Professional Documents
Culture Documents
- سيكولوجية وإبستيمولوجية القانون الجنائي المغربي
- سيكولوجية وإبستيمولوجية القانون الجنائي المغربي
- سيكولوجية وإبستيمولوجية القانون الجنائي المغربي
د .سعد بن عجيبة
ال شك أن الق انون الجنائي بمفهومه الواسع كان وال زال يعد في الوقت الراهن من المقومات األساسية في بنية
المنظومة التشريعية برمتها ،ومن المسلم به أيضا أن تقدم المجتمع وتطوره نحو األفضل جعل منه عند المهتمين
بالفقه والق انون الضمانة األساسية لحقوق الدولة واألفراد ،ذلك أن الق انون الجنائي من موقعه اإلستراتيجي
داخل هذه المنظومة نرى أنه يتحمل العبء األكثر ثق ال في صياغة الوصف الشامل للنظام العام وفهمه وضبطه في
أن واحد .3فمن الناحية السيكولوجية يعد هذا الفرع من الق انون حلقة مهمة في استمرار هده المنظومة الهامة-
التشريعية -واشتغالها في ظروف سليمة تحظى باالهتمام واالحترام من لدن كافة أفراد المجتمع ،لكون أن هذا
الق انون وكما هو معلوم يضم في جوهره مجموعة من القواعد الق انونية اآلمرة في حلة زجرية عق ابية ،تتدخل كلما
علم السيكولوجيا هو العلم الذي يهتم بدارسة الوظائف العق لية والسلوك لدى اإلنسان ،فمن خالل هذا العلم يقوم علماء النفس 1
(السيكولوجيين) بدراسة شخصية اإلنسان انطالق ا من جوانب حسية كالعاطفة والسلوك و اإلدراك ،والتي نجد صداها على مستوى
العالق ات الرابطة بين األشخاص أو بين األشخاص وبعض المعتقدات واألفكار الحسية ..إلخ.
علم اإلبستيمولوجيا أو نظرية اإلبستيمولوجية كما يطلق عليها أيضا نظرية المعرفة وهي دراسة شاملة لطبيعة المعرفة المراد 2
معالجتها وفق ترتيبات معينة يحددها المنهج العلمي المستعمل قصد تفصيلها وشرحها وتبريرها ،فهي إذن مجال شاسع لعق النية
االعتق اد في موضوع ما من خالل استعمال جميع المناهج المتاحة للوصول إلى نتيجة حتمية أو مؤقتة.
بالرغم من أن مصطلح النظام العام يصعب تعريفه وتحديده ،إال أنه وبمناسبة احتكاكه مع الق انون الجنائي باعتباره مجموعة من 3
القواعد الق انونية اآلمرة ،يمكن القول أن النظام العام يقصد به مجموعة القوانين السائدة في دولة معينة وفي وقت واحد،
والق انون الجنائي جزء من هذا النظام العام وأكثرها تداخال معه.
112
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
وقع خلل في مسار السلوك االجتماعي الذي اتفق عليه أفراد المجتمع وارتضوا السير عليه داخل رقعة جغرافية
محددة المعالم برا وجوا وبحرا-إق ليم الدولة ،-قصد التعايش في انسجام وأمن واطمئنان ،معززة في دلك
بآليات ق انونية موضوعية وشكلية ،تهدف إلى ردع هذا الخلل وإعادة إصالحه وتقويمه أو بتره من جذوره
ومحاربته بصفة نهائية .الشيء الذي يجعل قواعد الق انون الجنائي في مقدمة القواعد الق انونية التي تؤثر بشكل
بليغ وحاد في انطباعات األشخاص وسلوكهم .أما من الناحية اإلبستيمولوجية فيمكن القول أن الق انون الجنائي
ومن خالل داللته اللغوية والوظيفية ،قد انبثق عن جملة من اآلثار الق انونية الدالة على النتائج السلبية بين
األفراد كعالمة بارزة في عالق اتهم اليومية والمتمثلة عموما في مجموع الصراعات الدائرة بين اإلنسان وأخيه
اإلنسان داخل محيطه االجتماعي أو القبلي ،وعلى وجه الخصوص في عالق ات الفوضى والتسيب الناتجة عن تباين
المصالح ،على أساس أن هده العالق ات الرابطة بين األفراد عبر حقب هامة من التاريخ البشري في غياب عنصر
الزجر والترهيب لم تكن يوما مستقرة وهادئة ومفيدة للعموم ،على نحو سليم وعادل يرضي جميع األطراف ،بل
كانت تتميز بعدم االستقرار وتتعرض لألبشع أنواع االستغالل من قبل الطرف القوي أو السيد في مق ابل الطرف
الضعيف أو العبد ،في إشارة قوية لصور عدم تكافؤ وتوازن مصالح األفراد ،ومن ثم ف إن الدراسة اإلبستيمولوجية
للدور الذي يؤديه الق انون الجنائي في هذا اإلطار ،يجعلنا مصرين تمام اإلصرار على بدل جهد وعناية في
الوقت نفسه للكشف عن المصادر الرئيسية للق انون الجنائي المغربي في إطاره العام والخاص ،وذلك من خالل
الوقوف على دور المدارس الفقهية والق انونية التي كان لها الفضل بشكل رئيسي في ظهور الق انون الجنائي
ونشأته بين أحضان المجتمع المغربي في صورة مكتوبة مقننة ،تعتمد باألساس على مبدأ الشرعية الجنائية في
التجريم والعق اب ،ونخص بالذكر هنا كل من مدرسة الفقه اإلسالمي -المالكي -التي انبثقت من رحم الشريعة
اإلسالمية الغراء ،والتي جأت يقينا لتؤطر سلوك الناس ورفع الظلم عنهم في وقت كان الناس فيه قد اضطهدوا
من بطش الجناة والمجرمين وقسوتهم في أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق ،كما أنه ومن زاوية
ثانية نجد المدرسة الالتينية الجرمانية والتي انشقت من رحم فكر معاصر امتد لقرون لعدة حتى بلغ إلى ماهو
عليه من تطور في صورته الحالية ،يهدف إلى إق امة العدل بين الناس ونبذ كل ما من شانه أن يمس بكرامة
اإلنسان .
113
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
أجل إن ازدواجية الظرفية التي ظهر فيها الق انون الجنائي بالمغرب فضال عن الجهة الرسمية التي يستمد منها
مشروعيته ،انطالق ا من التوجهات الفكرية للمدارس الق انونية الكبرى التي أسست بنيانه ومعالمه ،سواء تعلق
األمر بالقواعد األصولية 4والقواعد الفقهية الشرعية المقتبسة من أحكام مدرسة الفقه اإلسالمي-المالكي -أيام
كانت أحكام الشريعة اإلسالمية هي المطبقة من لدن القضاة المغاربة في سائر المحاكم المغربية بمفهومها
الشرعي الديني ،وال سيما في الحقبة الزمنية الطويلة التي امتدت قرابة أربعة عشر قرنا من الزمن وصوال إلى
بداية القرن الماضي وتحديدا عند دخول الحماية الفرنسية سنة ،1912أوبتلك القواعد الوضعية المقتبسة 5من
أحكام المدرسة الالتينية الجرمانية والتي بدأت مالمحها تظهر في السياسة التشريعية المغربية مباشرة بعد وقوع
المغرب في يد الحماية الفرنسية سنة 1912وإنشاء ما يسمى بالمحاكم العصرية الموجهة أساسا لحماية مصالح
األجانب الفرنسيين واإلسبانيين المقيمين بالمغرب ،6والتي مهدت بالفعل في ظهور مالمح جديدة على بنية
التشريع المغربي المعروف عنه بأصالته وطابعه المحافظ ،فكل هذه األمور جعلت من الق انون الجنائي المغربي
ق انونا غامضا ويصعب تحديد مصدره التاريخي والتشريعي ،فضال عن انتمائه األكاديمي والفكري ،وعالقته
بالجانب النفسي لألشخاص (من حيث أنه يمثل قواعد الدين وقواعد الق انون) ،في ظل تغير مستمر لنصوص
الق انون الجنائي وخاصة في شق العقوبات ،ولعل األسئلة المتكررة التي يطرحها طلبة الق انون في كل سنة جامعية
تقريبا ،داخل المدرجات الجامعية على أساتذتهم بمناسبة دراستهم لألول مرة لمادة للق انون الجنائي ،مند أوائل
تع رف الق اع دة عن د علم اء األص ول بأنه ا":حك م أغلب ي أكث ري ال كل ي " ينطب ق عل ى معظ م جزئياته لمعرفة أحكامها وهي 4
تختلف ع ن الض ابط الفقه ي وع ن النظري ات الفقهية ،فه ي حك م ع ام تن درج تحت ه ف روع متن اثرة ف ي أب واب الفق ه ،و تص اغ الق اع دة
بعب ارة م وجزة تتس ع لتش مل وتستوعب مفردات كثيرة و أحكاما جزئية متفرقة.
مبدئيا يمكن القول أن ق انون العقوبات الفرنسي لسنة 1810كما وقع تعديله يعد المصدر الرئيسي لهذه المجموعة لكنها 5
أخذت ببعض التطورات الفكرية التي تضمنتها تشريعات حديثة كأخذها بتدابير وق ائية كجزاء جنائي ومسؤولية الشخص المعنوي
جنائيا.
6ق امت سلطات الحماية الفرنسية بتطبيق الق انون الجنائي الفرنسي في المحاكم العصرية بمختلف مناطق المغرب الخاضعة للحماية
الفرنسية،وفي المق ابل ق امت سلطات الحماية اإلسبانية بتطبيق ق انون العقوبات اإلسباني في منطقة الشمال المغربي ،كما ظهر
114
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
الستينيات من القرن الماضي إلى حدود كتابة هاته األسطر ،ناهيك عن غياب تام لألعمال التحضيرية المخصصة
لهدا الق انون ،تؤكد لنا جليا مدى تق اطع الق انون الجنائي المغربي بين هاتين المدرستين فكريا وأكاديميا.
وبالتالي ف إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على بساط البحث مند العقود األولى من تاريخ الق انون الجنائي
المغربي 7أي منذ دخوله حيز التنفيذ تحديدا سنة 81963هو السؤال نفسه الذي نطرحه اليوم كما سيتم طرحه
دائما بسبب الحيرة واإلبهام واالرتباك الذي يحوم حول مرجعية المدرسة التي يستمد منها الق انون الجنائي
المغربي المعاصر أحكامه في الوقت الراهن؟ وهل يمكن القول أن التوجه الذي فرضته المدرسة الالتينية
الجرمانية على المغرب بموجب نظام الحماية جعل هذا األخير يتخلى عن مدرسة الفقه اإلسالمي-المذهب
لتحليل وتأصيل هدا الموضوع وربطه بين الماضي والحاضر وفق رؤية وازنة وواضحة المعالم تعكس عنوانه البارز
وجوهره المعمق ،يلزمنا تقسيمه إلى مبحثين رئيسيين ،نهيئ في المبحث األول قراءة سيكولوجية للق انون الجنائي
المغربي ،و ذلك باالعتماد على ف لسفة خاصة في التحليل ،تتطلب استحضار منهج تحليلي يغلب عليه الطابع
الواقعي أكثر من النظري ،أما المبحث الثاني نخصصه لدراسة إبستيمولوجية الق انون الجنائي المغربي ،نعكس
من خالله مجموعة من المق اربات العلمية التي يمكن استعمالها في هذا الشأن للخروج بأفكار منطقية تطابق بين
لم تكن سنة 1962هي السنة األولى التي ظهرت فيها مجموعة الق انون الجنائي بل سبق أن ظهرت مجموعة من الظهائر 7
الشريفة بشكل متقطع تخص جرائم معينة ،وفي سنة 1953صدر أول ق انون جنائي مغربي ليطبق بمنطقة الحماية الفرنسية.
