- سيكولوجية وإبستيمولوجية القانون الجنائي المغربي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 35

‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫سيكولوجية‪ 1‬وإبستيمولوجية‪ 2‬الق انون الجنائي المغربي‬

‫من خالل مدرسة الفقه اإلسالمي‪-‬المالكي‪ -‬والمدرسة الالتينية الجرمانية‬

‫د ‪ .‬سعد بن عجيبة‬

‫أستاذ باحث بكلية الحقوق مراكش‬

‫جامعة الق اضي عياض‬

‫ال شك أن الق انون الجنائي بمفهومه الواسع كان وال زال يعد في الوقت الراهن من المقومات األساسية في بنية‬

‫المنظومة التشريعية برمتها‪ ،‬ومن المسلم به أيضا أن تقدم المجتمع وتطوره نحو األفضل جعل منه عند المهتمين‬

‫بالفقه والق انون الضمانة األساسية لحقوق الدولة واألفراد‪ ،‬ذلك أن الق انون الجنائي من موقعه اإلستراتيجي‬

‫داخل هذه المنظومة نرى أنه يتحمل العبء األكثر ثق ال في صياغة الوصف الشامل للنظام العام وفهمه وضبطه في‬

‫أن واحد‪ .3‬فمن الناحية السيكولوجية يعد هذا الفرع من الق انون حلقة مهمة في استمرار هده المنظومة الهامة‪-‬‬

‫التشريعية‪ -‬واشتغالها في ظروف سليمة تحظى باالهتمام واالحترام من لدن كافة أفراد المجتمع‪ ،‬لكون أن هذا‬

‫الق انون وكما هو معلوم يضم في جوهره مجموعة من القواعد الق انونية اآلمرة في حلة زجرية عق ابية‪ ،‬تتدخل كلما‬

‫علم السيكولوجيا هو العلم الذي يهتم بدارسة الوظائف العق لية والسلوك لدى اإلنسان‪ ،‬فمن خالل هذا العلم يقوم علماء النفس‬ ‫‪1‬‬

‫(السيكولوجيين) بدراسة شخصية اإلنسان انطالق ا من جوانب حسية كالعاطفة والسلوك و اإلدراك ‪ ،‬والتي نجد صداها على مستوى‬

‫العالق ات الرابطة بين األشخاص أو بين األشخاص وبعض المعتقدات واألفكار الحسية ‪ ..‬إلخ‪.‬‬

‫علم اإلبستيمولوجيا أو نظرية اإلبستيمولوجية كما يطلق عليها أيضا نظرية المعرفة وهي دراسة شاملة لطبيعة المعرفة المراد‬ ‫‪2‬‬

‫معالجتها وفق ترتيبات معينة يحددها المنهج العلمي المستعمل قصد تفصيلها وشرحها وتبريرها‪ ،‬فهي إذن مجال شاسع لعق النية‬

‫االعتق اد في موضوع ما من خالل استعمال جميع المناهج المتاحة للوصول إلى نتيجة حتمية أو مؤقتة‪.‬‬

‫بالرغم من أن مصطلح النظام العام يصعب تعريفه وتحديده‪ ،‬إال أنه وبمناسبة احتكاكه مع الق انون الجنائي باعتباره مجموعة من‬ ‫‪3‬‬

‫القواعد الق انونية اآلمرة‪ ،‬يمكن القول أن النظام العام يقصد به مجموعة القوانين السائدة في دولة معينة وفي وقت واحد‪،‬‬

‫والق انون الجنائي جزء من هذا النظام العام وأكثرها تداخال معه‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫وقع خلل في مسار السلوك االجتماعي الذي اتفق عليه أفراد المجتمع وارتضوا السير عليه داخل رقعة جغرافية‬

‫محددة المعالم برا وجوا وبحرا‪-‬إق ليم الدولة‪ ،-‬قصد التعايش في انسجام وأمن واطمئنان‪ ،‬معززة في دلك‬

‫بآليات ق انونية موضوعية وشكلية‪ ،‬تهدف إلى ردع هذا الخلل وإعادة إصالحه وتقويمه أو بتره من جذوره‬

‫ومحاربته بصفة نهائية‪ .‬الشيء الذي يجعل قواعد الق انون الجنائي في مقدمة القواعد الق انونية التي تؤثر بشكل‬

‫بليغ وحاد في انطباعات األشخاص وسلوكهم‪ .‬أما من الناحية اإلبستيمولوجية فيمكن القول أن الق انون الجنائي‬

‫ومن خالل داللته اللغوية والوظيفية‪ ،‬قد انبثق عن جملة من اآلثار الق انونية الدالة على النتائج السلبية بين‬

‫األفراد كعالمة بارزة في عالق اتهم اليومية والمتمثلة عموما في مجموع الصراعات الدائرة بين اإلنسان وأخيه‬

‫اإلنسان داخل محيطه االجتماعي أو القبلي‪ ،‬وعلى وجه الخصوص في عالق ات الفوضى والتسيب الناتجة عن تباين‬

‫المصالح‪ ،‬على أساس أن هده العالق ات الرابطة بين األفراد عبر حقب هامة من التاريخ البشري في غياب عنصر‬

‫الزجر والترهيب لم تكن يوما مستقرة وهادئة ومفيدة للعموم‪ ،‬على نحو سليم وعادل يرضي جميع األطراف‪ ،‬بل‬

‫كانت تتميز بعدم االستقرار وتتعرض لألبشع أنواع االستغالل من قبل الطرف القوي أو السيد في مق ابل الطرف‬

‫الضعيف أو العبد‪ ،‬في إشارة قوية لصور عدم تكافؤ وتوازن مصالح األفراد‪ ،‬ومن ثم ف إن الدراسة اإلبستيمولوجية‬

‫للدور الذي يؤديه الق انون الجنائي في هذا اإلطار‪ ،‬يجعلنا مصرين تمام اإلصرار على بدل جهد وعناية في‬

‫الوقت نفسه للكشف عن المصادر الرئيسية للق انون الجنائي المغربي في إطاره العام والخاص‪ ،‬وذلك من خالل‬

‫الوقوف على دور المدارس الفقهية والق انونية التي كان لها الفضل بشكل رئيسي في ظهور الق انون الجنائي‬

‫ونشأته بين أحضان المجتمع المغربي في صورة مكتوبة مقننة‪ ،‬تعتمد باألساس على مبدأ الشرعية الجنائية في‬

‫التجريم والعق اب‪ ،‬ونخص بالذكر هنا كل من مدرسة الفقه اإلسالمي ‪-‬المالكي‪ -‬التي انبثقت من رحم الشريعة‬

‫اإلسالمية الغراء‪ ،‬والتي جأت يقينا لتؤطر سلوك الناس ورفع الظلم عنهم في وقت كان الناس فيه قد اضطهدوا‬

‫من بطش الجناة والمجرمين وقسوتهم في أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق‪ ،‬كما أنه ومن زاوية‬

‫ثانية نجد المدرسة الالتينية الجرمانية والتي انشقت من رحم فكر معاصر امتد لقرون لعدة حتى بلغ إلى ماهو‬

‫عليه من تطور في صورته الحالية‪ ،‬يهدف إلى إق امة العدل بين الناس ونبذ كل ما من شانه أن يمس بكرامة‬

‫اإلنسان ‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫أجل إن ازدواجية الظرفية التي ظهر فيها الق انون الجنائي بالمغرب فضال عن الجهة الرسمية التي يستمد منها‬

‫مشروعيته‪ ،‬انطالق ا من التوجهات الفكرية للمدارس الق انونية الكبرى التي أسست بنيانه ومعالمه‪ ،‬سواء تعلق‬

‫األمر بالقواعد األصولية‪ 4‬والقواعد الفقهية الشرعية المقتبسة من أحكام مدرسة الفقه اإلسالمي‪-‬المالكي‪ -‬أيام‬

‫كانت أحكام الشريعة اإلسالمية هي المطبقة من لدن القضاة المغاربة في سائر المحاكم المغربية بمفهومها‬

‫الشرعي الديني‪ ،‬وال سيما في الحقبة الزمنية الطويلة التي امتدت قرابة أربعة عشر قرنا من الزمن وصوال إلى‬

‫بداية القرن الماضي وتحديدا عند دخول الحماية الفرنسية سنة ‪ ،1912‬أوبتلك القواعد الوضعية المقتبسة‪ 5‬من‬

‫أحكام المدرسة الالتينية الجرمانية والتي بدأت مالمحها تظهر في السياسة التشريعية المغربية مباشرة بعد وقوع‬

‫المغرب في يد الحماية الفرنسية سنة ‪ 1912‬وإنشاء ما يسمى بالمحاكم العصرية الموجهة أساسا لحماية مصالح‬

‫األجانب الفرنسيين واإلسبانيين المقيمين بالمغرب‪ ،6‬والتي مهدت بالفعل في ظهور مالمح جديدة على بنية‬

‫التشريع المغربي المعروف عنه بأصالته وطابعه المحافظ‪ ،‬فكل هذه األمور جعلت من الق انون الجنائي المغربي‬

‫ق انونا غامضا ويصعب تحديد مصدره التاريخي والتشريعي‪ ،‬فضال عن انتمائه األكاديمي والفكري‪ ،‬وعالقته‬

‫بالجانب النفسي لألشخاص (من حيث أنه يمثل قواعد الدين وقواعد الق انون)‪ ،‬في ظل تغير مستمر لنصوص‬

‫الق انون الجنائي وخاصة في شق العقوبات‪ ،‬ولعل األسئلة المتكررة التي يطرحها طلبة الق انون في كل سنة جامعية‬

‫تقريبا‪ ،‬داخل المدرجات الجامعية على أساتذتهم بمناسبة دراستهم لألول مرة لمادة للق انون الجنائي‪ ،‬مند أوائل‬

‫تع رف الق اع دة عن د علم اء األص ول بأنه ا‪":‬حك م أغلب ي أكث ري ال كل ي " ينطب ق عل ى معظ م جزئياته لمعرفة أحكامها وهي‬ ‫‪4‬‬

‫تختلف ع ن الض ابط الفقه ي وع ن النظري ات الفقهية‪ ،‬فه ي حك م ع ام تن درج تحت ه ف روع متن اثرة ف ي أب واب الفق ه‪ ،‬و تص اغ الق اع دة‬

‫بعب ارة م وجزة تتس ع لتش مل وتستوعب مفردات كثيرة و أحكاما جزئية متفرقة‪.‬‬

‫مبدئيا يمكن القول أن ق انون العقوبات الفرنسي لسنة ‪ 1810‬كما وقع تعديله يعد المصدر الرئيسي لهذه المجموعة لكنها‬ ‫‪5‬‬

‫أخذت ببعض التطورات الفكرية التي تضمنتها تشريعات حديثة كأخذها بتدابير وق ائية كجزاء جنائي ومسؤولية الشخص المعنوي‬

‫جنائيا‪.‬‬

‫‪ 6‬ق امت سلطات الحماية الفرنسية بتطبيق الق انون الجنائي الفرنسي في المحاكم العصرية بمختلف مناطق المغرب الخاضعة للحماية‬

‫الفرنسية‪،‬وفي المق ابل ق امت سلطات الحماية اإلسبانية بتطبيق ق انون العقوبات اإلسباني في منطقة الشمال المغربي‪ ،‬كما ظهر‬

‫بطنجة باعتبارها مدينة دولية تطبيق ق انون عقوبات خاص بها‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الستينيات من القرن الماضي إلى حدود كتابة هاته األسطر‪ ،‬ناهيك عن غياب تام لألعمال التحضيرية المخصصة‬

‫لهدا الق انون‪ ،‬تؤكد لنا جليا مدى تق اطع الق انون الجنائي المغربي بين هاتين المدرستين فكريا وأكاديميا‪.‬‬

‫وبالتالي ف إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على بساط البحث مند العقود األولى من تاريخ الق انون الجنائي‬

‫المغربي‪ 7‬أي منذ دخوله حيز التنفيذ تحديدا سنة ‪81963‬هو السؤال نفسه الذي نطرحه اليوم كما سيتم طرحه‬

‫دائما بسبب الحيرة واإلبهام واالرتباك الذي يحوم حول مرجعية المدرسة التي يستمد منها الق انون الجنائي‬

‫المغربي المعاصر أحكامه في الوقت الراهن؟ وهل يمكن القول أن التوجه الذي فرضته المدرسة الالتينية‬

‫الجرمانية على المغرب بموجب نظام الحماية جعل هذا األخير يتخلى عن مدرسة الفقه اإلسالمي‪-‬المذهب‬

‫المالكي‪ -‬في تحديد الجرائم والعقوبات؟ أم أن هناك تق اطع بينهما ؟‬

‫لتحليل وتأصيل هدا الموضوع وربطه بين الماضي والحاضر وفق رؤية وازنة وواضحة المعالم تعكس عنوانه البارز‬

‫وجوهره المعمق‪ ،‬يلزمنا تقسيمه إلى مبحثين رئيسيين‪ ،‬نهيئ في المبحث األول قراءة سيكولوجية للق انون الجنائي‬

‫المغربي‪ ،‬و ذلك باالعتماد على ف لسفة خاصة في التحليل‪ ،‬تتطلب استحضار منهج تحليلي يغلب عليه الطابع‬

‫الواقعي أكثر من النظري‪ ،‬أما المبحث الثاني نخصصه لدراسة إبستيمولوجية الق انون الجنائي المغربي‪ ،‬نعكس‬

‫من خالله مجموعة من المق اربات العلمية التي يمكن استعمالها في هذا الشأن للخروج بأفكار منطقية تطابق بين‬

‫األدلة العق لية واألدلة النق لية‪.‬‬

‫لم تكن سنة ‪ 1962‬هي السنة األولى التي ظهرت فيها مجموعة الق انون الجنائي بل سبق أن ظهرت مجموعة من الظهائر‬ ‫‪7‬‬

‫الشريفة بشكل متقطع تخص جرائم معينة‪ ،‬وفي سنة ‪ 1953‬صدر أول ق انون جنائي مغربي ليطبق بمنطقة الحماية الفرنسية‪.‬‬

‫ينتشر مصطلح الق انون الجنائي بشكل خاطئ في أوساط الساحة العلمية المتعلقة بالدراسات الجنائية للتعريف بالظهير الشريف رقم‬ ‫‪8‬‬

‫‪ 1-59-413‬بتاريخ ‪ 28‬جمادى الثانية ‪ 1382‬الموافق ل ‪ 26‬نونبر ‪ 1962‬الذي أصدرته وزارة العدل سنة ‪1962‬‬

‫والمخصص لمختلف الجرائم والعقوبات التي تناولها المشرع المغربي ضمنه في شكل أبواب متعددة محصورة في ثالثة أبواب‪،‬‬

