Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 7

‫األخالق تعريفها ومؤشراتها ومصدرها ومكانتها‬

‫‪ -1‬تعريف األخالق هي‪:‬‬


‫(صفة في النفس تظهر آثارها في الكالم والسلوك العملي والمظهر الخارجي والصحبة المختارة) (‪.)1‬‬
‫شرح التعريف‪:‬‬
‫(صفة في النفس) المقصود بذلك أن الخلق عبارة عن أمر حسن أو قبيح كامن داخل النفس‪ ،‬تصدر عنه األعمال‬
‫والتصرفات بتلقائية ويسر من غير حاجة إلى تفكر وتأمل‪ ،‬فكأنه طبيعة وسجية‪ ،‬فمن يبذل المال بسماحة وعفوية‬
‫يسمى كريمًا‪ ،‬ومن يتجاوز عن المخطئ برفق ولطف فهو متصف بالحلم‪.‬‬
‫أما من يتكلف البذل واإلنفاق أو المسامحة والعفو عند الغضب فال يقال بأن خلقه السخاء أو الحلم‪.‬‬
‫وبهذا يظهر الفرق بين (الخلق) (والتخلق)‪.‬‬
‫أما من يظهر منه الخلق أحيانًا أو نادرًا فال يوصف بذلك الخلق كمن يصدر منه العدل في حالة عارضة‪.‬‬
‫و (التخلق) باألخالق الحسنة مطلوب‪ ،‬وقد يسمى (الخالق) وهو (ما اكتسبه اإلنسان من الفضيلة بخلقه) (‪ ،)2‬وقد‬
‫حث النبي صلى هللا عليه وسلم على التخلق ليتعود اإلنسان عليه ويرسخ في نفسه بكثرة التكرار‪ ،‬قال صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪( :‬إنما العلم بالتعلم‪ ،‬وإنما الحلم بالتحلم‪ ،‬ومن يتحر الخير يعطه‪ ،‬ومن يتق الشر يوقه)(‪.)3‬‬
‫(تظهر آثارها) أي أن األصل في األخالق أنها كامنة داخل النفس‪ ،‬وال يعرف وجودها إال بظهور آثارها‪ ،‬وفي‬
‫الغالب أن اإلنسان مهما حاول إخفاء أخالقه الراسخة فيه فإنها تظهر‪ ،‬وخاصة في حاالت اإللجاء والمزاحمة‪،‬‬
‫كمن يبتلي بمن يغضبه وهو قادر على االنتقام واالنتصار ومع ذلك يحلم ويتجاوز‪ ،‬وكمن يتهيأ له كسب محرم‬
‫فإن كان عفيفًا ظهرت صفة القناعة فيه‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ظهرت في تصرفاته صفة الجشع والحرص‪ ،‬وقد جاء‬
‫في بعض اآلثار (من أسر سريرة ألبسه هللا رداءها) (‪ ،)4‬ويروى عن عثمان رضي هللا عنه قوله‪( :‬من كانت له‬
‫سريرة صالحة أو سيئة أظهر هللا منها رداء يعرف به) (‪.)5‬‬
‫وقديمًا قال الشاعر‪:‬‬
‫وإن خالها تخفى على الناس تعلم‬ ‫ومهما تكن عند امرئ من خليقة‬

