الدولة والبداوة دراسة في أطروحات د علي الوردي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 150

‫الدولة والبداوة‬

‫درا�سة فـي طروحات د‪ .‬علي الوردي‬


‫الدولة والبداوة‬
‫درا�سة فـي طروحات د‪ .‬علي الوردي‬
‫احمد جليل البياتي‬
‫الطبعة‪ :‬االوىل‪2023 ،‬‬
‫عدد ال�صفحات‪150 :‬‬
‫القيا�س‪21.5*14.5 :‬‬
‫‪ISBN: 978-9922-9863-0-2‬‬

‫© جمي��ع احلقوق حمفوظ��ة لدار ومكتبة املره��ج ودار الواح‬


‫للن�ش��ر والتوزي��ع‪ ،‬وال يح��ق لأي �ش��خ�ص �أو م�ؤ�س�س��ة �أو جه��ة‪،‬‬
‫�إع��ادة �إ�ص��دار هذا الكت��اب‪� ،‬أو جزء منه‪� ،‬أو نقله‪ ،‬ب�أي �ش��كل‬
‫�أو وا�س��طة من و�سائط نقل املعلومات‪� ،‬سواء �أكانت �إلكرتونية‬
‫�أم ميكانيكي��ة‪ ،‬مب��ا يف ذل��ك الن�س��خ �أو الت�س��جيل �أو التخزين‬
‫واال�سرتجاع‪ ،‬من دون �إذن خطي من �أ�صحاب احلقوق‪.‬‬

‫�ألواح للن�شر والتوزيع‬


‫احمد جليل البياتي‬

‫الدولة والبداوة‬
‫درا�سة فـي طروحات د‪ .‬علي الوردي‬

‫ت�صحيح لغوي‪ :‬حممد ال�سالمي‬

‫�ألواح للن�شر والتوزيع‬


‫اهداء عام‬
‫الى مسلمي ومسيحي وصابئة وجميع اديان العراق‬
‫الى سنة وشيعة وشباب العراق وجميع املدارس الفكرية‬
‫الى العرب والكورد والتركمان وجميع القوميات‬
‫شكرا‪ ...........‬ألنكم العراق وبكم ينهض ويزدهر‬

‫اهداء خا�ص‬
‫الى الحب الصافي ونبع الحنان الغامر‬
‫الى مقبولة محمود الجاسم‪ ....‬مع الحب واالشتياق‬

‫‪5‬‬
‫الفهر�س‬

‫‪9‬‬ ‫املقدمة ‪..............................................................‬‬


‫‪13‬‬ ‫الباب األول‪ :‬البداوة واحلضارة ‪.......................................‬‬
‫‪15‬‬ ‫البداوة ‪...........................................................‬‬
‫‪15‬‬ ‫العصبية ‪......................................................‬‬
‫‪19‬‬ ‫الغزو ‪.........................................................‬‬
‫‪22‬‬ ‫املروءة ‪.......................................................‬‬
‫‪24‬‬ ‫منشأ العصبية ‪....................................................‬‬
‫‪29‬‬ ‫ملاذا تنتمي اجلامهري للجامعات املتعصبة ‪............................‬‬
‫‪33‬‬ ‫العصبية البدوية يف وقتنا احلارض ‪..................................‬‬
‫‪34‬‬ ‫عصبية الدول ‪....................................................‬‬
‫‪36‬‬ ‫تصنيف الدول حسب عصبيتها ‪...................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫دول ذات عصبية سلبية واحدة (الدكتاتورية الرجعية) ‪...........‬‬
‫‪41‬‬ ‫دول ذات عصبيات متعددة (ديمقراطية ناشئة) ‪................‬‬
‫‪44‬‬ ‫الدول ذات العصبية اإلجيابية (الديمقراطية املؤسساتية) ‪.......‬‬
‫‪48‬‬ ‫ملاذا ترفض اجلامهري العربية الدول ذات العصبية االجيابية؟ ‪..........‬‬
‫‪54‬‬ ‫كلمة ال بد منها ‪..................................................‬‬
‫‪57‬‬ ‫حتول الدول ‪.....................................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫االنتقال اىل الدول ذات العصبية االجيابية ‪.............................‬‬
‫‪61‬‬ ‫مباحث ذات عالقة ‪..............................................‬‬
‫‪61‬‬ ‫الدول واالعالم ‪..............................................‬‬
‫‪64‬‬ ‫الدول واخلرافة ‪..............................................‬‬
‫‪68‬‬ ‫الدول واألمن ‪...............................................‬‬
‫‪70‬‬ ‫الدول والثورة ‪...............................................‬‬

‫‪7‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫‪73‬‬ ‫الدول واملواطنة ‪..............................................‬‬


‫‪79‬‬ ‫الباب الثاين‪ :‬الوضع العراقي ‪.........................................‬‬
‫‪81‬‬ ‫الوضع العراقي ‪...................................................‬‬
‫‪88‬‬ ‫ملاذا مل ينتج النظام الديمقراطي يف العراق حكومة تلبي الطموح؟ ‪....‬‬
‫‪92‬‬ ‫الديمقراطية يف العــراق اليوم رش ال بد منه ‪.........................‬‬
‫‪99‬‬ ‫دور الشباب العراقي ‪.............................................‬‬
‫‪110‬‬ ‫عالقة اجلامهري بالدولة العراقية ‪...................................‬‬
‫‪112‬‬ ‫التعليم والتعيني ‪..................................................‬‬
‫‪114‬‬ ‫االبتعاث اخلارجي لطلبة املاجستري والدكتوراه ‪....................‬‬
‫‪117‬‬ ‫الطائفية والقومية ‪.................................................‬‬
‫‪125‬‬ ‫املشــكلة الطائفية والقومية – سبيل اخلالص ‪.......................‬‬
‫‪137‬‬ ‫الوردي يف ديرتويت ‪..............................................‬‬
‫‪141‬‬ ‫املحاصصة يف العراق ‪.............................................‬‬
‫‪142‬‬ ‫اجلانب املرشق يف الواقــع العراقي ‪.................................‬‬

‫‪8‬‬
‫املقدمة‬

‫الكثري من العراقيني قد يتســألون من أوصلنا هلذا احلال‪ ،‬فســاد‬


‫طاغ وصناعة منعدمة وزراعة حتترض ونظام ســيايس عاجز‪ .‬اإلجابة‬
‫عىل هذا الســؤال لن تقدم شــيئا فإلقاء اللوم عىل هــذا او ذاك‪ ،‬لن‬
‫يغري األوضاع‪ .‬لذا التســاؤالت األكثر أمهيــة هو كيف وصلنا هلذا‬
‫احلال وماذا يمكننا أن نفعل لنحســن األوضــاع؟ اإلجابة عىل هذه‬
‫التســاؤالت قد يســاهم يف إجياد حلول او صيغة عمل قد حتســن‬
‫األوضاع أو عىل األقل تساهم يف فهم ما جيري من حولنا‪.‬‬
‫هذا الكتاب يسعى لتوضيح ما يمر به العراق اليوم وكيف يمكن‬
‫التعامل مــع الظروف احلالية بام خيدم مســتقبل العراق ال حارضه‪.‬‬
‫يعتمد الكتــاب عىل مؤلفات الدكتور عيل الــوردي‪ ،‬هذه املؤلفات‬
‫وبالرغــم من عبقريتها ومجاهلا مل جتــد أذن صاغية من العراقيني‪ ،‬بل‬
‫أمهلت بشــكل مؤســف بدل أن يتم تدريســها يف املدارس‪ .‬يتناول‬
‫الكتاب جزئية واحدة من اجلزيئات التي ركز عليها الدكتور الوردي‬
‫وهي البــداوة ودورها يف ظهور وأفول أنظمــة الدول‪ .‬والبداوة يف‬
‫نظري هي مساوية للعصبية‪ ،‬فالعصبية هم أم البداوة واصلها‪.‬‬
‫علمــت يف هذا الكتــاب عىل تطويــر وحتديث نظريــة البداوة‬
‫اخللدونيــة والوردية لتتناســب مع روح العــر والتحديات التي‬
‫نعيشــها اليوم‪ .‬التطويــر والتحديث واجب وبخالفــه تصبح هذه‬

‫‪9‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫النظريات املهمة أحفوريات ال قيمة عملية هلا يف وقتنا احلارض‪ .‬أحد‬


‫مالمح هذا التطوير هو التأكيد عىل ان عصبية النسب التي اعتمدها‬
‫ابن خلدون واألصــل الصحراوي للبداوة الــذي أقرتحه الوردي‬
‫قد أصبحا من املــايض أو قل تأثريمها‪ .‬اليــوم لدينا عصبية األفكار‬
‫والقوميات واملذاهب وغريها مــن األمور التي جيتمع الناس حوهلا‬
‫خوفــا او رغبة‪ .‬بناء عىل هذا الفهم اختلف تصنيف الدول واختلف‬
‫دور البداوة يف تكوهنا‪ .‬احرتام هــذه األفكار والقوميات واملذاهب‬
‫رضورة لبناء عراق قوي ومزدهر‪.‬‬
‫احلضــارة والبداوة هي قيــم ومبادئ جيتمع النــاس حوهلا أكثر‬
‫منها بيئة جغرافية‪ .‬العراق اليوم يعيــش البداوة بأهبى صورها ممثلة‬
‫بضعف سيطرة الدولة والقانون عىل احلياة اليومية مما أدى اىل سيطرة‬
‫العصبيات واندثار احلرف‪ .‬االقتصاد العراقي اليوم هو اقتصاد ريعي‬
‫يعتمد عىل النفط بالدرجة األوىل واألخرية وهو هبذا مشــابه للنظام‬
‫البداوة القائم عىل الكســل والغزو‪ .‬نحن ببســاطة قطاع طرق قمنا‬
‫بتعيني اصحاب احلرف والصناعة (الرشكات العاملة يف اســتخراج‬
‫النفط والدول التي تشــري النفط لتمول صناعتها) ليستخرجوا ما‬
‫حصلنا عليه بالصدفة (مغارة عيل بابا) ومن ثم نتقاسم املكاسب عن‬
‫طريق الوظائف احلكومية التي يســعى اجلميــع هلا ضمن االقتصاد‬
‫الريعــي الذي يدير البالد‪ .‬ماذا لو فرغت املغــارة أو زهد الناس بام‬
‫فيها؟‬
‫يؤكد الكتاب عىل رضورة النظــر بحكمة وبصرية لواقع العراق‬

‫‪10‬‬
‫املقدمة‬

‫اليوم ورضورة التعامــل معه بحكمة بعيدا عــن الطوباوية‪ .‬مازلنا‬


‫نحاول بناء العراق بالشــعارات والعنرتيــات دون اطالع كايف وال‬
‫برنامج شايف‪ .‬يقول الدكتور عيل الوردي أن هؤالء إذا حتدثت معهم‬
‫بنظرية علمية جديدة يرسعون اىل املجادلة دون معرفة وربام يعمدون‬
‫اىل تكذيبها والســخرية منها‪ .‬وهكذا أصبح اجلدل والنقاش بدون‬
‫معرفة وخــرة واطالع ميزة االعم االغلب‪ .‬بالنتيجة مل تعد اجلامهري‬
‫قادرة عىل التمييز بني القائد واملقود‪ ،‬بني العامل واجلاهل‪ ،‬وبني املنجي‬
‫واملهلك‪ .‬انسحب هذا االمر اىل املثقفني الذين بالرغم من اطالعهم‬
‫عىل فســاد املجتمع وأفــكاره وأدواته مل يتنازلوا عــن طوبائيتهم يف‬
‫التخاطب مع الناس بنــرة الوعظ واالفكار العالية التي ال تقدم اي‬
‫حلول للواقع‪ ،‬جمرد كالم معسول ال يتجاوز تأثريه اجللسة التي قيل‬
‫فيها‪.‬‬
‫جيب ان نتعلم من عقود الشعارات القومية والدينية التي مل تقدم‬
‫شيئا سوى املزيد من خيبات االمل‪ ،‬ان الشعارات عىل مجاهلا ليست‬
‫هلا أي دور حقيقي يف التغيري‪ .‬فمحاولة تطوير املجاالت العســكرية‬
‫واالقتصادية والسياســية قادت شعوبنا اىل هزائم خمزية‪ .‬فلم نكسب‬
‫سوى منظومة عسكري هزيلة واقتصاد فاسد متكئ عىل الغرب‪ .‬أما‬
‫حماوالت بناء املنظومة السياسية فانتهت بدكتاتوريات حمتقرة دوليا‪.‬‬
‫مل تقدم شــعارات الوحدة ســوى التباعد والترشذم واحلرية سوى‬
‫الدكتاتوريات واالسالموية سوى االبتعاد عن الدين‪.‬‬
‫االنتخابات احلرة نسبيا اليوم يف العراق ليست كفيلة وحدها ببناء‬

‫‪11‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بلد متقــدم وحر‪ .‬ما زلنا بحاجة لتحرير العقــول لنتمكن من النقد‬
‫والتعبري بحرية‪ ،‬مازلنا بحاجة لتحرير االقتصاد من الفســاد وسوء‬
‫اإلدارة‪ ،‬ما زلنا بحاجة لتحرير اجلامهري من االصنام التي برزت بعد‬
‫سقوط الصنم األكرب‪ ،‬مازلنا بحاجة ملؤسسات قوية وعادلة‪ ،‬ما زلنا‬
‫بحاجة لشــعب واع ومســاند‪ ،‬ما زلنا بحاجة ألهناء املحاصصة يف‬
‫األجهزة التنفيذية والقضائية حرصا واعتامد مبدأ الكفاءة‪.‬‬
‫الكتاب حياول ان يضع خطــوط عريضة لكيفية النهوض بالبلد‬
‫وجتاوز أخطــاء املــايض ورشح خصائص املرحلــة احلالية وكيفية‬
‫التعامــل معها‪ .‬ال خيفى عىل القارئ الكريــم ان هذا اجلهد ال يمثل‬
‫ســوى خطوة تثقيفه بســيطة‪ ،‬راجيا من املهتمني الباحثني واملثقفني‬
‫ذوو الفكر النري والعقلية املتقدة تلقفها وحتســينها وهتذيبها بام خيدم‬
‫العراق وأهله‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الباب الأول‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ ُ َّ ُ ْ َ ُ ْ‬
‫وا َق ْو ًما َف ٰ�سق نَ‬
‫�‬ ‫ِ ِي‬ ‫فٱستخف قومهۥ فأطاعوه ِإنهم كان‬
‫(الزخرف ‪)54 -‬‬

‫أذا الشعب يوما أراد الحياة‬


‫فال بد أن يزرع الزيتون ويرص الزنود‬
‫ن‬ ‫نز‬
‫الزيتو� ويعوف الزناد‬
‫ي‬ ‫وي�ع‬
‫القرغول‬
‫ي‬ ‫الشاعر عمر‬

‫‪13‬‬
‫البداوة‪:‬‬
‫البداوة كمفهوم اخذ حيزا واســعا مــن كتابات عيل الوردي وقبله‬
‫ابن خلدون لكونه عامل أســايس يف تكــون الدول وديمومتها ومن ثم‬
‫فنائها بســبب رصاع البداوة واحلضارة‪ .‬أفرد الدكتور عيل الوردي يف‬
‫كتابه دراســة يف طبيعة املجتمع العراقي فص ً‬
‫ال كامال لتعريف البداوة‪،‬‬
‫ولكنــه باحلقيقة مل يقدم تعريف واضح ملصطلــح البداوة‪ ،‬ولكن قدم‬
‫ســات للبداوة وهي العصبية والغزو واملروءة‪ .‬هذه الســات يمكن‬
‫أمجاهلا بكلمــة واحدة وهي «التغالب» من اجل الســيطرة والتحكم‪.‬‬
‫يقرتح الدكتور الوردي ان هذه السامت الثالث تصب يف بناء شخصية‬
‫متعالية معتزة بنفسها‪ ،‬ال تلتزم بأي نظام سوى نظام اجلامعة التي تنتمي‬
‫هلا‪ .‬بني الوردي بكل صدق وشــفافية انه مل يوفق يف اجياد حل حاســم‬
‫لطبيعــة الثقافة البدوية وانــه ينتقل بني اآلراء مرة بعــد مرة(((‪ .‬عرف‬
‫الوردي سامت البداوة كام ييل‪:‬‬

‫الع�صبية‪:‬‬
‫العصبيــة متمثلــة بالقبليــة (رابطة النســب) تعترب الســمة‬
‫االساسية للبداوة الوردية واخللدونية‪ .‬العصبية القبلية (االعتداد‬
‫باألنســاب) دعوة تقوم عىل تنارص جمموعة ضد جمموعة اخر يف‬
‫حالة النزاع واخلصام‪ .‬ال هيدف التنارص القبيل املبني عىل العصبية‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقــي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 55‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫‪15‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫اقرار احلق أو انصاف املظلوم‪ ،‬بل يســتهدف نرصة املتعصب له‬


‫ســواء كان ظاملا او مظلوما(((‪ .‬يؤكد الدكتور حممد عابد اجلابري‬
‫أن القرابة واملالزمة رشطان رضوريــان لوجود العصبية القبلية‬
‫التي هي رابطة اجتامعية‪-‬ســيكولوجية تربز وتشتد عندما يكون‬
‫هناك خطر هيدد أحد افراد الرابطة او الرابطة ككل‪.‬‬
‫أســتخدم ابن خلدون العصبية القبلية لتفسري انتصار معاوية‬
‫عىل االمــام عيل وابنه يزيد عىل االمام احلســن يف معركة الطف‬
‫حيــث يقرر أبن خلدون ان عصبية بنو أمية كانت هي االقوى يف‬
‫قريش وبالنتيجة انتصارمهــا كان حتصيل حاصل((((((‪ .‬اذن نحن‬
‫امام ســمة مدمرة قاتلة جيب االنتباه هلا وتقنينها واســتخدامها‬
‫بشكل صحيح وهذا ما حياول هذا الكتاب تقديمه‪.‬‬
‫ال خيفــى عىل القارئ الفطن ان االســام اســتبدل العصبية‬
‫القبليــة اجلاهلية بالعصبيــة الدينية (الوازع الديني) فاإلســام‬
‫رفع منزلة ســلامن الفاريس وبالل احلبــي واحط منزلة ابا هلب‬
‫وابا جهل بالرغم من قرابتهم من رســول االســام‪ .‬يعتقد ابن‬

‫((( حممــد عابد اجلابري – العصبيــة والدولة – معامل النظريــة اخللدونية يف التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية ص ‪166‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪197‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪208‬‬

‫‪16‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫خلــدون ان العصبيــة الدينية قد ضعفت وحــل حملها العصبية‬


‫القبلية (القريشــية) عىل أيام معاوية ((( ألن الناس نسيت خوارق‬
‫الوحي(((‪ .‬وهنا اقــرب ابن خلدون من احلقيقة‪ ،‬ولكنه مل يصبها‬
‫فأن العصبية مل تكن عصبية قبلية فقط وانام عصبية مال ودنيا ايضا‬
‫حيث اجتمع يف جيش يزيد الكثري ممن ليســوا من قريش وال من‬
‫بني أميــة‪ .‬فالعصبية عصبية ملك ومال‪ .‬يقول الوردي ان الناس‬
‫مالوا ملعاوية لينعموا بام لديه من طبيخ وترف ((( يف داللة الواضحة‬
‫ان الناس اجتمعت حول معاوية ألسباب تتجاوز االنتامء القبيل‪.‬‬

‫العصبية اليــوم تتجاوز حدود القبيلة والنســب‪ ،‬اليوم لدينا‬


‫عصبية الطائفة وعصبيــة القومية وحتى عصبيــة عدم االنتامء‪.‬‬
‫حيث قدمت لنا األيام رشوحا وافية عــن العصبية التي ال تقوم‬
‫عىل رابطة النسب وانام التشابه األيديولوجي والقومي‪ .‬العصبية‬
‫اليوم نجدهــا بني الفرد واملجموعة عىل اســاس الفكر (يا عامل‬
‫العامل احتدوا) أو الدين (أنام املؤمنون اخوة) او القبيلة او املذهب‬
‫او حتى الالدينيــة‪ .‬النزعة الطائفية يف العراق مثال بني الشــيعة‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪202‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪208‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪60‬‬

‫‪17‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫والسنة هي عصبية بدوية(((‪.‬‬


‫لذا يمكننا ان نســتنتج ان أحد ســات البداوة هي العصبية‬
‫املتواجــدة بني العراقيني اليوم عىل شــكل تكتــات مذهبية او‬
‫قومية بالرغم من ان ال عالقة جتمعهــا بالبدو والصحراء‪ .‬الفرد‬
‫املتعصب يذوب يف اجلامعة عندما تتعرض خلطر ما‪ ،‬كام أن اجلامعة‬
‫نفسها تتقمص الفرد عندما يصاب بأذى او يلحقه مكروه‪ .‬الفرد‬
‫املتعصب ال يتمتع بشخصية مستقلة داخل اجلامعة فشخصيته ال‬
‫حيددها هو وانام اىل أي مجاعة ينتمي‪.‬‬
‫العصبيــة قد تكون اجيابية او ســلبية حســب املتعصب أليه‪.‬‬
‫يــرى الدكتور عــي رشيعتــي ان التعصب يعترب أكــر وارفع‬
‫اخلصائص اإلنسانية التي متييز االنســان عن احليوان(((‪ .‬فالناس‬
‫مجيعا متعصبون ليشء ما وطبعا هناك فرق بني التعصب اإلجيايب‬
‫والتعصب السلبي‪ .‬التعصب السلبي واالجيايب هنا يقاس بام خيدم‬
‫الناس ويضمن السلم األهيل‪.‬‬
‫العصبيــة قد جتمــع الناس عىل أســس بعيدة عــن العدالة‬
‫والقضاء حيث تعتقد كل مجاعة اهنا عىل حق ولســان حاهلا يقول‬
‫احلق بالســيف والعاجز يبحث عن شهود‪ .‬العصبية قد تستخدم‬
‫كأداة لظلــم واضطهاد االخرين‪ ،‬ولكنهــا أيض ًا قد جتمعهم عىل‬

‫((( عيل الوردي – منطق ابن خلدون – الوراق للنرش –الطبعة الثالثة ‪ 2013‬ص ‪311‬‬

‫((( عيل رشيعتي – األمة واالمامة – دار األمري ص ‪ 74‬طبعة ‪2006‬‬

‫‪18‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫معايري وقيم ســامية‪ .‬البد مــن االنتباه اىل ان القيم الســامية قد‬
‫تستغل خلداع اجلامهري وجتيشيهم لتحقيق اهداف دنيئة ومصالح‬
‫شخصية‪ .‬أمل تســتغل القضية الفلسطينية أبشع استغالل من قبل‬
‫األنظمة الدكتاتورية مدعية العروبة واإلسالم؟‬

‫الغزو‪:‬‬
‫الغزو هو الســمة الثانية من ســات البــداوة وهو مظهر من‬
‫مظاهر الشجاعة والقوة التي يتم اظهارها من خالل التفوق عىل‬
‫االخرين يف القتال عندما تغزو مجاعــة اخرى‪ .‬فالبدوي مضطر‬
‫للغزو ألظهار قوته وبخالفه سيكون حمتقرا ذليال ال عون له وال‬
‫مكانة‪ ،‬وكذلك يتم غزوه بســهولة‪ .‬اذن مظاهر القوة والشجاعة‬
‫التي تتجسد يف الغزو هي وسيلة رضورية للنجاح والبقاء يف ظل‬
‫انعدام سلطة الدولة والقانون‪ .‬الدولة بمعنى السلطات التنفيذية‬
‫التي تنظم احلياة اليومية والقانون بمعنى األنظمة التي تســتخدم‬
‫من قبل السلطة التنفيذية لتنظيم احلياة اليومية‪ .‬يف وقتنا احلارض‪،‬‬
‫أصبح للغزو اشــكال جديدة مثل احلرب األهلية التي شــهدها‬
‫العراق بعد تفجري سامراء واألنفال واملقابر اجلامعية يف اجلنوب‪،‬‬
‫حيث هتاجــم جماميع من النــاس جماميع أخرى هبــدف أذالهلا‬
‫والســيطرة عليها‪ .‬طبعا جيــب فهم ان احلق نســبي يف مثل هذه‬
‫احلــاالت الن كل مجاعة تعتقد اهنا عىل حــق لذا مازال البعثيون‬
‫حينون اىل صدامهم بالرغم من جرائمه وهو مشــابه ملا شــاهده‬
‫الــوردي من حب طبقة اجلندرمة يف العــراق للعهد العثامين عىل‬

‫‪19‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الرغم من خبثه ودناءته((( وهكذا فهذه اجلامعات تقوم عىل احلب‬


‫بدل العقل وكل ما لدهيم فرحون‪.‬‬

‫يذهب الدكتور الوردي انه هذه الســمة تؤدي بالنتيجة اىل أن‬
‫حيتقر البدوي املهــن فهو يعيش عىل الغزو‪ .‬من اجلدير بالذكر ان‬
‫أبن خلدون مل يذهب اىل ما ذهب أليه عىل الوردي من أن البدوي‬
‫غالبا ما حيتقر املهنة‪ .‬حيث بني ابن خلدون ان البداوة مهنة ايضا»‬
‫ولكنهــا بالتأكيد ختتلف عن مهنة املتحــر او احلرضي‪ .‬حيث‬
‫يعرف أبن خلدون يف مقدمته الشهرية البداوة كام ييل(((‪:‬‬

‫«أعلم ان اختالف األجيال يف أحواهلم أنام باختالف نحلتهم‬


‫من املعاش فأن اجتامعهم أنام هو للتعاون عىل حتصيله واالبتداء بام‬
‫هو رضوري منه وبسيط قبل احلاجي والكاميل‪ ،‬فمنهم من يستعمل‬
‫الفلح من الغراســة والزراعة ومنهم من ينتحل عىل احليوان من‬
‫الغنم والبقر واملعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضالهتا‪،‬‬
‫وهؤالء القائمون عىل الفلح واحليوان تدعوهم الرضورة وال بد‬
‫اىل البدو ألنه متســع ملا له احلوارض من املزارع والفدن واملسارح‬
‫للحيوان وغري ذلك‪ ،‬فكان اختصاص هؤالء بالبدو رضوري ًا»‪.‬‬

‫((( عيل الوردي – خوارق الالشــعور أو ارسار الشخصية الناجحة ‪ -‬الوراق للنرش‬
‫ص ‪ 57‬طبعة ‪2013‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪121‬‬

‫‪20‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫باحلقيقــة ينقل الدكتور الوردي عن وليــم ويلكوكس وهو‬


‫املهندس الذي أرشف عىل بناء سدة اهلندية ما ييل(((‪:‬‬
‫«حني كان فيضان الفرات بالغا اقىص حدوده‪ ،‬كان ويلكوكس‬
‫يتجول عىل الضفة اليرسى منه‪ ،‬متجها نحو الشامل بني الرمادي‬
‫وهيت‪ .‬فرأي أكثر من مخســن قطيعا من الغنم تســر يف الوادي‬
‫خارجة من املنطقة الصحراوية‪ .‬وكان ظهور هذه القطعان سبب ًا يف‬
‫ألقاء الرعب والفزع يف نفوس الزارع‪ .‬وعند رجوع ويلكوكس يف‬
‫اليوم التايل ســالكا طريق النهر بسفينة‪ ،‬سمع صوت رصاصتني‪،‬‬
‫وشــاهد من بعيد عدد كبري من الفرسان واملشاة هيرعون اىل حمل‬
‫احلادث‪ ،‬بعضهم حيمل املســاحي والبعض االخر حيمل البنادق‬
‫ملقاومة أولئك الرعاة البدو أو لدفع خطر الفيضان»‪.‬‬
‫النص أعاله يبني ببساطة ان للبدو مهنة كام اشار ابن خلدون‬
‫وهــي بطبيعتها ختتلف عن مهنة الــزارع وتعارض ما ذهب أليه‬
‫الوردي من أن البدو حيتقرون املهن كل االحتقار وكل ما هيمهم‬
‫هو الســطو املســلح عىل االخرين‪ ،‬طبعا هــذا ال ينفي ان البدو‬
‫اشــتهروا بالغزو عىل املدن املحاذية ملناطق تواجدهم كوســيلة‬
‫للبقاء‪.‬‬
‫الغزو اليوم يمكن تعريفه بمحاولة ســيطرة مجاعة سياسية‪،‬‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقــي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 44‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫‪21‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫او عســكرية‪ ،‬او دينية‪ ،‬او ايدولوجية‪ ،‬عــى مقاليد احلكم أو‬
‫الســلطة يف منطقة معينة كرضورة الستمرارها ومحاية مصالح‬
‫افرادها‪ .‬بالنتيجة يمكن القول ان الدول التي تعاين من سيطرة‬
‫مجاعة بقوة الســاح والغلبة عىل السلطة او مواردها باهنا دول‬
‫تتميز بالبداوة يف الطباع وواقعــة حتت غزو داخيل الذي قد ال‬
‫خيتلف كثريا عن الغــزو اخلارجي‪ .‬ال خيفى عىل القارئ الفطن‬
‫ان العصبية هي ســبب كل شجاعة وكل اقدام بغض النظر عن‬
‫احلسن والقبح فلوال التعصب لفهم معني ملا فجر االنتحاريون‬
‫أنفســهم ولوال التعصب للمبادئ ملا قاتل املبدئيون يف ســبيل‬
‫مبادئهم‪ .‬لــذا أجد ان العصبية والبداوة وجهان لعملة واحدة‪،‬‬
‫فالعصبية هي املســؤولة عن ســمة الغزو وبالتايل هي املحرك‬
‫األسايس للرصاع بني البداوة واحلضارة‪ .‬فالبداوة هي العصبية‬
‫والعصبية هي البداوة‪.‬‬

‫املروءة‪:‬‬
‫املروءة تتمثل يف اآلداب احلســنة واألخالق العالية ويضيف‬
‫عليهــا ابن خلدون حب اخلري‪ .‬يقرر الدكتور الوردي ان البدوي‬
‫جيب ان يكــون ذا مروءة صارخة حيث جيــب ان يربهن للناس‬
‫بانه قوي غالب يف احلرب والســلم مع ًا‪ .‬يف السلم جيب ان حيمي‬
‫ويغيــث كل من يلجأ اليه‪ ،‬ســواء أكان ضيفا‪ ،‬او حمتاجا او جارا‬
‫او رفيقا ورضب لنا حاتم الطائي مثال‪ .‬هذه الســمة يتم تداوهلا‬

‫‪22‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫كثريا يف العراق لإلشــارة لكرم او حتى شجاعة مدينة او عشرية‬


‫يف العــراق‪ ،‬ولكن من يتداوهلا غالبا حياول ان ال يذكر الســات‬
‫االخرى التي متتاز هبا تلك املدينة او العشرية من العصبية وتغنيها‬
‫بشجاعتها يف اوقات احلروب‪ .‬باحلقيقة ان هذه السمة عىل مجاهلا‬
‫فأهنا قد تدل عىل بداوة من يقــوم هبا ان محل بقية الصفات وهي‬
‫العصبية السلبية والغزو عند احلاجة‪ .‬بالنتيجة اجتامع هذه السمة‬
‫عىل امهيتها مع ســات العصبية والغزو ما هــي أال مؤرشا عىل‬
‫بداوة تلك العشــرة او املدينة‪ .‬عىل أنني أجد ان هذه السمة هي‬
‫سمة انسانية راقية وليست سمة حرصية للبداوة‪.‬‬

‫اعتقد ان العصبية هي العمــود الفقري للبداوة الوردية وهي‬


‫كام يعتقد الوردي رصاع دائم مع احلضــارة فهي‪ ،‬اي احلضارة‪،‬‬
‫مصدر رزقها والسيطرة عليها حلم اجلامعات البدوية الدائم‪ .‬عىل‬
‫هذا األســاس تعترب العصبية هي العامل األول يف تأسيس دول‬
‫وفنــاء أخرى‪ .‬فالدول االموية والعباســية وغريها مل تظهر حتى‬
‫اسقطت الدولة التي سبقتها بدافع عصبي اقوى من دافع الدولة‬
‫اخلــارسة‪ .‬العصبية يف الــدول اخلارسة غالبا مــا تضعف نتيجة‬
‫المتهان أهلها املهن واعتامدهم عىل القانون والرشطة فتقل فيهم‬
‫الشجاعة‪ .‬باملحصلة تفقد املناطق احلرضية سمتان اساسيتان من‬
‫سامت البداوة وهي العصبية والشجاعة العتامدها عىل قوة الدولة‬
‫وسلطاهنا بدل من قوة العصبية‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يشري الدكتور حممد عابد اجلابري اىل غياب فكرة الرصاع بني‬
‫البداوة واحلضارة يف مقدمة ابن خلدون حيث بني ان الدولة هي‬
‫املحور االســايس الذي تدور عليه ابحاث أبن خلدون ونظرياته‬
‫وليس الرصاع بني البدو واحلــر(((‪ .‬باحلقيقة هذا ادعاء تنقصه‬
‫الصحة فالرصاع واضــح وان مل يكن من االمور التي ركز عليها‬
‫ابن خلدون ولواله ملا بزرت دول وأفلت اخرى‪.‬‬

‫من�ش�أ الع�صبية‪:‬‬
‫العصبية هي العمود الفقري للبداوة كام اسلفنا‪ ،‬لذا من الرضوري‬
‫التعرف عىل أسباب نشؤها‪ .‬ينسب الوردي سامت البداوة اىل أمرين‬
‫مها (‪ )1‬وضع الدولة حيث يبني ان القيم البدوية تستفحل وتتقلص‬
‫تبعا لوضع الدولة من حيث ضعفها وقوهتا(((‪ ،‬و(‪ )2‬الصحراء حيث‬
‫يقول إن البداوة يف الواقع نظام اجتامعي ال ينشأ اال يف صحراء وهو‬
‫ال يتطور ما دام باقيــا فيها(((‪ .‬الوردي يقــرر ان الصحراء والبداوة‬
‫امران مرتادفــان بالرغم من انه يقرر الحقــ ًا ان الصحراء العربية مل‬

‫((( حممــد عابد اجلابري – العصبيــة والدولة – معامل النظريــة اخللدونية يف التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية ص ‪120‬‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقــي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 29‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقــي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 33‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫‪24‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫تكن منعزلة عن العامل املتحرض(((‪.‬‬

‫يبدو يل أن البداوة التي يقدمها الدكتور الوردي ويناقشها كثريا يف‬


‫كتبه مرتبطة ارتباط وثيق بوضع الدولة ال بالصحراء‪ .‬حيث ال يمكن‬
‫اجلمع بني األصلني اللــذان يقرتحهام الوردي ومها ضعف احلكومة‬
‫والصحراء‪ .‬مثال ماذا ســيحدث ان ضعفت احلكومة يف مدينة بعيدة‬
‫كل البعد عن الصحراء؟ هل ســتطفو العصبية والغزو ام ال؟ الواقع‬
‫خيربنــا ان العصبية والغزو (الفرهود) تظهر يف اي مكان تضعف فيه‬
‫الدولة ولو كان يف الصني‪ .‬كلنا رأينا وســمعنا عن عمليات ســلب‬
‫وهنب (غــزو) يف امريكا بعد كوارث طبيعيــة كاألعاصري وكذلك‬
‫بعد ان تعصف مشــاكل سياســية بمدينة ما‪ .‬لذا يمكن االســتنتاج‬
‫أن االصل يف البداوة هو وضع الدولــة‪ ،‬وليس القرب أو البعد من‬
‫الصحراء‪ .‬ينقل امحد سوســة يف كتابه فيضانات بغداد يف التاريخ ما‬
‫ييل(((‪:‬‬

