Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 96

‫جملة ربع سنوية – العدد الثاني والثالثون – يناير ‪2018‬‬

‫ذاكرة مصر – جملة ربع سنوية – العدد الثاني والثالثون – يناير ‪ – 2018‬تصدر عن مكتبة اإلسكندرية‬ ‫مكتبة اإلسكندرية‬
‫نحن �شعب ي�ستهويه املا�ضي‪ ،‬لكن هذا املا�ضي به غيوم‬
‫كثرية جتعلنا ال ن�ستطيع قراءته بدقة‪ ،‬من هنا تعد ذاكرة م�رص‬
‫جملة كا�شفة لهذا املا�ضي بدقائقه ن�سعى �إىل �سرب �أغواره‪،‬‬
‫وك�شف مالحمه‪ .‬لذلك ن�سعى الآن �إىل ت�أريخ القرى واملدن‬
‫وت�أريخ العائالت‪.‬‬

‫هكذا ن�سعى �إىل دعم التاريخ الوطني والباحثني‬


‫العاملني يف هذا املجال‪ ،‬فامل�ؤرخون يف وطننا خا�صة‬
‫ال�شباب منهم يحتاجون �إىل فر�ص‪ ،‬وهذا ما حر�صت عليه‬
‫منذ �أن توليت م�سئولية مكتبة الإ�سكندرية‪� .‬أدعو اجلميع‬
‫�أن تكون �أيديهم يف �أيدينا؛ لكي نهل م ًعا على التاريخ‬
‫حاليا �أدعم جملة ذاكرة م�رص‪ ،‬و�سوف‬
‫علما �أنني ًّ‬
‫الوطني‪ً ،‬‬
‫يتم �إتاحتها للمكتبات واجلامعات واملدار�س جمانًا‪.‬‬

‫الدكتور م�صطفى الفقي‬


‫مدير مكتبة الإ�سكندرية‬
‫�أحمد م�صطفى عبد العزيز‬

‫منظر ميثل امللك �إخناتون يتعبد ‪.‬‬

‫أي�ضا حماولة االبتعاد عن �سطوة وقوة‬


‫مل ُيعبد فيه �أي �إله من قبل‪ ،‬و� ً‬ ‫املوقع والت�سمية‬
‫كهنة �آمون املتواجدين يف طيبة التي نقل منها العا�صمة �إىل مدينته‬ ‫تقع العمارنة على بعد ‪ 10‬كيلومرتات من مدينة ملوي‬
‫اجلديدة (�آخت �آتون)‪.‬‬ ‫احلالية مبحافظة املنيا على اجلانب ال�رشقي من النيل‪ ،‬ومتتد على‬
‫ومل تتغري العا�صمة فقط بل قام امللك بتغيري �أ�سمائه املرتبطة‬ ‫م�ساحة ‪ 25‬كيلو مرتًا من ال�شيخ �سعيد �شما ًال حتى احلوطا‬
‫بالإله القدمي والعا�صمة القدمية فغري ا�سمه النبتي من عظيم امللك‬ ‫جنو ًبا‪ ،‬وهي منطقة حماطة ب�سال�سل اجلبال من ثالث جهات �رشقًا‬
‫يف الكرنك �إىل عظيم امللك يف �آفق �آتون‪ ،‬وا�سم التتويج من‬ ‫و�شما ًال وجنو ًبا‪ ،‬ويحدها من الغرب نهر النيل‪ .‬وت�شمل ًّ‬
‫حاليا‬
‫�أمنحتب الرابع والذي يعني �آمون م�رسور �إىل �إخناتون �أي النافع‬ ‫احلاج قنديل وتل العمارنة واحلوطا‪ ،‬وقد عرفت قدميًا با�سم‬
‫أي�ضا زوجته نفرتيتي التي غريت ا�سمها من‬ ‫�أو املحب لآتون‪ ،‬و� ً‬ ‫�آخت �آتون ‪� 3xt itn‬أي �أفق �آتون‪ .‬وحدي ًثا تُعرف بتل العمارنة‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫نفرت �إيتى �أي اجلميلة املقبلة �إىل نفر نفرو �آتون �أي اجلميلة‬ ‫ن�سبة �إىل قبائل بني عمران التي عا�شت يف املكان‪.‬‬
‫بجمال �آتون‪ .‬حيث تزوجها وهو يف عمر اثني ع�رش عا ًما وكان‬ ‫وقد حدد امللك �أمنحتب الرابع حدود مدينته بحوايل‬
‫عمرها يبلغ ثالثة ع�رش عا ًما و�أجنب منها �ست بنات‪ ،‬وهي مل تكن‬ ‫‪ 14‬لوحة عرفت فيما بعد بلوحات احلدود‪ ،‬والتي �سجل عليها‬
‫�أخته؛ حيث كانت العادة املتبعة يف ذلك الوقت زواج امللك من‬ ‫امللك الن�ص الت�أ�سي�سي للعمارنة وحدودها‪ .‬وذكر فيها �أنه لن‬
‫�أكرب �أخواته البنات‪ ،‬ولكن �إخناتون خالف تلك العادة وتزوج‬ ‫يغادر تلك املدينة حتى وفاته‪ ،‬تلك التي انتقل �إليها يف العام‬
‫من ابنة �أحد كبار النبالء‪.‬‬ ‫الرابع من حكمه؛ حيث قرر نقل دعوته الدينية �إىل مكان جديد‬

‫‪4‬‬
‫منظر ميثل امللك �إخناتون وامللكة نفرتيتي وهي مم�سكة ب�إحدى بناتها و�أخرى خلفها‪ ،‬وتظهر الأ�رسة وهي جال�سة يف ال�رشفة امللكية داخل الق�رص‪ ،‬ويف يد امللك قالدة ي�ستعد‬
‫لتقدميها تكرميًا لآي ك�أحد رجال البالط املخل�صني (مقربة �آي بتل العمارنة)‪.‬‬

‫�شديدا يف دعوته الدينية وامليل �إىل‬


‫ً‬ ‫إخال�صا‬
‫ً‬ ‫وقد �أخل�ص امللك �‬ ‫الدعوة الدينية للمك �إخناتون‬
‫التوحيد‪ ،‬ويت�ضح ذلك يف املجهودات التي قام بها امللك من �أجل‬ ‫يف بداية حكم امللك �إخناتون يف العمارنة اعرتف بالآلهة‬
‫ن�رش الديانة اجلديدة يف كل �أقاليم م�رص‪ .‬وكان بذلك يهدف �إىل‬
‫الأخرى ولكنه كان يريد يف قرارة نف�سه التخل�ص من بقية‬
‫أي�ضا مل ِ‬
‫يبد امللك �أي اهتمام بال�سيا�سة‬ ‫الق�ضاء على تعدد الآلهة‪ً � .‬‬ ‫كثريا من اخلرافات‪.‬‬
‫الديانات واملعتقدات التي كان يراها حتمل ً‬
‫من�صبا‬
‫ًّ‬ ‫اخلارجية بل على العك�س �أهملها متا ًما؛ حيث كان اهتمامه‬
‫روحيا؛ حيث �إنه ال ميكن مل�سه‬
‫ًّ‬ ‫معنى‬
‫ً‬ ‫كان �آتون بالن�سبة له‬
‫على ن�رش الدين اجلديد والذي كان يعتقد �أنه من خالله ميكنه ربط‬
‫أي�ضا‬
‫ولكنه �أب و�أم لهذه الب�رشية وموجود يف كل مكان‪ ،‬فهو � ً‬
‫ال�شعوب؛ عن طريق ال�سالم بد ًال من احلرب‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫ميكن �أن يظهر عن طريق �ضوء ال�شم�س؛ حيث كان امللك‬


‫وا�شتهر �إخناتون يف التاريخ العاملي ب�أنه «امللك الذي غري‬ ‫دائما ما يظهر داخل مقابر النبالء يف تل العمارنة وهو يتعبد‬ ‫ً‬
‫الديانة» �أو «امللك الذي ف�صل الديانة عن كل �أمور احلكم»؛‬ ‫للآله �آتون‪ .‬وكانت �صوره ب�أ�شعة ال�شم�س التي تهبط على امللك‬
‫حيث �أدى اهتمامه ال�شديد بالدعوة الدينية‪ ،‬وعدم اهتمامه‬ ‫و�أ�رسته وتنتهي بالأيدي رمز العطايا من الإله للملك‪ .‬ولكن‬
‫بال�سيا�سة اخلارجية �إىل �ضياع �أغلب ممتلكات م�رص يف اخلارج؛‬ ‫لي�ست تلك ال�شم�س بالإله بل القوة التي جعلت ال�شم�س تظهر‬
‫حيث كانت م�رص يف عهده ت�شمل �سوريا يف ال�شمال وت�شمل‬ ‫وهي بالن�سبة لهذا الكون تبعث احلياة وتقوي كل �شيء وتنميه‪.‬‬
‫احلب�شة يف اجلنوب‪ .‬فا�ستغل احليثيون (اململكة املعادية مل�رص يف‬ ‫ومل يكن لآتون �أية هيئة �آدمية وال ميكن �أن تُنحت له التماثيل �أو‬
‫�سوريا) ان�شغاله بالدعوة الدينية وقادوا �ضده التحالفات‪ ،‬التي‬ ‫�صور‪.‬‬
‫ُي َّ‬

‫‪5‬‬
‫نتج عنها ا�ستعادة ملك قاد�ش ل�سهل �سوريا ال�شمالية‪ ،‬وا�ستوىل‬
‫ملك عامور على ال�سواحل الفينيقية‪ .‬وقد عرفنا ذلك من خالل‬
‫خطابات العمارنة وهي عبارة عن لوحات �صغرية من الطني‬
‫املحروق ومغطاة بالكتابة امل�سمارية؛ وهي الكتابة امل�ستخدمة‬
‫يف ذلك احلني يف �سوريا وكانت تلك اخلطابات عبارة عن‬
‫املرا�سالت املتبادلة بني �إخناتون وملوك و�أمراء �سوريا وفل�سطني‬
‫كثريا؛ حيث ا�ستمرت‬ ‫املوالني مل�رص‪ .‬ومل ت�ستمر دعوته الدينية ً‬
‫حوايل ‪12‬عا ًما ثم انهارت تلك الدعوة ورمبا يرجع ذلك لعدة‬
‫�أ�سباب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫منظر ميثل �أ�رسة امللك �إخناتون‪.‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬وفاة امللك �إخناتون عن عمر يناهز ‪29‬عا ًما؛ حيث‬
‫أي�ضا‬
‫كان يعترب الرابط الوحيد �أو حلقة الو�صل بني الب�رش والإله‪ ،‬و� ً‬
‫املقربة‪ .‬وت�شابهت ب�شكل كبري املو�ضوعات التي �صورت على‬ ‫الكاهن الأكرب والأعظم لآتون الذي ينزل عليه العطايا ويقوم‬
‫جدران تلك املقابر؛ حيث كان �أهمها زيارة امللك وامللكة للمعبد‬ ‫امللك بتوزيعها على العامة‪ ،‬لذلك بعد وفاته مل ت�ستمر احلياة يف‬
‫أي�ضا منظر امللك وامللكة وبناتهما وهم يف و�ضع التعبد‬
‫الآتوين‪ ،‬و� ً‬ ‫العمارنة �سوى لثالث �سنوات حكم فيها امللك �سمنخ كارع‪،‬‬
‫ودائما ما �صور �صاحب املقربة وهو‬ ‫ً‬ ‫للإله �آتون داخل معبده‪.‬‬ ‫وامللك توت عنخ �آتون‪ ،‬الذي غري ا�سمه لتوت عنخ �آمون بعد‬
‫حممول على الأعناق من العامة‪ ،‬ويكرم من امللك وامللكة اللذين‬ ‫نقله العا�صمة �إىل طيبة والعودة مرة �أخرى �إىل عبادة �آمون‪.‬‬
‫كانا يجل�سان يف ال�رشفة امللكية داخل الق�رص‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬قوة و�سطوة كهنة �آمون؛ حيث يعتقد الكثريون �أنه‬ ‫ً‬
‫وتتميز النقو�ش والر�سوم التي ُزيِّ َنت بها جدران تلك املقابر‬ ‫يف بداية الأمر كان املق�صود من الثورة الدينية الق�ضاء على تلك‬
‫بالإ�رساف يف الواقعية حتى قاربت �أ�شكال الكاريكاتري واتخذت‬ ‫ال�سطوة وال�سيطرة عن طريق غلق معابدهم وتفريق كهنتهم‪،‬‬
‫مظهرا‬
‫ً‬ ‫من بروز مالمح الوجه وهبوط الب�رشة وبدانة الفخذين‬ ‫أي�ضا العمل على حمو ا�سم �آمون من كل اخلانات امللكية التي‬ ‫و� ً‬
‫عاما جلميع ال�شخ�صيات التي �صورت داخل املقابر‪ .‬كما حترر‬ ‫ًّ‬ ‫حتمل �أ�سماء امللوك ال�سابقني‪.‬‬
‫أي�ضا من القيود يف ت�صوير بع�ض املو�ضوعات التي تخ�ص‬ ‫ً‬ ‫�‬ ‫الفنان‬
‫كل ما �سبق �أثار حفيظة ه�ؤالء الكهنة الذين حاولوا جاهدين‬
‫امللك و�أ�رسته؛ حيث �صور �إخناتون يف �إحدى املقابر وهو يقبل‬
‫الق�ضاء على تلك الدعوة وجنحوا يف ذلك بالفعل يف عهد امللك‬
‫زوجته نفرتيتي‪ ،‬كما �صورت نفرتيتي يف �إحدى املقابر وهي‬
‫توت عنخ �آمون‪.‬‬
‫تر�ضع �إحدى بناتها وهي مو�ضوعات كانت نادرة الت�صوير على‬
‫جدارن املقابر خا�صة امللكية‪.‬‬
‫�أهم �آثار املدينة‬
‫�أما عن �أهم ما مييز تلك املقابر؛ فهي كونها غري مكتملة‬
‫حتتوي املدينة على جمموعة من املقابر و�صل عددها �إىل �ست‬
‫الإن�شاء؛ حيث البع�ض منها نحت فيه الفناء وال�صالة الأمامية‬
‫خم�ص�صا‬
‫ً‬ ‫وع�رشين مقربة ن ُِحتت يف ال�صخر‪� .‬أحد تلك املقابر كان‬
‫فقط‪ ،‬والبع�ض الآخر نحت فيه الفناء وال�صالة الأمامية وحجرة‬
‫لدفن العائلة امللكية‪ ،‬و�أخذت نف�س ت�صميم املقابر يف وادي‬
‫الدفن وامل�شكاة التي بها متثال �صاحب املقربة ولكن دون اكتمال‬
‫امللوك؛ ممر منحدر به ثالثة ممرات متفرعة منه‪ ،‬ومل ُيدفن فيها‬
‫للنقو�ش اخلا�صة بتلك املقربة‪ .‬ويرجع ذلك ل�سبب غاية يف‬
‫�سوى الأمرية ماكت �آتون؛ ابنة امللك �إخناتون والتي توفيت �أثناء‬
‫الأهمية قد يجهله الكثريون من غري الدرا�سني؛ وهو �أن تلك‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫فرتة حكمه‪� .‬أما بقية املقابر اخلم�سة وع�رشون فخ�ص�صت لأفراد‬


‫املقابر مل يدفن �أ�صحابها فيها؛ وذلك ب�سبب مغادرتهم املدينة‬
‫الطبقة احلاكمة والنبالء يف عهد امللك �إخناتون‪ ،‬وانق�سمت �إىل‬
‫بعد انتهاء حقبة العمارنة والعودة للأق�رص‪ ،‬فكان من الطبيعي �أال‬
‫�ست مقابر يف اجلانب ال�شمايل من املدينة وت�سع ع�رشة مقربة يف‬
‫ي�ستكمل العمل فيها و�أن ترتك مهملة مبا و�صل العمل بها �أثناء‬
‫اجلانب اجلنوبي‪.‬‬
‫فرتة احلكم يف املدينة‪ ،‬ولأن �أ�صحابها �أ�صبحت لهم مقابر �أخرى‬
‫يف الأق�رص‪� .‬أما عن �أهم �أفراد طبقة النبالء يف العمارنة و�أ�صحاب‬ ‫و�أغلب تلك املقابر تتكون من فناء ثم بهو كبري نحتت �أعمدته‬
‫تلك املقابر‪ ،‬نذكر منهم‪:‬‬ ‫يف ال�صخر ثم مق�صورة يف نهايتها م�شكاة بها متثال ل�صاحب‬

‫‪6‬‬
‫يف وادي امللوك ولكن دفن بها كملك للبالد؛ حيث �إنه‬ ‫مــاحــو‪ :‬رئي�س ال�رشطة يف عهد امللك �إخناتون ومقربته حتتوي‬
‫ا�ستطاع الو�صول للحكم فيما بعد‪ .‬وترجع �أهمية تلك املقربة‬ ‫على نق�شني غاية يف الأهمية والروعة‪ ،‬النق�ش الأول للملك‬
‫�إىل وجود الن�شيد الآتوين على جدارن �أحد مقابرها (ظهورك‬ ‫وامللكة جتل�س على قدمه وهو يقبلها‪ ،‬والنق�ش الثاين ل�شيء‬
‫يف �أفق ال�سماء جميل‪ ..‬يا �آتون احلي وم�صدر احلياة‪ ..‬عندما‬ ‫يدعى الب�شعة؛ وهي عبارة عن وعاء �ضخم تت�صاعد منه �أل�سنة‬
‫ت�ستيقظ يف الأفق ال�رشقي لل�سماء‪ ..‬ف�إنك متلأ �أرجاء البالد‬ ‫اللهب‪ ،‬ويظهر العديد من الأفراد يعتقد �أنهم خارجون عن‬
‫بجمالك‪ ..‬ورغم تعاليك ف�إن �أ�شعتك ت�رشق على الأر�ض)‪.‬‬ ‫القانون ي�صطفون ومير كل واحد منهم تلو الآخر لي�ضع ل�سانه‬
‫وقد قارنه الكثريون باملزمور ‪ 104‬للنبي داود يف الكتاب‬ ‫على طرف �أل�سنة اللهب املت�صاعده منها‪ ،‬وذلك بعد الق�سم؛‬
‫املقد�س طبقًا للعقيدة اليهودية‪.‬‬ ‫حيث �إنه يف حالة كذبه �سيحرق ل�سانه بتلك النريان �أما �إن كان‬
‫�صادقًا فلن يحدث له �شيء‪ .‬ويربط �أحد امل�ؤرخني بني ذلك‬
‫حــويـا‪ :‬وهو امل�رشف على احلرمي امللكي وعلى بيت املال‪ ،‬و ُت َع ُّد‬ ‫املنظر والقول بحدوث م�ؤامرة على حياة امللك يف �آخر فرتات‬
‫مقربته من �أهم املقابر يف تل العمارنة؛ حيث �صور فيها وهو‬ ‫حكمه‪ ،‬و�أن ماحو قب�ض على املت�آمرين‪ ،‬و�أنهم عوقبوا نتيجة‬
‫تقديرا لوفائه و�إخال�صه يف خدمتهما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يكرم من امللك وامللكة‬ ‫تلك املحاولة‪ ،‬وذلك بعد �أخذ االعرتافات منهم بتلك الطريقة‬
‫التي ما يزال بع�ض البدو ي�ستخدمونها حتى الآن‪.‬‬
‫مــري رع‪ :‬الكاهن الأكبـر وكبيـر الرائييـن للمعبود �آتــون وهو‬
‫من�صب ديني رفيع‪ ،‬ومقربته �أحد �أجمل املقابر يف املدينة‪،‬‬ ‫أي�ضا والد امللكة نفرتيتي‬
‫�آي‪� :‬أحد كبار النبالء يف املدينة و� ً‬
‫لوجود �أغلب النقو�ش والر�سوم اخلا�صة بامللك وامللكة بحالتها‬ ‫زوجه امللك �إخناتون‪ ،‬مقربته كمثيالتها من مقابر املدينة غري‬
‫تقريبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مكتملة ومل ُيدفن فيها �صاحبها والذي دفن يف مقربة �أخرى‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫منظر ميثل �آي وزوجته يف �شكل تعبد‪ ،‬و�أعالهما الن�شيد الآتوين (مقربة �آي املجموعة اجلنوبية بتل العمارنة)‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫منظر ميثل موكب امللك �إخناتون وزوجته امللكة‬
‫نفرتيتي �أثناء حتركهما بالعجالت احلربية من الق�رص‬
‫متجهني �إىل املعبد الآتوين‪ ،‬يتقدم املوكب جمموعة‬
‫من احلرا�س امللكيني وخلف املوكب جمموعة من‬
‫خدم الق�رص(مقربة مري رع الأول بتل العمارنة)‪.‬‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫منظر ميثل امللك وامللكة وهما يقدمان القرابني للإله �آتون‪ ،‬و�أمامهما مائدة كبرية من القرابني يعلوها قر�ص ال�شم�س‬
‫الذي تتدىل منه الأ�شعة التي تنتهي بالأيدي رمز الإله �آتون (مقربة مري رع الأول بتل العمارنة)‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫منظر ميثل فرقة من املو�سيقيني العميان داخل الق�رص امللكي (مقربة مري رع الأول بتل العمارنة)‪.‬‬