‫والحال أن هذا الوصف خاطئ لكون أن هذا الظهير أطلق عليه منذ صياغته بمجموعة الق انون الجنائي تمييزا له عن باقي‬

‫المصطلحات المشابهة له من قبيل الق انون الجنائي بكونه المحور العام لجميع المجزوءات الجنائية كقوانين وعلوم‪ ،‬فضال عن الق انون‬

‫الجنائي العام والق انون الجنائي الخاص بإعتبارهما مادتين تتق اطع أحكامهما في هدا الظهير المتعلق بمجموعة الق انون الجنائي‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫المبحث األول ‪ :‬قراءة سيكولوجية للق انون الجنائي المغربي‬

‫المراء في أن الخصوصية التي يفرضها الجانب النفسي السيكولوجي في البحث العلمي من خالل اعتماده على‬

‫الطرح االفتراضي‪ 9‬كمنطلق أساسي لدراسة قضايا معينة في مختلف العلوم اإلنسانية‪ ،‬يعد باتف اق جميع الفقهاء‬

‫والدارسين من أبرز وأهم اآلليات العلمية المهتمة حاليا بتفسير وتحليل الجانب الخفي المظلم لظاهرة من الظواهر‬

‫المعروضة للدراسة والنق اش‪ ،‬ذلك أن القراءة السيكولوجية في هذا اإلطار يمكن اعتبارها من أهم القراءات‬

‫العلمية على اإلطالق‪ ،‬في شتى الميادين وسائر العلوم‪ ،‬لما لها من اتصال مباشر بالبعد النفسي الذي يستشعره‬

‫اإلنسان بمناسبة احتكاكه مع محيطه االجتماعي والسياسي واالقتصادي والبيئي‪...‬الخ‪ ،‬وهذا األمر يعد طبيعيا‬

‫بالنسبة لكائن اجتماعي مثل اإلنسان الذي ال يستطيع في كل حال من األحوال أن يعيش بمعزل عن جماعته بشكل‬

‫إنفرادي فردي أو أن يتجرد من األفكار التي تؤطر حياة هذه الجماعة وفق نسق معين‪ ،‬يميل بحسب فطرة البشر‬

‫التي فطر هللا الناس عليها إلى اإلتحاد الشكلي والبنيوي‪ ،‬ويتميز في نفس الوقت بالترابط واالنسجام بين كافة‬

‫العناصر المادية والموضوعية المكونة لفكرة النظام العام والتي يجسدها أحيانا أهل الفقه الق انوني في العمومية‬

‫والسلطة والتجرد‪ ،‬باعتبارها أهم المواصف ات التي تتسم بها مختلف القواعد المؤطرة لكافة الواجبات والنواهي‬

‫المتعلقة بأفعال وأقوال الناس كقواعد الدين وقواعد األخالق وقواعد الق انون‪ ،‬والريب في أن هذا الخليط‬

‫الفكري المتكون من القواعد الثالث السالفة الذكر‪ ،‬والموضوعة بال شك لغاية مثلى أساسها تنظيم سلوك‬

‫اإلنسان في ق الب اجتماعي سليم متحضر ينم عن التعايش السلمي واالنضباط الفكري‪ ،‬تجعل جميع األفراد أو إن‬

‫صح القول أغلبهم يستشعرون بطريقة ذهنية مدى فعاليتها ونجاعتها في ضبط فكرة النظام االجتماعي السليم‪،‬‬

‫وأهميته داخل صرح كل دولة ديمقراطية تقوم على مبادئ حقوق اإلنسان المتعارف عليها عالميا وفي مقدمتها‬

‫يعتمد المنهج السيكولوجي الذي وظفناه في هده الدراسة على العديد من النظريات االفتراضية التي يتم طرحها سلف ا قبل‬ ‫‪9‬‬

‫بداية الدراسة والبحث‪ ،‬وتشكل هذه الفرضيات العمود الفقري للدراسة السيكولوجية برمتها‪ ،‬وتسير وفق برنامج دراسي دقيق‬

‫ومتين يقوم على طرح مجموعة من األفكار المسبقة ثم التأكد من صحتها في صلب التحليل فيما بعد‪ ،‬وال تصبح نهائية إال بعد‬

‫التأشير عليها من لدن المفكرين الباحثين السيكولوجيين المشهود لهم بالكف اءة والخبرة في هذا المجال‪ ،‬ولعل هذا المنهج هو‬

‫أقرب للف لسفة من علم الق انون‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫مبدأي الحق والق انون‪ ،‬بيد أن كل األشياء التي تحيط بعالم اإلنسان ال يستقيم معناها الحقيقي إال باستحضار‬

‫ف لسفة نفسية شمولية نابعة من نفس اإلنسان‪ ،‬يعبر من خالله هذ ا األخير عن رضاه التام نحو هذه األشياء أو على‬

‫العكس من ذلك يعبر عن سخطه عنها بشكل جزئي أو كلي‪ ،‬انطالق ا مما تفرضه فكرة المصلحة العامة والخاصة‬

‫وعالقتهما مع مجموعة من المف اهيم الكبرى المرتبطة بحياة الفرد من قبيل األمن واالستقرار والعيش الكريم‪ ،...‬وال‬

‫ندل في ذلك على أن هذه الدراسة السيكولوجية تنطوي فقط على ما هو حسي غير مرئي أو غير ملموس‪ ،‬وإنما‬

‫هي دراسة تتكئ أوال في دراستها على الجانب المادي كجزء أساسي من القضية المعروضة للنق اش‪ ،‬ومن ثم‬

‫يتسنى لها فيما بعد استخراج العنصر الحسي المراد تحليله وتفكيكه‪ ،‬بناء على معادلة منطقية تروم إلى مطابقة‬

‫العق ل بالنق ل في الفهم واإلدراك أو مصاحبة النفس لألحاسيس األفراد في الشعور بالخوف أو االرتياح ومن ثم‬

‫التأكيد على الرغبة في وجودها ومالزمتها لهم بصورة دائمة‪ ،‬أوعلى العكس من ذلك اجتثاثها من ق اموسهم‬

‫السيكولوجي بصورة نهائية لعدم رغبتهم فيها‪ ،‬وبناء عليه ف إن هذا النوع من الدراسات إذا كان الغرض منه‬

‫ينصب في حقيقته على جانب نفسي خفي‪ ،‬أي أنه مرتبط فقط بمفهوم نفسي يعكس توجه علم النفس‪ ،‬إال أنه على‬

‫العكس من ذلك عندما نستحضر سيكولوجية منطق الق انون الجنائي وعالقته ببعض فروعه من العلوم كعلم‬

‫وهو في اعتق ادنا بمثابة حلقة رئيسية وعنصر أساسي في صياغة القراءة السيكولوجية لهذا‬ ‫‪10‬‬
‫النفس الجنائي‬

‫المق ال‪ ،‬باعتباره مجال فكري شاسع يتجدد كلما سنحت له الفرصة ودلك‪ ،‬وتتق اطع فيه العديد من العلوم‬

‫‪ 10‬من المعلوم أن علم النفس الجنائي هو علم يهتم بدراسة أفكار و نوايا وردود أفعال المجرمين التي تلعب دورا في ارتكاب‬

‫الجريمة‪ ،‬لكن هذا التعريف بالرغم من تداوله على أغلب صفحات البحوث والدراسات المتعلقة بالميدان الجنائي‪ ،‬يضل في نظرنا‬

‫ناقصا من الحمولة الفكرية التي يحملها كعلم شامل يهتم ليس فقط بالجانب السيكولوجي للمجرمين بل يشمل أيضا سيكولوجية كافة‬

‫األشخاص المخاطبين بأحكام الق انون الجنائي‪ ،‬وهنا يمكن القول أن علم النفس الجنائي هو فرع من الفروع التطبيقية لعلم النفس‬

‫العام وعلم الق انون الجنائي‪ ،‬يهدف إلى إسق اط القوانين والمبادئ النفسية على النظام الق انوني المعمول به‪ ،‬والذي يتضمن‬

‫الجانب الجنائي واإلجرامي‪ ،‬كتحديد عالقة األشخاص عموما بالقواعد الجنائية المطبقة في إق ليمهم الذي ينمون إلبه‪ ،‬وكذلك‬

‫التصنيف الخاص بالمجرمين على وجه الخصوص حسب خصائصهم النفسية‪،‬واالجتماعية‪ ،‬لتقديم المساعدة في معرفة وفهم الدوافع‬

‫المختلفة التي تؤدي إلى ظهور السلوك المنحرف واإلجرامي‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫االجتماعية والمف اهيم الف لسفية والضوابط الق انونية‪ ،‬نذكر منها علم النفس أوال‪ ،‬ومعه في نفس الدرجة علم‬

‫الق انون(السياسة الجنائية والسياسة العق ابية)‪ ،‬وعلم اإلجرام والجريمة وعلم الضحايا وعلم األدلة الجنائية‪...،‬الخ‪،‬‬

‫وبالتالي يعد الهاجس المشترك األكبر في اجتماع هذه العلوم وتمازجها‪ ،‬هو دراسة لكل من الشعور والسلوك‬

‫اإلنساني اتجاه الطرح الجنائي وما يتبعه من مقتضيات زجرية وعق ابية‪ ،‬وانعكاسها على نفسية األشخاص‪ ،‬األمر‬

‫الذي يجعلها تسعى جاهدة إلى فهم طبيعته السيكولوجية ووصفها‪ ،‬ومعرفة دوافعها‪ ،‬وأشكالها‪.‬‬

‫المطلب األول ‪ :‬دور علم النفس الجنائي في تحليل سيكولوجية الق انون الجنائي المغربي‬

‫إذا كان علم النفس الجنائي يعتمد عادة في دراسته العلمية على مجموعة من الضوابط المشتركة بين علم‬

‫الق انون وعلم النفس فضال عن ميوله بصورة دائمة لكل من علم االجتماع وعلم البيولوجيا‪ 11‬بغية تحليل ظاهرة ما‪،‬‬

‫كظاهرة الجريمة مثال باعتبارها النقطة األساسية والمحورية في اجتماع هده العلوم وتمركزها في ق الب واحد‬

‫مشترك‪ ،‬إال أنه وبناء على ما يفرضه عنوان مق النا هذا ‪ ،‬وانطالق ا من موقع الق انون الجنائي بين هذه العلوم‬

‫السالفة الذكر‪ ،‬سيجعلنا أمام فرضية دراسة الق انون الجنائي من زاوية أنه ق انون وليس كونه موضوع‪ ،12‬ومعنى‬

‫البيولوجيا هو علم األحياء‪ ،‬وهو مكون من كلمتين إغريقيتين هما )‪ (bio‬وتعني حياة و )‪(logos‬وتعني دراسة‪ .‬يدرس‬ ‫‪11‬‬

‫البيولوجيون تركيب الكائنات الحية ووظيفتها‪ ،‬ونموها‪ ،‬ومنشأها‪ ،‬وتطورها‪ ،‬وتوزعها‪ .‬ولذلك نجد كل العلوم الحديثة تنصب في‬

‫دراستها على عدة محاور من علم البيولوجيا بسبب توفرها على نظريات هامة جدا لكل الدراسات واألبحاث مهما اختلفت طبيعتها‪.‬‬

‫للتعمق أكثر أنظر ‪ :‬علم األحياء البيولوجيا على الرابط ‪:‬‬

‫‪https://ibelieveinsci.com/?p=61010‬‬

‫نم اإلطالع عليه في ‪.2019/09/04‬‬

‫يستعرض علم النفس الجنائي في سياقه العادي صورا خاصة تجمع بين مكونات ثالث‪ ،‬إذ تضم كل من الجريمة والمجرم والعق اب‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫ذلك أن هذا الشكل الثالثي عادة هو الذي يؤسس من خالله علماء النفس الجنائيين فرضياتهم وأبحاثهم التجريبية لتجيب عن‬

‫مجموعة من اإلشكاالت المطروحة على أرض الواقع‪ ،‬خاصة وأن الجريمة في سياق علم النفس الجنائي تعتبر هي األساس الذي نقيس‬

‫عليه شخصية المجرم وحجم الجريمة ودرجة العق اب‪ ،‬كما أنها أصبحت في وقتنا الراهن تعد من الظواهر االجتماعية العادية داخل‬

‫‪118‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫هذا أن اهتمامنا سينصب فقط على ما يتعلق بف لسفة الق انون الجنائي وعالقته بعلم النفس بعيدا عن الجزئيات‬

‫التي يتناولها في محاوره الرئيسية من قبيل الجريمة والعق اب والمجرم‪ ،‬حيث إن كل هذه المكونات ال تعدو إال‬

‫أن تكون لبنة من لبنات الق انون الجنائي وعالقته بباقي العلوم الجنائية األخرى ليس إال‪ .‬ومن ثم ف إن الطرح الق ائم‬

‫بين هذه السطور يفرض منا وضع علم النفس الجنائي كوسيلة فقط للدراسة السيكولوجية المخصصة للق انون‬

‫الجنائي‪ ،‬وليس كغاية في حد ذاته‪ ،‬والهدف من هذه المف ارقة ليس فقط دراسة السلوك اإلنساني بهدف‬

‫الوصول إلى المعرفة الدقيقة والمحددة لظاهرة سلوكية معينة تختزل مفهوم المجرم والجريمة بوجه عام‪ ،‬وإنما‬

‫دراسة الجانب الخفي لهذا السلوك وعالقته بالضوابط الق انونية المعمول بها داخل المجتمع‪ ،‬وندل هنا باألساس‬

‫على الشعور واإلحساس الذي يسبق السلوك اإلجرامي المعالج من لدن قواعد الق انون الجنائي التي تعمل من‬

‫تلق اء نفسها‪ ،‬لتبث نوعا خاصا من االنطباعات النفسية الصادرة من اإلنسان والدالة على حزمها وجديتها‪ ،‬في‬

‫تفسير السلوك الجنائي والتنبؤ به وضبطه‪ ،‬ومن هنا يمكن القول أن علم النفس الجنائي يعتبر من الفروع‬

‫التطبيقية لعلم النفس التي سعت إلى التطبيق العملي لنظريات علم النفس على أرض الواقع‪.‬‬

‫وفي نفس االتجاه يرتبط علم النفس الجنائي كما ق لنا بسائر العلوم المعرفية عامة والعلوم الق انونية خاصة التي‬

‫تُعتبر أساس القواعد واألنظمة‪ ،‬والقوانين التي توضع من قبل الدولة والسلطة الحاكمة النائبة عنها‪ ،‬ونجد في‬

‫مقدمة هذه العلوم الق انونية قواعد الق انون الجنائي بوصفها قواعد تهتم بضبط سلوكيات األفراد المختلفة‬

‫داخل المجتمع‪ ،‬من حيث أنها قواعد أمرة يجب طاعتها وعدم مخالفتها‪ .‬ونظراً لظهور العديد من القضايا‬

