬
‫أن يكون ال في ما هو كائن‪ .‬وقد تمحور التزام فقهاء االتّجاه التقليدي بالخطاب‬
‫القانوني في تحديد موضوع القانون ال ّدستوري بال ّدستور ثم تو ّسع ليشمل باقي‬

‫‪13‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫القواعد ذات الطبيعة الدستوريّة المضمنّة بالمصادر األخرى مع الحفاظ على‬


‫مركزيّة الدستور‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تنظيم السلطة السيّاسية‪:‬‬
‫ي مفهوم السّلطة السّياسية و إن‬ ‫تستحضر مختلف تعريفات اال ّتجاه التّقليد ّ‬
‫كان ذلك بألفاظ مختلفة (ظاهرة الدوّلة‪ ،‬حكومات ال ّدول‪ ،‬الظّاهرة السّياسيّة)‪ ،‬و‬
‫تجاه توفّر مفهومين للسّلطة السّياسيّة أحدهما ضيّق و اآلخر واسع اعتمد فقهاء‬
‫االتّجاه التّقليدي المفهوم الضيّق ال ّذي يفيد السّلطة المتّصلة بقيادة المجتمع‬
‫السّياسي وال ّذي يتوفّر بين مكوّناته ح ّد أدنى من المصالح المشتركة و الرّغبة في‬
‫العيش المشترك و االستعداد للتنظيم في ظ ّل هياكل قيادته (أي نخبة سياسيّة)‪.‬‬
‫وهذا خالفا للمفهوم الواسع الّذي يرتكز على مفهوم القوّة وال ّ‬
‫ضبط والتّوجيه‬
‫ي مجموعة بشريّة بحيث أن كل ّظاهرة‬ ‫وهي معاني يمكن أن توجد داخل أ ّ‬
‫متّصلة بالسّلطة تتحوّل إلى ظاهرة سياسيّة و ك ّل مجموعة إلى مجموعة سياسيّة‪،‬‬
‫وهو ما ال يمكن قبوله باعتبار توفّر السلطة السياسيّة على خصائص تميّزها عن‬
‫باقي الظواهر‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬االرتباط بال ّدولة ‪:‬‬
‫ي يفترض و يلتزم ال ّدولة‬ ‫ي ّ‬
‫أن القانون الدستور ّ‬ ‫يعتبر فقهاء اال ّتجاه ال ّتقليد ّ‬
‫إطارا واحدا له وموضوعا ألحكامه‪ ،‬فالقانون ال ّدستوري ال يوجد خارج ال ّدولة أو‬
‫سابقا عليها و يرى الفقيه ‪ Carré de Melberg‬أنّه "منذ اللّحظة التّي يت ّم فيها‬
‫انصهار الجماعة القوميّة في وحدة متكاملة تربط بين أفرادها مصالح موضوعيّة‬
‫مشتركة فإنها تتحوّل بإصدار ال ّدستور إلى دولة" وهو ما ينتهي إليه الفقيه ‪Hans‬‬
‫‪ Kelsen‬ال ّذي يعتبر ال ّدولة تشخيصا للقواعد القانونيّة المتدرّجة هرميّا نتاجا‬
‫للقاعدة األعلى وهي ال ّدستور‪.‬‬
‫ي مع تطوّر فكرة ال ّدولة وضمن سياق‬ ‫لقد تحقّق تطوّر القانون ال ّدستور ّ‬
‫تأسيس السلطة‪ ،‬فوجود ال ّدولة افترض تنظيما سياسيا وقانونيّا متكامال يسمح‬
‫بالفصل بين ظاهرة السّلطة وأشخاص الحاكمين و يم ّكن من إقامة مؤسّسات‬
‫تخضع لقواعد وأحكام تعبّر عن إرادة تختلف عن إرادة األشخاص وال يرتبط‬
‫مصيرها بمصير واضعيها في تقلّص لنظريّات الحكم اإلله ّي المق ّدس والمفوّض‬
‫ي‪ ،‬بحيث بدأت ديمومة القواعد ال ّدستوريّة في االرتباط بديمومة‬ ‫والفرد ّ‬
‫المؤسّسات و بالتّالي ديمومة ال ّدولة‪ ،‬وهو تمشّ تثبّته التّجربة ال ّدستورية الغربيّة‬
‫(ايطاليا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬فرنسا) كما يد ّعمه ارتباط ظهور ال ّدول إثر تف ّكك‬

‫‪14‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫اإلمبراطوريّات (العثمانيّة‪ ،‬المجرية) أو إثر االستقالل بوضع دساتير تؤ ّكد‬


‫وجودها‪.‬‬
‫و بال ّرغم م ّما يبدو من وجاهة ثوابت تصوّر الفقه التّقليدي من موضوع‬
‫القانون ال ّدستوري فإنّه لم يسلم من النقد في بعض جوانبه‪.‬‬
‫ب‪ -‬االنتقادات الموجّهة لالتّجاه التّقليدي‪:‬‬
‫ي على مجموع‬‫ي لموضوع القانون ال ّدستور ّ‬ ‫انبنى تحديد اال ّتجاه ال ّتقليد ّ‬
‫العوامل التّي ساهمت في انبثاق فكرة و مفهوم القانون ال ّدستور ّ‬
‫ي وهي عوامل‬
‫أن تطوّر هذا السّياق التاريخي فرض مراجعة‬ ‫تن ّزلت في السياق التاريخي‪ ،‬بحيث ّ‬
‫ي عبر‪:‬‬ ‫ي لموضوع القانون ال ّدستور ّ‬ ‫مرتكزات التّصوّر التّقليد ّ‬
‫أ ّوال‪ :‬ضرورة إثراء الخطاب القانون ّي‪:‬‬
‫ي في دراسة القواعد‬ ‫إن حصر االتّجاه التّقليدي دراسة القانون ال ّدستور ّ‬
‫القانونيّة عموما ووثيقة ال ّدستور خصوصا يبدو توجّها محدودا وجزئيّا فهو يمثّل‬
‫إن القاعدة القانونيّة نتاج واقعها متأثّرة به‬
‫اجتثاثا للقاعدة القانونيّة من محيطها‪ّ .‬‬
‫أن فهمها و تناول مختلف أبعادها يستوجب وضعها في إطارها‬ ‫مؤثّرة فيه بحيث ّ‬
‫أن النّصّ القانون ّي مهما بلغ من دقّة و طول ال يمكنه أن يستوعب‬ ‫الواقعي‪ .‬ث ّم ّ‬
‫أن دراسة‬ ‫الظّاهرة السّياسّة في شموليّتها و كلّيتها و في حركيّتها ال ّدائمة‪ .‬كما ّ‬
‫الظّاهرة السّياسيّة ال يمكن أن تكون مجدية باالقتصار فقط على النّصّ ال ّذي‬
‫أن الواقع والممارسة قد يطابقان النّصّ و لكنّهما أيضا قد يخالفانه‬ ‫يؤطّرها حيث ّ‬
‫أن االعتماد على النّصّ فقط يق ّدم تصوّرا مخالفا للواقع‬ ‫أو يشوّهانه بحيث ّ‬
‫ومنقوصا‪.‬‬
‫وإن كان من غير المالئم االقتصار في تناول موضوع القانون ال ّدستوري‬
‫على المعطى القانوني فإنّه يبدو من باب أولى وأحرى دعم جدوى حصره في‬
‫وثيقة ال ّدستور وذلك العتبارات ثالثة‪ .‬فمن جهة أولى قد يتض ّمن ال ّدستور‬
‫المكتوب أحكام ال عالقة بها بموضوع القانون ال ّدستوري بمعنى أنّها ال تهت ّم‬
‫بالسّلطة السّياسيّة كتنصيص ال ّدستور الهندي لسنة ‪ 1950‬على قواعد تتعلّق‬
‫بالقبائل وال ّدستور األسترالي لسنة ‪( 1901‬الفصل ‪ )104‬على تعريفة نقل‬
‫البضائع عن طريق السّكك الحديدية‪ .‬و من جهة ثانية توجد قواعد دستوريّة غير‬
‫منصوص عليها بال ّدستور وهو ما يجسمه بداهة تع ّدد مصادر القانون الدستوري‬
‫سواء المكتوب (المعاهدات‪ ،‬القوانين‪ ،‬المراسيم) أو غير المكتوب (فقه‬

‫‪15‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫القضاء‪ ،)...‬و من جهة ثالثة تتو ّفر دساتير غير مكتوبة خالفا لما ينتهي اال ّتجاه‬
‫التّقليدي من معادلة بين القانون ال ّدستوري و ال ّدستور المكتوب‪.‬‬
‫إن مجمل االنتقادات المذكورة وإن تد ّعم ضرورة إثراء المقاربة القانونيّة‬
‫بالمعطى السوسيولوجي و البعد الواقعي إال أنّها ال ينبغي أن تحلّه محلّها‪ .‬فالقانون‬
‫يبقى في نهاية األمر المقياس و المرجع في تنظيم السّلطة السّياسيّة و ال ّزاوية‬
‫المعتمدة في تناول المسائل المتعلّقة بالقانون ال ّدستوري عموما‪.‬‬
‫و تبدو الرؤية التنسيبيّة حاضرة أيضا فيما يتعلّق أيضا بتالزم القانون‬
‫ال ّدستوري مع ال ّدولة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬نسبيّة تالزم ال ّدولة و القانون ال ّدستور ّ‬
‫ي‪:‬‬
‫تبدو عالقة القانون ال ّدستور بال ّدولة كموضوع عالقة ثابتة دون أن تكون‬
‫حصريّة و ذلك ألسباب ع ّدة فال ّدستور ال يع ّد الواقعة المنشئة لل ّدولة إذ أنّها تنشأ‬
‫بتوفّر و اكتمال أركانها من مجموعة بشريّة و إقليم وسلطة سياسيّة ليكون من ث ّمة‬
‫دور ال ّدستور دورا إعالنيّا كاشفا ومثبتا لوجود ال ّدولة هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة‬
‫ثانية فإ ّن ال ّدولة بمعناها المؤ ّسساتي تعتبر تش ّكال حديثا وهو ما يعني انتفاء‬
‫القانون الدستوري قبلها ولو كان ذلك بشكل أوّلي وخصوصي فقواعده وجدت‬
‫كلّما وجدت مجتمعات سياسية أي جماعات خاضعة لسلطة سياسيّة عليا (المجتمع‬
‫األثيني‪ ،‬المجتمع النبوي‪ )...‬و ذلك بقطع النّظر عن وجود شرط مؤ ّسسة السّلطة‬
‫(المجتمع األوروبي قبيل القرن‪.) 17‬‬
‫و يبقى من الثّابت ّ‬
‫أن ال ّدولة تع ّد ال ّشكل األرقى لتنظيم ال ّسلطة و ال ّشكل‬
‫ال ّدارج وانما أيضا الشكل المرجعي والمعياري للمجتمع السّياسي اليوم ة‪ ،‬وإن‬
‫دعا بعض الفقهاء إلى تجاوزها نحو توسيع موضوع القانون ال ّدستوري‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬االتّجاه الحديث في تحديد موضوع القانون الدّستوري‪:‬‬


‫مثّل االتّجاه الحديث من تحديد موضوع القانون ال ّدستوري مراجعة تكاد‬
‫تكون جذريّة أحيانا ألسس تصوّر االتّجاه التّقليدي من هذه المسألة‪ ،‬وهي مراجعة‬
‫نحت منحى تجاوز شكالنيّة االتّجاه المذكور بحيث يتمثّل موضوع القانون‬
‫ال ّدستوري حسب رأي األستاذ الصادق بلعيد في "دراسة ك ّل أشكال التّنظيم‬
‫اإليديولوجي و القانوني لحياة المجتمع السّياسي"‪ ،‬و يتوسّع من ث ّمة موضوع‬
‫القانون ال ّدستوري على مستوى قواعد تأطيره و إطاره‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫التّنظيم اإليديولوجي و القانون ّي‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫تش ّكل اإليديولوجيا أه ّم مر ّكبات ما يعبّر عنه بالعنصر السّياسي المؤثّر‪،‬‬
‫وهو العنصر ال ّذي يهدف إلى تنظيم الحياة السّياسيّة في مجتمع معيّن و إلى التّأثير‬
‫فيها‪ .‬و تمثّل اإليديولوجيا القاعدة الفكريّة التّي ترتكز عليها السّلطة السّياسيّة‪ .‬و‬
‫ترجع أه ّمية اإليديولوجيا في دراسة القانون ال ّدستوري لسببين كما يرى األستاذ‬
‫الصّادق بلعيد‪ ،‬فالنّزاعات االجتماعيّة نزاعات إيديولوجيّة في جوهرها وهو نزاع‬
‫يمكن أن يؤ ّدي إلى تحوّالت مجتمعيّة جوهريّة هذا في الحالة االجتماعيّة‬
‫التّنازعيّة و كذا في الحالة غير التّنازعيّة إذ تؤثّر االيدولوجيا في المجتمع المستق ّر‬
‫على الممارسة وعلى العالقات بين مختلف القوى داخله‪ ،‬كما تؤثّر تبعا لذلك في‬
‫القواعد القانونيّة التّي تنظّمه‪.‬‬

‫في هذا السياق يعتبر الفقيه ‪ M.Duverger‬أنّه ال يمكن االقتصار في‬


‫دراسة القانون ال ّدستوري على مجرّد التّحليل القانون ّي لألنظمة السياسيّة أي‬
‫مجرّد ال ّشرح الفقه ّي لنصوص الدساتير التي تتض ّمن بيان أنظمة الحكم بحيث‬
‫يتوجب أن تمت ّد الدراسة أيضا إلى األنظمة السياسيّة التّي لم يعمد التّشريع‬
‫ي إلى تنظيمها كاألحزاب السياسيّة والرّأي العا ّم و تمت ّد كذلك‬ ‫ال ّدستوري أو العاد ّ‬
‫إلى فحص مدى تطبيق تلك األنظمة وفقا ألحكام ال ّدستور‪ .‬إ ّن القانون ال ّدستوري‬
‫ال ّذي يهت ّم بتنظيم الحكم والحياة السياسيّة لل ّدولة يتأثّر بالوسط السّياسي ال ّذي يوجد‬
‫فيه‪ .‬كما تؤثّر فيه جملة الظّروف التّاريخيّة واالجتماعية واالقتصاديّة التّي تتح ّكم‬
‫في هذا الوسط‪ ،‬فال ّدساتير حين تضبط المبادئ السّياسيّة واالتّجاهات الفكريّة التّي‬
‫ينبني عليها نظام الحكم فإنها تقوم بتكريس تصوّر سياس ّي لمجموعة سياسيّة‬
‫واجتماعيّة مهيمنة داخل المجتمع السّياسي‪ ،‬من ث ّمة ال يمكن عزل المنطق‬
‫القانون ّي عن المعطى اإليديولوجي صلب موضوع القانون ال ّدستوري خصوصا‬
‫في ظ ّل نقائص الخطاب القانون ّي و إضافات التحليل اإليديولوجي‪.‬‬
‫ورغم تأسيس االتّجاه الحديث تصوّره لموضوع القانون ال ّدستوري ضمن هذه‬
‫الموازنة فقد تجاذبته تيّارات مختلفة‪ .‬فقد ذهب بعض فقهاء االتّجاه الحديث خالل‬
‫الخمسينات والسّتينات إلى تغليب التّناول اإليديولوجي و السّياسي على القواعد‬
‫ال ّدستوريّة معتبرين ال ّدستور أثرا من بقايا الماضي ‪ .George Burdeau‬و لكن‬
‫مع أواخر السبعينيات برز تيّار جديد نادى بر ّد االعتبار إلى ال ّدستور كنصّ‬
‫يتض ّمن أسمى القواعد القانونيّة في ال ّدولة‪ ،‬وارتكز تصوّره في تجديد القانون‬

‫‪17‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ال ّدستور ّ‬
‫ي على تدعيم طبيعته القانونيّة وتوسّع مجاله نحو ثالثيّة تشمل المؤسّسات‬
‫والقواعد والحرّيات وتثبت علويّته‪.‬‬
‫وهو تصوّر إن د ّعم العنصر األول فقد حافظ على العنصر الثاني من تحديد‬
‫االتّجاه الحديث لموضوع القانون ال ّدستوري‪.‬‬
‫المجتمع السّياسي‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫ي خالفا‬ ‫يكتفي االتّجاه الحديث بالمجتمع السّياسي إطارا للقانون ال ّدستور ّ‬
‫لالتّجاه التقليدي ال ّذي يجعل من ال ّدولة إطاره الحتمي‪ ،‬فال ّدولة في تقدير فقهاء‬
‫االتّجاه الحديث ال تعدو أن تكون شكال من أشكال السلطة السّياسيّة‪ ،‬وهو شكل‬
‫مستحدث ظاهر في فترة معيّنة حديثة نسبيا (القرن ‪ ،) 17‬فالسّلطة السّياسيّة‬
‫وجدت خارج إطار ال ّدولة و ذلك حتّى في ظ ّل غياب فكرة المؤسّسة حيث توفّرت‬
‫قواعد دستوريّة تتّصل بهيكلة السّلطة و تنظيمها وانتقالها حتّى في المجتمعات‬
‫القديمة وهي مالحظة تنسحب على بعض المجتمعات الحديثة فال ّدولة في الفكر‬
‫الماركس ّي أداة مدعوّة إلى ال ّزوال في آخر مراحل تطوّر االشتراكيّة وهي‬
‫ال ّشيوعيّة و حتّى في كامل هذه المرحلة النّهائيّة توجد قواعد دستوريّة تنظّم إدارة‬
‫ال ّشؤون‪ ،‬وفي النظم المشخصنة (النّظام النّازي والفاشي والنظم االستبدادية)‬
‫حيث يتماهى شخص ال ّزعيم والسلطة توجد قواعد دستوريّة تنظّم السّلطة‬
‫وممارستها رغما عن غياب سلطة مؤسّسة‪.‬‬
‫لقد بلور فقهاء االتّجاه الحديث تصوّرا نقديّا في ضبطهم لموضوع القانون‬
‫ال ّدستوري بحيث خرجوا عن المركزيّة األوروبيّة مثبتين إمكانيّة التفكير في‬
‫القانون ال ّدستوري خارج الفضاء األوروبي إضافة لذلك صيّر هؤالء الفقهاء‬
‫التّفكير ممكنا في إطار ال ّدولة و تجاوزوا شكالنيّة االتّجاه التّقليدي ‪.‬‬
‫أن الدولة تستم ّر ال ّشكل ال ّدارج‬
‫إن هذه المزايا ال تخفي انتقادات مفادها ّ‬ ‫ّ‬
‫أن االكتفاء بالمجتمع السّياسي إطارا للقانون ال ّدستوري‬ ‫للسّلطة السّياسيّة‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫يجعل من هذا القانون هدفا في ح ّد ذاته ال أداة لتحقيق هدف‪ ،‬فربط القانون‬
‫ي بال ّدولة في االتّجاه التّقليدي يدخل في إطار تصوّر واضح للقانون‬ ‫ال ّدستور ّ‬
‫ي وهي ميزة ال تبدو واضحة في ظ ّل عموميّة االتّجاه الحديث‪.‬‬ ‫ال ّدستور ّ‬
‫وعلى ضوءه يمكن بلورة تصوّر لموضوع القانون ال ّدستور ّ‬
‫ي حيث يهت ّم‬
‫(موضوعه) بتنظيم السلطة من خالل دراسة القواعد القانونيّة و المحيط ال ّذي‬
‫توجد فيه في المجتمع السّياسي في نطاق ال ّدولة‪.‬‬
‫و يغدو بذلك من المتوجّه البحث في مفهوم القانون ال ّدستور ّ‬
‫ي‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫المبحث الثّاني‪ :‬مفهوم القانون الدّستوري‪:‬‬


‫تمثّل القاعدة القانونيّة بصفة عا ّمة تعبيرا عن توجّهات مذهبيّة أو تطلّعات‬
‫معيّنة‪ ،‬و تتحقّق هذه المالحظة بشكل خاصّ في القانون ال ّدستوري‪ ،‬فهو قانون‬
‫ملتزم يش ّكل وسيلة تعبير قانونيّة عن نظريّة ما أو فكرة أصوليّة للقانون أي أنّه‬
‫ي يتوفّر على‬‫يستبطن هدفا وغاية‪ ،‬و يجوز التّساؤل ع ّما إن كان القانون ال ّدستور ّ‬
‫مفهوم واحد؟‬
‫إن داللة مصطلح "المفهوم" وضمن سياق نشأة وتطوّر القانون ال ّدستوري‬‫ّ‬
‫تتض ّمن كما تفترض معنى التّع ّدد دون أن تنتقص من أه ّمية بعض المفاهيم‪ .‬في‬
‫هذا السّياق يمكن استعراض التّصوّرات التّقليديّة والجديدة لمفهوم القانون‬
‫ال ّدستوري‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬التّص ّور التّقليدي لمفهوم القانون الدّستور ّ‬
‫ي و مركزيّة‬
‫مفهوم الح ّرية‪:‬‬
‫ي توجّه مذهب ّي أو تطلّع‬
‫إن كان القانون ال ّدستوري قادرا على التّعبير على أ ّ‬
‫مجتمعي فإنّه حامل في اآلن نفسه إليديولوجيّة معيّنة في ظرف معيّن من‬
‫ي وبالنّظر الرتباطه بالفضاء الغربي فكريّا‬ ‫أن القانون ال ّدستور ّ‬
‫تاريخها‪ ،‬والمعنى ّ‬
‫وفلسفيّا وسياسيّا واقتصاديّا فإنّه تطوّر حول مفهوم الحرّية مقترنا بالمدرسة‬
‫ال ّدستوريّة‪ ،‬و قد اتّخذ هذا المفهوم ضمنها تعبيرات مختلفة‪ ،‬كما تنوّعت وسائل‬
‫تحقيقه‪.‬‬
‫تمثّل المدرسة ال ّدستوريّة ـ أولى المدارس الفقهية في دراسة القانون‬
‫الدستوري ـ المدرسة الفكريّة و القانونيّة التّي أقامت معادلة بين القانون‬
‫ال ّدستوري والحريّة و قد ساهم منتسكيو ( ‪ ) 1755 – 1689‬بكتابة "روح‬
‫القوانين (‪ " )1748‬و جون جاك روسو(‪ )1712-1773‬بكتابة "العقد‬
‫االجتماعي" في بلورة أرضيّتها الفلسفيّة و النّظريّة بال ّدعوة إلقامة مجتمع تسوده‬
‫الحريّة وينتفي فيه التّعسّف والحكم الفردي بحيث تتحقّق كما يرى المف ّكر السّياسي‬
‫"بنجمان كونستان" ‪ "Benjamin Constant‬الحرّية – المشاركة ‪la liberté‬‬
‫ق المشاركة في السّلطة السّياسيّة و‬ ‫‪ participation‬و التّي ترتكز على ح ّ‬
‫الحريّة – االستقالليّة ‪ la liberté autonomie‬والتّي تقتضي أن ال يمارس‬
‫ي نوع من أنواع الضّغط على الفرد و أن يعترف له بمجال تمتنع‬ ‫المجتمع أ ّ‬
‫دخل فيه‪ .‬و قد انتهى هذا الفقيه إلى القول بأنّه "ال دستور بال حرّية‬
‫السّلطة عن التّ ّ‬
‫و ال حريّة بال دستور" مستوحيا هذه المعادلة من الفصل ‪ 16‬من اإلعالن‬

‫‪19‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الفرنسي لحقوق اإلنسان و المواطن "ك ّل مجتمع ال تقرّر فيه ضمانات لحقوق‬
‫األفراد و ال يسود فيه مبدأ الفصل بين السّلطات هو مجتمع ليس له دستور"‪.‬‬
‫و إن ا ّتفق فقهاء المدرسة ال ّدستوريّة على اعتماد الحريّة غاية وهدفا فإنهم‬
‫اختلفوا في النّظر إليها كأولويّة منقسمين إلى أجيال ثالثة‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬القانون ال ّدستوري أداة الحريّة‪:‬‬
‫يذهب الفقيهين "كارل فريد ريش "‪ "Karl Friedrich‬و مركين قيزفيتش‬
‫فن صناعة‬ ‫"‪ "Mirkine Guetzévich‬إلى تعريف القانون ال ّدستوري بأنّه " ّ‬
‫الحريّة"‪ ،‬فالنّظام ال ّدستوري يجب أن يتّجه إلى فرض احترام الفرد من طرف‬
‫السّلطة السّياسيّة‪ ،‬وهو ما يتأ ّكد بالعودة للتّاريخ ال ّدستوري حيث انبثق القانون‬
‫الدستوري حينما ارتضى الملوك المستب ّدين اإلبقاء على التّوازن بين استمراريّة‬
‫سلطتهم وحقوق األفراد وذلك رضوخا لمطالبات األفراد بالحفاظ على حرّياتهم‬
‫وتمكينهم من المشاركة السّياسيّة‪.‬‬
‫أن القول ّ‬
‫بأن‬ ‫غيرأن الفقيه "أندري هوريو"‪ "André Hauriou‬يرى ّ‬
‫القانون ال ّدستوري تنظيم للحريّة و إن كان أمرا محبّذا إال أنّه يجب عدم األخذ به‬
‫بصفة مطلقة إذ يؤ ّدي هذا القول إلى سهولة االعتقاد بعدم وجود حدود للنّزعة‬
‫نحو الحرّية‪ .‬وهو مأخذ يمكن توجيهه أيضا للجيل الثاني من المدرسة ال ّدستوريّة‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬القانون ال ّدستوري أداة السلطة ‪:‬‬
‫أن ال ّدستور يوجد بالضّرورة في ك ّل دولة أيّا كان‬ ‫يرى جانب من الفقه ّ‬
‫النّظام ال ّسائد فيها ديمقراطيّا أو مطلقا مادام فيها تنظيم للسّلطة وبهذا فإ ّن لك ّل دولة‬
‫دستور يح ّدد نظام الحكم و يبيّن السّلطات العا ّمة و كيفيّة تكوينها واختصاصاتها‬
‫وعالقاتها يبعضها وعالقاتها باألفراد بقطع النّظر عن التزامها بسيادة الشعب‬
‫وحقوق اإلنسان (ايطاليا الفاشية ‪ ، 1922‬ألمانيا النّازية ‪ ،) 1933‬وفي هذا‬
‫الصّدد يعتبر الفقيه مارسال بريلو ‪ Mercel Prélot‬القانون ال ّدستوري أداة‬
‫للسلطة و جاراه في ذلك الفقيه "جورج فيدال ‪.Georges Vedel‬‬

‫و قد عاب الفقيه أندريو هوريو على هذا التّصوّر كونه يؤ ّدي إلى االعتقاد‬
‫بأن ممارسة السلطة غاية في ح ّد ذاتها وأنّها تجد تبريرها في مصلحة الح ّكام دون‬ ‫ّ‬
‫مصلحة المحكومين مغفلة السّياق العا ّم النبثاق فكرة القانون ال ّدستوري مركزة‬
‫على البعد التّنظيمي للقاعدة القانونيّة دون التفات ألبعادها األخرى‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ويبقى االختالف بين الجيلين األوّل والثّاني للمدرسة ال ّدستوريّة اختالفا‬