‫أي�ضا احتوت املدينة على ق�رصين �أطاللهما باقية حتى الآن؛‬


‫� ً‬ ‫املقربة امللكية يف العمارنة‬
‫وهما‪:‬‬ ‫تقع على طريق وعر بني جمموعة املقابر ال�شمالية واجلنوبية‬
‫الق�رص اجلنوبي‬ ‫يف تل العمارنة؛ حيث تقع على بعد ‪14‬كيلو مرتًا من قرية تل‬
‫وهو خا�ص بامللك �إخناتون‪ ،‬ويقع بالقرب من معبد �آتون‬ ‫العمارنة‪ .‬وقد �شيد �إخناتون مقربته على حمور واحد؛ رمبا لتواجه‬
‫الكبري‪ ،‬وم�شيد بالطوب اللنب با�ستثناء املدخل والأعمدة‬ ‫جميع �أجزائها ال�شم�س عند �رشوقها وفقًا لعقيدته؛ حيث تتعامد‬
‫واحلمامات؛ حيث مت بنا�ؤها من احلجر‪ .‬وكذلك جدران‬ ‫ال�شم�س على حجرة الدفن الرئي�سية داخل املقربة يوم ‪ 23‬فرباير‬
‫و�أر�ضيات هذا الق�رص مغطاة باجل�ص املزين مبناظر جميلة متثل‬ ‫من كل عام وهو تاريخ �إن�شاء املدينة‪ .‬ورمبا دفن امللك فيها ب�صفة‬
‫الطبيعة من طيور و�أ�شجار و�أنهار‪ .‬ويحتفظ املتحف امل�رصي‬ ‫م�ؤقتة ثم نقل بعد ذلك �إىل وادي امللوك بطيبة‪ ،‬ولكن امل�ؤكد �أن‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫بجزء من �أر�ضية الق�رص‪.‬‬ ‫هذه املقربة كانت املدفن الوحيد والدائم البنته الأمرية «مكت‪-‬‬
‫�آتون»‪ .‬وتتكون املقربة من �سلم من ع�رشين درجة‪ ،‬يتو�سطه ممر‬
‫الق�رص ال�شمايل‬ ‫منحدر لنزول التابوت‪ ،‬ي�ؤدي هذا ال�سلم �إىل باب وممر منحدر‬
‫يعتقد �أنه مت بنا�ؤه من �أجل �إحدى بنات �إخناتون؛ وهي‬ ‫�آخر‪ ،‬يف منت�صف هذا املمر �إىل اليمني يتفرع ممر �آخر ي�ؤدي �إىل‬
‫الأمرية «مريت �آمون»‪ .‬والق�رص م�شيد بالطوب اللنب‪ ،‬وي�ضم‬ ‫غرفة مل يكتمل العمل بها‪ .‬املمر الرئي�سي ينتهي عند �سلم �آخر‪،‬‬
‫قاعة لال�ستقبال وحما ًما لل�سباحة‪ ،‬و�إ�سطب ً‬
‫ال للخيول‪ ،‬وبع�ض‬ ‫�إىل اليمني منه مدخل ي�ؤدي �إىل ثالث غرف؛ اثنتان منها تزينها‬
‫احلجرات للخدم‪.‬‬ ‫الر�سوم والكتابات‪ ،‬يحتمل �أن تكونا قد ا�ستخدمتا كمقربة‬
‫للأمرية «مكت‪� -‬آتون»‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫املعبد الآتوين الكبري‬
‫كارع وتوت عنخ �آتون قبل رجوعه �إىل طيبة وهجرته هو وكل‬ ‫كان هناك �أكرث من معبد لآتون يف املدينة ‪ -‬العمارنة ‪ -‬ولكن‬
‫من معه يف املدينة‪.‬‬ ‫�أهمها ما يعرف باملعبد الآتوين الكبري‪ ،‬والذي �شيده امللك‬
‫ثانيا‪� :‬أ�صبحت املدينة مهجورة؛ حيث مل يجر�ؤ �أحد على �سكن‬ ‫ً‬ ‫�إخناتون للإله �آتون‪ ،‬وهو املعبد الرئي�سي باملدينة‪ ،‬و�أكربها؛‬
‫املدينة فيما بعد على مر الع�صور التاريخية التي تلتها؛ وذلك‬ ‫تقريبا من ال�رشق �إىل الغرب‬
‫ً‬ ‫حيث و�صل طوله �إىل كيلومرت‬
‫ب�سبب ارتباط املدينة بالإله �آتون والذي قام كهنة �آمون مب�سح �أي‬ ‫تقريبا من ال�شمال �إىل اجلنوب‪ .‬ومتيز املعبد بت�صميمه‬
‫و‪ 250‬مرتًا ً‬
‫لقب مرتبط بذلك الإله بل واعتربوا املدينة ملعونة‪.‬‬ ‫املختلف عن معابد الدولة احلديثة فهو �أقرب �إىل معابد ال�شم�س‬
‫ثال ًثا‪� :‬إىل الآن يحاول العلماء معرفة �سبب مغادرة النا�س ملدينة‬ ‫يف الأ�رسة اخلام�سة؛ حيث ال يوجد �سقف لل�سماح بدخول‬
‫العمارنة‪ .‬وهل عبادة �آتون هي ال�سبب �أو هناك �أ�سباب �أخرى؟‬ ‫�ضوء ال�شم�س‪ .‬ومعظم �أجزاء املعبد �شيدت بالطوب اللنب عدا‬
‫يرجح بع�ض العلماء من خالل بع�ض احلفائر احلديثة باملنطقة‬ ‫الأعمدة والبوابات وبع�ض الأجزاء التي ا�ستخدم احلجر يف بنائها‬
‫انت�شار وباء املالريا بني �سكان املدينة و�أنه رمبا يعد ال�سبب‬ ‫وكان يحيط باملعبد �سور كبري طوله حوايل ‪ 800‬مرت وعر�ضه‬
‫الرئي�سي وراء هجرتهم للمدينة وعودتهم لطيبة‪.‬‬ ‫‪ 300‬مرت‪ .‬ويتو�سط جداره الغربي مدخل على هيئة �رصح بني‬
‫برجني عاليني من الطوب اللنب‪.‬‬
‫وترجع �أهمية املعبد الآتوين واختالفه عن غريه من املعابد‬
‫خم�ص�صا لل�صالة والعبادة‬
‫ً‬ ‫القدمية طوال الع�صور امل�رصية �أنه مل يكن‬
‫فقط‪ ،‬ولكن كان يحتوي على حوايل ‪ 920‬مائدة كقربان كان‬
‫متعارفًا عليه �سابقًا و�ضع القرابني عليها واملقدمة من املتعبدين‬
‫للإله‪ .‬ولكن يف تل العمارنة كان الهدف منها توزيع الطعام على‬
‫النا�س من خالل و�ضع ذلك الطعام مبختلف �أنواعه على تلك‬
‫املوائد ويح�صل العامة عليه وقت دخولهم لل�صالة ليكون الإله‬
‫وزيرا‬
‫ً‬ ‫�آتون هو من �أنعم عليهم بالعطايا‪ .‬وقد خ�ص�ص �إخناتون‬
‫للطعام يدعى «بنتو»‪.‬‬
‫�أما عن الأحياء ال�سكنية فكانت املدينة ت�ضم �أكرث من حي‬
‫�سكني اختلطت فيها �أحيانًا منازل العمال بالنبالء‪� ،‬إال �أنه كانت‬
‫هناك مدينة خا�صة بالعمال بقاياها موجوده حتى الآن‪ .‬وكان‬
‫املنزل يتكون فيها من �صالة �أمامية �أو حجرة جلو�س وحجرة‬
‫نوم‪� .‬أما عن منازل النبالء فكانت كبرية احلجم تت�ضمن �صاالت‬
‫وغرفًا وحمامات و�صوامع لتخزين الغالل و�أماكن لرتبية الطيور‬
‫واحليوانات‪ .‬وكانت املنازل تُبنى من الطوب اللنب وت َّ‬
‫ُغطى �أحيانًا‬
‫باجل�ص‪ ،‬ومن �أهم النماذج بيت النبيل «بانح�سي» وبيت الوزير‬
‫«نخت»‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬تنفرد املدينة بالعديد من ال�صفات التي جتعلها‬
‫و� ً‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫تختلف عن غريها من العوا�صم القدمية �سواء داخل م�رص �أو‬


‫خارجها‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫ �أو ًال‪ :‬املدينة مل ي�سكنها �أحد قبل �أن يقع اختيار �إخناتون عليها‬
‫لكي تكون كعا�صمة للبالد‪ ،‬ومل ي�ستمر عمر املدينة �أكرث من �سبعة‬
‫ع�رش عا ًما؛ حيث عا�ش فيها ملكان بعد �إخناتون؛ وهما �سمنخ‬

‫‪10‬‬
‫منظر جلدار داخل �أحد مقابر تل العمارنة‪ ،‬وقد حوله الرهبان �إىل حمراب‪ ،‬وحتولت املقربة بالكامل �إىل كني�سة �صغرية‬
‫على الطراز البازيليكي وذلك يف القرن الرابع امليالدي (مقربة بانح�سي بتل العمارنة)‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫أخريا قد�س الأقدا�س‪ .‬واملعبد ميتد حموره �إىل الطريق امل�ؤدي للمقربة امللكية‪.‬‬
‫�أطالل املعبد الآتوين ال�صغري والذي يتكون من ثالثة �أجزاء؛ جم (لقاء) �آتون‪ ،‬وبيت االحتفاالت‪ ،‬و� ً‬

‫‪11‬‬
‫هاين مهنى طه‬

‫كبرية مب�ساحتها و�سكانها وهي البحرية‪ ،‬وبهما تطل املحافظة‬ ‫و�أنت قادم على الطريق ال�ساحلي الدويل من الإ�سكندرية �إىل‬
‫على �ساحل البحر املتو�سط‪� ،‬شاطئ �إدكو الذي كان من املفرت�ض‬ ‫ر�شيد وعندما متر فوق الكوبري الذي يعرب بحرية �إدكو لت�صل بعد‬
‫�سياحيا بالتنوع اجلمايل لرماله الناعمة وكثبانه الرملية‬
‫ًّ‬ ‫�أن يكون‬ ‫دقائق قليلة �إىل مدينة �إدكو التي يف�صلها عن �شاطئ البحر املتو�سط‬
‫تغي حال‬ ‫اجلميلة التي تزينها �أ�شجار النخيل والكروم‪ .‬وقد رّ‬ ‫الطريق الدويل؛ حيث تعطي املدينة ظهرها ل�شاطئها‪ .‬وميكن‬
‫هذا ال�شاطئ بعد �أن �أُزيلت الكثبان الرملية القريبة من ال�شاطئ‬ ‫تف�سري ذلك ب�سبب حركة الرياح التي حتمل الرمال من الكثبان‬
‫واملمتدة مل�سافات طويلة وم�ساحات �شا�سعة‪ .‬وظهر قبح مظاهر‬ ‫الرملية الكثرية وطغيان تلك الرمال على الأجزاء ال�شمالية‬
‫املدينة احلديثة على الطبيعة‪ ،‬و�ضاعت مالمح الرمال الناعمة‬ ‫للمدينة؛ حيث و�صف املقريزي �إدكو يف خططه ب�أنها «كثرية‬
‫بعد اختالطها ببقايا ال�صيد وخملفات امل�صطافني‪ ،‬وقد تقل�صت‬ ‫أي�ضا اجلربتي ‪ -‬كان‬ ‫النخل وكلها يف الرمل»‪ ،‬و�أ�شار �إىل ذلك � ً‬
‫امل�ساحة املخ�ص�صة للم�صطافني بعد �إن�شاء العديد من ال�رشكات‬ ‫ناظرا على �أوقاف م�سجد ال�شيخ علي اجلربتى ب�إدكو وهو‬ ‫اجلربتي ً‬
‫على ال�شاطئ‪.‬‬
‫امل�سجد املوجود حتى الآن مبنطقة كوم الطواحني ‪� -‬أ�شار �إىل «�أن‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫وعلى الرغم من وجود �إدكو بني املدينتني ال�شهريتني‬ ‫الأرا�ضي املوقوفة على امل�سجد زحفت عليها الرمال وطم�ستها‬
‫الإ�سكندرية ور�شيد و�رضورة املرور بها للو�صول ل ٍّأي منهما‪،‬‬ ‫وغابت حتتها»‪ .‬فواجهة املدينة �إىل اجلنوب ولي�ست �إىل ال�شمال؛‬
‫ف�إن �سريتها قد �ضاعت و�أخبارها قد تناثرت‪� ،‬إال من �إ�شارات‬ ‫حيث البحر الذي يع�شقه �أهلها ويق�صدونه للرتفيه وال�صيد يف �آن‬
‫جندها يف ثنايا الكتب عن وقائع و�أحداث وتراجم للأعالم‪ ،‬مبا‬ ‫واحد‪�« ،‬شاطئ �إدكو ال�سياحي» هذا هو ا�سمه ومن املفرت�ض �أن‬
‫ي�شري �إىل �أهمية �إدكو كنقطة انطالق لغزو‪� ،‬أو ا�سرتاحة ل�سلطان‬ ‫يكون كذلك‪ ،‬فهو و�شاطئ ر�شيد يعدان املتنف�س الوحيد ملحافظة‬

‫‪12‬‬
‫مرورا ب�إدكو عام ‪1876‬م‬
‫ً‬ ‫ال�سكك احلديدية الإ�سكندرية‪ /‬ر�شيد‬
‫و�شق الطريق الأ�سفلتي ‪ -‬املحطة الآن ‪� -‬أ�صبح هناك طريق �آخر‬
‫غري الطريق القدمي املوجود على �ساحل البحر املتو�سط‪.‬‬

‫�إدكو‬
‫ذكرها الأثري امل�رصي �سليم ح�سن يف «�أق�سام م�رص اجلغرافية‬
‫يف العهد الفرعوين» با�سم �إدقو �أو تاجو‪ ،‬وتقع يف ال�شمال‬
‫الغربي من الدلتا‪ ،‬وقد �أوردها يف املقاطعة ال�سابعة من مقاطعات‬
‫الوجه البحري والتي ت�سمى يف امل�رصية رع �أمنتي �أو نفر �أمنتي‪،‬‬
‫ومعناها املقاطعة الأوىل غر ًبا التي �سماها اليونان ‪.Metlite‬‬
‫و�أ�ضاف �سليم ح�سن �إىل ذلك �أن �إدقو من البالد التي ظهرت‬
‫بلفظها يف العربية مع رقوده «رع قد» وهي مكان الإ�سكندرية‬
‫تقريبا‪ ،‬وكرباين (قارباين) على البحر الأبي�ض قريبة من بحرية‬‫ً‬
‫«�إدقو»‪.‬‬

‫و�صف فكري �إدكو بقوله‪« :‬بها جوامع مبنارات‪ ،‬وطاحونة‬


‫ريحية‪ ،‬ومعمل ف�سيخ‪ ،‬ودكاكني‪ ،‬و�أنوال كثرية لن�سج مقاطع‬
‫قما�ش احلرير املعروف بالإ�سكندراين‪ ،‬واملل�س‪ ،‬واملالءة‪،‬‬
‫و�أقم�شة القطن والكتان‪ ،‬و�أهلها �أرباب �صنائع لهم �شهرة بالكد‬
‫والعمل والتنـزه عن البطالة والك�سل‪ ،‬وكثري منهم ي�صطادون‬
‫ال�سمك من بحريتها‪ ،‬ومنهم من يتاجر يف الفاكهة والبلح‪ ،‬و َمن‬
‫ي�شتغل بالزرع‪ ،‬ومنهم مراكبية‪ ،‬و�رشبهم من حفائر يحتفرونها‬
‫يف الرمل لبعدها عن النيل‪ ،‬ويت�صل بكثري من جهاتها البحرية‪،‬‬
‫أرا�ض رملية متفاوتة االرتفاع‪ ،‬تُزرع بها �أنواع‬
‫واخلايل منها � ٍ‬
‫اخل�رضوات والعنب والبطيخ ‪ ،‬وبها ‪ 70.000‬نخلة»‪.‬‬
‫و�أمري‪� ،‬أو جتوال لرحالة وم�ستك�شف‪ .‬ونحاول �أن نلقي ال�ضوء‬
‫�أما الأثري الفرن�سي �أميلينو فقال يف «جغرافية م�رص يف الع�رص‬ ‫هنا على �إدكو طريق الوالة وا�سرتاحة الغزاة عرب �شذرات‬
‫القبطي»‪� :‬إتكو‪ ،‬يوجد هذا اال�سم يف عدة خمطوطات قبطية‪،‬‬ ‫ومقتطفات تاريخية‪ ،‬ولن نذكر فيها �أعالم املدينة وم�شاهريها‬
‫فقد جاء يف ال�سنك�سار يف نهاية �سرية �شهيد يقول عنه‪« :‬و�أتوا‬ ‫على مر الزمان فاحلديث عنهم يطول‪.‬‬
‫�أقوام من مدينة اتكو‪ ،‬و�أخذوا ج�سده‪ ،»..‬كما ورد هذا اال�سم‬
‫�إدكو املدينة التي قيل عنها‪:‬‬
‫يف قائمة الأ�ساقفة‪ .‬وقال ياقوت احلموي يف «معجم البلدان»‪:‬‬
‫ِتبان بالنهار وتختفي بالليل‬ ‫عجبي على بلد ما بني بحــرين‬
‫«�إتكو بليدة قدمية من نواحي م�رص قرب ر�شيد»‪� .‬أما ابن‬
‫اجليعان يف «التحفة ال�سنية ب�أ�سماء البالد امل�رصية» فقد ذكر �أنها‬ ‫وكانت �إدكو بهذا الو�صف فال يعرف بحرها من بحريتها‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫من نواحي ثغر الإ�سكندرية‪ .‬ونقل حممد رمزي يف «القامو�س‬ ‫�أو �أولها من �آخرها‪ ،‬وذلك قبل �أن متتد يد العمران �إىل �أطرافها‪،‬‬
‫اجلغرايف للبالد امل�رصية» عن جوتييه يف قامو�سه ‪� Ekebi‬أو‬ ‫فحدها ال�شمايل البحر املتو�سط‪ ،‬والكثبان الرملية ال�ساحرة‬ ‫ّ‬
‫‪ ،Tkoou‬وقال‪ :‬وهي �إدكو‪ .‬و�أ�ضاف رمزي‪« :‬وكانت �إدكو‬ ‫التي تال�شت‪ ،‬وظلت يف ذاكرة كبار ال�سن ويف بع�ض ال�صور‬
‫تابعة ملركز العطف فلما �أن�شئ مركز ر�شيد يف �أول �سنة ‪1896‬م‬ ‫القدمية ولقطات �سينمائية �رسيعة يف الفيلم العاملي «كليوباترا»‬
‫�أحلقت به لقربها منه»‪ .‬فما عالقة �إدكو مبركز العطف البعيد عن‬ ‫الذي مت ت�صوير بع�ض لقطاته على رمال �إدكو يوليو ‪1962‬م‪.‬‬
‫�إدكو‪ ،‬وهناك بحرية �إدكو التي كانت تف�صل املدينة عن املدن‬ ‫وحدها اجلنوبي بحرية �إدكو التي تقل�صت م�ساحتها با�ستقطاع‬ ‫ّ‬
‫والقرى الواقعة جنو ًبا‪ ،‬فالأمر الطبيعي �أن تكون تبعية �إدكو‬ ‫�أجزاء كبرية منها‪ ،‬ويف ال�رشق والغرب املالحات التي ُردمت‬
‫للإ�سكندرية �أو ر�شيد‪.‬‬ ‫و�أ�صبحت م�ساكن عامرة وبيوتًا �شاهقة‪ .‬وبعد �إن�شاء خط‬