‫المجتمع بفعل تكتل مجموعة من المعطيات السلبية كالفقر والجهل‪...‬الخ‪ ،‬غير أن هذه األمور ال نقيس بها موضوع بحثنا هذا‬

‫الموضوع للدراسة والمتمثل في دراسة علم النفس الجنائي من زاوية أنه ق انون ينطوي على مجموعة هامة من القواعد الزجرية‬

‫التي يمكن لألي شخص استشعارها قبل الوقوع في المحظور أو فيما يسمى في فخ الهرم الثالثي السالف الذكر‪ ،‬أي قبل ارتكاب‬

‫الجريمة وقبل الوقوع في خانة اإلجرام ليصبح مجرما‪ ،‬وأيضا قبل نيل العق اب‪ ،‬ومن ثم ف إن دراسة علم النفس الجنائي للق انون الجنائي‬

‫كق انون(بنية ق انونية) أي كمكون مادي له داللته‪ ،‬ينطلق من فرضية عالقة الق انون الجنائي باألشخاص قبل ارتكابهم لألي أمر‬

‫مخالف يدخل في صميم الق انون الجنائي ‪ ،‬بمعنى حجية نصوص الق انون الجنائي وآثرها على نفسية األشخاص وانطباعاتهم في حاالتهم‬

‫العادية‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫واإلشكاالت التي تتق اطع وعلم النفس والق انون‪ ،‬فقد ظهرت الحاجة إلى وجود فرع مستق ل من فروع علم النفس‪،‬‬

‫وفي اعتق ادنا المبني على هاجس المعرفة وكشف الخف ايا‪ ،‬وكذلك أمام اللبس الحاصل على المستوى المعرفي‬

‫لبنية الق انون الجنائي وعالقته بنفسية األشخاص من خالل الطابع الحمائي الذي يقدمه لهم أو الطابع الزجري الذي‬

‫يستعمله كأسلوب خاص لردعهم ‪ ،‬نرى أن البح ث السيكولوجي هو األجدر واألق در م ن غي ره من العلوم األخرى‪،‬‬

‫ف ي الكش ف ع ن النسق الداخلي الذاتي والموضوعي للدور الذي يؤديه الق انون الجنائي من موقعه الزجري‪،‬‬

‫ليس فقط داخل كيان المجتمع المغربي‪ ،‬وإنما لف ائدة كافة الشعوب العالمية التي تسير على نهج تشريعي معين‬

‫موزعة طبق ا لقناعاتها الذاتية والفكرية في تقدير األمور حسب درجاتها من النفع أو الضرر‪.‬‬

‫ومهما يكن ف إن علم النفس الجنائي في إطار تحليله الق انوني وعالقته بما يفرزه لنا مفهوم الق انون الجنائي من‬

‫الجانب السيكولوجي النفسي‪ ،‬ليس سوى امتداد للنزع ة النفسية الت ي طغ ت عل ى الس احة العلمية طوال سنوات‬

‫القرن الماضي‪ ،13‬لمعرفة بعض الحق ائق الخفية والتي ال يمكن تحصيلها من نفسية األشخاص إال عن طريق استعمال‬

‫مناهج سيكولوجية تعطي األولوية في الدراسة لمكانة النفس وما تنتجه من انطباعات وأفكار ومشاعر اتجاه شيء‬

‫مادي أو معنوي ق ابل للتحليل والمناقشة‪ .‬وفي المق ابل نجد فروع عملية متخصصة أخرى بدأت تنشق من فكر‬

‫جنائي معاصر توازي علم النفس الجنائي في بعض خصائصه‪ ،‬لكن تختلف معه في رؤيته الشمولية للجانب النفسي‬

‫المتعلقة بكل أفراد المجتمع‪ ،‬حيث تهدف إلى حصر دراستها في طائفة معينة فقط‪ ،‬كدراسة البعد‬

‫السيكولوجي والبيولوجي لمجموعة من األشخاص المجرمين الرافضين لالمتثال إلى التعليمات الق انونية المفروضة‬

‫على كافة أفراد المجتمع‪ ،‬بمعنى أن المعادلة العلمية التي يكونها هذا العلم في هذا اإلطار تتعلق بشريحة‬

‫عرف القرن الماضي موجة هامة من الف السفة وعلماء النفس الدين تخصصوا في علم النفس وألفوا العديد من األبحاث الدراسات‬ ‫‪13‬‬

‫والمق االت‪ ،‬نذكر منهم العالم النمساوي ‪ sigmund freud‬والعالم الروسي ‪ ivan pavlov‬والعالم األمريكي ‪gordon‬‬

‫‪ ،willard allport‬وأخرون‪ ،...‬وقد تميزت هذه الحقبة بالفعل بظهور نظريات جديدة تخص علم النفس‪.‬وقد استف اد كثيرا منها‬

‫علم النفس الجنائي‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫و ه و حق ل جدي د‬ ‫‪14‬‬
‫خاصة فقط من األفراد دون غيرهم‪ ،‬إذ يتعلق األمر هنا بعلم "األنتروبولوجي ا الجنائي ة "‬

‫يخ تص بدراس ة اإلنس ان المج رم م ن حي ث تكوين ه العض وي والفزيول وجي والعق ل ي‪ ،‬وق د اس تعان عل م‬

‫األنتربولوجيا هو األخر بقواع د الم نهج العلم ي السيكولوجي أثناء عملية الفحص والتشريح في المختبرات العلمية‬

‫والطبية المعدة لهدا الغرض‪ ،‬مما أدى إلى ظهور جانب مزدوج من الدراسات االجتماعية والنفسية‪ ،‬ساهمت‬

‫إلى حد ما في كشف حق ائق كانت مغيبة لسنوات عديدة‪ ،‬ما كانت لتظهر إال بعد مزج الدراسات االجتماعية‬

‫والنفسية في ق الب علمي واحد‪.‬‬

‫الفقرة األولى ‪ :‬المفهوم السيكولوجي في بنية الق انون الجنائي المغربي‬

‫ال يختلف اثنان على المكانة الهامة التي يحتلها الق انون الجنائي في نفوس األفراد(أشخاص طبيعية) وكذلك‬

‫المؤسسات(أشخاص اعتبارية) في شخص ممثليها‪ ،‬من خالل الدور الرئيسي الذي يؤديه في توفير الحماية الالزمة‬

‫لهم وكبح وزجر كل ما من شأنه أن يشل أو يعرق ل السير العادي لمصالحهم الشخصية‪ ،‬أو لألي مصلحة من المصالح‬

‫األخرى سواء أكانت عامة أو خاصة‪ ،‬ف ال يمكن إطالق ا لهؤالء األفراد أو المؤسسات االشتغال في جو يغيب عنه‬

‫الطابع الزجري‪ ،‬كما ال يمكن لهم االندماج بشكل صحيح في دواليب المجتمع وما ينتج عنه من ضوابط أخالقية‬

‫وروابط أسرية وعائلية وعالق ات شخصية وق انونية ومهنية‪،...‬وبالتالي االستمرار في ممارستها بشكل يومي عادي‬

‫في جو طبيعي مالئم‪ ،‬إال إذا كانت هناك آليات زجرية تجعلهم مطمئنين لها ومعتقدين اعتق ادا تاما أنها بمثابة‬

‫يدرس علم األنثروبولوجيا الجنائي أو ما يعرف في الوقت الراهن بالطب الشرعي الخصائص البدنية والعق لية للمجرمين ‪ ،‬وكذلك‬ ‫‪14‬‬

‫العوامل االجتماعية والبيئية التي يمكن أن تؤثر على سلوكهم اإلجرامي‪ ،‬ويعد العالم سيزار لومبروزو من مؤسسي علم األنتربولوجيا‬

‫الجنائية في العصر الحديث‪ ،‬وقد عمل سيزار لومبروزو الذي يعتبر أيضا أحد رواد المدرسة الوضعية اإليطالية‪ ،‬طبيبا في الجيش‬

‫اإليطالي‪ ،‬ثم بالمستشفيات العق لية‪ ،‬ف استادا للطب العق لي والشرعي بجامعة تورينو ‪ ،turino‬واستحق أن يعين سنة ‪ 1906‬أستاذا‬

‫لألنتربولوجيا(الطب الشرعي)‪ .‬للمزيد من المعلومات أنظر موقع ‪:‬‬

‫‪https://fr.wikipedia.org/wiki/Cesare_Lombroso‬‬

‫تم اإلطالع عليه يوم ‪.2019/09/01‬‬

‫‪121‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫حماية خاصة لهم‪ ،‬تعاقب ليس فقط من ق ام بفعل يعتبر جريمة في نظر الق انون‪ ،‬بل تتعداه وتصل أيضا إلى كل‬

‫من سولت له نفسه محاولة االقتراب فقط منهم بسوء نية لتهديد مصالحهم‪ ،‬الشيء الذي يجعل معه فكرة العق اب‬

‫الزمة وحاضرة بقوة بناء على ما يفرضه منطق الق انون الجنائي في تعامله مع هذه األحداث في إطار الشرعية‪.‬‬

‫ومن هنا تبرز الخاصية األساسية للق انون الجنائي في بعث الطمأنينة والسكينة بين األفراد لممارسة حياتهم‬

‫الطبيعية انطالق ا مما كلفوا به أو تعاقدوا ألجله‪.‬‬

‫إن الدور الطالئعي الذي يقدمه الق انون الجنائي من خالل ف لسفته السيكولوجية تؤكد لنا حتما مدى نفعيته‬

‫وأهميته القصوى بين الناس من خالل ما يستشعرونه هؤالء ويحسون به اتجاه قواعده الزجرية‪ ،‬وال ندل في ذلك‬

‫على أن هده القواعد لوالها لما كان لهؤالء العيش بسالم وأمان‪ ،‬وإنما يمكن القول أن هذه القواعد ساهمت إلى‬

‫حد بعيد في استتباب األمن وفرض قوة الق انون على كل األفراد دون أي تمييز بينهم‪ ،‬بعدما أصبحنا نرى‬

‫وبكل أسف وحسرة تراجع حاد وخطير لقواعد األخالق في صفوف أفراد المجتمع‪ ،‬وليس المجتمع المغربي وحسب‬

‫وإنما كافة شعوب العالم إن صح القول‪ ،‬وقد يالحظ البعض أن قواعد األخالق ليست هي الوحيدة التي تراجعت‬

‫حدتها بين الناس على حساب استقواء قواعد الق انون فكريا وعمليا‪ ،‬بل حتى قواعد الدين هي األخرى تراجعت‬

‫بشكل يدعو للخوف والق لق على حساب قواعد الق انون وال سيما قواعد ق انون الجنائي‪ ،‬ف الكثير من األفراد لم‬

‫يعد تستهويهم عبارة قواعد الدين بسبب جهلهم لها أو عدم رغبتهم في معرفتها أصال‪ ،‬ودلك مرتبط حسب‬

‫اعتق ادنا الجازم باالنحالل الثق افي الخطير الذي أفرزته العولمة وتداعياتها السلبية على المستوى الفكري‬

‫والعقدي‪ ،‬مما يجعل هؤالء يعتقدون أنهم أحرارا في ارتكاب ما يحلو لهم من أفعال يرونها من وجهة نظرهم‬

‫بسيطة أو مسلية لهم‪ ،‬في حين أنها مضرة لألشخاص آخرين أو ربما لكافة أفراد المجتمع دفعة واحدة‪ ،‬وبالمق ابل‬

‫نجدهم يكنون احترما خاصا لقواعد الق انون الجنائي مخافة وقوعهم في دائرة العق اب الزجري الذي يتميز به‬

‫الق انون الجنائي في هذا اإلطار‪ ،‬ف لهذه األسباب يمكن القول أن الف لسفة التي يقوم عليها الق انون الجنائي تجعله‬

‫يطل علينا في هذا اإلطار كمخزون احتياطي لترميم قواعد األخالق التي تالشت مع الوقت من جهة‪ ،‬وإعادة إحياء‬

‫قواعد الدين التي تجاهلها العديد من األشخاص من جهة ثانية‪ ،‬ودلك من زاوية تفعيل وتشغيل الشق المتعلق‬

‫‪122‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫بالتعزير وتفريد العق اب الدنيوي‪ ،‬لمواكبة كل المستجدات والتطورات التي تعرفها الجريمة والمنابع التي‬

‫تترعرع فيها‪ ،‬وال يهمنا في ذلك اديولوجية قواعده هل هي طبيعية؟ أم وضعية؟ مادامت أنها تفي بغرضها‬

‫الرئيسي المتمثل في الزجر والردع‪ .‬ومعه نستنتج أن الق انون الجنائي من الناحية السيكولوجية يؤثر فعال في ضبط‬

‫نفوس الناس وسلوكهم من مختلف الزوايا‪ ،‬بناء على ما تتضمنه نصوصه الزجرية التي تعمل وفق مؤشر جلب‬

‫المصلحة ودرء للمفسدة‪ ،‬إذ أن فرضية ترك المجال لألشخاص في حماية حقوقهم والدف اع عنها بما يناسب منطق‬

‫الغاب تعد ‪-‬عبثا في بنية النظام السياسي الذي تعتمده الدولة‪ ،‬وبالتالي ف إن قواعد الق انون الجنائي لها اثار‬

‫حميدة على منطق سيكولوجية األشخاص وتف اعلهم اإليجابي داخل المجتمع‪ ،‬على أساس أن اآلثار التي نتحدث‬

‫عنها ال يمكن رؤيتها ومالمستها إال بوجود عناصر معينة وهي موضوع فقرتنا الموالية‪.‬‬

‫الفقرة الثانية ‪ :‬العناصر الحسية لقواعد الق انون الجنائي‬

‫تتخذ العناصر الحسية لقواعد الق انون الجنائي رمزا دالليا على التف اعل الحاصل بين سيكولوجية األفراد الباطنية‬

‫وسلوكهم الظاهر على مستوى الواقع‪ ،‬حيث أن هذه المعادلة ال يمكن لها ان تستقيم في مدلولها الواقعي‬

‫المبني على الحكمة والمنطق إال إذا كان هناك تطابق تام بين الفكر الذي يمثله الشعور في المنهج‬

‫السيكولوجي‪ ،‬وبين السلوك الذي يمثل صورة النتيجة الحتمية للفكر السيكولوجي مهما كانت صف اته حميدة أم‬

‫مذمومة‪ ،‬فحيثما كان الشعور والفكر مضطرب كان السلوك معه مضطربا أيضا‪ ،‬وكلما كان الشعور والفكر‬

‫مستويان وإيجابيين في الضبط إال وكان معه السلوك إيجابيا أيضا‪ ،‬وهذه المعادلة التي سقناها لشرح مفهوم‬

‫التطابق الحسي والفكري كنتيجة طبيعية لتف اعلهما‪ ،‬تؤسسها من وجهة نظر علم النفس الجنائي عناصر حسية‬