‫أن تحديد‬‫ظاهريّا و ليس جوهريّا فالحريّة تبقى المدار والهدف في الحالتين ذلك ّ‬
‫السّلطة و بيان طرق ممارستها و نقلها يعنى في جوهره تحقيقا للحريّة بتقييد‬
‫السّلطة وضمن هذه الثّنائيّة أي السّلطة و الحريّة طرحت رؤية الجيل الثّالث‬
‫لمفهوم القانون ال ّدستوري‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬القانون ال ّدستوري أداة للتوفيق بين السلطة والحريّة‪:‬‬
‫يبدو تصوّر الجيل الثالث من المدرسة الدستوريّة لمفهوم القانون الدستوري‬
‫بمثابة محاولة تجاوز نقائص الجيلين األ ّول و الثاني بحيث طرح األستاذ أندري‬
‫هوريو تعايشا بين السّلطة والحريّة "فالحريّة إذا لم تمارس في حدود وضوابط‬
‫ضرورة إلى فوضى" والمعنى أنّه يجب في‬ ‫في إطار سلطة منظّمة تنقلب بال ّ‬
‫المجتمع السيّاسّي فرض النظام حتّى يتسنّى احترام الحريّات مع منع االستبداد‪.‬‬
‫وتعود أسس هذه المعادلة بين السلطة و الحريّة إلى معادلة بين السّلطة‬
‫واالحتجاج (أو المعارضة) فإن كانت السلطة السّياسيّة عنصرا الزما في المجتمع‬
‫السّياسي فإ ّن االحتجاج يعتبر عنصرا لصيقا بها إذ ال مجتمع يجمع فيه كل أفراده‬
‫على نخبته القياديّة و يقبلونها‪ .‬و لع ّل ما يتميّز به المجتمع الغرب ّي هو مؤ ّسسته‬
‫لفكرة االحتجاج واعتباره وسيلة من وسائل الحكم (التّع ّدديّة السياسيّة‪ ،‬الطابع‬
‫العلني للمسائل السّياسيّة‪ ،‬الحريّات العا ّمة‪ ،)...‬بحيث تغدو السلطة مقبولة من‬
‫أفراد أحرار‪ ،‬ممارسة على أفراد أحرار (عليهم)‪.‬‬
‫ي ضمن التّجربة‬ ‫و يبدو التوفيق بين السلطة و الحريّة فكرة أصوليّة للقانون ال ّدستور ّ‬
‫ال ّدستوريّة التونسيّة لسنة ‪ 1959‬و هدفا ضمن دستورها‪ .‬كما أشار إلى ذلك األستاذ عبد‬
‫الفتّاح عمر فقد سعى واضعو ال ّدستور التّونسي إلى إقرار حريّة ناضل ال ّشعب التّونسي‬
‫من أجلها و إقامة سلطة قويّة تحقّق بناء ال ّدولة الوطنيّة و قد حاولوا إرساء توازن بينهما‬
‫من خالل تقييد ممارسة الحريّة بعدد من ال ّشروط و من خالل ربط تحديد الحكم‬
‫بضرورة االستقرار وهو ما يعبّر عليه مضمون الفصل السّابع من ال ّدستور‪1959‬‬
‫"يتمتّع المواطن بحقوقه كاملة بالطرق و ال ّشروط المبيّنة بالقانون‪ ،‬و ال يح ّد من هذه‬
‫الحقوق إال بقانون يتّخذ الحترام حقوق الغير و لصالح األمن العا ّم وال ّدفاع الوطني و‬
‫أن‬‫يستشف من توطئة ال ّدستور "حيث ّ‬‫ّ‬ ‫الزدهار االقتصاد و النّهوض االجتماعي" كما‬
‫هذا ال ّشعب مص ّمم‪...‬على إقامة ديمقراطيّة أساسها سيادة ال ّشعب و قوامها نظام سياس ّي‬
‫مستق ّر يرتكز على قاعدة تفريق السّلط"‪ .‬هذه المعاني تتج ّدد في توطئة دستور ‪2014‬‬
‫ضمن مفردات جديدة وسياق تاريخي جديد تحت عنوان الثّورة وهو ما تعكسه توطئته‬
‫وفصله ‪ .49‬وهي إشارة تكررت أيضا صلب الفصل ‪ 55‬من دستور ‪( 2022‬ال توضع‬

‫‪21‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ال بمقتضى قانون ولضرورة‬ ‫قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور ا ّ‬
‫يقتضيها الدفاع الوطني‪ ،‬أو األمن العام‪ ،‬أو الصحة العمومية‪ ،‬أو حماية حقوق الغير‪ ،‬أو‬
‫اآلداب العامة‪ .‬ويجب أالّ تمسّ هذه القيود بجوهر الحقـــوق والحريات المضمونة بهذا‬
‫الدستور وأن تكون مبرّرة بأهدافها ومتالئمة مع دواعيها‪ .‬ال يجوز ألي تنقيح أن ينال‬
‫من مكتسبات حقوق اإلنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور‪ .‬وعلى كل الهيئات‬
‫القضائية أن تحمي هذه الحقوق والحريات من أي انتهّاك)‪.‬‬
‫وتلك إشارات إلى إحدى أه ّم وسائل تحقيق الحريّة وهو ما يتوجّه معه‬
‫استعراضها‪.‬‬
‫‪ -2‬وسائل تحقيق الحريّة‪:‬‬

‫تتع ّدد الوسائل التّي ترتكز عليها المدرسة ال ّدستوريّة لتحقيق الحريّة‬
‫والمحافظة عليها وهي وسائل بتحديدها لسلطة الح ّكام تقوم بضمان حقوق‬
‫المحكومين‪ ،‬و أه ّمها‪:‬‬
‫أ ّوال‪ :‬ال ّدستور المكتوب‪:‬‬
‫يقصد بال ّدستور المكتوب ذلك ال ّذي تسجّل أحكامه في وثيقة مكتوبة تكون‬
‫صادرة عن السّلطة التّأسيسيّة‪ ،‬وقد نادت المدرسة ال ّدستوريّة بضرورة تدوين‬
‫القواعد األساسيّة ألنظمة الحكم و ذلك لع ّدة اعتبارات‪.‬‬
‫ي المضفي على ال ّدستور المكتوب حيث يع ّد بمثابة العقد‬ ‫أوّلها الطّابع العقد ّ‬
‫االجتماعي ال ّذي ترتكز عليه الجماعة السّياسية في المجتمع السّياسي‪ ،‬وال ّذي يبيّن‬
‫حقوق أطرافه و واجباتهم (الحاكم و المحكوم) و يكرّس التزامهم بها‪ ،‬ثانيها‬
‫الطّابع المرجع ّي لل ّدستور المكتوب فوجوده يم ّكن في ك ّل وقت من الرّجوع إليه‬
‫واالحتكام له‪ ،‬فهو يبيّن بفضل نصوصه الواضحة أسس وشروط ممارسة السّلطة‬
‫وحدودها بما يسهّل على المحكومين معرفة حقوقهم و واجباتهم واالحتجاج بها‪،‬‬
‫آخرها طابع الثّبات ال ّذي تتّصف به أحكام ال ّدستور المكتوب بحيث ال يكون‬
‫عرضة ألي تغيير بموجب معطيات حينيّة أو نزوات شخصيّة‪.‬‬
‫أن وجود ال ّدستور المكتوب ال يقوم دليال في ح ّد ذاته على تحقيق‬ ‫غير ّ‬
‫الحريّة بل يتطلّب التزام السّلطة به‪ ،‬وهنا يميّز الفقه بين دولة ذات دستور ودولة‬
‫ي أي بين ال ّدولة القانونيّة و دولة القانون بمعنى بين دولة‬ ‫ذات نظام دستور ّ‬
‫االلتزام الشكلي بالحرّيات و دولة التبنّي الفعلي و الضمان الناجح لها‪ .‬وهنا يتعيّن‬
‫أن يتض ّمن ال ّدستور المكتوب داخله مجموعة من الوسائل األخرى المهيئة‬
‫والمساهمة في تحقيق الحريّة و تحقّقها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ثانيا‪ :‬مبدأ الفصل بين السّلطات ‪:‬‬


‫أن ك ّل (شخص) قابض على السّلطة ميّال‬ ‫يرى منتسكيو "أ ّنها لتجربة ثابتة ّ‬
‫إلى اإلفراط في ممارستها‪ ،‬و يته ّدم ك ّل شيء إذا تم ّكن نفس ال ّشخص ونفس الهيئة‬
‫ت‬‫من ممارسة ك ّل السّلط الثّالث‪ ،‬سلطة وضع القوانين‪ ،‬سلطة تنفيذها وسلطة الب ّ‬
‫في الجرائم أو في الخالفات‪ ...‬ليستب ّد بها"‪ ،‬و ينتهي هذا المف ّكر السّياسي من ث ّمة‬
‫أن التّجربة تقتضي تقسيم السّلطة على المستوى الهيكلي بإقامة سلط ثالث‬ ‫إلى ّ‬
‫واستكمال ذلك على المستوى الوظيفي بحيث يكون ك ّل منها مدعوّا لممارسة‬
‫إحدى الوظائف الثّالثة في ال ّدولة‪ .‬كما يجب أيضا أن يستكمل هذا التّصوّر بما‬
‫يسمح لك ّل من السّلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة بممارسة ملكة إقرار‬
‫وملكة ردع بمعنى ممارسة اختصاصها ومنع السّلط األخرى من ممارسة مطلقة‬
‫أو تعسّفيّة الختصاصاتها‪ .‬وهو ما ك ّرسه تاريخيّا الفصل ‪ 16‬من إعالن حقوق‬
‫اإلنسان والمواطن‪ ،‬وما نجد له أثرا في توطئة ال ّدستور وهيكلته‪ .‬و هكذا يكون‬
‫مبدأ تفريق السّلط وسيلة تحول دون الحكم المطلق و تسمح بتحقيق الحريّة‬
‫خصوصا إذا ما تد ّعمت بباقي الوسائل‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬رقابة المحكومين للح ّكام‪:‬‬
‫تش ّكل رقابة المحكومين للح ّكام وسيلة لتحديد السلطة وضمان الحريّة‬
‫فالحاكم ال ّذي ال يرتهن مآله بمحكوميه قد يتجاوز دون تخوّف من ترتيب نتائج‬
‫على صالحيّاته منتهكا حقوق األفراد و حريّاتهم‪.‬‬
‫و تأخذ رقابة المحكومين للح ّكام أشكاال ع ّدة أه ّمها الرّقابة المستمرّة‬
‫ق المخوّل‬‫والرّقابة غير المنظّمة‪ .‬فالرّقابة المستمرّة تتمثّل في االنتخاب‪ ،‬وهو الح ّ‬
‫للمحكومين في إعادة النّظر دوريّا في وكالة الحاكمين بحيث ّ‬
‫أن العالقة بينهما‬
‫عالقة وكالة مؤسّسة على الثّقة وهي ثقة قد تتج ّدد أو تنتهي بمناسبة تنظيم‬
‫االنتخابات‪ ،‬وذلك بحسب التزام النائب بمصالح ناخبيه‪ ،‬ويمكن هنا التّذكير‬
‫بمضمون الفقرة األولى من الفصل‪ 56‬من ال ّدستور التّونس ّي ‪ 2014‬حيث "ينتخب‬
‫مجلس نواب الشعب لم ّدة خمس سنوات"‪ .‬و مضمون الفقرة األولى من الفصل‬
‫‪ 75‬منه "ينتخب رئيس الجمهوريّة لم ّدة خمسة أعوام‪."...‬‬

‫كما يمكن التذكير بما ورد بدستور ‪ 25‬جويلية ‪ 2022‬من تقنية مستحدثة‬
‫غير مسبوقة في التجربة الدستورية التونسية ممثلة في آلية سحب الوكالة الواردة‬
‫بالفصل منه ‪ ،‬هذه اآللية رآها البعض تعبيرا عن ديمقراطية مباشرة تمكن من‬
‫استعادة الناخب لتأثيره على المنتخب عوض انظار استيفاء العهدة االنتخابية‬

‫‪23‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وهي وسيلة ضغط تمكن من خلق التوازن بين الناخبين والمنتخبين في حين رآها‬
‫البعض تقنية موجهة باعتبارها تقتصر على النائب في السلطة التشريعية دون‬
‫سواه من المنتخبين وتقنية غير مجدية وال فعالة لكونها سبيل للمس من‬
‫االستقرار المؤسساتي اللزم ألداء النظام السياسي والمؤسسات السياسية‬
‫لوظائفها ولكون إجراءات سحب الوكالة إجراءات ثقيلة صعبة التحقق ‪ ،‬إن أداة‬
‫رقابة بمثل هذه التداعيات المؤسساتية وبمثل هذه الشروط تتطلب وعيا وثقافة‬
‫سياسية ملئمة وتنزيل تشريعيا مكتمل ال تبدو شروطه الحالية قادرة على‬
‫تحويله من عنوان دستوري إلى ممارسة فعلية‬
‫أ ّما الرّقابة غير المنظّمة فتمارس عبر ال ّدور الضّاغط لمؤسّسات المجتمع‬
‫المدني (األفراد‪ ،‬الجمعيات‪ )...‬و لوسائل اإلعالم التّي و إن ال تتح ّكم في القرار‬
‫السّياسي فإنها تأثّر فيه بدرجات متفاوتة معبّرة عن تطلّعات األفراد و حامية‬
‫لحقوقهم‪.‬‬
‫وتبقى قيمة هذه الوسيلة و غيرها من وسائل تحقيق الحريّة رهينة الثّقافة‬
‫السّياسيّة و العقليّة الحقوقيّة والوعي المدني السّائد في مجتمع ما‪ .‬و من هذه‬
‫فان الحريّة كأحد المفاهيم المطروحة تبلورت كتصوّر غرب ّي أوروب ّي‬ ‫ال ّزاوية ّ‬
‫لغايات القانون ال ّدستوري و ضمن شروطه المجتمعيّة و اإليديولوجيّة‪ ،‬فيما قد ال‬
‫يتماثل ضرورة مع أطر مجتمعيّة مختلفة‪ ،‬ويفتح المجال لمفاهيم أخرى‪ ،‬وإن‬
‫نلحظ تج ّددا لمفهوم الحريّة تحت عناوين الدمقرطة واالنتقال الديمقراطي وذلك‬
‫في ظ ّل انهيار المنظومة االشتراكيّة وموجات المطالبة بال ّديمقراطيّة في أوروبا‬
‫ال ّشرقيّة وإفريقيا والمنطقة العربيّة ‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬المفاهيم األخرى للقانون الدّستوري‪:‬‬
‫وهي عبارة عن بقيّة المفاهيم التّي تلت المفهوم األصل ّي أو األصيل للقانون‬
‫ال ّدستوري‪ ،‬فيما يمكن أن يع ّد مفاهيم جديدة أو خصوصيّة‪ .‬وقد كانت نتاجا إ ّما‬
‫لمراجعات داخل المدرسة الدستوريّة أو تبعا لظهور مدارس فقهيّة جديدة (‬
‫المدرسة االشتراكية) وذلك كر ّد فعل عن تو ّسع القانون الدستوري داخل الفضاء‬
‫الغرب ّي وخارجه وجوابا عن مدى قدرته على استيعاب هذه األطر الجديدة التي‬
‫تختلف مجتمع ّيا ومؤسساتيّا وفكريّا عن الفضاء األصلي لظهور القانون‬
‫الدستوري‪.‬‬
‫‪ -1‬داخل الفضاء الغرب ّي‪:‬‬
‫تش ّكل أوروبا الشرقيّة جزءا من الفضاء الغرب ّي و المجتمع األوروب ّي و إن‬
‫تحتفظ بخصوصيّاتها االثنيّة واالقتصاديّة والمجتمعيّة‪ .‬و قد تبلور الفكر و‬

‫‪24‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ال ّتجربة االشتراكيّة داخلها‪ ،‬وبالتحديد في روسيا وتوسّع منها إلى بقيّة ال ّدول‬
‫االشتراكيّة (بلغاريا‪ ،‬تشيكيسلوفاكيا‪ ،‬المجر‪ ،‬رومانيا‪ ،‬ألمانيا الشرقيّة‪ ،‬الصّين‪،‬‬
‫كوريا الشماليّة‪ ،‬كوبا‪.)...‬‬
‫ويقوم مفهوم القانون ال ّدستوري داخل البلدان االشتراكيّة على انتقاد مفهوم‬
‫الحريّة في سياقها اللّيبرال ّي واعتبارها حريّة وهميّة طالما أنّها حرّية الطّبقة‬
‫المهيمنة داخل المجتمع الرّأسمال ّي وسيلتها في ذلك ال ّدولة كأداة قهر وإكراه‬
‫وضمن هذا التّصوّر يتوجّب أن يكون "القانون ال ّدستوري ال ّذي تح ّدد قواعده‬
‫ي أداة ووسيلة فعّالة‬‫القوى الشعبيّة التّي تستفيد من النّظام االجتماع ّي واالقتصاد ّ‬
‫تقودهم نحو المزيد من الحريّة"‪ .‬و بهذا المعنى يش ّكل القانون ال ّدستوري أداة‬
‫للتّحرّر في مرحلة البناء االشتراكي سعيا نحو القضاء على الطّبقات وتوفير‬
‫العمل والصّحّة والتّعليم للجميع على قدم المساواة و تكريس حكم البروليتاريا و‬
‫ضمنها ال تتحقّق الحريّة الفعليّة إالّ في ظ ّل المجتمع الشيوعي‪ .‬لقد ساهمت‬
‫المدرسة االشتراكية بمقاربتها النقديّة في توسيع دائرة مفاهيم القانون الدستوري‬
‫وفي توسيع دائرة الحريّات والحقوق نحو الحقوق االقتصاديّة واالجتماعيّة‪.‬‬
‫غير أن االختالف بين التّصوّرين الليبرالي والماركس ّي لمفهوم القانون‬
‫ال ّدستوري قد ضاق بشكل تدريج ّي‪ ،‬وذلك في ظ ّل تراجع الخيار االشتراكي‬
‫وتد ّعم الحقوق والرؤية االجتماعيّة داخل الخيار اللّيبرالي مع عولمته‪ .‬وهو خيار‬
‫يتد ّعم حتّى خارج الفضاء الغرب ّي‪.‬‬
‫‪ -2‬خارج الفضاء الغرب ّي‪:‬‬
‫يتوجّه في هذا السّياق تناول مفهوم أو مفاهيم القانون ال ّدستوري في ال ّدول‬
‫العربيّة و اإلسالميّة وفي دول العالم الثّالث‪ ،‬وهي دول ال تتوفّر على تقاليد‬
‫دستوريّة بالمعنى و المضمون االصطالح ّي المتعارف عليه داخل الفضاء‬
‫الغربي‪ ،‬بحيث أن ظهور القانون الدستوري وتبلور مفاهيمه (الدولة‪ ،‬الدستور‪،‬‬
‫السلطة‪ )..‬داخلها كان في جانب منه نتاجا للتجربة االستعماريّة وما فرضته من‬
‫نصوص ومؤسسات إضافة لدور النخب الجديدة الفكرية والسياسيّة في تبنّي‬
‫التصورات الليبيراليّة‪ ،‬دون أن يغيب في الجانب اآلخر دور الثقافة السياسيّة‬
‫التقليديّة ال ّسائدة التي تغيّب المفاهيم الديمقراطيّة مع ضعف فكرة المؤسسة‬
‫وهشاشة المؤسسات القائمة‪ ،‬وضمن هذه المعادلة تبلور مفهوم للقانون ال ّدستوري‬
‫على أسس ظرفيّة توظيفيّة تأليفية قد تكون أحيانا متناقضة بحيث تتواجد ضمن‬
‫نفس التجربة ال ّدستورية رؤية تركيبية لمفهوم القانون ال ّدستوري‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫فالقانون ال ّدستوري في التجارب الدستورية لهذه البلدان يستم ّد مبادئه‬


‫وتقنيّاته في اآلن نفسه من توليف بين األنظمة ال ّدستوريّة الليبيرالية واالشتراكيّة‬
‫ليوظفها في اتّجاه تقوية السّلطة التّنفيذيّة دون تدعيم مكافئ لباقي السّلط التّي‬
‫أن بعض هذه التجارب الدستورية عاش‬ ‫يرجع إليها خاصّة مراقبة الح ّكام‪ .‬كما ّ‬
‫تجربة التّحوّل من الخيار االشتراكي نحو الخيار الليبرالي محافظا على مزج بين‬
‫اآلليات‪ ،‬وقد برّرت هذه االختيارات بضرورات بناء ال ّدولة الوطنية الجديدة‬
‫وتحقيق التّنمية وخدمة الوحدة القوميّة مع رهن التّنمية السّياسيّة (بناء الحريّات)‬
‫بالتّنمية االقتصاديّة‪ ،‬وبهذا تتعايش داخل نفس الوثيقة ال ّدستوريّة مفاهيم السّلطة‬
‫والحريّة والتّنمية والوحدة القوميّة‪ ،‬و يق ّدم بعضها أو يؤ ّخر بحسب الظّرف‪.‬‬
‫و يلحظ اليوم انبعاثا للمفهوم الليبرالي لل ّدستور أي المفهوم ال ّذي يربط‬
‫القانون ال ّدستوري بالحريّة و ذلك على ضوء التّحوّالت ال ّدوليّة و الوطنيّة (سقوط‬
‫المنظومة االشتراكيّة‪ ،‬ضغوط اإلصالح السّياسي‪ ،‬موجات المطالبة بال ّديمقراطية‬
‫) م ّما رتّب بروز ثقافة سياسية جديدة قوامها دولة القانون والمؤسّسات واحترام‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬تجسّمت في موجات متعاقبة من الدساتير الموصوفة بالديمقراطية‬
‫ودساتير االنتقال الديمقراطي‪.‬‬

‫القسم الثّالث‪ :‬مصادر القانون الدّستور ّ‬


‫ي‪:‬‬
‫تعتمد عبارة المصدر في هذا السياق في معناها الشكلى بمعنى‬
‫الحامل القانوني للقاعدة القانونية أي النص القانوني‪ ،‬وليس في معناها‬
‫المادي أي المصدر المادي الذي يعني المرجع النظري والسياق الفكري‬
‫والقيمي (كاألديان والمدارس السياسية والفكرية‪.)..‬الذي استلهمت منه‬
‫القاعدة القانونيّة قبل أن تتبلور وتصاغ كقاعدة قانونيّة بالمعنى المتعارف‬
‫عليه‪.‬‬
‫ويذهب الفقه عموما إلى القول بتع ّدد المصادر الشكلية للقانون‬
‫ال ّدستوري‪ ،‬وهو موقف عملي تؤ ّكده معظم التّجارب ال ّدستوريّة التي تبيّن‬
‫استحالة االقتصار على ال ّدستور كمصدر ووحيد للقانون ال ّدستوري‪ ،‬كما‬
‫تتد ّعم وجاهة هذا الموقف الفقهي لموضوعيته حيث يهت ّم بدراسة الوثيقة‬
‫ال ّدستوريّة و محتوياتها المتعلّقة بنظام الحكم و العالقة القائمة بين الح ّكام‬
‫والمحكومين‪ ،‬ممت ّدا إلى تحليل ك ّل القواعد القانونيّة األخرى المنظّمة لهذا‬

‫‪26‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الحكم في ال ّدولة مع اعتبار المحيط ال ّذي توجد فيه‪ ،‬وهو ما يتالءم‬


‫والتصور الحديث لموضوع القانون الدستوري‪.‬‬
‫إن هذا الموقف الفقه ّي الشائع يك ّرس ال ّدستور كمصدر أساس ّي‬ ‫ّ‬
‫للقانون ال ّدستوري (المبحث األوّل) دون تغييب أهميّة باقي مصادر‬
‫القانون ال ّدستوري (المبحث الثّاني)‪.‬‬
‫المبحث األ ّول‪ :‬الدّستور مصدر أساس ّي للقانون الدّستوري‪:‬‬
‫نعني بال ّدستور في هذا السّياق (أي البحث في مصادر القانون‬
‫ال ّدستوري) معناه ال ّشكلي أي مجموعة القواعد المدوّنة في وثيقة مكتوبة و‬
‫المتعلّقة بتحديد شكل ال ّدولة ونظام الحكم فيها‪ ،‬و التّي تتولّى وضعها‬
‫صة تختلف عادة‬ ‫السّلطة التّأسيسيّة‪ ،‬وتتبّع في سنّها و تعديلها إجراءات خا ّ‬
‫ع ّما يتبع بالنّسبة للقوانين العاديّة‪.‬‬
‫و تأخذ ج ّل دول العالم اليوم بأسلوب ال ّدساتير المكتوبة بناءا على‬
‫ميزات الدستور المكتوب (الطابع المرجعي‪ ،‬المعنى التعاقدي‪ ،‬الثبات‪،)...‬‬
‫فهو أسلوب ضروري في حالة استقالل دولة أو قيام نظام سياسي جديد أو‬
‫في حالة األخذ بشكل جديد لل ّدولة‪.‬‬
‫و يتج ّسم تميّز ال ّدستور في بعدين متكاملين أحدهما موضوعي‬
‫واآلخر شكلي‪ .‬أ ّما البعد ال ّشكلي لتميّز ال ّدستور فيرتكز على خصوصيّات‬
‫السّلطة التّأسيسيّة المكلّفة بوضعه فهي سلطة أولى و عليا و غير مقيّدة‬
‫تختصّ بدورها و إجراءاتها‪ ،‬فتعديل ال ّدستور يخضع لنظام إجرائي معقّد‬
‫صنه من التعديالت المشخصنة‬ ‫يحفظ له رمزيّته و اعتباريّته ويح ّ‬
‫والظرفيّة‪ ،‬وهي الميزة التي تختصّ بها الدساتير الجامدة عن الدساتير‬
‫المرنة التي ال تتوفر على مثل هذه الخصوصيات اإلجرائيّة ( من ذلك في‬
‫دستور ‪ :2014‬الباب الثامن الذي يضبط إجراءات تعديل الدستور)‪.‬‬

‫في حين يقوم البعد الموضوعي لتميّز الدستور في مكانة القاعدة‬


‫ي قاعدة كما‬ ‫ال ّدستوريّة التي تعتلي هرم القواعد القانونيّة و ال تعلوها أ ّ‬
‫تلتزم القواعد األدنى بها مطابقة و مالئمة‪ ،‬وهي علويّة كرّست بفضل‬
‫منظومة رقابة دستوريّة القوانين حيث تع ّممت المحاكم والمجالس‬
‫ال ّدستوريّة والتّي ساعدت على توحيد مجموع المنظومة القانونيّة حول‬
‫ال ّدستور بحيث يش ّكل مرجعها اإلجرائي والموضوعي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫في هذا السّياق يحتوي ال ّدستور على القواعد ال ّدستوريّة التّي تش ّكل‬
‫اإلطار العا ّم لبقيّة قواعد القانون ال ّدستوري مضمونا وروحا (فلسفة)‪،‬‬
‫فال ّدستور يمثّل األساس لمحتوى باقي المصادر من ذلك اإلحاالت‬
‫المتكرّرة داخله (حسبما يبينه القانون‪ ،‬المبيّنة بالقانون‪ ،‬يضبطه القانون‪،‬‬
‫يح ّددها القانون االنتخابي‪ ،‬وضع النّظام ال ّداخلي و تنقيحه‪ ،‬يتّخذ رئيس‬
‫الجمهوريّة مراسيم‪ ،‬المعاهدات‪ ،‬االستفتاء‪ ،‬السّلطة الترتيبيّة‪)...‬‬
‫كما يمثّل ال ّدستور بأفكاره األصوليّة اإلطار العا ّم المرجع ّي‬
‫للخيارات المجتمعية الجوهريّة السّياسيّة منها واالجتماعيّة و االقتصاديّة‪،‬‬
‫والفكرة األصوليّة للقانون )‪ (L’idée de droit‬هي عبارة عن تصوّر‬
‫جماعي ينظّم على أساسه المجتمع وتسعى السّلط العموميّة لتحقيقه و ذلك‬
‫ّ‬
‫بسن القواعد القانونيّة المناسبة‪ .‬فالفكرة األصوليّة للقانون تعبّر إذن عن‬
‫تطلّعات المجموعة و متطلّباتها‪ .‬وتلتمس الفكرة األصوليّة في توطئة‬
‫تستشف من أحكامه ( من ذلك في دستور ‪:2014‬‬ ‫ّ‬ ‫ال ّدستور كما‬
‫الجمهوريّة‪ ،‬المدنيّة‪ ،‬اإلطار العربي اإلسالمي‪)...‬‬
‫أ ّما البعد ال ّشكلي لتميّز ال ّدستور فيرتكز على خصوصيّات السّلطة‬
‫التّأسيسيّة المكلّفة بوضعه فهي سلطة أولى و عليا و غير مقيّدة تختصّ‬
‫بدورها و إجراءاتها‪ ،‬فتعديل ال ّدستور يخضع لنظام إجرائي معقّد يحفظ له‬
‫رمزيّته و اعتباريته ويحصنه من التعديالت المشخصنة والظّرفية‪ ،‬وهي‬
‫الميزة التي تختصّ بها الدساتير الجامدة عن الدساتير المرنة التي ال تتوفر‬
‫على مثل هذه الخصوصيّات اإلجرائية ( من ذلك في دستور ‪ :2014‬الباب‬
‫الثامن الذي يضبط إجراءات تعديل الدستور)‪.‬‬
‫أن القول بمركزيّة ال ّدستور ضمن مصادر القانون ال ّدستوري‬ ‫غير ّ‬
‫ال يمنع من بيان محدوديّته‪ ،‬وتتجسّم هذه المحدوديّة أساسا في استحالة‬
‫تم ّكن ال ّدستور لوحده من تأطير و تنظيم ك ّل مظاهر الحياة السّياسيّة‬
‫المتشعّبة والمتغيّرة فدستور الهند الصّادر سنة ‪ 1950‬و المحتوى على‬
‫‪ 300‬فصال لم يش ّكل المصدر الوحيد للقانون ال ّدستوري بهذا البلد‪.‬‬