‫‪13‬‬
‫والإ�سكندريــة‪ ،‬ور�شيــد‪ ،‬ودميـــاط‪ ،‬وبور�سعيــد‪ ،‬والعريــ�ش‪،‬‬ ‫وللإجابة عن هذا ال�س�ؤال من ال�رضوري �أن نلقي ال�ضوء‬
‫والإ�سماعيليـة‪ ،‬وال�سـويـ�س‪ ،‬والق�صيـر»‪.‬‬ ‫على التق�سيم الإداري للمديريات واملحافظات امل�رصية يف‬
‫عهد اخلديوي �إ�سماعيل‪ ،‬فقد مت تق�سيم م�رص �إىل ق�سمني‪ ،‬وكما‬
‫و�أ�ضاف الرافعي‪« :‬وبقية املديريات ير�أ�سها املديرون‪،‬‬
‫ذكر حممد �أمني فكري يف كتابه «جغرافية م�رص» ال�صادر عام‬
‫واملحافظات يتوالها املحافظون‪ ،‬وا�ستمرت املديريات مق�سمة‬
‫‪1296‬هـ‪1879 /‬م‪� ،‬أي قبل عزل اخلديوي �إ�سماعيل ب�ستة‬
‫نواح وبالد»‪.‬‬
‫�إىل مراكز‪ ،‬واملراكز �إىل �أق�سام‪ ،‬والأق�سام �إىل ٍ‬ ‫�أ�شهر فقط‪ .‬الق�سم الأول‪� :‬شمال م�رص ويقال له م�رص ال�سفلى‬
‫ف�أين �إدكو؟ احلقيقة �أن تبعية �إدكو يف عهد اخلديوي �إ�سماعيل‬ ‫والوجه البحري والأقاليم البحرية‪ .‬والق�سم الثاين‪ :‬جنوب م�رص‬
‫كانت لأحد مراكز حمافظة البحرية وهو «مركز العطف»‪ ،‬وقد‬ ‫ويقال له م�رص العليا و�صعيد م�رص والوجه القبلي والأقاليم القبلية‪.‬‬
‫حدد فكري قرية العطف ب�أنها قرية بحري فم املحمودية بنحو‬ ‫ّ‬ ‫وقد قُ�سم الوجه البحري �إىل �ست مديريات (القليوبية ‪ -‬ال�رشقية‬
‫ثلث �ساعة يف غربي النيل‪� ،‬أما مركز العطف فهو مثلث ال�شكل‬ ‫ويقال لها �رشقية بلبي�س ‪ -‬الدقهلية ويقال لها �رشقية الدقهلية ‪-‬‬
‫يحد بحدود ثالثة‪ .‬احلد ال�رشقي ال�شاطئ الغربي لفرع ر�شيد‬ ‫املنوفية ‪ -‬الغربية ‪ -‬البحرية)‪� .‬أما الوجه القبلي (ال�صعيد)‪:‬‬
‫من حدود �شرباخيت �إىل حدود اجلدية بقرب ر�شيد‪ .‬واحلد‬ ‫فينق�سم �إىل ثماين مديريات (اجليزة ‪ -‬بني �سويف ‪ -‬املنيا وبني‬
‫اجلنوبي من حدود حملة ب�رش من قبلي مغر ًبا �إىل ناحية لقانة‪.‬‬ ‫مزار – �أ�سيوط ‪ -‬دجرجا «جرجا» ‪ -‬قنا ‪� -‬إ�سنا)‪.‬‬
‫واحلد البحري والغربي من لقانة مبحر �إىل اجلدية ويت�صل به‬
‫و�أ�ضاف فكري �أن البحرية هي املديرية ال�ساد�سة من الأقاليم‬
‫براري بحرية �إتكو‪.‬‬
‫البحرية‪ ،‬ومقر املديرية بدمنهور‪ ،‬وت�شتمل املديرية على خم�سة‬
‫و�أ�ضاف فكري‪ :‬ومن البالد ال�شهرية التابعة ملركز العطف؛‬ ‫مراكز �ضبطية؛ وهي (النجيلة ‪� -‬شرباخيت ‪ -‬العطف ‪-‬‬
‫�إتكو‪ ،‬وتقع يف اجلنوب الغربي من ر�شيد على نحو �أربع �ساعات‪،‬‬ ‫الدلنجات ‪� -‬أبوحم�ص)‪.‬‬
‫وبينها وبني �ساحل البحر املالح نحو ن�صف �ساعة‪.‬‬
‫ف�أين �إدكو من هذه املراكز؟ وهل كانت �إدكو تابعة لر�شيد‬
‫كثريا عما �أورده‬
‫ً‬ ‫وما كتبه فكري عن �إدكو ال يبتعد‬
‫وقتئذ؟‬
‫علي با�شا مبارك يف اخلطط التوفيقية ال�صادر عن املطبعة الأمريية‬
‫(‪1305‬هـ ‪1888 -‬م) �أي بعد ت�سع �سنوات من كتاب «جغرافية‬ ‫يف هذا التاريخ مل تكن �إدكو تابعة لر�شيد‪ ،‬ومل تذكر ر�شيد‬
‫م�رص» لفكري �إال �أننا جند �أن فكري قد �أو�ضح يف مقدمة كتابه �أنه‬ ‫�ضمن املراكز التابعة ملحافظة البحرية‪ ،‬فقد كانت ر�شيد حمافظة‬
‫رجع �إىل علي مبارك «ف�أباح يل �أن �آخذ كل ما �أردت من م�سوداته‬ ‫م�ستقلة بذاتها‪ .‬كما ذكر امل�ؤرخ عبد الرحمن الرافعي يف‬
‫من قبل �أن تخرج �إىل البيا�ض»‪.‬‬ ‫ع�رص �إ�سماعيل‪« :‬كان مب�رص ت�سع حمافظات‪ ،‬وهي‪ :‬القاهرة‪،‬‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫‪14‬‬
‫الطريق القدمي من ر�شيد �إىل الإ�سكندرية‬ ‫و�صف فكري �إدكو بقوله‪« :‬بها جوامع مبنارات‪ ،‬وطاحونة‬
‫دونها الرحالة قدميًا �أن طريق املوا�صالت‬ ‫ريحية‪ ،‬ومعمل ف�سيخ‪ ،‬ودكاكني‪ ،‬و�أنوال كثرية لن�سج مقاطع‬
‫تدلنا الكتابات التي ّ‬
‫بني ر�شيد والإ�سكندرية كان مير بالقرب من �ساحل �إدكو‪،‬‬ ‫قما�ش احلرير املعروف بالإ�سكندراين‪ ،‬واملل�س‪ ،‬واملالءة‪ ،‬و�أقم�شة‬
‫وكذلك وجود موقف للبغال واحلمري مبنطقة �إدكو لت�سهيل‬ ‫القطن والكتان‪ ،‬و�أهلها �أرباب �صنائع لهم �شهرة بالكد والعمل‬
‫حركة املوا�صالت‪.‬‬ ‫والتنـزه عن البطالة والك�سل‪ ،‬وكثري منهم ي�صطادون ال�سمك‬
‫من بحريتها‪ ،‬ومنهم من يتاجر يف الفاكهة والبلح‪ ،‬و َمن ي�شتغل‬
‫وقد و�صف بابلوان من �أركان حرب اجليو�ش ال�صليبية‬
‫بالزرع‪ ،‬ومنهم مراكبية‪ ،‬و�رشبهم من حفائر يحتفرونها يف الرمل‬
‫(‪1291-1289‬م) �إدكو يف �أيامه‪ ،‬ونقل اللواء عبد املن�صف‬
‫لبعدها عن النيل‪ ،‬ويت�صل بكثري من جهاتها البحرية‪ ،‬واخلايل منها‬
‫حممود يف «على �ضفاف بحريات م�رص» ما ذكره بابلوان‪« :‬ومن‬
‫أرا�ض رملية متفاوتة االرتفاع‪ ،‬تُزرع بها �أنواع اخل�رضوات‬ ‫� ٍ‬
‫ر�شيد �إىل بلدة �إدكو فر�سخ واحد‪ ،‬ولذا ف�إن الفر�سان واملحاربني‬
‫والعنب والبطيخ ‪ ،‬وبها ‪ 70.000‬نخلة»‪.‬‬
‫ميكنهم ال�سري على الأقدام من ر�شيد‪ ،‬والإغارة على البلدة‬
‫املذكورة واال�ستيالء على كل ما بها من الب�ضائع؛ حيث ال حرا�سة‬ ‫ون�ضيف مبا ذكره علي مبارك يف «اخلطط التوفيقية»‪« :‬وال‬
‫عليها‪ ،‬و�إذا طلبوا النجدة من الإ�سكندرية ف�إن بينهم وبينها ثمانية‬ ‫يزرع بها �شيء من �أ�صناف احلبوب ب�سبب ا�ستيالء الرمال على‬
‫فرا�سخ طويلة‪ ،‬ويف الطريق �إليها ذراع من املاء املالح قادم من‬ ‫�أر�ضها‪ ،‬و�إمنا ي�شرتون احلبوب من ر�شيد والإ�سكندرية وبالد‬
‫البحر‪ ،‬ويدخل يف بحرية موجودة هناك (يق�صد بوغاز املعدية‬ ‫الأرز‪ ،‬ومن عوائد �أهلها �أال تخرج ن�سا�ؤهم من البيوت �إال لي ً‬
‫ال‬
‫الذي ي�صل بحرية �إدكو بالبحر املتو�سط) و�سعته ميل‪ ،‬ويطلق‬ ‫متحفظات‪ ،‬و�أال يخرج الرجل من بيته كائ ًنا من كان �إال ومقطفه‬
‫عليه ا�سم «اال�ستول» والذي ال ي�ستطيع عبور هذا الذراع ف�إنه‬ ‫حجرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫على عاتقه‪ ،‬ف�إذا عاد ا�ست�صحب معه يف املقطف ولو‬
‫يهلك‪ .‬ولن يقدم �أحد للنجدة؛ لأن حاكم الإ�سكندرية لي�س عنده‬ ‫ومنها �أنهم ال يجعلون للقبور �شواهد من البناء بل يزرعون‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫فار�سا وبع�ض البدو اخليالة وهم من �سكان مدينة‬ ‫فوق كل قرب �صبارات يف �صورة م�ستديرة �أو مربعة‪ ،‬وقبورهم‬
‫�سوى �أربعني ً‬
‫الإ�سكندرية‪� ،‬أما من القاهرة فال يقدم املدد قبل �ستة �أيام �أو �أكرث»‪.‬‬ ‫متجاورة ف�إذا ترعرعت ال�صبارات وتفتح نورها ترى القبور‬
‫كما و�صف ليون الإفريقي ابن الوزان (ت ‪957‬هـ‪1550/‬م)‪،‬‬ ‫ك�أنها رو�ضة �أزهار»‪.‬‬
‫ال‪�« :‬إن املنطقة‬ ‫املنطقة حول ر�شيد يف «و�صف �إفريقيا»؛ قائ ً‬ ‫ومع �إن�شاء مركز ر�شيد عام ‪1896‬م مت ف�صل �إدكو عن مركز‬
‫الواقعة خارج مدينة ر�شيد يوجد بها كثري من البغال واحلمري‬ ‫العطف‪ ،‬و�أ�صبحت تبعيتها ملركز ر�شيد يف �أول العام املذكور‪،‬‬
‫للت�أجري لأولئك الذين يريدون الذهاب �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬والذي‬ ‫كما ذكر حممد رمزي يف «القامو�س اجلغرايف»‪ .‬وظلت �إدكو‬
‫ي�ست�أجر �أحد هذه احليوانات ال يحتاج �إىل قيادته‪ ،‬وما عليه �إال‬ ‫تابعة ملركز ر�شيد حتى �إن�شاء الوحدة املحلية ملركز ومدينة �إدكو‬
‫جدا‬
‫�أن يرتكه يذهب وحده �إىل حظريته‪ ،‬وهي حيوانات �رسيعة ًّ‬ ‫عام ‪1980‬م‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ر�سم من رحلة بريونينج �إىل م�رص ‪1579‬م‪.‬‬

‫الطريق ال�سلطاين وخان املعدية‬ ‫ال بني ال�صباح ووقت الع�رص‪ ،‬وتتبع‬ ‫حتى �إنها لتقطع �أربعني مي ً‬
‫وهناك بع�ض املالحظات ميكن ا�ستنتاجها من قراءة بع�ض‬ ‫دو ًما �ساحل البحر‪ ،‬حتى �إن الأمواج لت�رضب �أحيانًا قوائمها»‪.‬‬
‫اخلرائط املن�شورة يف «�أطل�س م�رص» (الطبعة امللكية ‪-1821‬‬ ‫كما �أ�شاد ليون بالأهايل بقوله‪« :‬وال�سكان �أنا�س �أليفون ولطفاء‬
‫‪1829‬م) لعلماء احلملة الفرن�سية على م�رص‪:‬‬ ‫جتاه الأغراب ويق�ضون معهم راغبني وق ًتا ممت ًعا»‪.‬‬
‫‪ -‬يوجد طريق ي�سمى الطريق ال�سلطاين ويبد أ� الطريق من‬ ‫�سجل بريونينج يف رحلته �إىل م�رص‬
‫وبعد ليون بفرتة وجيزة ّ‬
‫الكتلة ال�سكانية ملدينة ر�شيد من جهتني �شمال وجنوب‬ ‫عام ‪1579‬م مع �صديقه كارلري دي بينون م�شاهداته بالر�سم‪،‬‬
‫مدينة ر�شيد‪ ،‬ويلتقيان يف نقطة واحدة و�سط الرمال غرب‬ ‫وهما يف الر�سم املرفق وخلفهما املرتجم اليهودي رفائيل يف‬
‫ر�شيد‪ ،‬ثم ينعرج �شما ًال ليقرتب من �ساحل البحر املتو�سط‬ ‫طريقهم من الإ�سكندرية �إىل ر�شيد‪ ،‬ون�رش بريونينج تلك الرحلة‬
‫متج ًها �إىل �إدكو لينتهي عند امل�سجد ‪ -‬و�سمي الآن مقام‬ ‫عام ‪1612‬م‪.‬‬
‫�سيدي عبد الرازق‪.‬‬
‫وجند رحلة �أخرى قام بها العامل الفرن�سي بيلون (‪-1517‬‬
‫‪� -‬أما الطريق الآخر وهو الطريق العادي فيبد�أ من جنوب مدينة‬
‫‪1564‬م) ‪� -‬أوردها ماجد حممد فتحي يف مقال ن�رش ببوابة‬
‫ر�شيد وبالتحديد من نهر النيل بني قرية اجلدية وقرية احلماد‪،‬‬
‫الأهرام للح�ضارات (رحلة بيلون �إىل م�رص يف القرن ال�ساد�س‬
‫مارا بالقرب من �شاطئ بحرية �إدكو التي‬‫ويتجه الطريق غر ًبا ًّ‬ ‫دون بيلون يف كتابه «مالحظات عن �أ�شياء عديدة‬ ‫ع�رش) ‪ -‬حيث ّ‬
‫كانت ت�صل �إىل م�شارف ر�شيد وقتئذ‪ ،‬وعندما يقرتب الطريق‬
‫وخمتارة يف اليونان و�آ�سيا ال�صغرى وم�رص» الذي ن�رشه يف باري�س‬
‫من �إدكو يتجه �إىل ال�شمال ليمر و�سط �إدكو وو�سط زراعات‬
‫عام ‪1533‬م‪ ،‬ما �شاهده يف املنطقة الواقعة بني الإ�سكندرية‬
‫النخيل الإدكاوي‪ ،‬ويلتقي الطريق ال�سلطاين والطريق العادي‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫ور�شيد‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪« :‬ومتتد م�سافات كبرية من الرمال بني الإ�سكندرية‬
‫يف نقطة التمركز �شمال �إدكو بالقرب من امل�سجد‪ ،‬ومن �إدكو‬
‫ور�شيد وتوجد هناك منطقة مزروعة ب�أنواع خمتلفة من الأع�شاب‬
‫�إىل بوغاز املعدية يف طريق واحد على �ساحل البحر املتو�سط‪.‬‬
‫يتم ت�صدير العديد منها �إىل البندقية وتُ�ستخدم هذه الأع�شاب بعد‬
‫‪ -‬بعد التـقــاء الطريــق ال�سلطـاين والطريق العـادي يف نقطة‬ ‫حرقها يف �صناعة الكري�ستال‪ .‬وقد ذكر بيلون مالحظة طريفة‬
‫أي�ضـا‬
‫االلتقــاء ب�إدكــو يتجــه الطريق غر ًبا على ال�ساحــل � ً‬ ‫هي �أن الرعاة كانوا يقومون بالتجول والتفتي�ش يف الرمال لعلهم‬
‫حتى ي�صل �إىل املنطقـة قبل بوغاز املعدية‪ ،‬والتي يوجد بها‬ ‫يجدون بع�ض العمالت التي �سقطت من امل�سافرين»‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫خريطة الري�س بريي‪.‬‬

‫اخلان ‪ Caravansérail‬ويق�صد به الفندق �أو مكان االنتظار‬


‫للم�سافرين ب�صفة عامة‪ ،‬وجاء حتديد اخلان يف اخلريطة‬
‫العثمانية التي ر�سمها الري�س بريي �أوائل القرن ال�ساد�س‬
‫أي�ضا يف العديد من امل�صادر‬
‫ع�رش امليالدي‪ .‬وقد جاء ذكره � ً‬
‫التاريخية والرحالت قدميًا‪ ،‬نذكر منها رحلة دي رو�ستي‬
‫القن�صل العام النم�ساوي يف دي�سمرب ‪1801‬م‪ .‬ففي خطاب‬
‫كتبه دي رو�ستي �إىل البارون راثكيال الر�سول البابوي‬
‫للنم�سا لدى الباب العايل بالق�سطنطينية وامل�ؤرخ يف دي�سمرب‬
‫‪1801‬م ون�رش يف «م�رص يف عهد الفو�ضى» ذكر �أن القبطان‬
‫با�شا ‪ -‬قائد الأ�سطول العثماين ‪ -‬قد �أهداه بقجة وهي‬
‫قطعة من القما�ش على �شكل مربع ت�ستخدم يف لف �شيء‬
‫وت�ستخدم كهدية‪ ،‬و�أمر ب�إعداد فلوكة لتحمله �إىل �إدكو‪.‬‬
‫أي�ضا انتقاله من ر�شيد �إىل‬
‫وقد ذكر رو�ستي يف ر�سالته � ً‬
‫الإ�سكندرية عرب بحرية املعدية‪ ،‬وما قام به اجلرنال الإجنليزي‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫هات�شين�سون من تي�سري رحلته بتزويده بـ ‪ 12‬جوا ًدا‪،‬‬


‫فار�سا‪.‬‬
‫و‪ً 12‬‬
‫كما ذكر ال�ضابط الفرن�سي جوزيف ماري مواريه يف‬
‫مذكراته �أنه يف اخلام�س من يوليو ‪1798‬م حتركت اجليو�ش‬
‫ملطاردة املماليك يف ثالثة اجتاهات؛ الأول �صوب اليمني‪،‬‬
‫خريطة لفرع ر�شيد ي�صب يف البحر املتو�سط وبجانبه بحريتا �إدكو والربل�س‪،‬‬
‫أي�ضا ميناء‪ /‬بوغاز ر�شيد – من كتاب «البحرية» للجغرايف وعامل‬
‫�أما الو�سط ف�أخذ طريقه �إىل دمنهور‪ ،‬بينما �سار الثالث �شما ًال‬
‫ويظهر فيها � ً‬
‫البحرية العثماين حميي الدين بريي ري�س‪ ،‬ترجع لبدايات القرن ال�ساد�س ع�رش‪.‬‬ ‫مبحاذاة البحر متج ًها �إىل ر�شيد‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -‬بعد انتظار املراكب للمرور من بوغاز املعدية‪ ،‬يتفرع الطريق‬ ‫وذكر مواريه يف «مذكرات �ضابط يف احلملة الفرن�سية» �أنه‬
‫ال�ساحلي مرة �أخرى �إىل طريقني؛ الأول يتجه غر ًبا �إىل �شاطئ‬ ‫كان �ضمن املجموعة الأخرية‪ .‬و�أ�ضاف‪« :‬غادرت فرقتنا وهي‬
‫البحر املتو�سط �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬والثاين يتجه جنو ًبا �إىل‬ ‫فرقة كليرب بقيادة اجلرنال دوجا الإ�سكندرية بهدف اال�ستيالء‬
‫كفر الدوار‪ .‬وجند �أن الدولة قد اهتمت بحماية الطريق‬ ‫على ر�شيد‪ ،‬وما كدنا نبتعد عن الإ�سكندرية مبقدار �ساعتني حتى‬
‫مرورا ب�إدكو‪ ،‬وخ�ص�صت‬ ‫ً‬ ‫ال�ساحلي من الإ�سكندرية �إىل ر�شيد‬ ‫وجدنا �أنف�سنا ن�سري يف �صحارى من الرمال‪ ،‬لقينا فيها جميع‬
‫له بع�ض العربان حلرا�سة التجار وحماية ب�ضائعهم‪.‬‬ ‫�صنوف التعب والأمل والعط�ش‪.‬‬

‫وقد �أ�شار الدكتور عبد احلميد �سليمان يف «تاريخ املوانئ‬ ‫�أقمنا خميماتنا بالقرب من �أبي قري‪ ،‬ثم وا�صلنا ال�سري يف‬
‫امل�رصية يف الع�رص العثماين» �إىل ذلك بقوله‪�« :‬أما درب ر�شيد‬ ‫�صباح اليوم التايل‪ .‬و�أ�شار مواريه �إىل بوغاز املعدية بقوله‪:‬‬
‫الوا�صل بني ثغر الإ�سكندرية ور�شيد فقد التزم بخفارته‬ ‫«كان علينا اجتياز فرع �صغري للبحر يف�صل ر�شيد عن‬
‫ودركه م�شايخ عربان البهجة؛ حيث �أقروا �أمام احلاكم‬ ‫الإ�سكندرية ‪ -‬يق�صد بوغاز املعدية ‪ -‬مل يكن هذا اليوم �شاقًّا مثل‬
‫ال�رشعي والقبودان وباقي متكلمي ثغر الإ�سكندرية مبا يلي‪:‬‬ ‫انتظارا للمراكب التي �ستعرب بنا‬
‫ً‬ ‫البارحة‪ ،‬فقد ا�ضطررنا للتوقف‬
‫ال منهم على نف�سه �أن عليهم غفر درب ر�شيد‪،‬‬ ‫�أ�شهدوا ك ًّ‬ ‫ومل تكن قد و�صلت بعد‪ .‬وما �إن اجتزنا البحر حتى �أقمنا خيامنا‪،‬‬
‫و�أنهم مت�ضامنون متكافلون‪ ،‬و�أن كل من قام ب�رضر الدرب‬ ‫ومكثنا بالقرب من هذه ال�شواطئ حتى رحلنا عنها يف ال�ساعة‬
‫عليهم دفعه‪ ،‬وكل �ضائع عليهم رده»‪.‬‬ ‫�صباحا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫الثالثة‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫خريطة �إدكو – و�صف م�رص من �أعمال احلملة الفرن�سية على م�رص ‪1801 – 1798‬م‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ف�إذا وقفت يف تلك املنطقة ونظرت جهة اجلنوب وجدت‬ ‫�إدكو املدينة ال�صغرية �أيام احلملة الفرن�سية‬
‫�أمامك على م�سافة ق�صرية م�سجد �سيدي داود وميتد الطريق‬ ‫«نواة املدينة القدمية يف الأ�صل هي ال�سوق �أو البازار الوطني‪،‬‬
‫من هناك �إىل املحطة مبا�رشة‪ ،‬ثم بحرية �إدكو التي كانت متتد �إىل‬ ‫�أي القلب التجاري يف مدينة الع�صور الو�سطى‪ ،‬الذي كان يقوم‬
‫هذا املو�ضع‪ ،‬و�إذا نظرت غر ًبا وجدت م�سجد العراقيات وعلى‬ ‫عادة يف ظل اجلامع الكبري مبثل ما تنت�رش حوله غابة من امل�ساجد‬
‫مقربة منه م�ستنقعات املياه التي كانت متتد �إىل ال�رشق من �شارع‬ ‫وغالبا ما يحتل اجلامع الكبري قمة ربوة املدينة �أو‬ ‫ال�صغرى‪،‬‬
‫ً‬
‫بور�سعيد الآن‪ ،‬ويف ال�شمال من م�سجد العراقيات وعلى بعد‬ ‫يتو�سطها‪ ..‬وهذا االرتباط بني ال�سوق وامل�ساجد عالمة على‬
‫�أمتار م�سجد �سيدي �إبراهيم بن عمر ومنه �إىل ال�رشق م�سجد‬ ‫العالقة احلميمة بني التجارة والدين‪ ،‬والتي تتج�سم خا�صة يف‬
‫�سيدي خلف ومتتد الكثبان الرملية �شمال امل�سجدين حتى �ساحل‬ ‫منا�سبات الأعياد واملوا�سم واالحتفاالت الدينية كما يف مولد‬
‫البحر املتو�سط‪ ،‬ثم اجته جنو ًبا من م�سجد �سيدي خلف �إىل‬ ‫ال�سيد البدوي بطنطا والد�سوقي بد�سوق والقنائي يف قنا‪ ..‬وال‬
‫م�سجد ال�شلبي ثم م�سجد تاج الدين وعلى مقربة منهما كانت‬ ‫تكاد مدينة م�رصية مهمة تخلو من �شارع اجلامع ب�صفة عامة»‪.‬‬
‫توجد امل�ستنقعات الواقعة �رشق املدينة‪ ،‬ومن تاج الدين �إىل �سيدي‬
‫هذا ما ذكره العامل اجلغرايف الدكتور جمال حمدان يف‬
‫داود‪ .‬فتجد نف�سك داخل الدائرة التي يقع على �أطرافها امل�ساجد‬
‫مو�سوعته ال�شهرية «�شخ�صية م�رص»‪ ،‬و�إذا قمنا بتطبيق ما ذكره‬
‫القدمية املذكورة ويف القلب م�سجد احلم�صاين وال�سوق القدمي‬ ‫حمدان على مدينة �إدكو جند �أن الكتلة ال�سكانية لإدكو القدمية‬
‫وم�سجد اجلربتي ومقام حممد العي�ساوي واملوجود يف ال�صورة‬ ‫كانت متمركزة فوق ربوة وهي منطقة كوم الطواحني احلالية‪،‬‬
‫بني الطاحونة وم�سجد اجلربتي‪ ،‬ومو�ضعه الآن مدر�سة كوم‬ ‫ومن حولها جمموعة من امل�ساجد بالإ�ضافة �إىل ال�سوق القدمي‬
‫الطواحني ‪ -‬بالإ�ضافة �إىل الطاحونة الهوائية الوحيدة ‪ -‬التي‬ ‫مبنطقة م�سجد احلم�صاين‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫م�سجد اجلربتي‪.‬‬ ‫م�سجد �إبراهيم بن عمر‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الإ�سكندرية ‪ -‬ر�شيد عام ‪1876‬م وف�صل املنطقة عن امل�سطح‬ ‫�أن�شئت عام ‪1832‬م يف عهد حممد علي با�شا ولي�س يف العهد‬
‫املائي لبحرية �إدكو‪ ،‬ثم �إىل ال�شمال املنطقة ال�سكانية‪ ،‬ويف �شمالها‬ ‫اململوكي كما يقال‪ -‬وال�صامدة حتى الآن بعد اندثار �سبع‬
‫أخريا الأر�ض «ال�سبخة»‬
‫�أ�شجار النخيل والكثبان الرملية‪ ،‬و� ً‬ ‫طواحني �أخرى‪.‬‬
‫بالقرب من �ساحل البحر املتو�سط‪.‬‬
‫و�إذا رجعنا �إىل �إدكو زمن احلملة الفرن�سية على م�رص ونظرنا‬
‫ثانيا‪ :‬الدائرة احلمراء؛ هي الكتلة ال�سكانية لإدكو �أيام احلملة‬
‫ً‬ ‫�إىل اخلريطة املن�شورة يف �أطل�س م�رص لعلماء احلملة الفرن�سية‬
‫الفرن�سية ويف اجلزء ال�شمايل الغربي وال�شمايل ال�رشقي امتداد‬ ‫(الطبعة امللكية ‪1829-1821‬م) ميكننا الوقوف عند بع�ض‬
‫للبحرية مع وجود منطقة رملية جنو ًبا مل تُ�سكن‪ ،‬وبهذا ال�شكل‬ ‫النقاط لتو�ضيح الفكرة العامة ملا ذكرناه؛ من حيث و�صف‬
‫هي جزء من منطقة املقابر (اجلبانة) الآن‪ ،‬ولتقريب �صورة الكتلة‬ ‫الكتلة ال�سكانية لإدكو منذ �أكرث من مائتي عام‪ ،‬على النحو التايل‪:‬‬
‫ال�سكانية لإدكو وقتئذ ميكننا حتديدها ب�شكلها الآن‪ ،‬وهي‬ ‫�أو ًال‪ :‬تقع بحرية �إدكو يف جنوب املدينة ومتتد مبا ي�شبه الل�سان‬
‫منطقة كوم الطواحني وما يحيط بها من اجلهات الأربع وهو ما‬ ‫�إىل ال�شمال الغربي وال�شمال ال�رشقي‪ ،‬وهما ما �سمي فيما بعد‬
‫�أو�ضحناه بال�رشح‪.‬‬ ‫املالحة ال�رشقية واملالحة الغربية بعد �إن�شاء خط ال�سكك احلديدية‬