‫معينة‪ ،‬قمنا باستخالصها من حتمية القواعد الجنائية ومدى تأثيرها اإليجابي على سيكولوجية األشخاص في حياتهم‬

‫الطبيعية‪ ،‬ومن العناصر التي يمكن اختزالها من الدور الذي يؤديه الق انون الجنائي داخل المجتمع في هذا‬

‫الصدد نجد ‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫أوال‪ :‬عمومية النص الجنائي وبلورته للوظيفة األخالقية‬

‫يضطلع الق انون الجنائي بمهام جسام ال نجدها صراحة في باقي القوانين األخرى‪ ،‬ذلك أنه من منطلق الهاجس‬

‫الزجري الذي يظهر به الق انون الجنائي داخل المنظومة التشريعية‪ ،‬نجده يقوم ببلورة وظائف مهمة في الوسط‬

‫االجتماعي وفي مقدمتها الوظيفة األخالقية لدى كافة أفراد المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬ذلك أن‬

‫فكرة العق اب في هذا اإلطار تعد وسيلة نبيلة وغاية مثلى لنشر فكر أخالقي بين الناس‪ ،‬يقوم على التعاون‬

‫واحترام األخر في ذاته وفكره وحقوقه‪.‬‬

‫ولما كانت الوظيفة األخالقية للق انون الجنائي تنطوي على ف لسفة شمولية تهتم بكل جزئيات الحياة الكريمة‬

‫لألشخاص داخل أوطانهم بما يضمن لهم التعايش في جو سلمي يالئم تطلعاتهم وطموحاتهم‪ ،‬ف إن قواعد الق انون‬

‫الجنائي في إطارها العام ال تخص طائفة معينة من شريحة المجتمع والسيما شريحة المجرمين الذين نالهم العق اب‬

‫بسبب تطاولهم على مصلحة يجرمها الق انون الجنائي‪ ،‬بل إن األمر مرتبط بكل الشرائح االجتماعية المكونة لإلق ليم‬

‫معين التي تسود ضمنه قواعد الجنائي ارتباطا بفكرة السيادة‪.‬‬

‫ومن الطبيعي جدا أن تظهر أهمية هذه الوظيفة التي تقوم بها قواعد الجنائي في هذا اإلطار بسبب تميزها‬

‫الق انوني وحرصها التام في السهرعلى ضبط سلوك األفراد وتخليق الحياة العامة من خالل تحقيق مبدأ العدالة‪،‬‬

‫ونشر القيم األخالقية بين الناس التي توارثت كأعراف وعادات داخل المجتمعات البشرية من جيل لألخر‪.‬‬

‫وخصوصا إذا تحدثنا عن المغرب بوصفه بلدا محافظا وطابعه األصيل المتميز بين دول المعمور‪ ،‬الغني باألعراف‬

‫والعادات االجتماعية الحميدة التي توارثت عبر حضارات إسالمية عديدة مرت وسجلت في صفحات التاريخ‬

‫الرسمي للمملكة المغربية‪.‬‬

‫وال ننسى في هذا اإلطار أن لمبدأ التفريد وكذلك مبدأ الشرعية كان لهما دورا كبيرا في جعل هذا الجزاء‬

‫الجنائي يمتاز بهذه الخاصية‪ ،‬ف إذا كان الجزاء الجنائي يعتبر في حد ذاته وسيلة تساعد الجاني على تحسين‬

‫وتقويم سلوكه‪ ،‬من أجل إعادة إدماجه داخل المجتمع في شكل سليم‪ ،‬ف إنه في نفس الوقت يعطي إشارة ضمنية‬

‫لإلعادة إحياء النظم األخالقية وترميمهما بين أفراد المجتمع على نحو يرضي الجميع‪ ،‬وبالتالي إزالة التصور الذي‬

‫‪124‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫كان يحيط بالجزاء الجنائي والمتمثل في اعتباره مجرد وسيلة إلنزال العق اب على الجاني فقط‪ ،‬بقدر ماهو أداة‬

‫إلصالحه وتقويمه‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬الق انون الجنائي حارس خاص لحقوق األفراد‬

‫يعد الق انون بناء على داللته الوظيفية أحد أهم األليات المتعلقة بحماية حقوق األفراد وصيانتها من كل إعتداء‬

‫من لدن الغير‪ ،‬وهكذا فمن المستحيل من منطلق الفكر الق انوني أن يكون الشخص هو الحامي لنفسه من‬

‫الهالك واإلعتداء والحارس لحقوقه من الضياع في غياب ضوابط ق انونية صارمة‪ ،‬تقوم نيابة عنه بحمايته في نفسه‬

‫أوال ثم في مجموع حقوقه ثانيا‪ ،‬وبالتالي تجعله في غنى تام عن استعمال أسلوب الغاب المبني على منطق الدف اع‬

‫عن النفس والبق اء لألقوى‪ ،‬استنادا لتف اعل محور الق انون مع محور الحق‪ ،‬ومن ثم ف ال يمكن لألي كان سواء‬

‫مؤسسات أوافراد حماية حقوقها المادية والمعنوية دون وجود آليات زجرية تضبطها الدولة في ق الب جنائي‪،‬‬

‫تعاقب من خالله كل من تجرأ عدوانا وظلما وبسوء نية‪ ،‬نزع ما يملكه الغير أو هالكه وتخريبه‪ ،‬ذلك أن الفكر‬

‫السيكولوجي الممتد على مدى قرون من الزمن بواسطة ف السفة ومفكرين وعلماء النفس‪ ،‬أقر بشكل صريح في‬

‫العديد من الدراسات الف لسفية أن اإلنسان ذئب ألخيه اإلنسان في عموم مصالحه الشخصية سواء تعلق األمر بأهله‬

‫أوماله أوعرضه‪ ،‬ومعنى ذلك أن نزوات البشر التي تستجيب لمنطق الشر كبوابة رئيسية لتحقيق مأربهم‬

‫العدوانية ضد مصالح معينة في ملك العموم أو الخواص‪ ،‬الزالت مستمرة ولن تنقطع أبدا أبد الدهر مادامت‬

‫أنها صف ات نابعة من نفس اإلنسان‪ ،‬ف الجشع والطمع والحسد والبغض سيمات رئيسية في حياة اإلنسان لم يسلم‬

‫منها أحد‪ ،‬إال إذا اصطدم فكره مع عقيدة فكرية تضبط نزواته وتجعلها مستقيمة‪ ،‬أو مواجهته لخطر مادي يمثله‬

‫الق انون في شكل عقوبة تمس بدنه أو حريته أو ماله‪ ،‬وهذا ما يقوم به الق انون الجنائي في هذا اإلطار‪ ،‬حيث‬

‫يقوم بجمح كل ما من شأنه أن يشكل خطرا على مصالح البالد والعباد‪ .‬ففكرة الحماية التي يقوم بها الق انون‬

‫الجنائي انطالق ا من نصوصه الزجرية واضحة وظاهرة للعيان يعرفها العادي قبل المتخصص‪ ،‬ومن ثم ف إن الوصف‬

‫الذي ينطبق على دور الق انون الجنائي في هذا اإلطار هو الحارس األمين لحقوق األفراد والمؤسسات‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫ثالثا ‪ :‬الق انون الجنائي وفكرة العق اب‬

‫يختلف الق انون الجنائي عن باقي القوانين األخرى سواء من حيث المضمون أو من حيث الهدف والنتائج المترتبة‬

‫عنه‪ ،‬فهو مجال تتق اطع فيه جميع األحكام الق انونية التي زاغت عن مسارها العادي ودخلت إلى المجال المحرم‬

‫المؤطر بموجب مقتضياته الزجرية‪ ،‬فبيع ملك الغير بالرغم أنه في األصل عمل مدني بطبيعته إال أنه يخضع لضوابط‬

‫الق انون الجنائي بإعتبار أن هذا العمل يعتبر جرما‪ ،‬والشخص التاجر الذي يقوم بمنح شيك بدون رصيد كضمان‬

‫لمعاملته التجارية‪ ،‬فبالرغم ان هذا العمل يعتبر من صميم العمل التجاري‪ ،‬إال أنه يخضع هو األخر لنصوص الق انون‬

‫الجنائي باعتباره صاحب الوالية في الشأن‪ ،‬والمشغل الذي يشغل العمال بدون تقييدهم في السجل الخاص بالشركة‬

‫وتسجيلهم في الضمان اإلجتماعي يعتبر هو األخر جرما ينظمه الق انون الجنائي على الرغم أن هذا األمر يدخل في‬

‫نطاق ق انون الشغل‪...‬الخ‪ ،‬واألمثلة كثيرة على ذلك‪ ،‬ومن ثم نستشف أن الفكرة التي تميز الق انون الجنائي عن‬

‫غيره من القوانين هي فكرة العق اب‪ ،‬فكل األفراد باعتبارهم رعايا دولة ما داخل نطاق إق ليمي معين ملزمون‬

‫باالمتثال لنصوص الق انون الجنائي‪ ،‬و في نفس الوقت االحتراس منها ومن عواقبها الوخيمة وعقوباتها الجنائية‬

‫المترتبة عليها في حالة عدم إتباعها‪ .‬على أساس أن كل جريمة تتكون من أركانها الجنائية المتمثلة في الركن‬

‫الق انوني والمعنوي والمادي‪ .‬وقد يصل بعضها إلى حد فرض عقوبة اإلعدام في بعض األنظمة القضائية كجزاء‬

‫جنائي للجرائم البالغة الخطورة‪ ،‬وإذا تأملنا خطورة عقوبة اإلعدام من حيث أنها فكرة ردعية مميتة‪ ،‬تظهر كلما‬

‫ظهرت جرائم تالئم طبيعتها الزجرية‪ ،‬فمن المؤكد أن هاته الجرائم وبالرغم من وجودها في واقعنا الراهن‪ ،‬إال أنها‬

‫أق ل انتشارا من الجرائم األخرى األق ل منها حدة كالسرقة والضرب والجرح وخيانة األمانة‪...‬الخ‪ ،‬ذلك أن الجرائم‬

‫المؤدية إلى عقوبة اإلعدام يحترس منها األشخاص ويتخذون كافة االحتياطات الالزمة مخافة الوقوع فيها‪ ،‬ونعتقد‬

‫أن هذا الخوف المتولد من فكرة عقوبة اإلعدام مثال ما هو إال دليل ق اطع على الجانب الحسي الذي يفرضه نظام‬

‫الق انون الجنائي داخل المجتمع‪ ،‬وبالتالي ف إن قواعد الق انون الجنائي من هذا المنطلق تؤثر بشدة في الجانب‬

‫النفسي لألشخاص‪ ،‬وال نظن أن هذه القواعد الزجرية تتطلب لفهمها درجة من العلم أو المعرفة لتؤثر على نفسية‬

‫األشخاص على نحو إيجابي يبتعد من خالله المرء عن كافة المحظورات التي يعاقب عليها الق انون الجنائي بموجب‬

‫‪126‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫نصوصه‪ ،‬بل إن األمر يتطلب فقط استعمال العق ل للتمييز بين ما هو صالح وغير صالح‪ ،‬وبين الخير والشر‪ ،‬والنفع‬

‫والضرر‪.‬‬

‫ومن جانب أخر يمكن أن تكون عقوبات جسدية أخرى على غرار عقوبة اإلعدام كالجلد وقطع اليد مثال‬

‫المعمول بها في بعض األنظمة العربية بإعتبارها حد من الحدود سيرا على نهج الشريعة اإلسالمية‪ ،‬التي تعمل‬

‫بمنهج الردع العام القبلي أو اإلستباقي‪ ،‬تردع من خالله كل من سولت له نفسه تجاوز األنظمة المعمول‪ ،‬بينما‬

‫يمكن زج األفراد في السجن أو الحبس بحاالت مختلفة بحسب النظام القضائي الممارس في تلك الدولة‪ ،‬ويمكن‬

‫أن يكون السجن انفرادياً‪ ،‬أو جماعيا‪ ،‬وتتراوح مدة السجن من يوم إلى مدى الحياة(مؤبد)‪.‬وفي األخير تطل علينا‬

‫العقوبة المالية‪ ،‬كأخر أنواع العقوبات وأق لها حدة من سابقها حيث يمكن فرض الغرامات المالية ومصادرة‬

‫أموال المدان وممتلكاته الخاصة‪.‬‬

‫المطلب الثاني ‪ :‬خصوصية الصياغة الجنائية أو الخطاب الجنائي‪:‬‬

‫يزخر الخطاب الجنائي باعتباره المشهد الرسمي لبنية الق انون الجنائي المغربي‪ ،‬بحمولة مهمة من العبارات‬

‫واأللف اظ القوية الدالة على حزمه وصرامته في تعاطيه وتف اعله مع مختلف األفعال(في صورتها ايجابية والسلبية)‬

‫واألقوال الصادرة عن األشخاص‪ ،‬ومعالجتها طبق ا لمبدأ العق اب الذي يطغى بشكل أساسي على المشهد‬

‫الخطابي الجنائي‪ ،‬كداللة رمزية على زجر كل ما من شأنه أن يشكل خطرا على وحدة التماسك االجتماعي‬

‫والسياسي واالقتصادي لبنية الدولة‪ ،‬التي تتكف ل برعاية مختلف المصالح الكبرى داخل إق ليمها الجغرافي من‬

‫مؤسسات عامة وخاصة‪ ،‬وأفراد طبيعية واعتبارية‪ ،‬وقيم عقدية وفكرية‪ ،...‬ومما ال شك فيه أن هده الفئات من‬

‫المصالح التي حصرناها في ق الب ثالثي وعلى امتداد أسمائها واختالف أصنافها وعدم التماثل في طبيعتها‬

‫الق انونية‪ ،‬تعتبر النواة الفعلية لميالد الق انون الجنائي باعتبارها الجهات الرسمية المستهدفة باألساس بمضامينه‬

‫الزجرية والمخاطبة بالدرجة األولى بأحكامه العق ابية‪ ،‬من زاوية الحماية التي يوفرها لها بموجب نصوصه وفصوله‬

‫الق انونية‪ ،‬ذلك أن هذا الق انون لم يكن وال يمكن له أن يتبوأ مكانه الطبيعي البارز في المنظومة الق انونية‬

‫كما نراه اليوم‪ ،‬أو أن يظهر أصال في الواقع مع باقي الفروع الق انونية األخرى بالرغم من أقديمته على بعض‬

‫‪127‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الفروع الق انونية الحديثة‪ ،‬إال بعد أن ظهرت تجاوزات خطيرة عجزت عنها الجهات المكلفة بتطبيق الق انون في‬

‫التف اعل معها بموجب القواعد المدنية التي تعالج مختلف معامالتها في ق الب مدني صرف‪ ،‬يقوم على مبدأ‬