‫المبحث الثّاني‪ :‬أه ّمية باقي مصادر القانون الدّستوري‪:‬‬


‫يبدو دور بقيّة مصادر القانون ال ّدستوري دورا متأكدا من جهة‬
‫الحاجة إليه‪ ،‬و دورا مك ّمال من جهة عالقته بال ّدستور‪ .‬و يقوم ترتيب هذه‬

‫‪28‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫المصادر على خضوعها لل ّدستور‪ ،‬و على خضوع بعضها للبعض اآلخر‬
‫وفق تدرّج قد يختلف نسبيّا حسب التّجارب ال ّدستوريّة‪ ،‬و سيت ّم اعتماد‬
‫الحالة التّونسيّة مثاال‪ ،‬و يمكن التّمييز في إطار باقي مصادر القانون‬
‫ال ّدستوري بين المصادر المكتوبة (الكتابة هنا هي بالمعنى التقعيدي بمعنى‬
‫أنها مصادر تتّخذ شكل وخصائص القاعدة القانونية ) و المصادر العرفيّة‬
‫والمصادر التكميليّة ‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪ :‬المصادر المكتوبة‪:‬‬
‫‪ -1‬المعاهدات ال ّدوليّة‪:‬‬
‫ه ّي اتّفاقيّات بين ال ّدول أو بين ال ّدول والمنظّمات ال ّدولية في‬
‫موضوعات مختلفة (اقتصاديّة‪ ،‬سياسيّة‪ ،)...‬وهي وإن كانت تمثل في‬
‫أصلها مصدرا من مصادر القانون الدولي إال أنّها قابلة لإلدماج ضمن‬
‫المنظومة القانونيّة الداخليّة بحيث تكون نافذة المفعول قابلة لالحتجاج بها ‪.‬‬
‫ولبعض المعاهدات الدولية عالقة ثابتة بالموضوعات الدستورية‬
‫خاصة تلك المتعلّقة بالمنظومة الدوليّة لحقوق اإلنسان والتي تتقاطع بشكل‬
‫واضح مع مضامين دستور ‪ 2014‬في توطئته والباب الثاني منه‪ ،‬في هذا‬
‫السياق صادقت تونس بموجب ‪ 1968/11/29‬على العهد ال ّدولي الخاصّ‬
‫بالحقوق االقتصادية واالجتماعيّة والثقافيّة‪.‬‬
‫و قد عرض ال ّدستور التّونس ّي لسنة ‪ 2014‬إلى موضوعات‬
‫المعاهدات الدوليّة ونظامها القانوني‪ ،‬فميز بين صنفين‪ :‬األول منها‬
‫المعاهدات الخاضعة لموافقة من مجلس نواب الشعب ثم مصادقة رئيس‬
‫الجمهوريّة طبق الفصل ‪ 77‬من الدستور‪ ،‬وهي حسب الفصل ‪ 67‬من‬
‫الدستور المعاهدات المتعلّقة بحدود ال ّدولة و المعاهدات التّجاريّة‬
‫والمعاهدات الخاصّة بالتّنظيم ال ّدولي وتلك المتعلّقة بالتّعهّدات الماليّة‬
‫لل ّدولة والمعاهدات المتض ّمنة ألحكام ذات صبغة تشريعيّة أو المتعلّقة‬
‫بحالة األشخاص‪ .‬وال تع ّد هذه المعاهدات نافذة المفعول إالّ بعد المصادقة‬
‫عليها‪.‬‬
‫أ ّما الصنف الثاني من المعاهدات وهي ما تسمى بالمعاهدات ذات‬
‫الشكل المب ّسط وتستوعب كل ما يخرج عن تلك المحددة ضمن الفصل ‪67‬‬
‫فتت ّم المصادقة عليها واإلذن بنشرها من قبل رئيس الجمهوريّة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وتعد المعاهدات الموافق عليها من قبل المجلس النيابي والمصادق‬


‫عليها من رئيس الجمهوريّة أعلى من القوانين وأدنى من الدستور حسب‬
‫منطوق الفصل ‪ 20‬من الدستور‪ ،‬في حين لم يتبلور موقف فقه القضاء بعد‬
‫بشأن نفوذ تلك المصادق عليها والمأذون بنشرها من قبل رئيس‬
‫الجمهوريّة‪.‬‬
‫أما دستور ‪ 2022‬فقد عرض إلى المعاهدات الدولية من خلل‬
‫الفصل ‪ 16‬منه حيث اقر عرض االتفاقيات وعقود االستثمار المتعلقة‬
‫بالثروات الوطنية على مجلس نواب الشعب وعلى المجلس الوطني‬
‫للجهات واألقاليم للموافقة عليها كما أشار في الفصل ‪ 74‬إللى النظام‬
‫القانوني للمعاهدات في صيغة مشابهة لمضمون دستور ‪ 2014‬في فصليه‬
‫‪ 67‬و‪ 77‬وجعل الفصل ‪ 75‬من الموافقة على المعاهدات موضوع القانون‬
‫األساسي في حين جعل من تنظيم المصادقة على المعاهدات والموافقة‬
‫على االتفاقيات وعقود االستثمار المتعلقة بالثروات الوطنية موضوعا‬
‫للقانون العادي‪.‬‬
‫لقد وقعت المحافظة إلى حد ما مع إعادة للتبويب (أي ترتيب‬
‫الفصول ) على النظام القانوني للمعاهدات بين دستوري ‪ 2014‬و‪2022‬‬
‫مع تغيير جوهري يخص مكانة ومرجعية المعاهدات الدولية في مادة‬
‫حقوق اإلنسان إضافة إلى إضافة تعقيد إجرائي يخص اشتراط عرض‬
‫االتفاقيات وعقود االستثمار المتعلقة بالثروات الوطنية على مجلس نواب‬
‫الشعب وعلى المجلس الوطني للجهات واألقاليم للموافقة عليها وعدم‬
‫االكتفاء بأوالهما‪.‬‬
‫‪ -2‬القوانين‪:‬‬
‫وهي قواعد عا ّمة مجرّدة وملزمة تصدر عن السّلطة التّشريعيّة وفقا‬
‫إلجراءات مح ّددة‪ ،‬وهو ما يفيد األخذ بالمعنى ال ّشكلي للقانون‪ .‬وإن أمكن‬
‫تصنيف القوانين العتبارات إجرائية إلى ثالث أصناف فإ ّن ذلك ال يفيد‬
‫وجود تفاضل بينها فهي تحت ّل نفس المكانة و تتوفّر على نفس القيمة‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬القوانين االستفتائيّة‪:‬‬
‫هي القوانين ال ّتي تصدر عقب استفتاء ال ّشعب على مضمونها‪ ،‬وقد‬
‫تناولها ال ّدستور التّونسي لسنة ‪ 2014‬صلب الفصل ‪ 82‬الذي أجاز لرئيس‬
‫الجمهوريّة خالل أجل الر ّد أن يستفتي ال ّشعب مباشرة في مشاريع القوانين‬

‫‪30‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫المتعلقة بالموافقة على المعاهدات أو بالحريّات وحقوق اإلنسان أو‬


‫باألحوال الشخصيّة والمصادق عليها من قبل مجلس النواب‪.‬‬
‫إن عرض مشاريع القوانين على االستفتاء هي بهذا المعنى تقنيّة‬ ‫ّ‬
‫تحكيميّة تخصّ بعض الموضوعات الحسّاسة واإلشكالية التي يح ّكم الشعب‬
‫بشأنها‪ ،‬بحيث إذا أفضى االستفتاء إلى قبول مشروع القانون فإ ّن رئيس‬
‫الجمهوريّة يختمه ويأذن بنشره في أجل ال يتجاوز عشرة أيام من تاريخ‬
‫اإلعالن عن نتائجه‪.‬‬
‫أما دستور ‪ 2022‬فقد نص الفصل ‪ 97‬منه أنه لرئيس الجمهورية‬
‫أن يعرض على االستفتاء أي مشروع قانون يتعلق بتنظيم السلط العمومية‬
‫أو يرمي إلى المصادقة على معاهدة يمكن أن يكون لها تأثير على سير‬
‫المؤسسات دون أن يكون ذلك مخالفا للدستور‪ ،‬وبذلك يضيق مجال‬
‫االستفتاء صلب دستور ‪ 2022‬كما يتم التخلي على االستفتاء كآلية‬
‫تحكيمية في صورة تعارض الرؤى بين السلطة التنفيذية والتشريعية‬
‫بشأن مشروع وقعت المصادقة عليه وال يرغب رئيس الجمهورية في‬
‫ختمه‪ ،‬ليتحول االستفتاء آللية رئاسية بامتياز وآللية تحصين شعبي‬
‫لخيارات رئيس الجمهوية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬القوانين األساسية‪:‬‬
‫هي نصوص قانونيّة تصدر عن السّلطة التّشريعيّة في مجاالت‬
‫مح ّددة ووفق إجراءات مضبوطة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التدخل تصدر القوانين األساسيّة في مجاالت مع ّددة‬ ‫فمن حيث مجال‬
‫حصرا بالفصل ‪ 65‬في فقرته الثّانية من دستور ‪ .2014‬وترتبط هذه‬
‫القوانين األساسيّة بجملة من أه ّم موضوعات القانون ال ّدستوري فيتعلّق‬
‫بعضها بتنظيم وممارسة الحقوق والحرّيات (القانون االنتخابي‪ ،‬قانون‬
‫األحزاب‪ ،)..‬كما يتّصل بعضها اآلخر بكيفيّة تنظيم وعمل وعالقات‬
‫مختلف الهيآت والمؤسسات والسّلط في نطاق ال ّدولة من ذلك النصوص‬
‫المتعلقة بالمؤ ّسسات وال ّسلط الدستوريّة (المجلس األعلى للقضاء‪ ،‬المحكمة‬
‫الدستورية‪ ،)..‬والقوانين األساسية ترتبط بهذا المعنى بالتوجهات الكبرى‬
‫في المجال السياسي والمالي واإلداري‬
‫من حيث الخصوصيّة اإلجرائية تتميّز القوانين األساسيّة مقارنة‬
‫بإجراءات ّ‬
‫سن القوانين العاديّة بناء على أحكام الفصل ‪ 64‬من الدستور‬

‫‪31‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وذلك من حيث اآلجال واألغلبيّة‪ ،‬فال يعرض مشروع القانون األساسي‬


‫على مداولة مجلس نواب الشعب إال ّ بعد مض ّي خمسة عشر يوما على‬
‫إيداعه كما يصادق المجلس عليها باألغلبيّة المطلقة لألعضاء على أن ال‬
‫تق ّل هذه األغلبيّة عن ثلث أعضاء المجلس‪ .‬وتهدف هذه الخصوصيّة‬
‫اإلجرائيّة لضمان دقّة الصياغة القانونية وضمان مقبوليّة النصّ القانون ّي‪.‬‬
‫ولئن أبقى دستور ‪ 2022‬على الخصوصيّة اإلجرائية التي تميّز‬
‫القوانين األساسيّة فقد حور مجالها فقائمتها المضمنة بالفصل ‪ 75‬منه‬
‫تضمنت اإلشارة إلى األساليب العامة لتطبيق الدستور‪ ،‬وهذا المصطلح‬
‫المستعار من دستور ‪ 1959‬غير محدد وال واضح المعنى بحيث سيعود‬
‫للمشرع تحديد هذه الحاالت وسيعود للقاضي الدستوري مراقبته‪ ،‬كما‬
‫تضمنت قائمة المذكورة بعض المجاالت المستجدة التي فرضها وضع هذا‬
‫الدستور من ذلك تنظيم العالقة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني‬
‫للجهات واألقاليم‪ ،‬كما أنه ال بد من التأكيد أنه ستكون لثنائية الوظيفة‬
‫التشريعية آثار على عملية التشريع فقد ورد في الفصل ‪ 84‬من دستور‬
‫‪ 2022‬أنه "تعرض وجوبا على المجلس الوطني للجهات واألقاليم‬
‫المشاريع المتعلقة بميزانية الدولة ومخططات التنمية الجهوية واإلقليمية‬
‫والوطنية ‪ ،‬ال يمكن المصادقة على قانون المالية ومخططات التنمية إال‬
‫باألغلبية المطلقة لكل من المجلسين"‪ ،‬وهو ما يفرض بيان أساليب التدخل‬
‫في هذه المادة بمقتضى قانون أساسي‬
‫ثالثا‪ :‬القوانين العاديّة‪:‬‬
‫استعاد دستور ‪ 2022‬مضامين دستور ‪ 2014‬في هذا السياق حيث‬
‫تصدر القوانين العاديّة عن السّلطة التّشريعيّة في المجاالت المنصوص‬
‫عليها صلب الفصل ‪ 75‬من ال ّدستور ‪ 2022‬ويتّخذ ّ‬
‫تدخل القانون في هذا‬
‫السّياق شكلين فهو إ ّما أن ينظّم الما ّدة المعنيّة في ح ّد ذاتها في شكل أول أو‬
‫يضبط مبادئها األساسية والتوجيهية في حين يعود تفصيلها للسلطة‬
‫الترتيبية العامة‪ .‬وقد اهت ّم الفصل ‪ 79‬من ّدستور بضبط النّظام اإلجرائي‬
‫لسن القوانين العاديّة وال ّذي يبدو أق ّل تشعّبا ع ّما هو عليه الحال بالنّسبة‬
‫ّ‬
‫للقوانين األساسيّة خاصّة على مستوى اآلجال واألغلبيّة المطلوبة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬المراسيم‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تصدر المراسيم عن رئيس الجمهوريّة كما تتعلّق بموضوعات تعود‬


‫في األصل الختصاص السّلطة التّشريعيّة لذا تعرض الحقا على‬
‫مصادقتها‪ ،‬وإن ترتبط المراسيم في جوهرها بضمان استمرار العمل‬
‫التشريعي ّ‬
‫فإن منها ما يرتبط إضافة لذلك بسير المؤسسات الدستوريّة‬
‫وبآليّات ممارسة السلطة من ذلك ما ورد بالفصل ‪ 70‬من دستور ‪2022‬‬
‫الذي يستعيد نسبيا مضمون الفصل ‪ 70‬من دستور ‪ 2014‬من إمكانية‬
‫التفويض لمدة محدودة ولغرض معين إلى رئيس الجمهورية إصدار‬
‫مراسيم تعرض حال انقضاء المدة المذكورة على مصادقة المجلس‪ .‬وإن‬
‫قيد دستور ‪ 2014‬هذه المدة بشهرين فإن دستور ‪ 2022‬لم يضبطها‪.‬‬

‫إضافة لمراسيم التفويض يتضمن الدستور مراسيم العطلة البرلمانية‬


‫ومراسيم الضرورة المرتبطة بحل البرلمان وهي موضوع الفصل ‪ 80‬من‬
‫دستور ‪ 2022‬ويلحظ أن الفصل ‪ 80‬استثنى النظام االنتخابي من مجال‬
‫المراسيم‪ ،‬وهو استثناء ال يقتصر على الفصل ‪ 80‬بل يشمل مجال‬
‫المراسيم كافة وباعتبار أن هذا التقييد يهدف إلى ترشيدها وعقلنتها حتى ال‬
‫تتحول إلى أداة بيد السلطة التنفيذية قصد تغيير قواعد العملية االنتخابية‬
‫لحسابها ورسم المشهد السياسي واالنتخابي بما يخدم مصالحها‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬األنظمة ال ّداخليّة للمجالس النّيابيّة‪:‬‬
‫تهت ّم األنظمة ال ّداخليّة للمجالس النّيابية بتنظيم وهياكل سير‬
‫وإجراءات العمل البرلماني ووضع النائب‪ ،‬وهي بهذا المعنى تتّصل‬
‫بالقانون الدستوري وهو ما يستم ّد من عبارات الفقرة الثانية من الفصل‬
‫‪ 52‬من دستور‪ 2014‬حيث "يضبط مجلس نواب الشعب نظامه الداخلي‬
‫ويصادق عليه باألغلبيّة المطلقة ألعضائه"‪ .‬غير أن دستور ‪ 2022‬غيب‬
‫هذه اإلشارة مكتفيا بما ورد بالفصل ‪ 127‬منه التي تمثل اإلشارة الوحيدة‬
‫للنظام الداخلي فقد ورد بمطته الرابعة أن المحكمة الدستورية تختص‬
‫برقابة دستورية النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب والنظام الداخلي‬
‫للمجلس الوطني للجهات واالقاليم الذين يعرضانهما عليها كل رئيس‬
‫لهذين المجلسين‪ ،‬وبذلك يثبت الفصل ‪ 127‬الخيارات الهيكلية الجديدة‬
‫المتعلقة بثنائية السلطة التشريعية‬
‫و يمكن للنّظام ال ّداخلي استنباط قواعد دستوريّة تبيّن بعض فصول‬
‫ال ّدستور أو تك ّمل بعض نقائصه فيما يخصّ العمل النّيابي من ذلك أن‬

‫‪33‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الفصل ‪ 46‬من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب وضح مفهوم‬


‫المعارضة الوارد بالفصل ‪ 60‬من دستور‪ 2014‬كما أدرج ووضح ضمن‬
‫فصوله من ‪ 145‬إلى ‪ 147‬النظام اإلجرائي المتعلق بجلسات الحوار مع‬
‫الحكومة واألسئلة الكتابية والشفاهيّة الموجّ هة لها‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬التّراتيب‪:‬‬
‫هي النّصوص التّي تتّخذها الجهاز التّنفيذي لل ّدولة (اإلدارة)‬
‫بمختلف هياكله المركزيّة والالمركزيّة‪ ،‬وتتّسم بمرونة وبساطة نظامها‬
‫اإلجرائي‪ ،‬وأه ّم أصنافها‪.‬‬
‫‪ -1‬األوامر‪:‬‬
‫بعد ان كان هذا الصنف من ال ّنصوص القانونيّة تصدر عن رئيس‬
‫الحكومة في ظل دستور ‪ 2014‬أصبحت تصدر عن رئيس الجمهورية في‬
‫دستور ‪ 2022‬وهي صنفان فرديّة تتعلّق بأشخاص معيّنين بذواتهم كاألمر‬
‫القاضي بتعيين وزير‪ ،‬و ترتيبيّة بمعنى عا ّمة ومجرّدة تندرج ضمن‬
‫السّلطة الترتيبيّة التّي تعود لرئيس الجمهورية كما تفيده عبارات‬
‫الفصل‪ 104‬من دستور ‪ 2022‬إذ "إذ يسهر رئيس الجمهورية على تنفيذ‬
‫القوانين ويمارس السّلطة الترتيبيّة العا ّمة وله ان يفوض كامل هذه السلطة‬
‫أو جزءا منها لرئيس الحكومة "‪ ،‬و من ث ّمة فإن مجالها يتن ّزل ضمن تنفيذ‬
‫القوانين‪ ،‬كما يمكن أن يستق ّل عنه حيث كما ينص الفصل السادس‬
‫والسبعون "ترجع إلى السلطة الترتيبية العامة المواد التي ال تدخل في‬
‫مجال القانون ‪."..‬‬
‫وقد ضبط الفصل ‪ 105‬من دستور ‪ 2022‬النظام القانوني لهذه‬
‫األوامر الترتيبية فذكر أن مشاريعها يتم التداول فيها لدى مجلس الوزراء‬
‫وأنه يتم تأشير األوامر الترتيبية من قبل رئيس الحكومة وعضو الحكومة‬
‫المعني باألمر‪ .‬وتبدو عالقة األوامر الترتيبيّة (من ذلك تنظيم الوزارات‪:‬‬
‫مثال األمر عــــــ‪400‬ــدد المؤرّخ في ‪ 1969/11/ 7‬المتعلّق بإحداث‬
‫الوزارة األولى وضبط وظائف الوزير األوّل) بموضوعات القانون‬
‫ال ّدستوري أوضح ع ّما هو ال ّشأن بالنّسبة لألوامر الفرديّة (تعيين مفتي‬
‫الجمهورية)‪.‬‬
‫‪2‬ـ القرارات‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تصدر القرارات الترتيبيّة عن مك ّونات الجهاز التّنفيذي لل ّدولة من‬


‫هياكل مركزيّة و المركزيّة ما عدا رئيس الجمهوريّة (وزراء‪ ،‬والّة‪،‬‬
‫رؤساء بلديّات‪ ).‬و بعضها قد يتّصل بالقانون ال ّدستوري كالقرارات‬
‫الصّادرة عن وزير ال ّداخليّة بشأن حق التظاهر‪.‬‬
‫الفقرة الثانية ‪:‬المصادر العرفيّة‪ :‬العرف الدّستوري‪:‬‬
‫تلعب القواعد العرفيّة دورا هاما في تحديد القواعد المنظّمة للسّلطة‬
‫السّياسيّة وهو دور يختلف مداه بين ال ّدول ذات ال ّدساتير المكتوبة وبين‬
‫ال ّدول ذات الدساتير العرفيّة‪ ،‬فإن ش ّكل ال ّدستور العرف ّي المصدر األساسي‬
‫للقانون الدستوري فيها‪ ،‬فإ ّن العرف الدستوري يفترض ضرورة وجود‬
‫دستور مكتوب فما هي أركانه وما هو دوره؟‬
‫‪1‬ـ أركان العرف ال ّدستوري‪:‬‬

‫يمثّل العرف ال ّدستوري قواعد غير مدوّنة تتعلّق بمسألة دستوريّة‬


‫تكرّر العمل بها من الح ّكام والمحكومين بما يضفي عليها طابعا إلزاميا‪.‬‬
‫ومن ث ّمة يقوم العرف ال ّدستوري على‪:‬‬
‫أ ّوال‪ :‬الرّكن الما ّدي‪:‬‬
‫و يتوفّر ضمن شروط ثالث أوّلها تكرار التّصرّف من طرف‬
‫السّلطة الحاكمة بما يعبّر عن تبنّي الجماعة السّياسيّة له‪ ،‬ثانيها عموميّة‬
‫التّصرّف بمعنى العمل بمقتضاه من المعنيين به ح ّكاما و محكومين دون‬
‫اعتراض أو احتجاج‪ .‬ثالثها اطراد تطبيق التّصرّف بصفة ثابتة و مستقرّة‬
‫بما ينفي العرضيّة و الظرفيّة و يشترط أخيرا أن يكون العرف واضحا بما‬
‫ينفي االختالف في تفسيره‪ .‬وال يكفي الرّكن الما ّدي لوحده لقيام العرف‬
‫ال ّدستوري بل ال ب ّد من‪،‬‬
‫ثانيا‪ :‬الرّكن المعنوي‪:‬‬
‫و مفاده قناعة الح ّكام و المحكومين بإلزامية التّصرّف و واجب‬
‫إتّباعه كشأن القواعد القانونيّة األخرى‪.‬‬
‫‪ -2‬دور العرف ال ّدستوري‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ال وجود لعرف دستوري ّإال بوجود دستور مكتوب و عليه يرتهن‬
‫العرف ال ّدستوري بال ّدستور المكتوب وجودا ودورا و طبيعة و نوعا‪ .‬و‬
‫يميّز هنا بين ال ّدور المجمع بشأنه و ال ّدور المختلف بشأنه‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬ال ّدور المجمع بشأنه‪:‬‬
‫يجمع الفقه على وجاهة و شرعيّة ال ّدورين المفسّر أو التّفسيري‬
‫والتّكميلي للعرف ال ّدستوري‪ (.‬العرفالتفسيري والعرف التكميلي )‬
‫‪ -‬ال ّدور التّفسيري للعرف ال ّدستوري‪ :‬وأداته العرف المفسّر وهو‬
‫العرف ال ّذي يرمي إلى توضيح نص غامض و غير واضح من نصوص‬
‫الوثيقة ال ّدستوريّة ليقتصر دوره على ذلك دون إنشاء قاعدة قانونيّة جديدة‬
‫تحتوي على حكم مختلف عن ذلك الوارد في الوثيقة ال ّدستوريّة و عليه‬
‫فالعرف المفسّر جزء من ال ّدستور له قوّته القانونيّة‪ .‬من ذلك طريقة أداء‬
‫القسم الدستوري بوضع اليد اليمنى على القرآن حين أداء القسم ( عرف‬
‫دستوري صلب دستور ‪ 1959‬ودستور ‪) 2014‬‬

‫‪ -‬ال ّدور التّكميلي‪ :‬أداته العرف المكمل ال ّذي ينظّم موضوعات لم‬
‫ينظمها ال ّدستور بمعنى وجود نقص في الوثيقة ال ّدستوريّة و مثال ذلك‪:‬‬
‫العرف القاضي يتمتّع رئيس الجمهوريّة في تونس بالصّالحيّات التّامة‬
‫لضبط هيكلة الحكومة و تحديد اختصاصات أعضائها و المصالح الرّاجعة‬
‫أن الفصل ‪ 37‬من دستور ‪ 1959‬يكتفي بإسناد‬ ‫إليهم بالنّظر و الحال ّ‬
‫ممارسة السّلطة التنفيذيّة لرئيس الجمهوريّة بمساعدة حكومة يرأسها‬
‫الوزير األوّل دون الخوض في كيفيّة ممارسة هذه الصّالحيّة و أدواتها‬
‫القانونيّة‪.‬‬
‫يذهب الرّأي الغالب في الفقه إلى إعطاء العرف المكمل نفس القوّة‬
‫القانونيّة مع النّص ال ّدستوري باعتبار ّ‬
‫أن ال ّدستور وإن لم ينصّ صراحة‬
‫على إمكانية إكمال بعض نقائصه من طرف العرف ال ّدستوري فانّه‬
‫أن العرف المكمل ليس إالّ نوعا من قبيل‬ ‫يتّبعها بصفة ضمنيّة حيث ّ‬
‫العرف المفسّر إذ أنّه يفسّر في الواقع سكوت السّلطة التّأسيسية وسكوت‬
‫المشرّع ال ّدستوري عن بعض المسائل‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬ال ّدور المختلف بشأنه ‪ :‬ال ّدور التّعديلي‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫و أداته هو العرف المع ّدل ال ّذي يع ّدل في األحكام التّي ينصّ عليها‬
‫ال ّدستور المكتوب سواء بإضافة أحكام جديدة أو بحذف أحكام قائمة‪.‬‬
‫بمعنى منح سلط ال ّدولة اختصاصا لم يقرر لها دستوريّا أو إسقاط‬
‫اختصاص مقرّر لها دستوريّا و بالنّظر لخطورة هذا ال ّدور قام جدل فقهي‬
‫بشأن القيمة القانونيّة للعرف المع ّدل‪ .‬فالبعض ينزعها عنه لكونه يتعارض‬
‫مع فكرة ال ّدستور المكتوب ال ّذي ال يسمح بتعديل أو بإلغاء نصوصه إالّ‬
‫بإتباع نظام إجرائي سابق الوضع وهو نفس الموقف ال ّذي اعتمده القاضي‬
‫اإلداري التونس ّي بقوله "وحيث أق ّر الباب التّاسع من ال ّدستور سبل تنقيح و‬
‫إتمام مختل ف فصوله تحسّبا لك ّل حاجة قد تدعو إلى استحداث قواعد جديدة‬
‫األمر ال ّذي ال يسوغ بعده مجاراة جهة اإلدارة في القول بجواز استكمال‬
‫القواعد ال ّدستوريّة المكتوبة بقواعد عرفيّة "(قرار بن بشر‪ /‬الوزير األوّل‬
‫‪.") 1990/12/11‬‬

‫أن بعض الفقهاء يذهبون إلى القول بأن للعرف المع ّدل نفس‬ ‫غير ّ‬
‫قوّة الوثيقة ال ّدستوريّة حيث أنّه تعبير عن إرادة األ ّمة صاحبة السيادة و‬
‫التّي يجب أن تكون السّلطة التّأسيسيّة األصليّة‪ .‬وهو قول يؤ ّدي إلى خلط‬
‫اصطالحي و أجرائي على مستوى تعديل ال ّدستور‪.‬‬
‫الفقرة الثّالثة‪ :‬المصادر التّكميل ّية‪:‬‬
‫و تتمحور حول تفسير و تحديد معنى القاعدة ال ّدستوريّة و بيان‬
‫مداها و ذلك بواسطة تحديد موضوعها و الكشف عن معناها‪ ،‬وهو دور‬
‫يعود أساسا للقضاء و الفقه‪.‬‬
‫‪ -1‬فقه القضاء‪:‬‬