‫الطاحونة الهوائية التي �أن�شئت عام ‪1832‬م يف عهد حممد علي با�شا‪.‬‬

‫ذاكـرة م�صـر‬
‫طريق الإ�سكندرية‪ /‬ر�شيد‪ ،‬لو مل تكن ت�شري �إليها وتلفت الأنظار‬ ‫وقد جاء يف الق�سم اخلا�ص بالرحلة �إىل غرب الدلتا الذي‬
‫تباعا بطول الطريق‪،‬‬
‫تلك الأعمدة من الطوب النيئ التي تنه�ض ً‬ ‫كتبه �شابرول النكريه يف كتاب «و�صف م�رص»‪« :‬وت�شبه �إدكو‬
‫وتزحف هذه الرمال املتحركة حثي ًثا نحو مدينة ر�شيد حتى ليبدو‬ ‫الواقعة على الطريق بني ر�شيد والإ�سكندرية ملدينة �صغرية �أكرث‬
‫وك�أنها تريد �أن تغزوها كلية‪ ،‬فهي ترتاكم حول �أ�شجار النخيل‬ ‫مما ت�شبه لقرية‪ ،‬ويوجد بها عديد من امل�آذن واملنازل املبنية‬
‫وحول �أقل العوائق التي هناك لتكون كثبانًا يتزايد عددها يو ًما‬ ‫بالطوب املحروق وهو نف�س ما جنده يف ر�شيد؛ حيث املنازل‬
‫بعد يوم‪ ،‬ول�سوف تغطي عما قليل الرقعة املنزرعة من الأر�ض»‪.‬‬ ‫وا�سعة تتكون من عدة طوابق‪ ،‬وال ت�شاهد يف هذه الأماكن �أية‬
‫حيوانات �ضخمة وال ي�سكنها �إال ال�صيادون‪ .‬وقد تزايد عدد‬
‫وما ذكره جولوا عن طغيان الرمال على املزروعات يف ر�شيد‬
‫�سكانها ب�سبب تهدم القرى املجاورة لأبي قري‪ ،‬وقد دفنت‬
‫أي�ضا ما وقع يف �إدكو‪ ،‬فا�ستقرت الكتلة ال�سكانية يف �أعلى‬
‫هو � ً‬ ‫الرمال التي يخرجها البحر من جوفه با�ستمرار والتي حتملها‬
‫منطقة يف املدينة (كوم الطواحني) وزحفت الرمال على املناطق‬ ‫رياح ال�شمال فوق �إدكو جز ًءا من املدينة بالفعل»‪.‬‬
‫ال�شمالية بات�ساعها‪.‬‬
‫أي�ضا؛ طغيان‬
‫وقد و�صف جولوا يف كتاب «و�صف م�رص» � ً‬
‫ثال ًثا‪ :‬املربع الأخ�رض؛ وهو �صهريج املياه‪ .‬وقد ُعرف هذا‬ ‫الرمال على الطريق ال�ساحلي القدمي؛ حيث وقف عند �أبي مندور‬
‫الطريق قدميًا بكرثة �آبار املياه‪ ،‬ولكن مت حتديد كلمة �صهريج‬ ‫ال‪« :‬و�إىل الغرب نلمح تلك‬ ‫يف ر�شيد ونظر جهة الغرب‪ ،‬قائ ً‬
‫على اخلريطة‪ ،‬ويف املفاتيح العامة للخرائط هناك وجود لكلمة‬ ‫ال�صحراء التي تف�صل ر�شيد عن الإ�سكندرية‪ ،‬لكن امل�شهد ي�ضيع‬
‫�آبار‪ ،‬فمن املحتمل �أن ال�صهريج املق�صود غري الآبار التي كانت‬ ‫ُبق مطلقًا على �أثر خلطوات‬
‫و�سط تلك الرمال املتحركة التي مل ت ِ‬
‫موجودة وقتئذ‪ ،‬ومل ي�أت ذكرها على اخلريطة‪.‬‬ ‫الرحالة‪ ،‬ولقد كان من املمكن �أال نلحظ الآثار الواقعة على‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫وقد ذكر زيتون �أ�سماء جمموعة من الآبار؛ وهي‪( :‬بئر قا�سم‪،‬‬ ‫وقد متت ت�سمية بع�ض املناطق اجلديدة ب�إدكو الآن با�سم تلك‬
‫وبئر احللو‪ ،‬وبئر زيتون‪ ،‬وبئر قطيط‪ ،‬وبئر العبد‪ ،‬وبئر القوالب‪،‬‬ ‫الآبار‪ ،‬وذكر الأديب الراحل حممد حممود زيتون يف كتابه «�إدكو‬
‫وبئر �شلبي‪ ،‬وبئر ال�سنجق‪ ،‬وبئر الربكة‪ ،‬وبئر عيده‪ ،‬وبئر �أم‬ ‫ما�ضيها حا�رضها م�ستقبلها» ال�صادر عام ‪1937‬م‪� ،‬أنه اطلع على‬
‫عبد اهلل‪ ،‬وبئر ال�شيخ‪ ،‬وبئر طاجن‪ ،‬وبئر الأمري جبري‪ ،‬وبئر‬ ‫خريطة م�صلحة امل�ساحة لإدكو �سنة ‪1931‬م فا�ستطاع حتديد‬
‫ال�رشيف‪ ،‬وبئر العر�ضي‪ ،‬وبئر �سيدي عبد الرازق‪ ،‬وبئر اجلميزة‪،‬‬ ‫حمكما ويف‬
‫ً‬ ‫مبني بنا ًء‬
‫بئرا منها وبع�ض هذه الآبار ٌّ‬‫�أكرث من ‪ً 30‬‬
‫وبئر خمرية)‪ .‬وال وجود لتلك الآبار الآن �إال يف �أ�سماء بع�ض‬ ‫�أ�شكال هند�سية منتظمة‪ .‬و�أكد زيتون على ذلك بقوله‪« :‬يوجد‬
‫املناطق ال�سكنية اجلديدة والتي �أقيمت يف نطاقها‪ ،‬وحملت‬ ‫�شمال بئر زيتون املعروف لدى الأهايل �سبع �آبار على �صف‬
‫�أ�سماء تلك الآبار؛ مثل حي بئر �شلبي‪ ،‬وبئر قا�سم‪ ،‬وبئر �صديق‪،‬‬ ‫واحد‪ ،‬بني البئر والأخرى ع�رشون مرتًا‪ ،‬وكذلك يف �شمال‬
‫وبئر احللو‪.‬‬ ‫مقام �سيدي خلف �صف من الآبار الوا�سعة �إىل ال�شمال‪ .‬وهذه‬
‫الآبار نهب بني الرمال وعوامل التعرية‪ ،‬ويرجع اكت�شافها يف‬
‫راب ًعا‪ :‬امل�ستطيل الأزرق؛ (امل�سجد) كما هو مدون على‬
‫هذه الرمال �إىل ما يزيد عن مائة عام ‪� -‬أي منذ عام ‪ 1835‬م‬
‫اخلريطة‪ .‬و�أرجح �أن هذا امل�سجد هو مقام �سيدي عبد الرازق‬
‫تقريبا ‪ -‬فكان يعرث عليها عن طريق ال�صدفة؛ �إذ يحفر الأهايل‬ ‫ً‬
‫بالقرب من �ساحل �إدكو الآن‪ ،‬وكان نقطة التقاء الطريق ال�سلطاين‬
‫يف حقولهم الرملية‪ ،‬وكانوا يعملون بجد على �إخراج ما فيها‬
‫القادم من ر�شيد على �ساحل البحر‪ ،‬والطريق العادي القادم من‬
‫من مقذوفات الرمال وي�صلحون منها ما يحتاج �إىل الإ�صالح‪.‬‬
‫مرورا على �شاطئ بحرية‬
‫ً‬ ‫�شاطئ النيل فيما بني اجلدية واحلماد‬
‫وهذه الآبار على �أنواع ثالثة‪ ،‬فمنها ما هي م�ستديرة قطرها يزيد‬
‫�إدكو حتى نقطة التمركز مبنطقة �سيدي عبد الرازق‪ ،‬ومنها يف‬
‫عن ثالثة �أمتار‪ ،‬و�أحيانًا تكون �أقل من هذا �إىل �أن تكون مرتًا‪،‬‬
‫اجتاه واحد �إىل بوغاز املعدية للعبور �إىل الإ�سكندرية‪.‬‬
‫ومنها ما هي مربعة الأ�ضالع من مرت �إىل مرتين‪ ،‬وكلها مبنية من‬
‫والغريب �أن الكتلة ال�سكانية ملدينة �إدكو ظلت كما هي‬ ‫حجارة �صلدة كال�صوان‪ .‬وال ُيخفى ما كان لهذه الآبار ومالها‬
‫ملدة تزيد عن ‪ 150‬عا ًما من خروج احلملة الفرن�سية‪ ،‬ترتكز‬ ‫الآن ‪ -‬عام ‪1937‬م ‪ -‬من ف�ضل على املزروعات ال�صحراوية‬
‫معظمها يف منطقة كوم الطواحني وما يحيط بها من اجلهات‬ ‫واتخاذها لل�رشب؛ �إذ ال معني غريها هناك»‪.‬‬
‫الأربع‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل بيوت متفرقة يف الف�ضاء الإدكاوي الرحب‬
‫و�سط الرمال وحقول النخيل والأعناب يف �شمال املدينة وغربها‬
‫و�رشقها‪� ،‬أما جنوب املدينة فكان االمتداد حتى حمطة ال�سكك‬
‫احلديدية‪ ،‬وميكننا ت�أكيد ذلك من وثيقة م�ؤرخة يف مايو ‪1945‬م‪.‬‬
‫وخا�صة بتق�سيم بندر ناحية �إدكو بني م�شايخ البلد الأربعة وقّع‬
‫عليها العمدة �أحمد حممد قا�سم املتوفَّى ‪1950‬م‪ ،‬وامل�شايخ �سليم‬
‫عبد الوهاب زيتون‪ ،‬وحممد عبد احلميد زيتون‪ ،‬وحممد �شعبان‬
‫�أحمد قا�سم ‪� -‬أ�صبح عمدة لإدكو بعد وفاة �أبيه ‪ -‬وعبد احلميد‬
‫حتديدا دقيقًا‬
‫ً‬ ‫رم�ضان �صفار‪ .‬وترجع �أهمية الوثيقة �إىل �أنها حتدد‬
‫بداية ال�شوارع واملناطق وتبعيتها من �شيخ �إىل �آخر‪ .‬وعلى ذلك‬
‫خريطة م�صلحة امل�ساحة لإدكو ‪1931‬م‪.‬‬
‫ميكننا التوقف عند هذا التق�سيم لنتعرف على الكتلة ال�سكانية‬
‫للمدينة منذ �أكرث من ‪ 70‬عا ًما والتي مل تختلف عن الو�صف العام‬ ‫وما ذكره زيتون عام ‪1937‬م‪ ،‬عن ال�شكل الهند�سي‬
‫لإدكو �أيام احلملة الفرن�سية وما ذكرناه يف «دائرة امل�ساجد»‪ ،‬فقد‬ ‫للآبار ر�أيته بعيني‪ ،‬ف�أثناء عملية احلفر لتجديد �أحد امل�ساجد‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫كانت املدينة حماطة بالبحرية جنو ًبا ويف اجلانبني ال�رشقي والغربي‬ ‫التاريخية والقدمية و�سط املدينة‪ ،‬وهو م�سجد العراقيات يف �أوائل‬
‫املالحات‪ ،‬ويف ال�شمال الكثبان الرملية و�أ�شجار النخيل حتى‬ ‫ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬فقد ظهرت فوهة لبئر دائرية وعميقة‬
‫�ساحل البحر املتو�سط‪ ،‬وا�ضطرت العائالت مع الزيادة ال�سكانية‬ ‫كانت مال�صقة ملي�ض�أة امل�سجد‪ .‬الغريب �أن البئر مل ي�شاهدها‬
‫�إىل التو�سع العمراين واخلروج من املنطقة ال�سكنية ال�ضيقة �إىل‬ ‫�أحد من كبار ال�سن من قبل‪ ،‬ومل �أجد �إ�شارة عنها لدى زيتون‪،‬‬
‫الأرا�ضي الرحبة‪ ،‬وبد�أ االنت�شار الع�شوائي للمباين على امل�ساحة‬ ‫أي�ضا �أن بئر العراقيات هذه ب�شكلها الهند�سي وات�ساعها‬
‫والغريب � ً‬
‫ال�شمالية للمدينة وحتولت الكثبان الرملية و�أ�شجار النخيل �إىل‬ ‫مت ردمها والبناء عليها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫و�صـف �إدكــو يف يوميات ال�ضابـط الإنـجليـزي‬ ‫مبان ع�شوائية‪ ،‬والغريب �أن كل ذلك يف اخلم�سني عا ًما الأخرية‬
‫تومـا�س والـ�ش‬ ‫فقط‪ ،‬فقد انعدم التنظيم وال�ضمري‪ .‬انعدم التنظيم فال توجد‬
‫�شوارع منا�سبة بني البيوت اجلديدة املنت�رشة يف �أرجاء املدينة‬
‫�أ�سفرت معركة كانوب التي دارت رحاها يف احلادي‬
‫أي�ضا �أنه‬
‫على الرغم من امل�ساحات املمتدة هنا وهناك‪ ،‬والغريب � ً‬
‫والع�رشين من مار�س ‪1801‬م مبدينة الإ�سكندرية عن انت�صار‬
‫لوال �شق �شارع البحر عام ‪1962‬م ‪ -‬مع ت�صوير فيلم كليوباترا‬
‫الإجنليز على الفرن�سيني مما كانت له تداعيات كبرية �أبرزها‬
‫وهو ال�شارع املمتد من حمطة ال�سكك احلديدية جنوب املدينة‬
‫الإ�رساع بجالء قوات االحتالل الفرن�سي من م�رص‪ ،‬وقد مت جالء‬
‫�إىل �ساحل البحر املتو�سط ‪ -‬ملا كان هناك طريق ممهد يربط بني‬
‫تلك القوات يف الثاين من �سبتمرب ‪1801‬م‪ .‬وحينئذ وجد بع�ض‬
‫ال�شوارع ال�صغرية واحلارات ال�ضيقة �إىل و�سط املدينة‪ ،‬بالإ�ضافة‬
‫قادة احلملة الإجنليزية الفر�صة �سانحة للقيام بجولة �سياحية لزيارة‬
‫�إىل �أهميته يف �أنه الطريق املبا�رش ل�شاطئ بحر �إدكو‪.‬‬
‫بع�ض معامل م�رص التاريخية؛ ومن �أهمها �أهرامات اجليزة‪ .‬وعن‬
‫تلك الرحلة بالإ�ضافة �إىل تفا�صيل احلملة الإجنليزية التي جاءت‬
‫دون ال�ضابط‬‫باتفاق مع العثمانيني لإخراج الفرن�سيني من م�رص ّ‬
‫الإجنليزي توما�س وال�ش يف كتابه عن يوميات �آخر حملة يف م�رص‬
‫تفا�صيل تلك احلملة بداية من انطالقها من جبل طارق يف نوفمرب‬
‫‪1800‬م حتى و�صولها �إىل �أبي قري يف مار�س ‪1801‬م‪.‬‬
‫وننقل هنا ب�شيء من الإيجاز والت�رصف ما كتبه وال�ش يف‬
‫كتابه ‪ Journal of the Late Campaign in Eg ypt‬والذي ن�رش‬
‫يف لندن عام ‪1803‬م عن مروره ب�إدكو ور�شيد‪ .‬وما كتبه وال�ش‬
‫كثريا عما جاء‬
‫عن املدينتني املتجاورتني �إدكو ور�شيد ال يختلف ً‬
‫يف كتاب «و�صف م�رص» لعلماء احلملة الفرن�سية‪ ،‬بل �إن هناك‬ ‫مقام �سيدي عبد الرازق �سنة ‪1935‬م‪.‬‬
‫كثريا من نقاط االتفاق يف الو�صف وال�رشح بداية من عبور‬ ‫ً‬
‫بوغاز املعدية وو�صف خان املعدية‪ ،‬وكذلك و�صف �إدكو وقتئذ‪،‬‬
‫والو�صف العام ملدينة ر�شيد وبيوتها و�شوارعها و�أهلها‪.‬‬