‫التعويض الناتج عن الضرر الذي لحق بمصلحة من المصالح التي يحميها الق انون‪ ،‬دون االكتراث إلى هاجس‬

‫العق اب الذي يعد من صميم العمل الجنائي فقط‪ ،‬ومن ثم كانت الحاجة الملحة لهذا األخير كردة فعل مناسبة‪،‬‬

‫لوضع أسس جديدة تقوم على تحمل المسؤولية في التبعات الجنائية وما تفرضه من عقوبات رادعة‪ ،‬تتجلى في‬

‫صور زجرية عامة منها ما هي تق ليدية كالعقوبة السجنية والعقوبة الحبسية ويطلق عليها بالعقوبة األصلية‪،.15‬‬

‫وهو مصطلح جديد أقرته جميع التشريعات الجنائية‬ ‫‪16‬‬


‫وأخرى حديثة يطلق عليها بالعقوبة أو العقوبات اإلضافية‬

‫ينص الفصل ‪ 15‬من مجموعة الق انون الجنائي على أن العقوبات األصلية إما جنائية أو جنحية أو ضبطية‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫وينص الفصل ‪16‬كذلك على العقوبات الجنائية األصلية هي ‪:‬‬

‫‪1 -‬اإلعدام؛‬

‫‪2 -‬السجن المؤبد‬

‫‪3 -‬السجن المؤقت من خمس سنوات إلى ثالثين سنة‬

‫‪4 -‬اإلق امة اإلجبارية‬

‫‪5 -‬التجريد من الحقوق الوطنية‬

‫كما ينص الفصل ‪ 17‬على أن‬

‫العقوبات الجنحية األصلية هي ‪:‬‬

‫‪1 -‬الحبس‬

‫‪2 -‬الغرامة التي تتجاوز ‪ 1200‬درهم‬

‫وأق ل مدة الحبس شهر وأقصاها خمس سنوات باستثناء حاالت العود أو غيرها التي يحدد فيها الق انون مددا أخرى‪.‬‬

‫أما الفصل ‪ 18‬فقد نص نوع ثاني من العقوبات األصلية وهي العقوبات الضبطية األصلية ‪:‬‬

‫‪1 -‬االعتق ال لمدة تق ل عن شهر؛‬

‫‪ -2‬الغرامة من ‪ 30‬درهم إلى ‪ 1200‬درهم‬

‫الفصل ‪ 36‬من مجموعة الق انون الجنائي‬ ‫‪16‬‬

‫تمم بمقتضى الظهير الشريف رقم ‪ 1.03.207‬صادر في ‪ 16‬من رمضان ‪ 11( 1424‬نوفمبر ‪ )2003‬بتنفيذ الق انون رقم‬

‫‪128‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫التي تشكل وجها جديدا للعقوبة الجنائية من خالل تركيزها‬ ‫‪17‬‬


‫الدولية الحديثة‪ .‬باإلضافة إلى التدابير الوق ائية‬

‫على الشق الشخصي والعيني للشخص المعاقب بعقوبة جنائية معينة‪.‬‬

‫‪ – 24.03‬المادة الثانية‬

‫العقوبات اإلضافية هي ‪:‬‬

‫‪1 -‬الحجر الق انوني‬

‫‪2 -‬التجريد من الحقوق الوطنية‬

‫‪3 -‬الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية‬

‫‪4 -‬الحرمان النهائي أو المؤقت من الحق في المعاشات التي تصرفها الدولة والمؤسسات العمومية‬

‫‪5 -‬المصادرة الجزئية لألشياء المملوكة للمحكوم عليه‪ ،‬بصرف النظر عن المصادرة المقررة كتدبير وق ائي في الفصل ‪89‬‬

‫‪6 -‬حل الشخص المعنوي‬

‫‪7 -‬نشر الحكم الصادر باإلدانة‬

‫ينص الفصل ‪ 61‬من مجموعة الق انون الجنائي على أن التدابير الوق ائية الشخصية هي ‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪ -‬اإلقصاء‬

‫‪ -‬اإلجبار على اإلق امة بمكان معين‬

‫‪ -‬المنع من اإلق امة‬

‫‪ -‬اإليداع القضائي داخل مؤسسة لعالج األمراض العق لية‬

‫‪ -‬ا لوضع القضائي داخل مؤسسة للعالج‬

‫‪ -‬الوضع القضائي في مؤسسة ف الحية‬

‫‪ -‬عدم األهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية‬

‫‪ -‬المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن سواء كان ذلك خاضعا لترخيص إداري أم ال‬

‫‪ -‬سقوط الحق في الوالية الشرعية على األبناء‪.‬‬

‫أما الفصل ‪ 62‬فقد تناول التدابير الوق ائية العينية هي ‪:‬‬

‫‪ -‬مصادرة األشياء التي لها عالقة بالجريمة أو األشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظور امتالكها‬

‫‪-‬إغالق المحل أو المؤسسة التي استغلت في ارتكاب الجريمة‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫وعلى هذا األساس نجد الق انون الجنائي المغربي من خالل المجموعة التي تناولته وبوبته وفق ثالثة كتب مجزءة‬

‫لعدة أجزاء‪ ،‬قد استف اض في تحديد مختلف العقوبات الزجرية المتداولة على الصعيد العالمي والمنصوص عليها‬

‫في االتف اقيات الدولية التي صادق عليها المغرب‪ ،‬والتي تفيد بأن التشريع الجنائي المغربي ما هو إال امتداد‬

‫للفكر الالتيني الجرماني‪ ،‬إذ أخد فعال جملة من األحكام الق انونية الخاصة بالمدرسة الالتينية الجرمانية‪ ،‬باعتبارها‬

‫األساس التشريعي للمعاهدات واالتف اقيات الدولية‪ ،‬باإلضافة إلى أحكام أخرى نابعة من مدرسة الفقه اإلسالمي‪-‬‬

‫المالكي‪.-‬‬

‫وهكذا فمن خالل التركيبة البنيوية التي تضمها المحاور األساسية لفهرس مجموعة الق انون الجنائي المغربي‪،‬‬

‫نجد أن طبيعة العقوبات المقررة للجزاء الجنائي قد اختزلها المشرع الجنائي حصرا كما ق لنا في ثالثة مبادئ وهي‬

‫عقوبات أصلية وعقوبات إضافية باإلضافة إلى تدابير وق ائية‪ ،‬واألصل في هذا التنوع الذي يعرفه التشريع‬

‫الجنائي المغربي يعكس التطور الفكري الذي لحق مبادئ القوانين الجنائية العالمية وأثر فيها شكال ومضمونا‬

‫بفضل ف لسفة المدارس الفكرية التي كان لها السبق في الدعوة إلى مراجعة وتطوير الترسانة التشريعية الجنائية‬

‫وجعلها أكثر مطابقة للواقع اإلنساني‪ ،‬في إطار أنسنة العقوبات السالبة للحرية القصيرة والطويلة األمد‪ ،‬ولما كان‬

‫التشريع الجنائي المغربي في الق انونية المحددة لمختلف الجرائم ومختلف العقوبات‪ ،‬قد استجاب للتطور‬

‫الجنائي الفكري قصد مالءمة الواقع مع الق انون‪ ،‬فهذا يدل على أن الخصوصية السيكولوجية لألفراد المجتمع‬

‫المغربي قد تطورت هي األخرى مع التطور الحاصل في الخطاب الجنائي‪ ،‬ذلك أن المبادئ التي يتناولها الق انون‬

‫الجنائي المغربي من خالل خطابه كمبدأ الشرعية مثال‪ ،‬تجعل األفراد في موضع راحة واطمئنان من أي متابعة‬

‫كيدية ظالمة ينتج عنها تجريم لفعل ال يعد جرما‪ ،‬أو حكم قضائي جائر ال يستند على ضوابط ق انونية من الناحية‬

‫الشكلية‪ ،‬إذ أن كل إجراء ق انوني ال يستند على الشرعية يعتبر باطال بقوة الق انون‪ ،‬وال يمكن إثارته أبدا أمام‬

‫الجهات القضائية المختصة‪ .‬وبما أننا نتحدث هنا عن الجهة الرسمية المنوط لها تطبيق قواعد الجنائي داخل إق ليم‬

‫الدولة‪ ،‬والممثلة في السلطة القضائية دون سواها من الجهات األخرى‪ ،‬ف إن المنطق يقضي بوجود مسبق لمؤسسة‬

‫‪130‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫قضائية مستق لة تحكم بين األفراد في كل نزاعاتهم الق انونية عامة ونزاعاتهم الجنائية خاصة‪ ،‬وهكذا فسيكولوجية‬

‫الخطاب الجنائي المبنية على ازدواجية التجريم والعق اب‪ ،‬تروم أوال إلى حصر األفعال واألقوال المجرمة بواسطة‬

‫نصوص ق انونية‪ ،‬ثم تحديد العق اب المناسب لها في نفس النصوص السالفة الذكر‪ ،‬ومعنى هذا أنه ال يمكن‬

‫تطبيق العق اب على الجرائم المرتكبة إال بواسطة مؤسسة القضاء الزجري‪ ،‬الن تدخله في هذا اإلطار يعتبر اكبر‬

‫ومبدأ المساواة‬ ‫‪18‬‬


‫ضمانة لحرية األفراد والمؤسسات إلى جانب الضمانات األخرى كمبدأ الشخصية في العقوبة‬

‫بين األفراد‪ ،‬مع العلم آن مبدأ التق اضي أمام المؤسسات القضائية الزجرية والمبني على درجات في التشريع‬

‫المغربي‪ ،‬يعكس في حقيقته فكرة نظامية أساسها العدل والعدالة ومركزها دولة الحق والق انون‪ ،‬ذلك أن‬

‫الجريمة بمختلف درجاتها وصورها ماهي إال حدث أواقعة جنائية‪ ،‬تنشأ حق الدولة في العق اب وتخلق رابطة‬

‫ق انونية ال بين الجاني أو الضحية‪ ،‬وإنما أيضا بين الدولة كشخص معنوي ممثلة في مؤسسة القضاء وبين الجاني‬

‫ليتحمل مسؤوليته الجنائية عما ارتكبه من جرم‪.‬‬

‫الفقرة األولى ‪ :‬الصياغة الجنائية ترغيب أم ترهيب ؟‬

‫تجسد الصياغة الجنائية في حقيقة أمرها نظاما ق انونيا مزدوجا بين متضادات فكرية وحسية‪ ،‬تختزل العديد من‬

‫العناصر النفسية المتعلقة ببيئة اإلنسان وفطرته الطبيعية كالمشاعر واألحاسيس واالنطباعات والمعتقدات ‪....‬الخ‪،‬‬

‫ذلك أن هذه االزدواجية تجعل منها مركبا "سيكولوجيا" عميق األبعاد‪ ،‬متشعب التجليات‪ ،‬كثيرا ما تتداخل‬

‫عناصره وتتضافر مكوناته‪ ،‬من أجل إثراء هذا النظام المركب من خليط مادي ومعنوي‪ ،‬ومن المعلوم أيضا أن‬

‫المقتضيات الق انونية التي يتضمنها الق انون الجنائي ويؤطرها في مجموع أقسامه أي بمفهومه الشامل والدي يضم‬

‫كل من القسم العام والخاص والمسطرة الجنائية باإلضافة إلى باقي العلوم والمف اهيم الجنائية األخرى التي تنضوي‬

‫تحت لوائه‪ ،‬وعلى رأسها السياسة الجنائية تجعلها في طليعة القوانين الموضوعية التي يستشعرها المرء في محيطه‪،‬‬

‫ويدرك تمام اإلدراك أن االحتكاك بها أو حتى االقتراب من دائرتها تجعله يحس بخطر سيحدق به كلما توفرت‬

‫الشروط الالزمة لقيام هدا األمر‪ ،‬وما األفعال واألقوال التي يجرمها الق انون الجنائي بواسطة فصوله إال صيغة خاصة‬

‫‪ 18‬بمعنى أن العقوبة تسري في حق المذنب مرتكب الجريمة وال تمس أشخاصا آخرين من أسرته أو عائلته أو أقربائه‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫من الصيغ التي يعتمدها الق انون الجنائي من أجل الترغيب والترهيب في نفس الوقت‪ ،‬ف اإلحساس بالرغبة في‬

‫وجود قواعد زجرية تعتبر أهمية قصوى لألفراد والمؤسسات من أجل حمايتهم وحماية مصالحهم‪ ،‬ف الناس كما ق لنا‬

‫في مطلع المبحث السابق تختلف أفكارهم من شخص لألخر‪ ،‬وفي بعض األحيان نجد ثق افة بعض المجتمعات أقوى‬

‫من القوانين الزجرية المعمول بها في محيطهم االجتماعي‪ ،‬ومع ذلك ف البد من القواعد الزجرية تحسبا لألي‬

‫طارئ‪ ،‬ف إذا وجدنا في مجتمع معين عددا محترما من األفراد الصالحين‪ ،‬فهذا ال يعني أنه ال يوجد بينهم شخص‬

‫غير صالح ويتطلع لهدر مصالحهم كلما سمحت له الفرصة للقيام بذلك‪ ،‬ومن ثم ف إن رغبة الناس في وجود ترسانة‬

‫من القواعد الزجرية تجرم كل األفعال واألقوال الضارة بمصالحهم أمر في غاية األهمية‪ ،‬والزمة لهم في كافة‬

‫الظروف حتى وإن سلمنا بفرضية المجتمع الصالح أو المدينة الف اضلة كما يعبر عنها الفيلسوف اليوناني أف الطون‬

‫في كتابه جمهورية أف الطون‪.‬‬

‫وأما الترهيب فهو ذلك الجانب المق ابل من القراءة السيكولوجية من زاوية اإلعتداء بمعنى أنها رؤية خاصة‬

‫للشخص المعتدي‪ ،‬ذلك أن القواعد الزجرية من مدلولها السيكولوجي تعمل على ترهيب وترويع المجرمين أو‬

‫كافة األشخاص الدين توفرت لديهم النية اإلجرامية أو أنهم على استعداد لمحاولة ارتكاب فعل جرمي يجرمه‬

‫الق انون الجنائي‪ ،‬مما يجعل القواعد الجنائية تلعب دورا محوريا في محاربة الجريمة انطالق ا من فكرة الترهيب‬

‫التي ترسلها لهؤالء كإشارة ضمنية لكل من أراد خرق القواعد الق انونية المعمول بها‪ .‬وفي الواقع أن اإلحساس‬

‫بالرهبة والخوف من النواهي التي وضعها المشرع الجنائي في شكل قواعد أمرة ال تقبل المزايدة عليها‪ ،‬حيث‬

‫تجعل القواعد الزجرية من منطلق وظيفتها الق انونية تشكل في حد ذاتها الق لب النابض للق انون في عموميته‪،‬‬