ينتشر مصطلح الق انون الجنائي بشكل خاطئ في أوساط الساحة العلمية المتعلقة بالدراسات الجنائية للتعريف بالظهير الشريف رقم 8
1-59-413بتاريخ 28جمادى الثانية 1382الموافق ل 26نونبر 1962الذي أصدرته وزارة العدل سنة 1962
والمخصص لمختلف الجرائم والعقوبات التي تناولها المشرع المغربي ضمنه في شكل أبواب متعددة محصورة في ثالثة أبواب،
والحال أن هذا الوصف خاطئ لكون أن هذا الظهير أطلق عليه منذ صياغته بمجموعة الق انون الجنائي تمييزا له عن باقي
المصطلحات المشابهة له من قبيل الق انون الجنائي بكونه المحور العام لجميع المجزوءات الجنائية كقوانين وعلوم ،فضال عن الق انون
الجنائي العام والق انون الجنائي الخاص بإعتبارهما مادتين تتق اطع أحكامهما في هدا الظهير المتعلق بمجموعة الق انون الجنائي.
115
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
المراء في أن الخصوصية التي يفرضها الجانب النفسي السيكولوجي في البحث العلمي من خالل اعتماده على
الطرح االفتراضي 9كمنطلق أساسي لدراسة قضايا معينة في مختلف العلوم اإلنسانية ،يعد باتف اق جميع الفقهاء
والدارسين من أبرز وأهم اآلليات العلمية المهتمة حاليا بتفسير وتحليل الجانب الخفي المظلم لظاهرة من الظواهر
المعروضة للدراسة والنق اش ،ذلك أن القراءة السيكولوجية في هذا اإلطار يمكن اعتبارها من أهم القراءات
العلمية على اإلطالق ،في شتى الميادين وسائر العلوم ،لما لها من اتصال مباشر بالبعد النفسي الذي يستشعره
اإلنسان بمناسبة احتكاكه مع محيطه االجتماعي والسياسي واالقتصادي والبيئي...الخ ،وهذا األمر يعد طبيعيا
بالنسبة لكائن اجتماعي مثل اإلنسان الذي ال يستطيع في كل حال من األحوال أن يعيش بمعزل عن جماعته بشكل
إنفرادي فردي أو أن يتجرد من األفكار التي تؤطر حياة هذه الجماعة وفق نسق معين ،يميل بحسب فطرة البشر
التي فطر هللا الناس عليها إلى اإلتحاد الشكلي والبنيوي ،ويتميز في نفس الوقت بالترابط واالنسجام بين كافة
العناصر المادية والموضوعية المكونة لفكرة النظام العام والتي يجسدها أحيانا أهل الفقه الق انوني في العمومية
والسلطة والتجرد ،باعتبارها أهم المواصف ات التي تتسم بها مختلف القواعد المؤطرة لكافة الواجبات والنواهي
المتعلقة بأفعال وأقوال الناس كقواعد الدين وقواعد األخالق وقواعد الق انون ،والريب في أن هذا الخليط
الفكري المتكون من القواعد الثالث السالفة الذكر ،والموضوعة بال شك لغاية مثلى أساسها تنظيم سلوك
اإلنسان في ق الب اجتماعي سليم متحضر ينم عن التعايش السلمي واالنضباط الفكري ،تجعل جميع األفراد أو إن
صح القول أغلبهم يستشعرون بطريقة ذهنية مدى فعاليتها ونجاعتها في ضبط فكرة النظام االجتماعي السليم،
وأهميته داخل صرح كل دولة ديمقراطية تقوم على مبادئ حقوق اإلنسان المتعارف عليها عالميا وفي مقدمتها
يعتمد المنهج السيكولوجي الذي وظفناه في هده الدراسة على العديد من النظريات االفتراضية التي يتم طرحها سلف ا قبل 9
بداية الدراسة والبحث ،وتشكل هذه الفرضيات العمود الفقري للدراسة السيكولوجية برمتها ،وتسير وفق برنامج دراسي دقيق
ومتين يقوم على طرح مجموعة من األفكار المسبقة ثم التأكد من صحتها في صلب التحليل فيما بعد ،وال تصبح نهائية إال بعد
التأشير عليها من لدن المفكرين الباحثين السيكولوجيين المشهود لهم بالكف اءة والخبرة في هذا المجال ،ولعل هذا المنهج هو
116
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
مبدأي الحق والق انون ،بيد أن كل األشياء التي تحيط بعالم اإلنسان ال يستقيم معناها الحقيقي إال باستحضار
ف لسفة نفسية شمولية نابعة من نفس اإلنسان ،يعبر من خالله هذ ا األخير عن رضاه التام نحو هذه األشياء أو على
العكس من ذلك يعبر عن سخطه عنها بشكل جزئي أو كلي ،انطالق ا مما تفرضه فكرة المصلحة العامة والخاصة
وعالقتهما مع مجموعة من المف اهيم الكبرى المرتبطة بحياة الفرد من قبيل األمن واالستقرار والعيش الكريم ،...وال
ندل في ذلك على أن هذه الدراسة السيكولوجية تنطوي فقط على ما هو حسي غير مرئي أو غير ملموس ،وإنما
هي دراسة تتكئ أوال في دراستها على الجانب المادي كجزء أساسي من القضية المعروضة للنق اش ،ومن ثم
يتسنى لها فيما بعد استخراج العنصر الحسي المراد تحليله وتفكيكه ،بناء على معادلة منطقية تروم إلى مطابقة
العق ل بالنق ل في الفهم واإلدراك أو مصاحبة النفس لألحاسيس األفراد في الشعور بالخوف أو االرتياح ومن ثم
التأكيد على الرغبة في وجودها ومالزمتها لهم بصورة دائمة ،أوعلى العكس من ذلك اجتثاثها من ق اموسهم
السيكولوجي بصورة نهائية لعدم رغبتهم فيها ،وبناء عليه ف إن هذا النوع من الدراسات إذا كان الغرض منه
ينصب في حقيقته على جانب نفسي خفي ،أي أنه مرتبط فقط بمفهوم نفسي يعكس توجه علم النفس ،إال أنه على
العكس من ذلك عندما نستحضر سيكولوجية منطق الق انون الجنائي وعالقته ببعض فروعه من العلوم كعلم
وهو في اعتق ادنا بمثابة حلقة رئيسية وعنصر أساسي في صياغة القراءة السيكولوجية لهذا 10
النفس الجنائي
المق ال ،باعتباره مجال فكري شاسع يتجدد كلما سنحت له الفرصة ودلك ،وتتق اطع فيه العديد من العلوم
10من المعلوم أن علم النفس الجنائي هو علم يهتم بدراسة أفكار و نوايا وردود أفعال المجرمين التي تلعب دورا في ارتكاب
الجريمة ،لكن هذا التعريف بالرغم من تداوله على أغلب صفحات البحوث والدراسات المتعلقة بالميدان الجنائي ،يضل في نظرنا
ناقصا من الحمولة الفكرية التي يحملها كعلم شامل يهتم ليس فقط بالجانب السيكولوجي للمجرمين بل يشمل أيضا سيكولوجية كافة
األشخاص المخاطبين بأحكام الق انون الجنائي ،وهنا يمكن القول أن علم النفس الجنائي هو فرع من الفروع التطبيقية لعلم النفس
العام وعلم الق انون الجنائي ،يهدف إلى إسق اط القوانين والمبادئ النفسية على النظام الق انوني المعمول به ،والذي يتضمن
الجانب الجنائي واإلجرامي ،كتحديد عالقة األشخاص عموما بالقواعد الجنائية المطبقة في إق ليمهم الذي ينمون إلبه ،وكذلك
التصنيف الخاص بالمجرمين على وجه الخصوص حسب خصائصهم النفسية،واالجتماعية ،لتقديم المساعدة في معرفة وفهم الدوافع
117
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
االجتماعية والمف اهيم الف لسفية والضوابط الق انونية ،نذكر منها علم النفس أوال ،ومعه في نفس الدرجة علم
الق انون(السياسة الجنائية والسياسة العق ابية) ،وعلم اإلجرام والجريمة وعلم الضحايا وعلم األدلة الجنائية...،الخ،
وبالتالي يعد الهاجس المشترك األكبر في اجتماع هذه العلوم وتمازجها ،هو دراسة لكل من الشعور والسلوك
اإلنساني اتجاه الطرح الجنائي وما يتبعه من مقتضيات زجرية وعق ابية ،وانعكاسها على نفسية األشخاص ،األمر
الذي يجعلها تسعى جاهدة إلى فهم طبيعته السيكولوجية ووصفها ،ومعرفة دوافعها ،وأشكالها.
المطلب األول :دور علم النفس الجنائي في تحليل سيكولوجية الق انون الجنائي المغربي
إذا كان علم النفس الجنائي يعتمد عادة في دراسته العلمية على مجموعة من الضوابط المشتركة بين علم
الق انون وعلم النفس فضال عن ميوله بصورة دائمة لكل من علم االجتماع وعلم البيولوجيا 11بغية تحليل ظاهرة ما،
كظاهرة الجريمة مثال باعتبارها النقطة األساسية والمحورية في اجتماع هده العلوم وتمركزها في ق الب واحد
مشترك ،إال أنه وبناء على ما يفرضه عنوان مق النا هذا ،وانطالق ا من موقع الق انون الجنائي بين هذه العلوم
السالفة الذكر ،سيجعلنا أمام فرضية دراسة الق انون الجنائي من زاوية أنه ق انون وليس كونه موضوع ،12ومعنى
البيولوجيا هو علم األحياء ،وهو مكون من كلمتين إغريقيتين هما ) (bioوتعني حياة و )(logosوتعني دراسة .يدرس 11
البيولوجيون تركيب الكائنات الحية ووظيفتها ،ونموها ،ومنشأها ،وتطورها ،وتوزعها .ولذلك نجد كل العلوم الحديثة تنصب في
دراستها على عدة محاور من علم البيولوجيا بسبب توفرها على نظريات هامة جدا لكل الدراسات واألبحاث مهما اختلفت طبيعتها.
https://ibelieveinsci.com/?p=61010
يستعرض علم النفس الجنائي في سياقه العادي صورا خاصة تجمع بين مكونات ثالث ،إذ تضم كل من الجريمة والمجرم والعق اب، 12
ذلك أن هذا الشكل الثالثي عادة هو الذي يؤسس من خالله علماء النفس الجنائيين فرضياتهم وأبحاثهم التجريبية لتجيب عن
مجموعة من اإلشكاالت المطروحة على أرض الواقع ،خاصة وأن الجريمة في سياق علم النفس الجنائي تعتبر هي األساس الذي نقيس
عليه شخصية المجرم وحجم الجريمة ودرجة العق اب ،كما أنها أصبحت في وقتنا الراهن تعد من الظواهر االجتماعية العادية داخل
118
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
هذا أن اهتمامنا سينصب فقط على ما يتعلق بف لسفة الق انون الجنائي وعالقته بعلم النفس بعيدا عن الجزئيات
التي يتناولها في محاوره الرئيسية من قبيل الجريمة والعق اب والمجرم ،حيث إن كل هذه المكونات ال تعدو إال
أن تكون لبنة من لبنات الق انون الجنائي وعالقته بباقي العلوم الجنائية األخرى ليس إال .ومن ثم ف إن الطرح الق ائم
بين هذه السطور يفرض منا وضع علم النفس الجنائي كوسيلة فقط للدراسة السيكولوجية المخصصة للق انون
الجنائي ،وليس كغاية في حد ذاته ،والهدف من هذه المف ارقة ليس فقط دراسة السلوك اإلنساني بهدف
الوصول إلى المعرفة الدقيقة والمحددة لظاهرة سلوكية معينة تختزل مفهوم المجرم والجريمة بوجه عام ،وإنما
دراسة الجانب الخفي لهذا السلوك وعالقته بالضوابط الق انونية المعمول بها داخل المجتمع ،وندل هنا باألساس
على الشعور واإلحساس الذي يسبق السلوك اإلجرامي المعالج من لدن قواعد الق انون الجنائي التي تعمل من
تلق اء نفسها ،لتبث نوعا خاصا من االنطباعات النفسية الصادرة من اإلنسان والدالة على حزمها وجديتها ،في
تفسير السلوك الجنائي والتنبؤ به وضبطه ،ومن هنا يمكن القول أن علم النفس الجنائي يعتبر من الفروع
التطبيقية لعلم النفس التي سعت إلى التطبيق العملي لنظريات علم النفس على أرض الواقع.