‫«عىل أثر وفاة اإلســكندر خيمت عىل البالد ســحابة من‬


‫االضطراب السيايس كانت سبب حرمان البالد من االستقرار‬
‫الداخيل الذي يعد العامل االســايس يف ازدهار انظمة الري‪،‬‬
‫وساد بنتيجة ذلك النظام العشائري يف البالد‪ ،‬وقد استمر هذا‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقــي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 68‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫((( أمحد سوسة – فيضانات بغداد يف التاريخ‪ -‬ص ‪204‬‬

‫‪25‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫احلال حتى جاء الدور الساســاين الذي امتاز عن غريه بام متتع‬
‫به من استقرار سيايس‪ ،‬اذ قامت عىل أنقاض النظام العشائري‬
‫ســلطة موحدة وضعت الركن املتني لنهضة عمرانية جديدة‬
‫شملت طول البالد وعرضها‪.»..‬‬
‫ما هيمني من هذا النص هو انــه عندما ضعفت احلكومة وغاب‬
‫االســتقرار الســيايس ســاد النظام العشــائري والعكس صحيح‪.‬‬
‫األنظمة العشائرية هي أنظمة عصبية من حيث انتظام الناس يف فئات‬
‫صغريه تتاميز عن بعضها‪ .‬اذن البــداوة الوردية والتي هي يف رصاع‬
‫دائم مع احلضارة (سلطة الدولة والقانون) مرتبطة ارتباط وثيق بقوة‬
‫الدولة وليس بالصحراء‪ .‬مث ً‬
‫ال نفســه الوردي يقرر ان النزاع احلزيب‬
‫الذي حدث بالعراق أثر انقالب عبد الكريم قاســم برزت فيه سمة‬
‫العصبية املحلية والطائفية(((‪ .‬وكذلك الوردي نفسه يقرر انه يف العهد‬
‫العثامين كانت احلكومة املركزية يف العراق ضعيفة مما أدى اىل شــيوع‬
‫قيم العشــرة يف ســبيل محاية األرواح وضبط األمن((( مما يؤكد ان‬
‫العصبية مرتبطة بوضع الدولة‬
‫بعد حرب الكويت والضعف الكبري الذي عانته حكومة البعث‬
‫الصدامية‪ ،‬استند صدام وحزبه عىل العشائر حيث عمل عىل تقويتها‬
‫من اجل تدعيم حكومته‪ .‬تقوية النظام العشــائري يف العقد االخري‬

‫((( عيل الوردي – منطق ابن خلدون – الوراق للنرش –الطبعة الثالثة ‪ 2013‬ص ‪311‬‬

‫((( عيل الوردي – شخصية الفرد العراقي – الوراق للنرش –الطبعة الثانية ‪ 2009‬ص ‪55‬‬

‫‪26‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫من زمن صــدام كان رضورة أكثر منه خيار إلنه فقد الســيطرة عىل‬
‫الكثري مناطق الشامل واجلنوب وضعفت قوته لذا اعتمد عىل العشائر‬
‫ليعوض الضعــف احلاصل بــا ان ازدياد نفوذهــا وقوهتا حتصيل‬
‫حاصــل نتيجة لضعف الدولة‪ .‬أعتقد الدكتــور فالح عبد اجلبار أن‬
‫النظــام البعثي خلق فراغ ًا يف املجتمع العراقــي عندما دمر منظامت‬
‫املجتمع املدين وجعلها حتت سيطرته‪ ،‬حيث عمل الحق ًا خالل فرتة‬
‫احلصار االقتصادي عىل ملئ هذا الفراغ بالعشائر((( التي استخدمها‬
‫لبسط سلطته ونفوذه‪ .‬هذا التفسري قد ال يتناسب مع واقع أن صعود‬
‫العشــائر يف العراق كان بســبب تدمري االلة العسكرية الصدامية يف‬
‫حرب اخلليــج وضعف حكومة البعث‪ .‬فالنظــام الصدامي البعثي‬
‫صعــد املوجة مرغام ال خمــرا يف تلكم الفرتة عندمــا حتول املجتمع‬
‫العراقــي اىل جمتمع أكثر بــداوة نتيجة ألداره صــدام والبعث التي‬
‫اضعفــت العراق وبالتــايل ابرزت العصبيات املختلفة‪ .‬عىل ســبيل‬
‫املثال‪ ،‬احلملة االيامنية مل يكن صدام خمريا فيها وانام أجرب عليها لزيادة‬
‫العصبية حول حكومته عن طريق اللعب عىل املشــاعر الدينية نتيجة‬
‫لضعف العصبية القومية‪.‬‬

‫بعد ســقوط النظام صدامي ذو القبضــة احلديدة ظهرت العديد‬


‫من التشكيالت العشائرية والطائفية والقومية والدينية التي حاولت‬

‫‪(1) Faleh Jabar (2003), Iraq’s Tribes may Stand in the Way of Peace,‬‬
‫‪Financial Times, London, UK‬‬

‫‪27‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الســيطرة عىل املوارد الطبيعية ومصادر الدخل وكل حسب طاقتها‬


‫كنتيجة طبيعية للبداوة املجتمع العراقي‪ .‬هذه البداوة ظهرت بشكل‬
‫جيل نتيجة لضعف احلكومات املشــكلة بعد الســقوط عىل شــكل‬
‫تشــكيالت غري حكومية ذات نفوذ وتســعى اىل السيطرة عرب القوة‬
‫وتوزيع االموال التي ســلبتها لغرض كســب التأييد الشعبي‪ .‬هذه‬
‫التشــكيالت اختذت صورا عشــائرية ودينية وقومية وحزبية‪ ،‬الخ‪.‬‬
‫من الواضح ان هذه اجلامعات عىل اختالف هويتها جتمعها عصبية‪،‬‬
‫عصبية الدين‪ ،‬او املذهب‪ ،‬او القومية‪ ،‬او العشرية او الالدينية وتتميز‬
‫بسعيها املستمر لســيطرة عىل املوارد الطبيعية كالنفط والغري طبيعية‬
‫كاملعابر احلدودية او الوزرات وهــو ما يمكن اعتباره نوع من انواع‬
‫الغزو‪.‬‬
‫هذه اجلامعــات ايض ًا تتميــز باملرؤة حيث اهنــا تعمل من اجل‬
‫مصلحة الوســط الذي تنتمي اليه وخصوصا االفراد الذين ينتمون‬
‫أليها‪ .‬تشــر شــري برمان وهي برفســور علوم سياسية يف جامعة‬
‫كولومبيا اىل حقيق ًة ان فشــل الدولة يؤدي اىل ظهور مجاعات لتمال‬
‫الفراغ وخصوصا الفراغ االجتامعي‪ .‬هذه اجلامعات بالطبع لن تظهر‬
‫من الفراغ وانام ال بد هلا من عصبية جتمعها‪.‬‬
‫باملخترص‪ ،‬مجيع ســات البــداوة التي اقرتحهــا الدكتور عيل‬
‫الوردي تنطبق عىل اجلامعات املتعصبــة العراقية التي ظهرت بعد‬
‫‪ 2003‬والتي مل تنشــأ بالصحراء‪ ،‬ولكن يف مدن العراق‪ .‬أذن نحن‬

‫‪28‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫أمام عصبية خمتلفة عن عصبية النســب التــي ذكرها أبن خلدون‬


‫وعصبية الصحراء التي ناقشها الدكتور الوردي‪ .‬نحن امام عصبية‬
‫القيــم‪ ،‬واألفكار‪ ،‬واخلوف‪ .‬تغيري وازع العصبيات اليوم عن زمن‬
‫ابن خلدون قد يكون ســببه النمو الســكاين الكبري الذي أضعف‬
‫عصبية النسب‪.‬‬

‫ملاذا تنتمي اجلماهري للجماعات املتع�صبة‪:‬‬


‫اجتــاع الناس امــر رضوري كام أكــد أبن خلــدون بقوله «أن‬
‫االدميني بالطبيعة االنسانية حيتاجون يف كل اجتامع اىل وازع وحاكم‬
‫يــزع بعضهم عن بعض فال بد ان يكون متغلب ًا عليهم بتلك العصبية‬
‫وأال لن تتم قدرتــه عىل ذلك» (((‪ .‬أما الدكتــور عبد اجلليل الطاهر‬
‫فيقول «من اخلرافة أن نتصور جمتمع من دون سيطرة وقدسية لبعض‬
‫املوضوعات‪ ،‬ومــن اخلطل أن يدور يف أخيلتنا الوهم القائل بأمكان‬
‫تأسيس جمتمع قائم عىل العقل والتبرص فقط‪ .‬أن قيام أي مجاعة‪ ،‬مهام‬
‫كان حجمها‪ ،‬ومهــا كانت درجتها من التطور‪ ،‬يتطلب جمموعة من‬
‫القيم واملقاييس واالوهام التي توجه سلوك الناس وأساليب عملهم‬
‫وتفكريهم» (((‪.‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪138‬‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪176‬‬

‫‪29‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫علــا أن االنتامء هلذه اجلامعــات قد ال يكون عــن قناعة وانام‬


‫ملصلحة شخصية وهذا ما أشــار أليه الدكتور عبد اجلليل الطاهر‬
‫بقولــه «وجد بعض من االفــراد يف التحيز لصنم اجتامعي ســببا‬
‫يضمن وصوهلم اىل املراكز التي يتمنون الوصول أليها‪ ،‬ويسهل هلم‬
‫الظروف املادية‪ ،‬فجعلوا من الصنم رمزا حلياهتم ودعوا للزيادة من‬
‫سلطته وقدسيته»(((‪.‬‬

‫يتمكن الصنم االجتامعي وهو رئيس اجلامعة أو اجلامعة نفســها‬


‫من توفري هذه االمور ألفراد اجلامعة ببســاطه يف حالة غياب الدولة‬
‫القــادرة عىل توفري فرص العمل واالبداع بشــكل عــادل قائم عىل‬
‫الكفاءة واخلربة‪ .‬تعــرف العراقيون عىل عدد ال بأس به من االصنام‬
‫االجتامعية الدينية والقومية وحتى مدعية املدنية بعد ســقوط الصنم‬
‫األكرب عام ‪ .2003‬أمل يقل الشــاعر احليل موفق حممد «البد من صنم‬
‫لكي نموت دونه ونسبق األمم»‪ .‬عىل أن بروز عدة أصنام هو أفضل‬
‫من صنم أكرب واحد مسيطر بكل االحوال‪.‬‬

‫يؤكــد الدكتور الطاهر ان هذه االصنام (العصبيات) ال يمكن‬


‫ان تتكــون عن طريق حرية الرأي والتعبري واملناقشــة والنقد وأنام‬
‫تتكون باستعامل القوة والزجر والتزكية والدعاية فحني تستجيب‬
‫اجلامهري للصنم فأهنا تنقاد بالالشعور‪ .‬هذه االصنام (العصبيات)‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪12‬‬

‫‪30‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫يتــم تلميعها ورفع مقامهــا واعطائها الكثري من االســاء لتلفت‬


‫االنتباه مثل خمتــار العرص وحامي املذهب ووارث الصدريني وال‬
‫الربزاين وبطل النرص والســام وغريها من االلقاب التي منحت‬
‫ألصنام العراق حتى حتول بعضها اىل أله يف عيون اتباعه‪ .‬ال يمكن‬
‫اغفال أمهية هـــذه االصنام يف محاية الناس يف حالة انعدام الدولة‬
‫والقانون حيث تصبح هذه العصبية رضورية حلامية مصالح االفراد‬
‫املســتفيدة من الصنم فهي خط دفاعي حيمي مصاحلهم ويوفر هلم‬
‫ما حيتاجونه مــن الوظائف واملراكز واملوارد(((‪ .‬باحلقيقة أن ارتباط‬
‫ظهور هذه اجلامعات باختفاء او ضعــف الدولة جيعلنا امام نقطة‬
‫مهمة لفهم األســباب املوجبة لظهور هذه اجلامعات حيث اهنا يف‬
‫حقيقتها حماولة لنجاة واالستمرارية يف ظل انعدام دولة قوية حتافظ‬
‫عــى حقوق وامال االفــراد املنتمني هلا‪ .‬بالنتيجــة ال يمكن توقع‬
‫انحالل او موت هذه اجلامعات بــدون وجود دولة حتوي وحترتم‬
‫أفرادها وتفرض القانون‪.‬‬

‫من املهم جد ًا إدراك ان هذه اجلامعات عىل اختالف طبيعة تعصبها‬


‫عندما يتسع نفوذها سيكون لدهيا هدف أوحد أال وهو عدم قيام دولة‬
‫الن قيام دولة قوية ينفي احلاجة هلا فأما متوت بشكل طبيعي او رغم‬
‫انفها‪ .‬عىل صعيد األخر‪ ،‬عندمــا تدرك هذه اجلامعات أهنا ال يمكن‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪30‬‬

‫‪31‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ان تســتمر بوجود دولة قوية فأهنا قد تســعى اىل السيطرة عىل زمام‬
‫احلكم وتصبــح هي الدولة بحجج خمتلفــة‪ .‬اذن الدول أيض ًا قائمة‬
‫عىل العصبية وتزول بضعف عصبيتها وبروز عصبية جديدة وهو ما‬
‫ذهب أليه ابن خلدون (عصبية النسب) او ما نشاهده اليوم من دول‬
‫قائمة عىل عصبيات جديدة غري النسب كالقومية والدين‪ .‬اجلامعات‬
‫العصبية عامل أســايس يف جتزئــة الدولة اىل دويــات وكذلك قد‬
‫تعمل عىل بناء دولة دكتاتورية تسحق كل اجلامعات االخرى بالقوة‬
‫من اجل حتقيق اهدافهــا التي تكون صاحلة ظاهريــ ًا (وحدة حرية‬
‫اشــراكية‪ ،‬حماربة الفســاد‪ ،‬اإلصالح‪ ،‬الخ) ولكن جتارب التاريخ‬
‫تعلمنا ان حكومة احلزب الواحد أو اجلامعة الواحدة مصريها املزيد‬
‫من اخلراب والدمار‪.‬‬

‫يتكلم غوســتاف لوبون يف كتابه أالشرتاكية عن أن االشرتاكيني‬


‫يتومهون بأن القضاء عىل احلكومات واألنظمة الرجعية واســتبداهلا‬
‫بالقوانني والدســاتري يضمن العدالــة واملســاواة (عصبية صاحلة‬
‫ظاهري ًا) وهـــذا ال يتــم اال عن طريق الثورات أو العنف الشــعبي‬
‫وذلك يتعــارض مع علم االجتامع احلديــث (((‪ .‬ما هيمني من كالم‬
‫غوستاف لوبون هو أن جمموعة من البرش اجتمعوا حول جمموعة من‬
‫القيم (عصبية االشرتاكية) ال ســبيل هلم لتحقيقها أو تطبيقها سوى‬

‫((( غوستاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) ‪ -‬دار الرافدين – الطبعة‬
‫األوىل‪ 2009 -‬ص ‪39‬‬

‫‪32‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫تغيري نظام احلكم‪ .‬مثل هذه املجاميع ممكن ان تنجح يف الوصول اىل‬
‫ما تســعى أليه يف الدول الضعيفة وهو السيطرة عىل احلكم ومن ثم‬
‫تعمل عىل تطبيق اجندهتا‪ .‬أحالمهم باالشرتاكية واملساواة ال يمكن‬
‫بناؤها يف جمتمع ال يقوده االشــراكيون بقوة الســاح وبالتايل ال بد‬
‫من وصوهلم اىل سدة احلكم وبخالفه تبقى هذه املجاميع مضطربة ال‬
‫ســبيل هلا غري الكالم النظري واملبادئ العامة‪ .‬لكن بمجرد وصوهلا‬
‫للحكــم فأهنا تبني حكومــة دكتاتوريه تقيص كل مــن خيالفها وال‬
‫تعرتف أال بأتباعهــا وعصبيتها‪ .‬الفرق بني التنظــر والتطبيق فرق‬
‫شاسع‪ .‬لألسف معظم احلركات الثورية واإلصالحية ال متتلك أكثر‬
‫من الكالم وأكرب أهدافها هو السيطرة وبعدها اهلل كريم‪.‬‬

‫الع�صبية البدوية يف وقتنا احلا�ضر‪:‬‬


‫بناء عىل ما ســبق يمكن تعريف العصبية البدوية يف وقتنا احلارض‬
‫عىل أهنا نظــام اجتامعي ينتظم مــن خالله الناس مــن اجل حتقيق‬
‫مصاحلهم الشــخصية أو حلامية أنفســهم يف ظل انعــدام احلكومة‬
‫والقانون ويعتمد عــى العصبية الفئوية هبدف الســيطرة واحتكار‬
‫املوارد‪ .‬هذا النظــام االجتامعي قد يبنى عىل أســس قومية أو قبلية‬
‫او دينية أو اشــراكية أو ديمقراطية أو عىل أي جمموعة من األفكار‪،‬‬
‫فهو بخالف العصبية اخللدونية والوردية املبنية عىل النســب‪ .‬تظهر‬
‫العصبية البدوية عند غياب الدول املتحرضة ويمكنها ان تبني دولة‪،‬‬
‫ولكنها مؤقتة وغري مســتقرة‪ .‬البداوة ضمن هــذا التعريف مرتبطة‬

‫‪33‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بوضــع الدولة وال أصل صحــراوي هلا‪ .‬هبذا التعريــف ينقل هذا‬
‫الكتاب الــذي بني يديك العصبية اخللدونية والوردية اىل مســتوى‬
‫جديد بعيد ًا عن القبيلة والصحراء لتتناسب مع روح العرص ويكون‬
‫هلا دور حقيقي يف تثقيف الشــعوب بدل التنــاول والرسد التارخيي‬
‫اململ ألثار ابن خلدون وعيل الــوردي‪ .‬األمر املهم االخر انه بدون‬
‫حتديــث نظرية ابن خلدون والوردي عــن البداوة فلن يكون هلا أي‬
‫مستقبل بســبب حترض قبائل البدو‪ .‬أنا شــخصي ًا مل ار اي بدوي يف‬
‫حيــايت وكذلك معظم العراقيــن‪ .‬يقرر الدكتور جربائيل ســليامن‬
‫جبــور ان أكثر الــدول العربية قد أخذوا ييرسون الســبل لتحضري‬
‫القبائل البدوية يف أقطارهم ومنهم من جعل ذلك هدف ًا من االهداف‬
‫السياسية (((‪ .‬بالتايل اليوم معظم القبائل البدوية قد امتزجت يف احلياة‬
‫احلرضية ومل يبق من بداوهتا سوى الذكريات‪.‬‬

‫ع�صبية الدول‪:‬‬
‫كل الــدول من اقىص الشــال اىل اقىص اجلنــوب لدهيا عصبية‬
‫من نوع معني جيتمع الناس حوهلا خمــرون أو جمربون ضمن الرقعة‬
‫اجلغرافية التي جتمعهم‪.‬‬
‫● خمــرون إذا عكســت العصبيــة اجلامعة شــخصية اجلامهري‬
‫املستقلة واملتنوعة ثقافيا و اجتامعيا و دينيا و قوميا‪ .‬فالتعصب‬

‫((( جربائيل ســليامن جبور – البدو والبادية صور من حياة البدو يف بادية الشــام ص‬
‫‪ – 406‬دار العلم للماليني – الطبعة االوىل ‪1988‬‬

‫‪34‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫االختيــاري يمثــل االنتــاء اىل جمموعة حتــرم تاريخ الفرد‬


‫وافــكاره وارائه وان مل تكــن متفقه معه‪ .‬هــذه هي الطريقة‬
‫الوحيد ألن جيتمع افراد من خمتلف املشارب حتت علم واحد‬
‫بمحبة ورغبة وبدون اجبار‪ .‬العصبية اجلامعة تؤدي بالنتيجة‬
‫اىل استقرار الدولة وبالتايل يمكنها ان تستغني عن العصبيات‬
‫الفردية املتعارضة مع عصبية الدولة‪ .‬عىل أن هذه االســتغناء‬
‫ال يعني ختيل االفراد عن انتامئهم القومي والطائفي والفكري‬
‫والعشائري الن العصبية اجلامعة حترتم االختالف وال حتاول‬
‫طمسه‪.‬‬
‫● جمربون إذا فرضت العصبية اجلامعة عىل اجلامهري بقوة عسكرية‪،‬‬
‫او قبلية‪ ،‬او طائفية‪ ،‬او حزب قومي‪ ،‬أو حزب اشــراكي فرض‬
‫سيطرته عن طريق انقالب او حكم وراثي او ثورة افرزت حزبا‬
‫ال دمويــ ًا‪ ،‬أمل يأيت هتلر باالنتخــاب؟ األجبار قد يكون‬
‫او تكت ً‬
‫ايض ًا بســبب هتديد‪ ،‬حقيقي أو ومهي‪ ،‬جيرب اجلامهري عىل االحتاد‬
‫عىل اســاس قومي او طائفي او فكري لغرض مواجهة التهديد‬
‫املفــرض والذي يكون عــدوان خارجي او عــدوان داخيل‪.‬‬
‫العصبية االجبارية تفــرض عىل اجلميع فكر واحد وتعمل عىل‬
‫اســكات مجيع اآلراء واالفكار املعارضة بــا فيها التوجهات‬
‫الدينية والقومية وغريها مما يبقي اجلمر حتت الرماد بشكل دائم‪.‬‬
‫وهنا يربز ســؤال هل العصبيات التي تتعاقــب عىل دولة معينه‬

‫‪35‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يف حال رصاع مع بعضها البعــض أم يف حالة تطور؟ الدكتور حممد‬


‫عابد اجلابــري((( يميل اىل أن ابن خلدون كان يعتقد ان العصبية بعد‬
‫ســيطرهتا تتدرج وترتقي ومــن ثم تنهار وليســت يف حمل نزاع كام‬
‫يفهمها الدكتور الوردي‪.‬‬

‫باعتقادي ان العصبيات ال تتدرج وترتقي ومن ثم تنهار‪ ،‬ولكنها يف‬


‫حالة نزاع دائم ولكنه غري مربر وعقيم ألهنا مســتمرة ومتواجدة بشكل‬
‫دائم ضمن مراحلها الزمنية وان تم اســكاهتا وهتميشــها‪ .‬حاول صدام‬
‫اسكات الشــيعة واالكراد لعقود‪ ،‬ولكنه مل ينجح حيث بقيت العصبية‬
‫القومية واملذهبية حية ومتوقــدة بالرغم من القمع والبطش الصدامي‪.‬‬
‫فالقضية ليست تتدرج وارتقاء كام تصورها الدكتور حممد عابد اجلابري‬
‫فلوال النزاع بني العصبية األموية والعصبية العباســية ملا سقطت الدولة‬
‫األموية‪ .‬هذا النــزاع بني العصبتني االموية والعباســية مل يؤد اىل زوال‬
‫أحدمها وانام اســتمر كالمها بالتواجد ضمن امتدادهم التارخيي ولليوم‪.‬‬
‫لذا فهو نزاع عقيــم وغري مربر وعىل العصبيــات املختلفة ان تتعلم ان‬
‫تعيش مع بعضها البعض لبناء جمتمع صحي ومستدام‪.‬‬

‫ت�صنيف الدول ح�سب ع�صبيتها‪:‬‬


‫صنف الوردي الــدول العربية بناء عــى طبيعتها اجلغرافية من‬

‫((( حممــد عابد اجلابري – العصبيــة والدولة – معامل النظريــة اخللدونية يف التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية ص ‪120‬‬

‫‪36‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫حيث الصحراء واملناطق احلرضيــة ((( بناء عىل نظريته بأن الصحراء‬
‫أصل من أصول البداوة وهذا امــر ال نتفق به مع الدكتور الوردي‪.‬‬
‫يقرر الدكتور حممد عابد اجلابــري أن ابن خلدون مل حياول ان يفرس‬
‫الظواهر االجتامعية بالعوامل املناخية وهذا ما اجده أقرب للواقع (((‪.‬‬
‫لذا يمكن تصنيف الدول بناء عىل عصبية انظمتها ضمن الفهم الذي‬
‫قدمه هذا الكتاب الذي بني يديك اىل ثالثة أصناف‪:‬‬
‫● اوال‪ :‬دول ذات عصبية سلبية واحدة (الدول الدكتاتورية)‬
‫● ثانيا‪ :‬دول ذات عصبيات متعددة (الديمقراطية الناشئة)‬
‫● ثالثا‪ :‬دول ذات عصبية إجيابية (الدول الديمقراطية املؤسساتية)‬

‫دول ذات ع�صبية �سلبية واحدة (الدكتاتورية الرجعية)‪:‬‬


‫هي الدول التي تقوم عىل أســاس عصبيه واحدة أساســها‬
‫الدين‪ ،‬أو القومية‪ ،‬او العوائل احلاكمة‪ ،‬او املجالس العسكرية‬
‫وما يشــاهبها‪ .‬مثلام بينا ســابقا اصبحت اليوم عصبية النسب‬
‫اخللدونيــة ضعيفة وبالتــايل ال تصمد امام الزيادة الســكانية‬
‫واندماج القبائل ببعضها البعض‪ .‬لذا أصبح من الرضوري ان‬
‫تضيف الدول التــي تقودها العصبية القبلية صبغة حلكوماهتم‬
‫كالتحالف بني أل سعود وأل الشيخ يف اململكة العربية السعودية‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراسة يف طبيعة املجتمع العراقي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 34‬طبعة ‪2012‬‬

‫((( حممــد عابد اجلابري – العصبيــة والدولة – معامل النظريــة اخللدونية يف التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية ص ‪161‬‬

‫‪37‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫التي جعلت من ملك الســعودية خادم للحرمني واالســام‬


‫الوهايب مما يثبت عرشه‪ .‬وحتى العصبية الغري قائمة عىل النسب‬
‫او القبيلــة عندمــا تضعف يضاف هلا مقبــات اضافية‪ ،‬مثال‬
‫عندما فقد العراق بعــده القومي بعد العبث الصدامي املتمثل‬
‫بحرب الكويت‪ ،‬جاء صدام باحلملة االيامنية هبدف مجع قاعدة‬
‫مجاهريية كبرية عىل أســاس عصبية األســام السني‪ .‬احلملة‬
‫االيامنيــة اضافت البعد الديني بجانــب القومي العريب لتوفري‬
‫عصبية جيمع صدام حوهلــا مريده من اجلامهري التي تتناغم مع‬
‫هذه العصبيات‪ .‬بالتأكيد الشيعة واالكراد حوربوا نتيجة لذلك‬
‫واريد اســكاهتم مما أضعف صوهتم ولكم مل يقتلهم‪ .‬تضعف‬
‫العصبيات املختلفة عن هوى السلطان يف الدول ذات العصبية‬
‫السلبية الواحدة نتيجة لسيطرة مجاعة واحدة‪ ،‬ولكنها ال متوت‬
‫وانام تضل حارضة وبقوة حتت رماد الظلم والتسلط‪.‬‬

‫احلكومات يف هذه الدول يسريها صنم واحد (مجاعة واحدة)‬


‫تدور الناس حوله رهبة او رغبة‪ .‬هــذه الدول بصورة عامة هي‬
‫دول دكتاتوريه‪ ،‬ودور الشــعب فيها التصفيــق والتهليل‪ .‬هذه‬
‫الدول قد تسمح بمســاحة حمدودة من احلرية بام ال يتعارض مع‬
‫مصاحلها ومصالح استمراريتها‪ .‬وقد متنح بعض صنوف احلرية‬
‫لتلميــع صوره البلد امام املجتمع الدويل أو إلرضاء حليف قوي‬
‫مثل الواليات املتحدة‪ .‬مثال يرى فريد زكريا أن عىل الدول العربية‬

‫‪38‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫الدكتاتوريــة احلليفة للواليات املتحــدة ان تتوقف عن تتدريس‬


‫الفكر املتطرف وتصديره وكذلــك ان تبدأ بمنح بعض احلريات‬
‫وان تقنــن االعالم املعادي إلرسائيل وامريكا لتســتمر عالقتها‬
‫مع الواليات املتحدة فال جيوز ان يســتمر الدعم األمريكي هلذه‬
‫الدكتاتوريات باملجان(((‪.‬‬

‫تقــوم اجلامعة احلاكمة يف هــذه الدولة بمحاولــة اظهار اهنا‬


‫حامية الديــن أو القومية او حتى املدنية مــن االخطار اخلارجية‬
‫والداخلية فتصبح هذا اجلامعة خادمــة للمقدس وحامية للدين‬
‫واملذهب ومدافعه عن حقوق الشــعب القومية واملحاربة للقوى‬
‫الرجعيــة والظالمية‪ .‬بالتــايل كل من يعرتض عــى حكمها أو‬
‫يرفض الدوران حوهلا يعترب خائن وعميل وعدو للشــعب جيب‬
‫قتله وتقطيعه باملناشري‪ .‬العامل االقتصادي واالجتامعي قد يدفع‬
‫االفــراد ذو الفكر احلــر يف هذه الدول اىل قبــول الدوران حول‬
‫الصنم‪ ،‬أما العوام او قلييل الفكر فأغلبهم يدورون وهم فرحون‬
‫ما دامت مصاحلهــم واوضاعهم االقتصادية جيــدة‪ .‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬مناقشــة احلاكم يف هذه الدول غري مسموح باملرة فاهليبة‬
‫التي تكون عرضة للنقاش ال تعود هيبة وينبغي دائام أقامه مسافة‬

‫‪(1) Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy of‬‬


‫‪Home and Abroad, W. W. Norton & Company, New York, P.151‬‬

‫‪39‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بني اجلامهري واحلاكم(((‪ .‬بالنتيجــة اجلامهري يف هذه الدول أرسى‬


‫وأتباع لسياســية امللك او القائد العام للقوات املســلحة‪ ،‬يقول‬
‫غوستاف لوبون((( عن هذه الدول ما ييل‪:‬‬
‫«تقدر عىل القيام بأعظم املجهودات إذا كان عىل رأســها‬
‫أعاظم الوالة والقادة واملفكرين‪ ،‬ولكن ملا كان نوابغ الرجال‬
‫ال يظهرون يف كل حني فأن األمم املذكورة متيل اىل الســقوط‬
‫عندما تفقد القادة»‬
‫وهنا الســقوط ليس فقط بانحالل الدول واستبدال عصبيتها‬
‫وانام السقوط األخالقي واحلضاري واإلنساين‪ .‬يقول غوستاف‬
‫لوبون هبذا اخلصوص أن هذه األمم ما كان شأهنم التارخيي عظي ًام‬
‫أال يف األزمنة التي كان فيها عىل رأســهم رجال عظام‪ ،‬وهذا هو‬
‫الرس يف تفتيشــهم دائام عن مثل هؤالء الرجــال(((‪ .‬اخر الرجال‬
‫العظام الذين قادوا العرب واملسلمني هو املأمون العبايس إذ كان‬
‫باحثا مفكرا أســهم يف النهضة اإلسالمية الفكرية بشكل مبارش‪.‬‬
‫اذن احتاملية احلصول عىل هكذا قاده هو احتامل ضعيف‪ .‬بالنتيجة‬
‫انتظار القائد املفكر املخلص الرشيف والنزيه ما هو أال حلم يراود‬

‫((( غوستاف لوبون – سيكولوجي اجلامهري ‪-‬مؤسسة اقرا – الطبعة االوىل ص ‪89‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) دار الرافدين – الطبعة‬
‫االوىل ص ‪125‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) دار الرافدين – الطبعة‬
‫االوىل ص ‪108‬‬

‫‪40‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫املثاليون احلاملون البعيدون عن الواقع وخصوص ًا يف الدول التي‬


‫حيكمها الصنم األوحد‪.‬‬
‫اثنــاء فرتة الربيع العريب قال يل أحد االصدقاء انه ســتحدث‬
‫ثورة شــعبية ضد نظام املاليل يف إيــران‪ ،‬فأجبته بأن ذلك صعب‬
‫بســبب الظروف يف وقتها‪ ،‬فظن ان جوايب ناتــج عام يعتقده هو‬
‫مــن انتامئي الطائفي فقال يل ال ختف ســتحدث ثورة شــعبيه يف‬
‫السعودية ايضا قلت له بأن ذلك غري ممكن ايضا‪ ،‬فرتكني ومىض‬
‫من غري حتى أن يسألني ملاذا‪ .‬يف تلكم الفرتة كان الشحن الطائفي‬
‫عىل أشــده وهذه الدول متثل أقطاب هذا الشحن وبالتايل عصبية‬
‫العوام اجتاه حكوماهتم ستكون عظيمة وال يمكن ان تثور ضدها‬
‫بالعكــس من الدول ذات الطابع القومي والعســكري مثل ليبيا‬
‫وســوريا ومرص الذي ضعفت فيها عصبية القومية وانفلت زمام‬
‫االمور‪ .‬الرصاع اإليراين السعودي ومها اقطاب العصبية السلبية‬
‫يف الوقت احلارض له ابعاد واسعة تتجاوز حدودمها اجلغرافية‪.‬‬

‫دول ذات ع�صبيات متعددة (دميقراطية نا�شئة)‪:‬‬


‫هي الــدول التي حتكمها عدة عصبيــات يف ان واحدة وهذه‬
‫العصبيات احلاكمة قــد تكون قومية أو مذهبية او دينية او غريها‬
‫كالعــراق مثال‪ .‬تتميز هذه الدولة بســقف عايل من حرية التعبري‬
‫اجتــاه العصبيات احلاكمة وخصوصــ ًا يف مناطق ضعف نفوذها‬
‫أو اشــتباك نفوذها وبالتايل تعيش شعوب هذه الدول حرية أكرب‬

‫‪41‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫من الدول ذات العصبية الســلبية الواحدة عىل خمتلف األصعدة‬


‫ومنها السياســية واالقتصادية‪ .‬قد سمعت من عدد غري قليل من‬
‫العراقيني مقولة انه قد ذهب صنم (يقصدون صدام) وظهر حمله‬
‫أصنام وكأهنم ال يرون ان هذا امر إجيايب لألسف‪ ،‬ولكنني اعتقد‬
‫اهنم لــن يتمكنوا من العيش حتت حكم صنــم واحد يقتلهم إذا‬
‫نبسوا ببنت شفة كصدام‪ ،‬ولكنهم يرددون هذه العبارات هبدف‬
‫التذمر من الوضع احلــايل ال نتيجة احلنني لصدام والبعث‪ .‬تطفو‬
‫العصبيــات املختلفة عىل الســطح يف هذه الدولــة نتيجة لعدم‬
‫وجود عصبية واحدة مسيطرة‪ .‬هذه العصبيات ال يمكن وصفها‬
‫بـ «عصبيات ســلبية» الهنا معربة عن اهواء ومعتقدات اجلامهري‬
‫املكونــة ملجتمع الدولة‪ .‬لذا ال جيوز حماربتهــا وانام جيب توجيها‬
‫ورعايتها بالشكل الصحيح بام يضمن بناء دولة عرصية جامعة‪.‬‬

‫تعيش هذه الدول مرحلة انتقالية باجتاهني (باجتاه الدول ذات‬


‫العصبية الســلبية الواحدة والدول ذات العصبية اإلجيابية) وهذا‬
‫خطر كبري فقد تنتهي هذه الدول بــأن تكون ذات عصبيه بدوية‬
‫واحدة (صنم) أي ســيطرة مجاعة واحــدة (العصبية الواحدة)‬
‫واقصائها كل من خيالفها باعتبــاره خائن وعميل ورجعي وابن‬
‫ســتني كلب (ســمة الغزو)‪ .‬تذكر‪ ،‬العصبيــات تعيش يف نزاع‬
‫دائم‪ ،‬ولكنه نزاع عقيم بمعنــى ان العصبيات غالبا ال متوت وان‬
‫تم اســكاهتا بالقمع والطغيان‪ .‬قد تتجــه هذه الدول رسيعا نحو‬

‫‪42‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫العصبيــة الواحدة كام حدث يف مرص بعودة حكم العســكر بعد‬


