العلاقة مع الغير

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫العالقة مع الغير‬

‫" إن القلق هو ما يرسم العالقة مع الغير "‬


‫أوضح(ي) مضمون القولة‪ ،‬وَََبِّين(ي) أبعادها‬
‫‪:‬مطلب الفهم‪1-‬‬
‫يضعنا مضمون هذا القول‪ ،‬أمام موضوع الغير‪ ،‬وهو من المواضيع التي استأثرت باهتمام الفلسفات الحديثة منها‬
‫والمعاصرة‪ ،‬وخاصة فلسفات الوعي‪ ،‬التي أكدت معظمها على أن األنا ال يمكن أن يستكمل وعيه بذاته إال باإلنفتاح على‬
‫الغير والتعرف عليه‪ ،‬وإقامة عالقة معه‪ ،‬لكن األنا‪ ،‬وفي محاولتها للتواصل مع الغير‪ ،‬وتحقيق الغايات المنشودة معه‪،‬‬
‫تصطدم بمفارقات يكشف عنها واقع الغير‪ ،‬فهو تارة يكشف عن عالم من السعادة والطمأنينة واالرتياح‪ ،‬وتارة أخرى‪،‬‬
‫يكشف عن عالم من القلق والتوثر والمعاناة‪ ،‬مما يجعل األنا في حيرة من أمرها‪ ،‬بين اإلندفاع نحو الغير وربط عالقات‬
‫معه‪ ،‬أو اإلنعزال عنه‪ ،‬وفي ذلك قضاء على هويتها كشخص‪ ،‬هذه المفارقة واإللتباس الذي يكشف عنها الغير‪ ،‬هو ما حاول‬
‫واضع القولة إثارته بصيغة " هل يمكن اعتبار الصداقة أساس العالقة مع الغير ؟ "‪ ،‬وتساؤل من هذا النوع‪ ،‬يجعل من‬
‫‪:‬موضوع العالقة مع الغير‪ ،‬موضوعا إشكاليا‪ ،‬يحمل مفارقات يمكن تبينها في التساؤل التالي‬
‫هو " ‪Jean Paul Sartre ( -1905 -1980)،‬إذا كان الغير وكما عَّرفه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر‬
‫اآلخر‪ ،‬األنا الذي ليس أنا‪ ،‬وإذا قبلنا بضرورة وجود الغير ومعرفته المعرفة اليقينية‪ ،‬فكيف ينبغي أن ُتْبَنى العالقة معه ؟‬
‫فهل ينبغي بناء هذه العالقة على التفاهم والتعاون والتسامح‪ ،‬أم على الصراع واإلقصاء والتشييء ؟‬
‫‪:‬مطلب التحليل‪2-‬‬
‫يحيل مضمون القولة على تصور معين للعالقة مع الغير‪ ،‬تصور يراهن على العالقة السلبية مع الغير‪ ،‬يبدو هذا األمر‬
‫واضحا من خالل تفكيك داللة المفاهيم واأللفاظ الواردة في هذا القول‪ ،‬والذي يفتح بأداة توكيد "إن "‪ ،‬فهي تؤكد على‬
‫أطروحة ترى في القلق أساس للعالقة مع الغير‪ ،‬و" القلق " حالة نفسية‪ ،‬تحيل على كل معاني السلب‪ ،‬من معاناة وألم‬
‫وتوثر‪ ،‬فمضمون القولة إذن‪ ،‬يؤكد على العالقة السلبية مع الغير‪ ،‬وهو الموقف الذي نلمسه لدى مجموعة من المفكرين‪،‬‬
‫الذي ذهب في ‪ Jean Paul Sartre ( -1905 -1980)،‬نذكر منهم الفيلسوف واألديب الفرنسي المعاصر جون بول سارتر‬
‫إلى التأكيد أوال على ضرورة الغير لوجود األنا‪ ،‬وهو األمر ‪ L'être et Le Néant"،‬مؤلف له بعنوان‪ " :‬الوجود والعدم‬
‫الذي يبدو في قوله‪ " :‬الغير هو الوسيط الذي ال غنى عنه بيني وبين نفسي "‪ ،‬وعبارة " ال غنى عنه " تعني ضرورة الغير‬