وفي نفس االتجاه يرتبط علم النفس الجنائي كما ق لنا بسائر العلوم المعرفية عامة والعلوم الق انونية خاصة التي
تُعتبر أساس القواعد واألنظمة ،والقوانين التي توضع من قبل الدولة والسلطة الحاكمة النائبة عنها ،ونجد في
مقدمة هذه العلوم الق انونية قواعد الق انون الجنائي بوصفها قواعد تهتم بضبط سلوكيات األفراد المختلفة
داخل المجتمع ،من حيث أنها قواعد أمرة يجب طاعتها وعدم مخالفتها .ونظراً لظهور العديد من القضايا
المجتمع بفعل تكتل مجموعة من المعطيات السلبية كالفقر والجهل...الخ ،غير أن هذه األمور ال نقيس بها موضوع بحثنا هذا
الموضوع للدراسة والمتمثل في دراسة علم النفس الجنائي من زاوية أنه ق انون ينطوي على مجموعة هامة من القواعد الزجرية
التي يمكن لألي شخص استشعارها قبل الوقوع في المحظور أو فيما يسمى في فخ الهرم الثالثي السالف الذكر ،أي قبل ارتكاب
الجريمة وقبل الوقوع في خانة اإلجرام ليصبح مجرما ،وأيضا قبل نيل العق اب ،ومن ثم ف إن دراسة علم النفس الجنائي للق انون الجنائي
كق انون(بنية ق انونية) أي كمكون مادي له داللته ،ينطلق من فرضية عالقة الق انون الجنائي باألشخاص قبل ارتكابهم لألي أمر
مخالف يدخل في صميم الق انون الجنائي ،بمعنى حجية نصوص الق انون الجنائي وآثرها على نفسية األشخاص وانطباعاتهم في حاالتهم
العادية.
119
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
واإلشكاالت التي تتق اطع وعلم النفس والق انون ،فقد ظهرت الحاجة إلى وجود فرع مستق ل من فروع علم النفس،
وفي اعتق ادنا المبني على هاجس المعرفة وكشف الخف ايا ،وكذلك أمام اللبس الحاصل على المستوى المعرفي
لبنية الق انون الجنائي وعالقته بنفسية األشخاص من خالل الطابع الحمائي الذي يقدمه لهم أو الطابع الزجري الذي
يستعمله كأسلوب خاص لردعهم ،نرى أن البح ث السيكولوجي هو األجدر واألق در م ن غي ره من العلوم األخرى،
ف ي الكش ف ع ن النسق الداخلي الذاتي والموضوعي للدور الذي يؤديه الق انون الجنائي من موقعه الزجري،
ليس فقط داخل كيان المجتمع المغربي ،وإنما لف ائدة كافة الشعوب العالمية التي تسير على نهج تشريعي معين
موزعة طبق ا لقناعاتها الذاتية والفكرية في تقدير األمور حسب درجاتها من النفع أو الضرر.
ومهما يكن ف إن علم النفس الجنائي في إطار تحليله الق انوني وعالقته بما يفرزه لنا مفهوم الق انون الجنائي من
الجانب السيكولوجي النفسي ،ليس سوى امتداد للنزع ة النفسية الت ي طغ ت عل ى الس احة العلمية طوال سنوات
القرن الماضي ،13لمعرفة بعض الحق ائق الخفية والتي ال يمكن تحصيلها من نفسية األشخاص إال عن طريق استعمال
مناهج سيكولوجية تعطي األولوية في الدراسة لمكانة النفس وما تنتجه من انطباعات وأفكار ومشاعر اتجاه شيء
مادي أو معنوي ق ابل للتحليل والمناقشة .وفي المق ابل نجد فروع عملية متخصصة أخرى بدأت تنشق من فكر
جنائي معاصر توازي علم النفس الجنائي في بعض خصائصه ،لكن تختلف معه في رؤيته الشمولية للجانب النفسي
المتعلقة بكل أفراد المجتمع ،حيث تهدف إلى حصر دراستها في طائفة معينة فقط ،كدراسة البعد
السيكولوجي والبيولوجي لمجموعة من األشخاص المجرمين الرافضين لالمتثال إلى التعليمات الق انونية المفروضة
على كافة أفراد المجتمع ،بمعنى أن المعادلة العلمية التي يكونها هذا العلم في هذا اإلطار تتعلق بشريحة
عرف القرن الماضي موجة هامة من الف السفة وعلماء النفس الدين تخصصوا في علم النفس وألفوا العديد من األبحاث الدراسات 13
والمق االت ،نذكر منهم العالم النمساوي sigmund freudوالعالم الروسي ivan pavlovوالعالم األمريكي gordon
،willard allportوأخرون ،...وقد تميزت هذه الحقبة بالفعل بظهور نظريات جديدة تخص علم النفس.وقد استف اد كثيرا منها
120
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
و ه و حق ل جدي د 14
خاصة فقط من األفراد دون غيرهم ،إذ يتعلق األمر هنا بعلم "األنتروبولوجي ا الجنائي ة "
يخ تص بدراس ة اإلنس ان المج رم م ن حي ث تكوين ه العض وي والفزيول وجي والعق ل ي ،وق د اس تعان عل م
األنتربولوجيا هو األخر بقواع د الم نهج العلم ي السيكولوجي أثناء عملية الفحص والتشريح في المختبرات العلمية
والطبية المعدة لهدا الغرض ،مما أدى إلى ظهور جانب مزدوج من الدراسات االجتماعية والنفسية ،ساهمت
إلى حد ما في كشف حق ائق كانت مغيبة لسنوات عديدة ،ما كانت لتظهر إال بعد مزج الدراسات االجتماعية
ال يختلف اثنان على المكانة الهامة التي يحتلها الق انون الجنائي في نفوس األفراد(أشخاص طبيعية) وكذلك
المؤسسات(أشخاص اعتبارية) في شخص ممثليها ،من خالل الدور الرئيسي الذي يؤديه في توفير الحماية الالزمة
لهم وكبح وزجر كل ما من شأنه أن يشل أو يعرق ل السير العادي لمصالحهم الشخصية ،أو لألي مصلحة من المصالح
األخرى سواء أكانت عامة أو خاصة ،ف ال يمكن إطالق ا لهؤالء األفراد أو المؤسسات االشتغال في جو يغيب عنه
الطابع الزجري ،كما ال يمكن لهم االندماج بشكل صحيح في دواليب المجتمع وما ينتج عنه من ضوابط أخالقية
وروابط أسرية وعائلية وعالق ات شخصية وق انونية ومهنية،...وبالتالي االستمرار في ممارستها بشكل يومي عادي
في جو طبيعي مالئم ،إال إذا كانت هناك آليات زجرية تجعلهم مطمئنين لها ومعتقدين اعتق ادا تاما أنها بمثابة
يدرس علم األنثروبولوجيا الجنائي أو ما يعرف في الوقت الراهن بالطب الشرعي الخصائص البدنية والعق لية للمجرمين ،وكذلك 14
العوامل االجتماعية والبيئية التي يمكن أن تؤثر على سلوكهم اإلجرامي ،ويعد العالم سيزار لومبروزو من مؤسسي علم األنتربولوجيا
الجنائية في العصر الحديث ،وقد عمل سيزار لومبروزو الذي يعتبر أيضا أحد رواد المدرسة الوضعية اإليطالية ،طبيبا في الجيش
اإليطالي ،ثم بالمستشفيات العق لية ،ف استادا للطب العق لي والشرعي بجامعة تورينو ،turinoواستحق أن يعين سنة 1906أستاذا
https://fr.wikipedia.org/wiki/Cesare_Lombroso
121
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
حماية خاصة لهم ،تعاقب ليس فقط من ق ام بفعل يعتبر جريمة في نظر الق انون ،بل تتعداه وتصل أيضا إلى كل
من سولت له نفسه محاولة االقتراب فقط منهم بسوء نية لتهديد مصالحهم ،الشيء الذي يجعل معه فكرة العق اب
الزمة وحاضرة بقوة بناء على ما يفرضه منطق الق انون الجنائي في تعامله مع هذه األحداث في إطار الشرعية.
ومن هنا تبرز الخاصية األساسية للق انون الجنائي في بعث الطمأنينة والسكينة بين األفراد لممارسة حياتهم
إن الدور الطالئعي الذي يقدمه الق انون الجنائي من خالل ف لسفته السيكولوجية تؤكد لنا حتما مدى نفعيته
وأهميته القصوى بين الناس من خالل ما يستشعرونه هؤالء ويحسون به اتجاه قواعده الزجرية ،وال ندل في ذلك
على أن هده القواعد لوالها لما كان لهؤالء العيش بسالم وأمان ،وإنما يمكن القول أن هذه القواعد ساهمت إلى
حد بعيد في استتباب األمن وفرض قوة الق انون على كل األفراد دون أي تمييز بينهم ،بعدما أصبحنا نرى
وبكل أسف وحسرة تراجع حاد وخطير لقواعد األخالق في صفوف أفراد المجتمع ،وليس المجتمع المغربي وحسب
وإنما كافة شعوب العالم إن صح القول ،وقد يالحظ البعض أن قواعد األخالق ليست هي الوحيدة التي تراجعت
حدتها بين الناس على حساب استقواء قواعد الق انون فكريا وعمليا ،بل حتى قواعد الدين هي األخرى تراجعت
بشكل يدعو للخوف والق لق على حساب قواعد الق انون وال سيما قواعد ق انون الجنائي ،ف الكثير من األفراد لم
يعد تستهويهم عبارة قواعد الدين بسبب جهلهم لها أو عدم رغبتهم في معرفتها أصال ،ودلك مرتبط حسب
اعتق ادنا الجازم باالنحالل الثق افي الخطير الذي أفرزته العولمة وتداعياتها السلبية على المستوى الفكري
والعقدي ،مما يجعل هؤالء يعتقدون أنهم أحرارا في ارتكاب ما يحلو لهم من أفعال يرونها من وجهة نظرهم
بسيطة أو مسلية لهم ،في حين أنها مضرة لألشخاص آخرين أو ربما لكافة أفراد المجتمع دفعة واحدة ،وبالمق ابل
نجدهم يكنون احترما خاصا لقواعد الق انون الجنائي مخافة وقوعهم في دائرة العق اب الزجري الذي يتميز به
الق انون الجنائي في هذا اإلطار ،ف لهذه األسباب يمكن القول أن الف لسفة التي يقوم عليها الق انون الجنائي تجعله
يطل علينا في هذا اإلطار كمخزون احتياطي لترميم قواعد األخالق التي تالشت مع الوقت من جهة ،وإعادة إحياء
قواعد الدين التي تجاهلها العديد من األشخاص من جهة ثانية ،ودلك من زاوية تفعيل وتشغيل الشق المتعلق
122
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
بالتعزير وتفريد العق اب الدنيوي ،لمواكبة كل المستجدات والتطورات التي تعرفها الجريمة والمنابع التي
تترعرع فيها ،وال يهمنا في ذلك اديولوجية قواعده هل هي طبيعية؟ أم وضعية؟ مادامت أنها تفي بغرضها
الرئيسي المتمثل في الزجر والردع .ومعه نستنتج أن الق انون الجنائي من الناحية السيكولوجية يؤثر فعال في ضبط
نفوس الناس وسلوكهم من مختلف الزوايا ،بناء على ما تتضمنه نصوصه الزجرية التي تعمل وفق مؤشر جلب
المصلحة ودرء للمفسدة ،إذ أن فرضية ترك المجال لألشخاص في حماية حقوقهم والدف اع عنها بما يناسب منطق
الغاب تعد -عبثا في بنية النظام السياسي الذي تعتمده الدولة ،وبالتالي ف إن قواعد الق انون الجنائي لها اثار
حميدة على منطق سيكولوجية األشخاص وتف اعلهم اإليجابي داخل المجتمع ،على أساس أن اآلثار التي نتحدث
عنها ال يمكن رؤيتها ومالمستها إال بوجود عناصر معينة وهي موضوع فقرتنا الموالية.