‫كتب توما�س وال�ش عن اتفاق اجلرنالني كوت ‪Coote‬‬


‫والدلو ‪ Ludlow‬على القيام برحلة عرب النيل لزيارة ر�شيد‬
‫عب وال�ش عن �سعادته بالإ�ضافة �إىل‬‫والقاهرة والأهرامات‪ .‬وقد رّ‬
‫ح�سن حظه باخلروج يف تلك الرحلة التي � ْأوالها قبطان با�شا‬
‫رعايته‪ ،‬ومنحها حمايته ووفر لها و�سائل الراحة و�سبل االنتقال‬
‫الالزمة بداية من التحرك من �أبي قري �إىل �إدكو ومنها �إىل ر�شيد‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل التو�صيات والت�سهيالت املطلوبة يف طريق �سفرهم‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫وذكر وال�ش بداية التحرك من مع�سكر اجلرنال كوت �إىل غرب‬ ‫مقام �سيدي عبد الرازق �سنة ‪1962‬م‪.‬‬
‫الإ�سكندرية �صباح يوم اخلام�س من �سبتمرب ‪1801‬م ‪� -‬أي‬
‫�أما انعدام ال�ضمري فيتمثل يف ظهور مافيا اال�ستيالء على‬
‫بعد ثالثة �أيام من خروج قوات اجلي�ش الفرن�سي من م�رص ‪-‬‬
‫الأرا�ضي بعدما ارتفع ثمنها من مالليم �إىل ماليني يف الع�رشين‬
‫والذهاب �إىل مقر اجلرنال هت�شن�سون ‪ Hutchinson‬القائد‬
‫�سنة الأخرية‪ ،‬وخا�صة مع �إن�شاء الطريق ال�ساحلي الدويل بالقرب‬
‫الأعلى للجي�ش الإجنليزي‪.‬‬
‫من �ساحل البحر‪ ،‬وحتولت مناطق النخيل والأعناب ومالذ‬
‫«ويف ال�ساعة احلادية ع�رشة كنا يف انتظار القبطان الذي كان‬ ‫ال�شباب للعب كرة القدم يف املالعب الكثرية التي ا�شتهرت‬
‫مهذ ًبا وودو ًدا و�أعطانا خطابات للوزير الأعظم‪ .‬ويف ال�ساعة‬ ‫ب�أ�سماء الفرق‪ ،‬حتولت �إىل ب�ؤر للخالفات والنـزاعات والفرقة‬
‫ظهرا ذهبنا �إىل باخرته يف خمزن املدفعية‪ ،‬و�أبحرنا‬
‫ً‬ ‫الواحدة‬ ‫بني العائالت‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫يف دعم حملتهم على م�رص ‪ -‬بعد حوايل ميل من املدينة يخيم‬ ‫جتاه بحرية �أبي قري م�ستمتعني بن�سمات مبهجة‪ .‬عربنا املع�سكر‬
‫على ال�ساحل الرملي على �أق�صى ارتفاع يف �أبي مندور‪.‬‬ ‫و�أدرنا الدفة جتاه خان للراحة وهو مبنى مربع قدمي عند مدخل‬
‫بحرية �إدكو‪ .‬وعندما �أ�صبحنا يف مقابل املمر �أدركنا �أن احلاجز‬
‫وال يوجد ما تتباهى به ر�شيد �سوى موقعها اجليد؛ املنازل‬
‫خطريا‪� ،‬أ�صبح الآن �أ�شد خطورة؛ نتيجة الرياح‬
‫ً‬ ‫الذي لطاملا كان‬
‫بها عاليـة وم�سطحـة و ُبنيت بطريقة �سيئة وغري منظمة‪ ،‬واملنازل‬
‫ال�شديدة التي كانت تهب ب�شكل م�ستمر على ال�شاطئ‪ ،‬وجنونا‬
‫امل�سكونة بوا�سطة الأوروبيني هي التي تعتبـر متعددة الطوابق‬
‫من هذا املمر اخلطري يف دقائق بف�ضل خربة قادتنا‪ ،‬وتوقفنا لوقت‬
‫وميكنك �أن ت�صعد لأعلى بوا�سطة �ساللـم منحدرة و�صعبة‪،‬‬
‫ق�صري يف اخلان ‪ -‬يق�صد خان املعدية ‪ -‬فيما كان القارب اخلا�ص‬
‫وبد ًال من الزجاج على النوافذ توجد �إطارات �شبكية من‬
‫بنا يتم �سحبه يف بحرية �إدكو‪ .‬ويعترب اخلان حلقة الو�صل بني �أبي‬
‫اخل�شب امل�صمم واملنحـوت ب�أ�شكال متعددة ت�شبه الق�ضبان‬
‫قري ور�شيد‪ ،‬ولذلك و�ضعت فرن�سا قوات من املدفعية هناك‪،‬‬
‫نظرا لل�سيادة الرتكيـة‪،‬‬
‫وهذه هي الطريقة ال�سائدة يف هذا الوقت ً‬ ‫وهو مكان �صغري وفقري وال يرمز لأي �شيء �سوى �أنه �آمن من‬
‫وهذه ال�شبابيك ت�سمح بوجود ممر من الهواء‪ .‬ال �شيء ي�ضاهي‬
‫توغالت ومناو�شات العرب‪.‬‬
‫جمال احلدائق يف ر�شيد فيها بهجة وجمال يبتغيـه امل�سافرون‬
‫وفيها �أ�شجار الربتقـال واملوز‪ ،‬كما �أن املر�سى على �ضفاف النيل‬ ‫ويف�صل بحرية �إدكو عن بحرية �أبي قري م�ساحة �صغرية �ضيقة‬
‫جدا بال�سفن‪ .‬ويبدو �أن املدينة تتميز بتجارة ن�شطة‪،‬‬ ‫مزدحم ًّ‬ ‫جدا تكونت حدي ًثا بفعل في�ضانات النيل يف عام ‪1800‬م مما‬ ‫ًّ‬
‫أي�ضا يتمتعون ب�سمة من البهجة مل �أعهدها من قبل‪.‬‬ ‫وال�سكان � ً‬ ‫تكون ممر جاهز ملياه النهر فتدفقت بغزارة يف اجتاه‬‫�أدى �إىل ُّ‬
‫يف الثانية ع�رشة �أخذنا القارب الذي مت جتهيزه لنا وتزويده‬ ‫الأرا�ضي املنخف�ضة‪ .‬وت�سبب ذلك يف و�صل مياه البحر بالنهر‬
‫بكل ما حتتاج �إليه رحلتنا حتت قيادة القبطان با�شا‪ ،‬وانطلقت‬ ‫من خالل املنحدرات بالقرب من اخلان‪ .‬وعندما ينح�رس النهر‬
‫الرحلة مل�شاهدة الأهرامات والقاهرة»‪.‬‬ ‫يحل حمله البحر من خالل فتحة املمر‪ ،‬وهو بذلك ي�ضمن بقاء‬
‫وا�ستمرار البحرية اجلديدة‪.‬‬
‫�شيــخ م�شـايـخ �إدكــو يتالعـب بالإنـجـليـز يف حمـلـة‬ ‫وبعد �إبحار رائع ومبهج و�صلنا لقرية �إدكو التي تقع على‬
‫فــريــزر ‪1807‬م‬ ‫منحدر تل على حدود البحرية وحماطة بغابة كثيفة من النخيل‬
‫�أورد الأديب الراحل حممد حممود زيتون يف كتابه «�إدكو‬ ‫طبيعيا على بعد‪ .‬ولأننا ت�أخرنا قررنا �أن‬
‫ًّ‬ ‫منظرا �أخ�رض‬
‫ً‬ ‫لرت�سم‬
‫ما�ضيها حا�رضها م�ستقبلها» ال�صادر عام ‪1937‬م‪ ،‬وكتابه الآخر‬ ‫نتوقف فيها لليلة وق�ضينا الليلة يف منزل �شيخ البلد‪ .‬وعلى الرغم‬
‫«�إقليم البحرية» ال�صادر عام ‪1962‬م‪ ،‬ق�صة حممد �أحمد �صفار‬ ‫من رداءته كان هذا البيت �أف�ضل مكان ن�ستطيع �أن نوفره‪ .‬وهذه‬
‫القرية من �أف�ضل القرى املوجودة وكل البيوت مبنية بها بالطوب‪.‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫�شيخ م�شايخ �إدكو الذي قُتل مع �آخرين يف معركة دموية بني‬


‫عائلتي قا�سم و�صفار‪ ،‬وتوىل امل�شيخة بعده �أحمد �أحمد �صفار‬ ‫�صباحا انطلقنا من �إدكو على‬
‫ً‬ ‫ويف ال�ساعة ال�ساد�سة والن�صف‬
‫عام ‪1806‬م‪ ،‬وعندما علم حممد علي با�شا باخلرب طلب من‬ ‫خيولنا م�رسورين بهذا الرتحيب اللطيف واملهذب ل�ضيافتنا‪،‬‬
‫�شيخ البلد كتابة �أ�سماء القتلة‪ ،‬فكتب ما �أملته نف�سه احلانقة على‬ ‫ويف التا�سعة و�صلنا لر�شيد‪ ،‬اجلزء الأكرب من الطريق كان عبارة‬
‫قتل �أخيه عد ًدا من اخل�صوم �سواء ارتكبوا القتل �أم ال ‪-‬كما ذكر‬ ‫عن �أر�ض رملية قاحلة ووجدنا اجلي�ش الهندي بقيادة اجلرنال‬
‫زيتون ‪ -‬فجيء بهم �إىل من�شية الإ�سكندرية و�أعدموا بال�سيف‬ ‫دعي للم�شاركة‬
‫بريد ‪ -‬قائد اجلي�ش الإجنليزي يف الهند ا�س ُت َ‬

‫‪24‬‬
‫ر�ضي يف هذا احلادث ‪ -‬حادث ‪ 16‬مايو ‪ -‬ب�أن تعرب البحرية‬ ‫ودفنوا حيث الزاوية املعروفة بزاوية الإدكاوية وعددهم �أحد‬
‫قوات كبرية للعدو و�أن ت�ستخدم قنجاته (ال ُق ْن َجة كما جاء يف‬ ‫ع�رش رج ً‬
‫ال‪.‬‬
‫معجم ريهارت دوزي‪ :‬القارب‪� ،‬أو مركب �رشاعي �صغري)‬ ‫وبعدما انت�رص �أهايل ر�شيد على احلملة الإجنليزية بقيادة فريزر‬
‫يف عبورها ودون �أن ينذرنا بتاتًا باقرتابهم على خالف ما كان‬ ‫‪1807‬م‪ ،‬وجاء حممد علي لزيارة �إدكو ا�ستقبله �شيخ م�شايخ �إدكو‬
‫دائما‪ ،‬وملا كان قد بلغنا كذلك �أنه قد �أرجع �إىل ر�شيد‬‫يعدنا به ً‬ ‫�أحمد �أحمد �صفار يف منزله الكائن يف و�سط �إدكو �إىل ال�رشق‬
‫ً‬
‫�ضابطا �إجنليز ًّيا من الآالي اخلام�س والثالثني كان قد فر منها‬ ‫بالقرب من دكاكني ال�سد القدمية‪ ،‬وطلب �صفار من البا�شا �إعفاء‬
‫وو�صل �إىل قرية �إدكو‪ ،‬فقد اعترب م�سلكه لذلك كله �إن مل يكن‬ ‫�أهل �إدكو من حرا�سة النيل �أثناء الفي�ضان‪ ،‬و�أن يكون له نفاذ‬
‫معاديًا لنا بطريق مبا�رشة‪ ،‬فهو قط ًعا يدل على ميوله الودية نحو‬ ‫الكلمة يف �إدكو‪ ،‬وعر�ض عليه البا�شا التزام ال�صيد ببحرية �إدكو‬
‫العدو (يق�صد بالعدو الأرنا�ؤوط) وبنا ًء عليه وملا كان �أمري البحر‬ ‫فرف�ض‪ ،‬وبالفعل وافق حممد علي على طلب �شيخ امل�شايخ �صفار‪.‬‬
‫مري�ضا ‪ -‬ويق�صد توما�س لوي�س الذي ما لبث �أن تُويف بعد‬ ‫ً‬
‫وقد ا�ستغل �شيخ م�شايخ �إدكو الو�ضع اجلديد ‪ -‬ح�سبما ذكر‬
‫ذلك ‪ -‬فقد �أمرت كل قواربنا امل�سلحة بالدخول �إىل بحرية �إدكو‬
‫زيتون ‪ -‬وبالغ يف ع�سفه وجوره �إىل حد �أن نقل من حقول‬
‫وحتطيم القنجات املوجودة بها ملنع العدو من نيل �أية م�ساعدة‬
‫الأهايل �ألف نخلة �سماين �أمر بغر�سها يف حقل له �سمي بالألفي‪،‬‬
‫مرة �أخرى يف هذه الناحية»‪.‬‬
‫�رص�رصا عاتية �إىل الألفي ف�أ�صبح هذا احلقل‬
‫ً‬ ‫ريحا‬
‫وقد �سخر اهلل ً‬
‫مل يذكر يف الر�سالة ا�سم �شيخ م�شايخ �إدكو‪ ،‬ولكننا بالرجوع‬ ‫�أعجاز نخل خاوية‪.‬‬
‫�إىل زيتون كما ذكرنا عرفنا من هو �شيخ �إدكو وقتئذ؛ وهو �أحمد‬
‫بعد هذه الق�صة عن فرتة حكم �صفار‪ ،‬وما تبعها من تويل‬
‫دفاعا م�ستمي ًتا‬
‫�أحمد �صفار‪ ،‬وقد وجدت �أن زيتون قد دافع ً‬
‫فرحان حممد �أحمد �صفار م�شيخة �إدكو بعد موت عمه‪ ،‬كما‬
‫عن �شيخ م�شايخ �إدكو �أيام احلملة الفرن�سية الذي اتهمته بع�ض‬
‫ذكرها زيتون جند �أن هناك ق�صة تغافل عنها زيتون ومل يوثقها يف‬
‫امل�صادر الفرن�سية بالتج�س�س ل�صاحلهم‪ ،‬وقال زيتون بالن�ص‪:‬‬
‫كتابه على الرغم من رجوعه �إىل العديد من امل�صادر الأجنبية وهو‬
‫نفيا قاط ًعا عن عمدة �إدكو‬
‫«ونحن ن�ستبعد هذه التهمة وننفيها ً‬ ‫ي�ؤرخ حلملة فريزر على ر�شيد ومرورها ب�إدكو و�رسده لتفا�صيل‬
‫�أو �شيخها مهما يكن ا�سمه �أو �شخ�صه»‪.‬‬
‫دقيقة عن خط �سري احلملة يف ذهابها �إىل ر�شيد ورجوع فلولها‬
‫واحلقيقة �أن �شيخ م�شايخ �إدكو �أيام احلملة الفرن�سية قد مت‬ ‫بعد الهزمية يف ر�شيد‪ .‬وجند تفا�صيل هذه الق�صة يف الر�سالة التي‬
‫�إعدامه بقرار من اجلرنال منو كما ذكر الرافعي‪ ،‬فمع ازدياد‬ ‫كتبها هالويل؛ القائد البحري يف احلملة �إىل نائب �أمري البحر؛‬
‫املقاومة ال�شعبية جلنود احلملة الفرن�سية احت�شد الأهايل حول‬ ‫ثورنربوه‪ ،‬و�أوردها امل�ؤرخ حممد ف�ؤاد �شكري يف كتابه «م�رص يف‬
‫ر�شيد يف ‪ 20‬نوفمرب ‪1798‬م‪ ،‬فقامت القوات الفرن�سية ب�إلقاء‬ ‫مطلع القرن التا�سع ع�رش»‪ ،‬مل يذكر �شكري �أو هالويل ا�سم �شيخ‬
‫القب�ض على بع�ضهم‪ ،‬وكانت االتهامات الفرن�سية جاهزة؛ وعلى‬ ‫م�شايخ �إدكو �أحمد �أحمد �صفار باال�سم لكن جاءت �سريته �أن‬
‫ر�أ�سها القيام ب�أعمال عدائية �ضد رجال احلملة الفرن�سية؛ ف�أمر منو‬ ‫�شيخ م�شايخ �إدكو ‪1807‬م تالعب بالإجنليز‪ ،‬ومل يدلنا على ا�سم‬
‫الذي ازدادت �رشا�سته مما القاه من مقاومة �شديدة بالقب�ض على‬ ‫�شيخ امل�شايخ يف هذه الفرتة �إال زيتون عندما � َّأرخ لتوليه امل�شيخة‬
‫م�شايخ �إدكو و�إدفينا الذين قادوا الأهايل يف املقاومة‪ ،‬و�أججوا‬ ‫كما ذكرنا من قبل‪ ،‬فلماذا جتاهل هذه الواقعة؟‬
‫فيهم روح الوطنية والب�سالة‪ ،‬وطلب �إح�ضارهم �إىل ر�شيد وقتلهم‬
‫وتتلخ�ص الواقعة يف �أنه بعد هزمية الإجنليز يف ر�شيد ثم‬
‫رميا بالر�صا�ص بتهمة مقاومة رجال احلملة الفرن�سية وحتري�ضهم‬ ‫ً‬ ‫احلماد يف حملة فريزر‪ ،‬تراجعت القوات الإجنليزية وحت�صنت‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫للأهايل‪.‬وعلى الرغم مما ذكرناه يف هذا املقال‪ ،‬ف�إن مدينة �إدكو‬


‫بالإ�سكندرية‪ ،‬وقد نقل �شكري ما ورد يف الر�سالة عند حديثه‬
‫ما زال يحفل �سجلها بكثري من ال�شذرات التاريخية الأخرى من‬
‫عن حماولة اجلنود الأرنا�ؤوط بطريق بحرية �إدكو اقتحام القطع‬
‫زيارة ال�سلطان الأ�رشف قايتباي لها عام ‪882‬هـ‪1477 /‬م‪ ،‬حتى‬
‫بني املعدية وخليج �أبي قري ملهاجمة �أبي قري ذاتها يف ‪ 16‬مايو‬
‫زيارة الرئي�س الراحل جمال عبد النا�رص للمدينة عام ‪1959‬م‪،‬‬
‫‪1807‬م‪.‬‬
‫مرورا بوجود املع�سكر الإجنليزي (الكامب) الذي �أقيم مبنطقة‬ ‫ً‬
‫البوابة غرب املدينة �أثناء احلرب العاملية الثانية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل زيارة‬ ‫وجاء بالن�ص‪« :‬وملا كان حتى هذا الوقت مل يتخذ �شيخ �إدكو‬
‫امللك فاروق ل�صيد الطيور يف بحرية �إدكو‪ ،‬ومرور كثري من‬ ‫يبد من جانبنا ما يعطل حركة‬ ‫�أية �إجراءات عدوانية �ضدنا‪ ،‬مل ِ‬
‫العلماء والرحالة من �إدكو طريق الوالة وا�سرتاحة الغزاة‪.‬‬ ‫قوارب هذه القرية ون�شاطها يف البحرية‪ ،‬ولكنه ملا كان قد‬

‫‪25‬‬
‫امللك فاروق بالزي الع�سكري‪ ،‬وع�صا املار�شالية‪ ،‬وخلفه النقرا�شي با�شا‪ ،‬يف حني يقف امللك عبد العزيز وخلفه �أحمد ح�سنني با�شا �أثناء و�صوله حل�ضور العر�ض الع�سكري‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫امللك فاروق ي�ستعر�ض حر�س ال�رشف‪ ،‬و�إىل جانبه �أحمد ح�سنني با�شا‪ ،‬وخلفه عبد الرحمن عزام با�شا‪ ،‬وخلفه النقرا�شي با�شا‬
‫يف ا�ستقبال امللك عبد العزيز يف ال�سوي�س‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫امللك فاروق يتحدث �إىل �أحمد ح�سنني با�شا يف انتظار امللك عبد العزيز‪ ،‬ويظهر يف اخللف عبد الرحمن عزام با�شا والنقرا�شي با�شا‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫امللك فاروق يف �صوان ا�ستقبال امللك عبد العزيز بال�سوي�س‪ ،‬ويظهر ٌّ‬
‫كل من عبد الرحمن عزام با�شا والنقرا�شي با�شا‪.‬‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫ا�ستقبال امللك فاروق الأول للملك عبد العزيز ملك ال�سعودية‪ ،‬وخلفهما يظهر �أحمد ح�سنني با�شا والنقرا�شي با�شا وعبد الرحمن عزام با�شا‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫امللك عبد العزيز‪ ،‬و�إىل ميينه عبد الرحمن عزام‪ ،‬و�إىل ي�ساره النقرا�شي با�شا‪ ،‬يليه امللك فاروق الذي يجل�س خلفه �أحمد ح�سنني با�شا‬
‫�أثناء متابعتهم �سباق اخليول يف ميدان ال�سباق‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫امللك فاروق وامللك عبد العزيز �أثناء متابعتهما لأحد العرو�ض الريا�ضية مبنا�سبة زيارتهما جامعة ف�ؤاد الأول‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫جال�سا‪ ،‬و�إىل ي�ساره النقرا�شي با�شا‪.‬‬
‫ً‬ ‫امللك عبد العزيز‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫امللك عبد العزيز‪ ،‬و�إىل ي�ساره امللك فاروق‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫امللك عبد العزيز وامللك فاروق يح�رضان �أحد االحتفاالت املقامة على �رشف زيارة الأول مل�رص‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫امللك عبد العزيز وامللك فاروق ورئي�س الوزراء حممود فهمي النقرا�شي و�أحمد ح�سنني با�شا‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫امللك فاروق ومن خلفه �أحمد ح�سنني با�شا وعبد الرحمن عزام با�شا‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫(‪ 923-648‬هـ‪1517-1250/‬م)‬
‫الدكتور حممد جمال حامد ال�شوربجي‬

‫كما �ساعد هذا الرثاء على ظهور ما يعرف باملو�ضة التي‬ ‫تتناول هذه الدرا�سة التعريف ب�أحوال �أحد احلرف املهم�شة‬
‫كانت �أحد العوامل التي �أ�سهمت يف ن�شاط هذه ال�صناعة‪� .‬أ�ضف‬ ‫وهي حرفة الإ�سكايف‪ ،‬وبالرغم من هذه �أهمية هذه احلرف‬
‫�إىل ذلك التنوع العرقي الذي حوته م�رص خالل هذه الفرتة فكان‬ ‫واملهن يف احلياة االجتماعية امل�رصية ف�إن �أ�صحابها مل يلقوا �أي‬
‫جنبا �إىل جنب العراقي‬
‫امل�رصي وال�شامي واملغربي والأندل�سي ً‬ ‫اهتمام من قبل م�ؤرخي ذلك الع�رص؛ وذلك الن�رصاف معظم‬
‫والإيراين واليوناين والإيطالـي‪� ...‬إلخ‪ ،‬وكل ه�ؤالء قد حمـلوا‬ ‫ه�ؤالء �إىل ت�سجيل الأخبار ال�سيا�سية و�أحوال ال�سلطان وحا�شيته؛‬
‫معهم ثقافة بالدهم التي كان لها ت�أثريها يف هذه ال�صناعة‪،‬‬ ‫ال عن الباحثني املحدثني‪ .‬وقد جاءت هذه الدرا�سة للوقوف‬ ‫ف�ض ً‬
‫وم�ؤكد �أن منهم من كان يعمل ب�صنعة الأحذية‪ ،‬وه�ؤالء كان لهم‬ ‫على �أحوالهم‪ ،‬و�سد اللبنات الناق�صة يف تاريخ املجتمع امل�رصي‬
‫�أ�سلوبهم يف ال�صناعة من حيث ال�شكل وتركيب اخلامات‪.‬‬ ‫يف الع�رص اململوكي‪.‬‬