‫(تظهر آثار الكالم والسلوك العملي والمظهر الخارجي والصحبة المختارة)‬


‫أي أن األخالق الكامنة في نفس اإلنسان تعرف من خالل كالمه وتصرفاته والكالم والسلوك أدلة على الخلق‬
‫الكامن أما هيئته الخارجية وأصحابه الذين يحب مجالستهم ويكثر من مخالطتهم فهي مؤشرات وقرائن تدل على‬
‫وجود السجايا‪ ،‬وعلى ما ينطوي عليه الشخص من خلق حسن أو قبيح‪ ،‬وسيأتي بيان ذلك‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪)(2‬‬
‫المفردات للراغب ‪.158‬‬
‫‪ )(3‬صحيح الجامع الصغير رقم ‪.2328‬‬
‫‪ )(4‬كشف الخفاء للعجلوني ‪.2/350‬‬
‫‪ )(5‬األجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من األحاديث النبوية ‪ ،1/300‬وقال عنه إسناده ضعيف والصحيح وقفه‪ ،‬ومراده أنه ال‬
‫يصح رفعه للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويصح موقوفًا على عثمان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ -‬أدلة ومؤشرات األخالق‪:‬‬
‫المراد بها تلك األمور الظاهرة التي تدل على وجود خلق معين أو تشير إلى وجود ذلك الخلق قطعًا أو ظنًا‪.‬‬
‫(فليس الخلق عبارة عن الفعل‪ ،‬فرب شخص خلقه السخاء وال يبذل‪ ،‬إما لفقد المال أو لمانع‪ ،‬وربما يكون خلقه‬
‫البخل‪ ،‬وهو يبذل لباعث أو رياء) (‪.)6‬‬
‫والمسلم مطلوب منه أن يبتعد عن األلفاظ واألعمال والمظاهر التي تؤدي إلى اتهامه بالخلق الهابط‪ ،‬كما جاء في‬
‫بعض اآلثار (من عرض نفسه للتهم فال يلومن من أساء به الظن) (‪.)7‬‬
‫وأبرز ما يدل على أخالق اإلنسان أربعة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬الكالم‪:‬‬
‫فإن اإلنسان صندوق مقفل فإذا تكلم أبان عما هو كامن داخل نفسه‪ ،‬ولذلك قيل في وصف اللسان بأنه (أداة يظهر‬
‫بها البيان وشاهد يخبر عن الضمير‪.)8( )...‬‬
‫وقد تعارف الناس على أن األلفاظ والعبارات التي يفوه بها اإلنسان تدل على أخالقه – غالبًا – فإذا تكررت منه‬
‫تلك األلفاظ ترجح أنه متصف بذلك الخلق الذي تدل عليه ألفاظه‪ ،‬فخلق الصدق يعرف بكالم صاحبه‪ ،‬وكذلك خلق‬
‫الكذب والغيبة والنميمة‪.‬‬
‫وبذاءة اللسان تدل على الوقاحة‪ ،‬وحسن القول يدل على الحياء وعفة النفس‪ ،‬وهذا ما أشار إليه بعض العرب‬
‫بقولهم‪( :‬إذا ثبتت األصول في القلوب نطقت األلسنة بالفروع)(‪.)9‬‬
‫ولوال أن اللسان معبر عن األخالق الكامنة لما أمر هللا بإقامة الحد على القاذف‪ ،‬ولما أوجبت الشريعة تعزير شاهد‬
‫الزور‪ ،‬ونحو ذلك من العقوبات الدنيوية واألخروية المترتبة على عمل اللسان‪ ،‬حتى قال بعض أهل العلم‪( :‬إذا‬
‫أردت أن ُيستدل على ما في القلوب فاستدل عليها بحركة اللسان‪ ،‬فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم‬
‫أبى‪ ،‬قال يحيى بن معاذ‪" :‬القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها" فانظر الرجل حين يتكلم فإن لسانه‬
‫يغترف لك به مما في قلبه حلوًا أو حامضًا وعذبًا أو أجاجًا وغير ذلك‪ ،‬ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه‪ ،‬أي كما‬
‫تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته‪ ،‬كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه‪ ،‬فتذوق‬
‫ما في قلبه من لسانه‪ ،‬كما تذوق ما في القدر بلسانك) (‪.)10‬‬

