Professional Documents
Culture Documents
Issn: 2737-842X
Issn: 2737-842X
Issn: 2737-842X
سعاد الجويني
تونس
11سبتمبر 2021
https://philosmus.org/archives/2992
ISSN: 2737-842X
سعاد الجويني
تونس
1نشكر الأساتذة المحكمين التفضّ ل بمراجعة المقال؛ وقد عملنا على الإفادة من ملاحظاتهم.
1
2021 سبتمبر11
Abstract: The purpose of this paper is to explain how to raise the question of human communications
according to al-Kindī (d. 873), al-Fārābī (d. 950), and Ibn Sīnā (d. 1037). Moreover, to have a deep look at
the ways they handle problems related to human beings. This represents the fundamental and inherent
aspect of philosophy. It is known that the attention of scholars is oriented to the practical part of these
philosophers’ writings. They focused on the virtuous city in al-Fārābī and the prophecy in Ibn Sīnā and
some of the aspect of ethics in al-Kindī’s writings. What remains accordingly is addressing human
connections within a broader study related to the underlying political regimen. Therefore, I am interested
here directly in the issue of communication. In addition, I consider it as a distinct field of study that needs
specific attention from both sides: conception and features. This may be useful in understanding the
philosophical texts from different angles. I outline the questions that concern me and seek to answer them
through the return to some texts of al-Kindī, al-Fārābī, and Ibn Sīnā:
Why do people need conditions for meeting and cooperation? What is the nature of the conditions, from
which it is possible to understand the philosophical perception of the communicative act within the
medieval Arab period? Do all conditions rise to the level of assets binding in the establishment of human
relations? Does the absence of which impedes the achievement of human perfection? Are these conditions
necessary to achieve the best human perfection?
2
11سبتمبر 2021
مقدّمة
بات تعث ّر الت ّواصل اليوم واقعا غير قابل للت ّجاهل ،ت ُرجم في حالة التشظّي الحاصلة داخل الذ ّوات الفردي ّة
والجمعي ّة وفي تزايد وضع الن ّفور والتوت ّر القائم بينها .اعتُب ِّر لذلك الانشغال بالمسألة التواصلي ّة و ُكد يفرضه السّعي
إلى تجاوز هذه الأزمة والبحث أساسا في شروط تأصيل مشروع إنساني حقيقي يضمن الل ّقاء الفعليّ بين البشر،
فالإنسان ليس معني ّا بالبقاء فحسب ،بل نجده منشغلا أيضا بحسن البقاء الذي ي ُع ّد الت ّواصل أحد شروط
حصوله.
كيف نضمن أفض ل وجود للبشر يؤكّد التمي ّز الن ّوعي عندهم؟ وهل بالإمكان تحو يل اجتماعنا من جمع مصالح
إلى لقاء قيم يرتقي فيه الإنسان بإنسانيته؟ وما الذي يُحدّد وفق ذلك خصوصيات العيش المشترك بين الأنا
والآخر إذا أخذنا في الاعتبار الت ّقسيم المل ّي بين ”الن ّحن“ أهل مل ّتنا وأهل باقي الملل؟
نسعى في معالجة هذه الإشكاليات وغيرها اعتمادا على ما بلغه فلاسفة الفترة العربي ّة الوسيطة ،ونعمل تحديدا
على توضيح بعض تصو ّرات الفارابي مؤكدين عليها عبر الاستعانة بما ورد عند ال كندي وابن سينا في باب
الت ّواصل بين الأمم ،وحول مسألة الغير ي ّة على وجه الخصوص .وبالجملة نطلب من خلال هذا العمل ال كشف
عن الت ّأسيس الفلسفي للعيش المشترك بين البشر وفق أصول سنّها الأسلاف ،ومحكومة أساسا بالجمع بين البعدين
الفلسفي والش ّرعي .ونأمل من خلال تبي ّن بعض مقتضياتها الوقوف عند سبل تأصيل علاقة مثمرة مع الآخر
مثلما تصو ّرها بعض الفلاسفة.
3
11سبتمبر 2021
ونسعى هنا إلى تجاوز إلف ربط المسألة التواصلي ّة بالفكر الحديث تلاؤما مع تواتر استعمال مفهوم الت ّواصل عند
ن لها حضورا عند فلاسفة الفترة العربي ّة الوسيطة باعتبار الإنسان معني ّا
أقطاب هذه الحقبة 1.ونرى بالمقابل أ ّ
2
بوصل غيره على الدوامّ اليوم كما في الماضي.
ن تصو ّرات الفارابي بخصوص موضوع الت ّواصل لازالت تحتاج إلى عناية ،وهو ما سنشتغل عليه
لذلك نعتبر أ ّ
في هذا المقال من خلال البدء بدراسة حيثي ّات وشروط الن ّقلة بالل ّفظ من الاجتماع والت ّعاون إلى الت ّواصل.
ارتأينا وفق ذلك توز يع العمل على ثلاثة أقسام نطرح فيها بالت ّدريج مسألة الل ّقاء بين البشر ضمن أبسط مظاهر
الاجتماع وفي أشدّها تعقيدا .سنأتي من ثم ّة في القسم الأوّل على الحاجة إلى العيش المشترك ،ونعالج في القسم
الث ّاني أسس الاجتماع الإنساني بين بني الأمّة ،وسننظر أخيرا ضمن القسم الث ّالث ،وهو الأه ّم في تقديرنا ،في
مجمل الش ّروط الضّ امنة للت ّواصل في مستواه ال كوني.
-1حاجة البشر إلى الاجتماع
يؤخذ الاجتماع في ظاهره على أن ّه تعبير عن طبيعة البشر المي ّالين فطر ي ّا إلى العيش المشترك ،ويمث ّل في باطنه
شرطا من شروط تحقّق الوجود الإنساني .فالإنسان غير مكتف بنفسه ،دائم الحاجة إلى غيره ،ولا يبلغ ال كمالات
ل ذات فردي ّة بعيدة عن هذا ال كمال إذا لم تنخرط في مدار
التي تمي ّزه نوعي ّا إلا ّ عن طر يق المشاركة ،وتبقى ك ّ
غيرها 3.يجتمع الن ّاس أساسا حول أمور حياتي ّة و يقترب بعضهم من بعض لأغراض المعاش ،وكل ّما فعلوا ضمنوا
ن أكثر الصّ نائع تكون معدومة في غياب الوجود الجماعي للبشر.
بقاءهم في أحسن حال ،بل إ ّ
أتى على المسألة التواصلي ّة في الفلسفة الحديثة يورغن هابرماس ،ومن أه ّم مصن ّفاته في هذا الباب نذكر: 1
واحدا يتولّى تدبير أمره من غير شر يك يعاونه على ضرورات حاجاته ،وأن ّه لابدّ من أن يكون الإنسان مكفي ّا بآخر من نوعه يكون
4
11سبتمبر 2021
وبالجملة تع ّد هذه المسائل من الأمور المعلومة التي لا حاجة إلى تفصيل القول فيها؛ ل كن التحو ّل بالاجتماع
إلى شرط في تحقّق ال كمال الإنساني هو ما يُوجب المعالجة .فالحاجة إلى الآخر تتجاوز رغبة البقاء لتكون ق ِّوام
بلوغ ال كمال الإنساني 1،مم ّا يُفيد عجز الذات الفردي ّة عن تحقيق كينونتها عبر الت ّغاضي عم ّا يُغايرها من الذ ّوات.
يرتقي فعل المشاركة هنا إلى مستوى الض ّرورة الن ّوعي ّة التي تزيد ،بل وتتفو ّق على معطى البقاء؛ وهو ما أتى عليه
ن الاجتماع طر يق الإنساني ّة إلى الأفضل .يقول في ذلك” :والإنسان من الأنواع التي لا يمكن
الفارابي ببيان أ ّ
أن يتم ّ لها الض ّروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا ّ باجتماع جماعات منها كثيرة في مسكن
2
واحد“.
تؤخذ الأفضلي ّة عند المعل ّم الث ّاني من جهتين ،تت ّصل الأولى بهيئة الاجتماع والث ّانية بمضمونه .ي ُراد بذلك عدم
إدراج التجمّعات البسيطة في هذه المقارنة ،حيث لا يكون الن ّاس على خلاف شديد بالن ّظر إلى نمط عيشهم
البسيط وعلاقاتهم غير المعقّدة؛ وهذه مثلا حال التجمّعات القبلي ّة وما دونها ،والتي تكون الأعراف فيها هي
المواثيق المسي ّرة للعلاقات.