‫عرف امل�رصيون القباقيب اخل�شبية بكافة �أ�شكالها و�ألوانها‪،‬‬ ‫�ألقى الرثاء الذي متتعت به م�رص يف الع�رص اململوكي من‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫فارتدت طبقة اخلا�صة القباقيب التي كانت تُز َّين بالزخارف‪،‬‬ ‫جراء التحكم يف طريق التجارة بني ال�رشق والغرب وبخا�صة‬
‫ُر�صع بالذهب والف�ضة واملا�س والأحجار الكرمية وغريها‪،‬‬ ‫وت َّ‬ ‫جتارة التوابل بظالله على �صناعة الأحذية فتنوعت يف الأ�شكال‬
‫وهي من الأحذية املف�ضلة للن�ساء يف املنازل‪ ،‬وكان لكل طبقة‬ ‫والألوان واخلامات‪ .‬وقد �ساعد هذا الن�شاط التجاري على جلب‬
‫�أو م�ستوى معني من ال�شعب النوع املنا�سب له من هذه القباقيب‬ ‫العديد من املواد اخلام وبخا�صة اجللود‪ ،‬و�إدخال �أنواع جديدة‬
‫ح�سب نوع اخل�شب امل�ستخدم والزخارف التي تنق�ش عليه‪ .‬كما‬ ‫من الأحذية؛ ا�ستطاع امل�رصيون حماكاتها‪ ،‬واال�ستفادة منها يف‬
‫كان للفقراء نوع ب�سيط من القباقيب‪ .‬ومن �أ�شهر �أنواع القباقيب‬ ‫�إخراج �أ�شكال �أخرى‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ومن �أ�شهر �أنواع الأحذية امل�ستخدمة بكرثة يف ذلك الوقت‬ ‫التي عرفت يف الع�رص اململوكي «القبقاب ال�شرباوي» ن�سبة �إىل‬
‫النعل امل�سمى «�رسموزة»‪ ،‬وهو نوع من الأحذية الق�صرية التي‬ ‫�شربا اخليام �إحدى �ضواحي القاهرة‪.‬‬
‫تخلع عند دخول املنزل‪ ،‬ويطلق عليها عدة م�سميات ما هي �إال‬
‫ولب�ست الن�ساء هذا النوع لتفادي جترير �أذيال �أثوابهن‬
‫حتريف لل�رسموزة وهي «الزرموزة‪ ،‬وال�رسموج‪ ،‬واجلرموق»‪.‬‬
‫على الأر�ض‪� ،‬أو لإطالة قامتهن؛ حيث تعلو عن الأر�ض يف‬
‫غالبا فوق اخلف الذي ي�صنع من جلد ملون‪ ،‬وهذا‬ ‫وكانت تُلب�س ً‬ ‫بع�ض الأحيان خم�سة ع�رش �سنتيمرتًا‪ ،‬وهو ارتفاع القطعتني‬
‫النوع و�إن كان �صنع للن�ساء �أو كان �أكرث من تلب�سه الن�ساء ف�إن‬
‫أي�ضا يف‬
‫اخل�شبيتني احلاملتني للقبقاب‪ ،‬وهذا النوع املرتفع ُو ِج َد � ً‬
‫الرجال نالوا ًّ‬
‫حظا منه مع بع�ض تغري‪.‬‬
‫احلمامات العامة؛ لتفادي املاء امل�ستعمل من اال�ستحمام والبعد‬
‫وبجانب ال�رسموزة والأخفاف والقباقيب ُو ِجدت �أنواع‬ ‫عن النجا�سات‪ ،‬حتى الأنواع العادية من القبقاب كانت امللبو�س‬
‫�أخرى طويلة الرقبة بها خرز‪ ،‬و�أخرى المعة مذهبة تلب�سها‬ ‫الأ�سا�سي يف احلمامات العامة‪ ،‬و�أماكن الو�ضوء يف امل�ساجد؛‬
‫الن�ساء‪ ،‬وثالثة مثني جانب منها حتت القدم‪ ،‬وقد نالت ن�ساء‬ ‫لأنه �أكرث حتم ً‬
‫ال للماء من اجللد‪.‬‬
‫ال�سالطني والأمراء �أغلى هذه الأنواع �سالفة الذكر ففي م�صادرة‬
‫كما عرف امل�رصيون الأخفاف التي كانت ت�صنع من اجللد‬
‫ال�سلطان للأمري �أقبغا بن عبد الواحد �سنة ‪742‬هـ‪1341 /‬م بِيع‬
‫من �ألوان خمتلفة؛ ومنها ما اختلط فيها لونان‪ ،‬ويتكون اخلف‬
‫لزوجته قبقاب وخف و�رسموزة بـخم�سة و�سبعني �ألف درهم‪،‬‬
‫من «ال�صالل وهي بطانة اخلف‪ ،‬والقرطوم منقار اخلف الذي‬
‫وملا ماتت خوند بنت ال�سلطان النا�رص حممد بن قالوون �سنة‬
‫يف طرفه‪ ،‬والقرنو�س خرزة يف �أعلى اخلف‪ ،‬و�ساق اخلف‬
‫‪750‬هـ‪1349/‬م بيعت ممتلكاتها بالقلعة فكان منها قبقاب‬
‫رقبته»‪ .‬وكان الأمراء و�أعيان اجلند يلب�سون يف ال�صيف الأخفاف‬
‫مر�صع ب�أربعني �ألف درهم‪.‬‬
‫البي�ض العلوية‪ ،‬ويف ال�شتاء الأخفاف ال�صفر من الأدمي الطائفي‪،‬‬
‫كبريا يف مو�ضة‬
‫تطورا ً‬
‫ً‬ ‫وقد �شهدت �سنة‪750‬هـ‪1349/‬م‬ ‫وي�شدون املهاميز امل�سقطة بالف�ضة على اخلف‪ ،‬وال ُيكفَّت‬
‫�أخفاف الن�ساء و�رسموزاتها وزاد الإقبال عليها من قبل الن�ساء‬ ‫مهمازه بالذهب �إال من له �إقطاع من �أجناد احللقة‪.‬‬
‫حتى و�صل �سعر الواحدة منها �إىل خم�سمائة درهم‪ ،‬مما حدا‬
‫�أما ما يلب�سه ال�سلطان من الأخفاف ف�أعتقد �أنه كان يلب�س ما‬
‫بالوزير منجك اليو�سفي بنا ًء على فتاوى العلماء �أن ي�أمر مبنع‬
‫يلب�سه كبار الأمراء فقد خرج ال�سلطان قان�صوه الغوري (‪-906‬‬
‫الأ�ساكفة من بيع الأخفاف وال�رساميز اجلديدة؛ و�أن تعمل كما‬
‫‪922‬هـ‪1516-1501 /‬م) ل�صالة عيد الفطر �سنة‪905‬هـ‪/‬‬
‫كانت تُعمل �أو ًال فامتثل الأ�ساكفة للأمر‪ .‬لكن الأمر عاد للظهور‬
‫‪1499‬م وهو يلب�س م�شاية من اجللد الربغايل الأبي�ض‪ ،‬وعليها‬
‫مرة ثانية �سنة ‪751‬هـ‪1350/‬م‪ ،‬ف�أمر ال�سلطان ح�سن بن حممد‬
‫خف �أبي�ض مبهاميز مكفتة بالف�ضة البي�ضاء‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن‬
‫ابن قالوون يف فرتة �سلطنته الأوىل (‪752-748‬هـ‪-1347/‬‬
‫كبار الأمراء الذين كانوا يناف�سونه يف التحلي ب�أجمل و�أغلى‬
‫‪1351‬م) ب�إبطال ما �أحدثته الن�ساء من لب�س الأخفاف الزرك�ش‪.‬‬
‫الأخفاف‪ .‬وكان املماليك قبل �سلطنة ال�سلطان املن�صور قالوون‬
‫وقد ا�ستخدم الإ�سكافيون جميع �أنواع اجللود عدا جلد‬ ‫(‪689-678‬هـ‪1290-1279/‬م) يلب�سون �أخفافًا برغالية‬
‫اخلنزيز الذي كان حمر ًما ا�ستعماله يف هذه ال�صناعة‪ ،‬فوجدت‬ ‫ثان ي�سمى �سقمان‪ ،‬فلما توىل غري‬ ‫�سوداء‪ ،‬ومن فوقها خف ٍ‬
‫�أحذية من جلود احلمري والبقر واخليل واملاعز والذئاب والزراف‬ ‫�أ�شكال هذه الأخفاف للأح�سن‪ ،‬وال ندري ماهية هذا ال�شكل‬
‫والتما�سيح والأفيلة وغريها لتنا�سب جميع الفئات والطبقات‪.‬‬ ‫احل�سن لعدم و�صول مناذج منها تعود للع�رص اململوكي على حد‬
‫نوعا من اجللود‬
‫كما كانت م�رص ت�ستورد من بالد احلجاز ً‬ ‫علمي‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫يعرف بالأدمي الطائفي‪ .‬كما ا�ستعمل ه�ؤالء املعادن مثل احلديد‬


‫وقد وردت �إ�شارة �إىل نوع �آخر من الأخفاف كان من‬
‫والنحا�س والف�ضة والذهب يف �صناعة الأحذية ومعها الأحجار‬
‫متعلقات اخللع ال�سلطانية اخلا�صة بالوزراء‪ ،‬وهذا النوع كان‬
‫الكرمية التي كانت ت�صنع منها الف�صو�ص التي كانت تلب�س يف‬
‫الدلك�ش‪ ،‬وي�صنع من احلرير‪� .‬أما �أرباب الوظائف الدينية‬‫ي�سمى َّ‬
‫التجاويف اخل�شبية‪ ،‬وبالن�سبة للذهب والف�ضة والأحجار الكرمية‬
‫من الق�ضاة و�سائر العلماء فقد كانوا يلب�سون الأخفاف من الأدمي‬
‫فلم يكن يقدر على اقتنائها �إال كبار الإ�سكافيني‪.‬‬
‫الطائفي بغري مهاميز‪ ،‬و�أعتقد �أن املغاربة والأندل�سيني كان لهم‬
‫كما ا�ستخدموا يف �صناعة القباقيب عد ًدا من الأخ�شاب‬ ‫نظرا ملهارتهم الكبرية‬
‫دور يف �صناعة هذه الأخفاف يف م�رص؛ ً‬
‫املتنوعة التي تنا�سب حال امل�شرتي‪ ،‬وا�ستعمل الإ�سكافيون‬ ‫يف ذلك النوع‪ ،‬وحاجة املغاربة والأندل�سيني املقيمني مب�رص �إىل‬
‫بجانب هذه املواد اخلام عد ًدا من الأدوات؛ منها املق�ص وامل�سلة‬ ‫الأنواع التي كانوا يلب�سونها يف بالدهم‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وقد ذكرت لنا امل�صادر التاريخية �أ�سماء بع�ض من امتهن‬ ‫واملن�شار واخليوط خمتلفة الألوان واملطرقة وال�سندان احلديدي‬
‫�شيخا لطائفته؛ فكان‬
‫�صناعة الأحذية واالجتار فيها حتى �أ�صبح ً‬ ‫والقرمة اخل�شبية التي يثبت عليها ال�سندان‪ .‬وتتم عليها كثري من‬
‫منهم �شهاب الدين �أحمد بن عبد القادر الن�شاوي احلنفي (ت‪.‬‬ ‫عمليات الت�صنيع‪ .‬وكان الإ�سكايف يف ذلك الع�رص ي�ستخدم عد ًدا‬
‫‪884‬هـ‪1480 /‬م) الذي مهر يف �صناعة ال�رسموزة «ال�رساميج»‬ ‫من القوالب اخل�شبية املختلفة كنماذج لي�صنع عليها الأحذية‪ ،‬وال‬
‫معتربا بني �أهل �صنعته لكنه ترك ال�صنعة بعد‬
‫ً‬ ‫معلما‬
‫ً‬ ‫حتى �صار‬ ‫تزال هذه الأدوات ي�ستعملها الإ�سكايف حتى اليوم‪.‬‬
‫فرتة وان�رصف �إىل طلب العلم‪ ،‬و�إ�سماعيل بن �أحمد بن �أبي بكر‬
‫ومل يقت�رص دور الإ�سكايف على �إنتاج الأحذية خمتلفة الأ�شكال‬
‫الأخفايف (ت‪878 .‬هـ‪1476 /‬م) الذي كان وجي ًها بني �أرباب‬
‫والألوان‪ ،‬بل كان يقوم بخياطة و�إ�صالح القدمي منها والذي‬
‫حرفته‪ .‬وممن عمل بهذه احلرفة ثم تركها �أحمد بن حممد بن علي‬
‫يطلق عليه يف اللغة العامية امل�رصية الربطو�شة‪ ،‬وتلميعه بال�صبغات‬
‫ابن �شعبان القاهري (تويف يف �أوائل القرن التا�سع الهجري‪/‬‬
‫الطبيعة والكيميائية‪ ،‬كل حذاء ح�سب لونه‪.‬‬
‫اخلام�س ع�رش امليالدي)‪.‬‬
‫وقد تركز ه�ؤالء الإ�سكافيون يف منطقة ال�صاغة جتاه املدر�سة‬
‫وكان بع�ض ه�ؤالء على قدر من الثقافة الدينية نتيجة ح�ضوره‬
‫ال�صاحلية بخط بني الق�رصين؛ حيث �شكلوا جز ًءا من �سوق‬
‫ف عن �إ�سماعيل بن �أحمد الأخفايف (ت‪.‬‬ ‫جمال�س العلم ف ُع ِر َ‬
‫الزجاجيني ومنطقة ال�صليبة بجوار مدر�سة الأمري تغري بردي‬
‫‪878‬هـ‪1476 /‬م) ب�أنه ممن يداوم على ح�ضور جمال�س ابن حجر‬
‫البكلم�شي املعروف بامل�ؤذي‪ ،‬و�سقيفة العدا�سني التي عرفت �أيام‬
‫الع�سقالين (ت‪852 .‬هـ‪1448 /‬م)‪ ،‬بجانب اهتمام املحت�سب‬
‫ابن عبد الظاهر بالأ�ساكفة والبندقانيني‪.‬‬
‫بني احلني والآخر بتعليم ه�ؤالء وغريهم بع�ض ال�سور القر�آنية‬
‫وبخا�صة الفاحتة وال�سور الق�صار ليقر�أوا بها يف �صالتهم‪ ،‬وذلك‬ ‫كما كان لهم مكان بالركن املخلق خلف خانقاه �سعيد‬
‫على يد عدد الفقهاء‪ ،‬وكان الفقيه ي�أخذ على من يعلمه فل�سني‬ ‫ال�سعداء‪ ،‬وتواجد فريق منهم يف حوانيت قي�سارية ال�سلطان‬
‫كما حدث �سنة ‪790‬هـ‪1388 /‬م‪.‬‬ ‫بيرب�س اجلا�شنكري (‪709-708‬هـ‪1309-1308 /‬م) على‬
‫ف عن الإ�سكافيني �أن لهم لغتهم اخلا�صة التي ال‬‫كما ُع ِر َ‬ ‫ر�أ�س باب اجلوذرية بالقاهرة‪ ،‬وظلوا بها حتى عهد املقريزي‬
‫يعرفها �إال �أبناء ال�صنعة �ش�أنهم يف ذلك �ش�أن كثري من الطوائف‬ ‫ُوف ‪845‬هـ‪1442 /‬م) الذي �أمدنـا بـمعلومـات مهمة عن‬ ‫(ت َ‬
‫الأخرى‪ ،‬بع�ضها خا�ص ب�أ�سماء املعدات واجللود وطريقة‬ ‫الإيجار ال�شهري الذي يدفعه ه�ؤالء؛ وهو ما بني ثمانية �إىل ع�رشة‬
‫الت�صنيع‪ ،‬وبع�ضها لغة �رسية بينهم عبارة عن جمموعة كلمات ذات‬ ‫دراهم ح�سب حالة احلانوت وموقعه‪ .‬وبالطبع كان احلانوت‬
‫مدلول مغاير للمدلول احلقيقي للكلمة‪ ،‬وذلك ف�ض ً‬
‫ال عن لغة‬ ‫ي�شمل يف معظم الأحيان مكان الت�صنيع ومكان البيع؛ حيث‬
‫ال�صنعة املرتبطة باملواد اخلام والأدوات ونحو ذلك‪.‬‬ ‫يعر�ض الإ�سكايف ما ينتجه على واجهة حمله جللب الزبائن‪.‬‬