‫اســقاطهم بفرتة بســيطة وذلك لقوة عصبية العسكر ودعواهم‬
‫بمحاربة التخلف واإلرهاب واالخوان‪.‬‬

‫أن أحــد اهم ميزات هــذه الدول هي ضعفهــا العام مقارنة‬


‫بالدولة ذات العصبية الســلبية او اإلجيابية‪ .‬الســبب يف ذلك ان‬
‫التنافــر بني العصبيــات احلاكمة جيربها ان تكــون تابعة للدول‬
‫االخرى أو تعمل عىل تســقيط الطرف االخر مما يضعف الدولة‬
‫وخيرتقها يف الصميم‪ ،‬وهكذا نرى دول مثل لبنان والعراق تلعب‬
‫هبا الدول املجاورة والبعيدة بكل سهولة نتيجة لتعدد العصبيات‬
‫حيث تتدخل الدول القوية حلامية مصاحلها واتباعها ضمن الدول‬
‫ذات العصبيــة املتعددة‪ .‬العصبيات (اجلامعــات) يف هذه الدول‬
‫حتاول بشتى الطرق السيطرة عىل موارد املناطق التي تسيطر عليها‬
‫وال يمكن لومها ألهنا ان مل تسيطر فستظهر مجاعات غريها مشابه‬
‫هلا أو معارضة حتاول الســيطرة فمســألة وجود مجاعات عصبية‬
‫مسألة البد منها يف هذه الدول وال يمكن أن ختتفي هذه اجلامعات‬
‫يف ليلة وضحاها مادام نظــام الدول ضعيف وغري قادر عىل مجع‬
‫اطياف الشــعب حتت عصبية جامعة‪ .‬حماولة حل هذه اجلامعات‬
‫يف ظل حكومات ضعيفة ستنتهي بالفشــل أو زيادة نفوذ مجاعة‬
‫عىل حســاب مجاعة‪ .‬الدولة القوية القادرة عىل محاية افرادها هي‬
‫الضامنة الوحيد حلل هذه اجلامعات بشــكل مســتديم وجذري‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يبني الدكتور عبــد اجلليل الطاهر ان التعصــب لفكرة معينة قد‬


‫يصبح رشط أسايس من رشوط بقاء املستضعفني يف جمتمع مل يقم‬
‫عىل أسس احرتام الفرد وحرية التفكري والتعبري(((‪.‬‬

‫الدول ذات الع�صبية الإيجابية (الدميقراطية امل�ؤ�س�ساتية)‪:‬‬


‫هي الدول احلرة التــي تعطي ألفرادها حرية التعبري والتفكري‬
‫والنقد وحترتم التداول السلمي للسلطة حيث يعترب االنسان فيها‬
‫والقوانني التي يســنها بناء عىل ثقافة ودين ابنائها أســاس قيمها‬
‫وهذه هي عصبيتها‪ .‬النقد احلر هو اساس التطور والبناء املعريف يف‬
‫هذه الدول ولذا تعيش يف حالة بناء وتطور دائم‪ .‬فصل السلطات‬
‫الثالثة (الترشيعية‪ ،‬التنفيذية‪ ،‬القضائية) واســتقالهلا عن بعضها‬
‫البعض يمثل حجر الزاوية هلذه الدول‪ .‬املؤسسات والقوانني هي‬
‫عصبية اجلامعات فال يعلو اي أحد فوق القانون والعدالة ســيف‬
‫صــارم عىل مجيع أبناء البلد ولذا تزدهــر هذه الدول وتتطور‪ .‬أمل‬
‫يقل أبن خلدون انه ال ســبيل للعامرة أال بالعدل؟ ال حتارب هذه‬
‫الدول العصبيــات الفئوية كالدينية واملذهبية والقومية‪ ،‬بالعكس‬
‫حترتمها وتفســح هلا املجال للتعبري عن آرائها وممارسة طقوسها‪.‬‬
‫لذا ال تتصارع وال تتنافس العصبيات وانام تتشارك يف بناء الدول‬
‫ومحايتها‪ .‬املشاركة هنا ال تعني املحاصصة فاجلميع سواسية امام‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪12‬‬

‫‪44‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫القانون ومذاهبهم وقومياهتم شأهنم اخلاص وليس شأن الدولة‪.‬‬


‫العصبيــات يف هذه الدول ال متوت وال يتم اســكاهتا بالقوة لذا‬
‫ال خياف افرادها عىل عصبيتهم من االعتداء ويشــعرون باالنتامء‬
‫لدولــة ككل فهي متثلهم وحتتضنهم ولــذا تصبح الدولة جزء ال‬
‫يتجزأ مــن كينونتهم وهويتهم وانتامئهــم وحتى عصبيتهم فهي‬
‫الضامن الحرتام تقاليدهم واعتقاداهتم‪.‬‬
‫بناء عــى ذلك تصبح الدول ومؤسســاهتا العمــود الفقري‬
‫لعصبيتها‪ .‬حتى زمان كتابة هذه الكلامت يف الشــهر التاســع من‬
‫عــام ‪ ،2022‬مــا زال األمريكيني يالحقون وحياكمــون من قام‬
‫باقتحام الكونغرس عام ‪ 2021‬وكيف ال وهو أســاس عصبيتهم‬
‫واجتامعهم‪ .‬يف حني يف العــراق الربملان الذي يقتحم كل فرتة ال‬
‫بواكي له ألنه ال يمثل عصبية اجلامهري وال أساس اجتامعهم‪.‬‬
‫تعمل مؤسســات هذه الدولة عىل تنظيم وتســهيل أســاليب‬
‫مشــاركة اجلامهري يف اختاذ القرارات بشــكل مجاعــي عن طريق‬
‫دســاتري وقوانني وأنظمة تكون حمرتمة من قبــل اجلميع‪ .‬القانون‬
‫يف هــذه الدول يتالءم مع ثقافة املجاميع وايامهنا ومصاحلها‪ .‬حيث‬
‫هياجر الناس اىل هذه الدول من كل اصقاع األرض يف سبيل التمتع‬
‫بحرية التعبري واالقتصاد واملامرســات الدينية وغري الدينية‪ .‬حرية‬
‫التعبري والتداول السلمي للسلطة أمور مقدسة ومكفوله دستوريا‬
‫وترتقي ملستوى الصنم وأحسن به من صنم‪ .‬وبام ان احلرية تشمل‬

‫‪45‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫أيضا التجــارة واالقتصــاد والتعليم والتنقــل‪ ،‬أصبح االقتصاد‬


‫واملبادرة الفردية (القطاع اخلاص) هي أهم سامت هذه الدول‪.‬‬

‫ال ختلو هــذه الدول من مشــاكل‪ ،‬ولكنهــا دول حية تعمل‬


‫باســتمرار عىل مواجهة مشــاكلها باملنهج العلمي وبموضوعية‬
‫معرفية نقدية بعيدا عن اهواء الســلطان واملصالح الفئوية‪ .‬نرى‬
‫ان الدول ذات العصبية الســلبية الواحــدة واملتعددة تطمح ألن‬
‫تصل ملستوى هذه الدول يف املجال املعريف والتكنولوجي‪ ،‬ولكن‬
‫هيهــات فأهنا ال تصلــح أال أن تكون مســتهلك ًا وتابع ًا ألهنا ال‬
‫تسمح لشعوهبا املقهورة بـ حرية التفكري والتعبري والنقد وبالتايل‬
‫تقمع اإلنتاج واالبداع املعــريف وخصوصا الدول ذات العصبية‬
‫الســلبية الواحدة‪ .‬أما الدول ذات العصبية املتعددة فأن التصارع‬
‫الدائم بني العصبيات يعطلها عن اللحاق بركب احلضارة والتقدم‬
‫العلمي والتكنولوجيا‪.‬‬

‫احتاد الناس يف هذه الدول عىل أســاس حرية الفكر والتعبري‬


‫والنقد والتداول الســلمي للســلطة مل يأت من فراغ وانام نتيجة‬
‫عصور من القهر واالســتعباد ولذا جتذب هذه الدول املهاجرين‬
‫والالجئــن من اقصاع االرض ليس بطــر ًا وانام هربا من الدول‬
‫ذات العصبية الواحدة او املتعددة‪ .‬يبني الشهيد حممد باقر الصدر‬
‫أن هذه األنظمة بنيت عىل احلرية السياسية واالقتصادية والفكرية‬

‫‪46‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫والشخصية (((‪ .‬يرى الســيد حممد باقر الصدر ان اخلط الفكري‬


‫العريض هلذه املجتمعات هو ان مصالح املجتمع تبنى عن طريق‬
‫احرتام مصالح االفــراد‪ ،‬فالفرد هو القاعدة التــي يرتكز عليها‬
‫النظام االجتامعي‪.‬‬

‫يرى الشهيد حممد باقر الصدران هذا النظام ينعدم فيه االيثار‬
‫والثقة والرتاحــم والتعاطف واالجتاهات الروحيــة اخلرية (((‪.‬‬
‫باحلقيقة أن مســألة انعدام االيثــار والرتاحم والتعاطف أمر غري‬
‫حقيقي وقد يكون هذا الــرأي ينقل الوضع ايام كتابة هذا الرأي‬
‫وقد حتســن الوضع اليوم ألنه بالتأكيد ال يمثل الواقع اليوم‪ .‬نعم‬
‫اتفهم التخوف من منح احلريات لبعض االجتاهات الشاذة والغري‬
‫مقبولة اجتامعيا‪ ،‬ولكن هذا االمر يمكن منعه من خالل القوانني‬
‫واالنظمة التي يســنها ممثلو اجلامهري‪ .‬فال يمكن ومن غري املقبول‬
‫ان يتم استنســاخ جتارب االخرين كام هــي وانام جيب ان تتالءم‬
‫الدولة ومؤسساهتا مع قيم واخالق اجلامهري املكونة هلا‪ .‬حتى يف‬
‫الغرب لليوم هناك جدل واســع وكبري والقوانني تتغري باستمرار‬
‫لتعكس اهواء اجلامهري ورغباهتا‪.‬‬

‫((( حممد باقر الصدر – فلســفتنا – دار املعارف للمطبوعات – الطبعة الثالثة ‪2009‬‬
‫ص‪52‬‬

‫((( حممد باقر الصدر – فلســفتنا – دار املعارف للمطبوعات – الطبعة الثالثة ‪2009‬‬
‫ص‪64‬‬

‫‪47‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ملاذا ترف�ض اجلماهري العربية الدول ذات الع�صبية االيجابية؟‬


‫الكالم هنا عن اجلامهري العربية وليس اإلسالمية الن حال العرب‬
‫غري حال املسلمني من هذه الناحية‪ .‬ان معظم األقطار ذات األغلبية‬
‫اإلســامية تتمتع بنوع مــن االنتخابات الديمقراطية كإندونيســيا‬
‫وباكســتان وتركيا‪ ،‬يف حني أن معظم الــدول ذات األغلبية العربية‬
‫تفتقــر اىل أي نوع من التمثيل الديمقراطيــة‪ .‬لذا يرى فريد زكريا يف‬
‫كتابه مســتقبل الديمقراطية‪ ،‬ان القول بأن هنالك عداء بني اإلسالم‬
‫والديمقراطيــة يعني ان هنــاك ما يقرب من ‪ 800‬مليون مســلم ال‬
‫يعرفون ذلك (((‪ .‬فاإلســام مل يكن يف يوم من األيــام تبعا للحاكم‬
‫بالعكس‪ ،‬كان عىل احلاكم دائام وابدا ان يثبت انتامءه لإلسالم واتفاقه‬
‫مع مبادئه ليتــم قبوله كحاكم‪ .‬أمل يقل أبو بكــر «أما بعد أهيا الناس‬
‫فإين قد وليت عليكم ولســت بخريكم‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوين‪ ،‬وإن‬
‫أســأت فقوموين‪ ،‬الصدق أمانة‪ ،‬والكذب خيانة‪ ،‬والضعيف فيكم‬
‫قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء اهلل‪ ،‬والقوى فيكم ضعيف‬
‫حتى آخذ احلق منه إن شــاء اهلل‪ ،‬ال يدع قوم اجلهاد يف ســبيل اهلل إال‬
‫رضهبم اهلل بالذل‪ ،‬وال تشــيع الفاحشــة يف قوم قــط إال عمهم اهلل‬
‫بالبالء‪ ،‬أطيعوين ما أطعت اهلل ورســوله‪ ،‬فإذا عصيت اهلل ورسوله‬
‫فــا طاعة يل عليكم»‪ .‬مما يعني ان انه ال طاعة للحاكم يف اإلســام‬
‫أال بــروط وان أي مجاعــة من املمكن ان تثور عــى احلاكم وهذه‬

‫‪(1) Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy of‬‬


‫‪Home and Abroad, W. W. Norton & Company, New York, P.127‬‬

‫‪48‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫أحد اهم بذور الديمقراطية وحرية التعبري‪ .‬بناء عىل ذلك يقرر فريد‬
‫زكريا ان املشكلة ليست بني اإلسالم (الذي هو أقرب للربوتستانتية‬
‫منــه اىل الكاثوليكية) والديمقراطية وانام بني دول الرشق األوســط‬
‫والديمقراطية‪.‬‬

‫تتخــوف املجتمعات الدينية واملغلقة ثقافيــا من هذا النوع من‬


‫الدول بشكل عام ألهنا قد هتدد قيمها الدينية والثقافية لذا يعملون‬
‫عىل تشوهيها بشتى السبل وبالتايل رفضها‪ .‬طبعا هذا الرفض نظري‬
‫الن املعرتضني مل يصلــوا ملرحلة هذه الدول ليتســنى هلم رفضها‬
‫او قبوهلا‪( ،‬أيل ما يلوح العنب‪ ،‬حامــض عنه يقول)‪ .‬ينقل جورج‬
‫طرابييش عن ســلفي مرصي قوله «هذه الكلمــة (الديمقراطية)‬
‫ليست من اإلســام يف يشء‪ ،‬ألن الديمقراطية هي حكم الشعب‬
‫لنفسه بنفسه‪ ،‬فيســتطيع جملس الشعب ان يقر أي قرار توافق عليه‬
‫األغلبيــة دون الرجــوع اىل كتاب اهلل‪ ...‬فلفــظ الديمقراطية هذا‬
‫مرفوض لدى املســلمني‪ ،‬ولن يكون لنا منهج سوى كتاب اهلل (أن‬
‫احلكــم أال هلل)»(((‪ .‬ال بد من اإلشــارة اىل مغالطة واضحة يف هذا‬
‫الطــرح‪ ،‬فكيف يمكن ملجتمع مســلم أن يفرز جملس شــعب يقر‬
‫أغلبيته قرار من دون الرجوع اىل القران الكريم؟ هذا انتحار سيايس‬
‫ملمثيل الشــعب املســلم فلن ينتخبهم املجتمع املسلم مرة ثانية‪ .‬أما‬

‫((( جــورج طرابييش – مذبحة الرتاث يف الثقافة العربية املعارصة – دار الســاقي –‬
‫الطبعة الثالثة ‪ 2012‬ص ‪74‬‬

‫‪49‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫مقولة ان احلكم أال هلل فقد رفعها اخلوارج سابقا بوجه االمام عيل‪،‬‬
‫وقد رد عليهم بقوله (كلمة حق اريد هبا باطل) ألن حكم اهلل ال يتم‬
‫أال بالرجال(((‪ ،‬وهو رد كايف عــى مثل هذه الرتهات فحكم اهلل ال‬
‫يطبق أال عن طريق الناس واجتهاداهتم وخصوصا باملستحدث من‬
‫األمور‪ .‬الباطل املراد هنا هو تأسيس حكم دكتاتوري حتت شعار ان‬
‫احلكم أال هلل ألن حكم اهلل هبذه احلالة البد وان يتفق مجلة وتفصيال‬
‫مع املذهب الفقهي والفكري والعقدي للمتكلم‪.‬‬
‫التجارب ختربنــا ان املجتمعــات الدينية واملغلقــة ثقافيا غالبا‬
‫ﻣﻌﻠوﻣﺔ‬ ‫ما ترفض املســتحدث من األمور بحجة أهنا ضــد الدين‪ .‬ولنا من‬
‫ﺧﺎطﺋﺔ‬ ‫املوقف املعارض للمرجع الشــيعي كاظم اليزدي عندما تم تأسيس‬
‫اﻟﻣرﺟﻊ‬
‫اﻟﯾزدي‬ ‫أول مدرســة للبنات يف مدينة النجف عام ‪ 1929‬مثال واضح‪ .‬فمن‬
‫ﺗوﻓﻲ ﻋﺎم‬ ‫حقنا ان نسأل اليوم عىل أي أســاس بنى املرجع موقفه املعارض يف‬
‫‪1919‬‬ ‫ذلك الوقت؟ عىل أساس ديني أم عىل أســاس الثقافة السائدة التي‬
‫اﻟﻣؤﻟف‬
‫ألبست الثوب املقدس؟ بالطبع مل يكن ديني الن حالل حممد حالل‬
‫اىل يوم القيامة وحرامه حرام اىل يوم القيامة‪ .‬ينقل عن املرجع السيد‬
‫حمسن احلكيم قوله «أياك واملســلامت وال سيام يف غري العبادات من‬
‫أبواب الفقه‪ ،‬فأن كثريا من املشهورات عند الناس والطالب وكثريا‬
‫من املرتكزات يف االذهان إذا راجعها الفاضل يف مظاهنا وتأمل فيها‪،‬‬
‫وجدها ال واقع يعتمد عليه وال أصل يستند أليه‪ ...‬ال يصل االنسان‬

‫((( أمحد بن أيب يعقوب بن جعفر بن وهب –تاريخ اليعقويب– دار صادر – ص ‪191‬‬

‫‪50‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫اىل النتائج حتى يشك»(((‪ .‬الكثري من العرب املعارضني حلرية التعبري‬


‫والنقد هم متخوفون من النتائج‪ ،‬فهم ورثة قرون من الدول املستبدة‬
‫وليســوا ذوي خربة بحرية التعبري والنقــد وبالتايل يعتقدون أن فتح‬
‫الباب عــى مرصاعيه امام حريــة الفكر والتعبري قــد يفقدهم كل‬
‫األســس العقائدية واالجتامعية التي يســتندون عليها‪ .‬هذا اخلوف‬
‫هو العقبة األوىل واالهم امام تبني الديمقراطية‪ .‬أرى ان الفيصل يف‬
‫الديمقراطية واإلسالم هو ما ذهب أليه حممد جمتهد شبسرتي حيث‬
‫يقول‪:‬‬
‫«لطاملــا قلــت َّ‬
‫إن الســؤال عــا إذا كان اإلســام يتوافق مع‬
‫الديمقراطية هو ســؤال خاطئ‪ .‬والســؤال الصحيح هو‪ :‬هل يريد‬
‫املســلمون الديمقراطية أم ال؟ وإجابتي هي‪ :‬عندما يريد املسلمون‬
‫الديمقراطية ســوف جيدون تأوي ً‬
‫ال إسالم ًيا يتوافق مع الديمقراطية‪.‬‬
‫وإن كانوا ال يريدون الديمقراطية فلن جيدوا هكذا تأويال»‪.‬‬

‫تقديــس حرية التعبــر والنقد ال يعني االنتقــاص من الدين او‬


‫العصبيــات االخرى وانام العكس‪ .‬تنشــط املعرفة وتالقح االفكار‬
‫عندما تقدس حرية التعبــر وبالتايل تصبح املعرفة يف متناول اجلميع‬
‫وليست حمدودة بصنم يقرر لناس ما يشاؤون وما يطالبون كام كانت‬
‫مجاهري التيار الصدري تتظاهر وملا تســتلم مطالبها عرب تغريدات ما‬

‫((( أمحد الكاتب ‪ -‬يف ســبيل الشورى والوحدة والتجديد‪ :‬حوارات أمحد الكاتب –‬
‫الدار العربية للعلوم ‪-‬نارشون – الطبعة األوىل ‪ 2007‬ص‪9‬‬

‫‪51‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يسمى وزير القائد عام ‪ .2022‬بالنتيجة تعرب املجموعات والعصبيات‬


‫عن افكارها واحالمها بحرية وكذلك متارس طقوسها بحرية‪ .‬عدو‬
‫االسالم االول كان التعصب وعدم السامح بالتعبري والنقد‪ .‬العرب‬
‫واملســلمون اليوم بأمس احلاجة حلرية الفكــر والنقد فهي الضامنة‬
‫الوحيدة حلقوق اجلميع من الســنة والشــيعة واملسيحيني والعرب‬
‫واالكراد والرببــر وغريهم‪ ،‬فهم قبل غريهم احوج هلا‪ .‬طبعا هذا ال‬
‫يعني ان املجتمع ســيخلو من السلبيات التي نراها كل يوم يف الدول‬
‫املتحرضة مثل التمييز العنــري يف امريكا‪ ،‬ولكن ونتيجة لتقديس‬
‫حريــة التعبري والنقد فأنه هذه الســلبيات يتم تقليــل أثرها بمرور‬
‫الزمن‪ .‬عىل صعيد اخر‪ ،‬رفض النقد امر خطر جدا ألنه يمنع التطور‬
‫ويؤدي اىل االعتقاد اخلاطئ بأن الفكر الغري قابل لالنتقاد يمثل اعىل‬
‫مستويات الذكاء اإلنساين‪.‬‬
‫ينقــل الدكتور عبد اجلليل الطاهر عن كلــود أدريان هلڤتيوس‪،‬‬
‫فيلسوف فرنيس‪ ،‬االيت حول املوضوع (((‪:‬‬
‫«أن العامل انقســم اىل فريقــن مها‪ :‬الفريــق الذي يملك‬
‫املعرفة‪ ،‬وليس لــه أصنام وأوهام‪ ،‬وفريــق متعصب يقدس‬
‫االصنام ويؤمن باألوهام واخلرافات وليس له معرفة»‪.‬‬
‫عــى صعيد اخــر يؤكد ان الدكتــور عبد اجلليــل الطاهر أن‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪153‬‬

‫‪52‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫السبيل الوحيد ملجتمع خال من أصنام هو طريق احلرية الفكرية‪،‬‬


‫واملناقشــة‪ ،‬واجلدل‪ ،‬والنقد املوضوعي‪ ،‬حتــى ال يكون االفراد‬
‫عبيد أصنام(((‪.‬‬

‫يقرر ميلتون فريدمان وهو أحد أهم علامء االقتصاد الرأسامليني‬


‫احلائز عــى جائزة نوبل يف االقتصاد انه هنــاك طريقان فقط لتنظيم‬
‫الســلوك البرشي‪ .‬الطريق االول يتمثــل يف االوامر التي تصدر من‬
‫جهات عليا لتوجيه ســلوك الناس ومثاله طريقة عمل اجليش حيث‬
‫انه منظم من االعىل اىل االســفل وال طريق اخــر لتنظيم عمله‪ .‬اما‬
‫الطريق الثاين هو طريق املجتمع احلــر القائم عىل التعاون التطوعي‬
‫ومنفعة اجلميع (((‪ .‬املجتمع ينظم نفســه عن طريق قوانني ودســاتري‬
‫تصبح هــي املنظم وهي املرجع للجميــع يف اوقات اخلالف وطبعا‬
‫هذه املجتمعات قائمة عىل احلوار والنقاش املستمر لتطوير القوانني‬
‫والدساتري بام يتالءم مع التحديات القائمة‪ .‬املحصلة العامة انه بمرور‬
‫الزمن ونتيجة للحراك املجتمعي والنقاش الالمتناهي وحرية التعبري‬
‫والتفكري تتطور هذه الدول وحتســن من نفسها باستمرار‪ .‬الواليات‬
‫املتحدة مث ً‬
‫ال قوانينها اليوم عىل صعيــد الضامن االجتامعي والتمييز‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪182‬‬

‫‪(2) Milton Friedman on Freedom, Selections from the Collected Works‬‬


‫‪of Milton Deiedman, Hoover Institution Press, Stanforf, CA, P. 170‬‬

‫‪53‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫العرقي أفضل مقارنة بـ قبل مخســن ســنة‪ .‬باملقابل حين العراقيون‬


‫ونتيجة النعــدام التطور القانوين والتالقح الفكــري للعهد امللكي‬
‫والزمــن اجلميل (‪#‬الزمن_االغرب) وبالتايل ال رؤية مســتقبليه هلم‪.‬‬
‫هذه الدول ونتيجة الســتقرارها وانتفاء تقييد احلريات تستغني عن‬
‫العصبيات املتعددة‪ ،‬ولكنها ال تلغيها وانام جتعلها يف جزء من الدولة‬
‫ال يمكن فصلها عنه وبالتايل قوة الدول تضمن اســتمرار العصبيات‬
‫التي تم هتجينها او تأنيسها‪.‬‬

‫كلمة ال بد منها‪:‬‬
‫ونحــن نتكلم عن الدول احلــرة واملتقدمة وجتربتهــا‪ ،‬ال بد من‬
‫االشارة اىل السمعة الســيئة هلذه الدول لدى الشعوب العربية فهي‬
‫من تقف بوجه وحدهتم ومدمــرة بلداهنم وغريها من االعذار التي‬
‫نقدمها ألنفســها وألوالدنا لتربير خيبتنا الكبرية‪ .‬حاورت أســتاذ‬
‫االديان يف جامعة ويســرن ميشــيغان الدكتور رودولف سايربت‬
‫بخصــوص التدخل الســلبي للغــرب يف بلدان الرشق األوســط‬
‫ودعمهم للدكتاتورية عام ‪ .2016‬حيــث أكد أن معظم دول منطقة‬
‫الرشق األوسط بالرغم من اســتقالهلم الظاهري أال أهنم خيضعون‬
‫للهيمنة االقتصادية الغربية‪ ،‬حيث قــام الغرب بدعم األنظمة التي‬
‫تتــاءم مع اجندته ســواء كانت دكتاتوريــة أم ال حيث مثلت هذه‬
‫األنظمة مصالح الغرب من خالل اظهارها بمظهر الدول املستقلة‪،‬‬
‫ولكنها باحلقيقة ختضع للهيمنة االقتصادية بالكامل‪ .‬باملقابل ناقشت‬

‫‪54‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫نفس املوضوع مع دكتور اخر قبل فرتة وكان قد تباهي بالديمقراطية‬


‫واالنظمة التي نعيشــها يف الواليات املتحدة‪ ،‬فأكد انه يعلم باملعايري‬
‫املزدوجة التي يامرسها الغرب ازاء الشــعوب االخرى‪ ،‬ولكنه أكد‬
‫انه ال يوجد بديل اخر حيث قال‪ :‬إذا مل نتدخل ونفرض ســيطرتنا‪،‬‬
‫ستســيطر الصني وروســيا عىل املنطقة‪ .‬باحلقيقة هذا املوضوع ليس‬
‫بجديد فقد اشــار غوســتاف لوبون املتويف عام ‪ 1931‬يف كتابة روح‬
‫االشرتاكية اىل هذا االمر قائال(((‪:‬‬

‫«والذي جيعل األمم االخــرى غري مدركة للخلق االنكليزي كام‬


‫جيب هو كوهنا ال تفرق بني ســلوك االنكليزي الذايت نحو أبناء امته‬
‫االنكليزية وبني ســره باســم امته أجتاه األمم األخرى‪ ،‬أن اخالق‬
‫االنكليزي الذاتية مســتقيمة اىل الغاية فاذا سار كفرد من الناس فأنه‬
‫يكن ســليم القلب أديبا حمافظا» عىل العهود‪ ،‬ويكون األمر بالعكس‬
‫إذا سار أقطاب السياسة باسم مصالح انكلرتا‪ ،‬اذا تبلغ قلة ضمريهم‬
‫حينئذ اقىص حد‪ .‬فاذا أقرتح رجل عىل وزير انكليزي أن يغتني بخنق‬
‫أمرأه عجوز ثرية فأنه يلقى يف الســجن حاالً‪ ،‬وأما إذا اقرتح عليه ان‬
‫جيمع عصابة من االشقياء لالســتيالء بقوة السالح عىل بلد ما وان‬
‫يذبح جزء مــن اهلها ليقبض عىل زمام أمورهــا فانه يالقي حفاوة‬
‫ويقبل اقرتاحه حاالً»‪.‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) دار الرافدين – الطبعة‬
‫االوىل ص ‪128‬‬

‫‪55‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫باملخترص الصورة املثالية للغرب امر خاطئ وكذلك اعتباره عدو‬


‫دائــم‪ .‬فال يوجد دولة مثالية تقوم باألعامل اخلريية باملجان‪ .‬باحلقيقة‬
‫ان االخرتاق الســيايس واالقتصادي والثقايف الغريب لدولنا هو ليس‬
‫ســبب وانام نتيجة‪ .‬نتيجة ملا تعانيه دولنا من ضعف وختلف وانعدام‬
‫العمل املؤسسايت احلر‪ .‬باملحصلة أن ما هيمني عندما أنقل جتارب هذه‬
‫الدول هو ان اشري اىل جتارب ناجحة يمكن توظيفها لتحسني الواقع‬
‫أو عىل االقل حتســن طرق التعامل مع الواقع عىل الصعيد الداخيل‪.‬‬
‫ببساطة أقول كام قال الدكتور عيل الوردي سابقا «لست أريد بكتايب‬
‫أن أجمد احلضارة الغربية أو أدعــو اليها‪ .‬أنام قصدي أن أقول‪ :‬أنه ال‬
‫بد مما ليس منه بد»(((‪ .‬بالنتيجة جتربة الغرب جتربة ذات أوجه متعدده‬
‫منها التقدم العلمي والتكنولوجي ومنها املعايري الثقافية واالجتامعية‬
‫ومنها العمل املؤسسايت واحرتام القانون‪ .‬نحن لسنا ملزمني باسترياد‬
‫التجربة بأوجها املتعددة وانام فقــط بام خيدم البالد والعباد وهذا هو‬
‫حال املسلمني وغريهم من األقليات الثقافية والدينية يف الغرب فهم‬
‫مل ينصهروا بالكامل بالتجربة الغربية وانام يتعاملون معها بأجيابية وبام‬
‫يتالئم مع واقعهم واحتياجاهتم‪.‬‬

‫بالنتيجــة هذا الكتــاب ال يقــدر التجربة الغربية عىل أســاس‬


‫ترساناهتا العســكرية وال تدخالهتا غري العادلة يف الرشق األوسط‪.‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪18‬‬

‫‪56‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫وانام يقدر وحيرتم التجربة الغربية عىل أساس مكانة اإلنسان‪ ،‬بغض‬
‫النظر عــن خلفيته الفكرية والقومية‪ ،‬مكانتــه أمام القانون ومكانته‬
‫كعضو فاعل يف املجتمع له احلــق بالتعبري واالنتقاد والذي ينعكس‬
‫عىل حياة اجلامهري انعكاســا إجيابيا‪ .‬اذن نحــن أمام فكرة اصيلة أال‬
‫وهي مكانة األنســان وحموريتهــا فهو اخلليفة الــذي ولد حرا وال‬
‫جيب اســتعباده‪ .‬هذه الفكرة ســامهت يف رفعت شــعوب وساهم‬
‫انعدامها يف ترشذم شــعوب أخرى‪ .‬لألسف هذه الفكرة تم تغريبها‬
‫يف جمتمعاتنــا بالرغم من اصالتها واتفاقها مع كل ما نؤمن به ونعرفه‬
‫ومل جتــد فرصتها للتطبيق‪ .‬يرى مالك بن نبي ان األفكار االصلية قد‬
‫تفقد فاعليتهــا بالرغم من صحتها فال نجد هلا حضورا عىل ان ذلك‬
‫ال يقلل من صحتها(((‪ .‬فاالفــكار الصحيحة االصلية بحاجة لزغم‬
‫ثقايف ومجاهريي ليفجرها ويزيد من حضورها وهذا ما يسعى له هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫حتول الدول‬
‫الرصاع اذن أهيا الســادة ليس بني أحزاب إســامية وعلامنية‬
‫وقوميــة وانام بني عصبيات داعمة وعصبيــات خمربة‪ .‬فاالحزاب‬
‫بمختلف خلفياهتا الفكرية نجدهــا حاكمة يف الدول املتقدمة وال‬
‫يؤثر ذلك عىل وضع الدولة‪ .‬لذا اصبح السؤال هو كم من الوقت‬
‫يســتلزم النتقال من تصنيف دولة معني اىل تصنيف اخر حســب‬

‫((( مالك بن نبي – مشكلة األفكار يف العامل االسالمي – دار الوطن‪ -‬ص ‪105‬‬

‫‪57‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫عصبيتها؟ ببســاطة االنتقال نحو دول ذات عصبية سلبية واحدة‬


‫هو نوع من أنــواع التدهور واالنحطاط وهو ال حيتاج اىل أكثر من‬
‫انقالب عســكري او حزيب يف جمتمع ال حيــاة فيه لوعي اجلامهري‬
‫عىل املستوى االجتامعي وال ملؤسسات دولة قوية‪ .‬هـذا التغيري ال‬
‫يكون أال يف الدول ذات العصبيات املتعددة ألن األطر االجتامعية‬
‫يف هذه الدول تســمح بأن تركبها العصبيات لعدم خربهتا وعيشها‬
‫اخلوف من االخر وعدم قدرهتا عىل التفكري احلر والنقاش واجلدال‬
‫فهي بحاجة دائمة اىل من يقودها اىل حتقيق احالمها املســتحيلة يف‬
‫التحرر واالزدهار ومثال ذلك تونس لألســف الشديد‪ .‬وهذا ما‬
‫يؤكده غوستاف لوبون((( بقوله‪:‬‬

‫‪«As soon as they possess liberty, they seek to place‬‬

‫»‪in the hands of a master‬‬

‫بمعنى ان الشــعوب املســتبعدة ما أن حيصلوا عىل حريتهم حتى‬


‫يرتكوهنا لسيد يقودهم ويدبر امورهم‪ .‬أليس هذا حاصل يف العراق‬
‫وبشــدة وبني خمتلف القوميات والديانــات؟ اجلواب نعم حاصل‪،‬‬
‫ولكــن ليس عىل مســتوى رأس احلكومة ولذا مــا زال بإمكاننا ان‬
‫نصف العراق بانه دولة ذات عصبيات متعددة وليس عصبية ســلبية‬
‫واحدة‪ .‬اما يف الدول املؤسســاتية ذات العصبيــة اإلجيابية فال ينفع‬

‫‪(1) Gustave Le Bon – The Psychology of Socialism – Translation from‬‬


‫‪French edition of 1896. P.128‬‬

‫‪58‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫فيها االنقالب العســكري وال احلزيب فمــن الصعوبة أن مل يكن من‬


‫املســتحيل انتقال هذه الــدول اىل دول ذات عصبية ســلبية واحدة‬
‫لعدم القدرة عىل ضبط أبنائها ضمن عصبية غري عصبية التفكري احلر‬
‫والعدالة واملساواة ضمن مؤسسات حترتم اجلميع‪.‬‬

‫االنتقال اىل الدول ذات الع�صبية االيجابية‪:‬‬


‫يســتلزم وقت طويــل ألن التحوالت االجتامعيــة بطيئة جزئية‬
‫وتطوريه كام يقرتح الدكتور عبد اجلليل الطاهر‪ .‬فمعظم الدول ذات‬
‫العصبية الفكرية ما زالت تتطور وترتقي وحاهلا اليوم غري حاهلا قبل‬
‫مخســن سنة وحاهلا قبل مخسني ســنة خيتلف عن حاهلا قبل مئة سنة‬
‫وهكذا‪ .‬اود أن اشــر اىل ان هذه الطبيعــة التطورية خاصة باألمور‬
‫اإلنسانية واالجتامعية دون األمور العملية‪ .‬فاألمم يمكنها استنساخ‬
‫النتائج العلمية التي وصلت هلا األمم األخرى واســتخدامها يف ما‬
‫خيدمها دون احلاجة ألعاده اخرتاع العجلة من جديد‪.‬‬