وعليه فالاجتماع الأنقص من المدينة لا يُبلغ به ال كمال المطلوب ،وليست ال كثرة العددي ّة هي العل ّة الأساسي ّة
لهذه المفاضلة ،بل الت ّعقيد الذي عليه المعاش هو ما يفرض حاجة البشر إلى بعضهم البعض ،ويدفعهم إلى
ذلك الآخر أيضا مكفي ّا به وبنظيره()...حت ّى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفي ّا “.الإلهيات ،ضمن الشفاء ،تحقيق محمد يوسف موسى
وسليمان دنيا وسعيد زايد ،راجعه وقدّم له إبراهيم مذكور (القاهرة :الهيئة العامّة لشؤون المطابع الأمير ي ّة ،)1710 ،ج.551 ،2 .
1يحيل مفهوم ال كمال على بلوغ الشيء التحقّق التامّ ،واستعمل المفهوم للإحالة على بلوغ الن ّفس كمالاتها بحسب طبيعة الأفعال التي
تأتيها ،وفي هذا الموضع يُحقّق الإنسان كماله من خلال مدني ّته أي بمقدار اشتراكه مع غيره .يقول الشّيخ الر ّئيس” :مفهوم ال كمال
ن ال كمال قياس إلى المعنى الذي هو أقرب من طبيعة الش ّيء وهو الن ّوع لا إلى الش ّيء
أع ّم من مفهوم الصّ ورة ،أمّا أن ّه أتم ّ ،فلأ ّ
ن الملك كمال
ن ال كمالات ليست كمالات بحسب الصّ ورة للمادّة ...فإ ّ
الذي هو أبعد من ذلك وهو المادّة( )...وأمّا أن ّه أع ّم فلأ ّ
المدينة وعلى ذلك الش ّرط له ،ولأن ّا إنمّا نعني بالمدينة ما اجتمع على الهيئة الصّ الحة للغرض الواقع في الش ّركة بوجود جميع أجزائها
ل اجتماع في المساكن مدينة فباشتراك الاسم “.أحوال الن ّفس ،رسالة في الن ّفس وبقائها ومعادها،
ل مح ّ
وأولها الملك فإن سم ّينا ك ّ
تحقيق أحمد فؤاد الأهواني (مصر :دار إحياء ال كتب العربي ّة .32–31 ،)1732 ،كما اعتبر الشّيخ الاجتماع الإنساني فضيلة يمي ّزه
بالن ّوع عن سائر الكائنات التي تبقى في نقص دائم أمامه ،انظر في هذا الشّأن ،الشّفاء ،الن ّفس ،ترجمة ونشر باكوش (باريس:
.177 ،)1799
2الفارابي ،كتاب السّياسة المدني ّة ،حقّقه وقدّم له وعل ّق عليه فوزي متري النج ّار (بيروت :المطبعة الكاثوليكية .17 ،)1715 ،ل كن
ن هذا البرنامج الشّامل يتطل ّب من
ن هذه الأسباب غير كافية لتشر يع الاجتماع الإنساني الفاضل .يقول” :غير أ ّ
يشير الغن ّوشي إلى أ ّ
الفارابي معرفة دقيقة بالمجتمعات وأحوالها أي بالعلم السّياسي من جهة وبالطّبيعة الإنسانية وخاصّياتها الجوهر ي ّة من جهة أخرى“.
الأسس النشكوني ّة والعضو ي ّة.53 ،
5
11سبتمبر 2021
الت ّعاون والاشتراك في طلب الخ يرات داخل المدينة ،الذي لا يتوف ّر في ما دونها .ولا يجب أن ي ُؤخذ لفظ
الحاجة هنا في أبسط دلالاته المت ّصلة بتلبية الض ّرورات الحياتي ّة ،على اعتبار ذلك قد يقع في أبسط التجمّعات
البشر ي ّة ،ولا يُشترط فيه التجمّع المدني؛ بل يُشار بالحاجة إلى مجمل الأمور التي يحصل بها التمي ّز الن ّوعي للبشر.
فالإنسان لا يُخ تزل في البقاء لأن ّه معنيّ أساسا بمسألة الوجود ،وما فتئ يبحث عن كيفيات تحصيل هذه الوجودي ّة
في أفعال تتجاوز الاكتفاء بالصّ نائع المادي ّة إلى تقدير العيش وفق معطيات خلقي ّة.
ل الفضائل بذلك منزلة مخصوصة في تحديد الاجتماع المدني عند الفارابي ،وهو ما ورد في قوله” :المدينة
تحت ّ
التي يقصد الاجتماع فيها الت ّعاون على الأشياء التي تنال بها السّعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة .والاجتماع
1
الذي به يتعاون على نيل السّعادة هو الاجتماع الفاضل“.
ل فرداني ّة ،مم ّا
يُطلب الاجتماع وفق ذلك لسببين مختلفين ،يُفيد الأوّل الإستجابة إلى طبيعة بشر ي ّة رافضة لك ّ
يدخل في باب الض ّرورة .وي ُراد بالث ّاني السّعادة باعتبارها أقصى ال كمالات التي يسعى الإنسان في طلبها بنفسه
ن ما يستدعي التوق ّف عنده في هذا المستوى ليس اعتبار السّعادة مطلبا مشتركا بين الأنا
وبمعي ّة غيره .ونعتقد أ ّ
والآخر فحسب ،بل وأيضا اعتبار تحصيلها يتم ّ عن تعاون متبادل بين مختلف الذ ّوات داخل المدينة.
يؤصّ ل ذلك لحسن الت ّعايش المشترك ،إذ تكون سعادة الآخر مطلبا للأنا ،والإنهمام ببلوغ ال كمال سعي جماعيّ.
ن الت ّعاون الحاصل عن الاجتماع لا يؤدّي حتما إلى السّعادة الحقيقي ّة إلا ّ إذا كان ذا مضمون مخصوص
غير أ ّ
ل صنف في قوله” :النطقي ّة هي
وحول أمور معلومة قدّرها الفارابي في الفضائل بصنفيها الخلقيّ والنطقيّ .يُح ّد ك ّ
فضائل الجزء الن ّاطق مثل الحكمة والعقل وال كيس والذّكاء وجودة الفهم .والخلقي ّة هي فضائل الجزء الن ّزوعي
2
مثل العفّة والشّجاعة والسّخاء والعدالة“.
تتأت ّى أهمي ّة هذا الت ّصنيف من كونه يأتي على بعدي الن ّفس الن ّاطقة والنزوعي ّة في الإنسان 3،ولأسبقي ّة الأولى
ن
في الت ّرتيب دلالته ،فهي التي تجعل الت ّالية يكون فعلها فاضلا .لذلك اعتبر الصّ نف الن ّاطق داعما لغيره ،كما أ ّ
الفارابي ،آراء أهل المدينة الفاضلة ،تحقيق علي بوملحم (بيروت :دار ومكتبة الهلال .115 ،)1773 ،يعترض الغنوشي على طرح 1
ن الأصل في جواز
الفارابي لمسألة السّعادة مبر ّرا ذلك بالت ّنافر بين تصو ّره وبين الواقع المتناقض ،المرجع السّابق .55 ،ل كن نعتقد أ ّ
ن صاحب المقال قد وقع في نفس الخلط الذي نهى عنه
الاعتراض هو البقاء عند مناقشة التصّ ور الن ّظري في ذاته ،لذلك نرى أ ّ
باقي الد ّارسين وهو الن ّظر إلى المسألة ضمن مصن ّف مخصوص واختيار مبدأ الت ّعميم عوضا عن التحر ّي.
2الفارابي ،فصول منتزعة ،حقّقه وقدّم له وعل ّق عليه فوزي متري النج ّار (بيروت :دار المشرق.50 ،)1775 ،
يقس ّم الفارابي قوى الن ّفس إلى ”القو ّة الن ّاطقة والقو ّة النزوعي ّة ،والقو ّة المتخيّلة ،والقو ّة الحسّاسة “.كتاب السّياسة المدني ّة.51 ، 3
و يع ّد علم الن ّفس الفلسفي من المسائل التي انشغل ابن سينا بتفصيل القول فيها ضمن مواضع كثيرة من كتاباته ،و يقس ّم قوى الن ّفس
6
11سبتمبر 2021
الأخذ بصنف دون الآخر لا ينتهي إلى الغرض المطلوب ،بل نكون أمام سعادة بتراء وكمال منقوص .يجب
1
الجمع ،إذن ،بين الفضائل النظر ي ّة والعملي ّة لنيل السّعادة على جهة الت ّحقيق.