‫كما تعكس الفهم القوي لعلم الق انون وتمييزه عن باقي العلوم األخرى التي تندرج في مصاف العلوم اإلجتماعية‪.‬‬

‫إن الخطاب الجنائي في شموليته يمكن اعتباره سالح ذو حدين‪ ،‬إذ يقوم بالتحذير من الوقوع في أي صورة من‬

‫صور الجرائم المذكورة حصرا في المجموعة الجنائية‪ ،‬وفي نفس الوقت يعاقب كل األفعال واألقوال التي صدرت‬

‫من األشخاص أو المؤسسات‪ ،‬ولعل هذه اإلزدواجية جعلت من قواعد الق انون الجنائي تتبوء مكانة رفيعة بين‬

‫الناس من خالل الخطورة التي يستشعرونها كلما دنوا من قواعده‪ ،‬وبالرغم من ذلك ف إن العقوبة الجنائية يكون‬

‫‪132‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫هدفها في بعض األحيان ه و إح داث التكي ف االجتم اعي الالزم في كل األوق ات لإلعادة ترميم وإصالح اإلنف الت‬

‫اإلجتماعي واألمني الذي حصل داخل المجتمع‪ ،‬فه ي ال ت دخل ف ي اعتباره ا السلوك اإلجرامي و إنم ا تراع ي‬

‫مس تقبله حت ى ال يق ع المج رم في ه م رة أخ رى‪ ،‬وه ي ت دابير مفروض ة م ن الدول ة لص الح الج اني و المجتم ع‪ ،‬ومن ثم‬

‫نجد أن العقوبة لها بعد زاجر وبعد آخ ر إص الحي‪ ،‬ف إذا ما نظرنا إلى السياس ة الجنائية التي تؤطر المشهد العام‬

‫لقواعد الق انون الجنائي‪ ،‬سنكتشف أن العقوبة تح دد نس بة الزج ر ف ي الج زاء مق اب ل نس بة اإلص الح‪ ،‬فق د تك ون‬

‫الحاجة إل ى زي ادة جرع ة الزج ر ف ي العقوب ة المق ررة‪ ،‬و ق د يك ون العك س ف ي وق ت آخ ر‪ ،‬وه ذه الوظيف ة‬

‫المعقدة التي تقوم بها السياس ة الجنائي ة من خالل تحديد وقت التغيير ومقداره‪ ،‬تؤكد لنا الطرح الجنائي‬

‫المزدوج المبني على الترغيب والترغيب أو الزجر واإلصالح كم ا يراه ا فقهاء الق انون الجنائي‪ ،‬لذلك فمن من‬

‫الواضح أن الق انون الجنائي تم إعداده للترغيب أوال ويكون هذا األمر قبل إيق اع العق اب ثم الترهيب ثانيا‬

‫ويكون بطبيعة الحال إبان ايق اع العق اب‪ ،‬ولإلدراك هذا المعطى ف إن الق انون الجنائي يعتمد على خمسة أساليب‬

‫ندرجها في الفقرة الموالية‪.‬‬

‫الفقرة الثانية ‪ :‬األساليب الزجرية للق انون الجنائي ‪:‬‬

‫يتساوى الناس أمام القضاء عموما والقضاء الجنائي على وجه الخصوص في تحمل المسؤولية الجنائية وما يترتب عنها‬

‫منها عقوبات رادعة‪ ،‬ذلك أن الق انون الجنائي وبنا على ما يحمله من نصوص جنائية صرفة يعامل األشخاص على‬

‫قدم المساواة ال يهمه في دلك نسب الشخص أو صفته أو مكانته االجتماعية‪ ،‬و يحملهم المسؤولية بحسب الذنب‬

‫الذي يرتكبونه والنصوص الق انونية تتصف بصفة التجريد و العموم‪ ،‬تطبيق ا للمبدأ العام الق اضي بربط المسؤولية‬

‫بالمحاسبة‪ ،‬والمسؤولية في هذا اإلطار ال نعني بها تكليف إداري أوبمهمة إدارية نابعة من قرار إداري يقضي‬

‫بتدبير مصلحة إدارية معينة‪ ،‬وإنما نعني بها تحمل تبعات التصرف الذي يقوم به أي شخص راشد وعاق ل‬

‫ومدرك‪ ،‬ومن هذا المنطلق ف إن الق انون الجنائي يعتمد على خمسة أساليب مستخدمة عالميا في تنفيذ عقوباته‬

‫‪133‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الزجرية وهي‪ :‬القصاص‪ ،‬والردع‪ ،‬والتعجيز‪ ،‬وإعادة التأهيل‪ ،‬والتعويض‪ .‬وتختلف درجة ممارسة ٍ‬
‫كل من بحسب‬

‫األنظمة القضائية ونوع المخالفة‪.‬‬

‫القصاص ‪ (Retribution)-‬تفرض فكرة القصاص في السياسة الجنائية جانب خاص من التطبيق المادي‬

‫والمعنوي للعقوبة الجنائية في نظامها الشرعي والق انوني‪ ،‬ف القصاص يروم إلى مطابقة الفعل اإلجرامي‬

‫بالعقوبة‪ ،‬إذ يحتم على المجرمين اإلحساس بنفس المعاناة التي أحس بها المعتدى عليه ‪ ،‬وهذا هو المبتغى‬

‫وراء استخدام هذا األسلوب‪ .‬والقصاص هو أشد العقوبات التي ينالها المجرمون في النظام الجنائي بسبب‬

‫الضرر الجسيم الذي يلحق بهم في جسدهم‪ ،‬ف إن الق انون الجنائي سيضع المجرمين في موقف ال يحسد عليه‬

‫بغية "تحقيق القسطاس"‪ .‬ف الق اتل يقتل‪ ،‬والمعتدي يعتدى عليه في أحد أعضاء جسده‪ ،‬وهذا المنهج مأخوذ‬

‫من فكرة "تساوي كفتي الميزان‪ ".‬أي الجزاء من جنس العمل‪.‬‬

‫الردع ‪ (Deterrence)-‬هو فرض عقوبة جنائية على المتهم تساهم في ِ‬


‫جعله يتجنب القيام بالجريمة‬

‫مبلغ مالي‪ .‬ويهدف هذا األسلوب إلى ردع المذنب عن طريق‬


‫مجددا‪ ،‬ويشمل الردع على الحبس‪ ،‬أو فرض ٍ‬

‫فرض عقوبة وافية لكبح وإضعاف عزيمة المذنب وتخويفه من ارتكاب السلوك الجنائي لشدة الجزاء المترتب‬

‫عن فعله‪ .‬وأسلوب الردع نظام دف اعي وهجومي في نفس الوقت يهدف إلى ردع الشخص المذنب بصفة‬

‫خاصة ولألفراد المجتمع ككل‪ .‬ذلك أن تطبيق العقوبة الجنائية على مرتكبي الجرائم‪ ،‬تعمل على تخويف‬

‫األفراد اآلخرين من ارتكاب الجرائم ذاتها‪.‬‬

‫التعجيز ‪ (incapacitation)-‬عبارة عن منع ق انوني يسعى إلى إبعاد المجرمين وقصرهم عن المجتمع‬

‫حتى يأمن من شرهم‪ .‬ويتحقق هذا األمر في شقين أساسيين يتعلق األول بفرض عقوبة السجن لمدى الحياة‬

‫أو اإلق امة الجبرية‪ .‬وأما الثاني فتخدمه في هذا اإلطار كل من عقوبة اإلعدام وعقوبة الطرد أو النفي خارج‬

‫الدولة الغاية المثلى لهدا الغرض المتعلق‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫إعادة التأهيل ‪ (Rehabilitation)-‬نظام جنائي ق ائم بذاته يهدف إلى تحويل المذنب من شخص سلبي‬

‫إلى شخص إيجابي وفرد فعال في المجتمع‪ ،‬وإعادة التأهيل من وجهة نظر علم العق اب تعد من العقوبات‬

‫الفعالة والمنتجة‪ ،‬التي تساهم في تحويل طاق ات وقدرات المجرم من ارتكاب الجريمة إلى االستف ادة منها في‬

‫ِ‬
‫خدمة المجتمع‪ ،‬من خالل تعليم المجرمين مجموعة من المهن الحرفية وإعادة تكوينهم في مجموعة من‬

‫المجاالت واألشغال العامة التي تساعدهم في الحصول على شغل بعد انتهاء فترة عقوبتهم‪ ،‬إذن فهذا‬

‫األسلوب الزجري يروم إلى تف ادي المزيد من ارتكاب الجرائم‪ ،‬وذلك بإقناع المذنب بمدى الخطأ الجسيم‬

‫من جراء سلوكه المنافي للمجتمع‪.‬‬

‫التعويض ‪ (Restitution)-‬هو عبارة عن نظام خاص يقوم في بعض األحيان مق ام العقوبة في شقها المالي‬

‫فقط‪ ،‬فهو إذن نظام يعتمد فيها نظام العقوبات على تعويض الضحايا‪ .‬هدفه األساسي إصالح ماتسبب به المذنب‬

‫من إيذاء للضحية بناء على حكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به‪ .‬وهو ما يسمى في إطار السياسة العق ابية‬

‫بالعدالة التصالحية أو التعويضية المبنية على فكرة التصالح أو الصلح مق ابل تعويض معين كما أشار إلى ذلك هللا‬

‫عزوجل في كتابه الحكيم في األية ‪ 92‬من سورة النساء(ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة‬

‫لألهله) ‪ ،‬ومن هنا نستنتج أن التعويض في الق انون الوضعي يق ابله في الق انون الطبيعي مصطلح الدية‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬قراءة ابستيمولوجية للق انون الجنائي المغربي‬

‫‪135‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫عموما لحظة متميزة جدا لمناقشة مختلف األفكار والنظريات التي تؤطر موضوع‬ ‫‪19‬‬
‫تشكل القراءة اإلبستمولوجية‬

‫النق اش من وجهة نظر معينة‪ ،‬فهي تجعل الق ارئ لها باعتباره باحثا ومحلال إبستومولوجيا‪ ،‬ينطلق من فكرة أساسية‬

‫مف ادها أن كل المعلومات واألفكار التي لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بجوهر الموضوع المطروح للمعالجة‬

‫والنق اش تعد من الناحية العلمية مفيدة له ومهمة‪ ،‬ويمكن استعمالها لهذا الغرض العلمي الذي يسميه الباحثون‬

‫في هذا الميدان باألدوات الفنية المخصصة للطرح اإلبستمولوجي‪ ،‬بمعنى أنه يبحث في كل االتجاهات مهما‬

‫اختلفت رؤيتها وبنيتها الموضوعية والشكلية‪ ،‬أي أنه ينطلق من كل صغيرة وكبيرة لتأسيس ق اعدة البيانات‬

‫الخاصة بالدراسة اإلبستيمولوجية‪ ،‬ويعتمد في نفس الوقت على كل رأي مساند ومعارض يفيد طرحه‬

‫اإلبستمولوجي‪ ،‬الرامي أساسا إلى بناء حق ائق معرفية معينة وترميمها وفق نسق علمي متين يقوم على الجدال‬

‫والبحث والمناقشة من كل الزوايا الممكن استحضارها لهذا الغرض‪.‬‬

‫وعلم اإلبستيولوجيا في واقع الحال ال يعد غريبا لإلثارة هذه المواضيع الهامة مثل موضوع الق انون الجنائي من‬

‫موقعه اإلستراتيجي داخل المنظومة التشريعية وجعله في صلب اهتماماته العلمية‪ ،‬وال سيما أن مثل هذا الموضوع‬

‫المتعلق بالق انون الجنائي وبيان مصادره لم ينل من العناية ما يكفيه‪ ،‬في ظل التطورات التي تعرفها نصوصه‬

‫الق انونية من وقت لألخر‪ .‬ومع ذلك لم يستطيع أحد من الباحثين استخدام هذا العلم الهام في التحقيق من هوية‬

‫الق انون الجنائي المغربي وبيان مصادره األساسية التي أطرت مبادئها العامة وتخصيص قواعده الجنائية‬

‫هو مصطلح استخدم ألول مرة من قبل الفيلسوف االسكتلندي جيمس فريدريك فيرير ‪ James Frederick Ferrier‬لوصف‬ ‫‪19‬‬

‫فرع من فروع الف لسفة المَعنية بِطبيعيةِ ‪ ،‬ونِطا ِق المعرفة‪ ،‬وتفسيرها بإيجاز‪ ،‬وكيفية الحصول عليها‪ ،‬وما هي الصلة بينها وبين الحق ائق‬

‫الموجودة من حولها‪.‬وكما ركّز الفيلسوف فيرير على التَّحليل الفَلسفي لِطبيعة المعرفة‪ ،‬ومدى ارتباطها بِمختلف المف اهيم‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫ٍ‬
‫وأربعة وخمسين‪ ،‬في معاهد‬ ‫الحقيقة‪ ،‬واالعتق اد‪ ،‬والتَّبرير‪ ،‬وكانت أول مرة أُدخل فيها تعبير اإلبستمولوجيا في عام ٍ‬
‫ألف وثمانمائة‬ ‫ّ‬
‫صيغت‬
‫ْ‬ ‫الفيلسوف فيرير‪ ،‬وكلمة اإلبستومولوجيا مشتقةٌ من نظريةِ المعرفة‪ ،‬أي من اإلبستميو اليونانية والتي تعني المعرفة‪ ،‬وقد‬

‫هذه النَّظرية على غِرار االنطولوجيا (علم الوجود) للتعمق أكثر أنظر علم اإلبستمولوجيا على الرابط‪:‬‬

‫موضوع‪.‬كوم‪: https://mawdoo3.com/‬‬

‫تم اإلطالع عليه في ‪2019/8/28‬‬

‫‪136‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫والعق ابية‪ ،‬علما أن علم اإلبستمولوجيا من خالل تشعبه في طرق المناهج المعتمدة في بنيته العلمية‪ ،‬جعلته ينفرد‬

‫بخصوصية لم يسبق أن تميز بها علما أخر نظرا لمحاوالته الجاهدة في تسليط األضواء على مختلف المعارف التي‬

‫كانت باألمس يستحيل مناقشتها وتحليلها‪.‬‬

‫أجل إن علم اإلبستيمولوجيا وبناء على ما تفيد نظرته المتميزة والشاملة لمناقشة مختلف المواضيع المتعلقة بالعلوم‬

‫اإلنسانية‪ ،‬تجعله على رأس النظريات العلمية التي يحتاجها بالفعل الق انون الجنائي المغربي الذي ظل لسنوات‬

‫طويلة يحير مختلف المختصين في الكشف عن انتمائه األكاديمي بسبب اقتباسه لمجموعة من النظريات‬

‫واألحكام الخاصة ببعض المدارس الفقهية الق انونية وفي طليعتها مدرسة الفقه اإلسالمي ممثلة في المذهب‬