‫يقوم القضاء بتطبيق القواعد القانونيّة عند الفصل في المنازعات‬


‫التّي تعرض عليه‪ ،‬وهو ما قد يقتضي منه أحيانا استنباط قواعد يك ّمل‬
‫بمقتضاها نقصا قد يحصل في النّصوص التّشريعيّة حتّى يبتكر حالّ للنّزاع‬
‫المعروض عليه‪ .‬هذا ال ّدور اإلنشائي للقاضي في المجال ال ّدستوري‬
‫يختلف بحسب مكانة القضاء ال ّدستوري‪ ،‬فهو دور نسب ّي في صورة غياب‬
‫قاضي دستوري ويقوم به عرضيّا القاضي المدني أو القاضي اإلداري‬
‫(إمكانيّة مراقبة القرارات اإلدارية من طرف القاضي المدن ّي عن طريق‬
‫ال ّدفع بعدم ال ّشرعيّة‪ ،‬نظريّة حصانة أعمال السّيادة)‪ .‬وهو دور كبير في‬

‫‪37‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫حالة ال ّدول ال ّتي أقرّت القضاء ال ّدستوري حيث تبلور القانون ال ّدستوري‬
‫من خالل فقه القضاء خصوصا في ما ّدة الحرّيات األساسيّة‪.‬‬
‫‪2‬ـ الفقه‪:‬‬

‫يمثّل الفقه مصدرا استلهاميّا واستشرافيّا وتوضيحيّا للقانون‬


‫ال ّدستوري‪ ،‬و يتح ّدد دور الفقه ضمن بعدين أوّلهما دراسة وتحليل القواعد‬
‫القانونيّة بغية تفسيرها و استخالص آراء بشأنها وهو ما يقتضي تقييم‬
‫بعض التّجارب ال ّدستوريّة و االعتماد على المنطق و معرفة المحيط العا ّم‬
‫لنشأة و تطبيق و تطوير القواعد القانونيّة و ال يتقيّد البعد الثّاني لدور الفقه‬
‫بهذا التّصوّر بل يتجاوزه نحو ابتكار النّظريّات القانونيّة أو تطويرها‬
‫بشكل جوهري شأن الكتابات التّأسيسيّة لروسو دي مالبارق و هوريو‪.‬‬
‫وضمن هذه المعاني ال يش ّكل الفقه مصدرا مباشرا للقاعدة القانونيّة و إنّما‬
‫يمثّل عامال مساعدا في فهمها و دافعا لتطويرها‪ ،‬فتأثيره ثابت على‬
‫المشرّع و على القاضي‪.‬‬

‫ي‪:‬‬
‫القسم ال ّرابع‪ :‬مناهج دراسة القانون الدّستور ّ‬
‫تتّسم مناهج دراسة القانون ال ّدستوري بالتّع ّدد و تبقى العالقة بينهما‬
‫رهينة التّجاذب الفقهي بين التيّارين التّقليدي و الحديث‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬منهج ّية العلوم القانون ّية‪:‬‬
‫أن مه ّمة ال ّدارس للقانون ال ّدستوري تقتصر‬
‫يعتبر الفقهاء التقليديون ّ‬
‫على تفسير الوثيقة ال ّدستوريّة أساسا باالعتماد على طرق التّفسير اللّغوي‬
‫بحيث يتح ّدد معنى ك ّل عبارة بالنّظر إلى ما سبق شرحه توصّال إلى بلورة‬
‫مواقف وأفكار السّلطة التّأسيسيّة‪ .‬وفي صورة غموض النّص وعدم‬
‫جدوى التّفسير اللّغوي فانّه يت ّم االستعانة بالتّفسير المنطقي وذلك بالبحث‬
‫في روح النّص وتقريب النّصوص لبعضها والرّجوع إلى المصادر‬
‫التّاريخيّة كاألعمال التحضيريّة (مداوالت المجلس القومي التّأسيسي)‪.‬‬
‫إن هذا التّوجّه المنهجي يعكس التزام التيّار التّقليدي بالوثيقة‬
‫ّ‬
‫ال ّدستوريّة كأحد المرتكزين األساسيين في تحديد موضوع القانون‬
‫ال ّدستوري‪ ،‬وهو توجّه منتقد في ظ ّل حركية القانون ال ّدستوري و تطوّر‬

‫‪38‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫موضوعاته ومصادره واستقرار ال ّدراسات القانونيّة على تالزم دراسة‬


‫القانون ال ّدستوري والعلوم السّياسيّة أكاديميّا‪.‬‬

‫الفقرة الثّانية ‪ :‬منهج ّية العلوم ال ّ‬


‫سياس ّية ‪:‬‬
‫إن المنهج القانوني ال ّذي يلتصق بال ّدستور يتجاهل العوامل ال ّتي‬
‫ّ‬
‫تتفاعل لتؤثّر بشكل أو بآخر على تبلور قواعد القانون ال ّدستوري وأساليب‬
‫تطبيقها وفهمها بما يفترض اعتماد مناهج العلوم السّياسيّة توصال لقراءة‬
‫أفضل لها ‪.‬‬
‫حيث يمكن االعتماد على المنهج التاريخي باستقراء تاريخ المؤ ّسسات السياسيّة‬
‫وتاريخ األفكار السياسيّة لرصد تط ّور المؤ ّسسات وسياقاتها الفكريّة والنّظريّة‬
‫كما يمكن االستناد للمنهج المقارن بمعنى مقارنة النّظم القانونيّة والتّجارب‬
‫الوطنيّة الستخالص عناصر النظريّة العا ّمة لبعض المفاهيم والمؤ ّسسات‬
‫وال ب ّد من اإلشارة إلى انفراد العلوم السياسية ببعض األدوات التحليليّة الّتي تو ّسع‬
‫دائرة تناول وشرح مفاهيم القانون ال ّدستوري دون أن تكون بديال عنها ومنها‬
‫سبر اآلراء والتحليل الك ّمي وغيرها‪.‬‬

‫النظرية العامة للق انون الدستوري‬

‫‪39‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تتش ّكل النّظريّة العا ّمة للقانون ال ّدستوري ضمن مجموعة الثّوابت التّي تمثّل‬
‫قاسما مشتركا بين مختلف المدارس الفقهيّة بخصوص موضوعات القانون‬
‫ال ّدستوري لتتمثّل كمجموعة المعطيات األساسيّة للقانون ال ّدستوري و التّي تختلف‬
‫داخلها الرؤى فإنّها تمثّل األطر الكالسيكيّة لتناول ما ّدة القانون ال ّدستوري فال ّدولة‬
‫تمثّل اإلطار الرّئيسي (الباب األوّل) في حين يم ّثل ال ّدستور اإلطار القانوني التّي‬
‫ينظّم الحكم داخلها (الباب الثّاني) و تمثّل السّيادة سبل ممارسته (الباب الثّالث)‪.‬‬

‫الباب األ ّول‪ :‬الدّولة‬

‫ال ّدولة أرقى أشكال التّنظيم السّياسي و شكله السّائد و ال ّدارج في المجتمع‬
‫الحديث‪ ،‬و قد أخذت ال ّدولة في التّش ّكل كمؤسّسة المؤسّسات انطالقا من القرن ‪15‬‬
‫بأوروبا ضمن تقاطع و تفاعل (عوامل) و ظواهر ثالثة‪ :‬القوميّة و العقالنيّة‬
‫والبورجوازيّة‪ ،‬فقد برزت مع نم ّو وعي قوم ّي وظفته الملكيّة داخليّا إلنهاء ال ّدور‬
‫التجزيئي لإلقطاعيّة و مركزة السّلطة حول الملك و خارجيّا للتّخلّص من النّفوذ‬
‫الكنس ّي أو اإلمبراطوري كما ساهمت شموليّة العقلنة و استمراريّتها في بروز‬
‫ال ّدولة بتدعيم فكرة المؤسّسة و التنظم (ضمن مؤسّسات مترابطة و منطق الجزئي‬
‫ّ‬
‫المشخصة‬ ‫ضمن الكلّي لتحقيق أهداف عا ّمة) تحوّال عن فكرة السّلطة المبعثرة ث ّم‬
‫نحو السّلطة المؤسسة أي نحو جهاز سياس ّي للحكم في مجتمع ما‪.‬‬
‫و قد ساهمت البرجوازيّة اقتصاديّا و فكريّا في ذلك بتحالفها (المرحلي)‬
‫مع الملك وعملها على إيجاد سوق وطنيّة واسعة تتجاوز انغالق ال ّدورة‬
‫االقتصاديّة اإلقطاعية و تبنيها لفكر يقوم على الحريّة والعلميّة والفردانيّة‪ .‬و‬
‫ضمن مجموع هذه العوامل تبلورت ال ّدولة في معنى أقرب لداللتها االصطالحيّة‬
‫التّي تقوم على االستقرار (‪ )Etat/Staat/Stat‬و إن اختلفت التعريفات الفقهية‬
‫لها فالفقيه ‪ Carré de Malberg‬يعرّفها بأنّها مجموعة من األفراد مستقرّة على‬
‫إقليم معيّن و لها من التّنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة األفراد سلطة آمرة و‬
‫زاجرة‪ .‬و الفقيه ‪ Hallard‬فيعرّفها بأنّها مجموعة األفراد القاطنين إقليما معيّنا و‬
‫الخاضعين لسلطات األغلبيّة أو لسلطان طائفة منهم "وهي بالنّسبة للفقيه ‪Wilson‬‬
‫ال تعدو أن تكون شعبا يخضع للقانون على إقليم معيّن"‪.‬‬
‫و تعكس مجموعة هذه التّعريفات تعريفا (وصفيّا) لل ّدولة بأركانها (الفصل‬
‫األوّل) يعكس خصائصها القانونيّة (الفصل الثاني) بقطع النّظر عن تنوّع أشكالها‬
‫(الفصل الثّالث)‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الفصل األ ّول‪ :‬أركان الدّولة‪:‬‬


‫يجمع فقهاء القانون ال ّدستوري على ضرورة توفّر أركان ثالث لقيام ال ّدولة‬
‫وهي المجموعة البشريّة (المبحث األوّل) واإلقليم (المبحث الثّاني) و السّلطة‬
‫السّياسيّة (المبحث الثّالث)‬

‫المبحث األ ّول‪:‬المجموعة البشريّة‪:‬‬


‫تمثّل المجموعة البشريّة أحد مكوني ال ّشرط الطّبيعي لل ّدولة (إضافة‬
‫لإلقليم) ‪ ،‬و شرطها االجتماعي و عنصرها البشري‪ ،‬و تفترض لذلك جملة من‬
‫الخاصيات (الفقرة األولى) كما يطرح تش ّكلها (الفقرة الثّانية) من االستفهامات‬
‫المتعلّقة بتطوّرها و دورها‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪:‬خا ّ‬
‫صيات المجموعة البشريّة‬
‫ي لوجود ال ّدولة على مجموعة من‬‫تقوم المجموعة البشريّة كشرط ضرور ّ‬
‫الخاصّيات التّي تنسجم و هذه المعادلة (بعنصريها)‪.‬‬
‫ي لهذه المجموعة تأثير على وجود ال ّدولة فال يشترط أن‬ ‫فليس للتّباين العدد ّ‬
‫يكون لعددها ح ّدا أقصى أو ح ّدا أدنى كما ليس له تأثير على وصفها القانون ّي فك ّل‬
‫ال ّدول متساوية من الناحية النّظريّة بقطع النّظر عن عدد س ّكانها‪.‬‬
‫هذا من جهة أولى غير أ ّنه و من جهة ثانية يشترط أن تكون المجموعة‬
‫البشريّة مكوّنة في معظمها من أغلبيّة وطنيّة بمعنى أنّه ال يمكن أن تقوم دولة‬
‫على أجانب‪ ،‬و تتح ّدد العالقة بين ال ّدولة و أفرادها برابط الجنسيّة و عالقة‬
‫المواطنة بما يمنحانه من حقوق و يتطلّبانه من واجبات‪.‬‬
‫من جهة ثالثة يشترط أن يتوفّر في المجموعة البشريّة المكوّنة لل ّدولة ح ّدا‬
‫أدنى من االستقرار واالستمراريّة بمعنى أنّها ال يمكن أن تتش ّكل من رحّل‬
‫عابرين للحدود و ال يمكن أن تكون قابلة لالستبدال أو التّغيير و إن كان لها‬
‫حركيّتها ال ّداخليّة التّي تتجسّم ضمن تش ّكلها‪.‬‬
‫الفقرة الثّانية‪:‬تش ّكل المجموعة البشر ّية‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تتجسّم المجموعة البشريّة كركن من أركان ال ّدولة كشعب أو كأ ّمة(‪،)1‬‬


‫وهو ما يطرح عالقة األ ّمة كتش ّكل ممكن للمجموعة البشريّة بال ّدولة(‪.)2‬‬

‫‪ -1‬ال ّشعب و األ ّمة‪:‬‬


‫يفيد ال ّشعب في مفهومه الواسع (أو االجتماعي) مجموعة األفراد المقيمين‬
‫فوق إقليم ال ّدولة وال ّذين تربطهم بها رابطة الجنسيّة ليش ّكلوا مواطنيها (ارتباط‬
‫قانوني وسياسي)‪ .‬كما يفيد في مفهومه الضيّق أو السّياسي مواطني ال ّدولة‬
‫المتمتّعين بحقوقهم السّياسيّة و يرتبط بهذا الشعب السياسي بالمجتمع السّياسي‪ .‬و‬
‫يتوجّب من ث ّمة تمييز مفهوم ال ّشعب عن مفهوم ال ّس ّكان‪ ،‬فهذا األخير أع ّم حيث‬
‫يشمل مواطني ال ّدولة و األجانب المقيمين فيها‪.‬‬
‫و تبدو عالقة ال ّشعب باأل ّمة عالقة حيويّة‪ ،‬و ترتهن هذه العالقة بين مفهوم‬
‫قانوني باألساس و مفهوم سوسيولوجي باألساس بدرجة االندماج و االنصهار‬
‫االجتماعي و السّياس ّي فان كانت الرّغبة في العيش المشترك و تشابك عالقات‬
‫التّضامن والتّعاون و تبادل المصالح و االرتباط متع ّددة األبعاد حاضرة بين أفراد‬
‫ال ّشعب فانّه يمكن و تحت تأثير عوامل متع ّددة أن يتطوّر هذا الكيان ليصبح أ ّمة‪،‬‬
‫و ال يعني ذلك تالزما ضروريّا بينهما فقد ال يش ّكل شعب أ ّمة‪ ،‬كما قد يش ّكل شعب‬
‫من مجموعة من األمم‪ .‬و قد يش ّكل شعب جزءا من أ ّمة‪.‬‬
‫و يتجاذب تحديد العوامل المساهمة في انبثاق األ ّمة تصوّرين رئيسيّين‬
‫يقومان على مفهومين مختلفين لها‪.‬‬
‫أوّال‪ :‬المفهوم الشخصي لأل ّمة‪:‬‬
‫و قد اعتمده الفقه الفرنسي‪ ،‬و يقوم على مزاوجة بين عنصرين‪ :‬روح ّي و‬
‫إراديّ‪ ،‬و ضمن هذين العنصرين تتألّف األ ّمة من تقاليد واحدة موروثة عن‬
‫الماضي‪ ،‬ومن إرادة واحدة في حياة مشتركة (حسب رأي الفقيه ‪Ennest‬‬
‫‪ Renan‬و‪ )Michel Debné‬و من أماني موحّدة للمستقبل‪ .‬و يقوّي هذين‬
‫العنصرين ال ّذين هما وليد التّطوّر التّاريخي الطّويل شعور األفراد بواجب االلتزام‬
‫بحماية ال ّرابط ال ّذي يجمع بينهم و تنميته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المفهوم الموضوعي لأل ّمة‪:‬‬
‫و قد اعتمده الفقه األلماني‪ ،‬و تتعلّق أه ّم العناصر التّي تتكوّن بفضلها األ ّمة‬
‫بالعرق و اللّغة و ال ّدين‪ .‬فيعتبر الجنس من العناصر األساسيّة في تكوين األ ّمة‪ ،‬إذ‬
‫أن االنتماء إلى أصل مشترك يخلق إحساسا بالتّقارب و رغبة في العيش المشترك‬ ‫ّ‬

‫‪42‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫و ا ّتحادا في العادات و نمط العيش‪ .‬و تبقى صعوبات عزل مجموعة بشريّة‬
‫متّصفة بصفات طبيعيّة مشتركة و نقيّة عامال يح ّد من أهميّة عنصر العرق‪.‬‬
‫كما تعتبر اللّغة عنصرا أساسيا في تكوين األ ّمة‪ ،‬فوحدة اللّغة تخلق جوّا‬
‫عا ّما من التّفاهم ينتج عن سهولة التّخاطب و وحدة التّفكير و اإلحساس‪ ،‬فاللّغة‬
‫بحكم تعبيرها عن تراث المجموعة هي بمثابة روح األ ّمة‪ .‬و تجدر اإلشارة أنّه‬
‫تالزم نسب ّي فهناك لغات تتكلّمها أكثر من أ ّمة (االنجليزيّة‪ )...‬و هناك أمم تتوفّر‬
‫على أكثر من لغة (ايطاليا‪.)...‬‬
‫و تعتبر وحدة ال ّدين إحدى عوامل تكوين األ ّمة حيث يخلق ال ّدين بين‬
‫معتنقيه تضامنا و ترابطا يؤ ّدي إلى تقوية ال ّشعور المشترك باالنتماء إلى نفس‬
‫األ ّمة و قد ساهم ال ّشعور ال ّديني في نشأة ع ّدة أمم (األ ّمة االسبانيّة‪ .)...‬وهو قول‬
‫أن شعوبا تشترك في نفس ال ّدين‬ ‫قابل للتنسيب فمن األمم ما لم يقم على ال ّدين كما ّ‬
‫و ال تؤلّف أ ّمة واحدة‪.‬‬
‫و يبقى الفقيه ‪ André Hauriou‬أقرب إلى الموضوعيّة في تصوّر تأليفي‬
‫أن األ ّمة هي "ذلك التّج ّمع البشري ال ّذي في إطاره يستق ّر األفراد‪ ،‬و‬ ‫بقوله ّ‬
‫يرتبطون ببعضهم البعض بروابط ماديّة و روحيّة في اآلن نفسه و يعتبرون‬
‫أنفسهم مختلفين عن األفراد ال ّذين يكوّنون المجموعات القوميّة األخرى" وهي‬
‫رؤية تتّسع للمفهومين ال ّشخصي و الموضوع ّي لأل ّمة‪ ،‬وتبقى عناصر التّرابط في‬
‫ك ّل األحوال نسبيّة و ال تؤول حتما ال بالتناوب (ك ّل منهما على حدة) و ال‬
‫باإلضافة (جميعها) إلى قيام األ ّمة‪.‬‬
‫وهو طابع (النّسبيّة) ال يبدو غائبا عن عالقة األ ّمة بال ّدولة‪.‬‬
‫‪ -2‬ال ّدولة و األ ّمة‪:‬‬
‫مبدئيّا تبدو ال ّدولة و األ ّمة مفهومين مختلفين‪ ،‬فال ّدولة تش ّكل تنظيما قانونيّا‬
‫سياسيّا بينما تشمل األ ّمة حقيقة اجتماعيّة تتكوّن من مجموعة من األفراد قد ت ّم‬
‫انصهارهم نتيجة معطيات موضوعيّة و شخصيّة و لها ذاتيها المميّزة و ال يمنع‬
‫هذا االختالف الثّابت بين هاتين الحقيقتين القانونيّة و السّياسيّة قيام عالقة تفاعل‬
‫بينهما تتّخذ وجهين رئيسيين‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬مساهمة األ ّمة في قيام ال ّدولة‬
‫تلعب األ ّمة دورا كبيرا في تكوين ال ّدولة‪ .‬و هو ما عبرت عنه مقولة ال ّشكل‬
‫أن األ ّمة بفضل‬‫التاريخي للدولة بماهي الدولة ـ األ ّمة أو الدولة القومية‪ .‬هذا يعني ّ‬
‫التّضامن ال ّذي يجمع بين أفرادها تعمل على إنشاء دولة تم ّكنها من بلورة ذاتيّتها‬

‫‪43‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫المنفردة والمتميّزة و تحقيق أهدافها ورسالتها‪ .‬و قد حقّقت خالل القرن ال ّتاسع‬
‫عشر العديد من األمم في أوروبا استقاللها و كوّنت دوال مستقلّة‪ ،‬و ذلك تحت‬
‫تأثير مبدأ القوميّات ال ّذي أفرزته الثّورة الفرنسيّة‪ .‬فنشأت ال ّدولة االيطاليّة بالقوّة‬
‫عن طريق غاريبلدي سنة ‪ 1870‬و جمعت شتات األ ّمة اإليطاليّة التّي كانت‬
‫مو ّزعة على خمس دويالت‪ ،‬و نشأت كذلك ال ّدولة األلمانيّة على يد بيزمارك سنة‬
‫‪ 1871‬و أعيد توحيد ألمانيا سنة ‪ 1990‬و ذلك اثر تقسيمها بعد الحرب العالميّة‬
‫الثّانية‪ ،‬و قد تطوّر مبدأ القوميّات و ال ّذي عرّفه االيطالي مانشيني ‪ Mancini‬في‬
‫ق له أن‬ ‫إن ك ّل شعب بلغ مرحلة القوميّة يح ّ‬ ‫محاضرة ألقاها سنة ‪ 1851‬بقوله " ّ‬
‫يؤلّف دولة لنفسه خاصّة بهذه القوميّة" وأصبح مبدأ القوميّات في القرن العشرين‬
‫ق ال ّشعوب في تقرير مصيرها ‪« Le droit des‬‬ ‫يحمل شكال يتمثّل في ح ّ‬
‫» ‪ peuples à disposer d’eux-mêmes‬و قد اعتنق الرّئيس و يلسن هذا‬
‫المبدأ في مبادئه األربعة عشر‪ ،‬ووقع إقراره من طرف األمم المتّحدة خاصّة في‬
‫قرارها رقم ‪ 16-1514‬سنة ‪" 1960‬حول منح االستقالل للبلدان وال ّشعوب‬
‫ق ال ّشعوب في تقرير مصيرها على قيام ع ّدة دول‬ ‫المستعمرة"‪ .‬وقد ساعد مبدأ ح ّ‬
‫خاصّة إثر انحالل واضمحالل اإلمبراطوريّة النّمساوية المجريّة و اإلمبراطوريّة‬
‫العثمانيّة التّي كان شعبها يقوم على أمم و قوميّات متع ّددة كما ساعد أيضا مبدأ‬
‫ق في خوض المعارك‬ ‫ق ال ّشعوب في تقرير مصيرها على أعطاء ك ّل أ ّمة الح ّ‬ ‫ح ّ‬
‫التحريريّة ض ّد االستعمار خاصّة في آسيا و إفريقيا‪ ،‬و بالتّالي اإلحراز على‬
‫استقاللها و تكوين دولتها‪.‬‬
‫ق ال ّشعوب في‬ ‫و لم تتم ّكن األمم المتّحدة دائما من فرض تطبيق مبدأ ح ّ‬
‫تقرير مصيرها‪ .‬فبعض ال ّشعوب و رغم اعتراف األمم المتّحدة بحقوقها‬
‫المشروعة لم تستطع تجسيد هذه الحقوق داخل أرض أو إنشاء دولة لها‪ .‬و نالحظ‬
‫أن العديد من ال ّشعوب لم تتم ّكن من تكوين دول خاصّة بها كاألكراد و‬ ‫كذلك ّ‬
‫ق ال ّشعوب في‬ ‫أن ح ّ‬
‫السيك و التاميل و األرمن و لكن م ّما تجدر مالحظته هو ّ‬
‫تقرير مصيرها ال تتي ّسر تحقيقه إالّ من خالل الصّراع ال ّذي تتح ّمل مشاقّه هذه‬
‫ال ّشعوب لبلوغ أهدافها‪ .‬و تلعب الصّراعات و التّوازنات ال ّدوليّة و مصالح ال ّدول‬
‫العظمى دورا كبيرا إ ّما في إخماد تطلّعات الشعوب نحو االستقالل و بناء ال ّدولة‬
‫الخاصّة بها أو بفتح اآلفاق أمامها و تدعيم نضالها لبلوغ أهدافها و تحقيق غاياتها‪.‬‬
‫و أحسن مثال لذلك ما حدث بالنّسبة إلى دول البلطيق الثالثة (ليتوانيا‪ ،‬لتفيا و‬
‫أستونيا)‪ .‬فبعد أن وقع إدماجهم ضمن‬
‫جمهوريّات االتّحاد السوفياتي أثناء الحرب العالميّة الثّانية من طرف‬
‫ستالين مع الموافقة الضمنيّة للعديد من ال ّدول الغربيّة اعترف لهم بحقّهم في تقرير‬

‫‪44‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫مصيرهم اثر انهيار االتّحاد السّوفياتي عام ‪ 1991‬من طرف نفس ال ّدول ال ّتي‬
‫غضت الطّرف عن وضعيتهم بسبب الحرب الباردة و معاهدة يالطا التّي ق ّسمت‬
‫العالم إلى منطقتي نفوذ‪.‬‬
‫أن تكوين األ ّمة قد سبق تكوين ال ّدولة (كثير من الحاالت)‪.‬‬
‫و خالصة القول ّ‬
‫ثانيا‪ :‬مساهمة ال ّدولة في تكوين األمة‪:‬‬
‫يبدو تأثير ال ّدولة على األ ّمة ثابتا‪ .‬وهو دور يتراوح مداه بين مساهمة فعّالة‬
‫في نشأة األ ّمة و بين سعي لذلك و ذلك بحسب األوضاع والتجارب (كما يختلف‬
‫مآله) ففي حالة الواليات المتّحدة األمريكية ساهمت الدولة االتّحاديّة في صهر‬
‫أجناس مختلفة و بلورة شعور باالنتماء إلى"األ ّمة األمريكيّة " ساهم في ذلك‬
‫اقتصاد مترابط ومتشابك المصالح بين دول االتحاد وسياسة مالية وطنّية‬
‫ومؤ ّسسات سياسيّة جامعة و هو ما ساعد علي اندماج المكونات البشرية لهذا‬
‫االتحاد بصالت موضوعيّة وروحيّة وهو ما تبلور خاصّة بعد الحرب العالمية‬
‫األولي حينما أوقف الكونغرس الهجرة المفتوحة نحو الواليات المتحدة األمري ّكية‪.‬‬
‫أ ّما في حالة ال ّدول الحديثة العهد باالستقالل في الستّينيات (أو الدول‬
‫المتف ّككة عن االتحاد السوفيتي) فقد واجه ضعف االرتباط االجتماعي و هشاشة‬
‫االنتماء الوطن ّي قيام ال ّدولة الحديثة‪ ،‬فكان أن وظفت (بل وابتدعت) ال ّدولة الوعي‬
‫القومي وإرادة بناء أ ّمة لتجاوز المجتمعات الجزئيّة و الح ّد من النّزاعات‬
‫االجتماعيّة (عرقيّة‪ ،‬لغويّة‪ ،‬جهويّة) و كانت وسائلها في ذلك إقامة شبكات ترابط‬
‫إداريّة واقتصاديّة و اجتماعيّة و تعليميّة و توظيف ك ّل العناصر الموضوعيّة و‬
‫ال ّشخصيّة للمساعدة على اندماج المجموعة البشريّة‪.‬‬
‫إن سعي ال ّدولة لتكوين األ ّمة و بلورة شعور االنتماء لها لم يكن موفقا في‬ ‫ّ‬
‫ك ّل الحاالت فتجاهل الخصوصيّات و السّياسات القسرية ه ّددت أحيانا وجود‬
‫ال ّدولة ذاتها كما هو ّشأن الحالة السّوفياتيّة‪ ،‬فال ّدولة التّي جمعت ‪ 120‬قوميّة في‬
‫شعب واحد لم تكوّن أ ّمة وتف ّككت سنة ‪ 1991‬و عديد البلدان اإلفريقية (رواندا‪،‬‬
‫نيجيريا‪ ).‬تعيش حالة التّناحر العرق ّي و حتّى الحرب األهليّة أحيانا‪ .‬ساهمت في‬
‫ذلك حدود جغرافية مصطنعة موروثة عن االستعمار ال تتوافق و خارطة (توزيع‬
‫القوميّات) وهو ما يتوجّه معه بحث الرّكن الثّاني لل ّدولة "اإلقليم"‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬اإلقليم‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫يم ّثل اإلقليم أحد مكوّني الشرط الطّبيع ّي لل ّدولة إضافة للمجموعة البشريّة‪،‬‬
‫وشرطها الجغراف ّي وعنصرها الما ّدي فعليه تستق ّر المجموعة البشريّة و ضمنه‬
‫يمارس سلطان الدولة‪.‬‬
‫و إن ال تشترط مساحة دنيا أو قصوى إلقليم الدولة و ال يؤثر ذلك في‬
‫وجود الدولة أو في وصفها القانوني‪ ،‬فإنه يشترط فيه ضرورة الطبيعية بمعنى أن‬
‫إقليم الدولة ال يمكن أن يكون غير مستق ّر أو مثبتا بصفة مفتعلة‪ ،‬كما ال يشترط أن‬
‫يش ّكل اإلقليم وحدة جغرافيّة متّصلة فال ّدولة أندونيسا مثال قائمة على آالف الجزر‬
‫المتنأثرة ‪ ،‬ويتجه تحديد مكونات اإلقليم (الفقرة األولى ) و بلورة دوره(الفقرة‬
‫الثانية )‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬مك ّونات اإلقليم‪:‬‬
‫يقصد باإلقليم الم ّد الجغراف ّي الذي ترتكز عليه ال ّدولة‪ ،‬و يمت ّد أفقيّا‪ ،‬و‬
‫عموديّا في االتجاهين‪ .‬ومن ث ّمة تختلف مكوّناته كما يختلف تبعا لذلك تحديدها‪ .‬و‬
‫يطرح تحديد اإلقليم عموما (رسم وضبط حدوده) صعوبات قانونيّة و سياسيّة و‬
‫قد يكون سببا لنزاعات دوليّة‪ .‬و قد تبلورت طرق و تقنيّات ضبط اإلقليم بحسب‬
‫عناصره البريّة (‪ )1‬و البحريّة (‪ )2‬و الجويّة (‪.)3‬‬