تتخذ العناصر الحسية لقواعد الق انون الجنائي رمزا دالليا على التف اعل الحاصل بين سيكولوجية األفراد الباطنية
وسلوكهم الظاهر على مستوى الواقع ،حيث أن هذه المعادلة ال يمكن لها ان تستقيم في مدلولها الواقعي
المبني على الحكمة والمنطق إال إذا كان هناك تطابق تام بين الفكر الذي يمثله الشعور في المنهج
السيكولوجي ،وبين السلوك الذي يمثل صورة النتيجة الحتمية للفكر السيكولوجي مهما كانت صف اته حميدة أم
مذمومة ،فحيثما كان الشعور والفكر مضطرب كان السلوك معه مضطربا أيضا ،وكلما كان الشعور والفكر
مستويان وإيجابيين في الضبط إال وكان معه السلوك إيجابيا أيضا ،وهذه المعادلة التي سقناها لشرح مفهوم
التطابق الحسي والفكري كنتيجة طبيعية لتف اعلهما ،تؤسسها من وجهة نظر علم النفس الجنائي عناصر حسية
معينة ،قمنا باستخالصها من حتمية القواعد الجنائية ومدى تأثيرها اإليجابي على سيكولوجية األشخاص في حياتهم
الطبيعية ،ومن العناصر التي يمكن اختزالها من الدور الذي يؤديه الق انون الجنائي داخل المجتمع في هذا
123
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
يضطلع الق انون الجنائي بمهام جسام ال نجدها صراحة في باقي القوانين األخرى ،ذلك أنه من منطلق الهاجس
الزجري الذي يظهر به الق انون الجنائي داخل المنظومة التشريعية ،نجده يقوم ببلورة وظائف مهمة في الوسط
االجتماعي وفي مقدمتها الوظيفة األخالقية لدى كافة أفراد المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة ،ذلك أن
فكرة العق اب في هذا اإلطار تعد وسيلة نبيلة وغاية مثلى لنشر فكر أخالقي بين الناس ،يقوم على التعاون
ولما كانت الوظيفة األخالقية للق انون الجنائي تنطوي على ف لسفة شمولية تهتم بكل جزئيات الحياة الكريمة
لألشخاص داخل أوطانهم بما يضمن لهم التعايش في جو سلمي يالئم تطلعاتهم وطموحاتهم ،ف إن قواعد الق انون
الجنائي في إطارها العام ال تخص طائفة معينة من شريحة المجتمع والسيما شريحة المجرمين الذين نالهم العق اب
بسبب تطاولهم على مصلحة يجرمها الق انون الجنائي ،بل إن األمر مرتبط بكل الشرائح االجتماعية المكونة لإلق ليم
ومن الطبيعي جدا أن تظهر أهمية هذه الوظيفة التي تقوم بها قواعد الجنائي في هذا اإلطار بسبب تميزها
الق انوني وحرصها التام في السهرعلى ضبط سلوك األفراد وتخليق الحياة العامة من خالل تحقيق مبدأ العدالة،
ونشر القيم األخالقية بين الناس التي توارثت كأعراف وعادات داخل المجتمعات البشرية من جيل لألخر.
وخصوصا إذا تحدثنا عن المغرب بوصفه بلدا محافظا وطابعه األصيل المتميز بين دول المعمور ،الغني باألعراف
والعادات االجتماعية الحميدة التي توارثت عبر حضارات إسالمية عديدة مرت وسجلت في صفحات التاريخ
وال ننسى في هذا اإلطار أن لمبدأ التفريد وكذلك مبدأ الشرعية كان لهما دورا كبيرا في جعل هذا الجزاء
الجنائي يمتاز بهذه الخاصية ،ف إذا كان الجزاء الجنائي يعتبر في حد ذاته وسيلة تساعد الجاني على تحسين
وتقويم سلوكه ،من أجل إعادة إدماجه داخل المجتمع في شكل سليم ،ف إنه في نفس الوقت يعطي إشارة ضمنية
لإلعادة إحياء النظم األخالقية وترميمهما بين أفراد المجتمع على نحو يرضي الجميع ،وبالتالي إزالة التصور الذي
124
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
كان يحيط بالجزاء الجنائي والمتمثل في اعتباره مجرد وسيلة إلنزال العق اب على الجاني فقط ،بقدر ماهو أداة
إلصالحه وتقويمه.
يعد الق انون بناء على داللته الوظيفية أحد أهم األليات المتعلقة بحماية حقوق األفراد وصيانتها من كل إعتداء
من لدن الغير ،وهكذا فمن المستحيل من منطلق الفكر الق انوني أن يكون الشخص هو الحامي لنفسه من
الهالك واإلعتداء والحارس لحقوقه من الضياع في غياب ضوابط ق انونية صارمة ،تقوم نيابة عنه بحمايته في نفسه
أوال ثم في مجموع حقوقه ثانيا ،وبالتالي تجعله في غنى تام عن استعمال أسلوب الغاب المبني على منطق الدف اع
عن النفس والبق اء لألقوى ،استنادا لتف اعل محور الق انون مع محور الحق ،ومن ثم ف ال يمكن لألي كان سواء
مؤسسات أوافراد حماية حقوقها المادية والمعنوية دون وجود آليات زجرية تضبطها الدولة في ق الب جنائي،
تعاقب من خالله كل من تجرأ عدوانا وظلما وبسوء نية ،نزع ما يملكه الغير أو هالكه وتخريبه ،ذلك أن الفكر
السيكولوجي الممتد على مدى قرون من الزمن بواسطة ف السفة ومفكرين وعلماء النفس ،أقر بشكل صريح في
العديد من الدراسات الف لسفية أن اإلنسان ذئب ألخيه اإلنسان في عموم مصالحه الشخصية سواء تعلق األمر بأهله
أوماله أوعرضه ،ومعنى ذلك أن نزوات البشر التي تستجيب لمنطق الشر كبوابة رئيسية لتحقيق مأربهم
العدوانية ضد مصالح معينة في ملك العموم أو الخواص ،الزالت مستمرة ولن تنقطع أبدا أبد الدهر مادامت
أنها صف ات نابعة من نفس اإلنسان ،ف الجشع والطمع والحسد والبغض سيمات رئيسية في حياة اإلنسان لم يسلم
منها أحد ،إال إذا اصطدم فكره مع عقيدة فكرية تضبط نزواته وتجعلها مستقيمة ،أو مواجهته لخطر مادي يمثله
الق انون في شكل عقوبة تمس بدنه أو حريته أو ماله ،وهذا ما يقوم به الق انون الجنائي في هذا اإلطار ،حيث
يقوم بجمح كل ما من شأنه أن يشكل خطرا على مصالح البالد والعباد .ففكرة الحماية التي يقوم بها الق انون
الجنائي انطالق ا من نصوصه الزجرية واضحة وظاهرة للعيان يعرفها العادي قبل المتخصص ،ومن ثم ف إن الوصف
الذي ينطبق على دور الق انون الجنائي في هذا اإلطار هو الحارس األمين لحقوق األفراد والمؤسسات.
125
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
يختلف الق انون الجنائي عن باقي القوانين األخرى سواء من حيث المضمون أو من حيث الهدف والنتائج المترتبة
عنه ،فهو مجال تتق اطع فيه جميع األحكام الق انونية التي زاغت عن مسارها العادي ودخلت إلى المجال المحرم
المؤطر بموجب مقتضياته الزجرية ،فبيع ملك الغير بالرغم أنه في األصل عمل مدني بطبيعته إال أنه يخضع لضوابط
الق انون الجنائي بإعتبار أن هذا العمل يعتبر جرما ،والشخص التاجر الذي يقوم بمنح شيك بدون رصيد كضمان
لمعاملته التجارية ،فبالرغم ان هذا العمل يعتبر من صميم العمل التجاري ،إال أنه يخضع هو األخر لنصوص الق انون
الجنائي باعتباره صاحب الوالية في الشأن ،والمشغل الذي يشغل العمال بدون تقييدهم في السجل الخاص بالشركة
وتسجيلهم في الضمان اإلجتماعي يعتبر هو األخر جرما ينظمه الق انون الجنائي على الرغم أن هذا األمر يدخل في
نطاق ق انون الشغل...الخ ،واألمثلة كثيرة على ذلك ،ومن ثم نستشف أن الفكرة التي تميز الق انون الجنائي عن
غيره من القوانين هي فكرة العق اب ،فكل األفراد باعتبارهم رعايا دولة ما داخل نطاق إق ليمي معين ملزمون
باالمتثال لنصوص الق انون الجنائي ،و في نفس الوقت االحتراس منها ومن عواقبها الوخيمة وعقوباتها الجنائية
المترتبة عليها في حالة عدم إتباعها .على أساس أن كل جريمة تتكون من أركانها الجنائية المتمثلة في الركن
الق انوني والمعنوي والمادي .وقد يصل بعضها إلى حد فرض عقوبة اإلعدام في بعض األنظمة القضائية كجزاء
جنائي للجرائم البالغة الخطورة ،وإذا تأملنا خطورة عقوبة اإلعدام من حيث أنها فكرة ردعية مميتة ،تظهر كلما
ظهرت جرائم تالئم طبيعتها الزجرية ،فمن المؤكد أن هاته الجرائم وبالرغم من وجودها في واقعنا الراهن ،إال أنها
أق ل انتشارا من الجرائم األخرى األق ل منها حدة كالسرقة والضرب والجرح وخيانة األمانة...الخ ،ذلك أن الجرائم
المؤدية إلى عقوبة اإلعدام يحترس منها األشخاص ويتخذون كافة االحتياطات الالزمة مخافة الوقوع فيها ،ونعتقد
أن هذا الخوف المتولد من فكرة عقوبة اإلعدام مثال ما هو إال دليل ق اطع على الجانب الحسي الذي يفرضه نظام
الق انون الجنائي داخل المجتمع ،وبالتالي ف إن قواعد الق انون الجنائي من هذا المنطلق تؤثر بشدة في الجانب
النفسي لألشخاص ،وال نظن أن هذه القواعد الزجرية تتطلب لفهمها درجة من العلم أو المعرفة لتؤثر على نفسية
األشخاص على نحو إيجابي يبتعد من خالله المرء عن كافة المحظورات التي يعاقب عليها الق انون الجنائي بموجب
126
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
نصوصه ،بل إن األمر يتطلب فقط استعمال العق ل للتمييز بين ما هو صالح وغير صالح ،وبين الخير والشر ،والنفع
والضرر.