‫هذه البدهيية تبدوا صعبة الفهم عىل شعوب الدول ذات العصبية‬
‫الســلبية الواحدة او املتعــددة‪ ،‬حيث تراهم حيلمــون باالنتقال اىل‬
‫مصاف الدول ذات العصبية الفكرية بليله وضحاها ووسيلتهم هلذا‬
‫االمر اســتبدال اصنام حمل اصنام مع الكثري من اخلطب الرنانة التي‬
‫ال تنظر لواقع الناس ومزاجهــم وأفكارهم‪ .‬لذا ترى كثرة الثورات‬
‫واالنتفاضــات غــر املخطط هلا والغري مدروســة يف هــذه الدول‬

‫‪59‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫مقارنة بالدول ذات العصبية اإلجيابيــة التي تكاد ختلو من الثورات‬


‫واالنتفاضــات العارمة‪ .‬يقول غوســتاف لوبون بــا معناه ان هذه‬
‫الشعوب تتميز بكثرة ثوراهتا التي مل تنتج غري تسمية جديدة ألنظمتها‬
‫القديمة (((‪ .‬كثرة الثورات يدل عىل شــجاعة عظيمة بكل األحوال‪،‬‬
‫ولكــن ما قيمتهــا ان مل متلك ســمة التبرص والتفكــر والتخطيط‪.‬‬
‫مــا قيمتها ان كانت هدف ال وســيلة‪ .‬ما قيمتهــا ان كانت ال تقدم‬
‫جديدا وانام تزيد اخلراب وتأخر البالد‪ .‬وهنا ال بد من االشــارة اىل‬
‫انصــاف املتعلمني الذين خيدعون اجلامهري عن طريق خطبهم الرنانة‬
‫ووعودهم التي جتاوز رضرها وعود السياســيني الفاسدين بجدوى‬
‫الثورات غري املدروســة والتي تعارض كل مــا خربته البرشية وكل‬
‫مــا عرفناه عن علم االجتامع وتطور األمــم‪ .‬انصاف املتعلمني أكثر‬
‫رضرا عىل الشعوب من السياســيني الفاسدين ألنه بالنتيجة ال أحد‬
‫يصدق السياسيني‪ ،‬ولكن يا لألسف الكثري خيدع ب خطب انصاف‬
‫املتعلمني‪.‬‬

‫أبن خلدون مث ً‬
‫ال قرر ان تبدل العصبية حيتاج أربعة أجيال(((‪ ،‬أما‬
‫انصاف املتعلمني فيعتقدون ان بأماكنهم تغريها بأربعة أيام او أربعة‬

‫((( غوســتاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) دار الرافدين – الطبعة‬
‫االوىل ص ‪128‬‬

‫((( عبد الرمحن بن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الثالثون‪ :‬يف والية العهد‪-‬‬
‫دار الغد اجلديد ص ‪135‬‬

‫‪60‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫خطب رنانة فياهلم من طوباويني ووعاظ ســاطني او كام يســميهم‬


‫الدكتور عبد اجلليل الطاهر ســدنة املعارضة وهم ال خيتلفون كثري ًا‬
‫عن سدنة احلاكم‪ .‬سدنة املعاضة يسعون اىل السلطة عن طريق احليلة‬
‫واخلداع واســتغالل تذمر الناس وســخطهم‪ .‬أال يرون ان حقوق‬
‫األقليات والتصويت والضــان االجتامعي احتاجت عقودا لتتبلور‬
‫ومازالت يف طور التطور وهم خيدعون الناس بأن احواهلم ســتتبدل‬
‫بليلة وضحاها بدون عمل وبدون ختطيــط وبدون اقرتاح قانون او‬
‫ترشيع‪ .‬يعتقــد الدكتور عيل الوردي ان بعض هؤالء حني يتحدثون‬
‫يف خلوة مع مــن يثقون به‪ ،‬قد يبدون من اخلــرة االجتامعية اليشء‬
‫الكثري فهم يدركون طوباوية أفكارهــم وصعوبة حتقيقها‪ ،‬ولكنهم‬
‫يــرون عىل ان حيربوا هبــا الكتب واخلطابات (((‪ .‬هؤالء الســدنة‬
‫يتميزون باخلضوع والتملق ولذا حيصل هلم الكسب املادي يف خمتلف‬
‫األوقات واالزمان كام يذهب ابن خلدون (((‪.‬‬

‫مباحث ذات عالقة‪:‬‬


‫الدول واالعالم‪:‬‬
‫ال خيفى عىل أحد دور االعالم يف توجيه الناس وتثقيفهم فهو‬

‫((( عيل الوردي – منطق ابن خلدون‪ -‬الوراق للنرش ‪ -‬طبعة ‪ 2013‬ص ‪22‬‬

‫((( عبــد الرمحن بــن خلدون – مقدمة أبن خلدون – الفصل الســادس‪ :‬الســعادة‬
‫والكسب حيصل ألهل اخلضوع والتملق‪ -‬دار الغد اجلديد ص ‪363‬‬

‫‪61‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫السلطة الرابعة وبالتايل االعالم ذو أمهية كبرية خصوصا ان كان‬


‫بيد املثقــف الواعي األمني وهذا نادر‪ .‬االعــام يف الدول ذات‬
‫العصبية الســلبية الواحدة دوره واضح وبســيط أال وهو متجيد‬
‫الســلطان واضفاء اهليبة واملنعة والرشعية والقدســية عليه‪ .‬انا‬
‫شخصي ًا مازلت اتغنى يف بعض األحيان بأغاين البعث الصدامي‬
‫من غري وعي مثل سيدي شكد انت رائع لكثرة تكرارها يف تلكم‬
‫الفرتة‪ .‬فاألعالم يف هذه الدول ما هو اال وسيلة أعالم سلطانية‪.‬‬
‫يقول الدكتور عبد اجلليل الطاهر(((‪:‬‬

‫«جتعل الســدنة من اقوال الصنم (احلاكم) وخرافاته وسيامه‬


‫ومالحمه مقاييس دقيقة للثــواب والعقاب‪ ،‬وكذلك للحكم‬
‫عىل االعامل الناس وسلوكهم»‬

‫يقرر الســدنة نوع املعرفــة التي يتم انتاجها وبالتايل تســيطر‬


‫عــى مفاهيم املجتمع وأفكاره لتتالءم مــع عصبية الدولة‪ .‬يزرع‬
‫االعالم يف هذه الدول يف نفوس املواطنني يشء من الرضا الفارغ‬
‫والوهم بان حكوماهتم مســتقرة وتقوم باعامل كبري يف بناء البلد‬
‫وغريها من الرتهات‪ .‬أمل يتباهى أمحد ســعيد عرب اإلذاعة املرصية‬
‫والصحاف عرب القنوات العراقية والعاملية باالنتصارات امليدانية‬
‫والصمود االسطوري بينام كان الواقع يروي االهنزامات املدوية‬

‫((( عبــد اجلليل الطاهــر – أصنام املجتمــع‪ :‬بحث يف التحيــز والتعصب والنفاق‬
‫االجتامعي – املركز األكاديمي لألبحاث – الطبعة االوىل ‪ 2016‬ص‪104‬‬

‫‪62‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫واالنتكاســات املتكررة؟ توفيق احلكيم يف كتابه «عودة الوعي»‬


‫كان يصف عرص مجال عبد النارص ب‪« :‬عرص حلت فيه احلناجر‬
‫حمل العقول»‪.‬‬

‫أما يف الدول ذات العصبيات املتعددة فوسائل االعالم تعمل‬


‫ضد بعضها البعض حيث متجد كل وســيلة أعالم مموهلا وحتاول‬
‫ان تنقــل كل ما هو يسء عن االخريــن وبالتايل ال قيمة للحقيقة‬
‫واملوضوعية لدى هذه القنوات‪ .‬تــرز يف هذه الدول نوعان من‬
‫الســدنة‪ :‬سدنة احلاكم الذين يشتغلون يف وسائل اعالم احلكومة‬
‫ويلمعون السلطة وسدنة املعارضة وهم من يشتغلون يف وسائل‬
‫اعالم معارضة ويتطلعون اىل السلطة‪ .‬نتيجة لضعف حرية التعبري‬
‫واالنتقــاد لدى افراد جمتمع العصبيات املتعددة فأن لالعالم دور‬
‫خطري يف اثارة الفتن وهتييج الرأي العــام وحتى اصابة املجتمع‬
‫بحالة من القلق النفــي والرتقب الدائم كام نالحظه يف االعالم‬
‫العراقي بعد ‪ .2003‬تنبه امللك فيصل االول لدور االعالم السلبي‬
‫واستغالله حلرية التعبري بشكل يسء ومؤذي حيث قال(((‪:‬‬

‫«علينــا أن ال ندع جمــاال لألحــزاب (املصطنعة) والصحف‬


‫واألشــخاص ليقوموا بانتقادات غري معقولة وتشــويه احلقائق‬
‫وتضليل الشــعب‪ ،‬وعلينا أن نعطيهم جماال للنقد النزيه املعقول‬

‫((( مذكرات جعفر العسكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص ‪198‬‬

‫‪63‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫وضمــن األدب‪ .‬ومن يقــوم بأمر غري معقول جيــب أن يعاقب‬


‫برصامة»‬

‫يبــدو ان االعالم العراقــي ايام احلكم امللكي الذي ســمح‬


‫بســقف معني من حرية التعبري كان له دورا مؤذيا مشــابه لدوره‬
‫اليوم‪ .‬فهذا كريم ابو التمن وهو مــن رجال الزمن امللكي يقول‬
‫يف نســخة نادرة من كتاب لــه صدر عن دار الكشــاف اللبنانية‬
‫عام ‪ 1953‬بعنوان هذا هــو العراق ما نصه «أن الصحافة املرتزقة‬
‫داســت امانتها باألقدام فيام ختلفه اقالمها من قلق وتشــويش يف‬
‫الرأي العام وتبلبل وتزعزع يف الثقة واخلواطر»‪.‬‬

‫أما يف الدول ذات العصبيــة الفكرية فاألعالم يكون مفتوح‬


‫امام اجلميــع‪ ،‬االنتهازيــون والســدنة واملثقفــون واملفكرون‬
‫والباحثون عن احلقيقة‪ .‬فحرية التعبري مقدســة وجلميع بام فيهم‬
‫الغبي حــق التعبري عن أفكاره‪ ،‬ولكن هنــا املجتمع يمتلك حق‬
‫الرد واالنتقاد والقدرة عىل التمييز والتمحيص نتيجة خربة افراده‬
‫يف التفكــر والتمحيص وهذا ما ال متلكه دول العصبية الســلبية‬
‫الواحدة أو املتعددة‪.‬‬

‫الدول واخلرافة‪:‬‬
‫يبتعد الناس عن اجلــدل والنقاش يف الــدول ذات العصبية‬
‫السلبية الواحدة واملتعددة وبالنتيجة عن العقل واملنطق مما يؤدي‬

‫‪64‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫اىل ظهور الكثري من االوهام واخلرافات االجتامعية‪ .‬منها ما ظهر‬


‫بالقرب من مدينة احللة من مزار كبري يدعي سدنته انه قرب رشيفه‬
‫بنت احلسن وال أحد يعرف أصل هذا القرب وكيف تم التأكد ممن‬
‫دفن فيه واالكثر مــن ذلك أن القائمني عليه يدعون انه يشــفي‬
‫املرىض وحيل املشــاكل‪ .‬بالرغم من بعض رجــال الدين أنكروا‬
‫وجوده من االصل أال ان الكثريين اعتقدوا به‪.‬‬

‫ينقل الدكتور عيل الوردي عن الســائح األملاين نيبور أنه اثناء‬


‫ســفره يف منطقة الفرات األوسط عام ‪ 1765‬انه شاهد الكثري من‬
‫القبب املشيدة عىل قبور أشــخاص‪ .‬يعلق الدكتور عيل الوردي‬
‫عىل هذه القبب بأن بعضها يزعم الناس أهنا مراقد بنات احلســن‬
‫وهذا زعم يصعب تصديقــه (((‪ .‬يعلل الدكتور عيل الوردي هذه‬
‫احلاجة بالتعلق باألوهام واالكاذيب بحاجة الناس اىل من يشايف‬
‫امراضهم وحيل مشــاكلهم‪ .‬اذكر قبل ســنة كنت يف املغرب مع‬
‫عائلتي حيث معظم االســواق هناك حتتــوي عىل اجهزة تعرص‬
‫خمتلف النباتات لغرض اســتخالص زيوهتا للتداوي والتشايف‪.‬‬
‫ســألتني زوجتي ملاذا ال نرى مثل هذه االمور يف امريكا‪ ،‬فأجبتها‬
‫الن الصناعة الدوائية والطب متطــور يف امريكا وبالتايل الناس‬
‫ليسوا بحاجة اىل هذه االمور‪ .‬بالنتيجة غياب املعرفة واالنشغال‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقي‪ -‬الوراق للنرش ص ‪ 271‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫‪65‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بالتعصــب له اثار جانبيــه عظيمة تؤدي اىل عــودة املجتمع اىل‬


‫اخللف وبالتايل يضطــر ابنائه لتصديــق باألكاذيب واخلرافات‬
‫لتطيب جراحهم وليشــعروا بالطمأنينة والراحــة ولو لدقائق‪.‬‬
‫أقرتح الدكتور عيل الوردي تشــكيل جلنــة علمية حمايدة لبحث‬
‫يف صحة مــا يتناقله الناس عن كرامات هذه املقامات (((‪ .‬مل يتبنى‬
‫احد هذا االقرتاح لذا مــا زال الدجالون يومهون الناس ب قبور‬
‫ومهية يربء فيها املشــلول واالعمى واملجنون عن طريق متثيليات‬
‫ال ســبيل لتحقق من صحتها وعالقتها باملقام او القرب ومثاهلا ما‬
‫حدث فيام يسمى ب قطارة االمام عيل وكيف أن الناس‪ ،‬بعضهم‬
‫عىل االقل‪ ،‬اكتشفوا ان القطارة االعجازية كانت تستمد املاء من‬
‫انبــوب دفنه الدجالون حتت االرض‪ .‬من األمــور الظريفة التي‬
‫يذكرها الدكتور عيل الوردي((( هبذا اخلصوص ما ييل‪:‬‬

‫«منذ زهاء مائة ســنة ظهر قرب مقــدس قرب مدينة اهلندية‬
‫قيــل انه حلفيد االمام الصادق اســمه «صكبان»‪ .‬الغريب ان‬
‫هذا األســم أعجمي ومعناه «حارس الكلــب» وكان يطلق‬
‫يف العهد العثامين عىل نوع من اجلنــود‪ .‬وليس من املعقول ان‬

‫((( عيل الوردي – خوارق الالشــعور أو ارسار الشخصية الناجحة ‪ -‬الوراق للنرش‬
‫ص ‪ 145‬طبعة ‪2013‬‬

‫((( عيل الوردي ‪ -‬دراســة يف طبيعة املجتمع العراقي‪ -‬الوراق للنرش ص‪ 272‬طبعة‬
‫‪2012‬‬

‫‪66‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫يســمي حفيد جعفر الصــادق هبذا االســم‪ .‬ولكن الناس مل‬


‫هيتموا بذلك وانثالوا عىل القرب يتربكون به»‪.‬‬

‫التعليــم هو املــاذ الوحيد واحلصــن املنيــع للمجتمعات‬


‫مــن الدجل والشــعوذة‪ .‬التعليم هنا ليس معنــى اكامل التعليم‬
‫اجلامعي وانــا بمعنى روح التعليم وهو املنهــج العلمي‪ .‬أبنائنا‬
‫جيب ان يفهموا املنهج العلمي ومتى يمكن ان نثق باملشــاهدات‬
‫واالدعــاءات ومتى جيب حماربتها‪ .‬جيــب ان يكون هناك مناهج‬
‫خمتصة بطرق البحث العلمي وطــرق اعتامد االخبار‪ .‬مث ً‬
‫ال هناك‬
‫الكثري من احلوادث التي نراها حولنا سببها الصدفة‪ ،‬يعني يذهب‬
‫شخص ملرقد ومهي او بقرة ويطلب منها الشفاء فيشفى‪ .‬السؤال‬
‫هنا هل هذا الشــفاء بســبب املرقد الومهي او ملجرد ان اجلســم‬
‫البرشي جتــاوز املرض نتيجة ملناعته الطبيعــة‪ .‬اليوم عندما أقوم‬
‫ببحث معني يكون القرار بأن املؤثر (القرب الومهي) فعال ان كانت‬
‫احتاملية الشــفاء مخسة وتســعني باملئة أو اكثر من املشاهدات او‬
‫احلاالت وبخالفه يعترب املوضوع وليد الصدفة وال دخل للمؤثر‬
‫الومهي‪ .‬قيمة التسع والتسعني باملئة تسمى القيمة االحتاملية (‪(P‬‬
‫‪ Value‬التي تســخدم ألختبــار الفرضيات احصائيــا‪ .‬اعتقد ان‬
‫العراقيون سيكتشفون ان تسع وتسعني باملئة من املقابر واملزارات‬
‫و الطــرق ما هي أال أوهــام يف أوهام لو طبقــوا املنهج العلمي‬
‫الصارم يف تقييمها‪ .‬انعدام الفهــم باملنهج العلمي يمكن اعتباره‬

‫‪67‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫وباء عاملي‪ ،‬حيث لوحظ هذا الوباء بشكل واضح أيام وباء كورنا‬
‫حتى ظهرت الكثري من الدعوات يف الصحف االمريكية الداعية‬
‫الفهام الناس بــان املنهج العلمي منهج قائم عىل اخلطأ وال يقدم‬
‫معلومات اكيده‪ .‬ظهرت هذه الدعوات بعد أن تم نرش دراسات‬
‫خمتلفه وبمعلومات متضاربة حول فــروس كورونا مما أدى اىل‬
‫تذمر الناس وفقدان ثقتهم بالدراســات العلمية واســتنتاجاهتا‬
‫نتيجة جلهلهم بطريق عمل املنهج العلمي‪.‬‬

‫الدول والأمن‪:‬‬
‫مما ال خيفى عىل أحد أن الدول ذات العصبية السلبية تتميز بأهنا‬
‫يف املقدمة من ناحية األمن العام فال جيرؤا افرادها عىل الكالم ألن‬
‫املشانق والســجون مفتوحة طوال الوقت‪ .‬طبعا استقرار الدول‬
‫الدكتاتورية هو استقرار شــكيل وينتهي بشكل مفاجئ ومدمر‪.‬‬
‫فلم تنجح الــدول الدكتاتورية يف يشء مثلــا نجحت يف حفظ‬
‫االمن الداخيل‪ ،‬الحبا يف اجلامهري وانام ألجل ضامن بقاء املنظومة‬
‫عىل رأس السلطة‪ .‬عىل صعيد اخر تعترب الدول ذات العصبيات‬
‫املتعددة اقل الدول أمنا ملا تعانيه من شدة التناحر والتقاتل وعدم‬
‫الثقة بني مكوناهتا (عصبياهتا) وضعــف الدولة والقانون فيها‪.‬‬
‫وهذا بالضبط ما خربه العراقيون عندما انتقلوا من دول العصبية‬
‫الواحدة املمثلــة ب عائلة صدام والبعث العريب املجرم اىل دولة‬
‫العصبيات املتعددة ما بعد ‪ .2003‬حيث ســمعت من الكثري من‬

‫‪68‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫العراقيني يتكلم عن أيام األمن يف زمان البعث وهذا امر طبيعي‬


‫فلم يكن أحد جيرؤ عىل الكالم وهي احدى ســات الدول ذات‬
‫العصبية الواحد مثل ســوريا وليبيا‪ .‬ضعف األمن امر طبيعي يف‬
‫دول متعددة العصبيات فام حيــدث ليس ذم جهة او طرف حمدد‬
‫وانــا هو جزء من التطور الطبيعي ملجتمــع عانى ما عانى حتت‬
‫ظل حكومة دكتاتوريــة قامت بأقصاء كل العصبيات بشــكل‬
‫وحيش وجمــرم‪ .‬فال جيوز وال يمكن ان نتوقــع ان تلتئم اجلراح‬
‫بمجرد زوال العصبية الواحدة‪ ،‬املجتمعات حتتاج لعقود لتجاوز‬
‫تلكم احلقبة‪ ،‬هذا عىل فرض اهنا تســر باالجتاه الصحيح وليس‬
‫العكس‪.‬‬

‫بعث أحد األشخاص رســالة اىل جون أدم‪ ،‬سيايس أمريكي‬


‫شــغل منصب الرئيــس الثاين للواليــات املتحــدة‪ ،‬يذكره هبا‬
‫بالقتــى الذين ذهبــوا ضحيــة للديمقراطية ويؤكد لــه فيها ان‬
‫النظــام الديمقراطي أكثــر رضر ًا عىل الناس مــن النظام امللكي‬
‫واالقطاعــي‪ .‬فأجابه جون ادم ببســاطة ان الديمقراطية مل تقدم‬
‫نفســها عىل اهنا اقلل رضر ًا من األنظمة امللكية واالقطاعية وأهنا‬
‫قد ال تــدوم أطول من األنظمة األخرى ألهنــا اقل فخر ًا وانانية‬
‫وتصمي ًام ورغبة يف البقاء والســيطرة‪ .‬الديمقراطية بطبيعتها نظام‬
‫أضعــف من األنظمــة القمعية ألهنا ال تكمم االفــواه وال تقتل‬
‫وختفي املعارضني‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يذهب البــرت فني داييس وهــو حمامي ومنظر دســتوري‬


‫بريطــاين اىل أن املجتمعــات الديمقراطية بطبيعتهــا جمتمعات‬
‫غري مستقرة‪ .‬أحد اهم اســباب ذلك هو ان الدول الديمقراطية‬
‫تســمح للجميع بالتعبري عن آرائهم بام فيهم املتطرفني واملجرمني‬
‫ممــا يؤدي اىل الرضر العام‪ .‬كذلك يوكــد ان الدول الديمقراطية‬
‫تعيش باســتمرار احلالة االنتقالية مما جيعلها غري مستقرة بعكس‬
‫الدول الديكتاتورية‪ .‬حيث تقوم الدول الديكتاتورية باستخدام‬
‫القوة ملنع اي حماولة لتغريها مما يقمع اي حماولة لتغيري املجتمع او‬
‫ممارسة حلرية التعبري بعكس الدول الديمقراطية‪.‬‬

‫الدول والثورة‪:‬‬
‫الثورة هــي حماولة تغيــر النظام عن طريــق االنتخاب او‬
‫التأمــر او اجلامهري او حتى التعاون مــع قوى خارجية‪ .‬يصنف‬
‫ابن خلدون الثورات اىل ثورات ناجحة وثورات فاشلة‪ .‬حيث‬
‫يرى انه عىل الثائر ان حيسب حسابه قبل القيام بحركته فيحيص‬
‫اتباعه ومقدار والئهم فاذا وجد ان نســبة نجاحه غري مضمونة‬
‫فاجلدير به ان جيلس يف بيته(((‪ .‬الدكتور الوردي مل يعجبه رأي ابن‬
‫خلدون هذا حمتجا ب ثورة االمام احلسني التي مل تنجح يف تغيري‬
‫احلكم‪ ،‬ولكن ال يمكن اعتبارها ثورة فاشلة‪.‬‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪258‬‬

‫‪70‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫باحلقيقة تصنيف الدول الذي يقدمه الكتاب الذي بني يديك‬


‫حيل االشــكال بني الــوردي وأبن خلدون يف مســألة الثورات‪.‬‬
‫فالثورات الشــعبية واجبــة ورضورية يف الــدول ذات العصبية‬
‫الســلبية الواحدة (الدكتاتورية الرجعية) ألن هذه الدول قمعية‬
‫تسلطية ال ســبيل لتغريها ســوى بالقوة الضاربة والتضحيات‬
‫العظام وهــذا بالضبط ما قام به األمام احلســن‪ .‬تغيري العصبية‬
‫الســلبية عن طريق الثورات قد ال يعني بالرضورة انتقال الدولة‬
‫اىل دولة ذات عصبيــات متعددة‪ ،‬ولكنه بــكل االحوال خيفف‬
‫وطئ هذه الدول عىل اجلامهري ويفقدها رشعيتها‪ .‬طبعا عىل قائد‬
‫الثورة ان يعمل عىل تقليل اخلســائر بني اجلامهري وان يعمل عىل‬
‫اللحاق االذى بالنظام املتسلط وادواته‪.‬‬

‫أما يف الــدول ذات العصبيات املتعددة فتغيــر النظام بالقوة‬


‫هو ترصف متهور قد يؤدي اىل تقســيم الدولة وحتى عودهتا اىل‬
‫مصاف دول العصبية الســلبية الواحدة الن الثورة يف هذه الدول‬
‫هــي بالرضورة ثورة مناطقية ضمن منطقة نفوذ القائم بالثورة او‬
‫ثورة انتقامية بالضد من زعــاء العصبيات االخرى وبالتايل هي‬
‫ثورة ال يرجتى منهــا أي اصالح‪ .‬االنتخابات املوجودة يف الدول‬
‫ذات العصبيات املتعددة عىل عالهتا توفر بديل عن الثورات ذات‬
‫الطابع الدموي فهي ثورة بيضاء مل تأت باملجان وانام بالتضحيات‬
‫العظام‪ .‬جيب أال ننســى ان هناك حاجة ل ثورة فكرية وثقافية يف‬

‫‪71‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الــدول ذات العصبيات املتعددة وهي ثــورة ممكنة نتيجة حلرية‬


‫التعبري اجلزئيــة التي تتمتع هبا هذه الــدول‪ .‬كذلك هناك حاجة‬
‫لثورة قانونية هبدف تدعيــم القانون والنظام القضائي بام يضمن‬
‫حماسبة الفاسدين واملتالعبني بمقدرات اجلامهري وكذلك احالل‬
‫االمــن املجتمعــي‪ .‬لذا عىل اجلامهــر يف الــدول ذات العصبية‬
‫املتعددة مجع االدلة الكافية ملحاســبة الفاســدين ودعم القانون‬
‫وعدم اســتغالل حرية التعبري املتوفرة هلــم يف رمي التهم جزافا‬
‫وهذه ثورهتم ومسامهتهم احلقيقة‪ .‬اما ثورة تغيري النظام واحلكم‬
‫فهذه غالبا ما ينتج عنها دكتاتورية مقيته وبحور من الدماء‪.‬‬

‫اما الــدول ذات العصبية االجيابية فال ســبيل لثورة شــاملة‬


‫فهذه الــدول ونتيجة النتهاج منهج العقل والنقــد البناء والبناء‬
‫الدستوري وبالتايل ال يقودها حزب أوحد أو زعيم رضورة ليثور‬
‫عليه الناس‪ .‬هذه الدول يف حالة ثورة تصحيحه مستمرة يشرتك‬
‫فيها اجلميع‪ .‬لذا تراها يف حال نقاش دائم حول مواضيع متعددة‬
‫ويتم انتخاب الناس عىل اساسها مث ً‬
‫ال تدريس الدين يف املدارس‬
‫والرضائب واالجهاض اليــوم يف امريكا‪ .‬كل يشء يف هذه دول‬
‫يدخل يف حلبة النقاش واحلوار والقانــون الذي قد يتغري بتغيري‬
‫اهواء الناخبني‪ .‬بالنتيجة سياسية فرض االرادات وقمع املختلف‬
‫ليســت من ثقافتهم وبالتايل ال سبيل لثورة الشاملة يف صفوفهم‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫فالديمقراطيــة يف هــذه الدول متثل ثورهتا البيضــاء حيث يبدل‬


‫الشعب حكامه بواسطة االنتخاب حينا بعد حني(((‪.‬‬

‫الدول واملواطنة‪:‬‬
‫املواطنة والوطنية من أكثر التعابري التي تم توظيفها بالضد من‬
‫مصلحة الوطن واملواطن حتى قتل عىل اعتباها املاليني من البرش‬
‫بدعاوي خمتلفة منها خيانة الوطن وانعدام الوطنية‪ .‬الســؤال هنا‬
‫ما يعني الوطن وملاذا أنتمي له؟ يقول أبراهيم طوقان الفلسطيني‬
‫الذي أصبح شعره نشيدا للعراق االيت‪:‬‬

‫موطــنــي مــوطــنــي‬
‫اجلـالل واجلـامل والســناء والبهاء‬
‫فـــي ربــاك فــي ربـــاك‬
‫واحلـياة والنـجاة واهلـناء والرجـاء‬
‫فــي هـــواك فــي هـــواك‬
‫فالوطن الذي يطمح الشاعر باالنتامء له مجيل وهبي فيه احلياة‪،‬‬
‫والنجاة‪ ،‬واهلناء‪ .‬اما النشــيد الوطني األمريكي فريدد باستمرار‬
‫عبارة ارض االحرار وموطن الشــجعان‪ .‬اذن احلرية والشجاعة‬
‫هي مميزات الوطن الذي يطمح االمريكيون له‪ .‬الوطن ال يعرف‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪198‬‬

‫‪73‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بحدوده اجلغرافية وانام بمميزاته ولذا نرى يف الدول ذات العصبية‬


‫السلبية غالب ًا ما يعرف الوطن والوطنية بمقدار الوالء للدكتاتور‪،‬‬
‫حيث نجد ان الوطن والقائد قد اندجمــ ًا فالقائد رضورة وامللك‬
‫صاحــب البلد حتى يتســمى الوطن كل الوطن باســم العائلة‬
‫املالكة‪ .‬يتذكر العراقيون شــعار النظــام البعثي‪ :‬اهلل – الوطن –‬
‫القائد‪ .‬وهو شــعار يردده العرب يف معظم دوهلم بتغيري بســيط‪.‬‬
‫أما يف الدول ذات العصبية املتعددة‪ ،‬نجد ان الوطن يتخذ اشكال‬
‫خمتلفة كالقومية واملذهبية وقائد املذهب او القومية وحتى الوطنية‬
‫املتسلطة التي حتاول أن تعلوا (بالشعارات) عىل مجيع العصبيات‬
‫األخرى‪.‬‬

‫أما يف الــدول ذات العصبية اإلجيابيــة الواحدة‪ ،‬فالوطن ال‬


‫يظهر بشــكل قومية أو مذهــب أو قادة وأشــخاص‪ ،‬أنام يظهر‬
‫بشــكل القوميات واملذاهب وبقية العصبيات ككل‪ .‬الوطن هنا‬
‫احــرم القوميات واملذاهب املختلفــة ألبنائه فأصبح هو األعىل‬
‫ألنه هو الضامن‪ .‬لذا يالحظ ما ييل(((‪:‬‬

‫«أن الغربــن يغلبــون انتامئهــم اىل وطنهــم وبلداهنم عىل‬


‫االنتامءات الدينيــة واخلصوصيات الثقافيــة‪ ،‬فيام يعاملوننا‪،‬‬
‫بالعكس‪ ،‬أي عىل أساس االنتامء الديني والثقايف»‬

‫((( عــي حرب – ما بعد احلقيقة‪ :‬من تزييف احلقائق اىل خلق الوقائع – الدار العربية‬
‫للعلوم نارشون – الطبعة االوىل ‪ 2018‬ص ‪86‬‬

‫‪74‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫لألســف األســتاذ املفكر عيل حرب يعلل سبب هذا االنتامء‬


‫املختلف يف بلداننا اىل القفز فوق الواقع والتعاطي معه من خالل‬
‫الذاكرة املتأزمة والقوقعة الرتاثية‪ .‬باحلقيقة هذا النوع من التعليل‬
‫يتشــابه به عيل احلرب مع اغلــب مثقفينا الذيــن يتعاملون مع‬
‫املشاهدات من خالل ذاكرهتم املتأزمة‪.‬‬

‫باعتقادي‪ ،‬هذا التعليل خالف الواقع فهذا التعامل مع الوطن‬


‫يف بلداننا ليس قفز عىل الواقع وانام هو رد فعل مبارش عىل الواقع‪.‬‬
‫شــعوبنا ال تتمتع بذلك الرتف لترتك الواقــع وتبني انتامئها عىل‬
‫ذاكرة متأزمة‪ .‬باحلقيقة هذه الشــعوب خربت من جتارهبا اليومية‬
‫يف بلدان العصبية السلبية والعصبيات املتعددة ان ما ينقذها ليس‬
‫الشــعارات وانام االنتامء للقومية او املذهــب او احلزب القائد‪.‬‬
‫باحلقيقة هذه الشــعوب حتتــاج اىل الكثري من العمــل والتغيري‬
‫احلقيقي عىل ارض الواقع لتبدل نظرهتا نحو الوطن وجتدد انتامئها‬
‫له‪ .‬القفز عىل الواقع هو أن نتوقع من شعوب تعيش الدكتاتورية‬
‫او خرجت للتو من الدكتاتورية ان تقدم انتامء الوطن عىل انتامئها‬
‫الفئوي الذي احتوها ومحاها لعقود‪.‬‬

‫االنتامء حتققه عدة عوامل يمكن تلخيصها ب نظرية ماســلو‬


‫لالحتياجات((( وهي نظرية واسعة االنتشار ضمن علم االجتامع‬

‫‪(1) Maslow's Hierarchy of Needs‬‬

‫‪75‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫واإلدارة‪ .‬تتلخــص النظريــة يف أن االنســان لديــه احتياجات‬


‫فسيولوجية (التنفس واملاء والنوم والزواج)‪ ،‬احتياجات األمان‬
‫(الســامة اجلســدية واألمان االرسي والصحــي والوظيفي)‪،‬‬
‫احتياجات اجتامعيــة (الصداقة والعالقات االجتامعية)‪ ،‬احلاجة‬
‫للتقدير (اهليبة واملكانة والثقة و الشعور)‪ ،‬وأخريا حتقيق الذات بام‬
‫يتضمنه ذلك من حرية التعبري والتفكري‪ ،‬انظر شكل رقم واحد‪.‬‬
‫من الواضح أن مجيع هذه االحتياجات هي بيد السلطان هيبها ملن‬
‫يشــاء وينزعها ممن يشاء يف الدول ذات العصبية السلبية الواحدة‬
‫ما عدا حريــة التعبري والتفكــر فهي من املحرمات إذا مســت‬
‫الســلطان‪ ،‬ولكنها مضمونة للجميع اىل حــد ما يف الدول ذات‬
‫العصبية املؤسســاتية ولذا ينتمي أبنائهــا وبفخر أليها ويدافعون‬
‫عنها وهياجر اليها الناس لتصبح وطن هلم‪.‬‬
‫االنتامء والتضحية يف سبيل الوطن ال يأيت ولن يأيت من فراغ‪،‬‬
‫حيــث ال جيوز لنا ان نتوقع ان تنتمــي الناس وتضحي من اجل‬
‫دول عســكرية دكتاتورية جعلت احليــاة جحيم ال يطاق بحجة‬
‫الوطن والوطنيــة‪ .‬الوطن ال كيان اعتباري لــه وانام يمثل نظام‬
‫الدولة ومؤسساهتا وقيمها‪ .‬لذا مل يدافع الشعب عن نظام القذايف‬
‫وصدام واضطر األســد لالســتعانة بحلفائه من خارج احلدود‪.‬‬
‫يؤكــد امللك فيصل األول ان الوطنية الصادقة لكي تتكون حتتاج‬
‫اىل معاجلــة العوامــل املفرقة ردح ًا من الزمــن وبجهود متامدية‬

‫‪76‬‬
‫البداوة واحل�ضارة‬

‫وبنزاهة كاملة(((‪ .‬لذا من حقنا ان نســأل عن نوع احلشيش الذي‬


‫يتعاطه من كتب االيت يف جريدة الصبــاح العراقية يف عام ‪2007‬‬

‫بحيث جعل الوطن كائن يؤذي ويتأذى‪:‬‬


‫«الوطن هو العــراق الذي مل يؤذ أبنــاؤه‪ ...‬ولكن أبناؤه هم‬
‫الذين سحقوه‪ ..‬أنه ال خالف له مع أي من أبنائه‪ ،‬ولكن ابناءه‬
‫هم من سحق بعضهم االخر»‬