‫لتشكيل هوية األنا‪ ،‬لدرجة يصعب معها التمييز بين األنا والغير‪ ،‬لكن هذه الضرورة‪ ،‬ال تلغي سلبيات الغير‪ ،‬فهو بنظراته –‬
‫‪ La Honte ،‬يقول سارتر‪ -‬يقيد تصرفاتنا ويرصد حركاتنا‪ ،‬بل يخلق لدى األنا حاالت نفسية متوترة‪ ،‬أبرزها حالة الخجل‬
‫وفي ‪ Ses Regards،‬وهذه الحالة السيكولوجية التي تنتاب األنا أحيانا‪ ،‬ال يمكن الشعور بها إال بحضور اآلخر ونظراته‬
‫في تركيبه األول هو خجل من الذات أمام اآلخر‪ ،‬فأنا خجول من نفسي من حيث ‪ la Honte‬هذا يقول سارتر‪ ":‬إن الخجل‬
‫أتبدى للغير"‪ ،‬ويضيف موضحا‪ ،‬قد تصدر عني حركة غير الئقة‪ ،‬وهذه الحركة تلتصق بي‪ ،‬ال أحكم عليها وال ألومها‪ ،‬لكن‬
‫بمجرد ما أشاهد شخصا يرمقني‪ ،‬ويتبين لي أنه اكتشف ما في حركتي هذه من سوقية‪ ،‬فأشعر بحالة الخجل تدب في‬
‫أوصالي‪ ،‬ال أجد لها مخرجا إال بالهروب والتستر عن نظرات الغير التي تجمد حركاتي‪ ،‬فالغير إذن له تأثير كبير على كل‬
‫مكونات وجودي كذات‪ ،‬فعندما يراني فإنه يصبح خارجا عني ومنفلتا مني‪ ،‬ويصبح قادرا على تأويل سلوكي ومنحه معنى‪،‬‬
‫يمكن أن يكون مخالفا للمعنى الذي أتصوره أنا‪ ،‬فالحكم علي من الخارج من طرف اآلخر‪ ،‬يصبح جزءا من الحكم الذي‬
‫‪ ( Le‬أصدره على نفسي" أنا خجول من نفسي من حيث أتبدى لآلخر"‪ ،‬فالرابطة بين األنا والغير‪ ،‬هو قدرته على النظر إلَّي‬
‫فيحولني إلى موضوع‪ ،‬فأصبح موجودا للغير أتحجر تحت نظرته‪ ،‬ومن هنا ينشأ جزعي وقلقي على نفسي‪ ،‬ألن ) ‪Regard‬‬
‫إمكانياتي مهددة من طرفه‪ ،‬فهو بنظرته إلي يشلني وأنا بدوري أنظر إليه وأشله وأحيله كذلك إلى موضوع‪ ،‬فهناك إذن هوة‬
‫ال تردم بين األنا واآلخر‪ ،‬يستحيل معها كل التواصل‪ ،‬ألن كل منهما ُيشِّي ء اآلخر ويسلب منه مقوماته كوعي وحرية‬
‫الغير إذن‪ ،‬تضايق حرية الذات وتنزل بها إلى مستوى األشياء‪ ،‬يقول سارتر في ‪ Les regards‬وتلقائية وفرضية‪ ،‬فنظرات‬
‫هذا الصدد‪ " :‬أنا في الحديقة العامة قرب ممشى محفوف باألزهار‪ ،‬أتأمل الموجود ألجلي‪ ،‬هاهو زائر آخر يأتي ويقف‬
‫ليتأمل المنظر نفسه والذي يستغرق تأمالتي‪ ،‬لقد أصبح هذا المنظر موجودا من أجل اآلخر‪ ،‬فالكون هجرني ليصبح ملكا‬
‫لسواي‪ ،‬وال يكفي اآلخر بسلب الكون مني‪ ،‬بل إنه يحاول أن يسلبني محتوى صيرورتي وحريتي أي وجودي الذي أحاول‬
‫أن أكونه"‪ ،‬معنى هذا هو أنني حين أكون وحدي أتصرف بحرية‪ ،‬وما أن أنتبه إلى أن إنسانا آخر يراقبني حتى تتغير‬
‫األمور‪ ،‬حيث أن نظرة الغير قد تسبب لي شعورا بالضيق وتجمد إمكانياتي وتفقد ذاتي حريتها‪ ،‬بهذه األمثلة الواقعية‪ ،‬يحاول‬