‫المالكي والمدرسة الجرمانية الالتينية ممثلة في المدونة الجنائية النابوليونية‪ ،‬وهو ما يجعل بالفعل الق انون‬

‫الجنائي غامضا جدا وغير مفهوم بسبب اختالف المصادر الرسمية لكل من المدرستين السالفتين الذكر‪.‬‬

‫المطلب األول ‪ :‬القراءة اإلبستيمولوجية ومساهمتها في تحديد أصول الق انون الجنائي المغربي‬

‫إن القراءة اإلبستمولوجية كما ق لنا في مقدمة المبحث أعاله مسألة في غاية الحساسية لكونها نسق ا علميا داال‪ ،‬له‬

‫القدرة على كشف الغموض وطرح البديل‪ ،‬أو على األق ل شرح الحق ائق التي ال طالما اعتبرها البعض نقط غامضة‪.‬‬

‫وقراءتنا للمنهج اإلبستمولوجي في الق انون الجنائي المغربي‪ ،‬له أيضا داللة خاصة في هذا اإلطار‪ ،‬إذ ال يمكن أن‬

‫نبرح الحديث عن أهمية المق اربة اإلبستمولوجية من دون اإلشارة إلى أن المنهج اإلبستمولوجي يعتمد على‬

‫ميكانيزمات خاصة تميزه عن باقي المناهج العلمية األخرى المخصصة لدراسة مختلف الظواهر والنوازل المعروضة‬

‫للبحث والتحليل‪ ،‬وفي حقيقة األمر يكاد المنهج العلمي الحديث في إطار دراستنا لبنية الق انون الجنائي المغربي‬

‫يجمع بين حق ائق علمية عديدة تخص هذا الفرع األساسي من العلوم الق انونية‪ ،‬ذلك أنه باستعمالنا لهدا المنهج‬

‫يمكننا في هذه الحالة أن نميز بين عصرين مختلفين عصر يعود إلى ما قبل دخول الحماية الفرنسية للمغرب‬

‫وعصر أخر ينطلق من بعد دخول الحماية للمغرب سنة ‪ ،1912‬على أساس أن في كل عصر قد تم االعتماد على‬

‫مصدر معين‪ ،‬ومعنى هذا أن هناك صدرين أساسيين في تطبيق التشريعات الق انونية في الق انون الجنائي على‬

‫المستوى الدولي عموما وعلى المستوى الوطني خصوصا‪ ،‬وهما األحكام الشرعية المنصوص عليها في القرآن‬

‫‪137‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الكريم والسنة النبوية‪ ،‬ثم النصوص الق انونية الدولية التي تم المصادقة عليها وتحولت إلى ثوابت ق انونية تساهم‬

‫في تحديد السياسة الجنائية والعق ابية‪ ،‬ووضع مجموعة من الحدود التي تؤدي إلى معاقبة المجرمين‪ ،‬وردعهم‬

‫عن مخالفة القوانين‪.‬‬

‫إن النظرية اإلبستومولوجية عموما تخضع لضوابط فنية وتقنية تكاد تستأثر بها لوحدها عن باقي النظريات‬

‫والمناهج العلمية األخرى‪ ،‬فهي معنية قبل كل شيء بمعرفة بعض التساؤالت المحورية المتعلقة بالشروط الضرورية‬

‫والكافية التي يمكن الحصول عليها من المعرفة‪ ،‬وما هي مصادرها‪ ،‬وهياكلها‪ ،‬وما هي حدود المعرفة‪ .‬ومن‬

‫البديهي أن كل محاولة لتأمل موضوعي شامل لبنية الق انون الجنائي المغربي والمسار الذي قطعه بين أزمنة‬

‫طويلة و متق اطعة في الفكر والمنهج‪ ،‬تعتبر عويصة إن لم نق ل مستحيلة من الناحية العلمية بالنظر إلى الصعوبات‬

‫التي يفرضها المنهج اإلبستيمولوجي في دراسة القضايا والملف ات الكبرى المخصصة للنق اش والدراسة وتنوير‬

‫الرأي العام‪ ،‬على أساس أن اختيارنا لعلم اإلبستيمولوجيا في هذه المناسبة العلمية المباركة والمخصصة لدراسة‬

‫بنية أقوى فرع من فروع علم الق انون واألكثر شهرة بينها والمتمثل في الق انون الجنائي‪ ،‬لم يكن نابع من رغبة‬

‫ذاتية تتعلق عادة في معالجة إشكال يطرحه محور من محاور الق انون الجنائي‪ ،‬بل فرضته وأملته علينا الظرفية‬

‫التاريخية الخاصة لهدا الفرع الخطير من الق انون والكيفية التي ظهر بها في الواقع العملي وبروزه وحضوره‬

‫بشكل الفت للنظر بين باقي الفروع األخرى‪ ،‬حتى أضحى يشكل لوحده داخل المنظومة األكاديمية للعديد من‬

‫الدول ومن بينها المغرب تخصصا رئيسيا ومحايدا يكاد يستق ل عن كل من القسم العام والقسم الخاص في شعبة‬

‫الق انون‪ ،‬وال يخفي على الق ارئ الكريم أن الق انون الجنائي بالرغم من أقدميته من الناحية التاريخية‪ ،‬وجديته من‬

‫الناحية السيكولوجية كيفما رأينا في المبحث السابق‪ ،‬إال أنه الزال يعتبره أغلب أفراد المجتمع المغربي بما في‬

‫ذلك الدارسين والمتخصصين في هذا الميدان غريبا وغامضا‪ ،‬ف الوصف األول يتعلق بمصدره أي المصدر‬

‫األساسي للق انون الجنائي المغربي الذي يستمد منه أحكامه‪ ،‬وثانيا يتعلق بالمسار الذي يتجه فيه بمعنى الطريق‬

‫الذي يسلكه الق انون الجنائي المغربي من أجل مالءمة الغرض الذي أنشئ ألجله أمام األزدواجية الحاصلة في بنية‬

‫الفكر الجنائي‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الفقرة األولى ‪ :‬جدلية القواعد الفقهية في الق انون الجنائي المغربي ‪:‬‬

‫هناك أزمة حقيقية تحوم حول ف لسفة الق انون الجنائي المغربي وطبيعة القواعد الفقهية التي استمد منها‬

‫مشروعيته لتكريس مجموع النصوص الق انونية التي ينص عليها حاليا داخل مجموعة الق انون الجنائي المغربي‪،‬‬

‫حيث أن الظروف الحقيقية للحقبة الهامة التي ظهر فيها الق انون الجنائي المغربي والتي جاءت مباشرة بعد‬

‫استق الل المغرب لم يعرها الفقهاء والمتخصصون في المجال الجنائي ما تستحقه من عناية‪ ،‬فقد ظهرت نصوص‬

‫الق انون الجنائي المغربي بشكل غامض والزالت كذلك إلى يومنا‪ ،‬بفعل التضارب الحاصل بين مبادئ ظلت‬

‫راسخة في الفكر اإلنساني تناولتها الشريعة اإلسالمية مند أمد بعيد جدا‪ ،‬يعرفها المواطن المغربي المسلم إنطالق ا‬

‫من انصهاره التام في قواعدها الفقهية الوسطية السمحة‪ ،‬وبين مبادئ أخرى حديثة اكتشفها المجتمع المغربي‬

‫نتيجة لإلحتكاكه بالعالم الخارجي الذي مثلته في الحقبة الممتدة على طول سنوات القرن الماضي كل من فرنسا‬

‫واسبانيا داخل المغرب‪ ،‬مما جعل أكثر الناس يخلطون بين المبادئ األولى والثانية وخاصة في المجال الق انوني‬

‫الذي أصبح يتطور أكثر ف أكثر في ظل فترة الحماية التي عاشها المغرب في نصف قرن من الزمن‪ .‬كما أن‬

‫النق اش العلمي في مادة الق انون الجنائي سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى األكاديمي أو حتى‬

‫الثق افي لم يتطرق أبدا في يوم من األيام لمحور المصادر األساسية للق انون الجنائي المغربي‪ ،‬للحسم في الصراع‬

‫الدائر بين مختلف التيارات العلمية والتي يرى بعضها بأن الق انون الجنائي المغربي مصدره هو الشريعة‬

‫اإلسالمية والفقه اإلسالمي‪ ،‬وما المستجدات التي طرأت على قواعده ما هي إال دليال واضحا على مسايرة القواعد‬

‫الشرعية للتطورات الحاصلة في بنية المجتمع اإلسالمي‪ ،‬وما نتج عنها من اختالف ات فقهية وقضائية‪ ،‬والتي برز عنها‬

‫آليات هامة نذكر منها التعازير الفقهية الممنوحة للقضاة في ظل سلطة المالءمة وتكييف الوق ائع وتطبيق‬

‫األحكام‪ ،‬في حين ترى الجهة المق ابلة لهذا الرأي أن المصدر الحقيقي للق انون الجنائي المغربي هو الفكر‬

‫الالتيني الجرماني ذو األصول األوروبية‪ ،‬أي أنه مستمد من المدرسة الالتينية الجرمانية‪.‬وخاصة مدونة نابوليون‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫الفقرة الثانية ‪ :‬دراسة بنية الق انون الجنائي المغربي‬

‫من الواضح جدا عند تفحص أبواب الق انون الجنائي المغربي أو باألحرى مجموعة الق انون الجنائي المغربي‬

‫سنجد أن أغلب النصوص الموجودة على مستوى هذه األبواب تدرجت وفق ما يسمى بالتسلسل الجنائي لمختلف‬

‫الجرائم وطبيعة العقوبات المقررة لها‪ ،‬وهذا األمر يعد مثاليا بالنسبة للمتخصصين الجنائيين وكافة المهن‬

‫القضائية والق انونية المرتبطة به‪ ،‬حيث يسهل على كل هؤالء ومعهم أيضا شرائح أخرى عديدة من شرائح المجتمع‪،‬‬

‫تصفحه وفهمه واستخالص اآلثار الق انونية التي يرتبها‪ ،‬ومع ذلك يعتبر غامضا وغير مفهوم خاصة إذا تحدثنا عن‬

‫مصادره الرسمية التي اشتقت منه مختلف أحكامه العامة والخاصة‪ ،‬وال يغيب علينا في هذا اإلطار أن مجمل‬

‫القوانين المغربية التي نراها اآلن في شكل نصوص قوانين خاصة أو مدونات‪ ،‬انشقت من مصادر معينة تتدرج‬

‫حسب رأي الفقه الق انوني إلى مراتب نذكر منها الشريعة والعرف واالتف اقيات الدولية‪ ،...‬كما أن لها أعمال‬

‫تحضيرية خاصة بها تعكس من خاللها أهم الظروف المادية والموضوعية التي مرت بها القوانين مند نشأتها إلى‬

‫غاية نشرها بالجريد الرسمية‪ .‬ذلك أن القضايا التي تحتاج إلى تدقيق أكبر في هذا اإلطار هي مسألة تحديد‬

‫المصادر التي اشتقت منها الوثيقة الق انونية لمختلف القوانين التي نراها اليوم تحتل مكانة بارزة في المجتمع‬

‫وتؤطر مختلف المجاالت الحيوية للدول وفي طليعتها الق انون الجنائي‪ ،‬ونخص بالذكر الق انون الجنائي المغربي‬

‫حيث ال يوجد أصال نص تشريعي عام في المغرب يحدد مصادر الق اعدة الق انونية‪ ،‬باستثناء ما يتصل ببعض‬

‫النصوص الخاصة كالق انون التجاري و مدونة األسرة ومدونة الحقوق العينية‪.‬‬

‫ولئن كان الق انون الجنائي يشكل أحد األعمدة األساسية لقيام فكرة الق انون وسموها بين فئات المجتمع‪ ،‬ف إنه‬

‫من الطبيعي أن تلحقه تغييرات ف لسفية تعمل على تط وير مفه ومه من وقت لألخر تبع ا لتط ور مفه وم العلوم‬

‫الفرعية التابعة له كعل م اإلج رام مثال وما نتج عنه من مدارس عديدة ونظريات مختلفة‪ ،‬ولم ا رس ت نظري ات عل م‬

‫اإلج رام عل ى النظري ات االجتماعي ة المعاص رة‪ ،‬ولما رس ى أيضا مفه وم السياس ة الجنائي ة عل ى أنه ا التنظ يم العق الن ي‬

‫ل رد الفع ل االجتم اعي ض د الجريم ة ف ي مجتم ع مع ين و ف ي وق ت مع ين‪" ،‬فتح دد السياس ة الجنائي ة المص الح‬

‫االجتماعي ة الج ديرة بالحماي ة م ع بي ان العقوب ات األكث ر مالءمة للجرائم المرتكبة‪".‬‬

‫‪140‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬ازدواجية الفكر الجنائي‬

‫تقتضي طبيعة الدراسة وخصوصية الموضوع المطروح للتحليل والنق اش اعتمادا على منهج التحليل اإلبستيمولوجي‬

‫الذي اخترناه لكشف الحق ائق الغائبة ومد جسر فكري يربط بين الماضي والحاضر‪ ،‬الوقوف على ما تم التوصل‬

‫إليه في ظل المطلب السالف الذكر‪ ،‬والذي ق لنا من خالله على أن الفكر الجنائي المغربي وما يحمله من قواعد‬

‫تجريمية وعق ابية اختلف وتغير بين عصرين مختلفين لكل منهما مصدر معين في صياغة القواعد الجنائية‬

‫وتطبيقها على مستوى الواقع أمام الجهة المختصة بتطبيق الق انون الجنائي‪ ،‬ولعل أهم ما يمكن الحديث عنه في‬

‫هذ ا اإلطار هو أن الحقبة التي سبقت فترة الحماية بالمغرب‪ ،‬كانت بمثابة نقطة هامة في التاريخ الجنائي‬

‫المغربي‪ ،‬حيث كانت أغلب األحكام القضائية الجنائية الصادرة في حق المذنبين من عامة الناس داخل إق ليم‬

‫الدولة المغربية‪ ،‬تعتمد باألساس على ما هو معمول به في المنظومة الجنائية أنداك‪ ،‬حيث كانت أحكام الشريعة‬

‫اإلسالمية هي المطبقة في تلك الفترة في جل المناطق واألمصار التابعة للسلطة المغربية‪ ،‬باإلضافة إلى قواعد‬

‫الفقه المالكي المطبقة في بعض الجرائم الحديثة‪ ،‬أما الحقبة الثانية والمتمثلة في حقبة الحماية فقد تناولت‬

‫أحكاما أخرى غير تلك التي كانت تطبق في الحقبة األولى‪ ،‬أي أن هناك تحول كبير إن لم نق ل جدري في‬

‫منظومة الق انون الجنائي المغربي‪ ،‬و هذا راجع باألساس إلى الدور األجنبي الذي لعبته فرنسا ومعها اسبانيا منذ‬