‫الثاني‪ :‬السلوك العملي‪:‬‬


‫والمراد به األعمال والتصرفات التي تجري من اإلنسان‪ ،‬وداللتها على األخالق بينة‪ ،‬فاإلنفاق بسخاء دليل الكرم‪،‬‬
‫واإلمساك عن العطاء دليل البخل‪ ،‬واالنفعال السريع دليل الغضب‪ ،‬ولين الجانب واألخذ باألسهل دليل الرفق كما‬
‫أن القسوة والشدة دليل العنف‪.‬‬
‫ويدخل في السلوك العملي جميع أعمال الجوارح كاليد بطشًا وكتابة وكذلك عمل القدمين والعين والبطن والفرج‪،‬‬
‫وال يستثني من الجوارح هنا إال اللسان الختصاصه الكبير في الداللة على األخالق‪ ،‬ولكونه أسرع الجوارح‬
‫حركة وأكثرها إبانة عن أخالق صاحبه‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪7‬‬
‫‪8‬‬
‫‪9‬‬

‫‪ )(10‬الجواب الكافي البن القيم ص ‪.139‬‬


‫الثالث‪ :‬المظهر الخارجي‪:‬‬
‫والمراد به هيئة اإلنسان وملبسه وما يصنعه بشعر رأسه ولحيته وشاربه وما يضعه في أصابعه أو معصمه أو‬
‫رقبته ونحو ذلك مما له عالقة بالمظهر الذي يظهر به اإلنسان أمام اآلخرين‪ ،‬وهذا مؤشر على الخلق الكامن‬
‫وليس دليًال مثل الكالم والتصرفات العملية‪.‬‬
‫ومن المعلوم بداهة أن لو ذهب إنسان إلى أمير أو ملك بثياب النوم أو مالبس السباحة مثًال لطرد وعوقب؛ لما في‬
‫هذا المظهر من داللة على االستخفاف‪ ،‬ولو ذهب شاب يخطب فتاة وهو يرتدي الزي الرياضي لرفض وُو ِّبخ لما‬
‫في مظهره من داللة على ازدراء المخطوبة وأهلها‪.‬‬
‫بل إن المظهر الخارجي هو أول إشارة تفيد عن بعض أخالق صاحبه‪ ،‬وأول انطباع يرتسم في أذهان اآلخرين‬
‫عنه‪.‬‬

‫ولخطورة المظهر الخارجي ولداللته على الكامن من أخالق صاحبه (لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫المتشبهين من الرجال بالنساء‪ ،‬والمتشبهات من النساء بالرجال)(‪ ،)11‬وأخبر صلى هللا عليه وسلم أن (من تشبه‬
‫بقوم فهو منهم)(‪ ،) 12‬وحذر أهل اإلسالم من األلبسة الشاذة في لونها أو تفصيلها فقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من‬
‫لبس ثوب شهرة ألبسه هللا يوم القيامة ثوب مذلة)(‪.)13‬‬
‫ومن أوضح األدلة على أن المظهر الخارجي لإلنسان يدل على خلقه نهي النبي صلى هللا عليه وسلم عن إسبال‬
‫الرجل مالبسه إلى ما تحت الكعبين مبينًا أن هذا من الخيالء والكبر الذي يبغضه هللا تعالى‪ ،‬قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬وإياك وإسبال اإلزار فإنها من المخيلة‪ ،‬وإن هللا ال يحب المخيلة)(‪.)14‬‬

‫الرابع‪ :‬الصاحب والصديق‪:‬‬


‫هذا مؤشر على أخالق الشخص‪ ،‬إذ من المعلوم – في غالب األحوال – أن اإلنسان يصاحب من يناسبه في الطباع‬
‫واألخالق‪ ،‬أما الصداقة فال تكون وال تستمر في أكثر األحوال إال إذا توافقت أخالق الطرفين وتشاكلت طباعهما‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ :‬قل كل يعمل على شاكلته‪.)15(‬‬
‫أي كل أحد من الناس يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى من يماثله خلقًا وطبعًا‪ ،‬وكل امرئ يهفو إلى من يحبه‪،‬‬
‫فالنفوس الزكية ذات األخالق المرضية تنجذب بذاتها وهمتها وأعمالها إلى أصحاب الصفات العلية‪ ،‬والنفوس‬
‫السافلة تنجذب إلى من هو أدنى وأسفل‪ ،‬والواقع المحسوس يشهد بهذه الحقيقة‪ ،‬فصاحب النفس الشريفة ال يرضي‬
‫من األشياء واألحياء إال بأعالها وأفضلها وأحسنها عاقبة‪ ،‬بعكس صاحب النفس الهابطة فإنه يحوم حول الهابطين‬
‫ويجري مجراهم في البحث عن األقذار الخلقية كالظلم والفواحش‪ ،‬وهذا شأن كل النفوس طيبة كانت أو خبيثة أن‬
‫فيها ميًال إلى ما يناسبها ويشاكلها‪ ،‬وتعمل على طريقته التي تناسب أخالقه وطبيعته(‪.)16‬‬
‫وفي هذا المعنى قالت الحكماء (الصاحب ساحب) و (قل لي من تصاحب أقل لك من أنت)‪ ،‬وقال شاعر‪:‬‬