‫وفيما يخ�ص �أ�سواق الأحذية يف ذلك الع�رص فقد ُعرف لهم‬ ‫وهذه الأماكن التي تركز فيها ه�ؤالء كانت حمل عملهم‬
‫�سوق هو جزء من �سوق احلريريني مبنطقة ال�صاغة جتاه املدر�سة‬ ‫و�سكنهم‪ ،‬وهذا �ساعد على تنمية وتقوية الروابط االجتماعية‬
‫ال�صاحلية بخط بني الق�رصين؛ ظلوا به مدة حتى َع َّمر الأمري يون�س‬ ‫بني �أبناء احلرفة �سواء باملجال�سة �أو امل�صاهرة‪ ،‬وكل هذا كان يتم‬
‫النوروزي الدوادار قي�ساريته بعد �سنة ‪784‬هـ‪1482 /‬م فنقل‬ ‫حتت رعاية �شيخ الطائفة الذي كانت مهمته �إدارة وتنظيم �شئون‬
‫منه بياعي �أخفاف الن�ساء ونعالهم و�أ�سكنهم بحوانيتها اخلارجية‪.‬‬ ‫ال�صنعة‪ ،‬والتحدث با�سمهم �أمام الدولة‪ ،‬ويف هذه احلوانيت‬
‫ومل تقت�رص جتارة الأخفاف على الو�سط املحلى بل كانت هناك‬ ‫تواجد العديد من ال�صبية الذين جاءوا للتعلم‪ .‬وت�ستمر فرتة‬
‫عمليات ا�سترياد لبع�ض الأنواع امل�شهورة يف ذلك الوقت؛ مثل‬ ‫التدريب والتعليم حتى يتقن ال�صبي ال�صنعة ويحفظ �أ�رسارها حتى‬
‫«الأخفاف الربغايل» ب�ألوانها الأبي�ض والأ�سود من منطقة بلغاريا‬ ‫�إذا ما �أ�صبح متق ًنا لها ا�ستقل بذاته‪ ،‬وفتح حانوته اخلا�ص‪ ،‬ودرب‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫بالقرب من رو�سيا‪ .‬كما كان للتجارة املغربية دور يف �إدخال‬ ‫من �أراد تعلم ال�صنعة من ال�صبية‪.‬‬
‫العديد من الأحذية املغربية خمتلفة الأ�شكال والألوان‪ ،‬و�ساعد‬ ‫مل يقت�رص وجود �صانعي الأحذية على القاهرة بل تواجدوا يف‬
‫على ن�شاط هذا النوع كرثة املغاربة والأندل�سيني مب�رص‪.‬‬ ‫كل املدن امل�رصية؛ وذلك لأنها من احلرف ال�رضورية التي ال ميكن‬
‫وعن �سيا�سة الدولة جتاه ه�ؤالء فيمكن تلخي�صها يف ثالثة‬ ‫اال�ستغناء عنها‪ ،‬وقد �أ�شارت الن�صو�ص الأثرية التي ُعرث عليها �إىل‬
‫عنا�رص هي‪ :‬االحت�ساب‪ ،‬والرمي‪ ،‬واملك�س‪ ،‬فقد وكلت الدولة‬ ‫تواجد عدد ال ب�أ�س به من الأ�ساكفة مبدينة �سوهاج بال�صعيد‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫‪37‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫ما رمي عليهم من جلود وال ي�أخذون منه �شي ًئا‪ ،‬فرد ه�ؤالء اجللود‬ ‫�إىل املحت�سب �أمر الإ�رشاف على هذه احلرفة‪ ،‬وقد و�ضع املحت�سب‬
‫�إىل مبا�رشي الدولة‪.‬‬ ‫على �صانعي الأحذية عدة �ضوابط يف �صناعتهم‪ ،‬ونبه عليهم‬
‫وحذر من خمالفتها‪ ،‬ومنها‪�« :‬أال يكرثون ح�شو اخلرق البالية فيما‬
‫�إ�ضافة �إىل ما �سبق قامت الدولة بفر�ض عدد من املكو�س‬
‫بني الب�شتيك والبطانة‪ ،‬وال بني النعل والظهارة‪ ،‬وكذا ال حت�شى‬
‫على ه�ؤالء؛ منها مك�س اجللود الذي �أبطله ال�سلطان برقوق يف‬
‫بخبز الفجل‪ ،‬وي�شدون ح�شو الأعقاب‪ ،‬وال ي�شدون نع ً‬
‫ال قد‬
‫�سنة‪791‬هـ‪1489 /‬م ثم عاد مرة �أخرى‪ ،‬ثم �أبطل يف �شوال‬
‫�أحرقته الدباغة‪� ،‬أو مل يتم دبغه‪ ،‬وينبغي �أن يحكموا �إبرام اخليط‪،‬‬
‫�سنة ‪853‬هـ‪ /‬نوفمرب ‪1449‬م من �سوق النعال بالركن املخلق‬
‫وال يطولونه �أكرث من ذراع؛ لأنه �إذا طال �أكرث من ذلك تق�رش‬
‫بني الق�رصين ‪ -‬وكان به قي�سارية للجلود �أن�ش�أتها خوند بركة �أم‬
‫فانتق�ض �إبرامه و�ضعف عن اجلذب‪ ،‬وال يخرزون ب�شعر اخلنزير‬
‫ال�سلطان الأ�رشف �شعبان (ت‪774 .‬هـ‪1372 /‬م) ‪ -‬ومن �سائر‬
‫أحدا‬
‫بل يجعلون عو�ضه ليف �أو �شارب الثعلب‪ ،‬وال ميطلون � ً‬
‫الأ�سواق‪.‬‬
‫مبتاعه �إال �أن يحددوا ل�صاحبه يو ًما معلو ًما‪ ،‬ف�إن النا�س يت�رضرون‬
‫�أما مك�س الأخفاف فكان يفر�ض فيه على كل تاجر �أربعمائة‬ ‫بالرتدد �إليهم وبحب�س الأمتعة عنهم‪ ،‬وال يعملون الورق واللبد‬
‫درهم فلو�س‪ ،‬لكنها زادت على يد الوزير ابن غريب‪ ،‬فوقف‬ ‫و�أ�شباهه يف �أخفاف الن�ساء ف�إنه قبيح و�شهرة ال تليق بالأحرار»‪،‬‬
‫جتار �سوق الأخفاف يف �شهر جمادى الآخرة �سنة‪876‬هـ‪/‬‬ ‫ولهذا مينع املحت�سب من عمله ولب�سه‪.‬‬
‫نوفمرب‪1471‬م لل�سلطان بعد �أن قدموا �إليه �شكوى تت�ضمن‬
‫كما كان املحت�سب ينهى ويحذر العاملني باحلمامات العامة‬
‫�أن الوزير ا�ستجد عليهم مظلمة؛ وهي �أنه كان عليهم يف كل‬
‫من �أن ي�سمحوا للأ�ساكفة بغ�سل وتنظيف اجللود يف احلمام؛‬
‫�شهر �أربعمائة درهم فلو�س ف�صار ي�أخذها ثالثة �آالف درهم‪،‬‬
‫لأن النا�س يت�رضرون من رائحة الدباغة‪ ،‬و�إذا كان تعيني حمت�سب‬
‫ف�أمر ال�سلطان الوزير �أن يجريهم على عادتهم‪ ،‬فاجتهوا �إليه فما‬
‫جيدا لإ�صالح املعوج فيها‪ ،‬ف�إن‬
‫أمرا ً‬
‫ملراعاة �شئون هذه احلرف � ً‬
‫وافق لكنه خففها �إىل �ألف وخم�سمائة درهم‪ ،‬فوقفوا لل�سلطان‬ ‫م�س�ألة رمي اجللود ونحوها عليهم وب�ضعف ال�سعر يف كثري من‬
‫مرة �أخرى‪ ،‬ف�أبطل مك�س الأخفاف مطلقًا‪ .‬ويف عهد ال�سلطان‬ ‫الأحيان كان لها �أ�سو�أَ الأثر يف هذه احلرفة؛ لأنها �ستدفع ه�ؤالء‬
‫قان�صوه الغوري �صدر مر�سوم يف �سنة ‪907‬هـ‪1501/‬م‬ ‫�إىل الغ�ش يف ال�صناعة ورفع �سعر املنتج‪ .‬والغريب �أن املحت�سب‬
‫مبنع التعر�ض لعدد من احلرف؛ منهم الإ�سكافيون ب�سوهاج‬ ‫مهمته منع هاتني النقطتني فيا اهلل كيف ت�ضع الدولة ه�ؤالء بني‬
‫وكتب ذلك على لوح رخامي علق يف اجلامع العتيق املعروف‬ ‫مطرقة الرمي و�سندان االحت�ساب‪ ،‬وك�أنها تقول لهم انتحروا‪،‬‬
‫بالفر�شوطي ب�سوهاج‪.‬‬ ‫لهذا نرى قو ًما من ه�ؤالء يدعون على �أنف�سهم باملوت و�أن‬
‫�شكل غالء �أ�سعار‬‫وبالإ�ضافة �إىل هذه ال�سيا�سة اجلائرة َّ‬ ‫يخل�صهم اهلل مما هم فيه‪.‬‬
‫ال يف تدهور حال هذه ال�صناعة وبخا�صة يف‬ ‫املواد اخلام عام ً‬ ‫ومن الأمثلة على ذلك ما رماه ديوان الدولة برئا�سة‬
‫الع�رص اململوكي اجلرك�سي (‪923-784‬هـ‪1517-1382 /‬م)‪.‬‬ ‫مو�سى بن يو�سف املعروف بابن كاتب غريب (ت‪882.‬هـ‪/‬‬
‫فكثريا ما يرتفع �سعر هذه املواد كما حدث يف �سنة ‪827‬هـ‪/‬‬ ‫ً‬ ‫‪1477‬م) ‪ -‬القائم ب�أعمال الوزير‪ -‬على الأ�ساكفة من اجللود‬
‫‪1423‬م؛ حيث بلغ الرطل من احلديد املعد لال�ستخدام �إىل‬ ‫التي خرجها من املدابغ يف رم�ضان �سنة ‪875‬هـ‪ /‬فرباير‪1470‬م‪،‬‬
‫درهما‪� ،‬أما النحا�س فو�صل الرطل منه �إىل �أزيد من ثالثني‬
‫ً‬ ‫ع�رشين‬ ‫فوزعها على �أماكنهم بني الق�رصين وال�صليبة ب�ضعف �سعر ال�سوق‬
‫درهما‪.‬‬
‫ً‬ ‫درهما‪ ،‬وو�صلت التطبيقة من النعال �إىل �سبعني‬ ‫ً‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ما غرموه لأعوانه‪� .‬أما �أ�ساكفة بني الق�رصين ف�أخذوا‬
‫�أ�ضف �إىل ذلك ارتفاع �أجور ال�صناع نتيجة ا�ضطراب‬ ‫اجللود ودفعوا ما قرر من مال و�صربوا واحت�سبوا‪.‬‬
‫ال�سيا�سة النقدية للدولة‪ ،‬وهذا بالطبع كان له ت�أثريه على �سعر‬ ‫و�أما �أ�ساكفة ال�صليبة فكانوا �أكرث حكمة؛ �إذ �أخذوا اجللود‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫الأخفاف والنعال‪ ،‬ومل تكتف الدولة بكل ما �سبق بل كانت‬ ‫منهم ووعدوهم ببع�ض الثمن فلما �أ�صبحوا انطلقوا �إىل ال�سلطان‬
‫ت�أمرهم بامل�ساهمة يف �أعمال احلفر اخلا�صة بالنيل باملال والرجال‬ ‫لي�شكوا من الظلم الذي حاق بهم فردهم خدام احلو�ش ال�سلطاين‪،‬‬
‫كما حدث يف �سنة ‪818‬هـ‪1414 /‬م‪ ،‬عالوة على تعر�ض‬ ‫ف�صعدوا �أعلى اجلبل املقابل حلو�ش ال�سلطان وا�ستغاثوا‪ ،‬ف�س�أل‬
‫�أ�سواق الأخفاف وحوانيت ُ�ص ِنع َها للنهب وال�رسقة يف فرتات‬ ‫ال�سلطان عن �أمرهم ف�أخربوه بحالهم‪ ،‬و�أن ابن غريب رمى‬
‫اال�ضطرابات التي كانت هي ال�سمة البارزة للع�رص اململوكي‬ ‫عليهم بزيادة عن ال�سعر ف�أذاهم و�رضهم‪ ،‬فغ�ضب ال�سلطان على‬
‫اجلرك�سي‪.‬‬ ‫ابن غريب‪ ،‬و�أمر الأمري ي�شبك بن مهدي ب�أن يرد عن الأ�ساكفة‬

‫‪38‬‬
‫حممد مندور‬
‫‪ .Gold & Silver Certificates‬وهي ت�ستعمل ل�سهولة‬ ‫كان الذهب يف القرن الثالث ع�رش الهجري‪ /‬التا�سع ع�رش‬
‫حملها ورغبة يف توفري ما يفقد من النقود املعدنية؛ ب�سبب‬ ‫امليالدي‪ ،‬ويف ظل نظام الذهب النقدي يعد مبثابة معيار للقيمة‬
‫كرثة التداول‪ .‬وتو�صف هذه النقود ب�أنه لي�س فيها من‬ ‫الدولية‪ ،‬وو�سيلة لدفع �أية �أر�صدة يتعذر ت�سويتها يف �سوق النقود‬
‫النقود الورقية �إال �شكلها‪� ،‬أو �أنها نقود معدنية يتم فيها‬ ‫الأجنبية‪ .‬فقد كانت الأوراق املالية وودائع امل�رصف يف تلك‬
‫التداول على �شكل �صكوك ورقية‪.‬‬ ‫الفرتة قابلة للتحويل ب�سهولة �إىل ذهب‪.‬‬

‫الأوراق غري القابلة لل�رصف‪ :‬هي الأوراق التي ت�صدرها‬ ‫والأوراق النقدية كانت يف بدايتها عبارة عن وعد ب�إعادة دفع‬
‫احلكومة يف �أوقات ال�ضيق املايل‪ ،‬وال تتعهد ب�رصفها ف�ضة‬ ‫ذهبا كان �أو ف�ضة ملودع مذكور ا�سمه‪ ،‬ثم تطورت‬ ‫املن�صو�ص عليه ً‬
‫ذهبا يف زمن الع�رس‪.‬‬ ‫تلك الأوراق النقدية و�أ�ضيفت عليها عبارة �أو حلامله بعد اال�سم‪،‬‬
‫�أو ً‬
‫�صكوكا تنتقل من يد �إىل يد كبديل للعمالت‪ .‬وقد‬‫ً‬ ‫ومن ثم باتت‬
‫وتندرج الأق�سام الثالثة للنقود الورقية ‪ -‬ال�سالفة ‪ -‬حتت‬ ‫تطورت الأوراق النقدية ‪ -‬النقود الورقية ‪ -‬و�شاع �إ�صدارها يف‬
‫م�سمى النقود االئتمانية‪ ،‬وتتميز ب�أن قيمتها النقدية تتجاوز بكثري‬ ‫�أوروبا خالل الن�صف الثاين من القرن الثالث ع�رش الهجري‪/‬‬
‫قيمة ما قد يكون للمادة التي �صنعت منها ك�سلعة‪ .‬ف�رشط النقود‬ ‫التا�سع ع�رش امليالدي‪ .‬ويرجع �إليها الف�ضل يف اعتياد ال�شعوب‬
‫االئتمانية كما �أقره �أ�ساتذة االقت�صاد هو انقطاع ال�صلة بني قيمتها‬ ‫على ا�ستعمال ق�صا�صات من الورق تقبل يف التداول‪ ،‬ال على‬
‫اال�سمية كنقد وقيمتها التجارية ك�سلعة‪ .‬وقد جاء التعامل بها‬ ‫تعهدا بدفع مبلغ معني من الذهب �أو الف�ضة‪ ،‬بل على‬ ‫ً‬ ‫�أنها متثل‬
‫قدميًا م�صحو ًبا يف املعتاد بوعد من جانب َمن �أ�صدرها (الدولة‬ ‫ً‬
‫وو�سيطا للتبادل‪ .‬وبذلك ف�إن‬ ‫�أنها يف حد ذاتها �أداة لال�ستبدال‬
‫�أو البنوك) بدفع قيمتها بوحدات نقد �سلعية لدى الطلب‪ .‬ومن‬ ‫تلك املرحلة من الأوراق النقدية قد خلقت بيئة �صاحلة لتداول‬
‫هنا يطلق عليها ا�صطالح النقود االئتمانية‪ .‬وتعتمد هذه النقود‬ ‫الأنواع املختلفة من النقود الورقية‪ ،‬كما �شجعت احلكام على‬
‫فيما تتمتع به من قبول عام يف املعامالت على عن�رص الثقة يف‬ ‫�إ�صدارها كلما ا�شتدت بهم احلاجة �إىل املال‪.‬‬
‫قابليتها لل�رصف بوحدات نقد �سلعية حينما كانت قابلة لل�رصف‬
‫وتنق�سم النقود الورقية ح�سب تقييم علماء االقت�صاد احلديث‬
‫على ذلك النحو‪� ،‬أو يف جمرد قبول الأفراد لها يف التعامل‪.‬‬
‫�إىل ثالثة �أق�سام‪:‬‬
‫واملتتبع لتاريخ النقود الورقية يف الدولة العثمانية يجد �أنه‬ ‫نقود ورقية قابلة لل�رصف (نقود ورقية وثيقة)‪ :‬ميكن‬
‫قد جرت �أول حماولة لإ�صدار النقود الورقية يف عهد ال�سلطان‬ ‫حلاملها �أن ي�ستبدل بقيمتها نقو ًدا معدنية مبا�رشة‪ ،‬ك�أوراق‬
‫عبد املجيد (‪1277-1255‬هـ‪1861-1839 /‬م) ‪ ،‬وكانت‬ ‫امل�صارف‪ ،‬ويقال لها �أوراق بنكنوت �أو العملة الورقية‬
‫تلك النقود يف حكم ال�سندات �أكرث من �أي �شيء �آخر‪ .‬و�أوىل‬ ‫االئتمـانيــة ‪Monnaie de papier fiducidaire‬؛ لأنـه‬
‫هذه النقود الورقية �سميت «قائمة لر»‪ ،‬وكانت بغري �أرباح‪ .‬وقد‬ ‫مكتوب عليها وعد بالوفاء باملعدن النفي�س لدى تقدميها‪.‬‬
‫طبعت عام ‪1267‬هـ‪1850/‬م‪ .‬وكانت عبارة عن جزازات‬ ‫وال ي�صدر هذه الأوراق �إال بنك واحد يف الدولة بعد �أخذه‬
‫�صغرية من الورق من فئة الع�رشة رو�ش والع�رشين قر�شً ا‪ .‬ثم‬ ‫امتيا ًزا من احلكومة‪ .‬وي�شرتط �أن يكون عنده كمية من‬
‫كرث طبعها يف عهد ال�سلطان عبد العزيز (‪1293-1277‬هـ‪/‬‬ ‫املعدن النفي�س (الذهب)‪ ،‬وت�رصح له احلكومة ب�أن ي�صدر‬
‫�أوراقًا من البنكنوت �أكرث مما عنده من املعدن‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫‪1876-1861‬م)‪ ،‬فكانت زيادتها يف التداول النقدي هي‬


‫ال�سبب يف تدين قيمتها‪ .‬ويف عام ‪1278‬هـ‪1861/‬م �شعرت‬
‫النقود الورقية املمثلة‪ :‬وهي عبارة عن النقود الورقية التي‬
‫الدولة باحلاجة �إىل �سحب القوائم من التداول؛ لت�سببها يف‬
‫مودعا‬
‫ً‬ ‫مقدارا من الذهب �أو الف�ضة‬
‫ً‬ ‫متثل قيمتها اال�سمية‬
‫ارتفاع �سعر اللرية املجيدي �إىل ‪ 350‬قر�شً ا‪ ،‬وقد بات يف نهاية‬
‫يف خزانة الدولة �أو بنك �إ�صدار الأوراق امل�رصفية‪ .‬ويف‬
‫تلك العملية �أن انخف�ضت اللرية الذهبية املجيدي �إىل مائة قر�ش‬
‫هذه احلالة يتم تداول الذهب �أو الف�ضة دون �أن ينتقل من‬
‫يف ‪ 16‬ربيع الآخر ‪1279‬هـ‪� 13 /‬سبتمرب ‪1862‬م‪.‬‬
‫اخلزانة‪ ،‬وت�صدر الواليات املتحدة من هذه ال�شهادات‬
‫وعندما اعتلى ال�سلطان عبد العزيز العر�ش‪ ،‬جرى االجتاه �إىل‬ ‫منذ الن�صف الثاين من القرن الثالث ع�رش الهجري‪/‬‬
‫طبع القوائم من جديد بق�صد حت�سني الو�ضع املايل‪ .‬وكان الأ�سا�س‬ ‫الن�صف الأول من القرن التا�سع ع�رش امليالدي وت�سمى‬

‫‪41‬‬
‫اهتدى البع�ض �إىل �سبيل لتزويرها‪� .‬إذ متكن اثنان يف ال�سودان؛‬ ‫الذي و�ضعه هو �أن تقبل القوائم من اخلزانة‪ ،‬ومن �صناديق املال‬
‫هم‪� :‬صابر و�أحمد ابنا عبد الغني ال�سالوي من تقليد هذا النقد‪،‬‬ ‫ندا يف التعامل مع اللرية‬
‫يف ت�سديد ال�رضائب‪ ،‬بق�صد �أن تكون ًّ‬
‫تم غوردون وا�سمه و�إم�ضاءه بالنق�ش على‬‫وخ َ‬
‫ب�أن قلدوا مكتوب ِ‬ ‫الذهبية‪.‬‬
‫القرع‪ ،‬وطب ًعا �أوراق البون ك�أوراق غوردون‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬بد�أت القوائم بعد فرتة تفقد قيمتها‬
‫وقد توقف التعامل بهذه النقود الورقية التي �رضبها غوردون‬ ‫�أمام اللرية (اجلنيه) الذهبية ب�سبب انت�شار تزويرها‪ ،‬مما عر�ض‬
‫فور ا�شتداد احل�صار املهدوي حول اخلرطوم �إىل �أن �أُبطلت ًّ‬
‫نهائيا‬ ‫اخلزانة العثمانية لأ�رضار جمة‪.‬‬
‫مع دخول جي�ش املهدي و�سقوط اخلرطوم‪ .‬لتظل هذه التجربة‬ ‫ف�صدر جراء ذلك يف ربيع الآخر ‪1297‬هـ‪ /‬مار�س ‪1879‬م‬
‫�أوىل حماوالت نظام حكومي يف ال�سودان لطبع النقود الورقية‪.‬‬ ‫قرار بجمعها من الأ�سواق‪ ،‬وجرى �إحما�ؤها يف �شهر ذي القعدة‬
‫وبعد انتهاء احل�صار قام �أحد ال�ضباط الإجنليز ب�رشاء هذه‬ ‫‪1297‬هـ‪� /‬أكتوبر من نف�س العام‪.‬‬
‫ال يف �رصف‬ ‫الأوراق ب�أقل من قيمتها اال�سمية من التجار؛ �أم ً‬ ‫وعلى نهج نف�س التجربة العثمانية يف �إ�صدار النقود الورقية‪،‬‬
‫وفريا‪.‬‬
‫ربحا ً‬ ‫قيمتها احلقيقية من اخلزانة امل�رصية‪ ،‬ليحقق بذلك ً‬ ‫�صار غوردون يف �سبيله لإ�صدار النقود الورقية‪ ،‬وقت توليه‬
‫�إال �أن اخلزانة امل�رصية رف�ضت �رصف قيمتها له‪ .‬فقام هذا ال�ضابط‬ ‫حكمدارية اجلهات ال�سودانية للمرة الثانية‪ .‬فقد �أدت الظروف‬
‫الإجنليزي ب�إقامة دعوى �ضد احلكومة امل�رصية �أمام املحاكم‬ ‫داخل مدينة اخلرطوم وقت ح�صار جي�ش املهدي �إىل توقف‬
‫مطالبا بقيمة تلك العمالت‪ ،‬غري �أنه ُتوفيِّ َ قبل الف�صل‬
‫ً‬ ‫املختلطة‬ ‫الن�شاط التجاري بال�سوق‪ ،‬وفراغ خزانة احلكومة من النقود‪.‬‬
‫يف دعواه‪ ،‬وق�ضت املحكمة املختلطة ب�رصف تعوي�ض له عن جزء‬ ‫ف�أ�صدر غوردون يف �آخر رجب ‪1301‬هـ‪� /‬إبريل ‪1884‬م‬
‫من قيمة هذه الأوراق‪ ،‬مت �رصفه لورثته‪.‬‬ ‫�أوراقًا نقدية من فئات خمتلفة‪ ،‬وقابلة للتعامل على �أن يتم �رصفها‬
‫بعد الق�ضاء على الثورة املهدية من خزانة اخلرطوم �أو القاهرة‪.‬‬
‫وتعد �أذون اخلزانة التي �أ�صدرهـا غوردون بـا�شــا �سنـة‬
‫‪1301‬هـ‪1884 /‬م �أول عملة ورقية مل�رص وال�سودان‪ .‬وقد‬ ‫ووجد غوردون �صعوبة يف حمل الأهايل على تداولها‪ .‬ومل‬
‫�أمر غوردون با�شا ب�إ�صدار ما قيمته ‪( 168.000‬مائة وثمانية‬ ‫حتل هذه العقدة �إال بعد �أن تعامل بها التجار امل�رصيون فتبعهم‬
‫و�ستون �ألف جنيه م�رصي)‪� .‬إال �أنه وقع بالفعل على ‪50.000‬‬ ‫التجار الآخرون‪ .‬ومع ذلك مل يخل الأمر من تقليدها على يد‬
‫(خم�سني �ألف جنيه فقط)؛ حيث ا�ستولت قوات املهدي على‬ ‫بع�ض التجار‪ ،‬مما ت�سبب يف خف�ض قيمتها‪ .‬الأمر الذى ترتب‬
‫اخلرطوم‪ ،‬و ُق ِتل غوردون با�شا قبل �أن يتمكن من ا�ستكمال‬ ‫عليه قيام دوريات قوية من رجال احلكومة للتجول يف املدينة‬
‫التوقيع على الإ�صدار‪.‬‬ ‫لقمع ه�ؤالء التجار‪ ،‬ولوقف ال�صدام الذي كان يحدث بينهم‬
‫وبني اجلند ب�سبب �أخطار التعامل بها‪.‬‬
‫وقد �صدرت هذه العمالت الورقية يف �إحدى ع�رشة فئة هي‪:‬‬
‫ويالحظ على هذه النقود التي �أ�صدرها غوردون‪ ،‬وقد‬
‫ ‬
‫‪- -‬واحد قر�ش مريي‬
‫�أطلق عليها عملة البون الورقية �أنه قد كتب على كل ورقة‬
‫‪- -‬خم�سة قرو�ش مريية‬
‫عبارة ن�صها كالتايل‪« :‬هذا املبلغ مقبول وجنري دفعه من خزينة‬
‫‪- -‬ع�رشة قرو�ش مريية‬ ‫اخلرطوم �أو م�رص بعد م�ضي �ستة �شهور من تاريخه ‪� 25‬إبريل �سنة‬
‫‪- -‬ع�رشون قر�شً ا مري ًّيا‬ ‫‪1884‬م»‪ .‬ثم رقمها ب�أرقام م�سل�سلة‪ ،‬وو�ضع عليها ختمه الذي‬
‫مريي‬
‫‪- -‬ماية قر�ش ًّ‬ ‫ي�ستعمله يف حمررات احلكمدارية‪ .‬ثم و�ضع �إىل �شمال اخلتم‬
‫مريي‬
‫‪- -‬خم�سمائة قر�ش ًّ‬ ‫ممهورا بالأحرف العربية‪ ،‬و�إم�ضاءه بالأحرف‬
‫ً‬ ‫مبا�رشة‪ ،‬ا�سمه‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫‪�- -‬ألف قر�ش مريي‬ ‫الإجنليزية‪.‬‬