‫‪ Huis‬سارتر أن يبين أن العالقة مع الغير ليست بالعالقة اإليجابية‪ ،‬وهو األمر دفع سارتر بأن يختم مسرحته " جلسة مغلقة‬
‫عبارة تجسد بوضوح ‪، L’Enfer, c’est les autres "،‬بعبارة مشهورة لديه‪ ،‬وهي‪ " :‬الجحيم هم اآلخرون ‪clos"،‬‬
‫‪.‬موقف سارتر من العالقة مع الغير‪ ،‬التي هي عالقة سلبية‬
‫يتبين إذن من هذا التحليل لموقف سارتر من العالقة مع الغير‪ ،‬وهو الموقف المعبر عنه في القولة‪ ،‬أن العالقة بين األنا‬
‫والغير هي عالقة سلبية‪ ،‬إنها من النوع الجحيم‪ ،‬فنظرات الغير تسلب األنا حريتها‪ ،‬وتجعلها في حالة قلق ومعاناة وألم‪ ،‬لكن‬
‫هل يمكن القبول بهذا التصور كحل إلشكالية العالقة مع الغير ؟ أ فعال أن العالقة مع الغير هي عالقة سلبية‪ ،‬وأن نظرات‬
‫الغير هي من نوع الجحيم‪ ،‬أم أن األمر عكس ذلك ؟‬
‫‪:‬مطلب المناقشة‪3-‬‬
‫لقد لقي هذا الموقف الفكري لساتر‪ ،‬والذي يجعل من القلق أساس العالقة مع الغير‪ ،‬تأييدا من طرف الفيلسوف األلماني‬
‫فقد أكد هو أيضا على العالقة السلبية مع الغير‪ ،‬المؤسسة على الصراع‪ ،‬وهو ‪، F.Hegel (1770-1831)،‬فردريك هيجل‬
‫فينومينولوجيا الروح"‪ ،‬حيث ََبًَّين أن الصراع "‪:" La phénoménologie de L’esprit‬األمر الذي أوضحه في مؤلفه‬
‫هو ما يحكم العالقة مع الغير‪ ،‬إنه صراع من أجل انتزاع االعتراف بالذات كذات حرة‪ ،‬ذلك أن انبثاق األنا من حيث هي‬
‫وعي بالذات‪ ،‬ال يمنح من طرف الغير بشكل سلمي‪ ،‬وإنما ينتزع عبر صراع‪ ،‬يخاطر كل من الوعيين( األنا والغير) بحياته‬
‫ويسعى إلى موت اآلخر‪ ،‬دون أن يكون في وسع " األنا " أن تنكر حق " اآلخر " في البقاء‪ ،‬ألنها لو فعلت ذلك لما‬
‫استطاعت أن تظفر منه باإلقرار المنشود أو االعتراف المطلوب‪ ،‬ويقدم هيحل كنموذج لهذا الصراع مثال " جدلية العبد‬
‫والسيد‪ ،‬التي ينتزع السيد من خاللها اعتراف العبد له بالسيادة‪ ،‬و أيضا ينتزع من خاللها العبد اعتراف السيد له بالسيادة‪،‬‬
‫‪،‬حين يضعف السيد ويستكين للراحة‪ ،‬هكذا يحتل الصراع ـ في نظر هيجل ـ صلب العالقة بين األنا والغير‬
‫لقد تعرض هذا الموقف السلبي من العالقة مع الغير‪ ،‬إلى انتقاد مجموعة من المفكرين‪ ،‬رأوا في العالقة مع الغير عالقة‬
‫‪ Aristote‬إيجابية وليست سلبية‪ ،‬واعتبروا الصداقة أساس هذه العالقة‪ ،‬نذكر من هؤالء الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو‬
‫الذي منح الصداقة أهمية كبرى في حياة اإلنسان‪ ،‬إنها في نظره تجلي من تجليات التعاطف مع ‪)،‬ق‪.‬م ‪( 384-322‬‬
‫‪: " Ethique à‬اآلخرين‪ ،‬أو بتعبيره " إحدى الحاجات األشّد ضرورة للحياة "‪ ،‬وهو األمر الذي أكده في مؤلفه‬