ومن جانب أخر يمكن أن تكون عقوبات جسدية أخرى على غرار عقوبة اإلعدام كالجلد وقطع اليد مثال
المعمول بها في بعض األنظمة العربية بإعتبارها حد من الحدود سيرا على نهج الشريعة اإلسالمية ،التي تعمل
بمنهج الردع العام القبلي أو اإلستباقي ،تردع من خالله كل من سولت له نفسه تجاوز األنظمة المعمول ،بينما
يمكن زج األفراد في السجن أو الحبس بحاالت مختلفة بحسب النظام القضائي الممارس في تلك الدولة ،ويمكن
أن يكون السجن انفرادياً ،أو جماعيا ،وتتراوح مدة السجن من يوم إلى مدى الحياة(مؤبد).وفي األخير تطل علينا
العقوبة المالية ،كأخر أنواع العقوبات وأق لها حدة من سابقها حيث يمكن فرض الغرامات المالية ومصادرة
يزخر الخطاب الجنائي باعتباره المشهد الرسمي لبنية الق انون الجنائي المغربي ،بحمولة مهمة من العبارات
واأللف اظ القوية الدالة على حزمه وصرامته في تعاطيه وتف اعله مع مختلف األفعال(في صورتها ايجابية والسلبية)
واألقوال الصادرة عن األشخاص ،ومعالجتها طبق ا لمبدأ العق اب الذي يطغى بشكل أساسي على المشهد
الخطابي الجنائي ،كداللة رمزية على زجر كل ما من شأنه أن يشكل خطرا على وحدة التماسك االجتماعي
والسياسي واالقتصادي لبنية الدولة ،التي تتكف ل برعاية مختلف المصالح الكبرى داخل إق ليمها الجغرافي من
مؤسسات عامة وخاصة ،وأفراد طبيعية واعتبارية ،وقيم عقدية وفكرية ،...ومما ال شك فيه أن هده الفئات من
المصالح التي حصرناها في ق الب ثالثي وعلى امتداد أسمائها واختالف أصنافها وعدم التماثل في طبيعتها
الق انونية ،تعتبر النواة الفعلية لميالد الق انون الجنائي باعتبارها الجهات الرسمية المستهدفة باألساس بمضامينه
الزجرية والمخاطبة بالدرجة األولى بأحكامه العق ابية ،من زاوية الحماية التي يوفرها لها بموجب نصوصه وفصوله
الق انونية ،ذلك أن هذا الق انون لم يكن وال يمكن له أن يتبوأ مكانه الطبيعي البارز في المنظومة الق انونية
كما نراه اليوم ،أو أن يظهر أصال في الواقع مع باقي الفروع الق انونية األخرى بالرغم من أقديمته على بعض
127
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
الفروع الق انونية الحديثة ،إال بعد أن ظهرت تجاوزات خطيرة عجزت عنها الجهات المكلفة بتطبيق الق انون في
التف اعل معها بموجب القواعد المدنية التي تعالج مختلف معامالتها في ق الب مدني صرف ،يقوم على مبدأ
التعويض الناتج عن الضرر الذي لحق بمصلحة من المصالح التي يحميها الق انون ،دون االكتراث إلى هاجس
العق اب الذي يعد من صميم العمل الجنائي فقط ،ومن ثم كانت الحاجة الملحة لهذا األخير كردة فعل مناسبة،
لوضع أسس جديدة تقوم على تحمل المسؤولية في التبعات الجنائية وما تفرضه من عقوبات رادعة ،تتجلى في
صور زجرية عامة منها ما هي تق ليدية كالعقوبة السجنية والعقوبة الحبسية ويطلق عليها بالعقوبة األصلية،.15
ينص الفصل 15من مجموعة الق انون الجنائي على أن العقوبات األصلية إما جنائية أو جنحية أو ضبطية. 15
1 -اإلعدام؛
1 -الحبس
وأق ل مدة الحبس شهر وأقصاها خمس سنوات باستثناء حاالت العود أو غيرها التي يحدد فيها الق انون مددا أخرى.
أما الفصل 18فقد نص نوع ثاني من العقوبات األصلية وهي العقوبات الضبطية األصلية :
تمم بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.03.207صادر في 16من رمضان 11( 1424نوفمبر )2003بتنفيذ الق انون رقم
128
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
– 24.03المادة الثانية
4 -الحرمان النهائي أو المؤقت من الحق في المعاشات التي تصرفها الدولة والمؤسسات العمومية
5 -المصادرة الجزئية لألشياء المملوكة للمحكوم عليه ،بصرف النظر عن المصادرة المقررة كتدبير وق ائي في الفصل 89
ينص الفصل 61من مجموعة الق انون الجنائي على أن التدابير الوق ائية الشخصية هي : 17
-اإلقصاء
-المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن سواء كان ذلك خاضعا لترخيص إداري أم ال
-مصادرة األشياء التي لها عالقة بالجريمة أو األشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظور امتالكها
129
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
وعلى هذا األساس نجد الق انون الجنائي المغربي من خالل المجموعة التي تناولته وبوبته وفق ثالثة كتب مجزءة
لعدة أجزاء ،قد استف اض في تحديد مختلف العقوبات الزجرية المتداولة على الصعيد العالمي والمنصوص عليها
في االتف اقيات الدولية التي صادق عليها المغرب ،والتي تفيد بأن التشريع الجنائي المغربي ما هو إال امتداد
للفكر الالتيني الجرماني ،إذ أخد فعال جملة من األحكام الق انونية الخاصة بالمدرسة الالتينية الجرمانية ،باعتبارها
األساس التشريعي للمعاهدات واالتف اقيات الدولية ،باإلضافة إلى أحكام أخرى نابعة من مدرسة الفقه اإلسالمي-
المالكي.-
وهكذا فمن خالل التركيبة البنيوية التي تضمها المحاور األساسية لفهرس مجموعة الق انون الجنائي المغربي،
نجد أن طبيعة العقوبات المقررة للجزاء الجنائي قد اختزلها المشرع الجنائي حصرا كما ق لنا في ثالثة مبادئ وهي
عقوبات أصلية وعقوبات إضافية باإلضافة إلى تدابير وق ائية ،واألصل في هذا التنوع الذي يعرفه التشريع
الجنائي المغربي يعكس التطور الفكري الذي لحق مبادئ القوانين الجنائية العالمية وأثر فيها شكال ومضمونا
بفضل ف لسفة المدارس الفكرية التي كان لها السبق في الدعوة إلى مراجعة وتطوير الترسانة التشريعية الجنائية
وجعلها أكثر مطابقة للواقع اإلنساني ،في إطار أنسنة العقوبات السالبة للحرية القصيرة والطويلة األمد ،ولما كان
التشريع الجنائي المغربي في الق انونية المحددة لمختلف الجرائم ومختلف العقوبات ،قد استجاب للتطور
الجنائي الفكري قصد مالءمة الواقع مع الق انون ،فهذا يدل على أن الخصوصية السيكولوجية لألفراد المجتمع
المغربي قد تطورت هي األخرى مع التطور الحاصل في الخطاب الجنائي ،ذلك أن المبادئ التي يتناولها الق انون
الجنائي المغربي من خالل خطابه كمبدأ الشرعية مثال ،تجعل األفراد في موضع راحة واطمئنان من أي متابعة
كيدية ظالمة ينتج عنها تجريم لفعل ال يعد جرما ،أو حكم قضائي جائر ال يستند على ضوابط ق انونية من الناحية
الشكلية ،إذ أن كل إجراء ق انوني ال يستند على الشرعية يعتبر باطال بقوة الق انون ،وال يمكن إثارته أبدا أمام
الجهات القضائية المختصة .وبما أننا نتحدث هنا عن الجهة الرسمية المنوط لها تطبيق قواعد الجنائي داخل إق ليم
الدولة ،والممثلة في السلطة القضائية دون سواها من الجهات األخرى ،ف إن المنطق يقضي بوجود مسبق لمؤسسة
130
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
قضائية مستق لة تحكم بين األفراد في كل نزاعاتهم الق انونية عامة ونزاعاتهم الجنائية خاصة ،وهكذا فسيكولوجية
الخطاب الجنائي المبنية على ازدواجية التجريم والعق اب ،تروم أوال إلى حصر األفعال واألقوال المجرمة بواسطة
نصوص ق انونية ،ثم تحديد العق اب المناسب لها في نفس النصوص السالفة الذكر ،ومعنى هذا أنه ال يمكن
تطبيق العق اب على الجرائم المرتكبة إال بواسطة مؤسسة القضاء الزجري ،الن تدخله في هذا اإلطار يعتبر اكبر
بين األفراد ،مع العلم آن مبدأ التق اضي أمام المؤسسات القضائية الزجرية والمبني على درجات في التشريع
المغربي ،يعكس في حقيقته فكرة نظامية أساسها العدل والعدالة ومركزها دولة الحق والق انون ،ذلك أن
الجريمة بمختلف درجاتها وصورها ماهي إال حدث أواقعة جنائية ،تنشأ حق الدولة في العق اب وتخلق رابطة
ق انونية ال بين الجاني أو الضحية ،وإنما أيضا بين الدولة كشخص معنوي ممثلة في مؤسسة القضاء وبين الجاني
تجسد الصياغة الجنائية في حقيقة أمرها نظاما ق انونيا مزدوجا بين متضادات فكرية وحسية ،تختزل العديد من
العناصر النفسية المتعلقة ببيئة اإلنسان وفطرته الطبيعية كالمشاعر واألحاسيس واالنطباعات والمعتقدات ....الخ،
ذلك أن هذه االزدواجية تجعل منها مركبا "سيكولوجيا" عميق األبعاد ،متشعب التجليات ،كثيرا ما تتداخل
عناصره وتتضافر مكوناته ،من أجل إثراء هذا النظام المركب من خليط مادي ومعنوي ،ومن المعلوم أيضا أن
المقتضيات الق انونية التي يتضمنها الق انون الجنائي ويؤطرها في مجموع أقسامه أي بمفهومه الشامل والدي يضم
كل من القسم العام والخاص والمسطرة الجنائية باإلضافة إلى باقي العلوم والمف اهيم الجنائية األخرى التي تنضوي
تحت لوائه ،وعلى رأسها السياسة الجنائية تجعلها في طليعة القوانين الموضوعية التي يستشعرها المرء في محيطه،
ويدرك تمام اإلدراك أن االحتكاك بها أو حتى االقتراب من دائرتها تجعله يحس بخطر سيحدق به كلما توفرت
الشروط الالزمة لقيام هدا األمر ،وما األفعال واألقوال التي يجرمها الق انون الجنائي بواسطة فصوله إال صيغة خاصة
18بمعنى أن العقوبة تسري في حق المذنب مرتكب الجريمة وال تمس أشخاصا آخرين من أسرته أو عائلته أو أقربائه.
131
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
من الصيغ التي يعتمدها الق انون الجنائي من أجل الترغيب والترهيب في نفس الوقت ،ف اإلحساس بالرغبة في
وجود قواعد زجرية تعتبر أهمية قصوى لألفراد والمؤسسات من أجل حمايتهم وحماية مصالحهم ،ف الناس كما ق لنا
في مطلع المبحث السابق تختلف أفكارهم من شخص لألخر ،وفي بعض األحيان نجد ثق افة بعض المجتمعات أقوى
من القوانين الزجرية المعمول بها في محيطهم االجتماعي ،ومع ذلك ف البد من القواعد الزجرية تحسبا لألي
طارئ ،ف إذا وجدنا في مجتمع معين عددا محترما من األفراد الصالحين ،فهذا ال يعني أنه ال يوجد بينهم شخص
غير صالح ويتطلع لهدر مصالحهم كلما سمحت له الفرصة للقيام بذلك ،ومن ثم ف إن رغبة الناس في وجود ترسانة
من القواعد الزجرية تجرم كل األفعال واألقوال الضارة بمصالحهم أمر في غاية األهمية ،والزمة لهم في كافة
الظروف حتى وإن سلمنا بفرضية المجتمع الصالح أو المدينة الف اضلة كما يعبر عنها الفيلسوف اليوناني أف الطون
وأما الترهيب فهو ذلك الجانب المق ابل من القراءة السيكولوجية من زاوية اإلعتداء بمعنى أنها رؤية خاصة
للشخص المعتدي ،ذلك أن القواعد الزجرية من مدلولها السيكولوجي تعمل على ترهيب وترويع المجرمين أو
كافة األشخاص الدين توفرت لديهم النية اإلجرامية أو أنهم على استعداد لمحاولة ارتكاب فعل جرمي يجرمه
الق انون الجنائي ،مما يجعل القواعد الجنائية تلعب دورا محوريا في محاربة الجريمة انطالق ا من فكرة الترهيب
التي ترسلها لهؤالء كإشارة ضمنية لكل من أراد خرق القواعد الق انونية المعمول بها .وفي الواقع أن اإلحساس
بالرهبة والخوف من النواهي التي وضعها المشرع الجنائي في شكل قواعد أمرة ال تقبل المزايدة عليها ،حيث
تجعل القواعد الزجرية من منطلق وظيفتها الق انونية تشكل في حد ذاتها الق لب النابض للق انون في عموميته،
كما تعكس الفهم القوي لعلم الق انون وتمييزه عن باقي العلوم األخرى التي تندرج في مصاف العلوم اإلجتماعية.