‫‪ )1‬اإلقليم البرّي‪:‬‬
‫يشتمل اإلقليم البرّي مساحة األرض بتقاسيمها و تضاريسها و طبقاتها‪ .‬و‬
‫يمكن أن تكون الحدود البريّة لل ّدولة طبيعيّة (سلسلة جبليّة‪ ،‬نهر‪ )...‬كما تكون‬
‫اصطناعيّة ناتجة عن رسم الحدود بناء على إرادة منفردة لدولة أو بناءا على‬
‫معاهدة دوليّة‪ ،‬و الجمع بين طريقتي التحديد جائز و يضمن الدقّة‪.‬‬
‫‪ )2‬اإلقليم البحري‪:‬‬
‫يشمل اإلقليم البحري لل ّدولة‪:‬‬
‫أ ّوال‪ :‬المياه ال ّداخليّة‪:‬‬
‫كالبحيرات و األودية و المواني و المراسي و التّي تخضع لمبدأ سيادة‬
‫ال ّدولة السّاحليّة‪.‬‬
‫ثان ّيا‪ :‬المياه اإلقليمية‪( :‬البحر اإلقليمي)‬
‫وهو ذلك الجزء من البحار المتاخم ألرض ال ّدولة و مساحته مح ّددة بموجب‬
‫القانون ال ّدولي ب‪ 12‬ميال بحريّا أي ما يقارب ‪ 20‬كم‪ ،‬و تمارس ال ّدولة عليها‬

‫‪46‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫سيادة كاملة مياها و قاعا و باطن أرض و فضاء باعتبارها امتدادا إلقليمها البرّي‬
‫مع ضمان ح ّ‬
‫ق المرور للسّفن األجنبيّة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬المنطقة المتاخمة‪:‬‬
‫و هي المنطقة المتاخمة للبحر اإلقليمي و تمت ّد إلى ‪ 24‬ميال بحريّا انطالقا‬
‫من نفس خطوط األساس التّي يقاس منها عرض البحر اإلقليمي‪ .‬و ال تمارس‬
‫ال ّدولة عليها حقوق السّيادة الكاملة و إنما تكتفي بصالحيّات وقائيّة و زجريّة‬
‫تخصّ أنظمتها الجمركيّة و الضريبيّة و الصحيّة و نظام الهجرة و اآلثار‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬المنطقة االقتصاديّة الخالصة‪:‬‬
‫ي انطالقا من نفس خطوط األساسي ال ّتي‬ ‫و تمت ّد إلى مساحة ‪ 200‬ميل بحر ّ‬
‫يقاسمنها عرض البحر اإلقليمي‪ .‬و لل ّدولة عليها حقوق االستكشاف و االستغالل‬
‫االنفرادي للثّروات الحيّة و غير الحيّة للمياه التّي تعلو قاع البحر و باطن أرضه‬
‫ق المالحة ال ّدوليّة (= سيادة‬
‫والمحافظة على هاته الموارد و إدارتها مع ضمان ح ّ‬
‫وظيفيّة)‪.‬‬
‫ي‪:‬‬
‫خامسا‪ :‬الجرف القار ّ‬
‫و يشمل قاع و باطن أرض المسافات المغمورة التّي إلى ما وراء بحرها‬
‫اإلقليمي في جميع أنحاء االمتداد الطّبيعي إلقليم تلك ال ّدولة البرّي حتّى الطّرف‬
‫الخارج ّي للحافّة القاريّة أو مساحة ‪ 200‬ميل بحري من خطوط األساس التّي‬
‫يقاس منها عرض البحر اإلقليمي إذا لم يكن الطّرف الخارجي للحافة القاريّة يمت ّد‬
‫ق استغالل مواردها الطبيعيّة القائمة على قاع‬ ‫لتلك المسافة‪ .‬و لل ّدولة عليها ح ّ‬
‫ق المالحة‬ ‫البحر وتحته باإلضافة إلى الكائنات الحيّة المستقرّة مع ضمان ح ّ‬
‫والمرور (=سيادة وظيفيّة)‪.‬‬
‫‪ )3‬اإلقليم الجوّي‪:‬‬
‫وهو المجال ال ّذي يعلو اإلقليم البرّي و المياه اإلقليمية لل ّدولة وهو خاضع‬
‫ق المرور الجوّي‪ .‬و قد تبلور تمييز بين طبقة‬ ‫لسيادتها الكاملة مع التزامها منح ح ّ‬
‫الفضاء ال ّداخلي التّي تخضع لسيادة ال ّدولة و طبقة الفضاء الخارجي التّي تخضع‬
‫لمبدأ حريّة االستعمال لك ّل ال ّدول على أساس المساواة و احترام القانون ال ّدولي‪.‬‬
‫الفقرة الثّانية‪ :‬دور اإلقليم‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫يتح ّدد ال ّدور المسند (فقهيّا) لإلقليم بحسب اختالف اآلراء الفقهيّة بشأن‬
‫طبيعته القانونيّة و أه ّمها ثالث نظريّات‪.‬‬
‫‪ )1‬نظريّة موضوعيّة اإلقليم‪:‬‬
‫و التّي تعتبر اإلقليم موضوع ملكيّة و ال ّدولة بذاك تستطيع استعمال إقليمها‬
‫و التّصرّف فيه دون قيد و تع ّد هذه النّظريّة امتدادا للتّصوّرات اإلقطاعية‪ ،‬و قد‬
‫ضعفت في ظ ّل مأسّسة السّلطة‪.‬‬
‫‪ )2‬نظريّة شخصيّة اإلقليم‪:‬‬
‫ّ‬
‫و التّي تعتبر اإلقليم جزءا من شخصيّة ال ّدولة فهي الرّكن الذي يؤهّل‬
‫لقيامها أي لالعتراف بشخصيّتها و بالتّالي بقدرتها على التّعبير عن إرادة خاصّة‬
‫بها‪.‬‬
‫‪ )3‬نظريّة اإلقليم المقيّد‪( :‬التّصوّر ال ّدارج)‬
‫و التّي تعتبر اإلقليم اإلطار ال ّذي تمارس ال ّدولة داخله اختصاصاتها‪ ،‬وهو‬
‫بالتّالي يمثّل حدود سلطات ال ّدولة (‪.)Duguit‬‬

‫سياس ّية‪:‬‬ ‫المبحث الثّالث‪ :‬ال ّ‬


‫سلطة ال ّ‬
‫يقتضي قيام ال ّدولة وجود سلطة سياسيّة تخضع لها المجموعة البشريّة ال ّتي‬
‫تعيش على اإلقليم و تتميّز هذه السّلطة السياسية بخاصيّتين رئيستين فهي سلطة‬
‫فعليّة (الفقرة األولى) كما أنّها سلطة سيدة (الفقرة الثّانية)‪.‬‬

‫سياس ّية سلطة فعل ّية‪:‬‬ ‫الفقرة األولى‪ :‬ال ّ‬


‫سلطة ال ّ‬
‫بمعنى أ ّنها سلطة تمارس فعليّا و بفاعليّة‪ ،‬وليست مجرّد سلطة روحيّة أو‬
‫معنويّة وهو ما يفيده كما يجسّمه احتكار ال ّدولة لوسائل اإلكراه ال ّمادي (األمن‪،‬‬
‫الجيش‪ ،‬السجن‪ .)...‬ويمكن احتكار وسائل الضغط واإلكراه ال ّمادي ال ّدولة من‬
‫حماية وجودها و ضمان أداء وظائفها ال ّداخليّة و الخارجيّة‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬السلطة السياسيّة سلطة سيّدة‪:‬‬


‫ويقصد بالسّلطة السيّدة السلطة التّي تخضع إلرادتها ك ّل السلط الموجودة‬
‫داخل اإلقليم و هي من ث ّمة سلطة وحيدة ال تنازعها سلطة أخرى (سياسية‪ ،‬نقابية‬

‫‪48‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫) هذا على المستوى ال ّداخل ّي‪ ،‬أ ّما على المستوى الخارجي فإن السّلطة السيّدة هي‬
‫التّي ال ترتبط بعالقات والء لسلط خارجيّة (االنتداب‪ ،‬الحماية ‪،‬االستعمار)‪ .‬و ال‬
‫تنفي السيادة تعايش و تفاعل الدولة مع محيطها ال ّداخل ّي والخارج ّي دون أن يؤوال‬
‫إلى انتقاصها أو أن يفقدا ال ّدولة خصائصها القانونية‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الخصائص القانونيّة للدّولة‪:‬‬
‫يمكن حصر الخصائص القانونيّة لل ّدولة في خاصيتين أساسيتين‪ ،‬إذا تتمتع‬
‫الدولة بالشخصيّة القانونيّة (المبحث األول ) كما تتمتع بالسّيادة (المبحث الثاني )‪.‬‬

‫المبحث األ ّول ‪ :‬الشخصيّة القانونيّة للدّولة‪:‬‬


‫تتّمتع ال ّدولة بشخصيّة قانونيّة مستقلّة عن األشخاص القانونيّة لمن يدير‬
‫شأنها أو يخضع لها‪.‬‬
‫والشخصيّة القانونيّة بمعنى أهليّة اإللزام و االلتزام ليست حكرا على‬
‫ال ّدولة‪ ،‬فعديد الهياكل تتمتع بها كالجماعات المحليّة والجمعيات والشركات‪ .‬ولكن‬
‫الشخصيّة القانونيّة لل ّدولة تتميّز عن غيرها (الفقرة األولى) كما تنفرد بنتائجها‬
‫(الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬تميّز الشّخصيّة القانونيّة للدّولة‪:‬‬
‫تتميّز الشخصيّة القانونيّة االعتباريّة لل ّدولة بميزتين أساسيّتين فهيمن جهة‬
‫أولى آليّة (‪ )1‬و من جهة ثانية كاملة (‪.)2‬‬

‫‪ )1‬شخصية قانونيّة آلية‪:‬‬


‫و المعنى أنّها شخصيّة توجد بوجود ال ّدولة دون حاجة للتّنصيص على ذلك‬
‫أو التّأكيد على ذلك‪ ،‬خالفا للشخصيّة القانونيّة للمجموعات األخرى التّي تفترض‬
‫نصّا قانونيّا أو تنبني على نصّ قانوني (شركات‪ ،‬إحداث بلديّات‪.)...‬‬
‫‪ )2‬شخصيّة قانونيّة كاملة‪:‬‬
‫و المعنى شمولية تدخل ال ّدولة من حيث النّطاق و المجال و اآلليات‪ ،‬فمن‬
‫جهة أولى لل ّدولة ممارسة أنشطتها داخليّا أو خارجيّا في حين يتقيّد نشاط‬
‫المجموعات األخرى بنطاق مضبوط نصّيا ال يتّصف عموما باالتّساع و ال ّشموليّة‬
‫(االقتصار على أحد البعدين مع ضوابط)‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫دخل في ك ّل ميادين النّشاط (سياسية‪ ،‬اقتصاديّة‪)...‬‬


‫من جهة ثانية لل ّدولة التّ ّ‬
‫ق النّشاط إالّ في حدود األهداف التّي‬‫في حين ال تتمتّع المجموعات األخرى بح ّ‬
‫بعثت من أجلها‪.‬‬
‫من جهة ثالثة و أخيرة تتمتّع ال ّدولة بكفاءة قانونيّة كاملة تجعلها قادرة على‬
‫القيام بك ّل األعمال و اإلجراءات القانونيّة خالفا للمجموعات األخرى التّي تسمح‬
‫لها شخصيّتها القانونيّة بكفاءة قانونيّة محدودة مقيّدة بمجال و أهداف نشاطها‪.‬‬
‫الفقرة الثّانية‪ :‬نتائج إضفاء الشخصيّة القانونيّة على الدّولة‪:‬‬
‫تنحصر أه ّم مترتّبات إضفاء ال ّشخصيّة القانونيّة في نتائج ثالث‪:‬‬
‫‪ )1‬استقالل شخصيّة ال ّدولة‪:‬‬
‫إن حاجة ال ّدولة لمن يعبّر عنها ال تفيد فقدانها لشخصيّتها القانونيّة و‬‫ّ‬
‫أن ما يقومون به هو منسوب لل ّدولة اسما‬‫اندماجها في شخص المعبّرين عنها‪ ،‬إذ ّ‬
‫و هدفا‪.‬‬
‫‪ )2‬استمراريّة ال ّدولة‪:‬‬
‫أن ال ّشخصيّة القانونيّة لل ّدولة تم ّكنها من االستمرار و ال ّدوام بقطع‬ ‫و مفاده ّ‬
‫النّظر عن التّحوّالت الواردة على النّظام السّياسي بحيث ال يجوز التّحلل من‬
‫االلتزامات و ال يسقط التّمتّع بالحقوق إذا ما تغيّر الحاكمون (داخليّا و خارجيّا)‪.‬‬
‫‪ )3‬وحدة ال ّدولة‪:‬‬
‫تسمح ال ّشخصيّة القانونيّة لل ّدولة بالمحافظة على وحدتها رغم تع ّدد هياكلها‬
‫وأعوانها (ممثليها) فالقرارات الصّادرة عنهم ملزمة لل ّدولة‪ ،‬حيث أنّها اتّخذت‬
‫باسمها و ضمن الصالحيات الرّاجعة إليها (=قرار واحد)‪.‬‬
‫و إن كانت ال ّدولة تشترك مع المجموعات األخرى في الشخصيّة القانونيّة‪،‬‬
‫فإنّها تنفرد بخاصيّة السّيادة‪.‬‬

‫المبحث الثّاني‪ :‬سيادة الدّولة‪:‬‬


‫أن السّيادة لصيقة بال ّدولة ال تنفصل عنها وزوالها يعني زوال ال ّدولة‪ ،‬فهي‬ ‫ّ‬
‫ميزة تنفرد بها الدولة دون سواها وهي سيادة تتميّز بخاصّياتها (الفقرة األولى)‬
‫وبمضمونها القانون ّي (الفقرة الثّانية)‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬خاصيّات سيادة الدّولة‪:‬‬

‫‪50‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫(وهي ثالث)‪ّ ،‬‬


‫إن السّيادة سلطة قانونيّة أصليّة و عليا‪.‬‬
‫‪ )1‬السّيادة سلطة قانونيّة‪:‬‬
‫بمعنى أنّها سلطة تم ّكن الحاكمين دون سواهم من أهليّة وضع قواعد قانونيّة‬
‫ملزمة يمتثل إليها المحكومين طوعيّا أو كرها‪ ،‬لتش ّكل السّيادة بهذا المعنى السّند‬
‫القانوني الختصاص الحاكمين‪.‬‬
‫‪ )2‬السّيادة سلطة أصليّة‪:‬‬
‫بمعنى أنّها تجد مصدرها في ذاتها وال تتفرّع عن سلطة أخرى‪ ،‬و هو ما‬
‫ي سلطة أخرى فال سلطة تعلوها‪.‬‬‫أن سلطة ال ّدولة ال تخضع أل ّ‬
‫يفيد ّ‬
‫‪ )3‬السّيادة سلطة عليا‪:‬‬
‫وهي خاصيّة ناتجة عن الخاصيّة السّابقة‪ ،‬وهي خاصيّة تعلو بموجبها‬
‫ال ّدولة ك ّل السّلط و تتبع بموجبها هذه األخيرة ال ّدولة (سلطة السّلطات)‪.‬‬
‫الفقرة الثّانية‪:‬المضمون القانوني لسيادة الدّولة‪:‬‬
‫أي ما تسمح به اختصاصات‪ ،‬و هنا يتوجّب النّظر في الخصائص العا ّمة‬
‫الجامعة لها‪ ،‬وهي احتكار االختصاص (‪ )1‬و استقالله (‪ )2‬و شموله (‪.)3‬‬

‫‪ )1‬احتكار االختصاص‪:‬‬
‫أن اختصاص ال ّدولة وحدها هو ال ّذي يمارس على إقليمها و على‬‫بمعنى ّ‬
‫شعبها وهو ما يحول و قيام سلطة منافسة‪.‬‬
‫ويتجسّم هذا االحتكار في احتكار ال ّدولة لوسائل الضّغط الما ّدي و في‬
‫أن ال ّدولة تحتكر تنظيم المرافق‬
‫احتكارها ممارسة القضاء على إقليمها كما ّ‬
‫العموميّة من صحّة و تعليم‪...‬‬
‫‪ )2‬استقالل االختصاص‪:‬‬
‫أن الدولة تتمتّع في ممارسة اختصاصها بحريّة القرار و حريّة‬‫بمعنى ّ‬
‫التّحرّك و حريّة العمل دون تبعيّة أو ائتمار لجهة أخرى مهما كانت‪.‬‬
‫‪ )3‬شموليّة االختصاص‪:‬‬
‫بمعنى تتمتّع ال ّدولة بحريّة العمل في ك ّل المجاالت‪ .‬وتلك خصائص تشمل‬
‫ال ّدول مهما اختلفت أشكالها‪.‬‬

‫الفصل الثّالث‪ :‬أشكال الدّولة‪:‬‬

‫‪51‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ت ّتخذ ال ّدول شكلين أساسيين‪ :‬ال ّدولة الموحّدة(المبحث األوّل) و ال ّدولة‬


‫المر ّكبة (المبحث الثّاني)‬

‫الموحدة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫المبحث األ ّول‪ :‬الدّولة‬
‫ال ّدولة الموحّدة هي التّي يقوم فيها مركز واحد للسّلطة السّياسيّة إلدارة‬
‫شؤونها ال ّداخليّة و الخارجيّة (العاصمة السّياسيّة) كما يوجد فيها نظام قانون ّي‬
‫واحد منبني على دستور واحد‪.‬‬
‫و ال يتنافى هذا ال ّتعريف لل ّدولة الموحّدة مع وجود مجموعات (هياكل)‬
‫محليّة و جهويّة تتولّى تحت سلطة ال ّدولة مباشرة اختصاصات مح ّددة بغية تسهيل‬
‫إدارة المصالح و المرافق العا ّمة‪.‬‬
‫و يتفاوت مجال اختصاص هذه الهياكل و نوعيّة عالقاتها بالسّلطة‬
‫المركزيّة من دولة ألخرى‪ ،‬كما يؤثّر على تكييف ال ّدولة الموحّدة فهي إ ّما دولة‬
‫موحّدة ذات نظام مركزي (الفقرة األولى) أو دولة موحّدة ذات نظام ال مركز ّ‬
‫ي‬
‫(الفقرة الثّانية) أو دولة جهويّة (الفقرة الثّالثة) ‪.‬‬
‫الموحدة ذات النّظام المركز ّ‬
‫ي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الفقرة األولى‪ :‬الدّولة‬
‫يتّخذ النّظام المركزي شكلين المركزيّة المطلقة (أ) و المركزيّة النّسبيّة‬
‫(ب)‪.‬‬
‫أ) ال ّدولة الموحّدة ذات النّظام المركزي المطلق أو المحوريّة‪:‬‬
‫و ضمنها يرجع لل ّدولة الموحّدة المركزيّة وحدها ممثّلة في السّلطة السّياسيّة‬
‫المر ّكزة بالعاصمة ممارسة ك ّل االختصاصات الرّاجعة لل ّدولة و اتّخاذ القرارات‬
‫السّياسيّة و اإلدارية بشأنها‪ ،‬و ليس للسّلط المحليّة و الجهويّة حريّة اتّخاذ القرار‬
‫بل عليها الخضوع للسّلطة المركزيّة‪.‬‬
‫و يبدو هذا التّصوّر صعب التّحقّق ضمن االمتداد الجغرافي و التّطوّر‬
‫الس ّكاني لمعظم ال ّدول‪ ،‬وهو بالتّالي عديم النّجاعة قليل المالءمة‪ ،‬بما دفع إلى‬
‫إدخال مرونة على النّظام المركز ّ‬
‫ي المطلق لل ّدولة الموحّدة‪.‬‬
‫ب) ال ّدولة الموحّدة ذات النّظام المركزي المخفف أو الالمحورية‪:‬‬
‫و ضمنها يفوّض لهياكل محليّة و جهويّة اتّخاذ بعض القرارات في مجاالت‬
‫معيّنة تحت الرّقابة الرّئاسيّة للسّلطة المركزيّة‪ ،‬و التّي بموجبها يمكن إلغاء هذه‬

‫‪52‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫القرارات أو الحلول مح ّلها في ا ّتخاذها أو توجيه تعليمات بشأنها من ذلك ما ورد‬


‫أن "الوالي هو المؤتمن على سلطة‬ ‫بالفصل ‪ 13‬من قانون ‪ 17‬جوان ‪ 1975‬على ّ‬
‫ال ّدولة و ممثّل الحكومة بدائرة واليته‪ ،‬و هو إداريا تحت سلطة وزير ال ّداخليّة‪.‬‬
‫الموحدة ذات النّظام ّ‬
‫الالمركزي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الفقرة الثّانية‪ :‬الدّولة‬
‫و ضمنها تو ّكل ال ّدولة بعض االختصاصات إلى هيئات محليّة أو جهويّة أو‬
‫إلى مؤسّسات عا ّمة وذلك تحت إشرافها‪ .‬وتتخذ الالمركزيّة شكلين الالمركزيّة‬
‫التّرابيّة و الفنيّة‪.‬‬
‫وتعني الالمركزيّة ال ّترابيّة وجود جماعات عموميّة ترابيّة تسهر على‬
‫شؤونها هيآت منتخبة‪ .‬وقد كرّسها ال ّدستور التّونسي صلب الباب السابع منه حيث‬
‫تمارس البلديات والجهات واألقاليم هذه المصالح المحليّة حسبما تضبطه أحكام‬
‫مجلة الجماعات المحلية‪ .‬و تتجسّم الالمركزيّة الفنّيّة (أو المرفقيّة) في إحداث‬
‫مؤسّسات عموميّة تمارس االختصاصات التّي تحيلها إليها باستقالليّة و تحت‬
‫إشراف ال ّدولة‪.‬‬
‫ي تمتّع الجماعات التّرابيّة و المؤسّسات العموميّة‬
‫و يفيد النّظام الالمركز ّ‬
‫بال ّشخصية القانونيّة و االستقالل المالي و خضوعها لرقابة ال ّدولة ممثّلة في سلطة‬
‫اإلشراف التّي يمكنها المصادقة بشكل سابق أو الحق على قراراتها‪ .‬ومن ث ّمة‬
‫يبقى هامش استقالليّة هذه الهيآت محدودا‪ ،‬وإن شهد توسّعا ضمن بعض التّجارب‬
‫ال ّدستورية‪.‬‬
‫الفقرة الثّالثة‪ :‬الدّولة الجهويّة‪:‬‬
‫خالفا لما يتبادر لل ّذهن ّ‬
‫فان ال ّدولة الجهويّة ليست تلك ال ّتي تقوم في جهة‬
‫وإنّما هي التّي تقوم على نظام الجهات )‪ ،( Les régions‬ال ّذي يفيد منح هذا‬
‫ال ّشكل من الجماعات التّرابيّة صالحيات ممت ّدة ذات طابع إداري وأيضا سيّاسي و‬
‫هو ما يميّزها عن ال ّدولة ذات التنظيم الالمركزي‪ ،‬و بمقتضاها يكون لهذه‬
‫الجّهات سلطة التنظيم الذاتي لمرافقها و هيآتها السياسيّة حيث تتوفر على سلطة‬
‫التشريع في ظ ّل الدستور الوطن ّي‪.‬‬
‫لقد تبلور هذا ال ّشكل من أشكال التّنظيم السّياس ّي و اإلداري وال ّذي يتعايش‬
‫مع األشكال المذكورة آنفا ( الالمحوريّة و الالمركزية ) ضمن ظروف خاصّة‬
‫ببعض البلدان وضمن تركيبة اجتماعيّة و نسيج اقتصادي و تقاليد سياسيّة تسمح‬
‫باعتماده فتتواجد ال ّدولة الجهويّة في إيطاليا وإسبانيا‪ ،‬فال ّدستور االيطالي نصّ في‬

‫‪53‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫أن الجهات تكوّن مجموعات مستقلّة لها سلطات ذاتيّة و وظائف‬ ‫فصله ‪ 115‬على ّ‬
‫مح ّددة‪ ،‬منها الفالحة‪ ،‬السّياحّة‪ ،‬الصحّة بل و إصدار قوانين تفسّر القوانين‬
‫الوطنيّة‪ ،‬كما أق ّر ال ّدستور االسبان ّي ح ّ‬
‫ق ك ّل جهة في تنظيم و تحديد صالحيّاتها‬
‫بمقتضى قانون أساسي يسنّه برلمان الجهة‪.‬‬
‫و تأخذ االستقالليّة أبعادا مختلفة أسسا و مظاهرا صلب ال ّدولة المر ّكبة‪.‬‬
‫المبحث الثّاني‪ :‬الدّولة المر ّكبة‪:‬‬
‫ال ّدولة المر ّكبة هي ال ّدولة التّي تتر ّكب من دولتين مرتبطتين أو أكثر‪ ،‬وهو‬
‫ترابط تختلف درجته بحسب الوثيقة القانونيّة التّي تنشأ بموجبها ال ّدولة المر ّكبة‪،‬‬
‫ومن ث ّمة يمكن التّمييز بين أشكال مختلفة من ال ّدولة المر ّكبة والتّي يشهد بعضها‬
‫تطبيقا مطرّدا على السّاحة ال ّدوليّة‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬الدّولة المر ّكبة القائمة على أساس معاهدة دوليّة‪:‬‬
‫يتض ّمن هذا النّوع من ال ّدول المر ّكبة أصنافا عديدة‪ ،‬بعضها يمكن وصفه‬
‫بالتّاريخي (‪ )1‬و بعضها باالنتقال ّي (‪.)2‬‬

‫‪ )1‬ال ّشكل التّاريخي لل ّدولة المر ّكبة القائمة على أساس معاهدة‬
‫دوليّة‪:‬‬
‫و ال ّذي يتمثّل في االتّحاد ال ّشخصي (أوّال) واالتّحاد الفعلي (ثانيا)‪ ،‬وهما‬
‫شكلين وإن تجاوزهما ال ّزمن فإنّهما يلقيان الضّوء على التطوّرات التّي لحقت‬
‫بال ّدولة المر ّكبة والتي مثلت مقدمة ضرورية لألشكال الالحقة ‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬االتّحاد ال ّشخصي‪:‬‬
‫يقوم اال ّتحاد ال ّشخصي على اشتراك دولتين أو أكثر في شخص رئيس‬
‫ال ّدولة وهو أساسا الملك‪ ،‬إذ ظهر هذا النّوع من ال ّدولة المر ّكبة اثر تصاهر بعض‬
‫العائالت الملكية األوروبية بغية حصر التاج في عائلة معيّنة (زواج دوق ليتوانيا‬
‫من مملكة بولونيا ‪1385‬ـ‪ ) 1569‬أو العتبارات شخصيّة (سيمون بوليفار رئيسا‬
‫لبيرو و كولومبيا و فينزويال بين ‪ 1813‬و ‪ ) 1816‬و باستثناء االشتراك في‬
‫شخص رئيس ال ّدولة تحتفظ ك ّل دولة بمقوّماتها السّيادية (علم‪ ،‬سيادة‪ ،‬داخليّة و‬
‫خارجيّة‪ ،‬تشريع)‪ ،‬و من هذه ال ّزاوية يش ّكل االتّحاد الفعلي مرحلة أكثر تطوّرا‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬االتّحاد الفعل ّي‬