وبهذا ،تُع ّد الفضائل معيار التّمييز بين المحمود والمذموم من الاجتماع ،أي بين المؤتلفين على الخ يرات والمجتمعين
على الش ّرور داخل المدينة .ول كن كيف يتسن ّى ش ّد الن ّاس إلى صنف الجمع الأوّل ودرئهم عن الث ّاني؟ وكيف
نضمن ديمومة ائتلاف أهل المدينة الواحدة حول الفضائل وهم على طبائع مختلفة بل وأحيانا متضادّة؟
ي ُرجع الفارابي سبب حصول هذا الائتلاف ودوامه إلى توف ّر معطيين أساسين ،أوّلهما أصل للث ّاني ،والمراد
تحديدا المحب ّة والعدل .وهكذا تحيل المحب ّة على حضور رابط روحي قويّ بين الذوات ينشأ عن طبع ،كالذي
يحصل ضمن جمع العائلة ،كما يحصل أيضا عن اكتساب وهو المقصود بالن ّظر.
والأصل في الاكتساب هو الاختيار الإرادي للأفعال التي نأتيها ،وعليه تُعب ّر المحب ّة عن تخ ي ّر أهل المدينة مشاركة
بعضهم بعضا ،والت ّعاون فيما بينهم على مجمل الأمور التي ات ّفقوا على الت ّعايش وفقها .تكون المحب ّة ،بذلك ،نتاجا
لاشتراك وات ّفاق وقع مسبقا ،أي أنّها ليست مجر ّد معطى انفعالي ما قبلي ،وإنّما هي حاصل ائتلاف عقلاني
أبر ِّم بين أهل المدينة .ذلك ما يمنح المحب ّة طابعا واقعي ّا ،تكون بمقتضاه شوقا إلى الت ّعامل مع الآخر لتحصيل
منافع مشتركة.
تتنام َى حينئذ المحب ّة أو تتناقص تبِّعا لطبيعة المنافع الن ّابعة عنها؛ وينشأ عن لذ ّة الاجتماع بين الن ّاس ضرب من
المحب ّة ،يكون أش ّد حين يرتبط بمنافع تلبية ضرورات المعاش ،ثم ّ تحصل أفضل أنواعها عن منافع الاشتراك في
الفضائل بوجهيها الن ّظري والعملي.
الحيواني ّة إلى محر ّكة ومدركة ،وإلى الأولى تنتمي القو ّة النزوعي ّة الشوقي ّة ،و يقس ّم قوى الن ّفس الن ّاطقة إلى عاملة وعالمة .يمكن العودة
إلى أحوال الن ّفس.93–15 ،
يتحدّث الفارابي عن نوعين من ال كمال ،ما يسمّيه بال كمال الأوّل الحاصل عن إتيان الفضائل في الحياة الد ّنيا وال كمال الأخير وهو 1
نتيجة للأوّل و يحصل عن جمع بين صنفي الفضائل النظر ي ّة والعملي ّة .وعليه متى كان الفعل الفاضل مطابقا لفكر من جنسه كان
ال كمال في صيغتيه الأولى والث ّانية وعنهما يبلغ الإنسان السّعادة القصوى التي تُطلب لذاتها .انظر في كتاب فصول منتزعة51 ،؛
والسّياسة المدني ّة .99 ،ونشير هنا إلى حضور الأرضي ّة الشرعي ّة في تفسير مسألة السّعادة ،ونقف على نفس الد ّلالة المضاعفة للسّعادة
عند ابن سينا في تفسير مسألة المعاد ،معتبرا ”السّعادة الأخرو ي ّة عظيمة جدّا أمام الحاصلة في الد ّنيا “.الأضحو ي ّة في المعاد ،تحقيق
حسن عاصي (بيروت :المؤسّ سة الجامعي ّة للن ّشر والت ّوز يع .130 ،)1799 ،ويمكن العودة هنا أيضا إلى مجمل ما ذكر ضمن رسالة في
السّعادة ( حيدر آباد الدكن :دائرة المعارف العثماني ّة1535 ،ه 1755 /م).
7
11سبتمبر 2021
يمث ّل من جهة أخرى العدل فضيلة عملي ّة ،و يقوم على الات ّفاق حول مبدأ توز يع الخ يرات المشتركة 1.ولسنا
معنيين في هذا الموضع بدراسة الفضائل عند الفارابي ،ول كن أتينا على هذه المسائل مجملة قصد بيان مضامين
المشاركة وقيمة الات ّفاق في بناء المدينة وهو ما تم ّ نتيجة توف ّر معطى المحب ّة .يقول المعل ّم الث ّاني في منزلة المحب ّة من
المدينة” :والمحب ّة في هذه المدينة تكون أ ّولا لأجل الإشتراك في الفضيلة و يلتئم ذلك بالإشتراك في الآراء
والأفعال...فإذا ات ّفقت آراء أهل المدينة في هذه الأشياء [حدّدها الفارابي أساسا في المعرفة بالله وبالعالم وبمنزلة
الإنسان] ثم ّ كمل ذلك بالأفعال [ومنها العدل] التي ينال بها السّعادة بعضهم مع بعض ،تبع ذلك محب ّة بعضهم
لبعض ضرورة .ولأنّهم متجاورون في مسكن واحد وبعضهم محتاج إلى بعض وبعضهم نافع لبعض ،تبع ذلك
أيضا المحب ّة التي تكون لأجل المنفعة .ثم ّ من أجل اشتراكهم في الفضائل ولأن بعضهم نافع لبعض يلت ّذ بعضهم
2
ببعض ،فيتبع ذلك أيضا المحب ّة التي لأجل المنفعة .فبهذا يأتلفون ويرتبطون“.
ننتهي في هذا المس توى إلى تمييز الفارابي بين صنفي المشاركة الطبيعي ّة والإرادي ّة .يبقى الأوّل غير كاف لبلوغ
ال كمال الإنساني ،وهو ما يُوجب اختيار الاشتراك في غير الض ّروري ،أي الت ّعاون والت ّحابب حول الفضائل.
وبهذا ،فحسب ،يكون الت ّعايش الإنساني الحقيقي داخل المدن .ونجد في ذلك تنصيصا على أهمي ّة البعد القيمي
في لقاء البشر؛ فلا يكفي الت ّواجد معا ،بل يجب الائتلاف حول الأفعال الخ ي ّرة لتحقيق ال كمال الإنساني
المنشود .وهذه أرقى ضروب الاجتماع المدني التي شرّع لها الفارابي واعتبرها الأكثر تعبيرا عن المنزلة الحقيقي ّة
للإنسان.
ن واقع الاجتماع البشري يعكس اشتراكا في غير هذه الأمور المذكورة؛ وإذا كان الت ّعاون شأنا حاصلا
غير أ ّ
ن محتواه هو ما يمث ّل موضع اختلاف بينهم .نجد أناس هذه المدائن أكثر تعاونا
ل المدن ،فإ ّ
بالفعل عند أهل ك ّ
في مستوى حاجياتهم الض ّرور ي ّة ،كما قد يساعد بعضهم بعضا طلبا للث ّراء أو الغلبة؛ وهذه كل ّها أغراض تُحيل
على الن ّقص وبعيدة عن ال كمال ،لذلك صن ّفها الفارابي ضمن المدن الجاهلة .فأهلها جاهلون لمضمون الت ّعاون
ن تعاونهم هنا نقيصة واشتراكهم إهدار ومضيعة
الحقيقيّ ،بعيدون عن الفضائل ،ضال ّون عن ال كمالات؛ وكأ ّ
لطاقاتهم الإنساني ّة ،نظرا لاكتفائهم بالبعد الإقتصادي أو غيره من المنافع المادي ّة.
وحدها المدينة الفاضلة ،إذن ،هي التي يشترك أهلها في طلب الفضائل تامّة نظر ي ّة وعملي ّة ،وهي لذلك الأحقّ
ن الائتلاف موجّه بالإرادة نحو هذه الأغراض .يقول الفارابي في طبيعة الاشتراك عند أهل
بال كمالات ،لأ ّ
1يعر ّف الفارابي العدل فيقول” :العدل أوّلا في قسمة الخ يرات المشتركة التي لأهل المدينة على جميعهم .ثم ّ من بعد ذلك في حفظ
ما قس ِّّم عليهم “.فصول منتزعة.91 ،
2نفس المصدر.91–90 ،
8
11سبتمبر 2021
خص
هذه المدينة ” :وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها و يفعلونها وأشياء أخرى من علم وعمل ي ّ
1
ل رتبة وكل واحد منهم .إنّما يصير كل واحد في ح ّد السّعادة بهذين ،أعني بالمشترك الذي له ولغيره معا“.