‫األخالق إلى نيقوماخوس "‪ ،‬حيث اعتبر الصداقة الماهية الحقيقية التي تربط اإلنسان باآلخرين‪ ،‬مهما كان ‪Nicomaque‬‬
‫سن هذا اإلنسان ومرتبته االجتماعية‪ ،‬وما يدعم هذا القول بالنسبة ألرسطو هو تأسيس الصداقة على مفهوم " الفضيلة "‪،‬‬
‫والفضيلة قيمة أخالقية ومدنية‪ ،‬تنبي على محبة الخير والجمال لذاته أوال ثم لألصدقاء ثانيا‪ ،‬إنها الوسط الذهبي الذي ال يمنع‬
‫تحقق المنفعة والمتعة‪ ،‬لذا فهي المالذ الوحيد الذي يمكن االعتصام به‪ ،‬في حالة البؤس و الشدائد المختلفة‪ ،‬وفي هذا القول‬
‫تأكيد على العالقة اإليجابية مع الغير‪ ،‬نفس التصور اإليجابي للعالقة مع الغير المؤسس على الصداقة كفضيلة‪ ،‬نلمسه مع‬
‫‪Doctrine de La vertu "،‬في مؤلفه‪ " :‬مذهب الفضيلة ‪ E. Kant ( 1724-1804 )،‬الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط‬
‫حيث أكد هو أيضا على أهمية الصداقة كفضيلة‪ ،‬في تأسيس عالقة إيجابية مع الغير‪ ،‬صداقة تتعالى عن كل ما هو نفعي‪،‬‬
‫وَتنُش ُد الشخص في ذاته‪ ،‬بغض النظر عن انتماءاته العرقية والطبقية والدينية‪ ،‬استجابة لنداء الواجب األخالقي الكوني الذي‬
‫يقوم على القاعدة األخالقية التالية‪ " :‬اعمل دائما‪ ،‬حيث تعامل اإلنسانية في ذاتك وذات اآلخرين‪ ،‬ال كوسائل وإنما كغايات‬
‫"‪ ،‬وانطالقا من هذا التصور األخالقي للشخص الذي توجهه اإلرادة الطيبة‪ُ ،‬يَع ِّر ف كانط الصداقة باعتبارها "اتحاد بين‬
‫شخصين يتبادالن نفس مشاعر الحب و االحترام"‪ ،‬إنها صورة مثالية‪ ،‬وتحمل غاية أخالقية طيبة‪ ،‬ألنها تستهدف تحقيق‬
‫الخير للصديقين معا‪ ،‬ومن هنا كانت واجبا أخالقيا يلزم على كل إنسان السعي نحو تحقيقه‪ ،‬وهذا الواجب يستدعي المساواة‬
‫بين مشاعر الحب من جهة‪ ،‬باعتبارها قوة جذب وتجاذب بين الصديقين‪ ،‬ومشاعر االحترام من جهة أخرى‪ ،‬باعتبارها قوة‬
‫دفع وتباعد بينهما‪ ،‬لذلك يجب‪ -‬يقول كانط‪ -‬أن تكون مشاعر الصداقة المتبادلة بين الصديقين‪ ،‬متعالية عن كل ما هو نفعي‬
‫آني مباشر‪ ،‬صدى هذا القول الكانطي األخالقي لمفهوم الصداقة‪ ،‬نجده يتردد في العصر المعاصر‪ ،‬بشكل أكثر واقعية مع‬
‫في مؤلف‪ " :‬ديريدا وآخرون‪Hannah Arendt )1906-1975(، ،‬الباحثة األمريكية‪ ،‬ذات األصل األلماني حنا أراندت‬
‫المصالحة والتسامح وسياسة الذاكرة "‪ ،‬فهي تمنح الصداقة معاني الحب والصفح واالحترام‪ ،‬وهذه الصداقة ينبغي أن تكون‬
‫بال حميمية وال قرب‪ ،‬إنها تقدير للشخص من خالل المسافة التي يضعها العالم بين األنا والغير‪ ،‬وهذا التقدير ال ينبغي أن‬
‫يخضع ـ في نظر حنا آراندت ـ لمزايا يمكن أن تثير اإلعجاب‪ ،‬وال ألعمال يمكن أن تحظى باإلجالل‪ ،‬فاالحترام مثال كشكل‬