‫‪ )(11‬أخرجه اإلمام البخاري في صحيحه ‪.5/2207‬‬


‫‪ )(12‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ 4/44‬وسكت عنه فهو صحيح عنده‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫‪14‬‬
‫‪15‬‬
‫‪16‬‬
‫وما الرشد إال أن تصاحب من رشد‬ ‫وما الغي إال أن تصاحب غاويًا‬
‫وإن لم يكونا من قبيل وال ببلد‬ ‫ولن يصحب اإلنسان إال نظيره‬

‫وقال بعض العلماء‪( :‬إن من أعظم الدالئل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه هو االعتبار بمن يحادثه‬
‫ويوده‪ ،‬ألن المرء على دين خليله‪ ،‬وطير السماء على أشكالها تقع‪ ،‬وما رأيت شيئًا أدل على شيء – وال الدخان‬
‫على النار – مثل الصاحب على الصاحب) (‪.)17‬‬

‫‪ -3‬مصدر األخالق‪:‬‬
‫هل األخالق فطرية أم مكتسبة؟ هذا السؤال هو الذي تحدد إجابته مصدر األخالق عند الناس‪ ،‬فهناك من ذهب إلى‬
‫أن مصدر األخالق هو الفطرة التي فطر هللا الناس عليها‪ ،‬وهناك من ذهب إلى أن المجتمع هو صانع أخالق‬
‫األفراد‪ ،‬أي أن األخالق كلها مكتسبة‪.‬‬
‫وكال القولين أخذ بطرف وأهمل الطرف اآلخر‪ ،‬إذ من األخالق ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب وإيضاح ذلك‬
‫كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬هناك أدلة تدل على أن بعض األخالق فطري خلقه هللا في نفس اإلنسان ومنها قول النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫ألشج عبدالقيس‪( :‬إن فيك خصلتين يحبهما هللا‪ :‬الحلم واألناة)(‪ ،)18‬وفي سياق آخر أن األشج قال‪( :‬يا رسول هللا أنا‬
‫أتخلق بهما أم هللا جبلني عليهما؟ قال‪ :‬بل هللا جبلك عليهما‪ ،‬قال‪ :‬الحمد هلل الذي جبلني على خلتين يحبهما هللا‬
‫ورسوله) (‪.)19‬‬
‫ومن األدلة على فطرية بعض األخالق حديث النواس بن سمعان قال‪ :‬سألت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن‬
‫البر واإلثم‪ ،‬فقال‪( :‬البر حسن الخلق‪ ،‬واإلثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)(‪.)20‬‬
‫ومما استدل به بعضهم على فطرية األخالق األحاديث الواردة في الفطرة وبعض اآليات كقوله تعالى‪ :‬ونفس‬
‫وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‪ ،)21( ‬ونحو ذلك من النصوص التي تدل على المعنى داللة اقتضاء أو‬
‫لزوم‪.‬‬
‫ومن هذه النصوص نستنتج أن الفطرة من مصادر األخالق‪ ،‬بمعنى أن هللا أوجد في النفس اإلنسانية أخالقًا في‬
‫أصل خلقتها‪ ،‬وهي توجد مع اإلنسان منذ والدته وترسخ وتقوى بما يناسبها من أعمال كسبية‪ ،‬وتضعف وتتالشى‬
‫باإلهمال‪ ،‬أو باكتساب ما يضادها من أخالق‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن األدلة على أن بعض األخالق مكتسب‪:‬‬
‫أ‪ -‬الدعاء النبوي في استفتاح الصالة‪ ،‬ومنه قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اللهم أهدني ألحسن األعمال وأحسن‬