ك ّ
يشمل الت ّواصل الحقيقي المدن الفاضلة وتبقى ما دونها مجر ّد اجتماعات زائفة باعتبار تقو ّمها بعناصر من جنسها
تابعة لطبيعة المدن الضرور ي ّة والجاهلة ،التي ينعدم فيها الطّابع الإنساني للاجتماع نظرا لغياب الأصول الخلقي ّة.
-2في سبل الت ّعايش المشترك بين أبناء الأمّة
تُقال الأمّة على التجمّعات البشر ي ّة ال كبرى التي تنتشر في مدن كثيرة .يفرض هذا الوضع الجديد والمعقّد
للتجمّع استحداث شروط تعايش مختلفة تتلاءم مع طبيعة الامتداد من جهة وشدّة الاختلاف من جهة ثانية،
لا ب ّد من وجود وصل يتجاوز تخوم المدينة الواحدة ويستوعب الت ّباين في طبائع الن ّاس داخل الأمّة .في هذا
المستوى ،مث ّل مفهوم الملّة عند الفارابي موضع ائتلاف سكّان الأمّة وأداة تعاون بينهم ووازعا نحو محب ّة بعضهم
بعضا .بحيث يجتمع أهل المل ّة الواحدة المنتسبين إلى الأمّة حول أصول مشتركة ويتعاونون على بلوغ مقاصد
2
موحّدة.
يخ تزل المعل ّم الث ّاني أصول المل ّة في جملة من الآراء والأفعال ،وتتأت ّى أهم ّيتها من كونها المحدّد لطبيعة الأمّة
الفاضلة مقابل ما يغايرها من الأمم .تتمحور الآراء النظر ي ّة حول موضوعات اللّه والعالم والبعث ،وتت ّصل
الأفعال أيضا بالفضائل التي يأتيها أشرف البشر من أنبياء وملوك وأئم ّة .وبالجملة تقاس الأمم الفاضلة بمدى
3
تمسّكها بالش ّرائع.
ونشير في هذا المستوى إلى أهمي ّة ما ذهب إليه مقداد منسي ّة بخصوص ائتلاف المصادر الفلسفي ّة التار يخي ّة
والعلمي ّة الشرعي ّة في تحديد البعد العملي لفكر الفارابي 4،وإن كنّا غير معنيين مباشرة بالبحث في هذه الأمور،
ن ذكرها يندرج في حدود بيان طبيعة ا لات ّفاق بين أهل الأمّة الواحدة المصن ّفة فاضلة .وهو ما يكشف عن
فإ ّ
باستعمالهم لها غرض له فيهم أو بهم محدودا “.كتاب الملّة ونصوص أخرى ،حقّقها وقدّم لها وعل ّق عليها محسن مهدي (بيروت:
دار المشرق.55 ،)1771 ،
”والملّة وا لد ّين يكاد يكونان اسمين مترادفين ،وكذلك الش ّر يعة والسن ّة ،فإن هذين إنّما يدلا ّن و يقعان عند الأكثر على الأفعال 3
المقدّرة من جزأي الملّة .وقد يمكن أن تسمّى الأفعال المقدّرة أيضا شر يعة ،فيكون الش ّر يعة والملّة والدّين أسماء مترادفة “.كتاب
الملّة.51 ،
4بحث منسي ّة مقداد مسألة العلاقة بين الفلسفة والعلوم الإسلامي ّة وانتهى بالخصوص إلى تنو ّع مصادر الفارابي الفلسفي ّة والش ّرعي ّة
في كتابه :الفارابي فلسفة الد ّين وعلوم الإسلام (بيروت :دار المدار الإسلامي.)2015 ،
9
11سبتمبر 2021
مدى حضور المعطى الش ّرعي في توجيه آراء وأفعال الأمّة نحو الأصلح ،باعتبار الملّة هي أصل الل ّقاء بين أهلها
على اختلاف مراتبهم.
سعادة أهل المدينة الواحدة أو
يؤخذ الأصلح ،في هذا السياق ،بمعنى الأع ّم نفعا ،ولا يختلف حول طلب ال ّ
جمع الأمم .فكما يشترك أعضاء المدينة لبلوغ سعادة مرتقبة يأتلف أهل الأمّة لتحصيل نفس الغرض .يلخّ ص
الفارابي هذه المقاصد في قوله:
ن هذه كل ّها لا تمكن إلا ّ أن تكون في المدن مل ّة مشتركة تجتمع بها آرائؤهم واعتقاداتهم
”وتبي ّن مع ذلك أ ّ
وأفعالهم وتأتلف بها أقسامهم وترتبط وتنتظم وعند ذلك تتعاضد أفعالهم وتتعاون حت ّى يبلغوا الغرض الملتم َس
1
وهو السّعادة القصوى“.
ينص المعل ّم الث ّاني على اعتبار المل ّة أساس اجتماع أهل الأمّة الواحدة ،لأنّها تُحيل عامّة على مجمل الآراء التي
ّ
ن أساس هذه الآراء يختلف بين الأمم بحسب اختلاف
تسي ِّّر أفعالهم وتُح ّد د سب ُل وشروط تعاونهم .بقي أ ّ
ل أمّة من جهة أخرى.
الشّيم والطّبائع والألسن من جهة 2،ووفق الت ّباين حول طبيعة الآراء التي تختارها ك ّ
3
ل الأمم على ذات المقو ّمات ،وهو ما يُفهم من الت ّقاطع الذي أقر ّه الفارابي في علاقة الملّة بالفلسفة.
لا تجتمع ك ّ
تتبع بذلك مل ّة الأمّة الفاضلة الفلسفة الحقة ،أمّا التي تسير وفق الممو ّهة أو المغالطي ّة فتكون آراؤها المشتركة من
هذا الجنس.
نعود إلى الأمّة الواحدة ،حيث يحصل الإجماع الحَسن بين أعضائها نتيجة تعميم الآراء والأفعال الملي ّة الفاضلة
خواص من الفلاسفة وأصحاب الجدل ،وإنّما تشمل أيضا العوامّ الذين
على كل مكو ّناتها .فلا ينفرد بمعرفتها ال ّ
يفتقرون للشدّة المطلوبة في القوى الن ّاطقة مقابل نماء المتخيّلة عندهم 4.يجب لذلك أن يتلقّى هؤلاء مضامين
طبيعي ّة وهو الل ّسان أعني الل ّغة التي بها تكون العبارة “.كتاب السّياسة المدني ّة.90 ،
الأشياء ال ّ
حول مسألة الت ّقديم والت ّأخير بين الملّة والفلسفة انظر :كتاب الحروف ،حقّقه وقدّم له وعل ّق عليه محسن مهدي (بيروت :دار 3
المشرق151 ،)1770 ،؛ وانظر بخصوص المقارنة بين المدينة الفاضلة ومضادّاتها والآراء الت ّابعة لها كتاب منسي ّة مقداد ،الفارابي
فلسفة الد ّين 139 ،وما بعدها.
خواص أوّلا وفي الجودة على الإطلاق الفلاسفة ،ثم ّ الجدليون والسّفسطائيون ،ثم ّ واضعو الن ّواميس ثم ّ المتكل ّمون
”و يُجعل ال ّ 4
والفقهاء والعوامّ والجمهور “.ورد هذا الت ّمييز بين الخاصّة والعامّة عند الفارابي في كتاب الحروف.155 ،
10
11سبتمبر 2021
الآراء النظر ي ّة في هيئة يفهمونها حت ّى يقبلون على الأفعال الت ّابعة لها دون معاندة ،وهو ما يحيل على وجود
1
وظيفة تعليمي ّة في تعميم المضمون الش ّرعي للمل ّة ق ِّوامها التّمثيل والت ّخييل.
وبالجملة ي ُراد بالآراء الت ّابعة للملّة تعليم الجمهور—وهم غالبي ّة مكو ّنات الأمّة— كيفيات الت ّعايش المشترك ،وتنبيههم
إلى غايات الوجود وإرشادهم إلى سبل الت ّعاون؛ وهي مسائل معلومة عند الخاصّ ة ،ل كن أذهان الجمهور قاصرة
عن إدراكها و يحتاجون إلى من يعينهم على التماسها .يعود هذا القصور في إدراك العوامّ عند كل من المعل ّم الث ّاني
والشّيخ الر ّئيس إلى صنف القوى الحيو ي ّة بمعنى الفاعلة ،فأكثر القوى حركة هي المتخيّلة التي تقبل وتحفظ
الصّ ور المتأتي ّة عن الخيال وتعيد تركيبها واستحداث أخرى لم تكن 2.تُجيد لذلك هذه الفئة الانتفاع بما يبلغها
مصو ّرا في هيئات جميلة وتُقبل عليه وتستحسنه ،ويتأت ّى من ثم ّة تمرير الآراء النظر ي ّة إليها وإقناعها بإتيان أفعال
تنتهي بها إلى حال السّعادة الحقيقي ّة.