‫‪54‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫يقوم االتّحاد الفعلي على اشتراك دولتين أو أكثر في شخص رئيس ال ّدولة و‬
‫في جملة من المصالح المنظمة في هياكل مشتركة (أمنيّة‪ ،‬اقتصاديّة و دفاعيّة)‬
‫إضافة إلى سياسيّة خارجيّة موحّدة تفقد ال ّدول األعضاء شخصيّتها ال ّدوليّة‪ ،‬مثال‬
‫اتّحاد دولة السّويد و النّرويج ‪1815‬ـ‪ .1905‬وتبدو درجة االندماج بين ال ّدول‬
‫األعضاء أكثر وضوحا في االتّحاد الكونفيدرالي‪.‬‬
‫‪ )2‬الشكل االنتقالي لل ّدولة المر ّكبة القائمة على أساس معاهدة‬
‫دوليّة‪ :‬االتّحاد الكونفيدرال ّي‬
‫يتعلّق األمر هنا فقط باال ّتحاد الكونفيدرال ّي‪ ،‬وال ّذي يقوم على اتّحاد بين‬
‫دولتين أو أكثر بموجب معاهدة دوليّة لتمكين األجهزة االتحاديّة من ممارسة‬
‫بعض االختصاصات دون المساس بسيادة ال ّدول األعضاء‪.‬‬
‫من النّاحية الهيكليّة‪ ،‬يقوم االتّحاد الكونفيدرالي عادة على هيأة واحدة تس ّمى‬
‫ب‪ Diète‬أو مجلس الكونفيدرالية وتض ّم مندوبي ال ّدول األعضاء‪ ،‬و قد اعتمدت‬
‫بعض التّجارب تصوّرا مختلفا بحيث أضافت رئاسة الكونفيدراليّة ونيابته ومجلس‬
‫وزراء الكونفيدراليّة‪( .‬االتّحاد الكونفيدرالي بين ال ّسينغال و غمبيا ‪ .)1981‬ويقع‬
‫تمثيل ال ّدول األعضاء في هياكل االتّحاد الكونفيدرال ّي على قدم المساواة‪.‬‬
‫و يش ّكل المجلس الكونفيدرال ّي سلطة تداولية وهيكل اتّخاذ قرار‪ ،‬في حين ال‬
‫يملك االتّحاد الكونفيدرالي أجهزة تنفيذيّة بحيث تضطلع ال ّدول األعضاء بمتابعة‬
‫التنفيذ‪.‬‬
‫من ال ّناحية الوظيفيّة وباعتبار احتفاظ ال ّدول األعضاء بسيادتها الكاملة‬
‫وتساويها كدول فإنّه تتخذ القرارات باإلجماع ‪ ،‬إذ ال يمكن مبدئيّا مطالبة دولة‬
‫عضو بااللتزام بقرار لم توافق عليه‪ .‬وتضبط معاهدة االتّحاد الكونفيدرال ّي‬
‫الميادين الرّاجعة له وهي عادة ما تتّصل بالسّياسات ال ّدفاعيّة واألمنيّة‬
‫واالقتصادية والجمركيّة ‪.‬‬
‫وخارج هذه الدائرة تحتفظ ك ّل دولة عضو باستقاللها وشخصّيتها الدوليّة‪،‬‬
‫ق االنفصال متى ق ّدرت وجاهة ذلك‪ ،‬وضمن هذه األبعاد يمثّل‬ ‫كما تتمتع بح ّ‬
‫االتّحاد الكونفيدرالي شكال انتقاليّا في الجهتين بمعنى أنه يمكن لالتحاد‬
‫الكونفيدرال ّي أن يفشل فتتف ّكك ال ّرابطة الجامعة بين دوله األعضاء (االتّحاد‬
‫اإلفريقي العربي بين المغرب و ليبيا ‪ 1984‬والذي انحل سنة ‪ )1986‬أو أن‬
‫يتمتّن و يتد ّعم االرتباط بينها بحيث يتطوّر االتحاد الكونفيدرال ّي ويتش ّكل ضمن‬
‫إطار قانوني مختلف هو الدولة االتّحادية (االتّحاد الكونفيدرال ّي السويسري الذي‬

‫‪55‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تأسّس سنة ‪ ،1815‬وتحوّل إلى اتّحاد فيدرالي بمقتضى دستور ‪ )1848‬وعلى‬


‫أساس وثيقة داخلية هي الدستور‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬الدولة المركبة القائمة على أساس وثيقة داخليّة‬
‫(الدستور) الدولة االتحاديّة‪:‬‬
‫تنشأ ال ّدولة الفيدراليّة أو االتّحاديّة بمقتضى دستور تتوافق عليه دولتين أو‬
‫أكثر و يقع بمقتضاه خلق دولة واحدة جديدة هي دولة االتّحاد التّي تحتكر ممارسة‬
‫السّيادة الخارجيّة وتمارس جزءا متفاوتا من اختصاصات ال ّدول األعضاء على‬
‫المستوى ال ّداخلي‪.‬‬
‫و قد تميّز هذا التّجسّد األساسي للظّاهرة أم الفكرة االتّحاديّة أو الفيدراليّة‬
‫(‪ ) Le fédéralisme‬بقدرته عن التّعبير عن أوضاع مختلفة بل وحتّى متباينة‬
‫فك ّل من الواليات المتّحدة و الهند و كندا و نيجيريا تش ّكل دوال اتّحاديّة رغم‬
‫اختالف أوضاعها و إن تشترك في كونها تع ّد من أه ّم القوى السّياسيّة أو‬
‫االقتصاديّة أو كليهما معا على السّاحة ال ّدوليّة‪.‬‬
‫وهو ما يتوجّه معه بحث نشأة ال ّدولة االتّحاديّة (‪ )1‬و تنظيمها (‪.)2‬‬

‫‪ )1‬نشأة ال ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬


‫تتع ّدد أسس نشأة ال ّدولة االتّحاديّة (أوّال) و طرقها (ثانيا)‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬أسس ال ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬
‫مهما تباينت الظّروف التّي رافقت بروز ال ّدول االتّحاديّة فقد ارتكزت على‬
‫أن ال ّدولة االتّحاديّة قامت على‬
‫نفس المبادئ و رمت إلى تحقيق نفس األهداف‪ ،‬إذ ّ‬
‫سعي إلقرار الموازنة بين أساسين "متناقضين" نزعة نحو الوحدة و النّزعة نحو‬
‫التّنوّع فعلى مستوى أوّل يعبّر تكوين ال ّدولة االتّحاديّة عن إرادة توحيد شعوب‬
‫مختلفة و انصهارها في دولة واحدة وهي رغبة متع ّمقة تساهم القواسم المشتركة‬
‫بين هذه الشعوب في تدعيمها‪ ،‬و لوال لم تكن هذه النّزعة بمثل هذه ال ّدرجة لوقع‬
‫االكتفاء بأشكال أخرى من االرتباط (التّحالف‪ ،‬االتّحاد الكونفيدرالي‪ .)..‬وهي‬
‫نزعة ال تمحي األساس الثّاني من أسس ال ّدولة االتّحاديّة‪ .‬ففي مستوى ثان يعبّر‬
‫تكوين ال ّدولة االتّحاديّة عن إرادة تكرّس تنوّع الخاصيات التّي تميّز ال ّدول‬
‫المكوّنة لل ّدولة االتّحاديّة‪ ،‬فال ّدولة االتّحاديّة تحافظ على ميزات هذه ال ّدول و تق ّر‬
‫لها بها قصد المحافظة على ذاتيّتها و وجودها‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫و من ث ّمة ال تعني ال ّدولة االتّحاديّة اندماجا تا ّما و ال اختالفا مطلقا بين‬


‫مكوّناتها بقدر ما تش ّكل معادلة بينهما‪ .‬وهي معادلة تترك أثرها على طرق نشأة‬
‫ال ّدولة االتّحاديّة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬طرق نشأة ال ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬
‫تنشأ ال ّدولة االتّحاديّة باالندماج أو بالتّف ّكك‪ ،‬فالطّريقة األولى لنشأة ال ّدولة‬
‫االتّحاديّة تكون اثر اندماج ع ّدة دول مستقلّة‪ ،‬وهو خيار ينطلق من تنوّع هذه‬
‫ال ّدول نحو وحدتها‪ ،‬و يمثّل ال ّشكل التّاريخي و ال ّدارج لبروز ال ّدولة االتّحاديّة‪ ،‬و‬
‫إن لم يعكس في ك ّل الحاالت اتحادا طوعيّا (إمارة أبو ظبي و اإلمارات العربية‬
‫المتحدة ‪.)1971‬‬

‫أ ّما الطّريقة الثّانية لنشأة ال ّدولة االتّحاديّة فهي ما يس ّمى االتّحاد التّف ّككي‬
‫بحيث تنشأ ال ّدولة االتّحادية بتف ّكك دولة موحّدة إلى مجموعة من ال ّدول التّي ال‬
‫تفضّل االنفصال الكامل و ترغب في إبقاء رابطة اتحاديّة‪ ،‬وهو خيار ينطلق من‬
‫وحدة هذه ال ّدول نحو تنوّعها (اإلمبراطورية الرّوسيّة و االتّحاد السوفياتي‪،‬‬
‫البرازيل)‪.‬‬
‫وهذا ما يثبّت الموازنة بين الوحدة والتّنوّع‪ ،‬وهو ما يثبته تنظيم ال ّدولة‬
‫االتّحاديّة‪.‬‬
‫تنظيم ال ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬ ‫‪)2‬‬
‫تمثل ال ّدولة االتّحاديّة ظاهرة مر ّكبة‪ ،‬وهو ما تؤ ّكده كيفيّة التّنظيم (أوّال)‬
‫وآفاقه (ثانيا)‪.‬‬
‫أ ّوال‪ :‬كيفيّة تنظيم ال ّدولة االتّحاديّة‬
‫تطرح كيفيّة تنظيم ال ّدولة االتّحاديّة مسألتين رئيسيتين هي المبادئ‬
‫التّنظيميّة لل ّدولة اال ّتحاديّة (فرعي أوّل) و طرق توزيع االختصاص داخلها‬
‫(فرعي ثان)‬
‫فرعي أوّل) المبادئ التّنظيميّة لل ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬ ‫•‬
‫يقوم التّنظيم االتّحادي على محاولة التّوفيق بين أساسيه‪ :‬الوحدة والتّنوّع‪ ،‬و‬
‫قد تش ّكل مبدأين قانونين يحكمان تنظيم ال ّدولة االتّحاديّة قصد تحقيق الغاية‬
‫المذكورة‪ ،‬وهما مبدأ االستقالليّة و مبدأ المشاركة‬
‫ـ مبدأ المشاركة و تحقيق الوحدة‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫يتن ّزل مبدأ المشاركة ضمن فكرة الوحدة و يفيد مساهمة ال ّدول األعضاء‬
‫على أساس المساواة في بلورة قرارات السّلطة االتّحاديّة وذلك من خالل تمثيلها‬
‫في مختلف األجهزة و السّلط االتّحاديّة‪.‬‬
‫وهي مشاركة تكرّس فكرة وحدة ال ّدولة االتّحاديّة من خالل وحدة دستورها‬
‫وشعبها و إقليمها و سلطتها السّياسيّة‪.‬‬
‫ـ ففي مستوى أوّل يمثّل ال ّدستور االتّحادي وثيقة التّأسيس لل ّدولة االتحادية‬
‫و ال ّذي يش ّكل اإلطار القانوني لهيكلتها و وظائفها‪ .‬كما يمثّل الضمانة لوجودها و‬
‫شكلها االتّحادي‪ .‬وال ّدستور االتّحادي بالضرورة هو دستور ساهمت في وضعه‬
‫وضبط مضامينه دول االتحاد على أساس المساواة و التّوافق قبل قيام ال ّدولة‬
‫االتّحاديّة‪ .‬كما تساهم ال ّدول األعضاء في عمليّة تعديل ال ّدستور االتّحادي‪ ،‬وحيث‬
‫يمثل ال ّدستور االتّحادي ركيزة التّوازن بين ال ّدول األعضاء و ال ّدول االتّحاديّة‪ ،‬و‬
‫أن التّعديل قد يمسّ هذا التّوازن فقد توجّب تضافر إرادات ال ّدولة االتّحاديّة‬
‫طالما ّ‬
‫و دولها األعضاء في ذلك مع اعتماد قاعدة األغلبيّة‪.‬‬
‫ـ و تمت ّد في مستوى ثان مشاركة ال ّدول األعضاء إلى السّلطة التّشريعيّة‬
‫االتّحاديّة التّي تقوم على ثنائيّة المجالس النّيابيّة حيث عادة ما يتكوّن البرلمان‬
‫الفيدرالي من مجلسين يمثّل األوّل منهما شعب ك ّل دول االتّحاد أي الشعب‬
‫االتحادي على أساس قاعدة االنتخاب بطريقة ال ّدوائر االنتخابيّة بحيث يكون عدد‬
‫النّواب مرتبطا بالكثافة الس ّكانيّة‪ ،‬أ ّما المجلس الثّاني فيتكوّن من ممثّلي ال ّدول‬
‫األعضاء أي من ممثلي شعوب دول االتحاد بغضّ النّظر عن مساحتها و عدد‬
‫سن التّشريعات‬ ‫س ّكانها و يم ّكن هذا التّمثيل ال ّدول األعضاء من المساهمة في ّ‬
‫االتّحاديّة الخاصّة بالعملة و البنوك و التّجارة الخارجيّة و األمن و ال ّدفاع و‬
‫الجمارك‪.‬‬
‫ـ وتشمل مشاركة ال ّدول األعضاء في مستوى ثالث السّلطة التّنفيذيّة‬
‫االتّحاديّة سواء تجسّمت هذه السّلطة في هيئة جماعيّة بحيث يكوّن ممثّلوا ال ّدول‬
‫األعضاء مجلس الرّئاسة (االتّحاد السّوفياتي) المنتخبين من البرلمان بمجلسيه‪ ،‬أو‬
‫تجسّمت هذه السّلطة في شخص بحيث تشارك ال ّدول األعضاء في انتخابه في‬
‫المرحلة األولى من االنتخابات و بطريقة غير مباشرة (كبار النّاخبين في‬
‫الواليات المتّحدة األمريكيّة)‪.‬‬
‫ـ و تتمثّل بقيّة مستويات الوحدة في السّلطة القضائيّة االتّحاديّة التّي تتجسّم‬
‫بصفة خاصّة في المحكمة العليا االتحاديّة‪ ،‬و في السّيادة الخارجيّة حيث تش ّكل‬

‫‪58‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ال ّدولة االتّحاديّة ال ّشخص ال ّدولي الوحيد المخوّل للتّعامل مع ال ّدول األخرى‬
‫(تمثيل ديبلوماسي‪ ،‬معاهدات‪.)...‬‬
‫ـ مبدأ االستقالليّة و تحقيق التّنوّع‪:‬‬
‫يم ّكن مبدأ االستقالليّة من ضمان خصوصيّات ال ّدول األعضاء و حفظ‬
‫التّنوّع صلب ال ّدولة االتّحاديّة‪ .‬و تتجسّم استقالليّة ال ّدول األعضاء في توفرها‬
‫على سلطها التنفيذية والتشريعية والقضائية الخاصة بها‪ ،‬إضافة النفرادها‬
‫بممارسة السّياسة التّربويّة والثّقافيّة‪ ،‬في حين عادة ما يرجع االختصاص‬
‫بالسّياسة الخارجيّة والسّياسة ال ّدفاعيّة والنّقديّة والتّجاريّة لل ّدولة االتّحاديّة وذلك‬
‫بقطع النّظر عن األسلوب المعتمد في توزيع االختصاص‪.‬‬

‫فرعي ثان) طرق توزيع االختصاص داخل ال ّدولة االتّحاديّة‪:‬‬ ‫•‬


‫يعود أصال لل ّدستور االتّحادي توزيع االختصاص داخل ال ّدولة الفيدراليّة‪،‬‬
‫و تختلف األساليب المعتمدة في توزيع االختصاصات بين دولة االتّحاد وال ّدول‬
‫األعضاء و يمكن حصرها في أساليب ثالثة‪.‬‬
‫أوّلها اكتفاء ال ّدستور االتّحادي بتحديد اختصاصات ال ّدولة االتّحاديّة بحيث‬
‫تعود باقي االختصاصات لل ّدول األعضاء (الواليات المتّحدة األمريكيّة‪،‬‬
‫سويسرا)‪ .‬وهو األسلوب األكثر اعتمادا‪.‬‬
‫ثانيها اكتفاء ال ّدستور االتّحادي بتحديد اختصاصات ال ّدول األعضاء بحيث‬
‫تعود باقي االختصاصات لل ّدول االتّحاديّة (كندا‪ ،‬الهند)‪.‬‬
‫ثالثها يعتمد تفصيل اختصاصات ك ّل من الدولة االتحادية والدول األعضاء‬
‫وهو أسلوب يفتقد الدقّة و النّجاعة بالنّظر الحتمال بروز وسائل مستحدثة لم‬
‫يتطرّق إليها ال ّدستور االتّحادي‪.‬‬
‫هذا عن توزيع االختصاص في الحالة غير النّزاعيّة أ ّما في الحالة‬
‫فان ال ّدستور االتّحادي أنشأ محكمة اتّحاديّة عليا يعود لها فصل‬ ‫النّزاعيّة‪ّ ،‬‬
‫منازعات االختصاص بين ال ّدولة االتّحاديّة وال ّدول األعضاء (دول االتحاد) و لها‬
‫في ذلك سلطة تفسير ال ّدستور‪ .‬و عادة ما رجحت هذه المحكمة كفّة ال ّدولة‬
‫االتّحاديّة وهو ما يطرح إشكالية التّوازن ال ّذي يمثّل جوهر ال ّدولة االتّحاديّة‬
‫الحاضر ضمن أسسها وأهدافها و تنظيمها‪ ،‬و يدفع للتساؤل بشأن آفاقها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬آفاق شكل التّنظّم االتّحادي ‪:‬‬

‫‪59‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫إن البحث في آفاق الدولة االتحاديّة هو تساؤل حول مآلها ونتائجها‪ ،‬بمعنى‬ ‫ّ‬
‫أنّه تقييم لها هل تعيش أزمة أم تشهد ازدهارا و ال تبدو اإلجابة سهلة في ظّل‬
‫قابليّة الظاهرة الفيدرالية لقراءات مختلفة‪ ،‬و هو ما يعود إلى حيويّتها التّي تدفعها‬
‫في اتّجاهين متناقضين‪ :‬إ ّما التط ّور نحو المركزية‪( :‬فرعي أو ّل ) أو التطوّر نحو‬
‫االستقالل ( فرعي ثان )‪.‬‬

‫فرعي أو ّل‪ :‬التّطوّر نحو المركزة‪ :‬وتدعيم الوحدة على حساب‬ ‫•‬
‫التّنوّع‪.‬‬
‫شهدت بعض ال ّدول االتحادية اقتطاعا واسعا من اختصاصات ال ّدول‬
‫األعضاء لفائدة ال ّدولة االتّحاديّة حتّى ّ‬
‫أن بعض الفقهاء شبّهها بدولة بسيطة ال‬
‫مركزيّة‪.‬‬
‫و تبدو أسباب التّطوّر نحو المركزة و مداها مختلفا‪ ،‬و هو ما يمكن تبيّنه‬
‫من خالل مثالين‪ :‬المثال األمريكي (دولة اتّحاديّة) و المثال الكمروني (دولة‬
‫موحّدة)‪.‬‬
‫ـ ففي الواليات المتّحدة األمريكية و بالرّغم من توازن حرص ال ّدستور‬
‫االتّحادي على تحقيقه بين سلطات ال ّدولة االتّحاديّة و سلطات ال ّدول األعضاء فإ ّن‬
‫عوامل على شاكلة األزمة االقتصاديّة ‪ 1929‬والحربين العالميّتين األولى و‬
‫الثّانية و ما يس ّمى بالسّياسة االقتصاديّة الجديدة دفعت إلى تدعيم سلطة ال ّدولة‬
‫االتّحاديّة على حساب ال ّدول األعضاء لتلبية االستحقاقات المذكورة وقد ساهمت‬
‫المحكمة االتّحادية في ذلك مرتكزة على قراءة موسّعة للفقرة الثّالثة من الفصل‬
‫األوّل من ال ّدستور األمريكي الذي أسند إلى الكنغرس مه ّمة وضع كافة القوانين‬
‫التّي يراها ضروريّة ومناسبة لتنفيذ سائر االختصاصات والسّلطات التّي خوّلها‬
‫ال ّدستور لحكومة الواليات المتّحدة األمريكيّة و من ث ّمة أسندت المحكمة االتّحاديّة‬
‫لل ّدولة االتّحاديّة (الو‪.‬الم‪.‬األ) اختصاصات داخل القائمة الحصرية بالفقرة السابعة‬
‫من الفصل األوّل‪.‬‬
‫ـ أ ّما في الكامرون وإثر استقالل البالد ت ّم إقرار ال ّشكل االتّحادي من خالل‬
‫غيران غياب التقسيم المتكافئ مساحة وس ّكانا بين‬ ‫ّ‬ ‫دستور غرّة أكتوبر ‪1961‬‬
‫ال ّدولتين العضويتين غلّب التّوازن لصالح ال ّدولة االتّحاديّة على حسابهما‬
‫باالعتماد على برلمان اتّحادي أحادي المجلس باإلضافة إلى اإلرادة السّياسيّة دفع‬
‫نحو اندماج شطري الكامرون في دولة موحّدة اثر استفتاء ‪ 20‬ماي ‪.1972‬‬

‫فرعي ثان‪ :‬التّطوّر نحو االستقالل وتدعيم التّنوّع على حساب‬ ‫•‬
‫الوحدة‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫قام ا ّتجاه ال ّدولة اال ّتحاديّة نحو االستقالل أو باألحرى ال ّتف ّكك على تفاقم‬
‫التّناقضات بين دولة اتّحاديّة تسعى لمركزة الصّالحيّات حولها و بين دول أعضاء‬
‫تسعى إلى الحفاظ على خصوصياتها‪ ،‬وفي ظ ّل ضعف اآلليات ال ّدستوريّة في‬
‫تحقيق التّوازن مع تد ّعم الفروقات العرقيّة واالقتصاديّة نمت حركات احتجاجيّة‬
‫وانفصاليّة ه ّددت بعض ال ّدول االتّحاديّة ورتّبت انحاللها (مثال االتّحاد السّوفياتي‬
‫واالتّحاد اليوغسالفي)‪.‬‬

‫الباب ال ّثاني‪:‬الدّستور‬
‫يرتبط تحديد وتناول موضوعات القانون الدّستوري بدراسة القواعد القانونيّة‬
‫ال ّتي تضبطها و ال ّتي ّ‬
‫تمثل اإلطار القانوني لممارسة السّلطة داخل الدّولة والتي‬
‫يتضمنها باألساس الدستور ‪.‬‬
‫شكلي أو مفهومه المّادّي فمن‬ ‫و يمكن تعريف الدّستور بالرّجوع إلى مفهومه ال ّ‬
‫شكليّة ّ‬
‫يمثل الدّستور مجموعة القواعد الدّستوريّة المدوّ نة في وثيقة‬ ‫ال ّناحية ال ّ‬
‫تخضع إلجراءات خاصّة في وضعها و تعديلها‪ .‬وهو ما يحصر القواعد‬
‫الدستورية في تلك المضمنة بالدستور دون غيره‪.‬‬
‫و من ال ّناحية الما ّديّة ّ‬
‫يمثل الدّستور مجموعة القواعد ال ّتي تضبط نظام الحكم‬
‫داخل الدّولة على شاكلة تحديد شكل الدّولة وطبيعة ال ّنظام السّياسي و علقات‬
‫السّلط ببعضها البعض وهو ما يطرح مماثلة غير مقبولة بين القانون الدستوري‬
‫والدستور‪.‬‬
‫شكلي والمادّي للدّستور وقد يتقاطعان (الدستور‬ ‫و قد يتطابق المفهومين ال ّ‬
‫شكلي)‬ ‫العرفي ‪ ،‬الدستور المرن ‪ ،)..‬ولك ّنهما ال يتناقضان فأوّ لهما (المفهوم ال ّ‬
‫شكليّة للقاعدة الدّستوريّة (كيف توضع هذه القاعدة ‪ ،‬كيف‬ ‫يطرح األبعاد ال ّ‬
‫تعدّل‪ )..‬وثانيهما يطرح أبعادها المضمونيّة (فال ّتعرّف على طبيعة ال ّنظام‬
‫السّياسي وعلقات السّلطات فيما بينها يتطلّب العودة إلى المفهوم المادّي)‪.‬‬
‫و بهذه المعاني يعتبر الدّستور المصدر األساسي في تناول موضوعات القانون‬
‫الدّستوري دون أن يش ّكل مصدرها الوحيد‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وهو ما يمكن تبيّنه من خلل استعراض أه ّم المسائل الم ّتصلة بـ"الحياة‬


‫القانونيّة" للدّستور في فصل أول بدءا من وضعه مرورا إلى تعديله و انتهائه‬
‫دون إغفال تناول سبل حمايته في فصل ثان ‪.‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬حياة الدّستور‬
‫تمر "الحياة القانونيّة" للدّستور بمراحل ثلث أساسية هي الوضع مرورا إلى‬
‫التعديل و انتهاء باإلنهاء‪.‬‬
‫األول‪ :‬وضع الدّستور‬
‫المبحث ّ‬
‫المقصود بوضع الدّستور التمشي المعتمد في إقامته وإنشائه ح ّتى يكون له‬
‫وجود قانوني‪ .‬وهو تمش إجرائي أساسا وإرادي بامتياز ينطبق اصطلحيا على‬
‫الدّستور المكتوب وال ينطبق على الدّستور العرفي‪.‬‬
‫فتش ّكل ـ وليس وضع ـ الدستور العرفي يتم عبر مراحل ثلث تبدأ بإتباع جملة‬
‫من الممارسات من الحكام والمحكومين بشأن مسائل ذات طابع الدّستوري مع‬
‫اطراد ممارستها عبر ال ّزمن توصّل إلى حصول االقتناع بوجوب‬ ‫تكرارها و ّ‬
‫إتباعها و بالزاميّتها من طرف المعنيين بها ح ّكاما و محكومين‪ .‬ويعتبر الدّستور‬
‫االنجليزي المثال التقليدي ح ّتى ال نقول الوحيد للدّستور العرفي‪ ،‬ويفسّر ذلك‬
‫بعوامل تاريخيّة خاصّة بهذا البلد حيث أنّ فكرة تقييد الحكم بالقانون ظهرت فيه‬
‫في وقت مب ّكر ووقع تجسيمها بصفة تدريجيّة منذ القرن ‪ 12‬وهو ما ينبني على‬
‫تج ّذر الفكر السّياسي وعراقة ال ّتقاليد السّياسيّة مقارنة بباقي البلدان األوروبية‪،‬‬
‫وقد برزت منذ ذلك الفترة عدّة قواعد ذات طبيعة دستوريّة نتيجة صراعات بين‬
‫المؤسّسة البرلمانيّة و المؤسّسة المالكيّة في ا ّتجاه تدعيم صلحيات البرلمان في‬
‫المادّة الجبائيّة‪ .‬وقد كانت مجمل هذه القواعد عرفيّة استق ّر العمل بها لدى ك ّل‬
‫من المؤسّستين البرلمانيّة و الملكيّة و قد تواجد إلى جانبها قواعد مكتوبة‬
‫شرعة الكبرى"(‪ )1215‬و"قانون اإلصلح"(‪ )1832‬و"قوانين البرلمان"‬ ‫"ال ّ‬
‫(‪ .)1911‬وقد وقع إتباع القواعد الدّستوريّة المذكورة بصفة منتظمة ومتكرّرة‬
‫ح ّتى استق ّر في قناعة المجموعة ضرورة احترامها بما أضفى عليها وصف‬
‫اإللزام خصوصا مع ارتباط تطوّ ر هذه القواعد الدّستوريّة العرفيّة بالصّراع من‬
‫أجل الح ّريّات ض ّد السّلط السّياسيّة وهو ما أضفى عليها قيمة رمزيّة كفلت‬
‫احترام قواعد الدّستور االنجليزي بحيث لم يكن ثمّة من داع لتدوينها خصوصا‬
‫شعب االنجليزي الم ّيال إلى تطوير‬ ‫الطابع المحافظ لل ّ‬ ‫وأنّ ذلك يتماشى مع ّ‬
‫القواعد الدّستوريّة بتريّث‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وبتعمّم فكرة الدّساتير المكتوبة العتبارات مختلفة تقلّصت أهمّية الدّستور‬