‫األخالق‪ ،‬ال يهدي ألحسنها إال أنت‪ ،‬وقني سيئ األعمال وسيء األخالق ال يقي سيئها إال أنت)(‪.)22‬‬
‫ولو كانت كل األخالق فطرية موجودة في النفس لما دعا النبي صلى هللا عليه وسلم ربه أن يهديه لتحصيل‬
‫األخالق الحسنة وأن يقيه األخالق السيئة‪.‬‬
‫‪ )(17‬المصدر السابق ‪.108‬‬
‫‪ )(18‬أخرجه مسلم من حديث عبدهللا بن عباس ‪.1/48‬‬
‫‪ )(19‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ 4/357‬وسكت عنه‪ ،‬وأخرجه أحمد في مسنده ‪ 3/22‬و ‪.4/205‬‬
‫‪ )(20‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪.4/1980‬‬
‫‪ )(21‬الشمس‪.8-7 ،‬‬
‫‪ )(22‬أخرجه النسائي من حديث جابر بن عبدهللا ‪ ،2/129‬انظر صحيح النسائي لأللباني ‪.895‬‬
‫ب‪ -‬ومثل ذلك دعاؤه صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اللهم إني أعوذ بك من منكرات األخالق واألعمال واألهواء)(‪،)23‬‬
‫فهذه استعاذة من أخالق يمكن أن تحصل باالكتساب كما تحصل األعمال وكما تحدث األهواء‪.‬‬
‫جـ‪ -‬المتأمل في طباع الناس وأخالقهم وخاصة األطفال يرى أن هناك جملة من األخالق الحسنة أو الرديئة‬
‫موجودة فيهم خلقة‪ ،‬وال يوجد دليل على أنهم تعلموها من غيرهم‪ ،‬ويمكن إدراك هذا المعنى بجالء عندما تتأمل‬
‫حال طفلين شقيقين أو توأمين نشاءا في بيئة واحدة وفي ظروف متطابقة‪ ،‬وتجد أحدهما حاد الطبع سريع الغضب‬
‫واآلخر هادئ الطبع فيه أناة‪ ،‬أو أحدهما كريم سخي‪ ،‬واآلخر شحيح ممسك‪.‬‬
‫‪ -3‬اعتبار بعض األخالق جبلي وبعضها مكتسب يتوافق مع الواقع والمشاهد من أحوال الناس‪ ،‬وبه يحصل إعمال‬
‫جميع األدلة الشرعية‪ ،‬قال ابن القيم بعد أن أورد حديث أشج عبدالقيس السابق‪( :‬فأخبر النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫أن هللا جبله على الحلم واألناة‪ ،‬وهما من األفعال االختيارية‪ ،‬وإن كانا خلقين قائمين بالعبد‪ ،‬فإنه األخالق ما هو‬
‫كسبي ومنها ماال يدخل تحت الكسب‪ ،‬والنوعان قد جبل هللا العبد عليهما وهو سبحانه يجب ما ُجبل عبده عليه من‬
‫محاسن األخالق‪ ،‬ويكره ما جبله عليه من مساوئها فكالهما بجبله وهذا محبوب له وهذا مكروه)(‪.)24‬‬
‫‪ / 4‬أن األخالق الفطرية كالحلم واألناة والكرم والشجاعة تنمو بتأكيدها وتثبيتها بما يناسبها من االكتساب‪ ،‬وتذوي‬
‫باإلهمال أو باالكتساب المضاد‪ ،‬فالمفطور – مثًال – على األناة تزداد هذه الخصلة األخالقية لديه باالكتساب‪ ،‬وقد‬
‫تضعف إذا أهملها‪ ،‬أو اكتسب ما ينافيها كالعجلة والطيش والتسرع‪.‬‬
‫بقي أن يشار هنا إلى أن األخالق الجبلية أو المكتسبة لها تعلق بمكونات اإلنسان األساسية‪ ،‬فمنها ما له عالقة‬
‫باللسان كالصدق والكذب‪ ،‬ومنها ما هو متعلق بالعقل واإلدراك كالفهم والحكمة والسفه والحماقة‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫متعلق بالجوارح كالخيالء والرشوة والعنف واإليثار والرفق‪.‬‬