يسهل حينئذ فعل الإقناع بحقائق الله والبعث باعتبارها في الأصل آراء نظر ي ّة ،كما يتيس ّر أيضا ش ّد الجمهور إلى
الت ّعاون الد ّائم على بلوغ الخ ير المشترك بما هو السّعادة .يقول الفارابي في هذا الباب” :الملّة يُلتمس بها تعليم
الج مهور الأشياء النظر ي ّة والعملي ّة التي استُنبطت في الفلسفة بالوجوه التي يتأتى لهم فهم ذلك ،بإقناع أو تخييل
3
أو بهما جميعا“.
تُمث ّل الآراء الش ّرعي ّة إحدى وجوه تحديد كيفيات الت ّعايش المشترك بين أفراد نفس الأمّة ،فما يظهر في الش ّرع
يسهل تمثّله عندهم لأنّهم يتل ّقونه في شكل محاكاة وتمثيل .و يتم ّ الاعتماد أساسا على بُنى رمزي ّة تقر ّب المعنى
إلى الأذهان وتمكّن منه الأفهام ،بما يتناسب مع طبيعة قوى المجموعة التي لا تقوى على استيعاب الأمور
4
تكتف بتخيّلها.
ِّ مبرهنة بل
1اشتغلنا على مسألة الت ّخييل ودوره في تبليغ المضامين النبو ي ّة إلى الجمهور ضمن كتابنا :ابن سينا الت ّخييل والشّعر والنبو ّة (تونس :مجمع
ختص ،)2019 ،انظر خاصّة الصّ فحات 171وما بعدها .وعد أيضا بخصوص الحقائق الفلسفي ّة ومثالاتها الملي ّة
الأطرش للكتاب الم ّ
إلى كتاب مقداد منسي ّة ،الفارابي فلسفة الد ّين.199–199 ،
يتحدّث الفارابي عن قو ّة المتخيّلة في فصول منتزعة ،29 ،وأتى ابن سينا على أفعال هذه القو ّة ووظائفها وممكناتها في العديد من 2
المواضع نذكر منها مثلا ما ورد في الن ّجاة في الحكمة المنطقي ّة والطبيعي ّة والإلهي ّة (القاهرة :مطبعة محي الدين ال كردي–117 ،)1759 ،
حس ،والمتخيّلة
ن الخيال لا يكون ما فيه إلا ّ مأخوذ عن ال ّ
.190و يقول في المبدأ والمعاد” :والفرق بين القو ّة المتخيّلة وبين الخيال أ ّ
ُحس البت ّة مثل إنسان طائر وشخص نصفه إنسان ونصفه شجرة “.تحقيق عبد
ُحس ولا ي ّ
قد تركّ ب وتُفصّ ل وتُحدث من الصّ ور ما لم ي ّ
الله نوراني (تهران :سلسلة دانش إيراني1555 ،ه 1725/م).75–75 ،
3الفارابي ،كتاب الحروف.151 ،
يمكن العودة في هذا الباب إلى كتاب الآراء ،155 ،وفيه يؤكد الفارابي اختلاف مراتب التّمثيل والمحاكاة بين الأمم .وانظر 4
بخصوص مضامين هذه المفاهيم الفارابي ،الشّعر ،تحقيق عبد الر ّحمان بدوي (بيروت :دار الثقافة .)1795 ،واشتغلنا على مجمل هذه
11
11سبتمبر 2021
ل صنف داخل الأمّة ،إذن ،بمنهج يمكّنه من تلقّي ما يناسبه من الآراء .يملك الفلاسفة نهج البرهان
يحظى ك ّ
الذي منه ينتهون إلى الت ّحقيق ،بينما يكتفي الجمهور بطر يق التخي ّل الذي يبلغون بواسطته الت ّصديق بالأمور
النظر ي ّة المستعصية عن الأذهان؛ وهو ما يفيد اشتراك الكلّ في نفس المل ّة على اعتبار وحدة المضمون وتعاون
الجميع على بلوغ ذات المقاصد رغم اختلاف السّبل.
انتهينا إلى هذا الح ّد عند جواز تحقّق الت ّواصل بين أهل المدينة بناء على معطى الائتلاف وداخل الأمّة اعتمادا
على المشترك في المل ّة ،ل كن إذا كانت ضرورة الن ّوع هي ما يفس ّر الاجتماع في المدينة وعناصر القرابة الملي ّة هي
ن الت ّشر يع للأمر على مستوى المعمورة
ما ي يس ِّّر الت ّوافق ويمكّن من الت ّعايش الجمعي بين أهل الأمّة الواحدة ،فإ ّ
يطرح إشكالا حقيقي ّا .إذا كان الت ّواصل ال كوني يفيد بالخصوص ائتلاف أمم كثيرة داخل المعمورة ،فما الذي
يشرّع القول بوجود إنساني ّة مشتركة؟ وكيف يتم ّ الت ّأصيل لذلك رغم واقع الت ّباين الشديد بين الأمم؟
-3مقتضيات الل ّقاء بين أمم المعمورة
ل أمم المعمورة بعضها على بعض ،ويبلغ الوجود الإنساني منتهاه حين
يكتمل الت ّواصل بين البشر عند انفتاح ك ّ
يتم ّ تجاوز العلل المانعة لهذا الل ّقاء .و يجب أن لا يمث ّل ،وفق ذلك ،الت ّباعد الجغرافي بين الد ّول علّة مانعة لاندماج
البشر ي ّة في موطن موحّد ،كما لا يُع ّد الت ّباين في الطّبائع من المعوقات التي تحول دون حصول الاجتماع الكل ّي
للإنسانية ،خاصّ ة مع تبيُن تجاوزه في مستوى الأمّة .وهو ما يستوجب البحث في شروط تؤمّن حصول الت ّواصل
في هيئته الموسّ عة ،والتي ارتأينا اختزالها أساسا في البعدين القيمي والمعرفي.
في الائتلاف بين الأمور النظر ي ّة والعملي ّة:
يبقى تحقّق مشروع الت ّواصل الأممي مشروطا بمقو ّمات نظر ي ّة تتأصّ ل في الفلسفة ،وبذلك نفهم عل ّة تقدّمها
1
ل شكل للتجمّع البشري.
بالز ّمان على المل ّة ،وتنصيص المعل ّم الث ّاني على هذا الت ّرتيب له دلالته المخصوصة مع ك ّ
ن تلقّي الأشياء النظر ي ّة يتم ّ برهاني ّا عن القو ّة الن ّاطقة ،لذلك تحصل
ومثلما أشرنا سلفا ،تعود عل ّة هذا الت ّقديم إلى أ ّ
خواص دون غيرهم وبها يُحصّ لون الأمور العملي ّة وينالون السّعادة .يُخ تزل الأصل الأوّل ،إذن ،للاشتراك
عند ال ّ
ل البشر ،يقول الفارابي” :وإذا
الذي اتّ خذ طابعا شمولي ّا هنا في وحدة المقصد ،فهو من الأمور المعتبرة عند ك ّ
المسائل ضمن عمل بعنوان :تأو يل كتاب الشّعر لأرسطو ومراحله في الفلسفة العربي ّة الوسيطة ،قدّم لنيل شهادة الد ّراسات المعمّقة
في الفلسفة ،إشراف الأستاذ مقداد منسي ّة (تونس :كلي ّة العلوم الإنسانية ّ والاجتماعي ّة .)2005 ،كما يمكن الإفادة في هذا الباب
من دراسات كل منPhilippe Vallat, Farabi et l’école d’ Alexandrie (Paris : Vrin, 2004), 296–301; Maroun :
Aouad et Gregor Schoeler, “Le Syllogisme poétique selon al Fârâbî, un syllogisme incorrecte selon la
deuxième figure,” Arabic Sciences and Philosophy, vol. 12 (2002): 185–196.
1أتى الفارابي على هذه المسائل في كتاب تحصيل السّعادة.70 ،
12
11سبتمبر 2021
1كتاب السّياسة المدني ّة .99 ،و يقول أيضا مؤكّدا الت ّلازم بين ثالوث الاجتماع والت ّعاون والسّعادة” :والأمّة التي تتعاون مدنها كل ّها
على ما تنال به السّعادة هي الأمّة الفاضلة وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السّعادة“.