‫شكل رقم واحد‪.‬‬


‫العوامل التي جيب توفرها يف الوطن ليدافع عنه الناس وينتمون اليه‬

‫((( مذكرات جعفر العسكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص ‪195‬‬

‫‪77‬‬
‫الباب الثاين‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫ْ َ ْ ٌ َ َ ُ ْ َّ َ َ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َف َخ َل َ‬
‫ٱلصل ٰوة َوٱت َب ُعوا‬ ‫ف ِمن ب ْع ِد ِهم خلف أضاعوا‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫ٱلشه َ ٰو ِت ف َس ْوف يلق ْون غ ًّيا‬
‫(مريم ‪)59 -‬‬

‫ْ‬ ‫ُ ْ ّ ْ‬
‫جوارحهم‬ ‫ال وإن صلت‬ ‫فما تز‬
‫ْ ْ ُ َ َ َ َُ‬
‫ترىع رسائرهم أن يعبد الصنم‬
‫الشاعر بدر الدري ــع‬

‫‪79‬‬
‫الو�ضع العراقي‪:‬‬
‫العراق حتى وقت كتابه هذه السطور دولة ذات عصبيات متعددة‬
‫انتقل حديثا من دولة ذات عصبية سلبية واحده‪ .‬االنتقال من الدول‬
‫ذات العصبية الســلبية الواحدة اىل الدول ذات العصبيات املتعددة‬
‫حيتاج اىل ثورة شــعبية كالتــي حدثت يف إيران ومــر أو تدخل‬
‫خارجي كام حدث يف العراق وأفغانستان وليبيا‪ .‬اعتقد انه ال بد من‬
‫الوقوف عىل ما حدث يف إيران ومرص ففــي بداية الثورة االيرانية‬
‫كان النظام ذو عصبيات متعددة‪ ،‬ولكن رسعان ما تراجع النظام اىل‬
‫نظام ذو عصبية واحدة (واليــة الفقيه) وكذلك ما حدث يف مرص‬
‫عندما عادت دكتاتورية العســكر‪ .‬سبق وأرشنا اىل ان الدول ذات‬
‫العصبيات املتعددة تعيش مرحلة انتقالية او متأرجحة ما بني الدول‬
‫ذات العصبية السلبية الواحدة والدول ذات العصبية اإلجيابية‪ .‬عىل‬
‫صعيد اخــر‪ ،‬فأن الدول ذات العصبيات املتعــددة أو الدول ذات‬
‫العصبية السلبية الواحدة قد تنتقل اىل عصبية سلبية واحدة جديدة‬
‫كنتيجة النقالب عســكري او انقالب حزيب مدعوم من املنظومة‬
‫العسكرية أو منظومة خارجية أو حتى مظاهرات شعبية غري خمطط‬
‫هلا بدقة‪ ،‬أفغانســتان مث ً‬
‫ال بعد االنســحاب األمريكي ومرص بعد‬
‫انقالب السييس‪.‬‬

‫العصبيات بشكل عام تبنى عىل ضامئر الناس وعواطفهم ال عىل‬


‫أســاس عقيل ومنطقي وبالتايل حتتل مكانة سامية ومهية وغري حقيقة‬

‫‪81‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يف عقول النــاس‪ .‬األوهام والعواطف تكون ســيدة املوقف نتيجة‬


‫النعدام حرية التفكري والنقاش احلر املفتوح‪ .‬بالنتيجة ما دام املجتمع‬
‫ال يتبنى حرية التفكري والنقاش فأن عملية التغيري يف النظام احلكومي‬
‫مأ هي اال عملية اســتبدال صنم ب صنم أو عصبية ب عصبية وان‬
‫كان التغيري نتيجــة النتخابات ديمقراطية او ثــورة مجاهريية‪ .‬فمن‬
‫اخلطــأ القول ان احلالة العامة للدولة قــد تغريت بمجرد ان تغريت‬
‫عصبيــة الدولة او صنمها‪ .‬احلالــة العامة لن تتغــر أال إذا تغريت‬
‫وتبدلت القوانني واألنظمة والثقافة العامة‪.‬‬

‫تتحدث إليزابيث فرينيا صاحبة كتاب «ضيوف الشــيخ» وهي‬


‫دراسة ألحد قرى الديوانية يف هناية العهد امللكي يف العراق عن جابر‬
‫املهندس الوحيد يف القرية (((‪ .‬كان جابر شــيوعي ويســعى لتحقيق‬
‫االزدهار الصناعي والعمراين عن طريق االطاحة ب نوري ســعيد‬
‫وحكومته‪ .‬كان جابر غالبا يبرش بتحقيــق ثورة صناعية وزراعية يف‬
‫العراق مماثلة لتطور الزراعي والتكنولوجي يف الغرب‪ ،‬ولكن زوج‬
‫السيدة إليزابيث خيربه بان التطور يف الغرب مل حيدث عن طريق ثورة‪،‬‬
‫ولكن حدث بشكل بطيء وتدرجيي وهو ما حيتاجه أي تغيري جذري‬
‫ومستدام‪ ،‬ولكن جابر رفض هذه الفكرة وبني ان العراق بحاجة اىل‬
‫تغيري رسيع‪« :‬أال ترى حالة الفالحني وجوعهم وحاجتهم اىل العناية‬

‫‪(1) Elizabeth Fernea – Guests of the Sheik - Anchor Books – Doubleday‬‬


‫‪P. 282‬‬

‫‪82‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫الطبية»‪ .‬يسرتســل جابر يف احلديث حيث يبــن أن الديمقراطية لن‬


‫تنفع الفالحيني‪ ،‬وانام الشــيوعية ونظريتها يف امكان تغيري اجتامعي‬
‫رسيع هي احلل املناســب لتحقيق ما حيتاجه العراق من أقامه النظام‬
‫وبنــاء املدارس واملعامل واملستشــفيات والناس ســيتغريون‪ .‬تبني‬
‫الســيدة إليزابيت ان هذا هو اجلو الذي كان ســائد يف ذلك الوقت‬
‫حيث تتكلم عن أحد زعامء القبائل يف الديوانية الذي أخرب زوجها ان‬
‫النظام الشيوعي يف روسيا حقق ما حققه الغرب من التطور والتقدم‬
‫خالل أربعني سنة فقط ولذلك فأن النظام الشيوعي هو األفضل وأن‬
‫كان شمويل ألنه أرسع من األنظمة الديمقراطية التي احتاجت عقود‬
‫طويلة‪.‬‬

‫هكذا اســتبدل العراقيون النظام امللكــي املعلول بثورات عقيمة‬


‫بســبب رغبتهم يف احداث تغري رسيع وهــو ما ال يمكن أن حيدث‪.‬‬
‫حيــث إن كل مــا متكن جابر من فعلــه هو انه خلع عبــاءة زوجته‬
‫وجعلها تثقف بنات قريتها عىل خلع العباءة واليوم بعد ما يقرب من‬
‫ثامنون سنة من العذاب والدمار ما زلنا ندور يف نفس الدوامة يف حني‬
‫ان امريكا تقدمت بشــكل ملحوظ وبطيء يف جمال حقوق االنسان‬
‫ومنــح حرية التصويت للنســاء واهناء الفصــل والتمييز العنرصي‬
‫وغريها من التغيريات االجتامعية املهمة خالل نفس الفرتة بشــكل‬
‫بطيء وتدرجيي ومســتدام‪ .‬ينقل ساطع احلرصي عن مس بيل قوهلا‬
‫«االمور جيب ان تسري بالتدريج‪ ...‬ياواش ياواش‪ ..‬ألن اليش الذي‬

‫‪83‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يكتسب برسعة يضيع برسعة‪ ...‬كل يشء‪ ،‬كل اصالح‪ ،‬جيب ان يتم‬
‫بالتدريج»‪ .‬يبدو ان الكثريين وبعد أكثر من قرن من مقولة مس بيل‬
‫مازالوا يعتقدون ان اإلصالح ممكن يأيت برسعة وبليلة وضحاها وان‬
‫القضية ال تتجاوز كبسة زر لالنتقال من وضع اىل اخر‪.‬‬

‫هبذه العقليــات الفذة تم ادخال العراق يف انقالبات عســكرية‬


‫شــمولية انتهت بصدام وســقوطه املدوي ألن الشــعب بمتعلميه‬
‫وقادته رفض احلل الصحيــح ألنه بطيء واعتقد باحلل اخلاطئ ألنه‬
‫رسيع‪ .‬طبعا املهندس جابر وزعيم القبيلة مل يروا االحتاد الســوفيتي‬
‫ومل يشــاهدوا ما فعل ستالني بشعبه ومع ذلك قرروا ان جتربة االحتاد‬
‫السوفيتي هي االنجح واالسلم للعراق‪ .‬ولكن حتى ال نجلد أنفسنا‬
‫بقوة‪ ،‬فان الطريق البطيء لتحقيق اإلصالحات وان كان هو الناجع‪،‬‬
‫ولكنه صعب مستصعب‪ .‬يقول غوستاف لوبون هبذا باخلصوص ما‬
‫نصه(((‪:‬‬

‫«أن املهمة األساســية امللقاة عىل عاتق شــعب ما‪ ،‬ينبغي أن‬
‫تكمن يف احلفاظ عىل مؤسســات املايض عــن طريق تعديلها‬
‫شــيئا فشــيئا‪ ،‬وأهنا ملهمة صعبة وشــاقة ويمكن القول بأن‬
‫الرومان يف املايض واإلنكليــز يف احلارض هم وحدهم الذين‬
‫استطاعوا إنجازها»‪.‬‬

‫((( غوستاف لوبون – سيكولوجي اجلامهري ‪-‬مؤسسة اقرا – الطبعة االوىل ص ‪55‬‬

‫‪84‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫جيــب ان ال يغيب عن ذهن القــارئ النبه ان هــذه املهمة ممكنة‬


‫فقط يف الدولة ذات العصبيات الســلبية املتعــددة التي لدهيا حرية‬
‫االنتخابات والتعبــر والنقد‪ .‬أما يف الدول ذات العصبية الســلبية‬
‫الواحدة فال ســبيل للتعديل مــن دون مكرمة من الســلطان وهبة‬
‫الزمان الذي مل ولن يستمع هلموم الناس ومشاكلهم‪ .‬بكل االحوال‬
‫لن تكون مكرمة الســلطان أال حماولة لتلميع صورته وثتبيت ملكه‪.‬‬
‫ميلتون فريدمان ينقل قصة مهمة حدثــت يف بداية تكون الواليات‬
‫املتحدة حيث كانــت ضعيفة وقوانينها غري فاعلة وكذلك مفلســة‬
‫ممــا دفع اجليش االمريكي للتفكري جديا باالنقالب والســيطرة عىل‬
‫مقاليد احلكم وذلك عقب انفصال الواليــات املتحدة عن بريطانيا‬
‫عام ‪ .1776‬حيث اجتمع ضبــاط اجليش االمريكي بحضور جورج‬
‫واشــنطن والذي كان أحــد قادهتم والذي رفــض الفكرة قائال ان‬
‫اجليش قاتل من اجل االستقالل واحلرية وليس من أجل أقامه نظام‬
‫عسكري أو نظام أرســتقراطي‪ .‬االباء املؤسسون عملوا عىل حتجيم‬
‫اجليــش ودوره يف احلياة املدنية وكيف ذلك ادى بالنتيجة اىل التجربة‬
‫األمريكية الفريدة التي مل تنجرف اىل ما انجرفت له الثورات االخرى‬
‫كالثورة الروســية وكيف انتهت بقادة مثل ســتالني والثورة الصينية‬
‫وغريها من الثورات عرب العامل(((‪ .‬متكن جورج واشنطن بحكمته من‬

‫‪(1) Milton Friedman on Freedom, Selections from the Collected Works‬‬


‫‪of Milton Friedman, Hoover Institution Press, Stanford, CA, P.167‬‬

‫‪85‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫دفع عجلة حتسني املؤسسات اىل االمام‪.‬‬

‫هنا قد يقــول أحدهم‪ ،‬النظام احلايل يف العراق فاســد وجيب أن‬


‫يزول‪ .‬باحلقيقة هو نظام فاســد وفاشــل وغري مؤهــل‪ ،‬ولكنه عىل‬
‫األقل ضامن الســتمرار دولة العصبيات املتعددة التي هي الطريق‬
‫الوحيد نحو دولة العصبية اإلجيابية‪ .‬لذا جيب أن يتم تأهيله وحتسني‬
‫األنظمة والقوانني من داخله لضامن أبعاد الفاســدين وحماســبتهم‬
‫ودفع عجلة التحســينات اىل االمام‪ .‬هذا التأهيل والتحسني جيب ان‬
‫يكون من خالل النظام نفســه‪ ،‬مادام يسمح بحرية التعبري واملامرسة‬
‫الديمقراطية‪ .‬أما أزالته من جذوره والبداية من الصفر فهذه مغامرة‬
‫لن تقدم يشء جديد ســوى املزيد من القتل والدماء واالضطرابات‬
‫وقــد ترجع البالد اىل مربع العصبية الســلبية الواحــدة املقيت‪ .‬لذا‬
‫يمكن القول وبثقة تامة أن نظرية «شــلع قلــع» تتناقض مع كل ما‬
‫نعرفــه وتعلمناه من تاريــخ العراق وتاريخ الشــعوب وهي نظرية‬
‫ال تفهم وال تتعامل مع املجتمع وتطــوره التدرجيي البطيء بواقعية‬
‫وبنظرة بعيدة املدى‪.‬‬

‫بدهيية ان التغيريات االجتامعيــة بطيئة وتطورية تبدو عصية عىل‬


‫التقبــل من قبل مثقفينا‪ ،‬فهذا كنعان مكيــة يف كتابه الفتنة وهوامش‬
‫عىل الفتنة يبكــي حظ العــراق العاثر وكيف مل يســتطع ابناءه بناء‬

‫‪86‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫الديمقراطية بعد سقوط الصنم‪ ،‬حيث يقول ما نصه(((‪:‬‬

‫«شعوري بالذنب جتاه األحداث املرعبة يف العراق بعد ‪،2003‬‬


‫وباألخص حجم فشل النخبة السياسية‪ ،.........‬فرض عيل‬
‫كتابة «الفتنة»‪ .‬هذه الرواية التي تتناول بالدرجة األوىل فشــل‬
‫هذه النخبــة يف التعامل مع الفرصة التارخيية والتي ال تأيت أال‬
‫نادرا يف تاريخ الشعوب»‬

‫ما هيمني من هذا االقتباس امران‪ .‬األول‪ ،‬ان الكاتب كان يتوقع‬
‫ان تنجح النخبة السياســية بعد سقوط الصنم يف تكوين دولة تتالءم‬
‫مع أحالمه‪ .‬هكــذا دولة من ال دولة ونظام حكم رشــيد من نظام‬
‫حكــم دكتاتوري‪ .‬بناء عىل أي جتربة سياســية يعتقد الســيد كنعان‬
‫مكية ان العراق بعد الصنم يمكنه بناء دولة ديمقراطية ناجحة خالل‬
‫عقد او عقدين؟ الثاين‪ ،‬ما هي الفرص التارخيية الســابقة التي أتت‬
‫لشعوب أخرى واستغلوها بشــكل سليم بحيث أنتجوا نظام حكم‬
‫رشــيد خالل عقد او عقديــن؟ جيب جتاوز اخلطــاب العاطفي اىل‬
‫اخلطاب الواقعي املبني عىل جتارب ومشــاهدات واقعية ليتسنى لنا‬
‫اصــدار احكام ذات مصداقية‪ .‬مثل هــذه الكتابات ترتكب جريمة‬
‫بحق الشعب ومســتقبل العراق ألهنا تفرتض ان الديمقراطية سهلة‬
‫املنال وكأهنا معجزة تتحقق بليلة وضحاها‪ .‬تصور ان الديمقراطية ال‬

‫((( كنعــان مكية – هوامش عىل كتاب «الفتنة» ‪-‬منشــورات اجلمل – الطبعة االوىل‬
‫‪ 2016‬ص ‪1‬‬

‫‪87‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫تقتيض جهد ًا وان املجتمعات العربية ستستيقظ ذات يوم وجتد نفسها‬
‫وقد نفضت عنها رداء الترشذم والتخلف وانتشــلت نفسها من هوة‬
‫الفرق احلضاري هو خطيئة بحد ذاته (((‪.‬‬
‫فالديمقراطيــة بذرة قبل ان تكون ثمرة‪ .‬صدور مثل هذا الكالم‬
‫عن كاتب بحجم كنعان مكية وهو مؤلف كتب «مجهورية اخلوف» و‬
‫«القسوة والصمت» واحد أعضاء جلنة «مرشوع مستقبل العراق» و‬
‫«جمموعة عمل املبادئ الديمقراطية» مؤرش خطري عىل تدين مستوى‬
‫الوعي بام حتتاجه األمم لتنهض والديمقراطية لتنجح‪.‬‬

‫مل��اذا مل ينت��ج النظ��ام الدميقراط��ي يف الع��راق حكومة‬


‫تلبي الطموح؟‬
‫االنتخابات احلــرة والنزهية هي حجر األســاس واملعيار األول‬
‫الي نظام ديمقراطي‪ ،‬ولكنها ليســت املعيــار الوحيد‪ .‬نعم قد تنتج‬
‫االنتخابات حكومات فاسدة وغري كفؤة‪ ،‬ولكن ال يمكن القول اهنا‬
‫غري ديمقراطية او غــر منتخبة‪ .‬العديد من املعايري األخرى جيب ان‬
‫توجد ألنتاج نظام يعمل بشــكل كفؤ‪ .‬يرى الدكتور عيل الوردي ان‬
‫الــدول احلديثة قد امتازت بأمرين‪ :‬االنتخابــات من ناحية والتقدم‬
‫العلمي مــن الناحية األخرى(((‪ .‬التقدم العلمي هنا يمكن تفســره‬

‫((( جــورج طرابييش – هرطقات عــن الديموقراطية والعلامنيــة واحلداثة واملامنعة‬


‫العربية – دار الساقي –الطبعة الثالثة ‪ 2011‬ص ‪11‬‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪265‬‬

‫‪88‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫باتباع اخر ما توصلت اليه البرشيــة يف املجاالت احلكومية املختلفة‬


‫وكذلك القدرة عىل اســتخدام املنهج العلمــي وخصوصا التجربة‬
‫واخلطأ لتصحيح املســار والتحســن املســتمر لطرق ادارة وتنظيم‬
‫القطاعات احلكومية املختلفة‪ .‬استقدام اخر ما توصلت اليه البرشية‬
‫امر جيد ومستســاغ‪ ،‬ولكنه ناقص ما دامــت القدرة عىل التصحيح‬
‫والتحسني مفقودة‪.‬‬
‫االنتخابــات احلرة جيــب ان ترتافق مع حتقيــق التقدم يف كافة‬
‫املؤسســات كاملؤسســة القضائية االقتصادية وقطاع خاص فعال‬
‫ومؤسســات إعالمية تثقفيه حرة تنقــل احلقيقة كام هي وليس كام‬
‫حيب املمــول او صاحب القناة‪ .‬باإلضافــة اىل ضامن حرية الفكر‬
‫والنقــاش والتظاهر والتعبري دســتوريا وقــوة القانون يف ضامن‬
‫احلريــات عىل ارض الواقع‪ .‬جيب إدراك ان مجيع هذه املعايري ختدم‬
‫الدول احلرة وتشذب جتربتها عرب الزمن فاالنتخابات احلرة وحدها‬
‫مل متنح حق االنتخاب للسود والنساء ومل تنه العبودية يف أمريكا ومل‬
‫تنه الفصل العنرصي يف جنوب افريقيا ومل متنع استيطان اليهود يف‬
‫فلسطني عىل حســاب املهجرين من أبناء البلد‪ .‬االنتخابات احلرة‬
‫هي الضامنة الســتمرار عجلة التحسينات لالنتقال اىل دولة ذات‬
‫عصبية إجيابية واحد‪.‬‬
‫االنتخابــات احلرة وحدها ال تعنــي ان البلد انتقــل اىل الدول‬
‫الديمقراطية احلرة املتطورة‪ .‬فهم هذه اجلزئية مهم جد ًا لفهم التجربة‬

‫‪89‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫العراقية يف وضعها احلايل فاالنتخابات وحدها ال تبني دولة عرصية‬


‫وال تنتج حكومة كفؤة‪ .‬عدم فهم هذه اجلزيئة يؤدي باجلامهري النتقاد‬
‫التجربة العراقيــة باملطلق مــن دون أدراك ان التجربة ما زالت قيد‬
‫التكوين والديمقراطية مازالت بحاجة لبقية املعايري لقطف ثامرها‪.‬‬

‫االنتخابات احلرة قد تأيت بأغبى الناس واكثرهم فسادا وعنرصية‬


‫وإجراما اىل السلطة يف ظل غياب املعايري االخرى‪ ،‬آمل تأيت ب هتلر يف‬
‫آملانيا ومريس يف مرص و ترمب يف أمريكا‪ .‬هذه مشــكلة الديمقراطية‬
‫الكــرى والتي يبــدو ان ال حل هلا يف األفق القريــب وجيب تقبلها‬
‫كمشكلة أساسيه جيب التعايش معها‪ .‬هذه املشكلة دفعت مفكر كبري‬
‫كعيل رشيعتي لرفض الديمقراطية مجلة وتفصيال واستبداهلا بالقيادة‬
‫الثورية ((( وهو رأي مشابه لرأي حممد عبدة وغوستاف لوبون الذي‬
‫يعتقــد ان احلضارات بنيت من قبل ارســتقراطية مثقفة قليلة العدد‬
‫ومل تبن ابدا من قبل اجلامهري‪ ،‬فاجلامهري يف نظر غوســتاف لوبون ال‬
‫تستخدم قوهتا أال يف اهلدم والتدمري والتأسيس للفوىض(((‪.‬‬

‫يــرد الدكتور عيل الــوردي قصه من قصص ثــورة العرشين‬


‫حــدث يف الكوفة حيث يبني ان الثوار متكنوا من غنم مدفع عيار ‪18‬‬

‫رطل وقرروا اســتخدامه ضد احلامية اإلنكليزية حيث قرر الضباط‬

‫((( عيل رشيعتي – األمة واالمامة – دار األمري – الطبعة الثانية ‪ 2007‬ص ‪218‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – سيكولوجي اجلامهري ‪-‬مؤسســة اقرا – الطبعة األوىل ‪2015‬‬
‫ص‪9‬‬

‫‪90‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫املنتمون للثورة وضع املدفع عــى بعد ميلني من احلامية حتى يكون‬
‫بعيدا عن هدفه بمسافة كافية الستهداف احلامية حتى ال يكون هدفا‬
‫ســهال لنرياهنا‪ .‬اخذت الشكوك تســاور نفوس اجلامهري وانطلقت‬
‫االشــاعات التي تتهم الضباط بأهنم عمــاء لإلنكليز حتى اضطر‬
‫الشــيخ فتح اهلل االصفهــاين‪ ،‬من كبار مراجع الشــيعة‪ ،‬جتاه ضغط‬
‫الرأي العام اىل ارسال وفد لدراسة االمر مع الضباط وبالنتيجة نقل‬
‫املدفــع حتت ضغط الرأي العام اىل موقــع جديد مقابل احلامية التي‬
‫قذفته بوابل من الرصاص وعطلته بعــد ان قتلت من كان حوله(((‪.‬‬
‫هــذه احلادثة تبني بوضوح أن اجلامهري جاهلة وحتركها االشــاعات‬
‫وخصوصا تلكم املاسكة للشارع منها والتي يعرتهيا الغضب برسعة‬
‫وقد تتحول اىل قوة مدمرة ال تســمع لذوي االختصاص يف حلظات‬
‫ألن الشارع غري مســيطر عليه باي شكل من االشكال‪ .‬وعندما يقع‬
‫الفأس بالرأس يتربا اجلميع مــن الدمار والتخريب فاجلامهري بنهاية‬
‫اليوم ال يمثلها أحد‪.‬‬

‫التقيت مرة بمفكر تونيس اثناء زياريت لتونس بعد ما يقرب السبع‬
‫سنوات من نجاح الثورة التونســية‪ ،‬حيث كان الوضع االقتصادي‬
‫أسوء مما كان عليه يف عهد الدكتاتور بن عيل والناس متذمرة‪ ،‬ولكن‬
‫هذا املفكر قال يل لن أقايض حريتي ب يشء‪ .‬يف نفس الوقت‪ ،‬قال يل‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العراق احلديث – اجلزء اخلامس ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪354‬‬

‫‪91‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ان الديمقراطية ال تنتج قيادة ونواب قادرين عىل تلبية طموح الشعب‬
‫وهذه مشــكلة عاملية وجيب االنتقال ملرحلة ما بعد الديمقراطية‪ .‬ما‬
‫هي مرحلة ما بعد الديمقراطية؟ ال أحد يعرف‪.‬‬

‫بالتأكيــد هذه اآلراء جتمع عىل ان تفاهة رأي اجلامهري وســهولة‬


‫توجيهه باجتــاه خيدم أصحاب املــال والتأثري ال أصحــاب الثقافة‬
‫والعقــل‪ .‬بالنتيجــة‪ ،‬االنتخابات وحدها ال تضمــن حكومة نزهية‬
‫وخادمة جلميع أطياف الشعب إذا مل تكن حرية الفكر والتعبري وبقية‬
‫املعايري هدف أســايس للحكومة‪ .‬االنتخابات وحدها ليست كافية‬
‫ألنتاج ديمقراطية فعالة ومتقدمة بدون حرية الفكر والتعبري‪ .‬غياب‬
‫حرية الفكر والتعبري تؤدي بالنتيجة النتخاب اشخاص وأحزاب عىل‬
‫أسس قومية او مذهبية او فئوية‪ ،‬أمل يدعوا فائق الشيخ عيل العركجية‬
‫النتخابه‪ .‬بالتأكيد تبقى االنتخابات هي احلل األمثل ألهنا متثل رأي‬
‫اجلامهري باملجمــوع وهو أفضل بالتأكيد مــن رأي رشحية معينة من‬
‫اجلامهري او رأي دكتاتور كام سيتم توضيحيه يف السطور القادمة‪.‬‬

‫الدميقراطية يف العراق اليوم �شر ال بد منه‪:‬‬


‫نعــم الديمقراطية اليــوم يف العراق رش‪ ،‬ولكنهــا رش ال بد منه‬
‫لالنتقال اىل مصايف الدول املؤسســاتية احلرة وال ســبيل غريه‪ .‬هي‬
‫ديمقراطية ممسوخة كام يســميها الدكتور عيل الوردي وهي رضورة‬

‫‪92‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫لالنتقال من طور االســتبداد اىل طور النضــوج فهي كاملخاض (((‪.‬‬


‫اشــار الدكتور الوردي يف ســتينيات القرن املايض اىل أمهية أن يعي‬
‫العراقيون أمهية الديمقراطية الهنم شعب متعدد القبائل والطوائف‬
‫والقوميات وليــس هناك طريقة افضل مــن الديمقراطية وبخالفه‬
‫فاالنشقاق واالختالف والرصاع سيسود(((‪.‬‬

‫هناك من يردد عبارات ان الديمقراطية حتتاج اىل شــعب مثقف‬


‫وواع ونحن شــعب ال يتميز هبذه الصفات وبالتايل الديمقراطية ال‬
‫تنفــع العراقيني وال بــد من نظام دكتاتوري يقوده شــخص نظيف‬
‫وغريها من املهاترات التي ال تصمد امام ابســط حتليل‪ .‬هذا التفكري‬
‫املثايل واملدينة الفاضلة قد اكل عليه الزمان ورشب‪ .‬الفارايب يف كتابه‬
‫أراء املدينة الفاضلة يضع ‪ 12‬رشط جيب ان تتوفر يف الرئيس الفاضل‬
‫وهي رشوط تعجيزية ال يملكها حتــى مالئكة اهلل املقربني وبالتايل‬
‫الفكرة من أساســها عقيمة‪ .‬فكرة أننا بحاجة اىل شعب واعي لبناء‬
‫الديمقراطية هي عقيمة ايضا‪ .‬فكيف يمكن او متى تم بناء شــعب‬
‫مثقف وواعي حتت ظل نظام دكتاتوري‪ .‬االنظمة الدكتاتورية حتطم‬
‫اي ثقافة واي وعي يتعارض معها‪.‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪80‬‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العراق احلديث – اجلزء اخلامس ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪415‬‬

‫‪93‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫أنا دائــا أخرب طلبتي يف اجلامعة ان ما أدرســكم اياه ال يؤهلكم‬


‫لتكونوا مهندســن عنــد التخرج وانام يؤهلكــم لتكونوا متدربني‪.‬‬
‫مل تصبحوا مهندســن حتى تعيشــوا الواقع وتتعلمون من العاملني‬
‫واملهندسني يف مواقع العمل لتكسبوا اخلربة‪ .‬اخلربة هي التي جتعلكم‬
‫مهندسني ولست انا‪ .‬البعض يريد من الشعوب ان تصبح قادرة عىل‬
‫ممارسة الديمقراطية بليلة وضحاها بعد ان يتم تثقيفها نظريا بكتاب‬
‫أو كتابني وهذا رضب من اخليال‪.‬‬

‫لذا ال يمكن االنتظار حتى يبلغ الشعب مستوى مقبول من الوعي‬


‫حتى نطبق الديمقراطيــة النه بدون تطبيق الديمقراطية ال يمكن ان‬
‫يصل الشعب للمســتوى الوعي املطلوب‪ .‬الوعي ال يأيت من خالل‬
‫التنظــر وانام من خالل التطبيق واملامرســة العملية بــا يرافقها من‬
‫سيئات وفساد ومشاكل اخرى‪.‬‬

‫النظام الديمقراطي الناقص عىل عالته هو احلل الوحيد للعراقيني‬


‫اليوم والضامن ألنتقاهلم اىل مصايف الــدول املتقدمة والديمقراطية‬
‫فهو السبيل الوحيد لتحقيق الوعي والثقافة الالزمة لبناء جمتمع مدين‬
‫لعدة أسباب‪ ،‬امهها‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬لألسف ما من جتربة لدينا تثبت لنا صحة احللول‬


‫األخرى مثل القيــادة الثورية او الطليعة األرســتقراطية‬
‫املثقفــة‪ ،‬بالعكس كل التجارب العاملية لليوم تثبت ان هذا‬

‫‪94‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫احلل ينتج عنه نظام دكتاتوري‪ .‬باإلضافة اىل أن تبني فكرة‬


‫القيادة الثورية أو املثقفة مشكلة هلا عواقب أكرب يف الدول‬
‫التي ال تتمتع باحلرية الدستورية (الدول ذات العصبيات‬
‫املتعددة)‪ ،‬فقد تؤدي اىل انحدار الدولة اىل مستوى الدول‬
‫ذات العصبية السلبية الواحدة عن طريق انقالب عسكري‬
‫كام يف مرص‪ ،‬او سيطرة املنتخب عىل احلكم بالقوة كام فعل‬
‫هتلر‪ ،‬أو ســيطرة أحد افراد القيادة عــى القيادة بعد قتله‬
‫املعارضني كام فعل صدام عام ‪.1979‬‬

‫السبب الثاين‪ :‬االنتخابات متثل احلالة الوحيدة التي يمكن سامع‬


‫رأي الشــعب بشــكل كيل‪ .‬الثورات واالنقالبات غالبا‬
‫ما متثل رأي رشحية معينة كــرت أم صغرت‪ .‬مثاهلا ثورة‬
‫الشــعب اإليراين عندما صادرها اإلســاميون (الطليعة‬
‫القيادية بحســب فكــر عىل رشيعتــي) انتقلت من حكم‬
‫اجلامهري اىل حكم رشحية‪ .‬ثورة ترشيــن يف العراق مل متثل‬
‫كافة أطياف الشــعب كــا مثلتها االنتخابــات‪ .‬عل ًام ان‬
‫الرشائــح املختلفة غالبا ما تكون مقيــدة بأجندة حمددة او‬
‫بقائــد رضورة‪ ،‬التيار الصدري يف الربملــان واملظاهرات‬
‫مث ً‬
‫ال ال رأي وال شــخصية له وهو يمثــل رأي مقتدى بام‬
‫فيه من إجيابيات وســلبيات‪ .‬لذا الســاح بسيطرة رشحية‬
‫مهام كربت او صغــرت هو مقدمة لنظــام الرأي الواحد‬

‫‪95‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫وهذا مــا ال يمكــن ان تنتجه االنتخابــات العامة‪ .‬حتى‬


‫من ال يشــارك باالنتخابات يســمع صوته ويقال ان نسبة‬
‫معينة من املؤهلني لالنتخابات مل يشــاركوا‪ .‬الديمقراطية‬
‫نظام مبني عىل التنازع وهــي ال تؤمن باحلق املطلق وهي‬
‫كذلك ال تقنع باحلجج املنطقية التي يديل هبا مجاهري مجاعة‬
‫معينة فهــي ال تؤمن أال باألصــوات(((‪ .‬حتى ينجح هذه‬
‫التنازع او لنقل التــوازن جيب ان نلتزم طريق االنتخابات‬
‫ألهنا وحدها التي تضمن ســاع مجيع الرشائح وليس فقط‬
‫الرشحية ذات الصوت العايل او القسوة املفرطة‪ .‬لذا تعترب‬
‫االنتخابــات العدو األول ملن يعتقد انه يملك القابلية عىل‬
‫بناء جمتمع ســليم وان كان يمتلك قاعدة شعبية ألهنا حتد‬
‫من قدرته عىل السيطرة والتحكم ولذا يتم التالعب هبا او‬
‫رفضها كام يف الصني وروسيا وقد يتم استخدامها كوسيلة‬
‫للوصول اىل الســلطة ومن ثم يرمى هبا عرض احلائط كام‬
‫فعلت محاس يف غزة والسييس يف مرص‪.‬‬

‫السبب الثالث‪ :‬ال خيفى عىل القارئ الفطن ان السري خلف رشحية‬
‫واحدة مهام كــرت وفضلت يف بلد ال يتمتع باالنتخابات‬
‫احلرة هــو كارثة بكل املقاييس الن هــذه الرشحية تفرض‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪78‬‬

‫‪96‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫رؤيتها وترفض االنتقاد والتصحيح‪ .‬فاالنتقاد والتصحيح‬


‫يف نظرها ال يصدر أال عن حاقد أو عميل ال جيب االلتفات‬
‫لــه‪ .‬بالنتيجة فأن اخلطأ الذي ســيصدر عن هذه الرشحية‬
‫سوف يرض اجلميع وسيتحول اىل جزء من منظومة احلكم‬
‫ولنا يف جتربة البعث مثال‪ .‬يف حني أن األحزاب والرشائح‬
‫الغري قادرة عىل إدارة املجتمع يتم فرزها وتعديل اخطائها‬
‫عن طريق االنتخابات التي ال تسمح هلم بالصعود أو عىل‬
‫االقل تقلل من نسب فوزهم نتيجة ألدائهم الغري مريض‪.‬‬
‫االنتخابات كفيلة بجلــب أفكار جديدة لتجاوز األخطاء‬
‫التي تم تشخصيها او عىل األقل حماولة التقليل من اثارها‪.‬‬

‫السبب الرابع‪ :‬االنتخابات بام متثله من فرصة لسامع كافة الرشائح‬


‫واالصوات متثل احلالة الوحيدة التي يمكن الوصول اىل ما‬
‫يســمى حكمة اجلامهري‪ .‬يؤكد جيمس سورويكي يف كتابه‬
‫حكمة اجلامهري انه حتت ظروف معينة فان اجلامهري تستطيع‬
‫اختاذ قرارات عــى درجة عالية من املصداقية والكفاءة قد‬
‫تفوق مصداقية وكفاءة اخلرباء والتكنوقراط (((‪ .‬الرشوط‬
‫هي االستقاللية والتنوع والالمركزية ووجود قانون حاكم‬
‫(الدســتور)‪ .‬من الواضح ان هذه الــروط معدومة يف‬