‫‪ -4‬مكانة األخالق‪:‬‬
‫األخالق هي عنوان أية أمة‪ ،‬وهي أساس الحضارة وقاعدة التنمية اإليجابية الشاملة‪ ،‬وركن السعادة األخروية بعد‬
‫اإليمان باهلل تعالى‪ ،‬وهي الرابط االجتماعي الحقيقي الذي تتحقق به الكثير من األهداف العظيمة‪ ،‬واألدلة على هذا‬
‫المعنى من القرآن والسنة كثيرة جدًا وليس المقصود هنا سرد هذه األدلة فكثير منها معروف مشهور‪ ،‬ولكن‬
‫المقصود بهذا العنوان اإلجابة عن سؤالين مهمين هما‪:‬‬
‫‪ -1‬هل األخالق في ذاتها ثابتة أم نسبية؟‬
‫‪ -2‬هل األخالق نفعية أم أصيلة الزمة في كل األحوال؟‬
‫وتنبع أهمية هذين السؤالين من كونهما جزءًا أساسيًا من أية نظرية أخالقية‪ ،‬ويتبين ذلك – مثًال – من خالل‬
‫معرفة الفلسفة الغربية المتعلقة باألخالق‪.‬‬
‫السؤال األول‪ :‬متعلق بما يسميه الغرب وأتباعهم بنسبية األخالق‪ ،‬بمعنى أن األخالق الحسنة عندهم ليست ثابتة‬
‫وال مستمرة في كل األحوال‪ ،‬فقد يكون خلق العدل – مثًال – جيدًا ومطلوبًا في بعض األحوال‪ ،‬ثم يمكن أن يصبح‬
‫في أحوال أخرى سيئًا ومرفوضًا‪ ،‬فحسن العدل وقبحه متعلق باألوضاع والظروف التي يطبق فيها‪ ،‬هذه هي‬
‫النسبية األخالقية عندهم‪ ،‬ولذلك شاع في تعامالتهم مع غيرهم ما يعرف اليوم بالمكاييل المزدوجة‪ ،‬وهو‬