الآراء.115 ،
2الحروف.137 ،
13
11سبتمبر 2021
بحركة الذ ّهن من الأوّل إلى الث ّواني حركة انتقالي ّة يُطلب بها الح ّد الأوسط .وإمّا بغير حركة بل بحصول الح ّد الأوسط دفعة فالطر يق
الأوّل ما يسمّى فكرا والث ّاني ما يسمّى حدسا “.الفن الخامس من الكتاب الث ّاني من كتاب النكت والفوايد في العلم الطّبيعي ،جمع
فؤاد سزكين (فرنكفورت :معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامي ّة.115–112 ،)1777 ،
14
11سبتمبر 2021
يتسن ّى ذلك عن تعديل في دلالة مفهوم الاختلاف من خلال فعل تنقيح نستخرج منه معاني الت ّعارض
والخلاف والمضادّة ونبقي بالمقابل على معاني الت ّفاوت والمغايرة .يحيل هذا الت ّصويب على ضرورة تجاوز المعاني
الظّاهرة والسطحي ّة للكلمة إلى دلالاتها العميقة والمثمرة.
ل من الأجدر اعتباره ق ِّوام العملي ّة
وعليه ،وجب أن لا يُع ّد الاختلاف عائقا ،بل أداة في تحقيق الت ّواصل؛ ولع ّ
ن الات ّفاق معه لا يُحيل البت ّة على الت ّجانس.
التواصلي ّة بكاملها ،ولم تعد مغايرة الآخر حاجزا يمنع التوجّه إليه كما أ ّ
يُشار بالقاعدة الث ّانية إلى مفهوم الاعتراف ،و يُفيد بالأساس الاعتبار الموجب لما يصدر عم ّن يغايرنا .وبما أنّنا
نتحدّث عن المفهوم في إطار تجويز الت ّعامل مع الآخر خارج الأمّة ،فإنّنا نشير به تحديدا إلى تقدير الإنتاج المعرفي
والإقرار من ثم ّة بأهمي ّة المنزلة المعرفي ّة للغير.
وجب أن نقر ّ له بالجهد المبذو ل في إنتاج العلم حت ّى وإن لم يصدر عن ّا وكان له السّبق في تحصيله ،و يدخل
الإقرار بهذا الجهد وبامتلاك الفضائل النظر ي ّة في باب الاعتراف .و يُترجم هذا الفعل الت ّقديري في الأخذ عن
الآخر وعدم الاحتراز من نتائج وسبل الت ّفلسف المحصّ لة عنده؛ وبالجملة يفترض اعتبار ما يبلغنا منه من علم عبر
حسن الأخذ عنه في هذا الباب.
نجد في قول الفارابي إقرارا بإسهام الآخر في معرفة الحق” :والفلسفة التي هذه صفتها إنما تأدّت إلينا من اليونانيين
عن أفلاطن وعن أرسطوطاليس وليس واحد منهما أعطانا الفلسفة دون أن أعطانا مع ذلك الطّرق إليها
1
طرق إلى إنشائها متى اختل ّت أو بادت“.
وال ّ
أتى المعل ّم الث ّاني على هذه الأمور ضمن مشروع سياسي مدني يقوم على تمييز المدينة الفاضلة عن المدن الجاهلة
والضالّة؛ وضمن مشروع تراتبي في نفس الآن ،يبدأ بالن ّظر من أبسط أنواع الاجتماع إلى أكثرها تعقيدا .كما
لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن ال كندي قد انشغل ،أيضا ،بالت ّأصيل لوجود إنساني مشترك في هيئته ال كوني ّة،
وهو ما يتأت ّى معه عن توف ّر قواعد ذات طبيعة معرفي ّة بالأساس.
الاشتراك في طلب الحقّ
بغض الن ّظر عن اعتبارات الز ّمان والمكان ،وعليه وجب أن يُقال باشتراك بين
يُنسب الحقّ إلى الإنسان الكل ّي ّ
كل البشر ومن ثم ّة الإقرار بدور الجميع في تحصيله .لا يصحّ إذن تفضيل أمّة على أخرى بمقتضى الفاعلي ّة العلمي ّة
ل أمّة مقدار من مجموع المعارف
المباشرة ،بل الأصل اعتماد مبدأ الت ّوز يع المتناسب لصناعة الحقّ بين الأمم .فلك ّ
ن أمر الاعتراف بقيمة وقدرة
الإنساني ّة المحصّ لة وجب إقراره وتزكيته رغم ضآلته .لذلك يؤكّد ال كندي على أ ّ
الآخر لا يتم ّ عن فعل الت ّحصيل المستوفي للمعرفة ،وإنّما يمكن الاكتفاء فيه بحصول المشاركة .فالحقّ لا يقاس
1تحصيل السّعادة ،حقّقه وقدّم له علي بو ملحم (بيروت :مكتبة الهلال.77 ،)1773 ،
15
11سبتمبر 2021
بالمقدار بل بالسّعي والطّلب .يقول في هذا الباب متحدّثا عن كيفي ّة الت ّعامل مع الآخر وفق القاعدة العلمي ّة:
” ينبغي أن يعظ ُم شكرنا للآتين بي َسير الحقّ فضلا عم ّن أتى بكثير من الحقّ إذ أشركونا في ثمار فكرهم وسهّلوا لنا
المطالب الحقي ّة الخفي ّة بم ا أفادونا من المقدّمات المسهّلة لنا سبل الحقّ فإنّهم لو لم يكونوا لم يجتمع لنا مع شدّة
1
البحث ...هذه الأوائل الخفي ّة“.
اختزل ال كندي شكل الاعتراف للآخر في معنى الشّكر وهو عرفان الإحسان ونشره والث ّناء عليه والإقرار
بالفضل التامّ للغير 2،دون اعتبار مقدار إسهامه في بناء الحقّ .يُعتبر تقدير الآخر إذن واجب أخلاقي لا يُقاس
بالت ّحصيل بل يكفي فيه المحاولة والسّعي ،وإذا قدّرنا ضعف ما بلغنا عنه فالواجب أن لا يؤخذ في منحى الت ّقصير
لأن ذلك وسع الجهد الذي لا يقاس كما ذكرنا بال م .
يقول محسن مهدي معل ّقا على خصوصي ّة هذا التصو ّر للعلاقة بين الن ّحن والآخر أن ّه أقيم على” :اعتراف ال كندي
بما يُسمّيه الإسهام في الحقّ الذي قدّمه الأقدمون الذين يعتبرهم أسلافا ،هو الانفتاح وعرفان الجميل الل ّذين
3
بيدهما هذا الإسهام“.
ننتهي بناء على قاعدتي الاشتراك والاعتراف إلى إعادة بلورة مفهوم الت ّعاون حت ّى يستجيب إلى الامتداد الأممي
ل الإنسان .وعليه ،لا يُحيل الت ّعاون في الفكر العربي الوسيط على الأخذ التامّ والمطلق عن
وينسحب على ك ّ
الآخر أو ما يسمّى بالتلقّي السّلبي ،بل هو في الحقيقة تعبير عن الانتفاع بما توصّ ل إليه الغير في حدود ما تسمح
به طبيعة أمّتنا .وبتعبير آخر ،استثمار المعرفة وتطو يع ما نملك من قدرات لفهم مضمون الحقّ والعمل على
الإسهام فيه عبر عملي ّات تقييم تقوم على الت ّنقيح والن ّقد والمراجعة والإضافة.
بغض الن ّظر عن الوافد
ّ ل الأمم وبلوغه مطلبا كل ّيا عند الجميع،
يكون بذلك بناء الحقّ أمرا مشتركا بين ك ّ
والمستفيد وعن المانح والآخذ .فالأمر لا يؤخذ من جهة الت ّقايض ،وإنّما يُنظر إلى المسألة على أنّها ترجمة للفعل
الإنساني أينما و ُجد.
ل أشكال
كما يستبطن الت ّعاون فضائل أخرى من قبيل توقير إنجاز الآخرين وتثمين إسهامهم ،وتجن ّب في المقابل ك ّ
الت ّعالي الذي ق د يُترجم في الاستهزاء بما ينتج غيرنا أو احتقاره لأسباب لا تُحيل إلا ّ على الت ّعجرف .يقول
ال كندي معب ّرا عن مجمل هذه المعاني الدالّة على شروط الت ّعامل الخلقي مع الإنسان الغير” :ومن أوجب الحقّ
أن لا نذمّ من كان أحد أسباب منافعنا الصّ غار الهزلي ّة فكيف بالذين هم أكبر أسباب منافعنا الحقيقي ّة الجدي ّة،
ال كندي ،رسالة في الفلسفة الأولى ،ضمن رسائل ال كندي الفلسفي ّة ،تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة :دار الفكر 1
16
11سبتمبر 2021
فإنهم وإن قصروا عن بعض الحقّ فقد كانوا لنا أنسابا وشركاء بما أفادوا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سُبلا
1
وآلات مؤدّية إلى علم كثير مم ّا قصروا من نيل حقيقته“.