إن الخطاب الجنائي في شموليته يمكن اعتباره سالح ذو حدين ،إذ يقوم بالتحذير من الوقوع في أي صورة من
صور الجرائم المذكورة حصرا في المجموعة الجنائية ،وفي نفس الوقت يعاقب كل األفعال واألقوال التي صدرت
من األشخاص أو المؤسسات ،ولعل هذه اإلزدواجية جعلت من قواعد الق انون الجنائي تتبوء مكانة رفيعة بين
الناس من خالل الخطورة التي يستشعرونها كلما دنوا من قواعده ،وبالرغم من ذلك ف إن العقوبة الجنائية يكون
132
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
هدفها في بعض األحيان ه و إح داث التكي ف االجتم اعي الالزم في كل األوق ات لإلعادة ترميم وإصالح اإلنف الت
اإلجتماعي واألمني الذي حصل داخل المجتمع ،فه ي ال ت دخل ف ي اعتباره ا السلوك اإلجرامي و إنم ا تراع ي
مس تقبله حت ى ال يق ع المج رم في ه م رة أخ رى ،وه ي ت دابير مفروض ة م ن الدول ة لص الح الج اني و المجتم ع ،ومن ثم
نجد أن العقوبة لها بعد زاجر وبعد آخ ر إص الحي ،ف إذا ما نظرنا إلى السياس ة الجنائية التي تؤطر المشهد العام
لقواعد الق انون الجنائي ،سنكتشف أن العقوبة تح دد نس بة الزج ر ف ي الج زاء مق اب ل نس بة اإلص الح ،فق د تك ون
الحاجة إل ى زي ادة جرع ة الزج ر ف ي العقوب ة المق ررة ،و ق د يك ون العك س ف ي وق ت آخ ر ،وه ذه الوظيف ة
المعقدة التي تقوم بها السياس ة الجنائي ة من خالل تحديد وقت التغيير ومقداره ،تؤكد لنا الطرح الجنائي
المزدوج المبني على الترغيب والترغيب أو الزجر واإلصالح كم ا يراه ا فقهاء الق انون الجنائي ،لذلك فمن من
الواضح أن الق انون الجنائي تم إعداده للترغيب أوال ويكون هذا األمر قبل إيق اع العق اب ثم الترهيب ثانيا
ويكون بطبيعة الحال إبان ايق اع العق اب ،ولإلدراك هذا المعطى ف إن الق انون الجنائي يعتمد على خمسة أساليب
يتساوى الناس أمام القضاء عموما والقضاء الجنائي على وجه الخصوص في تحمل المسؤولية الجنائية وما يترتب عنها
منها عقوبات رادعة ،ذلك أن الق انون الجنائي وبنا على ما يحمله من نصوص جنائية صرفة يعامل األشخاص على
قدم المساواة ال يهمه في دلك نسب الشخص أو صفته أو مكانته االجتماعية ،و يحملهم المسؤولية بحسب الذنب
الذي يرتكبونه والنصوص الق انونية تتصف بصفة التجريد و العموم ،تطبيق ا للمبدأ العام الق اضي بربط المسؤولية
بالمحاسبة ،والمسؤولية في هذا اإلطار ال نعني بها تكليف إداري أوبمهمة إدارية نابعة من قرار إداري يقضي
بتدبير مصلحة إدارية معينة ،وإنما نعني بها تحمل تبعات التصرف الذي يقوم به أي شخص راشد وعاق ل
ومدرك ،ومن هذا المنطلق ف إن الق انون الجنائي يعتمد على خمسة أساليب مستخدمة عالميا في تنفيذ عقوباته
133
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
الزجرية وهي :القصاص ،والردع ،والتعجيز ،وإعادة التأهيل ،والتعويض .وتختلف درجة ممارسة ٍ
كل من بحسب
القصاص (Retribution)-تفرض فكرة القصاص في السياسة الجنائية جانب خاص من التطبيق المادي
والمعنوي للعقوبة الجنائية في نظامها الشرعي والق انوني ،ف القصاص يروم إلى مطابقة الفعل اإلجرامي
بالعقوبة ،إذ يحتم على المجرمين اإلحساس بنفس المعاناة التي أحس بها المعتدى عليه ،وهذا هو المبتغى
وراء استخدام هذا األسلوب .والقصاص هو أشد العقوبات التي ينالها المجرمون في النظام الجنائي بسبب
الضرر الجسيم الذي يلحق بهم في جسدهم ،ف إن الق انون الجنائي سيضع المجرمين في موقف ال يحسد عليه
بغية "تحقيق القسطاس" .ف الق اتل يقتل ،والمعتدي يعتدى عليه في أحد أعضاء جسده ،وهذا المنهج مأخوذ
فرض عقوبة وافية لكبح وإضعاف عزيمة المذنب وتخويفه من ارتكاب السلوك الجنائي لشدة الجزاء المترتب
عن فعله .وأسلوب الردع نظام دف اعي وهجومي في نفس الوقت يهدف إلى ردع الشخص المذنب بصفة
خاصة ولألفراد المجتمع ككل .ذلك أن تطبيق العقوبة الجنائية على مرتكبي الجرائم ،تعمل على تخويف
التعجيز (incapacitation)-عبارة عن منع ق انوني يسعى إلى إبعاد المجرمين وقصرهم عن المجتمع
حتى يأمن من شرهم .ويتحقق هذا األمر في شقين أساسيين يتعلق األول بفرض عقوبة السجن لمدى الحياة
أو اإلق امة الجبرية .وأما الثاني فتخدمه في هذا اإلطار كل من عقوبة اإلعدام وعقوبة الطرد أو النفي خارج
134
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
إعادة التأهيل (Rehabilitation)-نظام جنائي ق ائم بذاته يهدف إلى تحويل المذنب من شخص سلبي
إلى شخص إيجابي وفرد فعال في المجتمع ،وإعادة التأهيل من وجهة نظر علم العق اب تعد من العقوبات
الفعالة والمنتجة ،التي تساهم في تحويل طاق ات وقدرات المجرم من ارتكاب الجريمة إلى االستف ادة منها في
ِ
خدمة المجتمع ،من خالل تعليم المجرمين مجموعة من المهن الحرفية وإعادة تكوينهم في مجموعة من
المجاالت واألشغال العامة التي تساعدهم في الحصول على شغل بعد انتهاء فترة عقوبتهم ،إذن فهذا
األسلوب الزجري يروم إلى تف ادي المزيد من ارتكاب الجرائم ،وذلك بإقناع المذنب بمدى الخطأ الجسيم
التعويض (Restitution)-هو عبارة عن نظام خاص يقوم في بعض األحيان مق ام العقوبة في شقها المالي
فقط ،فهو إذن نظام يعتمد فيها نظام العقوبات على تعويض الضحايا .هدفه األساسي إصالح ماتسبب به المذنب
من إيذاء للضحية بناء على حكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به .وهو ما يسمى في إطار السياسة العق ابية
بالعدالة التصالحية أو التعويضية المبنية على فكرة التصالح أو الصلح مق ابل تعويض معين كما أشار إلى ذلك هللا
عزوجل في كتابه الحكيم في األية 92من سورة النساء(ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة
لألهله) ،ومن هنا نستنتج أن التعويض في الق انون الوضعي يق ابله في الق انون الطبيعي مصطلح الدية.
135
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
عموما لحظة متميزة جدا لمناقشة مختلف األفكار والنظريات التي تؤطر موضوع 19
تشكل القراءة اإلبستمولوجية
النق اش من وجهة نظر معينة ،فهي تجعل الق ارئ لها باعتباره باحثا ومحلال إبستومولوجيا ،ينطلق من فكرة أساسية
مف ادها أن كل المعلومات واألفكار التي لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بجوهر الموضوع المطروح للمعالجة
والنق اش تعد من الناحية العلمية مفيدة له ومهمة ،ويمكن استعمالها لهذا الغرض العلمي الذي يسميه الباحثون
في هذا الميدان باألدوات الفنية المخصصة للطرح اإلبستمولوجي ،بمعنى أنه يبحث في كل االتجاهات مهما
اختلفت رؤيتها وبنيتها الموضوعية والشكلية ،أي أنه ينطلق من كل صغيرة وكبيرة لتأسيس ق اعدة البيانات
الخاصة بالدراسة اإلبستيمولوجية ،ويعتمد في نفس الوقت على كل رأي مساند ومعارض يفيد طرحه
اإلبستمولوجي ،الرامي أساسا إلى بناء حق ائق معرفية معينة وترميمها وفق نسق علمي متين يقوم على الجدال
وعلم اإلبستيولوجيا في واقع الحال ال يعد غريبا لإلثارة هذه المواضيع الهامة مثل موضوع الق انون الجنائي من
موقعه اإلستراتيجي داخل المنظومة التشريعية وجعله في صلب اهتماماته العلمية ،وال سيما أن مثل هذا الموضوع
المتعلق بالق انون الجنائي وبيان مصادره لم ينل من العناية ما يكفيه ،في ظل التطورات التي تعرفها نصوصه
الق انونية من وقت لألخر .ومع ذلك لم يستطيع أحد من الباحثين استخدام هذا العلم الهام في التحقيق من هوية
الق انون الجنائي المغربي وبيان مصادره األساسية التي أطرت مبادئها العامة وتخصيص قواعده الجنائية
هو مصطلح استخدم ألول مرة من قبل الفيلسوف االسكتلندي جيمس فريدريك فيرير James Frederick Ferrierلوصف 19
فرع من فروع الف لسفة المَعنية بِطبيعيةِ ،ونِطا ِق المعرفة ،وتفسيرها بإيجاز ،وكيفية الحصول عليها ،وما هي الصلة بينها وبين الحق ائق
الموجودة من حولها.وكما ركّز الفيلسوف فيرير على التَّحليل الفَلسفي لِطبيعة المعرفة ،ومدى ارتباطها بِمختلف المف اهيم ،مثل:
ٍ
وأربعة وخمسين ،في معاهد الحقيقة ،واالعتق اد ،والتَّبرير ،وكانت أول مرة أُدخل فيها تعبير اإلبستمولوجيا في عام ٍ
ألف وثمانمائة ّ
صيغت
ْ الفيلسوف فيرير ،وكلمة اإلبستومولوجيا مشتقةٌ من نظريةِ المعرفة ،أي من اإلبستميو اليونانية والتي تعني المعرفة ،وقد
هذه النَّظرية على غِرار االنطولوجيا (علم الوجود) للتعمق أكثر أنظر علم اإلبستمولوجيا على الرابط:
موضوع.كوم: https://mawdoo3.com/
136
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
والعق ابية ،علما أن علم اإلبستمولوجيا من خالل تشعبه في طرق المناهج المعتمدة في بنيته العلمية ،جعلته ينفرد
بخصوصية لم يسبق أن تميز بها علما أخر نظرا لمحاوالته الجاهدة في تسليط األضواء على مختلف المعارف التي
أجل إن علم اإلبستيمولوجيا وبناء على ما تفيد نظرته المتميزة والشاملة لمناقشة مختلف المواضيع المتعلقة بالعلوم
اإلنسانية ،تجعله على رأس النظريات العلمية التي يحتاجها بالفعل الق انون الجنائي المغربي الذي ظل لسنوات
طويلة يحير مختلف المختصين في الكشف عن انتمائه األكاديمي بسبب اقتباسه لمجموعة من النظريات
واألحكام الخاصة ببعض المدارس الفقهية الق انونية وفي طليعتها مدرسة الفقه اإلسالمي ممثلة في المذهب
المالكي والمدرسة الجرمانية الالتينية ممثلة في المدونة الجنائية النابوليونية ،وهو ما يجعل بالفعل الق انون
الجنائي غامضا جدا وغير مفهوم بسبب اختالف المصادر الرسمية لكل من المدرستين السالفتين الذكر.
المطلب األول :القراءة اإلبستيمولوجية ومساهمتها في تحديد أصول الق انون الجنائي المغربي
إن القراءة اإلبستمولوجية كما ق لنا في مقدمة المبحث أعاله مسألة في غاية الحساسية لكونها نسق ا علميا داال ،له
القدرة على كشف الغموض وطرح البديل ،أو على األق ل شرح الحق ائق التي ال طالما اعتبرها البعض نقط غامضة.