‫العرفي لتنحصر في ال ّتناول الفقهي ولتقتصر على تجربة خاصّة لها عراقتها‬
‫في المجال الدّستوري دون أن تكون اختيارا شائعا فيما يتعلّق بوضع الدّساتير‬
‫حيث يش ّكل الدّستور المكتوب القاعدة العامّة صلب ال ّتجارب الدّستوريّة بناء‬
‫على ميزات هذا الخيار‪.‬‬
‫يمثل ّ‬
‫الطابع الشكلني سمة التميز وال ّتمييز األساسيّة للدّستور المكتوب وهو ما‬ ‫ّ‬
‫يمكن تبيّنه من خلل اإلجابة عن تساؤالت ثلثة متى يوضع الدستور ومن‬
‫يضعه وكيف يوضع؟ لإلجابة نستعرض سلطة وضع الدستور وكيفية وضعه‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬سلطة وضع الدّستور‪ :‬السلطة التأسيسية االصلية‬
‫إن السّلطة ال ّتأسيسيّة األصليّة ال ّتي تضع الدّستور‪ ،‬وهي سلطة تتميّز‬
‫بخصائصها أوّ ال و اختصاصها ثانيا‪.‬‬
‫سلطة ال ّتأسيس ّية األصل ّية‪:‬‬
‫‪ -1‬خصائص ال ّ‬
‫تتميّز السّلطة ال ّتأسيسيّة األصليّة بعدّة خصائص ‪:‬‬
‫ـ فهي سلطة أصليّة تجد مصدرها في ذاتها وال تخضع لسلطة تعلوها‪ ،‬وعادة ما‬
‫تنشأ اثر تحوّ الت سياسيّة جذريّة (االستقلل ‪ ،‬ثورة‪ ،‬انقلب‪ ،‬تحول في شكل الدولة‬
‫‪ )...‬تستوجب إنشاء إطار دستوري أو إعادة النظر كليا في اإلطار الدستوري‬
‫القائم‪ ،‬وقد شهدت البلد التونسية حدثين من هذا القبيل‪ :‬االستقلل سنة ‪1956‬‬
‫والثورة سنة ‪ ،2011‬ترتب عن األولى إحداث المجلس القومي التأسيسي وعن‬
‫الثانية إحداث المجلس الوطني التأسيسي‪.‬‬
‫ـ وهي سلطة أولى سابقة عن ك ّل السّلط األخرى إ ّنها السّلطة المصدر‪ ،‬إ ّنها سلطة‬
‫ال ّتأسيس ال ّتي تصدر عنها ك ّل السّلط األخرى المؤسّسة (ال سلطة تأسيسيّة إالّ سلطة‬
‫ّ‬
‫فتتواله سلطة تأسيسيّة فرعيّة)‪.‬‬ ‫وضع الدّستور‪ ،‬أما التعديل‬
‫ـ وهي سلطة غير مقيّدة بمعنى أ ّنها سيدة نفسها تتم ّتع بحريّة تامّة وغير مشروطة‬
‫فيما يتعلّق بضبط محتوى الدّستور بحيث تختار النظام السّياسي ّ‬
‫الذي تريد وال ّتنظيم‬
‫الذي ترتئيه دون قيد قانوني أو سياسي‪ ،‬وهو تأكيد وجب تنسيبه حيث ال‬ ‫ال ّدستوري ّ‬
‫يمكن أن تغفل بداهة دور اإلطار السّياسي واالجتماعي القائم في بلورة االختيارات‬
‫الدّستوريّة‪.‬‬
‫إنّ الخصائص الثلث المذكورة وإن توفرت في المجلس الوطني التأسيسي غداة‬
‫انتخابه أكتوبر‪، 2011‬فإنها لم تكن متوفّرة في البدء في المجلس القومي ال ّتأسيسي‬

‫‪63‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫بتونس سنة ‪ 1955‬فاألمر العليّ (تقنية كان يشرّع بها الباي) القاضي بإحداثه و‬
‫المؤرّخ في ‪ 1955-12-29‬حدّد طبيعة الدّستور (دستور لمملكتنا) كما أنّ إقراره‬
‫كان مرهونا بإرادة الباي (يختم بخاتمنا السّعيد) وذلك رغم الدّور ال ّتأسيسي الموكل‬
‫للمجلس‪ ،‬غير أنّ هذا المجلس تحرّر من اإلطار األصلي ّ‬
‫الذي قيّد إحداثه وعمله‬
‫وتحول إلى سلطة تأسيسيّة أصليّة تتوفّر فيها الخصائص المذكورة بموجب تحوالت‬
‫الظرف السياسي ممثل في تآكل النظام الملكي وبروز الحركة الوطنية بقيادة‬
‫الحبيب بورقيبة وهو ما تجسد في إعلن الجمهوريّة في ‪ 1957 -7-25‬وتبلور‬
‫تصور تأسيسي جديد كان نتاجه دستور ‪.1959‬‬

‫وتبقى التباسات عدة تخص وضع دستور ‪ 2022‬فبقطع النظر عمن اعتبره نتاجا‬
‫لمسار غير دستوري انطلق من تفعيل وضع االستثناء موضوع الفصل ‪ 80‬من‬
‫دستور ‪ ، 2014‬فإن المسار المعتمد في وضع دستور ‪ 2022‬يطرح في محطاته‬
‫الثلثة (االستشارة ولجنة اإلعداد واالستفتاء) جملة من نقاط االستفهام التي تضفي‬
‫التباسات في تحديد السلطة التأسيسية األصلية حيث أن االستشارة اإللكترونية التي‬
‫حسمت خيار الوضع لم تنظم بنصّ خاص ‪ ،‬كما أن أعمال لجنة إعداد مشروع‬
‫ا لدستور لم تكن ملزمة وهو ما يطرح تساؤال حول الجهة النهائية التي بلورت‬
‫النص المعروض على االستفتاء ‪ ،‬إضافة إلى عدم اشتراط حد أدنى من المشاركة‬
‫الشعبية في االستفتاء بما يضفي عليه مشروعية شعبية واسعة ‪.‬‬
‫سلطة ال ّتأسيس ّية األصلية‪:‬‬
‫‪ -2‬اختصاص ال ّ‬
‫تعود بداهة للسّلطة ال ّتأسيسيّة مهمّة وضع الدّستور وهي مهمّتها األساسيّة و‬
‫األصليّة غير أ ّنه يمكنها أحيانا أن تتجاوز مهمّتها ال ّتأسيسيّة نحو مهام أخرى من‬
‫ذلك أن المجلس القومي ال ّتأسيسي ال ّتونسي ‪ 1956‬والمجلس الوطني التأسيسي‬
‫‪ 2011‬اهتمّا إلى جانب سنّ الدّستور بال ّنظر في ميزانيّة الدّولة ومساندة العمل‬
‫الحكومي باإلضافة إلى الدّور ال ّتشريعي وانتخاب رئيس الدولة‪.‬‬
‫ويتوجّ ب في سياق بيان اختصاص السّلطة ال ّتأسيسيّة األصليّة التأكيد على تميّزها‬
‫عن السّلطة الفرعيّة من حيث الخصائص ومن حيث االختصاص‪.‬‬
‫فلئن توفّرت كليهما على الدّور ال ّتأسيسي ولكن في نفس السياق وبنفس المدى‬
‫فالسّلطة ال ّتأسيسيّة األصليّة تنفرد بوضع الدّستور في حين للسّلطة ال ّتأسيسيّة‬
‫الفرعيّة فقط سلطة تعديل الدّستور كما نلحظ أ ّنها تجد أساسها في الدّستور ّ‬
‫الذي‬
‫يحدّها ويضبط تنظيمها‪ ،‬من ذلك أن مجلس نواب الشعب يمثل السّلطة ال ّتأسيسيّة‬
‫الفرعيّة تبعا لمقتضيات الباب الثامن من دستور‪ 2014‬في فصليه ‪ 143‬و‪،144‬‬
‫والباب التاسع من دستور ‪ 2022‬في فصوله ‪ 136‬و‪ 137‬و‪.138‬‬

‫‪64‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الفقرة ال ّثانية‪ :‬كيف ّية وضع الدّستور‬


‫والمقصود بها طرق وضع الدّستور‪ .‬ويتأثر أسلوب وضع الدستور بنظام الحكم‬
‫ّ‬
‫الذي يوجد في ظلّه ال ّسلطة ال ّتأسيسيّة االصلية حيث تعدّدت أساليب وضع الدّستور‬
‫بين أساليب ديمقراطيّة وأخرى غير ديمقراطيّة تبعا لطبيعة سياقات وضع الدستور‬
‫بين سياقات ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطيّة‪.‬‬
‫و تتضمّن عمليّة وضع الدّستور مرحلتين مختلفتين مرحلة اإلعداد و تستوعب هذه‬
‫المرحلة صياغة الوثيقة الدّستوريّة وما يسبقها من أعمال تحضيريّة لبلورة‬
‫مضمونها (نقاشات‪ ،‬الحوار المجتمعي‪ ،‬أهل الخبرة‪ .)...‬أمّا المرحلة ّ‬
‫الثانية فهي‬
‫مرحلة اإلقرار أي ا ّتخاذ قرار يسمح بتحويل مشروع الدّستور إلى دستور نافذ‬
‫ملزم‪.‬‬
‫و قد تتو ّزع عمليّة وضع الدّستور بين هيكلين مختلفين وقد تعود إلى نفس الهيكل‬
‫ّ‬
‫المتدخلة وهو ما يمكن تبيّنه من خلل بحث طرق‬ ‫كما قد تختلف طبيعة الهياكل‬
‫اإلعداد أوّ ال و طرق اإلقرار ثانيا‪.‬‬
‫ّأوال‪ :‬طرق إعداد الدّستور‪:‬‬
‫تنقسم طرق إعداد الدّستور إلى طرق ديمقراطيّة و طرق غير ديمقراطيّة‪.‬‬
‫الطرق غير الديمقراطيّة في إعداد الدّستور‪:‬‬‫ّ‬ ‫‪-1‬‬
‫ممثليه في عمليّة اإلعداد و يقوم بها شخص أو هيكل ال‬‫شعب أو ّ‬ ‫يتدخل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫حيث ال‬
‫يتم ّتع بالصّفة التمثيلية من ذلك أن دستور ‪ 1861‬بتونس صاغته لجنة ضمّت بعض‬
‫حاشية الباي وعملت تحت ضغط و توجيه القناصل (السّفراء) كذلك دساتير‬
‫المغرب منذ ‪ 1962‬التي صاغتها عادة لجان يعينها الملك‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطرق الدّيمقراطيّة في إعداد الدّستور‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫ّ‬
‫شعب عبر ممثليه في عمليّة إعداد الدّستور فيقوم بانتخاب هيكل‬ ‫يتدخل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫حيث‬
‫تأسيسيّ مهمّته وضع الدّستور‪ ،‬أوّ ل جمعيّة تأسيسيّة كانت بمناسبة وضع دستور‬
‫الواليات الم ّتحدة األمريكيّة سنة ‪ ، 1787‬وقد اعتمد دستوري ‪ 1959‬و‪2014‬‬
‫بتونس هذه الصيغة‪.‬‬
‫و يمثل هذا األسلوب في إعداد الدّستور خطوة لتدعيم دور الشعب صاحب السيادة‬
‫في بلورة التنظيم الدّستوري ويعبر عن تجاوز مرحلة غيّبت فيها اإلرادة ال ّ‬
‫شعبيّة‬
‫عن ذلك‪ ،‬وهو تطوّ ر يماثل ذلك ّ‬
‫الذي شهدته طرق إقرار الدّستور‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬طرق إقرار الدّستور‪:‬‬

‫‪65‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫تنقسم طرق إقرار الدّستور إلى طرق ديمقراطيّة و أخرى غير ديمقراطيّة‪.‬‬
‫الطرق غير الديمقراطيّة في إقرار الدّستور‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪-1‬‬
‫ممثليه المنتخبين في عمليّة إقرار الدّستور‪ .‬و نلحظ أن‬‫شعب أو ّ‬ ‫يتدخل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫حيث ال‬
‫طريقة اإلقرار غير الدّيمقراطيّة عادة ما تكون نتاجا لعملية إعداد غير ديمقراطيّة‬
‫ـ المنح‪ :‬من ذلك صدور الدّستور في شكل منحة (المانح الحاكم‪ ،‬الدستور المنحة‪،‬‬
‫إلى الممنوح الشعب) وهو أسلوب غير ديمقراطي في وضع الدّستور يجسّم إرادة‬
‫الذي ينفرد باإلعداد واإلقرار‪ ،‬وهو أسلوب تزامن من الناحية‬ ‫الحاكم وحده ّ‬
‫التاريخية مع بداية التحول من نظام الحكم المطلق إلى الحكم المقيّد حيث يتنازل‬
‫الملك تحت ضغوطات سياسيّة عن بعض السلطات ( حالة األمر العلي المتعلق‬
‫بإحداث المجلس القومي التأسيسي)‪.‬‬
‫ـ العقد‪ :‬كما أنّ طريقة اإلقرار غير الدّيمقراطيّة قد تكون أحيانا تتمّة لطريقة إعداد‬
‫ديمقراطيّة من ذلك صدور الدّستور في شكل عقد وهو أسلوب يتجسّم في اختيار‬
‫شعب لجمعيّة تأسيسيّة تتولّى وضع مشروع دستور ث ّم تفرضه على الحاكم الذي‬ ‫ال ّ‬
‫يتولّى الموافقة عليه و قد وقع اعتماد هذا األسلوب في المرحلة ال ّتاريخيّة ال ّتي‬
‫ا ّتسمت بملك بدأ يضعف و قوى اجتماعيّة بدأت تقوى و تصعد و من األمثلة على‬
‫ذلك دستور الكويت ‪ 1962‬حيث قام المجلس ال ّتأسيسي بوضع مشروع الدّستور و‬
‫الذي كان مفترضا صلب أمر ‪-12-29‬‬ ‫قام أمير الكويت بإقراره وهو نفس ال ّتصوّ ر ّ‬
‫الذي ت ّم تجاوزه الحقا بمقتضى‬ ‫‪ 1955‬المتعلّق بإحداث مجلس قومي تأسيسي ّ‬
‫إعلن الجمهوريّة سنة ‪.1957‬‬
‫ّ‬
‫الطرق الديمقراطيّة في إقرار الدّستور‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫شعب‬ ‫ّ‬
‫ت ّتخذ الطرق الدّيمقراطيّة في إقرار الدّستور شكلين أوّ لهما قيام نواب ال ّ‬
‫المنتخبون كمجلس تأسيسي بإقرار الدّستور بمعنى أنّ السّلطة ال ّتأسيسيّة األصليّة‬
‫تع ّد الدّستور و تقرّه مثال دستوري ‪ 1959‬و‪ 2014‬بتونس‬
‫ّ‬
‫فيتمثل في إقرار‬ ‫الثاني من أشكال ّ‬
‫الطرق الديمقراطيّة في إقرار الدّستور‬ ‫أمّا الشكل ّ‬
‫الشعب بنفسه لمشروع الدّستور ويكون ذلك عبر آلية االستفتاء ّ‬
‫الذي يكيّف في هذه‬
‫الحالة باالستفتاء ال ّتأسيسي كما هو الحال في دستور ‪( 2022‬وهو االستفتاء على‬
‫إقرار دستور وقع إعداده على خلف االستفتاء الدّستوري الذي هو استفتاء لتعديل‬
‫شكليّة الموضوعيّة لضمان عدم‬ ‫شروط ال ّ‬‫الذي يفترض جملة من ال ّ‬‫الدّستور)‪ .‬و ّ‬
‫تشخيصه و قد يكون االستفتاء ال ّتأسيسي أحيانا عمليّة غير ديمقراطيّة مثل دستور‬

‫‪66‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫جمهوريّة مصر لسنة ‪ 1954‬ال ّتي أعدّته لجنة غير منتخبة و ّ‬


‫الذي وقع استفتاء‬
‫شعب شكليّا في مناخ سياسي ا ّتسع بهيمنة الرّئيس جمال عبد ال ّناصر‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫كما قد يكون االستفتاء ال ّتأسيسي تتمّة لعمليّة إعداد ديمقراطي بحيث يت ّم إعداد‬
‫مشروع الدّستور من طرف مجلس قومي تأسيسي يعرض بعدها على االستفتاء و‬
‫هذا األسلوب يوفق بين مقتضيات الدّيمقراطيّة ال ّنياب ّية (سلطة تأسيسية منتخبة) مثال‬
‫شعب عبر االستفتاء) مثال ذلك دستور ‪1946‬‬ ‫(تدخل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫و الدّيمقراطيّة المباشرة‬
‫بفرنسا‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تعديل الدّستور‬
‫هي العمليّة ال ّتي يقع بمقتضاها تنقيح بعض أحكام الدّستور وتغييرها‪ .‬وهي عمليّة‬
‫تضمن استجابة الوثيقة الدّستوريّة لل ّتغيّرات ّ‬
‫الطارئة على الحياة السّياسيّة و تحقّق‬
‫نجاعة ال ّتأطير القانوني للمجتمع السّياسي‪.‬‬
‫وهي عملية ال تلمس من جهة حدود إلغاء الوثيقة الدّستوريّة‪ ،‬إذ يقتضي ال ّتعديل‬
‫تغيير بعض األحكام الدّستورية أو حذفها أو إضافة بعض األحكام له دون وضع ح ّد‬
‫لوجود الدّستور في ح ّد ذاته‪.‬‬
‫وهي عمليّة ال تلمس من جهة أخرى حدود وضع دستور جديد ح ّتى و لو مسّ‬
‫ال ّتعديل جانبا هامّا من الوثيقة الدّستوريّة‪ ،‬فال ّتعديل يكون دائما طبق الصّيغ‬
‫المضمّنة بالدّستور‪ .‬وإن لم تكن مسألة قابليّة الدّساتير لل ّتعديل محسومة دائما‬
‫الثاني) و طرقه (المبحث‬ ‫(المبحث األوّ ل) كما تنوّ عت أنظمة ال ّتعديل (المبحث ّ‬
‫ّ‬
‫الثالث)‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪ :‬قابل ّية الدّساتير لل ّتعديل‬
‫تطوّ ر تعامل الفكر الدستوري والسّياسي مع هذه المسألة من الرّفض إلى القبول‬
‫فرفض قابليّة الدّساتير لل ّتعديل يبدو موقفا تاريخيّا حيث نادى بعض مف ّكري وساسة‬
‫الثورة الفرنسيّة بفكرة الجمود المطلق للدّستور لكونه يتضمّن ثوابت و حقائق‬ ‫ّ‬
‫أزليّة‪ .‬ويبدو هذا الموقف غير منطقي فهو يقوم على مجرّد فرضيّة غير مبرهنة‬
‫كما أ ّنه يناقض ّ‬
‫الطبيعة المتغيّرة لألشياء ث ّم أ ّنه يش ّكل مصادرة ّ‬
‫لحق صاحب السّيادة‬
‫في ممارسة سيادته في تعديل الدّستور كلّما ارتأى ذلك فل يمكن أن تفرض‬
‫الجماعة السيّدة على نفسها قوانين ال تستطيع بعد ذلك تعديلها أو إلغاءها ‪ ،‬ويرى‬
‫جان جاك روسو أن جيل ال يستطيع إلزام األجيال اللحقة بقوانين‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وبناءا على مجمل هذه االعتبارات كرّس مبدأ قابليّة الدّساتير لل ّتعديل الذي يعتبر أن‬
‫الحق في ذلك ال يتقادم أو ال يسقط بال ّتقادم ح ّتى ضمن‬ ‫ّ‬ ‫الدّستور قابل للتعديل وأن‬
‫الدّساتير السّاكتة عن هذه المسألة‪.‬‬
‫وقد اتخذ مبدأ قابليّة الدّساتير لل ّتعديل شكل إما تكريس مطلق بحيث يجوز تعديل‬
‫الدّستور دون ضبط ذلك‪ ،‬أو تكريس جزئي وهو توجّه شائع بمعنى أن الدّستور‬
‫قابل لل ّتعديل و لكن في حدود معيّنة وهو تقييد قد يكون زمنيّا (مثال دستور ‪1891‬‬
‫بفرنسا حجر تعديله طيلة ‪ 10‬سنوات من تاريخ إصداره) و قد يكون التقييد‬
‫موضوعيّا وهو أمر أكثر شيوعا (مثال دستور تونس ‪ 2014‬وفصليه األول‬
‫والثاني‪ ،‬دستور ‪ 2022‬في فصليه ‪ 55‬و‪.)136‬‬
‫لقد استقرّت أغلبيّة ال ّدساتير على تضمين مبدأ ال ّتعديل وضبطته ّ‬
‫(نظمته) وهو ما‬
‫يسمح باستعراض أنظمة ال ّتعديل‪.‬‬
‫الفقرة ال ّثانية‪ :‬أنظمة ال ّتعديل‬
‫يتحدّد نظام ال ّتعديل من خلل طبيعة ال ّنظام اإلجرائي الم ّتبع لتعديل الدّستور‪،‬‬
‫فال ّتعديل يت ّم حسب نظام إجرائي خاص أو حسب ال ّنظام المعتمد لتنقيح القانون‬
‫العادي‪ .‬وهو ما يسمح بال ّتمييز بين الدّستور المرن (الفقرة األولى) والدّستور‬
‫الجامد (الفقرة ّ‬
‫الثانية)‪.‬‬
‫أ ـ‪ :‬الدّستور المرن‬
‫الذي يت ّم تعديله بنفس إجراءات تعديل القوانين العاديّة بحيث ال يت ّم‬ ‫هو الدّستور ّ‬
‫إفراده بإجراءات خاصّة وهو ما يعني قيام السلطة التشريعية المنتصبة بهذه المهمة‬
‫حسب النظام القانوني المعتمد للمبادرة بمشاريع القوانين العادية والنظر فيها‬
‫والمصادقة عليها‪ ،‬وهو توجّه يبدو تاريخيّا حيث دافع عليه رجل السّياسة و القانون‬
‫الذي قدّر ضرورة تمكين األمّة من ال ّتعبير عن إرادتها‬ ‫الفرنسي سياس ‪ّ Seyes‬‬
‫بقطع ال ّنظر عن الشكليات المعتمدة ال ّتي تبقي أمرا ثانويّا في رأيه‪ .‬و تع ّد أغلب‬
‫الدّساتير المرنة أمثلة تاريخيّة كدستور االتحاد السّوفياتي ‪ ،1918‬ودستور‬
‫شعبيّة ‪ ( 1954‬يأخذ هنا بعين االعتبار العامل اإليديولوجي‬ ‫جمهوريّة الصّين ال ّ‬
‫فالفكر الماركسي يعتبر التأطير القانوني معطى تاريخيا لن يحتاجه الحقا المجتمع‬
‫شعبيّة غيرت موقفها‬ ‫الشيوعي الذي يسيّر تلقائيا‪ ،‬ويلحظ أن جمهوريّة الصّين ال ّ‬
‫بعدما أقرت في دستورها الصّادر في ‪ 1982-03-07‬مبدأ تعديل الدّستور حسب‬
‫إجراءات تختلف تلك الم ّتبعة في تعديل القوانين العاديّة‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫شائع فيما يتعلّق بتعديل الدّساتير‪.‬‬


‫وهو ما يؤ ّكد أنّ الدّستور الجامد يبقى الخيار ال ّ‬

‫ب ـ ‪ :‬الدّستور الجامد‬
‫الذي ال يمكن تعديله إالّ بإجراءات خاصّة يضبط‬ ‫يقصد بالدّستور الجامد الدّستور ّ‬
‫الدّستور ذاته أحكامها بحيث يكون الدّستور الجامد بالضرورة دستورا مكتوبا‪،‬‬
‫وتختلف هذه اإلجراءات عن تلك الم ّتبعة لتعديل القوانين العاديّة بحيث تكون أكثر‬
‫تشدّدا وصرامة إجرائية وموضوعية‪.‬‬
‫و يقوم جمود الدّساتير على عدّة اعتبارات كما يتوفّر على بعض المزايا‪ ،‬فاتباع‬
‫إجراءات خاصّة في تعديل الدّستور يضمن التأني والجدية في القيام به خاصّة‬
‫بال ّنظر للقيمة االعتبارية للوثيقة الدّستوريّة‪ ،‬كما يمكن جمود الدّساتير من تفادي‬
‫والظرفيّة ويضفي على القواعد الدّستوريّة طابع السّموّ و‬ ‫ّ‬ ‫التعديلت المتسرّعة‬
‫تدخلت باقي السّلط و أساسا السّلطة ال ّتشريعيّة‪ ،‬ويع ّد‬
‫ّ‬ ‫صنها إزاء‬
‫العلويّة ويح ّ‬
‫الدّستور ال ّتونسي من أمثلة الدّساتير الجامدة حيث خصّ تعديل الدّستور بالباب‬
‫الثامن منه في نظام إجراءات مختلف عن ذلك الم ّتبع في تنقيح القوانين العاديّة و‬
‫المضمن أساسا بالفصل ‪ 62‬و ما يتبعه من دستور ‪.2014‬‬

‫وتتنوّ ع إجراءات تعديل الدساتير باختلف الدّساتير وهو ما يفرض البحث في‬
‫طرق ال ّتعديل وذلك أساسا فيما يتعلّق بالدّستور الجامد حيث ال خصوصيّة في‬
‫إجراءات تعديل الدّستور المرن‪.‬‬
‫الفقرة ال ّثالثة‪ :‬طرق ال ّتعديل‬
‫يقصد بطريقة ال ّتعديل الكيفيّة واإلجراءات المعتمدة لتعديل الدّستور‪ ،‬ويتوجّب في‬
‫هذا السّياق استعراض سلطة ال ّتعديل (الفقرة ‪ )1‬و من ثمّة تفصيل إجراءات تعديل‬
‫الدّستور(الفقرة ‪.)2‬‬

‫أ ـ ‪ :‬سلطة ال ّتعديل‬
‫يطلق على السّلطة ال ّتي تناط بها مهمّة تعديل الدّستور بالسّلطة ال ّتأسيسيّة المنشأة أو‬
‫المش ّنفة أو الفرعيّة باعتبار أنها تجد أصولها تحديدا وتنظيما و اختصاصا في أحكام‬
‫الدّستور كما وضعتها السّلطة ال ّتأسيس ّية األصليّة وهي ملزمة بإتباعها مثل ذلك‬
‫أحكام الباب الثامن من دستور ‪2014‬وفصليه ‪ 143‬و‪144‬‬

‫و تتجسّم هذه السّلطة ال ّتأسيسيّة الفرعيّة أي سلطة ال ّتعديل في أحد الخيارات الهيكليّة‬
‫ال ّتاليّة‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ّأوال‪ :‬مجلس خاص منتخب‪:‬‬


‫تمنح بعض الدّساتير سلطة تعديل الدّستور إلى مجلس خاصّ ينتخب خصّيصا‬
‫الستفتاء هذه المهمّة وليست له بال ّتالي ممارسة اختصاصات أخرى‪ ،‬وترجع له‬
‫عادة ك ّل إجراءات تعديل الدّستور‪ .‬وقد أخذ الدّستور األمريكي لسنة ‪ 1787‬بهذه‬
‫الطريقة كإحدى ّ‬
‫الطرق الممكنة لتعديله‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ثانيا‪ :‬االستفتاء الدّستوري‪:‬‬