‫دخولهما إلى المغرب‪ ،‬غير أن هذا التحول الخطير لم يدركه المغاربة أنذاك بفعل الضغط الذي كانت تمارسه‬

‫فرنسا في كل مناطق المغرب بإستثناء منطقة الشمال ومنطقة الجنوب اللتان كانتا تتواجدان تحت سيطرة وضغط‬

‫اسبانيا‪ ،‬كما أن ظهور مؤسسات قضائية في حلة جديدة تناسب ثق افة المستعمر في تشخيص ق انونه الجنائي‬

‫بأرض المغرب‪ ،‬سهلت األمر لإلحتضان قواعد جديدة خاصة بالفكر الجنائي المغربي‪ ،‬خاصة وأن األجانب أصبح لهم‬

‫دور أساسي في تسيير العديد من المرافق الهامة بالمغرب نذكر من أهمها قطاع العدالة‪ ،‬من خالل فرض‬

‫سياسة جنائية جديدة و إجراءات مسطرية حديثة لم يكن للمغاربة عهد بها سابق ا إال بعد فرض الحماية على‬

‫المغرب من قبل فرنسا واسبانيا‪.‬‬

‫الفقرة األولى ‪ :‬المذهب المالكي وعالقته بالق انون الجنائي المغربي ‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫تعتبر الشريعة اإلسالمية ومعها الفقه اإلسالمي‪-‬المالكي‪ -‬من أهم المصادر الق انونية للق انون الجنائي المغربي‬

‫قبل فترة الحماية‪ ،‬ومن المعلوم أننا حينما نتحدث عن الق انون الجنائي المغربي في هذا اإلطار‪ ،‬ف إننا بطبيعة‬

‫الحال نحصر هذا الق انون في القواعد الشرعية المعمول بها في التنصيص على الجرائم وما يلزمها من عقوبات‬

‫حددها الشارع اإلسالمي حصرا في نصوص القرأن الكريم والسنة النبوية‪ ،‬مع تركه مجاال واسعا في إطار السلطة‬

‫التقديرية الممنوحة لألولي األمر والقضاة(التعازير) في تحديد العقوبات المناسبة لبعض الجرائم فقط‪ ،‬التي‬

‫يمكن القول عنها أنها أق ل حدة من تلك التي حددت بموجب نص شرعي كما هو الحال بالنسبة للجرائم التق ليدية‬

‫كالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر‪،...‬أو أنها ظهرت كجرائم جديدة بفعل توسع رقعة اإلسالم واحتضانها لألقوام‬

‫وقبائل متعددة ساهمت إلى حد ما في ظهور أنماط جديدة من األفعال واألقوال‪ ،‬التي تدخل الفقه اإلسالمي فيما‬

‫بعد لتكييف منزلتها داخل بيت المسلمين‪.‬‬

‫والق انون الجنائي المغربي على غرار الكثير من القوانين الجنائية للعديد من البلدان العربية اإلسالمية تأثر هو‬

‫األخر بقواعد الشريعة اإلسالمية مند أن وطأ اإلسالم أرض المغرب أي ما يق ارب ثالثة عشر قرنا من الزمن‪ ،‬تعاقبت‬

‫على إثرها العديد من الحضارات اإلسالمية الهامة في تاريخ المغرب‪ ،‬وعلى ما يبدو أن المغرب وبفضل اعتماده‬

‫على المذهب المالكي أي مذهب اإلمام مالك إمام المدينة المنورة‪ ،‬ساهم إلى حد ما في تطور الق انون الجنائي‬

‫المغربي من خالل بوابة الفقه واالجتهادات التي يراها في كل لحظة وحين‪ ،‬حيث أصبح الفقهاء المغاربة‬

‫يجتهدون في بعض الجرائم المستحدثة تبعا للخطورة التي تشكلها على المجتمع المغربي مع ترك أمر العق اب إلى‬

‫الحاكم أو ما ينوب عنه من القضاة الشهود لهم بالحنكة واالستق امة‪ ،‬أو في بعض األحيان إلى الق ائد وخاصة إن‬

‫تعلق األمر بأمن الدولة أو القبيلة‪ ،‬وهكذا فقد وضعت الشريعة اإلسالمية من خالل بوابة الفقه اإلسالمي كما ق لنا‬

‫منهجا معينا في التشريع الجنائي وذلك بمحافظتها على األصول الكلية الخمسة والتي اعتبرتها مقصدا من‬

‫مق اصدها وهي الدين والنفس والنسل والعق ل والمال فسنت لذلك جرائم وحدود وأوجبت قصاصا للحف اظ على‬

‫تلك المق اصد‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫ومن المعلوم أن التشريع الجنائي اإلسالمي استنادا إلى منطوق األدلة الشرعية من كتاب هللا عزوجل أي القران‬

‫الكريم والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬ال يرفض وال يأبى أبدا اإلستف ادة من ثمرات الجهود العلمية طالما كانت متفقة‬

‫مع أحكامه وتؤدي غرضا معينا‪ ،‬بدون تناقض أو تعارض بطبيعة الحال‪ ،‬وهذا ما سار وتعاقب عليه فقهاء‬

‫المذهب المالكي بالمغرب منذ أن أصبح هذا األخير رقعة جغرافية هامة من دار اإلسالم‪ ،20‬إذ أصبح المنهج‬

‫الرئيسي للفكر الجنائي بالمغرب يطبق بما جرت عليه القواعد األصولية والفقهية المنصوص عليها في المراجع‬

‫األساسية للفقه اإلسالمي عامة والفقه المالكي خاصة (القرأن والسنة)‪ ،‬كما أن مجال التعزير في أحكام الشريعة‬

‫اإلسالمية الغراء مجال خصب يسمح للجهة المعنية باألمر أي القضاء بإعتباره صاحب الوالية في هذا اإلطار أن‬

‫يستفيد إلى أبعد حد من تلك الثمرات في تشريع بعض األحكام وتطبيقها‪ ،‬فيما يحتاج إليه المجتمع المغربي‬

‫باعتباره مجتمعا إسالميا توالت على أرضه أقوى الحضارات اإلسالمية منذ فجر اإلسالم وإلى يومنا هذا ‪.‬‬

‫الفقرة الثانية ‪ :‬أثر المدرسة الجرمانية الالتينية في الق انون الجنائي المغربي‬

‫في الواقع ال يستقيم المق ام حينما نقيس حجية وقطعية القواعد الفقهية المالكية المقتبسة من الشريعة اإلسالمية‬

‫بوصفها قواعد طبيعية متصلة بالدين اٌإلسالمي الحنيف‪ ،‬بنظيرتها الموضوعية التي تم اقتباسهما من مدارس‬

‫وضعية صرفة‪-‬بوصفها عمل إنساني‪ -‬كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة الالتينية الجرمانية‪ ،‬ذلك أن الفئة األولى‬

‫من القواعد تتميز بالكمال والسمو والعموم‪ ،‬صالحة لألي زمن ومكان‪ ،‬ال تقبل التجزيء وال التغيير إال إ ذا حالت‬

‫عوارض قوية ال طاقة لإلنسان بها‪ ،‬إذ ذاك ينتفي معها التكليف‪ ،21‬أما الفئة الثانية من القواعد والمتمثلة في‬

‫مصطلح تاريخي يستعمل للتفرقة بين الدول التي اعتنقت اإلسالم وطبقة أحكام الشريعة اإلسالمية بغبرها من الدول التي لم تعتنقه‬ ‫‪20‬‬

‫وال تطبق أحكام الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫يعتبر التكليف في الشرع أو ما يق ابله في الق انون بالمسؤولية‪ ،‬الحلقة األبرز في تحمل االلتزامات والواجبات وما ينتج عنهما من‬ ‫‪21‬‬

‫تبعات خاصة سواء أكانت شرعية أو ق انونية‪ .‬وبما أن المسؤولية من زاوية الدراسات الق انونية تنتفي أو تنقص أو تنعدم بالنظر إلى‬

‫سن الشخص وحالته البدنية والذهنية‪ ،‬ف إن نفس األمر نجده في سياق الحديث عن التكليف من زاوية الشرع اإلسالمي‪ ،‬ذلك أن‬

‫‪143‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫القواعد الموضوعية أي أنها من عمل اإلنسان ونتاجه وال تتصل بقواعد الدين إطالق ا إال فيما يخص بعض أجزائها‪،‬‬

‫لكونها تنم عن تجربة اإلنسان في الحياة والحاجة الملحة إلى التطور من أجل جلب المصالح ودرء المف اسد‪ ،‬إذن‬

‫فهي قواعد متغيرة وغير مستمرة تتغير بتغير الزمن والمكان‪ ،‬بل إنها ق ابلة للتغيير في أي لحظة‪ ،‬مما يجعلها‬

‫تتميز بالقصور والنقص‪ ،‬وهذا ما يجعل الق انون الجنائي المغربي محل إشكال وغموض‪ ،‬وال سيما حينما يشرع‬

‫الق ارئ بدراسته وتمحيصه‪ ،‬يراوده إشكال مستمر هل أحكامه مستنبطة من الفقه اإلسالمي المالكي أي له صلة‬

‫بأحكام الدين اإلسالمي‪ ،‬أم أن حداثة المجتمع المغربي وانفتاحه على ثق افة العصر جعلت أحكامه ق اب قوسين أو‬

‫أدنى تميل إلى المدرسة الالتينية الجرمانية؟ في واقع األمر ال يوجد لدينا سندا تاريخيا لكي نجيب عن السؤال‬

‫السالف الذكر‪ ،‬واألمارة على ذلك أن العالمة البارزة التي يرافع بها الخطاب اإلبستمولوجي في بنية الق انون‬

‫الجنائي المغربي أفرزت اتجاهات مضادة في التنقيب عن أثار المدارس الفقهية وال سيما المدرسة الجرمانية‬

‫الالتينية‪ ،‬ومع ذلك ف إن المتصفح للق انون الجنائي المغربي لسنة ‪ 1962‬في جميع أبوابه سيجد أن جل الفصول‬

‫المنصوص عليها في هذا الق انون ال تمت بصلة إلى أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ولكن قد يق ال عنها أنها نتاج‬

‫قواعد فقهية صرفة أنتجها الفقه اإلسالمي بإعتبار أن المغرب دولة ذات مرجعية إسالمية يساهم فقهاؤها في‬

‫بلورة العديد من األراء الفقهية في كل مناسبة تحتاج فيها إلى إبداء الرأي الصحيح‪ ،‬ومع ذلك ف إن هذا القول ال‬

‫نقبل صحته حتى ولو كان جزء منه صحيح‪ ،‬على اعتبار أن الق انون الجنائي المغربي لسنة ‪ 1962‬إعتمد بشكل‬

‫كبير على قواعد المدرسة الالتينية في صياغة أغلب نصوصه الق انونية وتحديدا ق انون العقوبات الفرنسي لسنة‬

‫‪ ،1810‬وهذا يظهر جليا من حيث الشكل والموضوع‪ ،‬فمن الناحية الشكلية الق انون الجنائي المغربي هو أقرب‬

‫إلى ق انون العقوبات الفرنسي في مجموع أبوابه التي تمت صياغتها بنفس الشكل مع اختالف جزئي في بعض‬

‫الحيثيات المتعلقة بنوع الجريمة ودرجة العقوبة‪ ،‬إعتمادا على خصوصية المجتمعات واالختالف الحاصل بينها في‬

‫الفكر والمنهج‪ ،‬أما من الناحية الموضوعية فقد إعتمد الق انون الجنائي المغربي لسنة ‪ 1962‬بنفس القواعد‬

‫التي استعملها ق انون العقوبات الفرنسي في التجريم والعق اب من خالل الف لسفة المعتمدة في ديباجة كل منهما‪،‬‬

‫التكليف ينقص هو األخر وينتفي وينعدم بوجود العناصر السالفة الذكر‪ ،‬ومعنى هذا أن اإلنسان يختلف من شخص لألخر تبعا‬

‫لإلختالف الحاصل على مستوى السن والقدرة في التفكير واإلدراك والتمييز وتحمل األداء ‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫فضال عن أن الحقبة التي ظهر فيها الق انون الجنائي المغربي في صورته الحالية‪ ،‬كانت نصوصه تصاغ باللغة‬

‫الفرنسية ثم تترجم إلى اللغة العربية‪ ،‬مما يدل على أن الق انون الجنائي المغربي هو امتداد للفكر الصادر عن‬

‫المدرسة الجرمانية الالتينية شكال ومضمونا‪ ،‬أوكما يقول أستاذنا محمد الشافعي في تعليقه على الق انون الجنائي‬

‫المغربي (الق انون الجنائي المغربي نشأ وترعرع بالمغرب لكن جذوره بأوربا)‪.22‬‬

‫محمد الشافعي ‪ :‬الجذور التاريخية للقانون الجنائي المغربي‪ ،‬درس إفتتاحي لفائدة الفوج األول من طلبة ماستر السياسة‬ ‫‪22‬‬

‫الجنائية والعدالة اإلجرائية‪،‬يوم السبت ‪ 19‬أكتوبر‪ 2019‬بقاعة الندوات بكلية العلوم القانونية واإلقتصادية واإلجتماعية‬
‫مراكش‪ ،‬جامعة القاضي عياض‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫المجلة الدولية لألبحاث الجنائية والحكامة األمنية العدد الثالث لسنة ‪2020‬‬

‫خاتمة ‪:‬‬

‫من المؤثر جدا أن يغيب عن المتخصص في الق انون الجنائي الغربي مصادره الرسمية من أجل وضعه في سياقه‬

‫العام ومعرفة من أين اقتبسنا مجمل قواعده الق انونية‪ ،‬لكنه من المفيد جدا البحث عن هذه المصادر بشتى‬

‫المناهج والعلوم األخرى للوصول إلى حق ائق معينة طالما غابت عن المشهد الق انوني الرسمي أو األكاديمي‪ ،‬ومن‬

‫هنا كانت أهمية هذه الدراسة التي تجمع في أسلوب تحليلي مق ارن سيكولوجي وإبستيمولوجي يتناول األحكام‬

‫األساسية للق انون الجنائي المغربي في إطار الشريعة اإلسالمية السمحة وخاصة الفقه المالكي في حقبة ما قبل‬

‫الحماية‪ ،‬ثم االنفتاح فيما بعد بحكم عامل الحماية المفروضة على المغرب سنة ‪، 1912‬على قواعد المدرسة‬

‫الجرمانية الالتينية باعتبارها محطة بارزة لتضافر الجهود التي بدلت على المستوى العالمي طبق ا للنزعة الف لسفية‬

‫التي اجتاحت أوربا ما بعد عصر النهضة وامتدت أثارها إلى أن بلغت المغرب وأصبحت جزء من منظومته‬

‫التشريعية وال سيما التشريع الجنائي‪.‬‬

‫‪146‬‬

You might also like