‫من أشكال الصداقة‪ ،‬ينبغي أن يكون واجبا في حق الجميع‪ ،‬وليس في حق من ينالون اإلعجاب واإلجالل‪ ،‬هكذا تنتهي حنا‬
‫آراندت‪ ،‬إلى القول بضرورة الصداقة مع الغير‪ ،‬المؤسسة على الحب واالحترام والصفح‪ ،‬وهذا ال يمكن أن يتم‪ ،‬إال باالنفتاح‬
‫على الغير‪ ،‬ألنه ـ تقول حنا آراندت ـ بتقوقعنا على ذواتنا‪ ،‬لن نستطيع الصفح لبعضنا البعض عن أتفه السيئات‪ ،‬هكذا يكون‬
‫كل من أرسطو وكانظ وحنا أراند‪ ،‬قد رسموا عالقة إيجابية مع الغير مؤسسة على مفهوم الصداقة‪ ،‬لكن هذه العالقة‬
‫اإليجابية مع الغير ال يمكن أن تكتمل‪ ،‬إال بانفتاح األنا على الغير الغريب‪ ،‬المتمثل في األجنبي الدخيل أو المهاجر‪،‬‬
‫‪ Julia Kristeva‬والمختلف ثقافيا أو دينيا‪ ،‬أو عرقيا أو سياسيا‪ ،‬وهو األمر الذي نَّبهْت إليه الباحثة والناقدة األدبية البلغارية‬
‫بقولها ‪ " :‬ليس الغريب‪-‬الذي هو اسم مستعار للحقد ولآلخر‪ -‬هو ذلك ‪ : " Etrangers à nous-mêmes "،‬في كتابها‬
‫الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها‪ ،‬وال ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه إلعادة السلم إلى الجماعة‪ ،‬إن الغريب‬
‫يسكننا على نحو غريب‪ ،‬إنه القوة الخفية لهويتنا والفضاء الذي ينسف بيتنا‪ ،‬والزمان الذي يتبدد فيه وفاقنا وتعاطفنا‪ ،‬ونحن‬
‫إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته‪ ،"...‬فالغير الغريب إذن كما حددته كريستيفا ليس ذلك القادم‬
‫من الخارج والغريب عن الجماعة‪ ،‬الذي يهدد تماسكها وانسجامها‪ ،‬ذلك أن وحدة الجماعة ليست في الواقع سوى مظهر عام‬
‫عندما ندقق فيها‪ ،‬وينكشف لنا أن الجماعة تحمل في ذاتها بحكم اختالفاتها وتناقضاتها الداخلية‪ ،‬غريبا قبل أن ينفذ إليها‬
‫غريب أجنبي‪ ،‬إن فكرة الغريب تدل‪ ،‬حسب كريستيفا‪ ،‬على غياب التمتع بمواطنة اإلنسان داخل وطنه‪ ،‬أليس المجنون‬
‫غريب جماعته؟ أليس المهمش كذلك؟ أليس ضحايا انتهاكات حقوق اإلنسان غرباء أوطانهم؟‪...‬إن هذه الشرائح المنسية هي‬
‫الغريب الذي يجب الكشف عنه في ذوات المواطنين‪ ،‬الذين يعتقدون أنهم يتمتعون بجميع شروط المواطنة‪ ،‬و أخيرا أليس‬
‫الغريب تلك النوازع و الميوالت العنصرية‪ ،‬واإلثنية و القبلية التي تشكل أنا آخر داخل األنا‪ ،‬و تجعل من الصعب إقامة‬
‫عالقة مع الغير‪ ،‬هكذا تنتهي كريستيفا إلى التأكيد على أن العالقة اإليجابية مع الغير‪ ،‬ال ينبغي أن تقف عند حدود الغير‬
‫‪.‬القريب أو الصديق‪ ،‬وإنما ينبغي أن تتجاوزها إلى الغير البعيد أو الغريب‬
‫‪:‬مطلب التركيب‪4 -‬‬
‫يتبين من تحليل ومناقشة الموقف المعبر عنه في القولة‪ ،‬أن هناك تباينا في فهم مسألة العالقة مع الغير‪ ،‬فهناك من ذهب إلى‬