يحصل الت ّفاعل مع الآخر ويتجسّد واقعي ّا عن توف ّر شروط مادي ّة هذه المر ّة ،والمقصود امتلاك أدوات تحقيق
القرابة معه .وتمث ّل الل ّغة أحد أه ّم هذه الآليات ،و يتم ّ تطو يعها حت ّى تكون قادرة على استيعاب المعاني الفلسفي ّة
الموجودة في فكر الآخر .ولنا في حركات الن ّقل والت ّرجمة في الفترة الإسلامية الوسيطة مثالا على تحقّق التطو يع
الل ّساني لمادّة معرفي ّة ذات أصول خارجي ّة.
وإذا ع ّد الاشتغال على الل ّغة وفق هذه الهيئات تعبيرا عن الن ّجاح في اعتماد الأدوات المحقّقة للت ّواصل المعرفي
ن المحتوى المعرفي المطلوب يجب أن يُنقل في ألفاظ مناسبة وهو ما يستدعي أيضا اختراع أسماء
بين الأمم ،فإ ّ
2
ملائمة .يُحيل ذلك على البعد الخلا ّق في المعرفة والإبتكار في الت ّعامل مع الحق إذا كان واردا عن الآخر.
يُفيد الاشتراك ،كما تقدّم ذكره ،الإسهام الفعلي في الفعل المعرفي و يعب ّر عن حقيقة وجِّدي ّة الت ّفاعل مع ما ير ِّد
عن الآخر عبر الن ّقل والش ّرح والت ّعليق ،وبالجملة يُترجم حسن التلقّي عنه .ونجد مع محسن مهدي في فلسفة
ال كندي خير مثال على الت ّواصل الن ّاجع ،في معنى المقام على الت ّفاعل بين الأمم في مستواه المعرفي؛ فقد أدرك
المعنى الحقيقي للانفتاح على الآخر وتمث ّل الوجوه المختلفة للإفادة منه.
ل ما جاء به
يقول مهدي متحدّثا عن كيفي ّة تمث ّل ال كندي لفعل التلقّي الأممي” :ولا يعني هذا أن ّه يقبل ك ّ
الإرث ،وكما يقول في أحد المقاطع المشهورة فإن ّه لمن واجبه أن يفهم ويستوعب ويتم ّم و يعدّل ما قد نقله هذا
3
الإرث بلغته الخاصّ ة وتبعا لتقاليده الخاصّ ة“.
الد ّين وجه للت ّقارب بين الأمم
قد يتسن ّى توسيع قاعدة الل ّقاء بالآخر عند إدماج الحقيقة الد ّيني ّة باعتبار النبو ّة مشروعا إنسانيا ذا مضامين محاكية
حث على الفضائل الحامية لتعايش البشر .فما يحصّ له الفيلسوف بالبرهان
للمحتوى الن ّظري ،وجوهر تعاليم النبيّ ال ّ
يبلغه النبيّ وحيا؛ يختلف التلقي إذن والمضمون واحد ،وتتعدّد الر ّسالات ومتن الد ّعوة واحد ،وهو التدبير
المدنيّ للت ّعايش الأفضل والعلم بأسباب الوجود وغاياته.
الحروف .137 ،ويذكر أمثلة عديدة عن نقلة ألفاظ أساسي ّة في الفلسفة بين ألسن كثيرة منها الفارسي ّة واليوناني ّة والسر يانية والعربي ّة
من قبيل لفظ الذ ّات ولفظ الوجود .انظر :الحروف.111–101 ،137 ،
3محسن مهدي ،الفارابي وتأسيس الفلسفة السّياسية الإسلامية.97 ،
17
11سبتمبر 2021
يقول ابن سينا متحدّثا عن وحدة المضمون الن ّبوي رغم تعدّد الش ّرائع” :والر ّسول هو المبل ّغ على أيّ عبارة
استصوبت ما استفاد من الإفاضة المسمّاة وحيا على أيّ عبارة استصوبت ليحصل بآرائه العالم الحس ّي بالسّياسة
1
والعالم العقلي بالعلم“.
بالإمكان اعتبار الأساس الد ّيني ،وفق ذلك ،فضاء لقاء الإنسانية؛ ولن يغي ّر كما ذكرنا اختلاف الش ّرائع طبيعة
الحقائق المحمولة في النبو ّة ،كما لن يُبطل أيضا اعتبارها جميعا للفضائل ومنها الت ّسامح والتآخي والت ّعاون .يتحو ّل
الد ّين من خلال الوظيفتين التعليمي ّة والتدبير ي ّة إلى وجه من وجوه الت ّقارب بين الأمم استنادا إلى مبدأ وحدة
2
الحقيقة الذي أقر ّه ابن سينا.
تمكّن مثل هذه المقاربة من تجاوز الن ّظر إلى الد ّين على أن ّه موضع خلاف بل وتفرقة بين البشر ،واعتباره في
المقابل مجال جمع وعنصر مه ّم في تأكيد الت ّعايش المشترك .وذلك يبقى مشروطا أساسا بطبيعة المضامين النظر ي ّة
والعملي ّة الت ّابعة له.
نخلص عن نظر في شروط الت ّواصل على مستوى المعمورة إلى تشر يع فلسفي يؤسّ س لتوسيع دائرة الاجتماع
الإنساني الفاضل ليشمل ال كوكب ،ونجد في ذلك تلاؤما —نكاد نجزم أن ّه تامّا— مع القول بال كوني ّة الإنسانية.
فعبارتا اجتماع المعمورة والت ّواصل ال كوني تُحيلان على الت ّشر يع لتعايش إنساني ق ِّوامه الفضائل أو لنقل القيم
الإنسانية.
يع ّد الاختلاف والاعتراف والت ّعاون قواعد للتعايش المشترك على مستوى كوني ،وذلك ما تم ّ الت ّشر يع لجوازه
في الفلسفة الوسيطة ويستحقّ أن نستعيده اليوم ،وإن كان تحت أسماء مختلفة فالأصول ذاتها تت ّصل بالبعد
القيمي في الإنسان ونعني الفضائل.
وكأنّنا نستعيد اليوم ذات المعنى ونفس الد ّعوة إلى الت ّعايش معا رغم تغي ّر البنية المفهومي ّة ،ولم يعد الت ّعاون
ل أمم المعمورة .وعليه ،يُصبح معطى الحقيقة
مقتصرا على المدينة أو الأمّة ،بل هو قابل للتوسّ ع حت ّى يشمل ك ّ
ن الحقّ يُطلب بمسالك مختلفة منها
هو فضاء الاقتراب من الآخر وأساس الاشتراك الفعلي معه؛ إذ المعلوم أ ّ
البرهاني ّة والش ّرعي ّة ،وإذا انكش ف وجه الاشتراك في المسلك الأوّل فإن الث ّاني يبقى في حاجة إلى مزيد من
البيان حت ّى يكون مصدر ائتلاف فعلي بين الأمم السّابقة والحاضرة.
1ابن سينا ،إثبات النبو ّات ،حقّقها وقدّم لها ميشال مرمورة (بيروت:دار الن ّهار للن ّشر.59 ،)1719 ،
2يمكن الإفادة في هذا الباب من كتابنا ابن سينا الت ّخييل والشّعر والنبو ّة.509–505 ،
18
11سبتمبر 2021
خاتمة
يبقى تحقيق مشروع الت ّواصل ال كوني مشروطا أساسا بإرادة الأمم وخياراتها .فالأمّة التي تُقب ِّل على طلب
الفلسفة تضمن تحصيل الش ّروط اللا ّزمة لحسن المعاش؛ أمّا الأمّة التي تنهَ ى عن الفلسفة نظرا لفساد آراء أهلها
فسي ُضمن فيها تواصل حالة الجهالة والانغلاق ،ويمنع رؤساؤها استفاقة أهلها لأن في ذلك خير لهم.
من جهة أخرى ،يؤدّي ابتعاد الأمّة عن طلب الحقّ درء الأمم الأخرى المتقو ّمة به؛ وذلك ما نرى فيه عائقا
ل كل عملي ّة تواصلي ّة تنم ّ عن المشاركة في بناء الحقّ وطلبه .ونستعيد قول
حقيقي ّا يمنع الانفتاح على الآخر ويش ّ
ل مل ّةكانت معاندة للفلسفة فإن صناعة الكلام فيها تكون معاندة للفلسفة،
الفارابي في هذا الباب” :والظّاهر في ك ّ
1
وأهلها يكونون معاندين لأهلها على مقدار معاندة تلك المل ّة للفلسفة“.