‫‪ )(23‬أخرجه الترمذي في سننه ‪ ،5/575‬وهو في صحيح الجامع برقم‪.1298 :‬‬


‫‪ )(24‬شفاء العليل ص ‪.129‬‬
‫الموصوف في القرآن بـ (التطفيف) قال تعالى‪ :‬ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم‬
‫أو وزنوهم يخسرون‪.)25(‬‬
‫أما في اإلسالم فإن األخالق في ذاتها ثابتة مستقرة‪ ،‬فخلق العدل محمود ومطلوب في كل حال ومع الصديق‬
‫والعدو‪ ،‬ومع المحالف والمخالف‪ ،‬ومع القريب والبعيد‪ ،‬وخلق الظلم مذموم في كل حال‪ ،‬وال يصح في اإلسالم أن‬
‫يكون العدل محمودًا مرة ومذمومًا مرة أخرى‪ ،‬وبهذا تتبين مكانة األخالق في اإلسالم‪ ،‬ويتضح الفرق الكبير بين‬
‫هدي اإلسالم في األخالق والفلسفة المادية الجائرة المنحازة‪.‬‬
‫أما السؤال الثاني‪ :‬فهو متعلق بما يطلق عليه الغربيون (الفلسفة البرجماتية) أي النفعية‪ ،‬والتي تقوم على قاعدة‬
‫(الغاية تبرر الوسيلة) وقاعدة (كل ما يحقق المنفعة ويوصل إليها فهو مشروع) فإذا كانت ممارسة خلق من‬
‫األخالق تؤدي إلى تحصيل مصلحة شخصية أو سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك فال بد من ممارسة هذا الخلق‪،‬‬
‫وإن كانت ممارسة هذا الخلق ال تجلب منفعة فهو خلق غير عملي‪ ،‬والمضمون الكلي الكامن في جعل األخالق‬
‫نفعية يتمحور في أن األخالق مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة وتحصيل المصلحة‪ ،‬فإن لم تحقق األخالق منفعة فال‬
‫فائدة منها وال جدوى من تطبيقها‪ ،‬فدعم الظالم المعتدي كاليهود في فلسطين يعتبر عند السياسيين الغربيين عمًال‬
‫جيدًا ألنه يحقق لهم مصالح في بالد المسلمين‪ ،‬ومنع الظالم المعتدي في صربيا يعتبر عمًال حسنًا ألنه أيضًا يحقق‬
‫لهم منافع في أوروبا‪ ،‬هذا على المستوى العام‪ ،‬أما على المستوى الشخصي فيوجد منهم من يعتبر قتل زوجته –‬
‫بطريقة ال ينكشف فيها – عمًال مناسبًا لحفظ ثروته‪ ،‬وذلك حين يبغضها وال يستطيع تطليقها ألنها ستحصل –‬
‫قضاء – على نصف ثروته‪ ،‬وما دامت الغاية تبرر الوسيلة فليتخلص منها بأسلوب يبعد عنه الشبهة‪ ،‬وشاعت من‬
‫عندهم قاعدة جائرة تقول بأن القانون ال يحمي المغفلين‪ ،‬وتلقفها بعض أبناء المسلمين ورددوها ‪،‬على حين غفلة‬
‫منهم عن دينهم القائم على العدل واإلحسان ونصرة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين ال يجدون‬
‫حيلة وال يهتدون سبيًال‪ ،‬وأمثلة األخالق النفعية في الحياة المادية عديدة‪ ،‬لم تستطع المحاكم وال ما يسمى العقد‬
‫االجتماعي القضاء عليها ألنها منغرسة في قلب المفاهيم المادية ونابعة منها‪.‬‬
‫أما في دين اإلسالم فإن األخالق الحسنة مطلوبة محمودة مثاب عليها‪ ،‬واألخالق القبيحة مرذولة مذمومة معاقب‬
‫عليها‪ ،‬سواء تحققت منها منفعة دنيوية أو لم تتحقق‪ ،‬ولذلك جاء أمر هللا بالعدل حتى مع أشد الشائنين كما قال‬
‫تعالى‪ :‬وال يجرمنكم شنآن قوم على أال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‪.)26(‬‬
‫وجاء اإللزام بقول الحق ولو كان فيه ضرر ألقرب األقربين‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين‬
‫بالقسط شهداء هلل ولو على أنفسكم أو الوالدين أو األقربين‪.)27(‬‬
‫ولعل من أبلغ ما يدل على مكانة األخالق وعظم درجتها وأهمتها الكبرى في دين اإلسالم قول النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪( :‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق)(‪.)28‬‬
‫والمراد باألخالق هنا أوسع مما هو متعارف عليه بين الناس؛ حيث أن األخالق تشتمل على جميع أنواع‬
‫(المعاملة)‪:‬‬
‫‪ -1‬معاملة العبد مع ربه بالحياء منه واألدب معه والشكر له وغير ذلك‪ ،‬ثم‪.‬‬
‫‪ -2‬معاملته مع نفسه بالعفة والنزاهة والتكريم وعلو الهمة وغير ذلك‪ ،‬ثم‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫‪26‬‬
‫‪27‬‬
‫‪28‬‬
‫‪ -3‬معاملته مع الخلق‪ ،‬باألمانة والعدل والمسئولية والتواضع وغير ذلك‪.‬‬
‫وبهذا يمكننا فهم كالم النبي صلى هللا عليه وسلم في الحديث السابق الذي بين فيه الهدف من بعثته عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬ويتضح لنا عظم مكانة األخالق‪.‬‬

You might also like