‫‪(1) James Surowiecki – The Wisdom of Crowds – Anchor Books, New‬‬


‫‪York- 2005 P. XIX‬‬

‫‪97‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الدول ذات العصبية السلبية الواحدة ومتحققة ولو جزئيا‬


‫يف الــدول ذات العصبية املتعددة ان ألتزمت بالدســتور‬
‫ومتحققة كليا يف الدول ذات العصبية اإلجيابية الواحدة‪.‬‬
‫االســتقاللية معناه ان تكون اجلامهري حرة ومســتقله يف تفكريها‬
‫وقادرة عىل التفكري بشــكل مستقل ولو نسبيا عىل املستوى الفردي‪.‬‬
‫وطبعا هذا غري متحقق يف الديمقراطيات الناشــئة ذات العصبيات‬
‫املتعــددة الن اجلامهري يف هــذ الدول مل تتعود عــى التفكري الفردي‬
‫وانام عىل االنقياد‪ .‬التنوع معناه ان يشــرك اجلميــع يف االنتخابات‬
‫وال تقتــر عىل اتباع حزب واحد او تيــار وهذا متحقق نوع ًا ما يف‬
‫الدول ذات العصبيات املتعددة‪ .‬والالمركزية تعني ان ختتار اجلامهري‬
‫مرشحيها بحرية ال عن طريق تزكية رئيس التيار او طائفة او قومية‪.‬‬
‫الالمركزية تعني بالرضورة عدم وجود توجيهات مركزية النتخاب‬
‫حزب او شــخص دون غريه‪ .‬طبعا هــذا ال يتناقض مع التوصيات‬
‫التي قد تصدر من قبل الثقات عــى ان ال تتجاوز التوصيات كوهنا‬
‫توصيات ويبقى لألفراد حق قبوهلا او رفضها‪.‬‬
‫الديمقراطيــة يف العــراق بحاجــة اىل مزيد مــن الديمقراطية‬
‫إلخراج اجلامهري من قيودها القومية والطائفية والعشائرية واملناطقية‬
‫وتقليل ثقافــة اجلهل واالنعزال التي انتجتهــا عقود الدكتاتوريات‬
‫والتســلط‪ .‬الديمقراطية املصحوبة ب ســقف عايل من حرية الفكر‬
‫والنقد والتفكري احلر ترفع باملســتوى الثقايف واملعريف العام للجامهري‬

‫‪98‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫و يف نفــس الوقت تضمن حقوق القوميــات واملذاهب وغريها من‬


‫اجلامعــات‪ .‬جمتمع حمافــظ كاملجتمع العراقي قــد يتخوف من رفع‬
‫ســقف احلريات والتعبري‪ ،‬حيث إن اول ما قد يتبادر اىل االذهان هو‬
‫رفع سقف احلريات قد يؤدي اىل ترك املجتمع لعاداته وتقاليده التي‬
‫تناقلتها األجيال‪ .‬هذا التخوف باحلقيقة ال أســاس له الن الســلطة‬
‫الترشيعيــة باحلقيقة هي منتخبة من الشــعب وممثله اىل حد ما ألراه‬
‫ومعتقداته وبإمكاهنا ان تشذب القوانني بام يتناسب وعادات املجتمع‬
‫وتقاليده‪ .‬الديمقراطية بحاجة اىل ســلطة قضائية مستقله تضمن ان‬
‫السلطة التنفيذية والترشيعية ال تتجاوز حدودها الدستورية وسلطة‬
‫تنفيذه قادرة عىل ردع هذه املعايري وخصوصا حرية التعبري والتظاهر‬
‫بام يتناســب الديمقراطية والبناء املؤسســايت حيث ال يمكن السامح‬
‫بأي فعالية او نشــاط او تظاهر بالضد مــن الديمقراطية وخمرجاهتا‬
‫واحلريات الدستورية‪.‬‬

‫دور ال�شباب العراقي‪:‬‬


‫الشــباب كانوا عــى الدوام تكتــل اجتامعي مســتقل عن بقية‬
‫التكتالت الطائفية والقومية يف تاريخ العراق احلديث‪ .‬امللك الفيصل‬
‫األول يف مذكرته حول الوضع العراقي يدرج الشباب كقسم مستقل‬
‫اىل جانب الســنة والشيعة واالكراد والعشائر‪ ،‬الخ(((‪ .‬جيب ان يدرك‬

‫((( مذكرات جعفر العسكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص ‪192‬‬

‫‪99‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الشباب ان دورهم كبري يف بناء احلكومة وهتذيب مسريهتا وان كانوا‬


‫خارجها فأفعاهلم هلا تأثري حقيقي وفعال‪ .‬فأن كانت افعاهلم مدروسة‬
‫ومنظومة بدقة فاحلكومة والدولة ستستقر وتتطور باالجتاه الصحيح‬
‫والعكس صحيح‪ .‬ينقل عن االمام عيل قوله عندما سئل عن أسباب‬
‫الفتن يف عهده ومل حتدث يف عهد من سبقوه; فكان رده بأن من سبقوه‬
‫كانوا والة عىل أمثاله وهــو وال عليهم‪ .‬وهذا اجلواب دليل واضح‬
‫عىل أمهية اجلامهري وخصوصا الشباب كتكتل اجتامعي فاعل يف بناء‬
‫دولة مستقرة وقوية‪.‬‬
‫الشــباب العراقي ودوره يف إنضاج التجربة العراقية ورفعها اىل‬
‫مستوى أفضل ال يمكن جتاوزه وال نكرانه‪ .‬الشباب العراقي يمثلون‬
‫أغلبية املجتمع العراقي يف وقتنا احلارض ويف املســتقبل‪ ،‬لذا دورهم‬
‫رضوري لتحســن احلارض وبناء املستقبل‪ .‬عل ًام ان الشباب العراقي‬
‫اليوم غري الشباب العراقي قبل ســقوط الصنم عام ‪ .2003‬الشباب‬
‫اليوم مل يعرف ومل ير القمع والتسلط الدكتاتوري الصدامي وما قبله‬
‫فهو بطبيعته ثائر ال خياف كام كان اجليل الذي سبقه‪ .‬الشباب هم قادة‬
‫اجلامهري وان كانوا غري ممثلني سياســي ًا كام اثبتت احداث ترشين عام‬
‫‪.2019‬‬
‫دور الشباب هو سيف ذو حدين نتيجة الندفاعهم وقلة خربهتم‬
‫والظروف املحيطة هبم‪ .‬الشــباب يشاهدون ما وصل اليه العامل احلر‬
‫من تطور عىل املســتوى الصناعي‪ ،‬االقتصادي‪ ،‬واالنســاين ويرى‬

‫‪100‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫يف نفس الوقت ان مقدراته ومســتقبله مرهون بحكومات فاســدة‬


‫غري كفؤة وغري قــادرة عىل بناء ولو يشء قريب مما يشــاهدونه عرب‬
‫النت‪ .‬هذا الواقع يدفعهم دفعا للخروج للشارع لتعبري عن غضبهم‬
‫ورفضهم ملا جيري وكذلك رغبتهم بالتغيري‪ .‬املشكلة األساسية يف هذا‬
‫االندفاع املربر هو أن األدوات املتوفرة لدهيم غري واضحة فالقنوات‬
‫اإلعالمية ال تقدم ســوى االنتقاد اخلاضع ألهــواء أصحاب القناة‬
‫يف ظل غياب مؤسســات ثقافية وتوعوية حمايدة غري متحزبة‪ .‬لذا ال‬
‫جيد الشــباب الراغب باالنفكاك من واقع ال خري فيه سوى التظاهر‬
‫ــم ُن َو َل تغنِى ِمن جوع ما مل تكن مدروسة‬
‫والشــعارات التي ال تُس ِ‬
‫ْ‬
‫ومقننة بشكل دقيق‪.‬‬

‫التاريــخ والواقع خيربنا انه ال يمكننــا تغيري الواقع نحو األفضل‬


‫بتغيــر الوجوه وانام بالبنــاء من الداخل عن طريــق تدعيم املعايري‬
‫الديمقراطية كاملؤسسات القضائية والترشيعية والثقافية واالقتصادية‬
‫بشكل تدرجيي وبام يســاهم من االستفادة القصوى من االنتخابات‬
‫والتغيري السلمي للسلطة‪ .‬لتحقيق ذلك جيب عىل الشباب االلتفاف‬
‫حول االجندات الواضحة واخلطوات املدروسة ال الشعارات‪ .‬اشار‬
‫الدكتور امحد اجللبي يف لقاء تليفزيوين ان أحد اهم أســباب صفقات‬
‫الفســاد الكربى يف العراق هو اهنيار النظام املحاســبي يف العراق‪.‬‬
‫بام معناه بناء الدول يســتلزم نضوج وحتســن كافة القطاعات وهذا‬
‫ليس عمل فــرد واحد أو جهة واحدة وليــس عمل يمكن امتامه يف‬

‫‪101‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫فرتة زمنية قصرية‪ ،‬لذا مظاهرات تغيري الوجوه لن تغري شيئا مادامت‬
‫املؤسسات ال تعمل بشكل سليم‪.‬‬

‫جيب عىل الشــباب ان يفهم ان الطريق طويل‪ ،‬ولكنهم الركيزة‬


‫األساســية لبناء العراق وقــواه اخلرية وكذلك يا لألســف القوى‬
‫املتخلفة والرشيرة تنظر إليهم وتعتمــد عليهم يف مترير اجندهتا‪ .‬لذا‬
‫من الرضوري عىل الشــباب قبل القيام بأي خطوة ان يدرسوها من‬
‫كل اجلوانب للتأكد من امرين أساسني‪ :‬األول اهنا تدفع بالعراق نحو‬
‫حتقيق املزيد من احلرية الدســتورية فالدستور وقوانينه اهم بكثري من‬
‫االنتخابات ونتائجها الن القوانني حتكم األشخاص وليس العكس‬
‫والثاين جيــب ان تكون مطالبهــم جزئيه وســهله التحقيق ويمكن‬
‫قياسها ببساطة وتكون مركزة عىل القوانني الدستورية وليست عامة‬
‫صعبة التحقيق (مثالً‪ ،‬شــعار نريد وطن‪ ،‬وطن حر وشعب سعيد)‪.‬‬
‫فالسياســية يف الدول املتقدمة هي فن املمكــن يف هناية االمر‪ .‬يرى‬
‫الدكتور عيل الــوردي ان اجلامهري لن تصل اىل األهداف االجتامعية‬
‫التي ينشدوهنا فاحلياة عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع ولوال ذلك‬
‫ملا كان هناك يشء أســمه حضارة او جمتمع(((‪ .‬فاحلزب الذي يناضل‬
‫من اجل العدالة ال يستطيع ان حيقق العدالة حتى إذا وصل اىل منصة‬
‫احلكم فالعدالة املثالية ال يمكن حتقيقها ابدا‪ .‬لذا يعتقد الدكتور عيل‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪77‬‬

‫‪102‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫الوردي ان احلزب املعارض ليس أرشف نفسا وال أسمى من احلزب‬


‫احلاكم وهو عندما يصل اىل احلكم ال يســتطيع ان خيرج عن طبيعته‬
‫البرشية فيصبح مالكا(((‪.‬‬

‫الشــعارات الرنانة مثل الديمقراطية واالشــراكية واملســاواة‬


‫واحلرية يقول عنها غوستاف لوبون ما ييل(((‪:‬‬

‫«معانيها من الغموض بحيث أننا نحتاج اىل جملدات ضخمة‬


‫لرشحها‪ .‬ومع ذلك فأن حروفها متتلك قوة ســحرية بالفعل‪،‬‬
‫كام لو اهنا حتتوي عىل حل لكل املشاكل»‪.‬‬

‫هذا االمر عىل بســاطته ســهل ممتنع‪ .‬فالتاريخ خيربنا ان اجلامهري‬


‫يصعب السيطرة عليها وتوجيها باالجتاه الصحيح‪ ،‬فاغلب الثورات‬
‫واالنتفاضات يف وطننا العريب انتهت بسلطات قمعية مستبدة‪ .‬يذكر‬
‫القيادي البعثي السابق وليد السامرائي يف أحد اللقاءات التليفزيونية‬
‫حول اعتصــام الطلبة يف جامعة بغداد عام ‪ 1962‬بقيادة مقداد العاين‬
‫وعادل عبد املهــدي (رئيس الوزراء الســابق) ووليد الســامرائي‬
‫واخرون‪ .‬حاول عبد الكريم قاســم حل االعتصام بطرق ســلمية‪،‬‬
‫ولكن هــدف املعتصمون كان هتييج الراي العــام واجبار احلكومة‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪77‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – سيكولوجيا اجلامهري ‪-‬مؤسســة اقرا – الطبعة األوىل ‪2015‬‬
‫ص‪68‬‬

‫‪103‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫عىل اعتقــال الطلبة لغرض التهيئة لثورة البعث عام ‪ 1963‬لذا كانت‬
‫مطالبهم تعجيزية‪ .‬هكذا استغل البعث الشباب واندفاعهم يف سبيل‬
‫حتقيق أهدافه واثارة البلبلة يف املجتمع‪ .‬هذا يشــر اىل أمهية ان يتبنى‬
‫الشــباب أجندة واضحة ومطالب ســهلة التحقيق يف ســبيل دعم‬
‫الديمقراطية واحلرية الدستورية يف العراق يف مظاهراهتم وحماوالهتم‬
‫التصحيحية حتى ال تكون النتائج بخالف ما يتمنون‪ ،‬أمل يقل املتنبي‪:‬‬
‫ِ‬
‫جعان‬ ‫أي َق َبل َشجا َع ِة ُ‬
‫الش‬ ‫الر ُ‬
‫َ‬
‫ُه َو َأ َّو ٌل َو ِه َي ا َمل َح ُّل الثاين‬

‫من الســطحية بمكان ان نفرتض أن االعم االغلب من الشباب‬


‫سيكون قادر عىل حتليل األمور من خالل دراسة دقيقة لألوضاع البلد‬
‫وأســباب تدهوره‪ .‬باحلقيقة ان اجلامهري يقودها من له قدرة مالية أو‬
‫إعالمية متكنه من صناعة الرأي العام وهذه أحد عيوب الديمقراطية‬
‫التــي ال تنكر‪ .‬لذا يقرر الدكتور عيل رشيعتي ان الذي يســتطيع ان‬
‫يســتفيد من الديمقراطية وجيرها ملصلحته هو الذي يستطيع صناعة‬
‫الرأي العام (((‪ .‬الواقع ان اآلراء تفرض عىل الشــباب وليست ناجتة‬
‫عن جهد ذهني أو حماكمة عقلية (((‪.‬‬

‫((( عيل رشيعتي – األمة واالمامة – دار األمري – الطبعة الثانية ‪ 2007‬ص ‪206‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – سيكولوجيا اجلامهري ‪-‬مؤسســة اقرا – الطبعة األوىل ‪2015‬‬
‫ص ‪118‬‬

‫‪104‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫اجلامهــر مل تكن يف حياهتا ابدا متعطشــة للحقيقة ألهنا تزعجهم‬


‫لذا يفضلون تأليه اخلطأ‪ ،‬فمن يعرف أهيامهم باخلطب والشــعارات‬
‫الرنانة يصبح سيدا هلم‪ ،‬ومن حياول قشع األوهام عن أعينهم يصبح‬
‫ضحية هلم (((‪ .‬بشــكل عام يمكن القول ان أي حراك غري مدروس‬
‫هدفه تغيري وجوه وليس تطوير قوانني هو حراك مشــبوه ألنه خيدم‬
‫اشــخاص بعينهم وال هيدف لبنــاء الدولة او اقــرار قانون‪ .‬يقول‬
‫الدكتور الوردي إذا جئنا بإنســان تقي فاضل وتسلم مقاليد احلكم‪،‬‬
‫فأننا ســنراه بعد زمن قصري أو طويل قد صار مستبدا ويبني القصور‬
‫وهو يعتقد انه عادل (((‪ .‬هــذا كالم صحيح جدا‪ ،‬ألنه األصل ليس‬
‫باألشــخاص وانام باملنظومة التي تســر االشــخاص‪ .‬أي مسؤول‬
‫حكومي بدون رقابة ومنظومة تسريه بشــكل صحيح ستظهر عليه‬
‫اثار فساد وسوء أدارة فال أحد معصوم‪.‬‬

‫االمر املهــم االخر‪ ،‬أن الشــباب عليهم ان يعــوا ان التغيريات‬


‫احلقيقة اجلذرية تكون بطيئة وتطورية‪ ،‬أما التغيريات السطحية (مثل‬
‫تغيري وزير او حمافظ او تعيني جمموعــة منهم‪ ..‬الخ) فقدت حدثت‬
‫مئات املرات ومل تنتج أي تغيري رئييس‪ .‬اليش الذي يكتســب برسعة‬

‫((( غوســتاف لوبون – سيكولوجي اجلامهري ‪-‬مؤسســة اقرا – الطبعة األوىل ‪2015‬‬
‫ص ‪72‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪71‬‬

‫‪105‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يضيع برسعة‪ ...‬كل يشء‪ ،‬كل أصالح‪ ،‬جيب ان يتم بالتدريج‪ .‬يقول‬
‫الدكتور عيل رشيعتي هبذا الصدد ما ييل(((‪:‬‬

‫«املوضوع هو أن علينا ان نضحي أكثر ونتوقع أقل‪ ،‬بعكس‬


‫ما هو موجود اليوم حيث يتوقــع املثقف الكثري يف حني ال‬
‫يضحي أال بالقليــل‪ .‬انا أفضل ان يعمــل جيالن او ثالثة‬
‫أجيال ويصلوا بعد ذلــك اىل نتيجة‪ .‬وأما إذا وصلنا خالل‬
‫عرش ســنوات اىل نتيجة‪ ،‬فأننا سنعود مرة ثانية مائة سنة اىل‬
‫الوراء‪ .‬أن كل مــن وصل اىل نتائجه مبكــرا‪ ،‬فقد فيام بعد‬
‫امتيازاته»‪.‬‬

‫عىل الشباب ان يعرفوا ان مسؤوليتهم تتضمن احرتام التضحيات‬


‫الكبرية التــي قدمتها احلركات التي قاومت النظــام الصدامي وان‬
‫يتفهمــوا خماوفها من عــودة الدكتاتورية والظلم والتعســف‪ .‬عىل‬
‫الشــباب ان يقرأ التاريخ ويفهم املأيس التي مر هبا الشعب العراقي‬
‫وان ال يتناســها وال يعتربها من املايض‪ ،‬من ال يقرأ التاريخ ويفهمه‬
‫يقع يف نفس األخطاء‪ .‬جيــب ان يبقى التاريخ حارضا وملهام لضامن‬
‫حقــوق مجيع القوميات واملذاهب‪ .‬فال يمكن بناء بلد من قبل مجاعة‬
‫ختجــل من عادات ابائهــا وتقاليدهم‪ .‬ينبغي عىل الشــباب الواعي‬
‫املثقف ان يعربوا عن ضمري املجتمع ويتفهموا معاناة الشــعب وان‬

‫((( عيل رشيعتي – مسؤولية املثقف – مؤسسة العطار الثقافية –‪ 2005‬ص ‪172‬‬

‫‪106‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫يداووا جراحه‪ .‬الشعارات وحدها ال تكفي لتجاوز عقود من القمع‬


‫والتنكيل والتهميش‪ .‬عىل الشــباب ان ال يبتعدوا كثريا عن األفكار‬
‫الســائدة وان كانوا يظنون بعدم صالحيتهــا ليتمكنوا من التأثري يف‬
‫االخرين بام خيدم اجلامهري(((‪ .‬األمر املهم االخر الذي جيب أن يفهمه‬
‫الشــباب وبدقة ان معركتهم احلقيقة هــي معركة إقرار قوانني تثبت‬
‫وتدعم الديمقراطية واحلرية الدســتورية‪ ،‬نظم االمور كام عرب عنها‬
‫االمــام عيل‪ .‬االصالح ال يأيت من الشــارع واملظاهــرات وأنام يأيت‬
‫بتدعيم املؤسسات وتقويتها وحماربة الفاسدين وفضحهم باألدلة ال‬
‫بالكالم والشــعارات‪ .‬كل املعارك االخرى التي يدخل هبا الشباب‬
‫هي معارك خارسة وخصوصا مع الدين‪ .‬الدكتور عيل رشيعتي يقرر‬
‫ما ييل يف معــرض كالمه عن املثقفني‪ ،‬ولكنها تنطبق عىل الشــباب‬
‫أيضا»(((‪:‬‬

‫«مقاومة الدين يف املجتمع اإلسالمي خييف اجلامهري من حمور‬


‫املفكريــن‪ .‬وجيعلها تنفض عنهم‪ ،‬ومن اجل ان تفر من مفكر‬
‫ال ديني‪ ،‬تلجا اىل قوى رجعية ومنحرفة واســتعامرية تتظاهر‬
‫بحاميــة الدين‪ ،‬ومن هنا تنقطع العالقــة بني املثقف والناس‪،‬‬
‫ويبقى وحيدا»‪.‬‬

‫((( غوســتاف لوبون – ســيكولوجية اجلامهري – مؤسســة اقــرا – الطبعة األوىل‪-‬‬


‫‪2015‬ص ‪82‬‬

‫((( عيل رشيعتي – مسؤولية املثقف – مؤسسة العطار الثقافية –‪ 2005‬ص ‪138‬‬

‫‪107‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫لذا وجب عىل الشباب احرتام العصبيات املذهبية والقومية ألبناء‬


‫الشــعب العراقي ألهنا معرب عن عمق الشــعب الفكري والثقايف ال‬
‫يمكن امهاهلا أو جتاوزها وان كانت ال متثل عمق الشــباب الفكري‬
‫والثقايف‪ .‬حماولة جتاوز العصبيات املذهبية والقومية هو حماولة عبثية‬
‫تؤدي اىل نتائج كارثية كام حاول البعث الصدامي واحلزب الشيوعي‪.‬‬
‫يعترب امللك فيصل األول ان عدم املباالة بالرأي العام مهام كان حقريا‬
‫ورجعيا خطيئة ال تغتفر (((‪ .‬حترك الشــباب هبدف اصالح القوانني‬
‫واملؤسســات جيب ان يبنى عىل هذه العصبيــات ويتناغم معها وان‬
‫كان ال يتفــق معها وال يقيم هلا وزنا فالسياســية فن املمكن واحلرية‬
‫الدســتورية تضمن للجميع حرية التعبري والتفكري‪ .‬املؤسســات يف‬
‫الدول احلرة ابعد ما يكون عن املدينــة الفاضلة‪ ،‬هي باحلقيقة قائمة‬
‫عىل التنازالت واالنتصــارات اجلزئية‪ .‬يقــول الدكتور الوردي ال‬
‫يكفي يف الفكرة ان تكون مجيلة بحد ذاهتا وانام جيب ان تكون عملية‬
‫قبل كل يشء(((‪.‬‬

‫حتركات الشــباب جيب ان تكون صدى لواقع الشعب العراقي‬


‫ومعــره عن أماله وطموحاته وال جيب ان تكون حتركاته منســوخه‬

‫((( مذكرات جعفر العســكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص‬
‫‪192‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪74‬‬

‫‪108‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫مــن حتركات دول أخــرى الن لكل دولة خصوصيــة جيب ان يتم‬
‫فهمها والتعامل معها بشــكل حكيم ومبارش‪ .‬يرى مالك بن نبي ان‬
‫تقليد االخرين ينم عن انعدام االبداع حيث ان ماوصلت أليه األمم‬
‫الســابقة ناتج عن دوافع نبعت من رحم تلكــم األمم وتضحيات‬
‫جســيمة قدمتها فكان النجاح معربا عنها وال يمكن تقليدها باملطلق‬
‫بدون ابتكار وإنتاج دوافع تتالئم مع الواقع وتتناغم معه (((‪.‬‬

‫العمل يف سبيل حتقيق احلرية ال يعني ابدا اقصاء االخر وهتميشه‬


‫وحماولة اســكاته مهام كان حجم االختالف كبــرا‪ .‬تكريس العمل‬
‫الســيايس هبدف االنتقاص مــن األفكار الدينيــة بدواعي الرجعية‬
‫والتخلف ينم عن جهل ال يســتهان به وهــو بالرضورة يمثل عمل‬
‫ديني او ما يشــبه الديني وليس عمل ســيايس‪ .‬انتقــاد األديان عىل‬
‫نحو ساخر يصدر ممن اعتنق دين جديد او ما يشبه (((‪ .‬الغلو يف اتباع‬
‫املنهجيات العلمية هو نــوع من االيدولوجية التي تفرتض وامهه ان‬
‫بإمكاهنا الوصــول اىل درجة عالية من اليقني يف جمال االنســانيات‬
‫واملعنويات(((‪.‬‬

‫((( مالك بن نبي – مشكلة األفكار يف العامل االسالمي – دار الوطن‪ -‬ص ‪113‬‬

‫((( عيل حرب – خطاب اهلوية‪ :‬سرية فكرية – الدار العربية للعلوم نارشون –الطبعة‬
‫الثانية ‪ 2008‬ص ‪79‬‬

‫((( جــورج طرابييش – مذبحة الرتاث يف الثقافة العربية املعارصة – دار الســاقي –‬
‫الطبعة الثالثة ‪ 2012‬ص ‪56‬‬

‫‪109‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫عالقة اجلماهري بالدولة العراقية‪:‬‬


‫يرى املفكر جورج طرابيــي أن املزاج العريب يف العقود األخرية‬
‫يميل اىل شــيطنة الدولة وال يقيم بينها وبــن األمة أال عالقة جالد‬
‫وضحيــة (((‪ .‬هذا امر مربر لفشــل معظــم الدول العربيــة يف تلبية‬
‫احتياجات أبنائها وتوفري ابســط مقومات العيــش الكريم‪ .‬ولكن‬
‫هذا املزاج يمنع بناء دولة قوية مســتقرة وهو أمر جيب ان يتم جتاوزه‬
‫يف الدول ذات العصبيات املتعــددة باخلصوص حلاجة تلكم الدول‬
‫اىل كل ما يمكن ان يســاهم يف تدعيــم الدولة ويرسع من انتقاهلا اىل‬
‫العصبية املؤسساتية التي حترتم الدول وتعترب االمة جزء منها‪ ،‬حيث‬
‫ان ال ديمقراطيــة بدون دولــة قوية‪ .‬ينقل لنا املسلســل التليفزيوين‬
‫املرصي أستاذ ورئيس قســم من بطولة عادل أمام والذي أنتج عام‬
‫‪ 2015‬مشــهد جيســد حقيقة املزاج العدائي بني الشــباب والدولة‬
‫ورموزها‪ .‬جيســد عادل أمام يف هذا املسلســل شخصية فوزي مجعة‬
‫اليســاري الساخط عىل مؤسســات الدولة والذي اشرتك يف الثورة‬
‫مع الشــباب اليســاري جنب اىل جنب‪ .‬بعد نجــاح الثورة‪ ،‬أصبح‬
‫فوزي مجعة وزيرا للزراعة وبعد ادائه القســم خرج ليطمئن الشباب‬
‫الذين شاركهم يف الثورة وطلب منهم الصرب واعطاءه فرصة ووقت‬
‫لتحسني األمور فام كان من الشــباب الذين يظنون ان التغيري يمكن‬

‫((( جــورج طرابييش – هرطقات عــن الديموقراطية والعلامنيــة واحلداثة واملامنعة‬


‫العربية – دار الساقي –الطبعة الثالثة ‪ 2011‬ص ‪14‬‬

‫‪110‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫ان حيدث بني ليلة وضحاها أال ان اهتموه بالفساد وهذا نص احلوار‪:‬‬

‫● مراسل صحفي‪ :‬هل بأمكانك أن تنفذ برناجمك الطموح والبلد‬


‫تعاين من اضطرابات وقالقل وانفالت أمنى؟‬

‫● فوزي مجعة‪ :‬نقطة جيدة‪ ،‬أنا مل أترك مظاهرة منذ أربعني ســنة‬
‫وأكثر أال وكنت يف املقدمة‪ .‬نحن اليوم يف حلظة فارقه وهي‬
‫حلظة جني ثامر الثورة‪ ،‬وانا أنادي الشباب‪ ،‬أوالدي‪ ،‬الذين‬
‫قامــوا بالثورة واطلب منهم اهلدوء قليال» وليس بشــكل‬
‫دائم‪ ،‬حتى يذهب العامل اىل مصنعه والفالح اىل حقله‪.‬‬

‫● الشباب‪ :‬ماذا جرى يا دكتور؟ هل الوزارة تعمل كل هذا؟ أحنا‬


‫اول مرة نسمعك تقول هذا الكالم؟ نحن لن نسكت‪ ،‬بل‬
‫سنهتف ونتظاهر وحاجز اخلوف قد انكرس‪ .‬يا فاسدين يا‬
‫فاسدين نحن الثورة أنتم مني‪ .‬يا فاسدين يا فاسدين نحن‬
‫الثورة أنتم مني‪.‬‬

‫هكــذا أصبح فوزي مجعة يف دقيقة فاســد وتم شــطب تارخييه‬


‫بالكامــل‪ .‬يعتقــد العراقيون بتــورط موظفي الدولــة واالحزاب‬
‫وأصحاب املناصب الكبرية يف اجلهاز اإلداري احلكومي يف الفســاد‬
‫واالشرتاك فيه والتســر عليه حيث وصلوا اىل حالة من اليأس من‬
‫إمكانيــة اصالح الوضــع(((‪ .‬وال خيفى عىل القــارئ الفطن مقدار‬

‫((( باقر ياسني – شــخصية الفرد العراقي‪ :‬ثالث صفات سلبية خطرية – دار أراس‬

‫‪111‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫التجني يف هذه املقولة فال يعقل ان يكون اجلميع فاســد ًا وانام جيب‬
‫حماسبة واهتام فقط من ثبت فساده باألدلة القاطعة‪ .‬عندما تسود لغة‬
‫التخوين بدل لغة األدلة يصبح اجلميع قضاة‪ .‬وعندما يصبح اجلميع‬
‫قضاة تضيع العدالة ويصبح الشارع منصة لتنفيذ االحكام الظاملة‪.‬‬

‫ال يمكن فصــل الدولة عمن تصدى لعمل يف مؤسســاهتا فهي‬


‫ليســت كيان خيايل وانام مكونه من افرادها ولذا جيب إنزال موظفي‬
‫الدولة يف منازهلم الصحيحة فمنهم الفاسد الذي جيب حماسبته ومنهم‬
‫الرشيف الذي جيب انصافه وعدم اهتامه بالباطل‪ .‬أما معاداة الدولة‬
‫وموظفيها ككل من قبل اجلامهري بام فيهم موظفي الدولة أنفسهم فهذا‬
‫امر مضحك وال يســاهم يف بناء دول مؤسساتية‪ .‬يقول الوردي ان‬
‫كال منا ينتقد غريه‪ ،‬وكال منا ينسب خراب الوطن اىل االخرين ناسيا‬
‫انه هو مســاهم يف هذا اخلراب قليال او كثريا‪ ،‬والغريب أن موظفي‬
‫احلكومة ينتقدون احلكومة كأن احلكومة مؤلفة من غريهم(((‪.‬‬

‫التعليم والتعيني‪:‬‬
‫املــدارس واجلامعات احلكومية تعترب مــن اهم مؤرشات االداء‬
‫احلكومي يف أي بلد‪ .‬أمهية املــدارس واجلامعات يكمن يف اهنا جيب‬
‫ان تقــدم للبلد ما حيتاجه مــن كفاءات وأيادي عاملــة‪ .‬حتقيق هذا‬

‫للطباعة والنرش –‪ 2010‬ص ‪120‬‬

‫((( عيل الوردي – شخصية الفرد العراقي – الوراق للنرش –الطبعة الثانية ‪ 2009‬ص ‪68‬‬

‫‪112‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫اهلدف يتم عــن طريق ان تتفاعل املــدارس واجلامعات مع القطاع‬


‫اخلاص واحلكومي واملجتمع بشكل عام لتقييم مناهجها وتطويرها‬
‫وفق احتياجات الواقع وبالتايل تقديم كــوادر هلا قدرة عىل التعامل‬
‫مع الواقع واحتياجاته‪ .‬يالحظ أن املــدارس واجلامعات احلكومية‬
‫وقعــت يف فخ الرتابة وعــدم التجديد واالنفصال عــن الواقع لذا‬
‫تقلص واختفى التعليم املهني من املناهج واخلطة التعليمية‪ .‬خرجيوا‬
‫املــدارس العراقية يف الوقــت احلايل ال هدف هلم وال أمل ســوى‬
‫الوظيفة احلكومية التي ال تتطلب اي جهد شــخيص او مبادرة ذاتية‬
‫حيــث ان تعليمهم اجلامعي ال يؤهلهم لغري ذلك‪ .‬يرى غوســتاف‬
‫لوبون ان هناك ســببان هلذا التهافت عــى الوظائف احلكومية لدى‬
‫الشعوب املتأخرة(((‪ .‬السبب األول عجز طالب الوظائف احلكومية‬
‫عن العمل يف أي جمال اخر نتيجة لدراســتهم النظرية‪ .‬السبب الثاين‬
‫نظرة املجتمع املتعالية عىل وظائف القطاع اخلاص كالزراعة واحلرف‬
‫اليدوية يضاف اىل هذين الســببني بالعراق‪ ،‬انعدام التقاعد املجزي‬
‫ملوظفــي القطاع اخلاص يعترب من اهم املشــاكل التي جيب معاجلتها‬
‫بمهنية وعدالة‪.‬‬

‫املشكلة األساســية يف النظام التعليمي العراقي ال متكن يف خداع‬


‫جيوش الطلبة وتضيع اهم سنوات حياهتم‪ ،‬ولكن املشكلة تكمن يف‬

‫((( غوستاف لوبون – روح االشرتاكية (ترمجة عادل زعيرت) ‪ -‬دار الرافدين – الطبعة‬
‫األوىل – ‪ 2019‬ص ‪252‬‬

‫‪113‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫عــدم وجود اي دولة يف العامل قادرة عــى توظيف هذه اجليوش من‬
‫املتعلمني‪ .‬املدارس واجلامعات احلالية تنتج اعداد كبرية من الناقمني‬
‫الغري مؤهلــن لقيام بأي عمل حقيقي‪ .‬هــذه اجليوش العاطلة عن‬
‫العمل هي قنبلة موقوتة ملســامهة بأي فعالية ضد النظام مهام كانت‬
‫اهدافها أو قادهتا بدل ان تســاهم يف بناء البلــد وتطويره عن طريق‬
‫أعامل غري مرتبطة باحلكومة‪.‬‬

‫كأستاذ جامعي يف قسم اهلندســية املدنية‪ ،‬فأننا نجتمع ب ممثلني‬


‫عن الرشكات اإلنشــائية مرتني يف الســنة لتبادل اآلراء حول كيفية‬
‫تطوير املناهج الدراســة ليتالءم مع حاجة الســوق‪ .‬هذه املامرســة‬
‫رضورية جد ًا ومهم استنســاخها‪ .‬كذلك وكام هو معلوم فأن بعض‬
‫األعامل‪ ،‬ال حتتــاج اىل تعليم جامعي وانام التعليــم املهني قد يكون‬
‫كافيــا لذا جيب توجيه الطلبة نحو ذلــك االجتاه‪ .‬اذن اخلطوة االوىل‬
‫تبدأ بدراســة الواقع واحتياجاته وتطوير املناهج الدراسية لتتناسب‬
‫مع الواقــع‪ .‬األهم من كل ذلك هو مصارحــة الطلبة وتوجيهم بام‬
‫خيدمهم وخيدم مستقبلهم‪.‬‬