ننتهي ،وفق ذلك ،إلى أن العلم أداة الانخراط الفعلي في المنظومة ال كونية (على اعتبار الفلسفة في مفهومها
الشامل العلم بالمبادئ الأولى للموجودات) ،وجب إذن على كل أمّة تستنكر الانعزال جعل المعرفة من أوّل
مطلوباتها.
ل قول بالمركز ي ّة ،سواء
نضيف إلى هذه الشروط عوامل أخرى أهم ّها التخل ّي عن الاعتداد بالن ّحن وتجاوز ك ّ
كان أساسه فلسفي ّا أو ديني ّا ،والإيمان بأن الحق واحد يقال بلغات عدّة ومناهج مختلفة و يحصل عن إسهامات
أمم كثيرة.
ن فلاسفة الفترة الإسلامية الوسيطة بحثوا في مسألة الت ّعايش بين البشر ووجدوا في الفضائل
ننتهي إجمالا إلى أ ّ
بأنواعها خير تجسيد لذلك .وهو ما يدعونا اليوم إلى استعادة هذه التصو ّرات أو السّعي إلى تطو يعها حت ّى
ن البحث في هذا الاتّ جاه بقي منقوصا و يحتاج إلى عناية أوفر.
تستجيب إلى مقتضيات عيشنا المعاصر؛ ونرى أ ّ
ل التحو ّل من طرح الفاضل إلى الإيتيقي فيه بعض الت ّعبير عن المشروع الإنساني السّابق.
ولع ّ
يجب الت ّأسيس لهذا المطلب وفق مقو ّمات جديدة تستجيب إلى طبيعة المعاش راهنا ،في سعي إلى الارتقاء
بالإنسانية عبر تدعيم فعل المشاركة.
1الفارابي ،كتاب الحروف .139 ،ونشير إلى أن تقسيم الأمم بحسب امتلاكها للفلسفة ورد في :الفارابي ،كتاب الحروف.131 ،
19
2021 سبتمبر11
Bibliorgaphy
Al-Jwīnī, Suʾād. Ibn Sīnā at-takhyīl wa-sh-shiʾr wa-n-nubuwwa. Tunis : Majmaʿ al-ʾAtrash li-L-kitāb
al-Mukhtas, 2017.
ـــــــــــــــــــ. Kitāb ash-shiʾr li- Arīstū wa-taʾwīluhu fī al-falsafa alʾarabiyya al-wasīta. Tunis : Majmaʿ
al-ʾAtrash li-L-kitāb al-Mukhtaṣ, 2017.
Al-Fārābī, Abū Nasr. Kitāb as-Siyyāsa al-madaniyya. Edited by Fawzī Mitrī an-Najjār, Beirut: al-
Maktaba al-kāthūlīkiyya, 1715.
ـــــــــــــــــــ. ʾĀrāʾ Ahl al-madīna al-fāḍila. Edited by ʿAlī Abū Milhim, Beirut: Dār wa-Maktabat al-
Hilāl, 1773.
ـــــــــــــــــــ. Fusūl muntazaʿa. Edited by Fawzī Mitrī an-Najjār, Beirut: Dār al-Mashriq, 1993.
ـــــــــــــــــــ. Ash-Shiʿr. Edited by ʿAbd ar-Raḥmān Badawī, 2ed, Beirut: Dār al-Thaqāfa, 1973.
ـــــــــــــــــــ. Kitāb al-milla wa-nuṣūṣ ukhrā. Edited by Muhsin Mahdi, Beirut: Dār al-Mashriq, 1991.
Al-Ghanūshī, ʾAbdalmajīd. “Al-ʾusus an-nashkūniyya wa-al- ʿuḍwāniyya li falsaft al-Fārābī as-
siyyāsiyya.” Majallat al-Fikr, 21, n° 5 (février, 1976): 35–45.
Ali, ʿAbbās Murād. Dawlat ash-sharī‘a, qirā‘a fī jadaliyyat ad-dīn wa- s-siyyasa ʿinda al-Fārābī.
Beirut: Dār aṭ-Talī‘a, 1777.
Al-Kindī, Yaʿqūb Bnu Isḥāq. “Risāla fī al-falsafa al-ʾūlā.” in Rasāʾil al-Kindī al-falsafiyya. Edited by
Muhammed Abū Rīdā. Cairo: Dār al-Fikr al-ʿArabī, 1730.
Aouad, Maroun et Gregor Scheler. “Le syllogisme poétique selon al-Fārābī, un syllogisme incorrect
selon la deuxième figure.” Arabic Sciences and Philosophy 12 (2. 2002) : 185–196.
Ben ʿAbd alʿĀlī, ʿAbd as-Salām. Al-Falsafā as-siyyāsiyya ʿinda al-Fārābī. Beirut: Dār aṭ-Ṭalīʿa, 1981.
Habermas. Jürgen. The Theory of Communicative Action. Vol. 2. Boston : Beacon press, 1987.
Hamdī, Abū n-Nūr. Jürgen Habermas, al-ʾakhlāq wa-t-tawāsul. Beirut: at-Tanwīr li-t-Tibāʿa wa-n-
Nāshr, 2012.
Ibn Sīnā, Abū ʿAlī. Ash-Shifāʾ, al-ilāhiyyāt. Vol. 2. Edited by, Muhammad Yūsuf Mūsā, Sulaymān
Dunyā, Saʿīd Zāyd. Cairo: al-Hayʾa al-ʿĀmma li-Shuʾūn al-Matbaʿa al-ʾĀmiriyya, 1710.
ـــــــــــــــــــ. Aḥwāl an-nafs, Risāla fī an-nafs wa-baqāʾhā wa-maʿādihā. Edited by al-ʾAhwānī Aḥmad
Fuʾād, al-Madīna, Dār Iḥyāʾ al-Kitāb al-ʿArabiyya, 1952.
ـــــــــــــــــــ. Ash- Shifāʾ, an-Nafs (Psychologie d’Ibn Sīnā d’après son oeuvre aš-Šifāʾ. Edited by Ján
Bakoš, Prague : Edition de L’Académie Tchécoslavaque des Sciences: 1956.
ـــــــــــــــــــ. An-Najāt fī al-ḥikma al-mantiqiyya wa-ṭ-ṭabīʿiyya wa-l-ilāhiyya. Cairo : Maṭbaʿāt Muḥyī
ad-Dīn al-Kordī, 1759.
ـــــــــــــــــــ. Al-Mabdaʾ wa-lmaʿād. Edited ʿAbdu al-Lah Nūranī, Tehran: Silsilat Dansh Iranī,
Tehran, 1924.
ـــــــــــــــــــ. Al-ʾudḥawiyya fī ʾalma‘ād. Edited by Ḥassan ʿĀṣī, Beirut: Al-Muʾassasa al-Jāmiʿiyya li-n-
Nachr wa-t-Tawzīʿ, 1799.
ـــــــــــــــــــ. Risāla fī as-saʿāda. ḥaydar ʾAbād ad-Dakn: Dāʾirāt al-Maʿārif al-ʿUthmāniyya, 1755.
ـــــــــــــــــــ. Ithbāt an-nubuwwāt. Edited by Michel Mārmūra, Beirut: Dār al-Nahār li-Nashr wa-t-
Tuwzīʿ, 1719.
20
2021 سبتمبر11
ـــــــــــــــــــ. Al-Fan al-khāmis min al-kitāb ath-thānī min an-nukat wa-lfawaʾid, fī al-ʿilm aṭ-ṭabī‘ī.
Edited by Fuad Sezgin, Frankfurt : Maʿhad Tārikh al-ʿUlūm al-ʿArabiyya wa-l-Islāmiyya, 1777.
Mahdi, Muḥsin. Al-Fārābī wa-taʾsīs al-falsafa as-siyyāsiyya al- Islāmiyya. Tarjamat widād al-Haj
Ḥasan, Beirut: Dār al-Fārābī, 2007.
Mokdad, Mensia. Al-Fārābī falsafat ad-din wa-ʾulūm al-Islām, Beirut: Dār al-Madār al-Islāmī, 2015.
Vallat, Philippe. Fārābī et l’école d’Alexandrie. Paris : Vrin, 2004.
21
11سبتمبر 2021
تابع أنشطتنا
اتصل بنا
https://Philosmus.org
22