وقراءتنا للمنهج اإلبستمولوجي في الق انون الجنائي المغربي ،له أيضا داللة خاصة في هذا اإلطار ،إذ ال يمكن أن
نبرح الحديث عن أهمية المق اربة اإلبستمولوجية من دون اإلشارة إلى أن المنهج اإلبستمولوجي يعتمد على
ميكانيزمات خاصة تميزه عن باقي المناهج العلمية األخرى المخصصة لدراسة مختلف الظواهر والنوازل المعروضة
للبحث والتحليل ،وفي حقيقة األمر يكاد المنهج العلمي الحديث في إطار دراستنا لبنية الق انون الجنائي المغربي
يجمع بين حق ائق علمية عديدة تخص هذا الفرع األساسي من العلوم الق انونية ،ذلك أنه باستعمالنا لهدا المنهج
يمكننا في هذه الحالة أن نميز بين عصرين مختلفين عصر يعود إلى ما قبل دخول الحماية الفرنسية للمغرب
وعصر أخر ينطلق من بعد دخول الحماية للمغرب سنة ،1912على أساس أن في كل عصر قد تم االعتماد على
مصدر معين ،ومعنى هذا أن هناك صدرين أساسيين في تطبيق التشريعات الق انونية في الق انون الجنائي على
المستوى الدولي عموما وعلى المستوى الوطني خصوصا ،وهما األحكام الشرعية المنصوص عليها في القرآن
137
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
الكريم والسنة النبوية ،ثم النصوص الق انونية الدولية التي تم المصادقة عليها وتحولت إلى ثوابت ق انونية تساهم
في تحديد السياسة الجنائية والعق ابية ،ووضع مجموعة من الحدود التي تؤدي إلى معاقبة المجرمين ،وردعهم
إن النظرية اإلبستومولوجية عموما تخضع لضوابط فنية وتقنية تكاد تستأثر بها لوحدها عن باقي النظريات
والمناهج العلمية األخرى ،فهي معنية قبل كل شيء بمعرفة بعض التساؤالت المحورية المتعلقة بالشروط الضرورية
والكافية التي يمكن الحصول عليها من المعرفة ،وما هي مصادرها ،وهياكلها ،وما هي حدود المعرفة .ومن
البديهي أن كل محاولة لتأمل موضوعي شامل لبنية الق انون الجنائي المغربي والمسار الذي قطعه بين أزمنة
طويلة و متق اطعة في الفكر والمنهج ،تعتبر عويصة إن لم نق ل مستحيلة من الناحية العلمية بالنظر إلى الصعوبات
التي يفرضها المنهج اإلبستيمولوجي في دراسة القضايا والملف ات الكبرى المخصصة للنق اش والدراسة وتنوير
الرأي العام ،على أساس أن اختيارنا لعلم اإلبستيمولوجيا في هذه المناسبة العلمية المباركة والمخصصة لدراسة
بنية أقوى فرع من فروع علم الق انون واألكثر شهرة بينها والمتمثل في الق انون الجنائي ،لم يكن نابع من رغبة
ذاتية تتعلق عادة في معالجة إشكال يطرحه محور من محاور الق انون الجنائي ،بل فرضته وأملته علينا الظرفية
التاريخية الخاصة لهدا الفرع الخطير من الق انون والكيفية التي ظهر بها في الواقع العملي وبروزه وحضوره
بشكل الفت للنظر بين باقي الفروع األخرى ،حتى أضحى يشكل لوحده داخل المنظومة األكاديمية للعديد من
الدول ومن بينها المغرب تخصصا رئيسيا ومحايدا يكاد يستق ل عن كل من القسم العام والقسم الخاص في شعبة
الق انون ،وال يخفي على الق ارئ الكريم أن الق انون الجنائي بالرغم من أقدميته من الناحية التاريخية ،وجديته من
الناحية السيكولوجية كيفما رأينا في المبحث السابق ،إال أنه الزال يعتبره أغلب أفراد المجتمع المغربي بما في
ذلك الدارسين والمتخصصين في هذا الميدان غريبا وغامضا ،ف الوصف األول يتعلق بمصدره أي المصدر
األساسي للق انون الجنائي المغربي الذي يستمد منه أحكامه ،وثانيا يتعلق بالمسار الذي يتجه فيه بمعنى الطريق
الذي يسلكه الق انون الجنائي المغربي من أجل مالءمة الغرض الذي أنشئ ألجله أمام األزدواجية الحاصلة في بنية
الفكر الجنائي.
138
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
الفقرة األولى :جدلية القواعد الفقهية في الق انون الجنائي المغربي :
هناك أزمة حقيقية تحوم حول ف لسفة الق انون الجنائي المغربي وطبيعة القواعد الفقهية التي استمد منها
مشروعيته لتكريس مجموع النصوص الق انونية التي ينص عليها حاليا داخل مجموعة الق انون الجنائي المغربي،
حيث أن الظروف الحقيقية للحقبة الهامة التي ظهر فيها الق انون الجنائي المغربي والتي جاءت مباشرة بعد
استق الل المغرب لم يعرها الفقهاء والمتخصصون في المجال الجنائي ما تستحقه من عناية ،فقد ظهرت نصوص
الق انون الجنائي المغربي بشكل غامض والزالت كذلك إلى يومنا ،بفعل التضارب الحاصل بين مبادئ ظلت
راسخة في الفكر اإلنساني تناولتها الشريعة اإلسالمية مند أمد بعيد جدا ،يعرفها المواطن المغربي المسلم إنطالق ا
من انصهاره التام في قواعدها الفقهية الوسطية السمحة ،وبين مبادئ أخرى حديثة اكتشفها المجتمع المغربي
نتيجة لإلحتكاكه بالعالم الخارجي الذي مثلته في الحقبة الممتدة على طول سنوات القرن الماضي كل من فرنسا
واسبانيا داخل المغرب ،مما جعل أكثر الناس يخلطون بين المبادئ األولى والثانية وخاصة في المجال الق انوني
الذي أصبح يتطور أكثر ف أكثر في ظل فترة الحماية التي عاشها المغرب في نصف قرن من الزمن .كما أن
النق اش العلمي في مادة الق انون الجنائي سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى األكاديمي أو حتى
الثق افي لم يتطرق أبدا في يوم من األيام لمحور المصادر األساسية للق انون الجنائي المغربي ،للحسم في الصراع
الدائر بين مختلف التيارات العلمية والتي يرى بعضها بأن الق انون الجنائي المغربي مصدره هو الشريعة
اإلسالمية والفقه اإلسالمي ،وما المستجدات التي طرأت على قواعده ما هي إال دليال واضحا على مسايرة القواعد
الشرعية للتطورات الحاصلة في بنية المجتمع اإلسالمي ،وما نتج عنها من اختالف ات فقهية وقضائية ،والتي برز عنها
آليات هامة نذكر منها التعازير الفقهية الممنوحة للقضاة في ظل سلطة المالءمة وتكييف الوق ائع وتطبيق
األحكام ،في حين ترى الجهة المق ابلة لهذا الرأي أن المصدر الحقيقي للق انون الجنائي المغربي هو الفكر
الالتيني الجرماني ذو األصول األوروبية ،أي أنه مستمد من المدرسة الالتينية الجرمانية.وخاصة مدونة نابوليون.
139
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
من الواضح جدا عند تفحص أبواب الق انون الجنائي المغربي أو باألحرى مجموعة الق انون الجنائي المغربي
سنجد أن أغلب النصوص الموجودة على مستوى هذه األبواب تدرجت وفق ما يسمى بالتسلسل الجنائي لمختلف
الجرائم وطبيعة العقوبات المقررة لها ،وهذا األمر يعد مثاليا بالنسبة للمتخصصين الجنائيين وكافة المهن
القضائية والق انونية المرتبطة به ،حيث يسهل على كل هؤالء ومعهم أيضا شرائح أخرى عديدة من شرائح المجتمع،
تصفحه وفهمه واستخالص اآلثار الق انونية التي يرتبها ،ومع ذلك يعتبر غامضا وغير مفهوم خاصة إذا تحدثنا عن
مصادره الرسمية التي اشتقت منه مختلف أحكامه العامة والخاصة ،وال يغيب علينا في هذا اإلطار أن مجمل
القوانين المغربية التي نراها اآلن في شكل نصوص قوانين خاصة أو مدونات ،انشقت من مصادر معينة تتدرج
حسب رأي الفقه الق انوني إلى مراتب نذكر منها الشريعة والعرف واالتف اقيات الدولية ،...كما أن لها أعمال
تحضيرية خاصة بها تعكس من خاللها أهم الظروف المادية والموضوعية التي مرت بها القوانين مند نشأتها إلى
غاية نشرها بالجريد الرسمية .ذلك أن القضايا التي تحتاج إلى تدقيق أكبر في هذا اإلطار هي مسألة تحديد
المصادر التي اشتقت منها الوثيقة الق انونية لمختلف القوانين التي نراها اليوم تحتل مكانة بارزة في المجتمع
وتؤطر مختلف المجاالت الحيوية للدول وفي طليعتها الق انون الجنائي ،ونخص بالذكر الق انون الجنائي المغربي
حيث ال يوجد أصال نص تشريعي عام في المغرب يحدد مصادر الق اعدة الق انونية ،باستثناء ما يتصل ببعض
النصوص الخاصة كالق انون التجاري و مدونة األسرة ومدونة الحقوق العينية.