‫االبتعاث اخلارجي لطلبة املاج�ستري والدكتوراه‪:‬‬


‫قد يعتــر االبتعاث اخلارجي لطلبة املاجســتري والدكتوراه أحد‬
‫خيبات األمــل الكبرية يف االداء احلكومي العراقي قبل وبعد ‪.2003‬‬
‫فلم تقم احلكومة بدور فعال لتقييم جتربة االبتعاث اخلارجي واالدهى‬

‫‪114‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫واالمــر أهنا مل تقم باحتواء من رصفــت عليهم املاليني بعد عودهتم‬


‫اىل العراق عدا بعض املحــاوالت اخلجولة من هنا وهناك‪ .‬حيث مل‬
‫يتمكن معظم املبتعثني من اســتثامر معلوماهتم ومعرفتهم يف تطوير‬
‫واقعهم وحميطهم‪ .‬وهكذا ذهبت املليارات وتعب السنني وكأنك يا‬
‫أبو زيد ما غزيت‪ .‬السؤال األهم يف هذه التجربة‪ ،‬هو ملاذا البعثات؟‬
‫اهلدف االول من االبتعاث اخلارجي هو كسب مهارات ومعلومات‬
‫الدول املتقدمة وتوظيفها بام خيدم العراق وحيققه هنوضه احلضاري‪.‬‬
‫لذا االبتعاث جيب ان يكون مبني عىل دراسات تبني االختصاصات‬
‫التي جيب ان يدرســها الطالب وحتى البحوث التي يقوم بأجرائها‬
‫وبعــد ذلك تبني كيفية توظيف هذه املهــارات بعد عودة الطالب بام‬
‫حيقق عائد حقيقي عىل االستثامر‪.‬‬

‫أرســل طلبة الدكتوراه واملاجســتري عىل نفقة الدولة وســاهم‬


‫معظمهم يف بحوث ودراســات ختدم الدول التي درسوا فيها اكثر‬
‫ممــا ختدم العراق‪ .‬مث ً‬
‫ال أحد زمالئــي كان بحث الدكتوراه اخلاص‬
‫به يتعلق بأجهزة االستشــعار التي ال وجود هلــا بالعراق وبالتايل‬
‫اســتفادت منه الدولة املستضيفة ومل يســتفد منه العراق‪ .‬لذا جيب‬
‫ان يتــم حتديد موضوع بحــث الطلبة قبل ابتعاثهــم والزامهم به‪.‬‬
‫األمر املهم الثاين هو املســتوى األكاديمي لبعض البحوث والطلبة‬
‫املتخرجني حيث رجع بعض طلبة الدكتوراه اىل العراق ومل ينرشوا‬
‫بحث علمــي واحد يف جملة رصينة مما يضع ألف عالمة اســتفهام‬

‫‪115‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫عىل شهادهتم‪ .‬االمر املهم الثالث هو هل تعلم وزارة التعليم العايل‬


‫والبحث العلمــي انه كان بأماكنها ان جتلب أفضل أســاتذة العامل‬
‫للتدريــس يف جامعاهتا وخصوصا يف فصل الصيف باســتثامر اقل‬
‫من االســتثامر عىل االبتعاث اخلارجي‪ .‬وهل تعلم ان األساتذة يف‬
‫اجلامعــات الغربية‪ ،‬عىل االقل يف الواليــات املتحدة‪ ،‬يتهاونون يف‬
‫منح الشهادة لطلبة العامل الثالث‪.‬‬

‫شــهادة الدكتوراه متنح لشــخص يقوم باكتشــاف او ابتكار امر‬


‫يضيف للمعرفة العلميــة يشء جديد‪ .‬الدكتوراه بطبيعتها ما هي أال‬
‫لبنة اضافية عىل اهلرم املعريف‪ .‬وهنا أتســأل ان كان العراق يف أسفل‬
‫اهلرم املعريف فهل تنفعه اضافه عىل اهلــرم املعريف‪ ،‬اجلواب ال‪ .‬نحن‬
‫بحاجة اوالً للحــاق بركب احلضارة بمعنى بحاجــة لتبني ادوات‬
‫املعرفة واحلضارة املوجودة حالي ًا‪ .‬يف ضوء ذلك‪ ،‬يتضح ان االبتعاث‬
‫األكثر امهية هو ابتعاث طلبة البكالوريوس وليس املاسرت والدكتوراه‪.‬‬
‫قد يكون ذلك ممكنا عن طريق برنامــج اثنني يف اثنني حيث يدرس‬
‫طلبة البكالوريوس سنتني يف اجلامعات العراقية والسنتني االخريتني‬
‫يف اجلامعات الغربية املتطورة مما يساهم يف تطوير اجلامعات العراقية‬
‫ايضا وذلك يزيد من عائدات االستثامر‪ .‬هذا النظام تطبقه حاليا أحد‬
‫اجلامعات االهلية يف كوردستان‪ .‬االبتعاث يف مرحلة البكالوريوس‬
‫جيب ان يكون مبني عىل دراســة حقيقة حلاجة العراق‪ .‬أغلب الظن‬
‫ان العراق بحاجة اىل املعرفة االقتصادية واألدارية والقانونية وبعض‬

‫‪116‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫االختصاصات اهلندسية والطبية‪.‬‬

‫الطائفية والقومية‪:‬‬
‫طوائــف وقوميات العراق متثــل هوية العــراق ونكهته التي ال‬
‫يمكن جتاوزها حيث ال يمكن بناء العراق بشــكل حقيقي ومستديم‬
‫من دوهنام‪ .‬التاريخ خيربنا انه عندمــا تتعرض طائفة او قومية للقمع‬
‫والتنكيــل فأن البلد ليس بخري وان ظن البعض اهنم مســتفيدين مما‬
‫حيدث لألخريــن‪ .‬الطائفية يف العراق هلا تاريــخ طويل وكانت عىل‬
‫الدوام حمرك ودافع نحن التناحر والتقاتل ألســباب عدة‪ .‬خصوصا‬
‫يف املناطق التي يســكن فيها الشيعة والسنة مثل بغداد‪ .‬الوردي يقرر‬
‫ان تاريخ بغداد زاخر بالرصاع الطائفي منذ تأسيسها(((‪ .‬هذا الرصاع‬
‫كان أحد أسباب سقوط بغداد بيد املغول حيث كان سبب ًا يف اختالل‬
‫االمن والنظام حتى خيش كل فرد عىل اهله ونفسه وممتلكاته(((‪ .‬يذكر‬
‫عيل الوردي أن شيعة بغداد ونتيجة لتضييق عليهم وعدم السامح هلم‬
‫بإقامة جمالس التعزية قاموا بالتعاون مع عيل رضا باشــا وســامهوا‬
‫يف انتصــاره عىل وايل بغداد داود باشــا عــام ‪ .(((1831‬أذن الرصاع‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العراق احلديث – اجلزء اخلامس ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪185‬‬

‫((( ســعد بن حذيفة الغامدي – ســقوط الدولة العباســية ودور الشيعة بني احلقيقة‬
‫واالهتام – دار ابن حذيفة – الطبعة الثالثة ‪ 2004‬ص ‪205‬‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العــراق احلديث – اجلزء الثاين ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪118‬‬

‫‪117‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫الطائفي يف العــراق ليس بجديد واثاره كانت عــى الدوام كارثية‪.‬‬


‫فالعــراق الذي ورثــه الربيطانيون من العثامنيــن انام تكون وفق‬
‫نظام كالسيكي عمره مئات السنني‪ ،‬ويرتكز عىل ألية حمددة‪ :‬هوية‬
‫الدولة جيب ان تكون عربية أســامية وإذا نقول إســامية فنعني‬
‫حتديد ًا ســنية(((‪ .‬باحلقيقة ان العراق بنــي بعد االنتداب الربيطاين‬
‫عىل أساس التوازن بني املكونات أو لنقل عىل أساس سيادة مكون‬
‫عىل حساب اخر فهذه مس بيل تذكر يف مذكراهتا االيت(((‪:‬‬

‫«إذا كنت ستشــكل أي يشء مــن قبيل املؤسســات النيابية‬


‫احلقيقية‪ ،‬فأنك ســتحصل عىل أكثرية شيعية فيها‪………..‬‬
‫ولذلك جيــب ان حيتفظ باملوصل الســنية يف ضمــن الدولة‬
‫العراقية من اجل تنظيم التوازن»‬

‫أما السلطة فحسب مس بيل جيب ان تبقى بيد السنة حتى ال تبنى‬
‫دولة يســرها اية اهلل الشــيعي‪ ،‬عىل اعتبار ان السنة ال مرجعية دينية‬
‫لدهيم وبالتايل صاحب الســلطة يمكن أن يكون ألعوبة بأيدهيم كام‬
‫حدث مع امللكية العراقية‪ .‬العراق مملكة حتكمها حكومة عربية سنية‬
‫مؤسســة عىل أنقاض احلكم العثامين كام وصفها امللك فيصل األول‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪146‬‬

‫((( العراق يف رســائل مس بيل – ترمجة جعفر اخلياط – دار احلرية للطباعة –‪1977‬‬
‫ص ‪188‬‬

‫‪118‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫نفســه(((‪ .‬أما القومية فكانت حارضة أيضــا حيث تقول مس بيل يف‬
‫كتاهبا ان الســليامنية رفضت االنضامم اىل احلكومة العربية العراقية‪.‬‬
‫أما رغبــة بعض االكراد باالنضامم اىل الــدول العراقية فكان هبدف‬
‫االنفكاك من الســيطرة الرتكية وانشــاء دولة كوردية(((‪ .‬ويســتمر‬
‫املسلسل‪ ،‬حيث يشري الدكتور جواد هاشم وزير التخطيط يف حكومة‬
‫البعث بعد انقالب ‪ 68‬اىل حادثة غريبة ومثرية بنفس الوقت تكشف‬
‫حجم تغلغل عقلية العصبية الســلبية الواحــدة يف العراق احلديث‪،‬‬
‫حيــث يقول لقاء مجعه مــع صالح مهدي عامش الذي شــغل عدة‬
‫مناصب كبرية االيت(((‪:‬‬

‫«بعد انقالب ‪ 68‬بأســابيع‪ ،‬ألتقيت عــاش يف مكتبه بوزارة‬


‫الداخليــة‪ .‬كان عــاش واقفــا كعادته خلــف مكتبه الذي‬
‫تكدســت عليه جمموعة كبرية من امللفــات املورثة من العهد‬
‫العثامين وملا ســألته عنها‪ .‬قال ان ملفات كبار موظفي الدولة‬
‫املحفوظة لدى مديريــة االمن العامة وقــد احرضهتا متهيدا‬
‫ألعاده تصنفيها بام ينسجم وتطلعات الثورة‪ .‬تسألت مازحا‪:‬‬

‫((( مذكرات جعفر العســكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص‬
‫‪193‬‬

‫((( العراق يف رســائل مس بيل – ترمجة جعفر اخلياط – دار احلرية للطباعة –‪1977‬‬
‫ص ‪345‬‬

‫((( جواد هاشــم – مذكرات وزير عراقي‪ :‬ذكريات يف السياســة العراقية – املدى –‬
‫الطبعة الثالثة ‪ 2019‬ص ‪382‬‬

‫‪119‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫هل تريد تصنيف امللفات أم تصنيف أصحاهبا؟ فلم يرد ولكنه‬


‫أطلعني عىل الرتقيم املســتخدم لتصنيف كل ملف‪ .‬فبعد رقم‬
‫امللــف يوجد خط مائل يعقبه احلرف (س) أو (ش) أو (ص)‬
‫أو (م)‪ .‬احلــرف األول يعني ســني والثاين شــيعي والثالث‬
‫صابئي والرابع مسيحي»‪.‬‬
‫يعلق جواد هاشــم عىل هذا االمر بقولــه ان النظام الطائفي كان‬
‫معمول به منذ تأســيس الدولة‪ .‬باملحصلة ال يمكــن انكار الصبغة‬
‫االقصائيــة والقمع الفكري الذي تعرض لــه العراقيون لقرون‪ .‬ال‬
‫خيفى عىل القارئ الفطن ان الدولة احلديثة املتطورة ال يمكن ان تبنى‬
‫عىل أســاس االيدولوجية الواحدة وعىل أســاس االقصاء والقمع‪.‬‬
‫عدم قــدرة العراقيون عىل التعامــل مع املســألة الطائفية والقومية‬
‫بحكمة يتناغم بشكل طبيعي مع غياب الديمقراطية واحلرية يف احلياة‬
‫السياسية واليومية‪ .‬ثقافة اإلسكات والتهميش هي السائدة لذا ال يتم‬
‫تقبل خالف الرأي يف املواضيع السياسية والدينية بشكل رحب عىل‬
‫أســاس انه جزء من احلياة وانام يتم النظر أليه عىل أساس انه رسطان‬
‫جيب التخلص منه‪ .‬هذه الثقافة نجدها حارضة عىل مجيع املستويات‬
‫الشعبية وحتى الثقافية‪ .‬حتى ظهر اصطالح املثقفني اخلونة الواجب‬
‫قتلهم حيث يتناوب املثقفون عىل ختوين االخر بدل نقاشهم واالدهى‬
‫من ذلك العمل عىل تصفيتهم واخلالص من «عارهم» الثقايف (((‪ .‬هذه‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪213‬‬

‫‪120‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫الثقافة العقيمة انتجت رغبة لدي اجلامهري واملثقفني بأقصاء املختلف‬


‫واخفائه بأي طريقة ممكنة‪ ،‬لذا جتد نصوص االحالم الضالة مثل هذا‬
‫النص يف وســائل التواصل االجتامعي قبوال لدى اجلامهري واملثقفني‬
‫عىل حد سواء‪:‬‬

‫«جيب إجياد ســبب قومي وطني للعراقيني مجيع ًا ليلتصقوا به‪،‬‬


‫لتخليصهم من عقدة اهلويات الفرعية‪ ،‬جيب ان ينســى اجليل‬
‫القادم كونه شيعي او سني او كردي اوغريه‪ .‬هذا ال يمكن ان‬
‫يكون بال أحياء للتعصب القومي العراقي وبال نفخ الروح يف‬
‫التاريخ العراقي املجيد»‪.‬‬

‫دعــوة واضحة للعصبية الواحد القائمــة عىل يشء غري معروف‬


‫أصله وال فصله وال تارخيه اسمه التعصب القومي العراقي‪ .‬ما معنى‬
‫ذلــك وماهو تارخيه املجيد ومتى حتقق أيــام حزب البعث وحماولته‬
‫تعريب كوردســتان أم احلكــم العثامين وحماولته ترتيــك العرب ام‬
‫العبــايس وحماولته قمــع املختلف بالرأي ام متــى؟ ال أحد يعرف‪.‬‬
‫هذه العقلية يف التعامل مع املشــاكل الطائفيــة والقومية يف العراق‬
‫دفعــت الكثري من متكلمي الوهم بتصــور ان احلل يكمن يف جتريم‬
‫جعل املذاهب جزء من السياســية وحتى العالقات االجتامعية كي‬
‫يعود للعراق انسجامه(((‪ .‬يعني ببساطة قمع الناس وتكميم افواههم‬

‫((( الشــخصية العراقية‪ :‬تفكيك األنامط والتنوعات وإعادة التشكيل – سيار اجلميل‬
‫– مكتبة دجلة –الطبعة األوىل ‪ 2021 -‬ص ‪305‬‬

‫‪121‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫وهتميــش ثقافتهــم ومعتقداهتم من اجل عودة العراق لالنســجام‬


‫املنشــود‪ .‬لن ينســجم العراق ما دام ابناءه خيافون عىل أنفســهم أو‬
‫خيجلون من أن يعربوا عن أفكارهم وثقافتهم ومذاهبهم وقومياهتم‬
‫حتت مســميات االنتامء والوطنية‪ .‬ال خيفى عىل القارئ النبه ان هذه‬
‫الدعوات ال حتل املشــكلة الطائفية والقومية يف العراق وال مستقبل‬
‫هلا‪ .‬جيب ان ندرك ان شــعارات الوحدة املزعومة مثل «أخوان سنة‬
‫وشيعة هذا الوطن ما نبيعه» و «كرد وعرب فد حزام» مل متنع املجازر‬
‫بحق الكرد والشيعة يف زمن البعث ومل متنع احلرب األهلية يف بغداد‬
‫عقب تفجري ســامراء وال جمزرة تكريت (سبايكر) ولن متنع مثيالهتا‬
‫يف املستقبل‪ .‬هذه الشعارات باملحصلة حتاول حذف التاريخ والرتاث‬
‫واالختالفات املذهبية والقوميــة وتتجاهلها‪ .‬احلذف هو رفيق دائم‬
‫لكل رؤيــة ايدولوجية للتاريخ حيث يتم برت كل ما ال يمكن إدخاله‬
‫ضمن الفكــر األيديولوجي للمتكلم واحالمــه (((‪ .‬لذا وان حاول‬
‫دعاة احلذف ان يظهروا بمظهر الوطني احلريص فـــأهنم أصحاب‬
‫ايدولوجيا (عصبية) مشــاهبه لألخرين‪ .‬أســلوب احلذف استخدم‬
‫كثري ًا من قبل القوميني العرب ضد االقباط والرببر واالكراد والشيعة‬
‫والدروز وغريها من اخلصوصيات‪ .‬أســلوب احلذف غالبا ما يتبنى‬
‫فكرة او معتقد ويرفع من شــأنه وحيط مــن بقية األفكار وجيرب افراد‬

‫((( جــورج طرابييش – مذبحة الرتاث يف الثقافة العربية املعارصة – دار الســاقي –‬
‫الطبعة الثالثة ‪ 2012‬ص ‪40‬‬

‫‪122‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫املجتمع عىل اعتناق هذه الفكرة حتى تصبح معيارا للوطنية واالنتامء‬
‫يصدح هبا قليــي الثقافة واالطالع وهي باحلقيقة ليســت أال فكرة‬
‫ايدولوجية تقزم غريها من األفكار واملعتقدات‪ .‬وقع يف يدي كتاب‬
‫مغمور ملؤلف اسمه شــوقي أبو خليل عن معركة القادسية أصدره‬
‫عام ‪ 1970‬حيث يقول يف مقدمته ما نصه يف معرض كتابه عن التاريخ‬
‫وشــخوصه «ليس هناك حاجة لتربير العيب فليس فيه عيب وليس‬
‫هناك حاجة اىل اكامل النقــص فليس فيه نقص»‪ ،‬ومن ثم يضيف يف‬
‫نفس الصفحة االيت «رأيت واجبا أن اعطي لتاريخ حقه وأن انرش ما‬
‫يناسب زماننا منه‪......‬متناسيا عن قصد بعض األشياء التي ال طائل‬
‫منها ومازال حوهلا خالف»‪ .‬وهكذا وبمثل هذه التربيرات يتم ذبح‬
‫الرتاث وترشحييه وتنقيحيه حسب رغبة الكتاب وايدولوجيته بعيدا‬
‫عــن أي معيار علمي ويتم فرض هذا التاريخ اجلديد الذي ال عالقة‬
‫له بالواقع حتت مسميات شتى‪.‬‬

‫تعرض العراقيون لضغط شــديد يف العقود الســابقة لتبني فكرة‬


‫ايدولوجية واحدة واغــراق ما عداها‪ ،‬ولكن كــا واضح فان هذا‬
‫االمر مل ينجح ولــن ينجح‪ .‬الظلم يضعف االمــة أكثر مما يضعفها‬
‫اجلــدال والتنازع(((‪ .‬ينقل لنا هــاين الفكيكي وهو القيادي يف حزب‬
‫البعث عــن معاناته يف دفع صبغة الطائفية عنــه وكأهنا جريمة خملة‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص‬
‫‪200‬‬

‫‪123‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫بالرشف حيث يقول(((‪:‬‬


‫«وال بد يل من االعرتاف بأنني قدمت مكتبة الوالد اىل األوقاف‬
‫ألبعد عن نفيس هتمة التحزب الطائفي‪ ،‬برغم من ثقتي بنقاوة‬
‫توجهي الوطني غري املتحزب‪.................‬واقع االمر ان‬
‫هذا اخلوف متوارث‪ ،‬شــاركني إياه الكثريون من أبناء جييل‪،‬‬
‫واغلــب الظن انه تزايد عند األجيال التالية‪ .‬فســيف االهتام‬
‫بالطائفية بقي مســلط ًا عــى رقاب الشــيعة ومتعلميهم عىل‬
‫اختالف والءهتم واهتامماهتم»‪.‬‬
‫شهادة مهمة من شخص بعيد عن الطائفية السلبية تربى يف كنف‬
‫عائلة مكونه من اب شيعي وام سنية وله توجه وطني‪ .‬لألسف هذه‬
‫التوجــه الوطني فــرض عليه خوف داخيل بســبب اختالف انتامئه‬
‫املذهبي عن معيار الوطنية الذي فرضته االيدولوجيات القومية التي‬
‫سيطرت عىل العراق‪.‬‬
‫ال اخفيكــم رس ًا انني كنت يف أيام اجلامعــة افتخر بأنني بيايت الن‬
‫البيات تضم السنة والشــيعة وبالتايل فان فرصة الظلم االجتامعي يل‬
‫بســبب انتامئي املذهبي اقل عىل الرغم من انني قد أوصلتني مطالعتي‬
‫الفكريــة اىل ان اختلــف مع املذهب الشــيعي الســائد يف عدة أمور‬
‫عىل املســتوى الفكري والعقائدي‪ .‬مل يكن االكراد بأحســن حال من‬

‫((( هاين الفكيكــي – أوكار اهلزيمة‪ :‬جتربتي يف حزب البعث العريب االشــراكي –‬
‫مؤسسة املنارة – ص ‪26‬‬

‫‪124‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫اخواهنم‪ ،‬فقط فرض عليهم معيــار الوطنية ان يلهجوا بحب العراق‬


‫العريب حتى اهنم كانوا من اول الرافضني لفكرة العراق الغري عريب(((‪.‬‬
‫قد تبدوا هذه املواقف وطنية لدى البعض الغري فطن وقليل البصرية‪،‬‬
‫ولكنها تعبري عن عصبية ســلبية وايدولوجية اقصائيــة تم تثبيتها يف‬
‫الالشعور بالنار واحلديد لقرون طويلة‪ .‬هوية ثقافية ورمزية تقوم عىل‬
‫أســاس واحد وهو دولة عربية ســنية وكل من ال يدور يف فلكها فهو‬
‫فاريس متأمر مهمته الطعن يف العرب واحلط من شأهنم(((‪.‬‬

‫امل�شكلة الطائفية والقومية ‪� -‬سبيل اخلال�ص‪:‬‬


‫العصبيــة الوحيدة التــي يمكن ان تنجح يف العــراق هي عصبية‬
‫احلرية واملؤسسات‪ .‬عصبية عدم اخلوف من االخر أو االنتقاص منه‬
‫الختالف قوميته او مذهبه‪ .‬الســبب األسايس يف مشاكل العراق ال‬
‫يمكن يف تعدد طوائف وقوميات ابنائه وانام بطريقة التعامل معها‪ .‬مل‬
‫ينجح العراقيون يف خلق ثقافة تقبل االخر واحرتامه كام هو بأفكاره‬
‫ومعتقداتــه وخصوصيته التي قد ختتلف كثري ًا من منطقة اىل أخرى‪،‬‬
‫لذا هــم لليوم ال يعرفون كيف يتعاملون مع هذه االختالفات‪ .‬عدم‬
‫وجود نظام مؤسسايت مهني وشعبي يثقف ل طريقة مناسبة للتعامل‬
‫مــع خصوصيات العراقيون جعل احلريصون عــى العراق بام فيهم‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪148‬‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪174‬‬

‫‪125‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫امللك فيصل األول ينظر هلذه املســألة عىل اهنــا من النواقص وليس‬
‫املحاســن(((‪ .‬باحلقيقة يمكن اعتبار عدم القدرة وكذلك عدم الرغبة‬
‫بمعاجلة املســألة الطائفية والقومية بشــكل حكيــم وصحيح أحد‬
‫مشاكل العراق الكربى‪.‬‬

‫كثريا ما يعاب عىل االمريكان الســود ذكرهم ممارسات الفصل‬


‫العنــري عىل اعتبار اهنــا من التاريخ الذي جيــب ان يتم جتاوزه‪،‬‬
‫وكذا احلال مع اهلنود احلمر الســكان األصليني الذي ما زالوا لليوم‬
‫يتقاضون تعويضات بســبب الظلم الذي وقع عىل أجدادهم‪ .‬جتيب‬
‫الكاتبــة االمريكية ايزابيل وليكرســن عن هذا التســاؤل يف كتاهبا‬
‫الشهري (الطبقية‪ :‬أصل الكره بيننا) بام ييل (ترمجة بترصف)(((‪:‬‬

‫«نحن نشــبه الشــخص الذي ورث منزال عىل ارض مجيلة‪،‬‬


‫ولكن اسسه ليســت متينه وهو ميلء بالشقوق التي تراكمت‬
‫عرب القــرون‪ .‬قد يقول البعض‪ :‬انا غري معنــي بتاريخ البيت‬
‫وكيف بدأت املشــاكل فيه‪ .‬هذا صحيح‪ ،‬نحن مل نشــهد بناء‬
‫البيت وال حتى ابائنا‪ ،‬ولكنه بيتنا بام فيه من مشــاكل وشقوق‬
‫واسس متهالكة‪ .‬نحن ورثناه بكل ما فيه من عيوب ومميزات‪.‬‬

‫((( مذكرات جعفر العســكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص‬
‫‪192‬‬

‫‪(2) Isabel Wilkerson – Caste: The Origins of our Discontents. Random‬‬


‫‪House – New York 2020 P. 16‬‬

‫‪126‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫نحن مل نكن جزء من البناء ومل نســبب عيوبــه‪ ،‬ولكنها اليوم‬


‫مشــاكلنا نحن وعلينا ان نتعامل معهــا‪ .‬كل تدهور جديد يف‬
‫وضع البيت سيكون بسببنا‪ .‬امهال العيوب وعدم معاجلتها لن‬
‫يساعد وانام سيساهم يف ازديادها»‬

‫تقول الســيدة ايزابيل وليكرســن يف مكان اخر من كتاهبا املهم‪،‬‬


‫اننا عندما نذهــب اىل الطبيب ال بد وان نرشح لــه التاريخ املريض‬
‫لنا ولوالدينا وال جيب ان نخفي عنه شــيئا حيث ال فائدة ترجتي من‬
‫إخفاء مشــاكلنا الطبية‪ .‬عندما نوضــح للطبيب االمراض التي عانا‬
‫منها ابائنا سوف نقدم خدمة ألنفسنا اما حماولة إخفاء تارخينا ال يعني‬
‫اهنا غري موجودة واهنا لن تؤثر عىل حياتنا‪ .‬اذا كنت حكيام فال بد من‬
‫أن تكشف تارخيك املريض بالكامل وجيب أيضا ان تتعلم بالتفصيل‬
‫االمراض التي عانى منهــا افراد عائلتك‪ .‬تتعلم العواقب والعقبات‬
‫واخليارات التي لديك للتعامل معها‪ .‬عىل هذا األساس‪ ،‬يمكنك ان‬
‫تتخذ اإلجراءات الالزمة لتحمي اطفالك وأطفال اطفالك وتضمن‬
‫ان املشــاكل التي وقع فيهــا أباءك لن تتكرر‪ .‬بعــد عقود من حترير‬
‫العبيد يف الواليات املتحدة‪ ،‬ظهرت مؤخرا حركة بأسم «حياة السود‬
‫مهمة» يف حماولة لتسليط الضوء عىل الظروف الصعبة التي يمر ومر‬
‫هبا الســود االمريكني وسياســية التمييز العنرصي التي عانوا منها‬
‫لســنني وما زالت اثارها واضحة‪ .‬باملقابل ظهر شعار «حياة اجلميع‬
‫املهمة» مما أثار حفيظة أصحاب الشعار االول من األمريكيني السود‬

‫‪127‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ومنارصهيم عىل اعتبار ان شــعار «حياة اجلميع مهمة» يبعد االنظار‬


‫عن مشكلة السود االمريكان وحقهم يف نظام اجتامعي عادل وفرص‬
‫متساوية عىل خمتلف االصعدة‪.‬‬

‫حــدث يف اجلامعة التي اعمل هبا ان كتــب أحد العاملني اجلدد‬


‫من الشــباب عىل موقع اجلامعة االلكرتوين «حياة اجلميع مهمة»‪ ،‬مما‬
‫دفع الطالب الســود للتظاهر رفضا لتمييع قضيتهم مما دفع اجلامعة‬
‫لالعتذار ورفع الشــعار من موقع اجلامعة اإللكرتوين‪ .‬باإلضافة اىل‬
‫ذلك طالب املتظاهرون باملزيد من املنح الدراســية للطالب السود‪،‬‬
‫وهو طلب معقول وتم تلبيته‪ ،‬بخــاف الطلبات الكبرية مثل أقاله‬
‫العامــل او رئيس اجلامعــة التي لن ختدم وان تــم تطبيقها ال الطلبة‬
‫املتظاهرين وال قضيتهم‪ .‬هذه ليست جمرد قصص وانام عرب لنا علينا‬
‫ان نتعلم منها‪ ،‬ال أن نمر عليها مرور الكالم‪ .‬الشعارات الفضفاضة‬
‫واملثالية والصعبة التحقيق مل ولن تقدم يشء‪ ،‬بالعكس اهنا تساهم يف‬
‫متييع القضايا وتســاهم يف تعقيدها بدل حلها‪ .‬يقول عيل الوردي ان‬
‫األحزاب املعارضة يف الدول املتحرضة ال تطالب بالعدل املطلق وانام‬
‫تطالب برفع أجور العامل او بناء املســاكن لذوي الدخل املحدود او‬
‫تيسري الدواء ملن حيتاج اليه وبام يشبه ذلك(((‪.‬‬

‫((( عيل الــوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لنــدن –الطبعة الثانية ‪1994‬‬
‫ص ‪81‬‬

‫‪128‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫جاء الوقت لنتعلم مــن التاريخ وال نعيد اخطائنا‪ ،‬التاريخ خيربنا‬
‫وبوضوح ان طوائف العراق ومذاهبــه ال ترىض وال ترضخ حلكم‬
‫العصبية الواحدة وان طــال حكمها وكذلك لن تقبل حماولة تكميم‬
‫منابرها هبدف اعالء كلمة الوطن ومــا الوطن غري مكوناته‪ .‬حماولة‬
‫متييع الطوائف والقوميات يف الوطن هي حماولة قتل الوطن‪ ،‬يموت‬
‫الوطن عند متييع مكوناته ويعيش عندما يتم احرتام وإعطاء كل مكون‬
‫حقه يف التعبري عن خوفه وامالــه وافكاره ورغباته‪ .‬ليس من وظيفة‬
‫الدولــة وال املثقفني وال أي أحد ان حياول يصبغ أبناء العراق بصبغة‬
‫واحدة تتالءم مع ما يعتقــده‪ .‬البعث حاول ان جيعل مجيع العراقيني‬
‫بعثيني وأن مل ينتموا‪ ،‬فامذا كانت النتيجة؟ يعتقد جعفر العسكري ان‬
‫الفكرة العراقية لــن تتغلب عىل الفكرة القومية او الدينية او املذهبية‬
‫حتى يشــعر الشيعي والسني وغري املســلم والعريب وغري العريب ان‬
‫حقوقه وتقاليده مضمونه وحمرتمة وان احلكومة ليست خاصة بفرقة‬
‫دون سواها (((‪.‬‬

‫احلل ان يمنح اجلميع حــق التعبري والتفكري والتكلم بلغتهم وال‬


‫فضل لعريب وال كوردي وال سني وال شيعي وال مسلم وال مسيحي‬
‫وال غريهم يف العراق فكلهم سواســية‪.‬الكل لــه احلق بالتعبري عن‬
‫أفكاره كام هي برصاحة‪ .‬من الســخف ان نطالــب من البعض بأن‬

‫((( مذكرات جعفر العســكري – حتقيق نجدة فتحي صفوة – دار الالم –‪ 1988‬ص‬
‫‪203‬‬

‫‪129‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫يكذبــوا بخصوص عقائدهم يف حني ابســط بحــث يف االنرتنيت‬


‫يكشــفها بدون تقيه وال جمامــات‪ .‬باحلقيقة انعــدام ثقافة احلوار‬
‫وحرية التعبري بخصوص العقائد دفع العراقيني لطريقني ال ثالث هلام‬
‫اما رفض املعتقدات والطوائف مجيعا وأما التخندق الطائفي‪.‬‬

‫رفض املعتقدات والطوائف مجيعا نراه واضحا بمنشور لصحفي‬


‫امحد عبد احلسني عىل مواقع التواصل االجتامعي يف عام ‪ 2013‬االيت‪:‬‬

‫أذا أردت أن تتخلص من الطائفية فانبذ طائفتك‬

‫الطائفة هوية دأهبا أن تصارع وجتعلك حمارب ًا أبدي ًا ضد هويات‬


‫تزاحم هويتك‬

‫كل طائفة تسبح بامء الكراهية‬

‫ال ينجو من الطائفية إال من نجا من الطائفة‬

‫هذا الكالم غــر ناهض ألنه يقرن الطائفيــة بالعداء والكراهية‬


‫متناســيا أن الطوائف هي مدارس فكريه باألصل وكل انسان البد‬
‫وان ينتمي اىل طائفة ما دينية او غري دينيــة‪ .‬نبذ الطائفية التي يدعوا‬
‫هلا امحد عبد احلســن هو مدرســة فكرية بحد ذاهتا تضاف اىل بقية‬
‫الطوائف‪.‬‬

‫الطائفية املنبوذة والتي جيب حماربتها هي التي تنتقص من املقابل‬


‫الذي يعيش معك ملجرد ان يملك فكره معينه عن شــخصية تارخيية‬

‫‪130‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫ختتلف مع رؤيتك وحماولة ايذاؤه جســديا‪ .‬فال يمكن ان يعترب املرء‬


‫طائفيــا ملجرد انه يعتنق فكــرة معينة او مذهــب معني‪ .‬االختالف‬
‫بخصوص الشخصيات التارخيية بحد ذاته ليس من الطائفية املنبوذة‬
‫وانام من حرية التعبري املكفولة‪ .‬ليس من حق الشــيعي والســني ان‬
‫ينتقص من املســيحي او حياول ايذاءه جسديا او ماديا ملجرد انه عرب‬
‫عن رأيه املعروف وليس من حق الشيعي ان ينتقص او يؤذي السني‬
‫وال السني من الشيعي وال املؤمن من امللحد وال امللحد من املؤمن‪.‬‬
‫ومــن حياول ان يعتدي عىل االخر ملجرد انه يؤمن بفكرة خمتلفة جيب‬
‫ان حياسب ويعاقب‪ .‬للتوضيح ذلك اكثر نقول أن من حق املسيحي‬
‫ان يرصح ويقول ان نبي اإلســام نبي كــذاب يف أدبياته‪ ،‬ومن حق‬
‫السني ان يعترب ان أبا طالب يف النار ومن حقه ان يفتخر ب أبو جعفر‬
‫املنصور‪ ،‬ومن حق الشــيعي ان يعترب ان أبا بكــر وعمر قد أغتصبا‬
‫اخلالفة من االمــام عيل و أغتصبا حق فاطمــة يف فدك وان هارون‬
‫الرشــيد قاتل ألنه قتل االمام موسى الكاظم‪ ،‬ومن حق امللحد ان ال‬
‫يعرتف هبذه الشخصيات مجيعها‪ .‬وهذا احلق جيب ان يكفله الدستور‬
‫وال يرتتب عليه اي مسائلة قانونية مادام القائل ال يتجاوز عىل االخر‬
‫جســديا وحيرمه من أحدى حقوقه‪ .‬هذه البدهيية هي مقدمة أساسية‬
‫ألنشــاء هويه عراقية قــادرة عىل مواجهة التحديــات والتجاذبات‬
‫القومية واملذهبية التي تعصف بالعراق‪.‬‬