‫تأكيد الطابع اإليجابي لهذه العالقة‪ ،‬وهناك من ذهب عكس ذلك‪ ،‬إلى التنصيص على العالقة السلبية مع الغير‪ ،‬المؤسسة‬
‫على الصراع والتشييئ‪ ،‬لكن رغم المبررات التي يقدمها أصحاب القول بالعالقة السلبية مع الغير‪ ،‬فإن ما يمكن تأكيده في‬
‫هذا المجال‪ ،‬هو أن العالقة مع الغير يجب أن تكون إيجابية‪ ،‬لما لهذا الغير من أهمية قصوى في تشكيل هوية األنا كشخص‪،‬‬
‫وفي غيابه تعيش األنا عزلة قاتلة‪ ،‬لذا ال بد من رسم عالقة إيجابية مع الغير‪ ،‬سواء كان هذا الغير قريبا منا أو غريبا عنا‪،‬‬
‫وال يمكن بالتالي القبول بحكم الفيلسوف الفرنسي سارتر على الغير بأنه جحيم‪ ،‬تَح َِّّو ل نظراته األنا إلى موضوع‪ ،‬كما تحِّو ل‬
‫نظرات األنا الغير إلى موضوع‪ " ،‬إال إذا كانت نظرة بعضنا إلى بعض ال إنسانية‪ ،‬وإال إذا شعر كل منا بأن أفعاله‪ ،‬بدال من‬
‫أن تتقبل وتفهم‪ ،‬تخضع للمالحظة مثل أفعال حشرة‪ ،‬كما قال بذلك الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي‪ ،‬كما أنها ليست من نوع‬
‫الصراع‪ ،‬كما قال بذلك هيجل‪ ،‬ألن الصراع بين البشر‪ ،‬ال يفضي إال إلى الهدم والفناء‪ ،‬فالعالقة اإليجابية مع الغير‪ ،‬هي ما‬
‫ينبغي أن يطبع الوجود اإلنساني‪ ،‬ألن هذا النوع من العالقة‪ ،‬هو الذي يضمن استمرارية هذا الوجود‪ ،‬وهذه العالقة ال ينبغي‬
‫أن تقف عند حدود الغير الصديق‪ ،‬بل ينبغي أن تمتد إلى الغير الغريب‪ ،‬حقا أن الصداقة تعتبر مختبرا حقيقيا لقدرات البشر‬
‫على الوفاء والصدق‪ ،‬لكن يبقى هذا المفهوم غير ذي معنى إذا ما انحصر في نطاق الغير القريب‪ ،‬وُأقِص ِِى ما عداه من‬
‫األغيار‪ ،‬أي الغير الغريب‪ ،‬مع العلم أن الموقف إزاء ما هو غريب‪ ،‬هو أيضا مختبر حقيقي إلمكانيات البشر على تقبل‬
‫وتفهم المخالف لنا في العقيدة والمأكل والمشرب‪ ،‬إنه اختبار حقيقي لقبول االختالف‪ ،‬أي قبول ما يفرق بين البشر‪ ،‬وليس‬
‫فقط لما يجمع بينهم‪ ،‬لذا فالغير سواء كان فردا أو جماعة أو ثقافة‪ ،‬صديقا أو غريبا‪ ،‬قريبا منا أو بعيدا عنا‪ ،‬هو جزء ال‬
‫ينفصل عن الذات‪ ،‬يمنحها الوجود والتحقق‪ ،‬لهذا ال بد من إقامة عالقة تواصل معه‪ ،‬عالقة تقوم على أساس االعتراف‬
‫المتبادل‪ ،‬مع نبذ كل أشكال التمييز واإلقصاء والعنف‪ ،‬ألن الغير في نهاية المطاف‪ ،‬ما هو إال أنا آخر بشري مثلنا‪ ،‬ووجوده‬
‫هو نداء للغير من أجل تجاوز النقص الذي يعتري األنا‪ ،‬ونداء له من أجل حوار حضاري مبني على االحترام المتبادل‬
‫‪.‬والتسامح‪ ،‬بعيدا عن كل أنواع الهيمنة والتسلط‬

‫‪5252‬‬
‫‪4 commentaires‬‬
‫‪15 partages‬‬
‫‪J’aime‬‬
‫‪Commenter‬‬
‫‪Partager‬‬

You might also like