ولئن كان الق انون الجنائي يشكل أحد األعمدة األساسية لقيام فكرة الق انون وسموها بين فئات المجتمع ،ف إنه
من الطبيعي أن تلحقه تغييرات ف لسفية تعمل على تط وير مفه ومه من وقت لألخر تبع ا لتط ور مفه وم العلوم
الفرعية التابعة له كعل م اإلج رام مثال وما نتج عنه من مدارس عديدة ونظريات مختلفة ،ولم ا رس ت نظري ات عل م
اإلج رام عل ى النظري ات االجتماعي ة المعاص رة ،ولما رس ى أيضا مفه وم السياس ة الجنائي ة عل ى أنه ا التنظ يم العق الن ي
ل رد الفع ل االجتم اعي ض د الجريم ة ف ي مجتم ع مع ين و ف ي وق ت مع ين" ،فتح دد السياس ة الجنائي ة المص الح
140
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
تقتضي طبيعة الدراسة وخصوصية الموضوع المطروح للتحليل والنق اش اعتمادا على منهج التحليل اإلبستيمولوجي
الذي اخترناه لكشف الحق ائق الغائبة ومد جسر فكري يربط بين الماضي والحاضر ،الوقوف على ما تم التوصل
إليه في ظل المطلب السالف الذكر ،والذي ق لنا من خالله على أن الفكر الجنائي المغربي وما يحمله من قواعد
تجريمية وعق ابية اختلف وتغير بين عصرين مختلفين لكل منهما مصدر معين في صياغة القواعد الجنائية
وتطبيقها على مستوى الواقع أمام الجهة المختصة بتطبيق الق انون الجنائي ،ولعل أهم ما يمكن الحديث عنه في
هذ ا اإلطار هو أن الحقبة التي سبقت فترة الحماية بالمغرب ،كانت بمثابة نقطة هامة في التاريخ الجنائي
المغربي ،حيث كانت أغلب األحكام القضائية الجنائية الصادرة في حق المذنبين من عامة الناس داخل إق ليم
الدولة المغربية ،تعتمد باألساس على ما هو معمول به في المنظومة الجنائية أنداك ،حيث كانت أحكام الشريعة
اإلسالمية هي المطبقة في تلك الفترة في جل المناطق واألمصار التابعة للسلطة المغربية ،باإلضافة إلى قواعد
الفقه المالكي المطبقة في بعض الجرائم الحديثة ،أما الحقبة الثانية والمتمثلة في حقبة الحماية فقد تناولت
أحكاما أخرى غير تلك التي كانت تطبق في الحقبة األولى ،أي أن هناك تحول كبير إن لم نق ل جدري في
منظومة الق انون الجنائي المغربي ،و هذا راجع باألساس إلى الدور األجنبي الذي لعبته فرنسا ومعها اسبانيا منذ
دخولهما إلى المغرب ،غير أن هذا التحول الخطير لم يدركه المغاربة أنذاك بفعل الضغط الذي كانت تمارسه
فرنسا في كل مناطق المغرب بإستثناء منطقة الشمال ومنطقة الجنوب اللتان كانتا تتواجدان تحت سيطرة وضغط
اسبانيا ،كما أن ظهور مؤسسات قضائية في حلة جديدة تناسب ثق افة المستعمر في تشخيص ق انونه الجنائي
بأرض المغرب ،سهلت األمر لإلحتضان قواعد جديدة خاصة بالفكر الجنائي المغربي ،خاصة وأن األجانب أصبح لهم
دور أساسي في تسيير العديد من المرافق الهامة بالمغرب نذكر من أهمها قطاع العدالة ،من خالل فرض
سياسة جنائية جديدة و إجراءات مسطرية حديثة لم يكن للمغاربة عهد بها سابق ا إال بعد فرض الحماية على
الفقرة األولى :المذهب المالكي وعالقته بالق انون الجنائي المغربي :
141
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
تعتبر الشريعة اإلسالمية ومعها الفقه اإلسالمي-المالكي -من أهم المصادر الق انونية للق انون الجنائي المغربي
قبل فترة الحماية ،ومن المعلوم أننا حينما نتحدث عن الق انون الجنائي المغربي في هذا اإلطار ،ف إننا بطبيعة
الحال نحصر هذا الق انون في القواعد الشرعية المعمول بها في التنصيص على الجرائم وما يلزمها من عقوبات
حددها الشارع اإلسالمي حصرا في نصوص القرأن الكريم والسنة النبوية ،مع تركه مجاال واسعا في إطار السلطة
التقديرية الممنوحة لألولي األمر والقضاة(التعازير) في تحديد العقوبات المناسبة لبعض الجرائم فقط ،التي
يمكن القول عنها أنها أق ل حدة من تلك التي حددت بموجب نص شرعي كما هو الحال بالنسبة للجرائم التق ليدية
كالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر،...أو أنها ظهرت كجرائم جديدة بفعل توسع رقعة اإلسالم واحتضانها لألقوام
وقبائل متعددة ساهمت إلى حد ما في ظهور أنماط جديدة من األفعال واألقوال ،التي تدخل الفقه اإلسالمي فيما
والق انون الجنائي المغربي على غرار الكثير من القوانين الجنائية للعديد من البلدان العربية اإلسالمية تأثر هو
األخر بقواعد الشريعة اإلسالمية مند أن وطأ اإلسالم أرض المغرب أي ما يق ارب ثالثة عشر قرنا من الزمن ،تعاقبت
على إثرها العديد من الحضارات اإلسالمية الهامة في تاريخ المغرب ،وعلى ما يبدو أن المغرب وبفضل اعتماده
على المذهب المالكي أي مذهب اإلمام مالك إمام المدينة المنورة ،ساهم إلى حد ما في تطور الق انون الجنائي
المغربي من خالل بوابة الفقه واالجتهادات التي يراها في كل لحظة وحين ،حيث أصبح الفقهاء المغاربة
يجتهدون في بعض الجرائم المستحدثة تبعا للخطورة التي تشكلها على المجتمع المغربي مع ترك أمر العق اب إلى
الحاكم أو ما ينوب عنه من القضاة الشهود لهم بالحنكة واالستق امة ،أو في بعض األحيان إلى الق ائد وخاصة إن
تعلق األمر بأمن الدولة أو القبيلة ،وهكذا فقد وضعت الشريعة اإلسالمية من خالل بوابة الفقه اإلسالمي كما ق لنا
منهجا معينا في التشريع الجنائي وذلك بمحافظتها على األصول الكلية الخمسة والتي اعتبرتها مقصدا من
مق اصدها وهي الدين والنفس والنسل والعق ل والمال فسنت لذلك جرائم وحدود وأوجبت قصاصا للحف اظ على
142
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
ومن المعلوم أن التشريع الجنائي اإلسالمي استنادا إلى منطوق األدلة الشرعية من كتاب هللا عزوجل أي القران
الكريم والسنة النبوية الشريفة ،ال يرفض وال يأبى أبدا اإلستف ادة من ثمرات الجهود العلمية طالما كانت متفقة
مع أحكامه وتؤدي غرضا معينا ،بدون تناقض أو تعارض بطبيعة الحال ،وهذا ما سار وتعاقب عليه فقهاء
المذهب المالكي بالمغرب منذ أن أصبح هذا األخير رقعة جغرافية هامة من دار اإلسالم ،20إذ أصبح المنهج
الرئيسي للفكر الجنائي بالمغرب يطبق بما جرت عليه القواعد األصولية والفقهية المنصوص عليها في المراجع
األساسية للفقه اإلسالمي عامة والفقه المالكي خاصة (القرأن والسنة) ،كما أن مجال التعزير في أحكام الشريعة
اإلسالمية الغراء مجال خصب يسمح للجهة المعنية باألمر أي القضاء بإعتباره صاحب الوالية في هذا اإلطار أن
يستفيد إلى أبعد حد من تلك الثمرات في تشريع بعض األحكام وتطبيقها ،فيما يحتاج إليه المجتمع المغربي
باعتباره مجتمعا إسالميا توالت على أرضه أقوى الحضارات اإلسالمية منذ فجر اإلسالم وإلى يومنا هذا .
الفقرة الثانية :أثر المدرسة الجرمانية الالتينية في الق انون الجنائي المغربي
في الواقع ال يستقيم المق ام حينما نقيس حجية وقطعية القواعد الفقهية المالكية المقتبسة من الشريعة اإلسالمية
بوصفها قواعد طبيعية متصلة بالدين اٌإلسالمي الحنيف ،بنظيرتها الموضوعية التي تم اقتباسهما من مدارس
وضعية صرفة-بوصفها عمل إنساني -كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة الالتينية الجرمانية ،ذلك أن الفئة األولى
من القواعد تتميز بالكمال والسمو والعموم ،صالحة لألي زمن ومكان ،ال تقبل التجزيء وال التغيير إال إ ذا حالت
عوارض قوية ال طاقة لإلنسان بها ،إذ ذاك ينتفي معها التكليف ،21أما الفئة الثانية من القواعد والمتمثلة في
مصطلح تاريخي يستعمل للتفرقة بين الدول التي اعتنقت اإلسالم وطبقة أحكام الشريعة اإلسالمية بغبرها من الدول التي لم تعتنقه 20
يعتبر التكليف في الشرع أو ما يق ابله في الق انون بالمسؤولية ،الحلقة األبرز في تحمل االلتزامات والواجبات وما ينتج عنهما من 21
تبعات خاصة سواء أكانت شرعية أو ق انونية .وبما أن المسؤولية من زاوية الدراسات الق انونية تنتفي أو تنقص أو تنعدم بالنظر إلى
سن الشخص وحالته البدنية والذهنية ،ف إن نفس األمر نجده في سياق الحديث عن التكليف من زاوية الشرع اإلسالمي ،ذلك أن
143
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
القواعد الموضوعية أي أنها من عمل اإلنسان ونتاجه وال تتصل بقواعد الدين إطالق ا إال فيما يخص بعض أجزائها،
لكونها تنم عن تجربة اإلنسان في الحياة والحاجة الملحة إلى التطور من أجل جلب المصالح ودرء المف اسد ،إذن
فهي قواعد متغيرة وغير مستمرة تتغير بتغير الزمن والمكان ،بل إنها ق ابلة للتغيير في أي لحظة ،مما يجعلها
تتميز بالقصور والنقص ،وهذا ما يجعل الق انون الجنائي المغربي محل إشكال وغموض ،وال سيما حينما يشرع
الق ارئ بدراسته وتمحيصه ،يراوده إشكال مستمر هل أحكامه مستنبطة من الفقه اإلسالمي المالكي أي له صلة
بأحكام الدين اإلسالمي ،أم أن حداثة المجتمع المغربي وانفتاحه على ثق افة العصر جعلت أحكامه ق اب قوسين أو
أدنى تميل إلى المدرسة الالتينية الجرمانية؟ في واقع األمر ال يوجد لدينا سندا تاريخيا لكي نجيب عن السؤال
السالف الذكر ،واألمارة على ذلك أن العالمة البارزة التي يرافع بها الخطاب اإلبستمولوجي في بنية الق انون
الجنائي المغربي أفرزت اتجاهات مضادة في التنقيب عن أثار المدارس الفقهية وال سيما المدرسة الجرمانية
الالتينية ،ومع ذلك ف إن المتصفح للق انون الجنائي المغربي لسنة 1962في جميع أبوابه سيجد أن جل الفصول
المنصوص عليها في هذا الق انون ال تمت بصلة إلى أحكام الشريعة اإلسالمية ،ولكن قد يق ال عنها أنها نتاج
قواعد فقهية صرفة أنتجها الفقه اإلسالمي بإعتبار أن المغرب دولة ذات مرجعية إسالمية يساهم فقهاؤها في
بلورة العديد من األراء الفقهية في كل مناسبة تحتاج فيها إلى إبداء الرأي الصحيح ،ومع ذلك ف إن هذا القول ال
نقبل صحته حتى ولو كان جزء منه صحيح ،على اعتبار أن الق انون الجنائي المغربي لسنة 1962إعتمد بشكل
كبير على قواعد المدرسة الالتينية في صياغة أغلب نصوصه الق انونية وتحديدا ق انون العقوبات الفرنسي لسنة
،1810وهذا يظهر جليا من حيث الشكل والموضوع ،فمن الناحية الشكلية الق انون الجنائي المغربي هو أقرب
إلى ق انون العقوبات الفرنسي في مجموع أبوابه التي تمت صياغتها بنفس الشكل مع اختالف جزئي في بعض
الحيثيات المتعلقة بنوع الجريمة ودرجة العقوبة ،إعتمادا على خصوصية المجتمعات واالختالف الحاصل بينها في
الفكر والمنهج ،أما من الناحية الموضوعية فقد إعتمد الق انون الجنائي المغربي لسنة 1962بنفس القواعد
التي استعملها ق انون العقوبات الفرنسي في التجريم والعق اب من خالل الف لسفة المعتمدة في ديباجة كل منهما،
التكليف ينقص هو األخر وينتفي وينعدم بوجود العناصر السالفة الذكر ،ومعنى هذا أن اإلنسان يختلف من شخص لألخر تبعا
لإلختالف الحاصل على مستوى السن والقدرة في التفكير واإلدراك والتمييز وتحمل األداء .
144
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
فضال عن أن الحقبة التي ظهر فيها الق انون الجنائي المغربي في صورته الحالية ،كانت نصوصه تصاغ باللغة
الفرنسية ثم تترجم إلى اللغة العربية ،مما يدل على أن الق انون الجنائي المغربي هو امتداد للفكر الصادر عن
المدرسة الجرمانية الالتينية شكال ومضمونا ،أوكما يقول أستاذنا محمد الشافعي في تعليقه على الق انون الجنائي
المغربي (الق انون الجنائي المغربي نشأ وترعرع بالمغرب لكن جذوره بأوربا).22
محمد الشافعي :الجذور التاريخية للقانون الجنائي المغربي ،درس إفتتاحي لفائدة الفوج األول من طلبة ماستر السياسة 22
الجنائية والعدالة اإلجرائية،يوم السبت 19أكتوبر 2019بقاعة الندوات بكلية العلوم القانونية واإلقتصادية واإلجتماعية
مراكش ،جامعة القاضي عياض.
145
المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة 2020
خاتمة :
من المؤثر جدا أن يغيب عن المتخصص في الق انون الجنائي الغربي مصادره الرسمية من أجل وضعه في سياقه
العام ومعرفة من أين اقتبسنا مجمل قواعده الق انونية ،لكنه من المفيد جدا البحث عن هذه المصادر بشتى
المناهج والعلوم األخرى للوصول إلى حق ائق معينة طالما غابت عن المشهد الق انوني الرسمي أو األكاديمي ،ومن
هنا كانت أهمية هذه الدراسة التي تجمع في أسلوب تحليلي مق ارن سيكولوجي وإبستيمولوجي يتناول األحكام
األساسية للق انون الجنائي المغربي في إطار الشريعة اإلسالمية السمحة وخاصة الفقه المالكي في حقبة ما قبل
الحماية ،ثم االنفتاح فيما بعد بحكم عامل الحماية المفروضة على المغرب سنة ، 1912على قواعد المدرسة
الجرمانية الالتينية باعتبارها محطة بارزة لتضافر الجهود التي بدلت على المستوى العالمي طبق ا للنزعة الف لسفية
التي اجتاحت أوربا ما بعد عصر النهضة وامتدت أثارها إلى أن بلغت المغرب وأصبحت جزء من منظومته
146