‫التخندق الطائفي كان نتيجة النعــدام حرية التعبري مما دفع ابناء‬

‫‪131‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫املذاهــب واالديان لنقاش االخرين ضمن حلقات ضيقة مغلقة عىل‬


‫ابناء الطائفة او الديانة نفسها مما زاد اجلهل باالخر واالنسان عدو ما‬
‫جيهله‪ .‬هوية العراق ما قبل ‪ 2003‬التي يصفها حممد غازي االخرس‬
‫باهنا هويه ســنية متحالفة مع العروبة وهوية هامشية للشيعة ارتبطوا‬
‫عربها جربا بالفارسية والشــعوبية(((‪ ،‬مل تقدم للعراقيني سوى الويل‬
‫والثبور‪ .‬باحلقيقة اهلوية األحادية القامعة لبقية اهلويات تؤدي لنشوء‬
‫االفكار الباطنيــة وازدهارها وكلام طال زمــن القمع كلام تغلغلت‬
‫واستفحلت هذه االفكار واستقرت يف النفوس واصبحت مذاهب‬
‫وحتــى اديان نتيجــة لغياب حريــة الفكر والتعبــر والنقد‪ .‬اهلوية‬
‫االحاديــة القامعة الرائجة يف بلداننا العربية جعلت منا مســوخا ال‬
‫نفهم احلوار وال نحســنه وانام فقط نحسن التسقيط واللعن وختوين‬
‫املخالــف وحتى قتله‪ ،‬ولذا أصبح الرفض كفر والرتيض نصب بدل‬
‫ان تكون القضية جمرد اختالف يف اآلراء‪.‬‬

‫العراقيون ليسوا جمربين عىل ان ينتهجوا احد هذه الطريقني وانام‬


‫الطريق االســلم هو احلوار املفتوح وحرية التعبري وتقبل اخلالف مع‬
‫االخر بام أن العراقيني حيملــون خمتلف االفكار والعقائد‪ .‬نعم جيب‬
‫أن نكون أكثر وعيا ونضوجا وأن نعرتف ان مقدســاتنا قد ال تكون‬
‫مقدســة لدى االخر‪ ،‬وان من يقدسه املســلم قد يكون نبيا كاذبا يف‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪155‬‬

‫‪132‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫أدبيات االخر وان رب املســلمني واملسحيني قد يكون جمرد وهم يف‬


‫نظر االخر‪ .‬جيــب تقبل هذه االختالفات كام هــي ألهنا امر طبيعي‬
‫وجزء ال يتجزأ من احلياة واملجتمعات االنســانية‪ ،‬ولو شــاء ربك‬
‫جلعل الناس امة واحدة‪ .‬لذا عىل الشعب العراقي واملتصديني للعمل‬
‫السيايس والثقايف فهم ذلك‪ .‬يقول الشاعر عمر القرة غويل‪:‬‬

‫عيل هو وعمر يم اهلل جيازون‬

‫عليمن توكع انت برأسك ورايس‬

‫ليقل من يشــاء يف عمر واالمام عيل وغريهم ما يشاء فذلك رأيه‬


‫وفكره ولن يغري يف حاهلم شــيئا فهم بني يدي اهلل العامل اخلبري‪ .‬طبعا‬
‫اخلالف مقبول ما دام فكريا‪ ،‬ولكن ليس مقبول عندما حياول طرف‬
‫التعدي عــى االخر باليد‪ ،‬مثال ليس من املقبــول رفع او هدم متثال‬
‫أبو جعفر املنصور بالرغم من موقف الشــيعة منه الن عىل الشــيعة‬
‫احرتام رأي الســنة يف أبو جعفر املنصور وان اختلفوا معهم فكريا‪.‬‬
‫فاالختالف الفكــري جائز ومقبول‪ ،‬ولكن ليس التعدي عىل االخر‬
‫وابنيته‪.‬‬

‫العراقيــون بأمس احلاجة هلوية جتمعهــم وال ختجل من انتامئهم‬


‫وال تكمم افواههــم وانام تفتخر هبم كام هــم وباختالفاهتم‪ .‬احتار‬
‫املهتمون بأمر اهلوية العراقية اجلامعة وكيف يمكن اجيادها وتسويقها‬
‫يف ظل انعدام الوحدة الفكريــة وامللية والدينية كام عرب امللك فيصل‬

‫‪133‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫األول‪ .‬فهذا سليم مطر توصل اىل نتيجة مفادها ان العراق بلد كونته‬
‫اجلغرافية وشــكلت حدوده الطبيعة التي سامهت يف عزله وشكلت‬
‫منه وحدة سياســية واجتامعية وحضارية ذات مالمح ال تشــابه أي‬
‫مالمح أخرى(((‪ .‬مــرة أخرى من حق القارئ التســاؤل عن نوعية‬
‫احلشيش الذي ينتج أفكار بعيدة عن الواقع بمئات السنني الضوئية‪.‬‬
‫أال يرى سليم مطر مقدار التغلغل والتأثري الذي متارسه ومارسته دول‬
‫اجلوار العراقي نتيجة لضعف اجلبهة العراقية الداخلية عرب القرون‪.‬‬
‫ال يمكن بناء وحدة حقيقية مامل يتــم قطع هذا التغلغل والتأثري وال‬
‫يمكن قطعه أال باحلرية الفكرية والتعبريية الكاملة ألبناء الشعب بام‬
‫ال يــدع جماال للتدخل بحجة محاية هــذا او ذاك‪ .‬بناء اهلوية العراقية‬
‫هبذا الشــكل جيعل العراق قويا عزيزا قادرا عــى التأثري بإجيابية يف‬
‫حميطه وأعامقه القومية واملذهبية بدل ان يكون مصبا بتأثري رصاعات‬
‫جواره القومي واملذهبي‪ .‬هذا اجلوار الــذي مل هيتم يوما بالعراقيني‬
‫ومل ينشغل ضمريه هبم وانام كانوا دوما حمرقة له وألحالمه‪ .‬فالعراق‬
‫بالنسبة جلواره جمرد مراءة عاكســه ألحالمه وأهواءه واساطريه‪ ،‬ال‬
‫بلد مســتقل متعدد االطياف‪ .‬املأمون هو من القلة املثقفة عالج هذا‬
‫االمر ببساطة كام ينقل لنا اليعقويب يف تارخييه كام ييل(((‪:‬‬

‫((( حممد غازي االخرس – خريف املثقف يف العراق – التنوير –‪ 2011‬ص ‪166‬‬

‫((( أمحد بن أيب يعقوب بن جعفر بن وهب –تاريخ اليعقويب– دار صادر – ص ‪468‬‬

‫‪134‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫«كان برش بن الوليد الكندي‪ ،‬قــايض املأمون ببغداد‪ ،‬قد رضب‬


‫رجال قرف ألنه شتم أبا بكر وعمر واطافه عىل مجل‪ .‬فلام قدم املأمون‬
‫أحرض الفقهاء‪ ،‬فقال‪ :‬أين قد نظرت يف قضيتك يا برش‪ ،‬فوجدتك قد‬
‫أخطأت هبذا مخس عرش خطيئة‪ ،‬ثم اقبــل عىل الفقهاء فقال‪ :‬أفيكم‬
‫من وقف عــى هذا؟ قالوا‪ :‬وما ذاك‪ ،‬يا امري املؤمنني؟ فقال‪ :‬يا برش!‬
‫بم اقمت احلد عــى هذا الرجل؟ قال‪ :‬بشــتم ايب بكر وعمر‪ .‬قال‪:‬‬
‫حرضك خصومه؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬فوكلوك؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬فللحاكم‬
‫ان يقيم حــد القرفة بغري حضور خصم؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬وكنت تأمن‬
‫أن هيــب بعض القوم حصتــه‪ ،‬فيبطل احلد؟ قــال‪ :‬ال! قال‪ :‬فأمهام‬
‫كافرتان أم مســلمتان؟ قال‪ :‬بل كافرتان‪ .‬قال‪ :‬فيقام يف الكافرة حد‬
‫املســلمة؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬فهبك فعلت هــذا بام جيب أليب بكر وعمر‬
‫من احلق‪ ،‬أفيشــهد عندك شاهدا عدل؟ قال‪ :‬قد زكي أحدمها‪ .‬قال‪:‬‬
‫فيقام احلد بغري شــاهدين عدلني؟ قــال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬ثم أقمت احلد يف‬
‫رمضان‪ ،‬فاحلدود تقام يف شــهر رمضان؟ قــال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬ثم جلدته‬
‫وهو قائم‪ ،‬فاملحدود يقام؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬ثم شــبحته بني العقابني‪،‬‬
‫فاملحدود يشبح؟ قال‪ :‬ال! ثم شبحته بني العقابني‪ ،‬فاملحدود يشبح؟‬
‫قــال‪ :‬ال! قال‪ :‬ثم جلدته عريانا‪ ،‬فاملحدود يعرى؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬ثم‬
‫محلته عىل مجل‪ ،‬فأطفته‪ ،‬فاملحدود يطاف به؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬ثم حبسته‬
‫بعد ان أقمت عليه فاملحدود حيبس بعد احلد؟ قال‪ :‬ال! قال‪ :‬ال يراين‬
‫اهلل ابوء بأثمك واشــاركك يف جرمك خذوا عنــه ثيابه‪ ،‬واحرضوا‬

‫‪135‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫املحــدود ليأخذ حقه منه‪ .‬فقال له من حــر من الفقهاء‪ :‬احلمد هلل‬


‫الذي جعلك عامال باحلقوق‪ ،‬عارفــا بأحكامه‪ ،‬تقول احلق وتعمل‬
‫به‪ ،‬وتأمر بالعدل‪ ،‬وتــؤدب من رغب عنه‪ ،‬ان هذا‪ ،‬يا امري املؤمنني‪،‬‬
‫حاكم أجد برأيه فأخطأ‪ ،‬فال تفضح بــه احلكام‪ ،‬وهتتك به القضاء‪.‬‬
‫فأمر به‪ ،‬فحبس يف داره حتى مات»‪.‬‬

‫هكذا حول املأمون العبايس اخلالف الطائفي الدفني اىل مســألة‬


‫فكرية فقهية وحلها ببســاطة‪ .‬يمكن قياس هذا النقاش عىل من شتم‬
‫األمام عيل والرســول وغريهم‪ .‬هذه ليســت دعوة للسب فالسب‬
‫بطبيعتــه ال يصدر أال عن قليــل األدب‪ ،‬ولكنها دعوة حلرية التعبري‬
‫لكافة املدارس الفكرية املكونة للجامهري العراقية‪ .‬ذكر أفعال الناس‬
‫وانتقادهــا امر طبيعي ورضوري فال يوجد احــد فوق النقد وفوق‬
‫التحليل‪ ،‬أما عذر تلكم أمة قد خلت الذي يســتخدم غالبا لتكميم‬
‫االفواه فيعني أننا غري حماســبون عىل ما فعلوا فلهم ما كسبو ونحن‬
‫غري مسؤولون عنه ولكننا مطالبون بالنظر فيه واستلهام الدروس منه‬
‫واالقتداء باجليد منه‪.‬‬

‫االعرتاف بحق االخر بالتعبري عن أفكاره التي قد يتحسس منها‬


‫االخــرون ال يعني بالرضورة دعم تلكم األفكار وقبوهلا‪ .‬وانام يعني‬
‫بالــرورة احرتام وتقدير حرية التعبــر كقيمة جمتمعية مهمة‪ .‬هذه‬
‫القيمة االجتامعية تســتمد قوهتا عىل األقل من امرين‪ :‬األول الناس‬

‫‪136‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫مجيعا ولدوا احرار وال حق ألحد بان يأخذ هذا احلق من هذا الطرف‬
‫او ذاك‪ ،‬الثاين الســاح بحرية التعبري يعني تالحق األفكار وتطورها‬
‫وبالتــايل عزل اليسء وتقويــم اجليد‪ .‬باحلقيقة الكبــت الذي يعانيه‬
‫جمتمعنا ساهم بشكل مبارش يف عدم تطور مدارسنا الفكرية وغرقها‬
‫باجلهل والتخلف وبروز مجاعات شديدة اجلهل واخلرافة‪.‬‬

‫العدالة االجتامعية بني اجلامهري هي ما يشــغل بال الشــعوب‬


‫املتطــورة(((‪ .‬العدالــة االجتامعيــة ال تتحقق حتى يكــون ميزان‬
‫احلرية متســاوي بني اجلامهري بغض النظرعن أفكارهم ومذاهبهم‬
‫وقومياهتم‪ .‬هذا العمل اجلبار‪ ،‬الســهل املمتنع‪ ،‬بحاجة اىل مثقفني‬
‫ومفكرين عىل مســتوى املسؤولية يثقفون الشعب برضورة وامهية‬
‫حرية الفكر والتعبري ملســتقبلنا ومســتقبل أبنــاء العراق ألن هذه‬
‫البدهيية عىل بساطتها ال يتقبلها أال املطلع الذي تم تدريبه وتعليمه‬
‫وسريفضها كل من عداه تعصبا لفكره ورموزه‪.‬‬

‫الوردي يف ديرتويت‪:‬‬
‫تعيش يف منطقة ديرتويت الكــرى جالية عربية كبرية تقدر بأهنا‬
‫األكرب خارج حــدود الدول الناطقة بالعربيــة‪ .‬يتكلم الدكتور عيل‬
‫الوردي عن زيارة قام هبا اىل هــذه املدينة لزيارة معامل فورد وعرج‬
‫خالهلا عىل احلي العريب‪ .‬هناك سمع الوردي نزاعا حول االمام عيل‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪154‬‬

‫‪137‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫وعمر ومن ثم نقله اىل أحــد االمريكان‪ .‬أعتقد األمريكي ان االمام‬


‫عيل وعمر يتنافســان عىل رئاســة احلكومة فأخربه الوردي اهنام كانا‬
‫يعيشــان يف احلجاز قبل ألف وثالث مئة ســنة‪ ،‬فضحك األمريكي‬
‫حتى كاد يستلقي عىل قفاه وضحك الوردي معه(((‪.‬‬

‫برصاحة انا اســتغرب هذا الطرح من الدكتور الوردي وهو عامل‬


‫االجتامع الكبري وهو العــارف بأن عامل االجتامع وظيفته التعامل مع‬
‫املجتمع كام هو بال أحكام مســبقة‪ .‬علم االجتامع ال يدخل يف جمال‬
‫تربيــر او رفض اعتقاد وســلوك املجتمع فليس هذا شــأنه(((‪ .‬علم‬
‫االجتامع يبحث يف املؤثرات اخلفية التــي تتحكم يف أفعال األغلبية‬
‫من أبنــاء جمتمع ما هبدف فهمها ليتســنى لنا التعامــل مع املجتمع‬
‫بذكاء وبمهنية بعيدا عن التربيرات لقبول حالة معينة او النقاشــات‬
‫لرفضها فاملجتمع كائن ال يمكن تغيريه عىل املدى القصري واملتوسط‬
‫وال سبيل أال لتعامل معه كام هو‪ .‬اذكر عندما كتبت بحث الدكتوراه‬
‫حول الفروق الثقافية بني العاملني ذوو األصول املكسيكية والعاملني‬
‫املولودين يف الواليــات املتحدة‪ ،‬ان التأكيد كان دائام ان اهلدف ليس‬
‫تفضيل ثقافة عــى أخرى وانام حماولة فهم اختالف الثقافات وكيف‬
‫يمكن التعامل معه بإجيابية ومهنية‪.‬‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪247‬‬

‫((( عبد الرحيم العطري – بركة االولياء بحث يف املقدس الرضائحي – رشكة النرش‬
‫والتوزيع املدارس – الدار البيضاء –الطبعة الثانية ‪ 2014‬ص ‪7‬‬

‫‪138‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫ثم هــذا األمريكي ملاذا يضحك وجمتمعه يف وقت زيارة الوردي‬


‫كان يعاين من التمييز العنرصي ضد السود واملشاكل بني الكاثوليك‬
‫والربوتســتانت والتطهري العرقي للهنود احلمر وغريها من األمور‬
‫والتي ما زال املجتمع لليوم ينقسم حوهلا وهي يف أصلها تارخيية كام‬
‫تكلمنا سابقا عن معاناة السود االمريكني‪ .‬اخلالف والتعصب سمة‬
‫برشيه اصلية وهي تتخذ اشكاالً عدة وال يوجد جمتمع خيلو من هكذا‬
‫خالفات وهذا ال يمنع مــن التطور والعمران مادام املجتمع يتعامل‬
‫معها بحكمــة‪ .‬الوردي يعلم ذلــك وهو الناقــل يف نفس الكتاب‬
‫ما نصــه((( «أن التنازع والتعاون كام ذكرنا أنفــا صنوان ال يفرتقان‪.‬‬
‫ووظيفة كل منهــا أن خيفف من حدة االخر وأن يؤدي عمله ضمن‬
‫نطاقه املحدود لــه‪ .‬املجتمع املتوازن هو الذي تتكافأ فيه قوى هذين‬
‫العاملني فال يطغى أحدمها عىل االخر»‪.‬‬

‫أغلب الظــن‪ ،‬ان الدكتور الوردي وقع يف الفــخ الذي وقع فيه‬
‫معظم العراقيني عند تعاملهم مع املشــكلة الطائفية يف العراق وهو‬
‫فخ الرفض للخالف مجلة وتفصيــا او التخندق الطائفي‪ .‬قد يظن‬
‫البعض نتيجة عدم اطالعه عىل االمور بشــكل مبــارش‪ ،‬ان الناس‬
‫يف الغرب تســيل منهم احلضارة واملعرفة مــن كل جانب‪ ،‬يف حقيقة‬
‫االمر هم شعوب حاهلم حال بقية الشعوب فيهم املتخلف والبسيط‪،‬‬

‫((( عيل الوردي – مهزلة العقل البرشي – دار كوفان لندن –الطبعة الثانية ‪ 1994‬ص ‪120‬‬

‫‪139‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫والعنــري‪ ،‬والغبي‪ ،‬واملثقــف‪ .‬الفرق بني احلالتــن ال يكمن يف‬


‫نوعية الشــعوب وانام يف نوعية املؤسســات احلاكمــة واجلامعات‬
‫واملراكز البحثيــة‪ .‬هذه اجلامعات واملراكز والنظم التي حتكمها تفرز‬
‫شــخصيات وابداعات يف املجال العلمي والصناعي‪ .‬بشكل غريب‬
‫يتــم امهال هذه النقطة وغياب مثل هذه الشــخصيات واالبداعات‬
‫والرتكيز عىل مواضيع ال قيمة هلا وال تأثري لوجودها او عدم وجودها‬
‫عىل التطور يف خمتلف املجاالت لبلد ما‪.‬‬

‫خصص الدكتور الــوردي جزء كبريا من كتابه لنقل اخلالف بني‬


‫عمــر وعيل اىل خالف بني معاوية وبنو امية مــن ناحية واالمام عيل‬
‫من ناحية أخرى‪ .‬ممــا يعني ان الدكتور الــوردي كان مياال لرفض‬
‫اخلالف مجلة وتفصيال وســاق يف ســبيل ذلك احلجج الكثرية‪ .‬وقد‬
‫تناســى الدكتور الوردي انه مل يقدم ســوى مدرســة فكرية جديدة‬
‫مشابه ملدرسة الشيعة والســنة من خالل فهم خمتلف نسبي ًا عن فهم‬
‫هذين املدرســتني لدور معاوية يف نشوء السنة والشــيعة‪ .‬بالنتيجة‬
‫لو دارت االيام وانترشت أفكار الــوردي هبذا اخلصوص واعتنقها‬
‫الناس لرأيت النــاس يف ديرتويت ومكة وطهــران يتنازعون نزاعا‬
‫عنيفا حول دور معاويــة يف اثارة الفتن ووضع األحاديث ويقدمون‬
‫حجج الوردي كدليل عىل قوة منطقهم وصواب مذهبهم‪.‬‬

‫انترش كالم الوردي حــول نزاع ديرتويــت يف املجتمع العراقي‬

‫‪140‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫انتشــارا كبريا ومعظم العراقيني يعرفونه يف حني ال يعرفون شيئا عن‬


‫باقي كتاب مهزلة العقل البرشي عىل أمهيته‪ .‬الســبب بسيط‪ ،‬ان هذا‬
‫املقطع من كتاب يمثل أحد الطرق التي خيتارها العراقيون للهروب‬
‫من وحش الطائفية كام ذكرنا ســابقا لعدم معرفتهم أو حتى رغبتهم‬
‫بالتعامل مع املوضوع بحكمة وبتحرض وبتبرص‪.‬‬

‫املحا�ص�صة يف العراق‪:‬‬
‫املحاصصــة يف عراق ما بعــد ‪ 2003‬رضورة لتجاوز ثقافة عراق‬
‫مــا قبل ‪ ،2003‬ولكن ليس بالشــكل الذي نــراه اليوم‪ .‬املحاصصة‬
‫قد تكون رضورية يف ختصيص املوازنة وتوزيع املقاعد الدراســية‬
‫بني املحافظات وعىل أســاس النسب الســكانية‪ .‬مشاركة احلكم‬
‫حســب النســب العددية امر دعى له الوردي يف ســتينات القرن‬
‫املايض لرضورته (((‪ .‬ولكنها ليســت رضورية يف توزيع املناصب‬
‫بالشــكل الفج الذي نراه اليوم‪ .‬فال جيــوز ان يتم توزيع املناصب‬
‫بني األحزاب والتيارات الفائزة بعيــدا عن معيار الكفاءة واخلربة‬
‫وخصوصا ان هذا التوزيــع الطائفي والقومي واملناطقي البغيض‬
‫شــمل كل املناصب الوظيفة العليا حتى حتولت هذه املناصب اىل‬
‫مغانم وليس وســائل خلدمة الناس يف ظل انعدام املتابعة والتقييم‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العراق احلديث – اجلزء اخلامس ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪415‬‬

‫‪141‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫املهني واخلدمي‪.‬‬

‫لتجــاوز هذه املشــكلة اخلطرية جيب تأهيل النظــام االنتخايب‬


‫بــا يضمن افراز رئيس الــوزراء قادر عىل اختيــار وزرائه بحرية‬
‫وبام يضمــن متثيل مجيع املكونــات‪ .‬باعتقادي ان قــرار املحكمة‬
‫االحتادية رقم ‪ 25‬لعام ‪ 2010‬رســخ املحاصصة يف العراق بشكل‬
‫غري مقصود عندمــا اقر ان الكتلة النيابيــة األكثر عددا قد تتكون‬
‫من جتمع قائمتني انتخابيتني او أكثــر بعد انتهاء االنتخابات‪ .‬هذا‬
‫القرار أفرغ االنتخابات من حمتواها متاما وأصبحت الكتلة الفائزة‬
‫باالنتخابات ال قيمة فعلية هلا ما مل تقدم تنازالت لبقية الكتل هبدف‬
‫التحالف معها وتقسيم املناصب‪ .‬لذا وجب عىل املحكمة االحتادية‬
‫إعادة النظر يف هذا القرار ملا ترتب عليه من رضر كبري عىل العملية‬
‫السياسية يف العراق كام رأيناه بوضوح عام ‪ 2010‬وعام ‪.2021‬‬

‫من أمن العقاب اســاء االدب وهــذا االمر ينطبق عىل موظفي‬
‫الدولة‪ ،‬فيجب متابعتهم وتقييم انتاجهم بعدالة‪ .‬اليوم املحاصصة‬
‫لألســف متنح كبار املوظفــن حصانة بناء عــى انتامئهم املذهبي‬
‫والقومي وهذا امر ال يبني بلد وال خيدم اجلامهري‪.‬‬

‫اجلانب امل�شرق يف الواقع العراقي‪:‬‬


‫بالرغم من كل ما يرافــق التجربة العراقية من حتديات وحجم‬
‫الدمار والفساد الكارثي والديمقراطية املمسوخة‪ ،‬ولكنها التجربة‬

‫‪142‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫الوحيدة املتبقية لدى العرب بعد تقهقر بقية جتارب الربيع العريب‪.‬‬
‫اجلانب املرشق يف التجربة العراقية اهنا خرجت من عنق الزجاجة‬
‫يف حني بقي العرب يف ارسهم‪ .‬معظم الدكتاتوريات العربية قائمة‬
‫عىل أســاس اخلوف وختويف الغرب مــن أن رحيلهم عن احلكم‬
‫يعني ســيطرة اإلرهاب والتطرف ولذا عىل شعوهبم وعىل الغرب‬
‫ان خيضع هلم خوفا من اإلرهاب والتطرف واالخوان‪ ،‬مرص مث ً‬
‫ال‬
‫قبــل الثورة وبعد انقالب الســييس‪ .‬طبعا هــذه األنظمة تتجاوز‬
‫عــى حقيقة ان بقائها ال يعني قمع التطــرف فقط وانام قمع النمو‬
‫االقتصادي‪ ،‬والفكري‪ ،‬وكافة نواحي احلياة‪.‬‬

‫نعم ال خالف‪ ،‬أن االنتخابات احلرة إذا أجريت اليوم ســتفوز‬


‫التيارات اإلســامية عىل خمتلف مشارهبا بام فيها املتطرفة بالتأكيد‪.‬‬
‫ســبب فوز هذه التيارات هو غياب احلرية الفكرية وحرية النقاش‬
‫واجلدل الذي انتجته احلكومــات الدكتاتورية مما جيعل الناس تبع‬
‫ملن يمثل املقــدس وان كان بفكره وترصفاته مدنس‪ .‬خصوصا ان‬
‫اجلامعات اإلسالمية التي متثل املقدس يف نظر اجلامهري مل متنح فرصة‬
‫للعمل ومل يتسن للجامهري جتربتها فمنذ ظهور األحزاب واجلامعات‬
‫اإلسالمية عىل يد ســيد قطب تعرضت للقتل والقمع والتخوين‪.‬‬
‫باحلقيقة ان الســبب األعظم يف ظهور التطرف هو الفشل الكامل‬
‫وعىل كافة األصعدة الذي انتجته احلكومات الدكتاتورية يف البالد‬

‫‪143‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫العربية وهذا ما يدركه الغرب قبل غريهم(((‪.‬‬

‫فزاعة اإلسالميني اســتخدمت لسنوات طويلة وستستخدم يف‬


‫املستقبل لكبت الشعوب بحجة محاية األقليات واملجتمعات ككل‬
‫وباحلقيقة هي محاية ملصالح الدول الكربى واألنظمة الدكتاتورية‬
‫نفســها‪ .‬لألســف الكثريون من املفكرين العرب أيضا وقعوا يف‬
‫هذه املصيدة حتى أين فوجئت بوجود عــدة ندوات يف اليوتيوب‬
‫عن املســتبد املســتنري أو العادل وإمكانية إقامة دولــة علامنية يف‬
‫ظله الوارف‪ .‬حتى تراهم ينــادون ان احلرية الدينية والفكرية قبل‬
‫الديمقراطيــة‪ ،‬ولكن كام هو معروف ال يمكــن الوصول للحرية‬
‫الدينية والفكرية يف ظل أنظمة قمعية‪ .‬باحلقيقة هذه الندوات تثبت‬
‫ان العرب يعيشون خارج حدود الزمان‪ .‬يرسد الدكتور عيل الوري‬
‫قصة عن جده الذي رفض فكرة ان اإلنكليز صنعوا طائرة تطري يف‬
‫اهلواء وهي مصنوعة من خشب وحديد‪ .‬حيث بني جد الوردي ان‬
‫هذا امر غري معقول بتاتــا بدليل ان املطرقة التي لديه مصنوعة من‬
‫خشب وحديد وهي ال تطري وصدق احلارضون يف جملسه برأيه(((‪.‬‬
‫هنا جــد الوردي يتكلم عــن يشء مل يراه وهــؤالء املعتقدون ب‬
‫املستبد املستنري يتكلمون عن يشء ال وجود له عىل ارض الواقع‪.‬‬

‫‪(1) Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy of‬‬


‫‪Home and Abroad, W. W. Norton & Company, New York, P.143‬‬

‫((( عيل الوردي – منطق ابن خلدون – الوراق للنرش –الطبعة الثالثة ‪ 2013‬ص ‪43‬‬

‫‪144‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫ذكر الدكتور امحد اجللبي (رمحه اهلل) يف أحد لقائته التليفزيونية‬


‫ان لقــاء مجعه مع امريكي عام ‪ 1986‬حيث أخربه هذا األمريكي ان‬
‫املعارضة العراقية بأقطاهبا املختلفة (األحزاب اإلســامية‪ ،‬البعث‬
‫الســوري‪ ،‬احلزب الشــيوعي) متثل اجندات شــموليه بعيدة عن‬
‫الديمقراطية ال ختتلــف كثريا عن صدام ونظامــي البعثي‪ ،‬لذا ال‬
‫يوجد مربر أخالقي كايف للواليــات املتحدة لتدعم املعارضة ضد‬
‫صــدام ونظامه الدكتاتوري‪ .‬باملحصلــة ان دول العامل ذات النفوذ‬
‫والســيطرة تتخوف من اســتبدال احلكومات الدكتاتورية املهرتئة‬
‫ألهنا تعرف ان البديل لن يكون أفضــل وخصوصا خالل العقود‬
‫األوىل حيث من املتوقع ان يفوز اإلسالميون االصوليون املعادون‬
‫للغرب باملقاعد‪ .‬يقول فريد زكريا يف كتابه مستقبل احلرية ما ييل(((‪:‬‬

‫«من الواضح ان احلركات األصولية اإلسالمية التي اشرتكت يف‬


‫احلكومة خرست الكثري من شــعبيتها بمرور الوقت امام األحزاب‬
‫األخــرى‪ .‬هذه احلــركات جيدة بالشــعارات‪ ،‬ولكنهــا غري جيدة‬
‫باحلكم‪ .‬ولكن هذا ليس سبب كايف للقبول بخطوة تغيري األنظمة يف‬
‫مرص والسعودية وما قد يرافقها من اضطرابات للعقود بعد التغيري»‬

‫الحظ االنانية يف التعبري بحيث يدعم املؤلف هنا بقاء الدكتاتورية‬

‫‪(1) Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy of‬‬


‫‪Home and Abroad, W. W. Norton & Company, New York, P.149‬‬

‫‪145‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ورهن مصري شــعوب كاملة الن الدول املتقدمة ختشــى من التغيري‬


‫وما قد يصاحبه من اضطرابات طبيعية نتيجة احلكم الشــمويل الذي‬
‫تعيشه هذه الدول‪ .‬هذا بالضبط ما أدركته القيادة االمريكية بعد جتربة‬
‫افغانستان والعراق‪ ،‬حيث فضلت ترك أفغانستان بيد طالبان الن بناء‬
‫الديمقراطية هناك مكلف ويستلزم زمنا طويال‪ .‬بناء عىل هذه النظرة‪،‬‬
‫يرفض فريــد زكريا تغيري األنظمــة يف البلدان العربيــة ويدعوا اىل‬
‫السامح الديمقراطي كام اسامه فرج فودة(((‪ .‬السامح الديمقراطي يعني‬
‫ان تضغــط الواليات املتحدة عىل الدول العربية الدكتاتورية وجتربها‬
‫عىل السامح باملزيد من احلريات كام حدث يف السعودية يف هناية العقد‬
‫الثاين من القرن احلايل او مشــاركة اإلســاميني وغريهم يف جمالس‬
‫النواب الصورية سابقا عندما ســمح مبارك وحزب الوفد لإلخوان‬
‫بالدخــول للمجلس النيايب األول عام ‪ .1984‬الســاح الديمقراطي‬
‫خيتلف عن املناخ الديمقراطي الذي يلزم احلاكم وحيدد ارادته‪.‬‬
‫بالعراق وقع الفأس بالرأس وهلل احلمد وهذا رضوري وال بد منه‬
‫لالنتقال اىل صف الدول ذات العصبية اإلجيابية بدون تنظريات‪ .‬منذ‬
‫سقوط الصنم‪ ،‬سيطرت حركات متطرفة طائفية وقومية وقد جرب‬
‫العراقيون هذه احلــركات حيث برزت حــركات وماتت حركات‬
‫ومازال البعض صامدا بفعل احلراك املجتمعي الذي ما زال مستمر ًا‬
‫وسيفرز حركات جديدة يف املستقبل القريب والبعيد‪.‬‬

‫((( فرج فودة – قبل السقوط – مطابع اهليئة املرصية العامة للكتاب –‪ 1992‬ص ‪144‬‬

‫‪146‬‬
‫الو�ضع العراقي‬

‫نعم خرج العراق من عنق الزجاجة وهو يعيش املناخ الديمقراطي‬


‫بام له وما عليه هذا هو اجلانب املــرق من التجربة العراقية‪ ،‬ولكن‬
‫هذا لألسف ال يعني ان ال أمكانية للعودة اىل عقر الزجاجة‪ .‬ببساطة‬
‫العــراق جيب ان يمر بمرحلة املراهقة الديمقراطية نتيجة لقلة خربته‬
‫هبا وهذا امر ال بد منه وقد مرت به كل البلدان وكل من يستنكر ذلك‬
‫ويعتربه مثبلة عىل العراق فهو جاهــل وال يفهم برضورات التطور‬
‫التارخيي للشعوب‪.‬‬

‫العراق يملك كل املقومات ليكون مصدر اشعاع الديمقراطية‬


‫واحلرية يف الرشق األوسط‪ .‬العراق قبل نظام صدام كان أحد أكثر‬
‫دولة الرشق األوســط تقدما وعلامنية وثقافة(((‪ .‬العراق يمثل أحد‬
‫أقدم احلضــارات يف العامل وهو يملك اليوم النفط حمرك العامل‪ .‬لذا‬
‫هو مؤهل لنهضــة اقتصادية وثقافية مهمة ومؤثــرة يف املنطقة لو‬
‫تعامل العراقيون مع ظروفهم ومميزاهتــم بحكمة وعقالنية بعيدا‬
‫عن املغامرات واخلطوات غري املدروسة‪ .‬جيب ان يبتعد العراقيون‬
‫عن أفكار االنقالبات واحلكم العســكري وحكم الطوارئ الذي‬
‫مل جيلــب هلم ســوى الويل والثبور‪ .‬لألســف يفــرح العراقيون‬
‫باالنقالبات ويتحمسون هلا ويصفقون اعتقادا منهم ان االنقالب‬
‫يفتح هلــم طريق االمل ولكنهــم رسعان ما يكتشــفون خطئهم‬

‫‪(1) Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy of‬‬


‫‪Home and Abroad, W. W. Norton & Company, New York, P.154‬‬

‫‪147‬‬
‫الدولة والبداوة‬

‫ويطلبــون انقالبا جديدا‪ ،‬االنقالب لو قامت بــه املالئكة فأنه لن‬


‫يلبي مطالب الناس(((‪ .‬محى اهلل العراق من رش الســاعني يف خرابه‬
‫وبقاءه ضمن عصبيات متعددة أو أرجاعه اىل عصبية سلبية واحدة‬
‫وجعلــه منارة للتطور احلضــاري والديمقراطيــة واحرتام حقوق‬
‫اجلامهري وافكارهم‪.‬‬
‫يقولون كان عنيدا‬
‫وكان يقول القصيدا‬
‫وراح حياول شيئا جديدا‬
‫ومات وخلف هذا الوجودا‬
‫كام كان قبال غبيا بليدا‬
‫ففيم العناء؟!‬
‫الدكتور غازي القصيبي‬

‫((( عــي الوردي – ملحات اجتامعية من تاريخ العراق احلديث – اجلزء اخلامس ‪-‬دار‬
‫الراشد – الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪383‬‬

‫‪148‬‬

You might also like