‫شعب عبر االستفتاء على تعديل‬ ‫تنصّ بعض الدّساتير على وجوب موافقة ال ّ‬
‫الدّستور‪ ،‬ويكون االستفتاء بعد إعداد مشروع ال ّتعديل من طرف السّلطة ال ّتأسيسيّة‬
‫(ال ّتي هي المجلس ال ّنيابي القائم) أو من طرف السّلطة ال ّتنفيذيّة أو من طرف مجلس‬
‫منتخب وهو شأن المثال السويسري‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬السّلطة ال ّتشريعيّة العاديّة‪:‬‬
‫تمنح معظم الدّساتير سلطة ال ّتعديل إلى السّلطة ال ّتشريعيّة القائمة مع اشتراط إتباع‬
‫إجراءات خاصّة ومتميّزة تختلف عن ذلك الم ّتبعة لتنقيح القوانين العاديّة‪.‬‬
‫ويستوفى البحث في سلطة ال ّتعديل ببيان إجراءاته‪.‬‬
‫ب ـ ‪ :‬إجراءات تعديل الدّستور‬
‫التزم المشرع الدستوري في الحالة التونسية الخيارات الشائعة في التجارب‬
‫المقارنة التي تقوم على تعدد األطراف المتداخلة في عملية تعديل الدستور‬
‫بالمزاوجة بين البعد التمثيلي عبر السلطة التشريعية وحضور السلطة التنفيذية‬
‫والمشاركة الشعبية‬
‫ويخضع المسار اإلجرائي لتعديل الدستور للقواعد المضمنة بدستور ‪ 2022‬في‬
‫الباب التاسع منه ‪ ،‬وضمن المسار اإلجرائي المضبوط دستوريا بدا التوجه نحو‬
‫تحوّ ط واضح فيما يتعلق بإمكانية تعديل الدستور‪ ،‬وهو ما يعكس استمرار نفس‬
‫الخيارات و نفس التمشي المتبع في تعديل الدستور المضمن في الباب الثامن من‬
‫دستور ‪ 2014‬و صلب الباب العشر من دستور غرة جوان ‪ 1959‬المعنون بتنقيح‬
‫الدستور‪ 1‬مع اختلف الظرف الذي كان يسمح في ظله بتمرير تعديلت الدستور‬

‫‪ 1‬والذي يتضمن الفصول التالية‪:‬‬


‫الفصل ‪ 76‬لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس النواب على األقل الحق في المطالبة بتنقيح الدستور ما لم يمس‬
‫ذلك بالنظام الجمهوري للدولة‪ .‬ولرئيس الجمهورية أن يعرض مشاريع تنقيح الدستور على االستفتاء‪.‬‬
‫الفصل ‪ 77‬ينظر مجلس النواب في التنقيح المزمع إدخاله بعد قرار منه باألغلبية المطلقة وبعد تحديد موضوعه ودرسه‬
‫من قبل لجنة خاصة‪ .‬وفي حالة عدم اللجوء إلى االستفتاء‪ ،‬تتم الموافقة على مشروع تنقيح الدستور من قبل مجلس‬

‫‪70‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫بيسر بفضل نظام األحادية الحزبية وبعدها نظام الحزب المهيمن‪ ،‬خلفا للوضع‬
‫الحالي في تونس الذي طرح توازنات سياسية مختلفة تماما قبل ‪ 25‬جويلية ‪2021‬‬
‫وبعده‪ ،‬خاصة منها التراوح بين نظام برلماني ونظام رئاسي ‪.‬‬
‫تعتمد معظم الدّساتير في تعديلها تمييزا بين مرحلتين رئيسيتين‪ :‬المبادرة بال ّتعديل‪،‬‬
‫وإقرار ال ّتعديل‪.‬‬
‫لقد بدا التوجه إلى عقلنة التعديل واضحا في التجربة التونسية ـ وإن كان بدرجات‬
‫مختلفة من العقلنة ـ وذلك بإرساء نظام إجرائي على مراحل مشروطا ومع ّززا‬
‫سواء على مستوى المبادرة بالتعديل أو على مستوى إقراره‪.‬‬
‫‪ ) 1‬ـ مستوى المبادرة بتعديل الدستور‪:‬‬

‫تطرح مرحلة المبادرة بالتعديل ـ أو ما يكيفه بعض الدارسين باإلجراءات السابقة‬


‫إلقرار التعديل ـ مسألتين األولى جهة المبادرة والثانية دراسة المبادرة‪ .‬وقد تميزت‬
‫هذه المرحلة في عمومها بتشديد شروطها‬
‫‪ 1‬فرعي ـ من حيث جهة المبادرة ‪:‬‬

‫ضبطت جهة المبادرة بالفصل ‪ 136‬من دستور ‪ 2022‬الذي ينص على أنه "‬
‫لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس نواب الشعب حق المبادرة باقتراح تعديل‬
‫الدستور‪ ،" ،‬وفي ذلك تشابه واضح توجهات أغلب الدساتير المقارنة كالدستور‬
‫الفرنسي ‪ 1958‬ودستور ألمانيا االتحادية ‪ .1949‬مع الفصل ‪ 143‬من دستور‬
‫‪ 2014‬بهذه المعاني قام تنظيم جهة المبادرة بتعديل الدستور على فكرة الموازنة‬
‫بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في تشابه واضح مع منطق المبادرة التشريعية‪.2‬‬
‫ويطرح التصور الوارد بدستور ‪ 2022‬حول جهة المبادرة بتنقيح الدستور أربع‬
‫ملحظات‪:‬‬
‫شي الدستوري خيار تعديل الدستور داخل الجسم‬ ‫الملحظة األولى‪ :‬يستبقي التم ّ‬
‫السياسي بمفهومه التقليدي دون المفهوم الواسع حيث لم يوسّعه نحو الجسم الشعبي‬

‫النواب بأغلبية الثلثين من األعضاء في قراءتين تقع الثانية بعد ثالثة أشهر على األقل من األولى‪ .‬وعند اللجوء إلى‬
‫االستفتاء يعرض رئيس الجمهورية مشروع تنقيح الدستور على الشعب بعد موافقة مجلس النواب عليه في قراءة واحدة‬
‫باألغلبية المطلقة ألعضائه‪.‬‬
‫الفصل ‪ 78‬يختم رئيس الجمهورية بعنوان قانون دستوري القانون المنقح للدستور الذي صادق عليه مجلس النواب‬
‫وذلك طبقا للفصل ‪ 52‬من الدستور‪ .‬ويصدر رئيس الجمهورية بعنوان قانون دستوري القانون المنقح للدستور الذي‬
‫صادق عليه الشعب وذلك في أجل ال يتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ اإلعالن عن نتيجة االستفتاء‪.‬ويضبط القانون‬
‫االنتخابي صيغ إجراء االستفتاء واإلعالن عن نتائجه‪.‬‬
‫‪ 2‬الفصل ‪ 67‬من دستور ‪" 2022‬لرئيس الجمهورية حق عرض مشاريع القوانين وللنواب حق عرض مقترحات‬
‫القوانين شرط أن تكون مقدمة من عشرة نواب على األقلّ"‬

‫‪71‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫مقصيا بذلك المبادرة الشعبية‪ ،‬وذلك خلفا لبعض التجارب المقارنة كدستور‬
‫االتحاد السويسري والدستور اإليطالي ‪ 1947‬الذي يجيز لخمسين ألف مواطن حق‬
‫المبادرة المواطنية والشعبية بتعديل الدستور شرط أن تكون مصاغة ومبوبة‪.‬‬
‫شي تعديل الدستور المستند إلى مبادرة برلمانية يتطلب‬ ‫الملحظة الثانية‪ :‬إنّ تم ّ‬
‫توافقا برلمانيا واسعا نسبيا فــ" ثلث أعضاء مجلس نواب الشعب"‪ ،‬شرط ال يبدو‬
‫يسيرا في ظل نظام اقتراع على األفراد ال يحفّز األحزاب‪ ،‬وال ييسر بالتالي تكوين‬
‫الكتل داخل البرلمان وبناء أغلبية برلمانية لتقديم أو تمرير التعديل الدستوري‪.‬‬
‫الملحظة الثالثة‪ :‬هي أن دستور ‪ 2022‬في فصله ‪ 136‬لم يقر خلفا لدستور‬
‫‪ 2014‬في فصله ‪ 143‬تغليب المبادرة الصادرة عن السلطة التنفيذية بمنحها أولوية‬
‫النظر‪ ،‬وهو ما يطرح ولو نظريا مسألة أولوية النظر في صورة تزامن مبادرتين‬
‫لتعديل الدستور األولى صادرة عن رئيس الجمهورية والثانية عن مجموعة من‬
‫نواب الشعب‪ .‬ويبدو أن األرجح هو تقديم المبادرة البرلمانية على المبادرة الرئاسية‬
‫باعتبار أن سلطة التشريع تعود أصالة للسلط التشريعية‪.‬‬
‫الملحظة الرابعة‪ :‬هي أنّ دستور ‪ 2022‬ال يتضمن تنصيصا مماثل لذلك الوارد‬
‫ّ‬
‫يحق للقائم بمهام رئيس الجمهورية خلل‬ ‫بالفصل ‪ 86‬من دستور ‪ 2014‬حيث "ال‬
‫الشغور الوقتي أو النهائي المبادرة باقتراح تعديل الدستور"‪ ،‬وهو تقييد لحق‬
‫المبادرة بتعديل الدستور مبرّر بالظرف االستثنائي وبالصفة الوقتية لشاغل موقع‬
‫رئاسة الجمهورية وهادف لحماية االستقرار الدستوري من أي أزمة أو شك أو‬
‫تشكيك حينما تكون السلط العمومية في وضع استثنائي انتقالي‪ .‬إنّ الفصل ‪ 109‬من‬
‫دستور‪ 2022‬الشبيه بالفصل ‪ 86‬من دستور ‪ 2014‬يقتصر فقط على منع القائم‬
‫بمهام رئيس الجمهورية خلل الشغور الوقتي أو النهائي من اللجوء للستفتاء دون‬
‫أن ينص على منعه من المبادرة بتعديل الدستور‪ ،‬فهل يؤول المنع من اللجوء‬
‫للستفتاء أي إلرادة صاحب السيادة على أنه منع للمبادرة بتعديل الدستور على‬
‫قاعدة أن منع األكثر (االستفتاء ) هو منع لألقل ( تعديل الدستور) ؟ أم يقع تغليب‬
‫مبدأ أن ما لم يمنعه القانون فهو مباح من جهة ومبدأ أن اإلجراءات ال تستخلص‬
‫بالـتأويل بل وجب التنصيص عليها صراحة ـ وهو الرأي األرجح ـ ‪.‬‬
‫‪ 2‬فرعي ـ دراسة المبادرة‪:‬‬

‫بعد استيفاء المبادرة بالتعديل بتقديم مشروع قانون دستوري‪ ،‬تخضع مبادرة تعديل‬
‫الدستور للدراسة من جهتين هما المحكمة الدستورية ومجلس نواب الشعب ‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ـ فتعرض في طور أول بناء على منطوق الفصل ‪ 136‬من الدستور من قبل الجهة‬
‫التي بادرت بتعديل الدستور (أي رئيس الجمهورية أو ثلث أعضاء مجلس نواب‬
‫للبت في كونها ال تتعلق بما ال يجوز تعديله‬‫ّ‬ ‫‪3‬‬
‫الشعب) على المحكمة الدستورية‬
‫حسبما هو مقرر بالدستور‪ .‬ويهدف هذا اإلجراء إلى حماية النواة الصلبة الدستورية‬
‫من االنتهاك سواء من جهة المكتسب الجمهوري أو من جهة المكتسب الحقوقي‪.4‬‬
‫ويلحظ أن دستور ‪ 2014‬كان يحصر جهة اإلحالة على المحكمة الدستورية في‬
‫رئيس مجلس نواب الشعب دون غيره وهو التمشي األسلم إجرائيا باعتبار أن الجهة‬
‫المعنية بالمبادرة تودعها أصل لدى مجلس النواب‪.‬‬

‫كما يلحظ أيضا أن توصيف الموقف الذي تبديه المحكمة الدستورية بشأن مبادرة‬
‫ّ‬
‫"البت" في‬ ‫التعديل تحوّ ل من "إبداء الرأي" في دستور ‪(2014‬الفصل ‪ )144‬إلى‬
‫دستور ‪( 2022‬الفصل ‪ ،)136‬وهو ما يدعم الطابع اإللزامي والطابع الحكميّ‬
‫لقرار المحكمة‪ ،‬ويدعم الحضور الوازن للمحكمة الدستورية بنظرها الحقا في‬
‫دستورية إجراءات تعديل الدستور الذي يمثل الوجه الثاني من مراقبتها للتعديل‪.‬‬
‫ـ وبعد استيفاء المحكمة الدستورية للطور األول من رقابتها على مشروع التعديل‬
‫ينظر مجلس نواب الشعب في طور ثان في مبادرة التعديل قصد الموافقة باألغلبية‬
‫المطلقة على مبدأ التعديل دون سواه بحيث ال ينظر في المضامين الدستورية‬
‫وتفصيلتها بل هي موافقة إجمالية تستند إلى االستماع لعرض وشرح وبيانات‬
‫صاحب المبادرة سواء كانت رئاسية أو برلمانية وتعتمد على فكرة االقتصاد في‬
‫اإلجراءات فإن تمت الموافقة باألغلبية المطلقة للنواب حسب منطوق الفصل ‪137‬‬
‫من الدستور والفصل ‪ 146‬من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب تم المرور‬
‫للمرحلة اللحقة وإالّ توقّف األمر عند هذا الحدّ‪ .‬ويلحظ أن النظام الداخلي لمجلس‬
‫نواب الشعب صمت عن إمكانية إعادة عرض مشروع التعديل من جديد خلفا‬
‫للنظام الداخلي لمجلس النواب في ظل دستور ‪ 1959‬واألرجح أن ذلك ممكن طالما‬
‫أن األصل في األشياء اإلباحة‪.‬‬

‫‪ 3‬وردت إجراءات هذه الوجه األول من مراقبة المحكمة الدستورية لمشروع تعديل الدستور ضمن القانون األساسي‬
‫عدد ‪ 59‬لسنة ‪ 2015‬المؤرخ في ‪ 3‬ديسمبر ‪ 2015‬المتعلق بالمحكمة الدستورية في ‪:‬‬
‫الفصل ‪ 40‬ـ يعرض رئيس مجلس نوّ اب الشعب كل مبادرة لتعديل الدستور على المحكمة الدستورية في أجل أقصاه‬
‫ثالثة أيّام من تاريخ ورود مبادرة التعديل على مكتب المجلس ويعلم رئيس مجلس نواب الشعب كالّ من رئيس‬
‫الج مهورية ورئيس الحكومة بمبادرة التعديل ‪.‬‬
‫الفصل ‪ 41‬ـ تبدي المحكمة الدستورية رأيها في مدى تعلّق المبادرة باألحكام التي ح ّجر الدستور تعديلها في أجل أقصاه‬
‫خمسة عشرة يوما من تاريخ عرض مبادرة تعديل الدستور عليها‪ ،‬ويتولى رئيس المحكمة الدستورية فورا إعالم رئيس‬
‫شعب ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة برأي المحكمة‪.‬‬ ‫مجلس نوّ اب ال ّ‬
‫‪ 4‬الفصل ‪ 55‬فقرة أخيرة "ال يجوز ألي تنقيح أن ينال من مكتسبات حقوق اإلنسان وحرياته المضمونة في هذا‬
‫الدستور"‬
‫الفصل ‪ 136‬الفقرة األولى " ‪...‬ما لم ال ي مس ذلك بالنظام الجمهوري للدولة أو بعدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة"‬

‫‪73‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫‪ )2‬ـ على مستوى إقرار تعديل الدستور‪:‬‬

‫إن يغلب البعد الشكلي في مستوى المبادرة بتعديل الدستور فإن مستوى إقراره‬
‫يتميز بتناول مشروع التعديل جوهريا ويتم ذلك باألساس صلب البرلمان دون‬
‫االقتصار عليه إذ تتدخل السلطة التنفيذية كما قد يشرك الشعب استثنائيا‪.‬‬
‫‪ 1‬فرعي ـ دور اللجنة البرلمانية الخاصة‪:‬‬

‫ينتخب مجلس نواب الشعب لجنة برلمانية خاصة تتكون من خمسة وعشرون‬
‫عضوا تتكفل بالتعهد بالمبادرة على معنى الفصل ‪ 145‬من النظام الداخلي لمجلس‬
‫نواب الشعب فتتولى تحديد موضوع التنقيح المزمع إدخاله ودرسه وفق ما هو‬
‫منصوص عليه بالفصل ‪ 137‬من الدستور‪ .‬وهي لجنه وقتية تنحل بختم مشروع‬
‫القانون الدستوري أو عدم إقراره‪.‬‬

‫وال تتمتع هذه اللجنة بإجراءات خصوصية ـ خلفا لما كان عليه األمر صلب النظام‬
‫الداخلي لمجلس النواب في ظل دستور ‪ 1959‬ـ حيث أن اإلجراءات المنطبقة على‬
‫اللجان القارة في المجلس تسري على هذه اللجنة بحيث تقوم بدراسة موضوع‬
‫التعديل ثم تقدم تقريرا بشأنه للمجلس مع توصية بالمصادقة على التعديل أو رفضه‪.‬‬

‫‪ 2‬فرعي ـ دور مجلس نواب الشعب في جلسته العامة‪:‬‬

‫وعلى ضوء تقرير اللجنة البرلمانية يتعهد مجلس نواب الشعب بجلسته العامة‬
‫بمناقشة مشروع التعديل والتصويت عليه‪ .‬وقد وضع الدستور التونسي في فصله‬
‫‪ 137‬نظامين للمصادقة على تعديل الدستور‪ ،‬يلتزم األول منهما منطق الفكرة‬
‫التمثيلية حيث يت ّم تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب الشعب في‬
‫قراءتين تقع الثانية بعد ثلثة أشهر على األقل من األولى وهنا وقع التخلّي عن‬
‫نظام القراءة الوحيدة الذي كان معتمدا في دستور ‪ 2014‬بما يع ّبر عن تشدّد أكثر‬
‫في نظام التعديل‪.‬‬
‫أما النظام الثاني للمصادقة على تعديل الدستور فيستند على المزاوجة بين الفكرة‬
‫التمثيلية والسيادة الشعبية حيث يمكن لرئيس الجمهورية بعد موافقة ثلثي أعضاء‬
‫المجلس أن يعرض التعديل على االستفتاء ليت ّم قبوله في هذه الحالة بأغلبية‬
‫المقترعين‪ .‬وإن يبدو النظام الثاني أكثر جاذبية حيث يت ّم ال ّرجوع إلى الشعب لألخذ‬
‫برأيه بشأن الخيارات الجوهرية إال أنه يبقى ثقيل باعتبار امتداده الزمني (انطلقا‬
‫من المبادرة وصوال إلى القرائتين)‪ ،‬ومحدودا نظرا للطابع االختياري للستفتاء‬

‫‪74‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫الذي يبقى رهين السلطة التقديرية لرئيس الجمهورية وأقرب لآللية التحكيمية بيده‬
‫منه لتعبيرة عن تضافر اإلرادتين البرلمانية والشعبية‬
‫‪ 3‬فرعي ـ دور المحكمة الدستورية‪:‬‬

‫وتبقى المصادقة على مشروع القانون الدستوري مرهونة قبل المرور لختم التعديل‬
‫الدستوري من طرف رئيس الجمهورية بمدى احترام إجراءات تعديل الدستور‪،‬‬
‫وهو الطور الثاني من الرقابة التي تجريها المحكمة الدستورية على مشاريع تعديل‬
‫الدستور بناء على أحكام الفصل ‪ 127‬من الدستور‪.‬‬

‫وقد ورد الجانب التنظيمي واإلجرائي لهذه الرقابة في الفصل ‪ 42‬من القانون‬
‫األساسي عدد ‪ 59‬لسنة ‪ 2015‬المؤرخ في ‪ 3‬ديسمبر ‪ 2015‬المتعلق بالمحكمة‬
‫الدستورية ( الذي يبقى نافذا بشأن المحكمة الدستورية المنصوص عليها بدستور‬
‫‪ 2022‬حتى صدور ما يخالفه) حيث "يعرض رئيس مجلس نوّ اب الشعب على‬
‫المحكمة الدستورية مشاريع قوانين تعديل الدستور في أجل أقصاه ثلثة أيّام من‬
‫تاريخ المصادقة عليها من قبل مجلس نواب الشعب لتتولى مراقبة دستورية‬
‫إجراءات التعديل‪ .‬وتصدر المحكمة الدستورية قرارها وجوبا في أجل أقصاه خمسة‬
‫وأربعين يوما من تاريخ تعهدها‪.‬‬
‫وإذا قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية إجراءات مشروع القانون الدستوري‬
‫تتولى في أجل أقصاه سبعة أيام إحالته مصحوبا بقرارها إلى رئيس مجلس نواب‬
‫الشعب ‪.‬ويتولّى مجلس نواب الشعب تصحيح إجراءات التعديل طبقا لقرار المحكمة‬
‫الدستورية في أجل أقصاه ثلثين يوما من تاريخ توصّله بالقرار المذكور‪.‬‬

‫‪ 4‬فرعي ـ دور رئيس الجمهورية‪:‬‬

‫إذا قضت المحكمة الدستورية بدستورية إجراءات التعديل فإنها تحيل المشروع إلى‬
‫رئيس الجمهورية الذي يختمه‪ ،‬أو يعرضه على االستفتاء وباستيفاءه يحال القانون‬
‫الدستوري على رئيس الجمهورية لختمه ثم إصداره في أجل ال يتجاوز خمسة‬
‫عشر يوما من تاريخ اإلعلن عن نتيجة االستفتاء‬
‫من ثمة يتسم النظام اإلجرائي لتعديل الدستور في الحالة التونسية بعقلنة واضحة‬
‫وأحيانا مشددة تهدف إلى مأسسته وتحصينه من اإلخلالت الدستورية وإضفاء‬
‫الشرعية الشعبية عليه‪ .‬كما يبقى هذا النظام اإلجرائي معلّقا لعدم تركيز المحكمة‬
‫الدستورية وهو ما يعني استحالة إجرائ ّية لبدء مسار تعديل دستوري إلى حد اليوم‪،‬‬

‫‪75‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫وهو ما يعني أن تفعيله يفرض تنقيح قانون المحكمة الدستورية أو وضع نص جديد‬
‫لها يتلءم مع دستور ‪ 2022‬ث ّم تركيز هذه المحكمة‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬نهاية الدستور‬


‫ترتبط نهاية الدساتير بحصول قطيعة واضحة وحاسمة بين المحيط السياسي الذي‬
‫يستوعب الموضوعات الدستورية وإطاره وتأطيره الدستوري ممثل أساسا في‬
‫الدستور‪ ،‬وهو ما يؤشر إلى عجز النص الدستوري عن مواكبة التغيرات الجوهرية‬
‫وأحيانا الجذرية الطارئة على المحيط السياسي وعدم كفاية آلية التعديل لمجاراتها‪.‬‬
‫وتكون نهاية الدستور ضمن مسارين ‪ :‬عادي أو غير عادي وتختلف دالالتها بين‬
‫نهاية وانتهاء وإنهاء بحسب السياقات التي تتم فيها‪ ،‬كما تتخذ األشكال التالية‬
‫الفقرة األولى‪ :‬النهاية العادية للدستور‬
‫وهي نهاية عادة ما تقدم في سياق التقابل مع النهاية غير العادية التي تتسم بالطابع‬
‫العنفي أو القسري‪ ،‬وهو أسلوب دارج في المدرسة االشتراكية للقانون الدستوري‬
‫حيث يعبر تواتر الدساتير عن مراحل تطور النظام االشتراكي بل ويفترضها إذ كل‬
‫مرحلة تعبيرها الدستوري من ذلك تجربة الصين الشعبية التي عرفت خمسة‬
‫دساتير منذ ‪ 1954‬وحتى اليوم‪.‬‬

‫وال يستوجب األسلوب العادي لنهاية الدساتير تنصيصا عليه صلب الوثيقة‬
‫الدستورية حيث ال يعد بداهة تعديل بل هو تعبير عن إرادة تأسيسية أصلية أولى‬
‫جديدة مختلفة غير منصوص عليها لوضع دستور جديد سواء عن عبر جمعية‬
‫تأسيسية أو استفتاء دستوري أو غيره‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬النهاية الثورية للدستور‬
‫قياسا بالحالة السابقة تتعمق في هذا الشكل من نهايات الدستور درجة القطيعة‬
‫وطبيعتها بين الدستور وسياقاته السياسية والمجتمعية ‪ ،‬فالثورة تعبر عن تغير‬
‫جذري في المنظومة السائدة في مجتمع ما بما يستوجب إعادة صياغة العقد‬
‫االجتماعي من خلل صياغة اتفاقية تأسيسية مختلفة يعبر عنها في دستور جديد‬
‫وهو الحال في تقدير عديد الدارسين لدستور ‪ 2014‬خاصة وأن هذه الوثيقة تقدم‬
‫في توطئتها على أنها دستور للثورة‪ .‬وال بد من اإلشارة إلى أن إنهاء الدساتير عبر‬
‫السبيل الثوري عادة ما ترافق بجدل حول وجاهة وضع دستور جديد من عدمه كما‬
‫هو الحال في تونس إذ قدر البعض االكتفاء بتعديل لدستور ‪ 1959‬عوض وضع‬
‫دستور جديد‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫السنة الجامعية‬ ‫األستاذ عبدالرزاق المختار‬ ‫السنة أولى إجازة في القانون‬ ‫ي‬
‫المدخل للقانون الدستور ّ‬
‫‪2024/2023‬‬

‫ويبقى مفهوم الثورة مفهوما "غريبا" عن الخطاب القانوني الذي يقوم على الثبات‬
‫واالستمرار والنظام وهو ما خلف صعوبة في التعامل مع الثورة كمفهوم قانوني‬
‫واالكتفاء بالتعامل من حيث نتائجها‪.‬‬
‫وإن يشترك االنقلب مع الثورة في الطابع العنفي والرغبة في التغيير وفي النتائج‬
‫بصدور دستور جديد إال أن االنقلبات تفتقد عموما البعد الشعبي وهو ما يخلف‬
‫التباسا بشأن خصائص الوثيقة الدستورية من حيث مشروعيتها الشعبية وديمقراطية‬
‫مضامينها كما أن الثورة تعبر عن تغيرات عميقة تمس الخيارات الدستورية‬
‫الجوهرية خلفا للنقلبات التي تقتصر عادة على إعادة تصور نظام الحكم في‬
‫اتجاه مركزة السلطة‬
‫الفقرة الثالثة‪ :‬نهاية الدستور باإلهمال‬
‫بحيل مفهوم اإلهمال على مفهوم قانوني سائد هو القاعدة القانونية المهجورة بمعنى‬
‫بقاء الدستور غير مطبق العتبارات تخص الوضع السياسي والسياق المجتمعي‬
‫العام وهو ما يطرح تساؤال بشأن مآل النص الدستوري؟‬
‫وتبقى عناصر اإلجابة غير متفق عليها فالبعض يعتبر أن دستورا غير مطبق من‬
‫المخاطبين بأحكامه ال معنى له أما البعض اآلخر فيعتبر أن الدستور غير المطبق‬
‫يبقى بمثابة النص المعلق قابل للتطبيق إن توفرت الشروط‪.‬‬
‫لقد أثيرت هذه المسألة يشأن دستور ‪ 1861‬الذي أوقف محمد الصادق باي العمل‬
‫بأحد مؤسساته بموجب أمر على في ‪ 30‬أفريل ‪ 1864‬وهو المجلس األكبر معتبرا‬
‫في مراسلة له لسفير إنقلترا إيقاف العمل مقتصرا على المؤسسة المذكورة دون‬
‫سواها وال يمثل إيقاف عمل بالدستور‪.‬‬
‫غير أن توقيف عمل المجلس األكبر كأحد المؤسسات الرئيسية صلب دستور‬
‫‪ 1861‬والتراجع عن مضامينه الجبائية وعدم تفعيل بقية الفصول فرغ هذه الوثيقة‬
‫من أي أثر فعلي رغم وجودها القانوني وهو ما تؤيده االستشارة القانونية المقدمة‬
‫من األستاذين بارتملي وفاس سنة ‪ 1920‬بطلب من الحزب الدستوري القديم في‬
‫سعيه في عمله الوطني لبحث الوضع القانوني لدستور‪.1861‬‬

‫وإن لم يقع إنهاء العمل صراحة بدستور ‪ 1861‬فإن صدور األمر العلي‬
‫المؤرخ في ‪ 29‬ديسمبر ‪ 1955‬المتعلق بالمجلس القومي التأسيسي الذي كلف‬
‫بوضع دستور يعبر بوضوح عن نية إنهاء‬

‫‪77‬‬

You might also like