‫‪�- -‬ألفا قر�ش مريي‬ ‫وقد و�ضع غوردون ختمه والإم�ضاء‪ ،‬على �سبيل الت�أكيد‬
‫‪�- -‬ألفان وخم�سمائة قر�ش مريي‬ ‫والت�أييد؛ بغر�ض �ضمان �رسيان هذه العملة الورقية وقبولها بني‬
‫‪- -‬خم�سة �آالف قر�ش مريي‬ ‫النا�س‪ ،‬ومنع ًا ملحاكاتها و�إ�صدار ما هو مزور عليها‪� .‬إال �أنه مع‬
‫‪- -‬خم�سون جني ًها مري ًّيا‬ ‫كل االحتياطات التي و�ضعها غوردون على نقوده الورقية فقد‬

‫‪42‬‬
‫�أبعاد الورقة جلميع الفئات ‪ 63 × 107‬مم‪.‬‬ ‫و�أندر هذه الفئات هي فئة واحد قر�ش؛ حيث مل يهتم ال�ضابط‬
‫الإجنليزي ب�رشائها من جتار ال�سودان ل�رصفها من اخلزانة امل�رصية؛‬
‫الأوراق من هذا الإ�صدار التي حتمل توقيع غوردون با�شا‬
‫وذلك ل�ض�آلة قيمتها‪ .‬وكذلك ف�إن الأوراق فئة اخلم�سني جني ًها‬
‫قيمتها �أعلى من الأوراق امل�صدرة بدون توقيع‪.‬‬ ‫نادرة؛ لقلة امل�صدر �أ�ص ً‬
‫ال‪.‬‬
‫ومن �أهم القطع خم�س قطع حتمل توقيع غوردون وعليها‬ ‫و�أهم خ�صائ�ص هذه الأوراق �أنها‪:‬‬
‫ختم حكمدارية ال�سودان وتاريخ �إ�صدارها يوم ‪� 25‬إبريل‬ ‫م�صنوعة من �ألياف الكتان و�أكرث ً‬
‫�سمكا من البنكنوت احلايل‪.‬‬
‫‪1884‬م‪ .‬وحتمل القيمة النقدية داخل م�ستطيل �أعلى النقد‬
‫الورقي‪ .‬و�أوىل هذه القطع من فئة مائة قر�ش مريي‪ ،‬والثانية‬ ‫هذه الأذون‪ /‬النقود الورقية كتبت على وجه واحد يدو ًّيا‬
‫فئة خم�سمائة قر�ش ميـري‪ ،‬والثالثة من فئة �ألف قر�ش ميـري‪،‬‬ ‫باحلرب ال�شيني‪ ،‬وحتمل ختم غورودن با�شا وختم حكمدارية‬
‫والرابعة فئة �ألفيـن وخم�سمـائة قر�ش ميـري‪� ،‬أما اخلام�سة‬ ‫عموم ال�سودان ‪Gouvernorat général du Soudan‬‬
‫من فئة خم�سة �آالف قر�ش ميـري‪.‬‬ ‫بالفرن�سية والعربية‪.‬‬
‫وغريها‪ .‬وهذا الغالء طبيعي �سببه زيادة النقود املتداولة يف‬ ‫�إذا كرثت النقود يف بلد قلت قيمتها ال�رشائية‪ ،‬ونعرب عن‬
‫الأيدي و�إقبال النا�س على ال�رشاء وكل �شيء يزداد الطلب عليه‬ ‫ذلك عادة بقولنا �إن �أ�سعار احلاجات �أو العرو�ض غالية‪ .‬و�إذا‬
‫تزداد قيمته‪ .‬وال تكاد ت�سمع �شكوى من الغالء؛ لأن الذي‬ ‫قلت النقود زادت قيمتها ال�رشائية ونعرب عن ذلك بقولنا �إن‬
‫كثريا �أن يدفع بالعرو�ض‬
‫يكون يف يده مال ال يهمه بعد ذلك ً‬ ‫�أ�سعار العرو�ض رخي�صة‪ .‬و�أقرب �شاهد يح�رضنا على احلالتني‬
‫التي ي�شرتيها قر�شً ا �أو قر�شني زيادة على ما كان يدفع بها �أيام ما‬ ‫مب�رص و�سوريا‪ .‬ففي م�رص النقود كثرية بف�ضل عظم الثقة املالية‬
‫�صفرا من املال‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان مي�سه‬ ‫والعرو�ض غالية لأنها مطلوبة‪ ،‬ولكن امل�رصي ال ي�شكو الغالء‬
‫أجرا يوازي ذلك العمل‪� .‬أما يف �سوريا‬ ‫لأنه يجد عم ً‬
‫ال يعمله �أو � ً‬
‫وتبع رواج �سوق القطن رواج الأوراق املالية؛ لأنها مل تخرج‬
‫عر�ضا من العرو�ض فلما اجتمع املال يف الأيدي �أقبل‬
‫عن كونها ً‬ ‫فالنقود فيها قليلة بف�ضل االحتالل الفرن�سي و�ضعف الثقة املالية؛‬
‫النا�س على ا�ستثماره ب�رشائها فارتفعت �أ�سعارها‪ .‬ففي �أ�سبوع‬ ‫فالعرو�ض رخي�صة لأنها غري مطلوبة وال�سوري ال يكربه هذا‬
‫واحد من ‪� 9‬إىل ‪ 16‬نوفمرب ارتفعت �أ�سهم هليوبولي�س مث ً‬
‫ال‬ ‫ال يعمله وحيث ال عمل فال �أجر وال‬ ‫الرخ�ص لأنه ال يجد عم ً‬
‫فرنكا‪ ،‬وهكذا يف كثري من‬ ‫فرنكا �إىل ‪� 784‬أي ‪ً 24‬‬‫من ‪ً 173‬‬ ‫مال‪ .‬والأجر الذي ي�أخذه �إذا وجد عم ً‬
‫ال يعمله متغري القيمة كل‬
‫الأوراق املالية وغريها‪.‬‬ ‫يوم‪ ،‬فهو ال يعلم اليوم �إذا كان يف كي�سه مائة قر�ش كم تكون‬
‫غدا �أت�سعني �أم ثمانني �أم خم�سني �أم �أقل من ذلك‪ .‬فقد‬‫قيمتها ً‬
‫و�سنحاول يف هذه العجلة حتقيق �أرقام احلكومة التي تقدر بها‬ ‫�أخربنا الذين �صيفوا يف لبنان يف ال�سنة املا�ضية �أنهم كان ي�رصفون‬
‫�أ�سعار املعي�شة يف القاهرة بالن�سبة �إىل ما كانت عليه قبل احلرب‬
‫اجلنية امل�رصي يو ًما مببلغ ‪ 300‬قر�ش �سوري ويو ًما مبائتني‬
‫معتمدين يف ذلك على اختيارنا اخلا�ص وراجعني �إىل �أرقام بني‬
‫وت�سعني ويو ًما مبائتني و�ستني‪ .‬و�أخربنا الذين �صيفوا هناك هذا‬
‫�أيدينا عن متو�سط �أ�سعار احلاجات يف الثماين �سنوات التي �سبقت‬
‫العام �أنهم �رصفوا اجلنيه امل�رصي مببلغ ‪ 350‬قر�شً ا ومببلغ ‪320‬‬
‫احلرب �أي من �سنة ‪1906‬م‪� ،‬سنة ال�ضائقة املالية امل�شهورة �إىل‬
‫�أو �أقل �أو �أكرث على ح�سب حالة الفرنك من ال�صعود �أو النزول‪.‬‬
‫�سنة ‪1914‬م �سنة احلرب امل�شئومة‪ .‬و�سنقابل متو�سط الأ�سعار‬
‫يف تلك الثماين �سنوات مبتو�سط الأ�سعار يف الثماين �سنوات من‬ ‫وت�سمع الذين ي�أتون من �أهل �سوريا �إىل هذه الديار ي�شكون‬
‫�سنة ‪1915‬م �إىل �سنة ‪1923‬م‪.‬‬ ‫الغالء هنا‪ ،‬ويقابلونه برخ�ص احلاجات يف �سوريا‪ ،‬فيقولون لك‬
‫ال �إن واقة العنب كانت تباع هناك ب�أربعة مليمات وهي تباع‬ ‫مث ً‬
‫وال ريب �أن مما يجعل �أرقامنا دقيقة احل�ساب وذات قيمة‬
‫هنا ب�أربعة قرو�ش و�ستة وثمانية‪ .‬ف�إذا قلت لهم وما الفائدة �أن‬
‫واحدا‬
‫ً‬ ‫خا�صة يف هذه املقابلة كون ال�شاري والبائع يف احلالتني‬
‫تكون الأ�شياء رخي�صة يف بلد ال عمل وال مال فيه‪ ،‬قالوا هذا‬
‫�أي كنا ن�شرتى حاجاتنا يف هذه املدة كلها من الباعة �أنف�سهم فال‬
‫�صحيح ال عمل وال مال هناك فيا ليت العرو�ض كانت غالية‪،‬‬
‫يقال �أننا كنا نغنب بتغيري الباعة يف �أزمان خمتلفة‪� .‬أما البائع الواحد‬
‫وكان يف �أيدي النا�س مال ي�شرتونها به‪.‬‬
‫فال يعقل �أنه غ�شنا يف املدة الأوىل ثم انقطع عن الغ�ش يف الثانية‬
‫وال �أنه غبننا يف الثانية دون الأوىل‪ ،‬بل �إنه �إن كان هناك غنب‬ ‫و�أعظم فرق بني العهد العثماين املا�ضي والعهد الفرن�سي‬
‫فقد جرى علينا من الأول �إىل الآخر‪ .‬ولكن ظهر لنا من املقابلة‬ ‫احلايل يف �سوريا؛ �أن العرو�ض كانت يف العهد العثماين رخي�صة‬
‫مع الغري �أننا مل نغنب يف �شيء غب ًنا يذكر و�أن معاملتنا يف ال�سوق‬ ‫ذهبا وف�ضة‬
‫حد ال ي�صدق وكانت النقود التي يف �أيديهم ً‬ ‫كلها �إىل ٍّ‬
‫منوذجا للمقابلة ال�صحيحة‪.‬‬
‫ً‬ ‫متو�سطة ي�صح اتخاذها‬ ‫قيمتها ال�رشائية عظيمة‪ .‬وكانت الأجور التي يح�صل العمال‬
‫عليها كبرية القيمة ال�رشائية على قلتها‪� .‬أما الآن فبع�ض احلاجات‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫ال بد لنا قبل �إيراد الأرقام املقابلة بني �أ�سعار املعي�شة يف‬
‫رخي�صة وهو ما كان نتاج البالد �أما الباقي فغالٍ والأ�شغال لي�ست‬
‫القاهرة الآن و�أ�سعارها قبل احلرب عامة �أو بني �سنة ‪1906‬م‬
‫رواجا مما كانت عليه يف العهد العثماين‪ .‬والنقود �إما نيكل‬ ‫ً‬ ‫�أكرث‬
‫و�سنة ‪1914‬م خا�صة �أن نالحظ �أن تقديرنا يتناول الطبقة‬
‫و�إما ورق تابع للفرنك الفرن�سي والأجور التي ترد البالد من‬
‫الو�سطى دون العليا والدنيا‪� .‬أما العليا فلأنه يدخل يف نفقاتها‬
‫اخلارج‪ .‬والأحكام لي�ست �أح�سن مما كانت يف العهد املا�ضي �إن‬
‫جزء كبري مما ي�سمى بالكماليات �أو الأ�شياء التي ي�ستغنى عنها يف‬
‫مل نقل �أنها �رش منها‪.‬‬
‫املعي�شة العادية وهذه الكماليات ال ُيح�سب لها ح�ساب كبري يف‬
‫الأ�سواق التجارية؛ لأن ت�رصيفها مق�صور على فئة قليلة بالن�سبة‬ ‫راجت �سوق القطن امل�رصي يف هذه الأيام الأخرية‪ ،‬ف�شعر‬
‫�إىل املجموع الأكرب‪.‬‬ ‫النا�س برواجها يف غالء بع�ض احلاجات من حلم وبي�ض و�أرز‬

‫‪45‬‬
‫يف الطبقة الو�سطى مع �أن الفرق يف رواتبهم كبري‪ .‬و�إذا مل ي�صح‬ ‫و�أما الطبقة الدنيا فغاية ما يقال فيها �أن الغالء مل مي�س�سها‬
‫ح�رش الرجل الذي راتبه ‪ 20‬جني ًها يف �أعلى الطبقة الفقرية‬ ‫كثريا؛ لأن املواد التي ت�ستهلكها قليلة العدد وقد عادت �أثمانها‬‫ً‬
‫كذلك ال ي�صح ح�رش ذي املائة جنيه يف �أدنى الطبقة الغنية �إال‬ ‫فهبطت �إىل نحو ما كانت عليه قبل احلرب وهي احلبوب والبقول‬
‫بت�ساهل كثري‪.‬‬ ‫واجلنب والزيت والأن�سجة القطنية‪ .‬ولي�سمح يل بالقول �إن الفقري‬
‫وال نبحث يف تقديرنا هذا فيما يرون من �أن رطل ال�سمن‬ ‫يعد اللحم يف بلد مثل م�رص من الكماليات فهو ال ي�أكله �إال يف‬
‫كان يباع بقر�شني والع�رشين بي�ضة �أو �أكرث بقر�ش �أو نحو ذلك‪،‬‬ ‫ال عن‬‫النادر وال يح�سبه بني املواد التي عليها قوام معي�شته‪ .‬ف�ض ً‬
‫�صحيحا منذ ‪� 40‬سنة‪ ،‬ولكن اختبارنا واختبار‬‫ً‬ ‫فرمبا كان ذلك‬ ‫�أن �أكله ال يالئم ال�صحة يف هواء م�رص املعروف‪ ،‬وعليه فكلما زاد‬
‫دل على �أن حاجات املعي�شة �أو‬ ‫غرينا منذ ‪� 25‬سنة �إىل الآن اَّ‬ ‫املرء ت�أنفًا يف �أكله و�رشبه ولب�سه زاد متو�سط نفقته‪ .‬وهذه الزيادة‬
‫�رضوراتها لي�ست �أغلى الآن بكثري مما كانت عليه قبل هذا العام‬ ‫ال تهم الغني ذا املوارد الوا�سعة ع�رش مع�شار ما تهم متو�سط احلال؛‬
‫�إال �أ�شياء قليلة منها‪.‬‬ ‫لأنه م�ضطر �إىل االقت�صاد ما �أمكنه ليطابق بني دخله وخرجه‪.‬‬

‫وقد و�ضعنا اجلدول الآتي ب�أ�شهر حاجات الرجل املتو�سط‬ ‫أي�ضا ثالثة �أق�سام �أدنى‬
‫و�أهل الطبقة املتو�سطة ميكن ق�سمتهم � ً‬
‫يف الطبقة الو�سطى‪ .‬وملا كان كل ما يهمنا يف هذا التقدير �ضبط‬ ‫ومتو�سط و�أعلى‪ ،‬كما ميكن ق�سمة الأغنياء والفقراء كذلك وقد‬
‫الأ�سعار مل َ‬
‫نعن بكتابة مقادير الأ�صناف يف اخلانة الأوىل‪ .‬فقد‬ ‫يكون بني طريف كل طبقة بون �شا�سع حتى ك�أنهم ال ينتمون �إىل‬
‫قدرنا اخلبز مث ً‬
‫ال بالأقة واللحم وال�سمن بالرطل والغاز بال�صفيحة‬ ‫ال ميكن و�ضعه‬ ‫طبقة واحدة فالذي راتبه ‪ 20‬جني ًها يف ال�شهر مث ً‬
‫والبي�ض بالد�ستة واملالب�س بالقطعة‪ ،‬كما تباع كلها وهذا ال يقدم‬ ‫يف �أدنى الطبقة الو�سطى‪ ،‬والذي راتبه ‪ 40‬جني ًها �أو ‪ 50‬جني ًها يف‬
‫يف احل�ساب وال ي�ؤخر كما ال يخفى‪.‬‬ ‫متو�سطها‪ ،‬والذي راتبه ‪� 50‬إىل ‪ 100‬يف �أعالها‪ .‬فهم داخلون‬

‫متوسط األسعار من‬ ‫متوسط األسعار من‬


‫األسعار اآلن‬
‫‪1915‬م إىل ‪1923‬م‬ ‫‪1906‬م إىل ‪1914‬م‬ ‫األصناف‬
‫(باملليم)‬
‫(باملليم)‬ ‫(باملليم)‬
‫‪18‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪18‬‬ ‫اخلزب‬
‫‪85‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪50‬‬ ‫السمن‬
‫‪65‬‬ ‫‪90‬‬ ‫‪35‬‬ ‫اللحم‬
‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪20‬‬ ‫ابليض‬
‫‪30‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪22‬‬ ‫األرز‬
‫‪20‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪15‬‬ ‫القطاين ‪ -‬العدس‬
‫‪140‬‬ ‫‪200‬‬ ‫‪100‬‬ ‫الزبيب‬
‫‪80‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪30‬‬ ‫السريج‬
‫‪125‬‬ ‫‪250‬‬ ‫‪110‬‬ ‫ابلرتول (الغاز)‬
‫‪15‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪10‬‬ ‫اللنب‬
‫‪35‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪15‬‬ ‫اجلنب‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪10‬‬ ‫ابلقول – ابلطاطس‬


‫‪48‬‬ ‫‪65‬‬ ‫‪25‬‬ ‫السكر‬
‫‪70‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪40‬‬ ‫الفاكهة – العنب‬
‫‪6000‬‬ ‫‪6000‬‬ ‫‪4000‬‬ ‫ابلدلة‬
‫‪2500‬‬ ‫‪3500‬‬ ‫‪1500‬‬ ‫ابلفتة‬
‫‪1200‬‬ ‫‪1700‬‬ ‫‪800‬‬ ‫احلذاء‬
‫‪3500‬‬ ‫‪4500‬‬ ‫‪260‬‬ ‫الطربوش‬
‫‪8000‬‬ ‫‪8000‬‬ ‫‪6000‬‬ ‫أجرة ابليت‬
‫‪ 21946‬مليماً‬ ‫‪ 24672‬مليماً‬ ‫‪ 13060‬مليماً‬ ‫املجموع‬
‫‪47‬‬
‫على التقريب‪ .‬فتقدير احلكومة لأ�سعار احلاجات قريب من‬ ‫مليما يف متو�سط املدة من‬‫�أي ما كان ي�شرتى مببلغ ‪ً 13.60‬‬
‫ال�صواب‪ ،‬ولكنه لي�س دقيقًا‪.‬‬ ‫مليما‬
‫عام ‪1906‬م �إىل ‪1914‬م كان ي�شرتى مببلغ ‪ً 24.672‬‬
‫أي�ضا �أننا �أهملنا فيه بع�ض‬
‫عزيزي القارئ من اجلدول املتقدم � ً‬ ‫يف متو�سط املدة من عام ‪1915‬م �إىل ‪1922‬م وي�شرتى مببلغ‬
‫احلاجات؛ �إما ل�ضيق املقام‪ ،‬و�إما لأن الفرق بني �أ�سعارها احلالية‬ ‫مليما هذه ال�سنة‪ .‬وباحل�ساب التقريبي �أن ما كان‬ ‫‪ً 21.946‬‬
‫تغيريا يذكر يف الن�سبة املئوية‪ .‬فرتكنا ذكر النور‬
‫واملا�ضية مل يتغري ً‬ ‫ي�شرتى مببلغ ‪ 13‬جني ًها يف متو�سط املدة الأوىل كان ي�شرتى مببلغ‬
‫ال والقهوة وال�شاي و�أجرة الرتام وغريها مما تزيد‬ ‫الكهربائي مث ً‬ ‫‪ 24‬جني ًها يف متو�سط املدة الثانية وي�شرتى مببلغ ‪ 21‬جني ًها هذه‬
‫�أ�سعاره احلالية نحو الربع على ما كانت عليه قبل احلرب‪ .‬وقد‬ ‫ال�سنة‪ .‬ولكن ملا كنا نرمي �إىل �ضبط احل�ساب على قدر الإمكان‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫منوذجا للفاكهة والعد�س‬


‫ً‬ ‫منوذجا للبقول والعنب‬
‫ً‬ ‫�أخذنا البطاط�س‬ ‫فقد حولنا هذه الأرقام �إىل ن�سبة مئوية فظهر لنا باحل�ساب الدقيق‬
‫منوذجا للقطاين‪ ،‬واكتفينا بها لأن �أ�سعار �سائر البقول والأثمار‬
‫ً‬ ‫�أن ما كان يت�رشى يف املدة الأوىل مبائة بات ي�شرتى يف املدة الثانية‬
‫والقطاين تغريت على ن�سبة تغري هذه من �صعود �أو هبوط‪.‬‬ ‫مببلغ ‪ 188‬ويف ال�سنة اجلارية مببلغ ‪ .168‬وبعبارة �أخرى ف�إن‬
‫والذي نح�سبه �أن الق�سم الأكرب من موظفي احلكومة من‬ ‫�أ�سعار احلاجات ارتفعت يف املدة الثانية ‪ 88‬يف املائة عما كانت‬
‫متو�سطي الطبقة الو�سطى �أي الذين رواتبهم بني ‪ 20‬و‪ 50‬جني ًها؛‬ ‫يف املدة الأوىل وهبطت الآن �إىل ‪ 68‬يف املائة‪� .‬أي �أن ما كان‬
‫ف�إذا كان ذلك ف�إن قطع العالوات عنهم جاء قبل �أوانه قلي ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫مليما‬
‫ُي�شرتى قبل احلرب بقر�ش �صاغ ي�شرتى الآن ب�سبعة ع�رش ً‬

‫‪48‬‬
‫‪49‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫م�صطفى حممود علي جمعة‬

‫الدكتورة نعمات �أحمد ف�ؤاد*‪ ،‬ونقابة املحامني‪ .‬وقد �أثنت‬ ‫مرت م�رص عرب تاريخها الربملاين الذي بد�أ يف عام ‪1866‬م‪،‬‬
‫اليوني�سكو يف خطابها على الأ�ستاذ ن�صار؛ لأنه �أنقذ �آثار م�رص‬ ‫وهو العام الذي �أن�شئ فيه جمل�س �شورى القوانني؛ بالعديد من‬
‫من ال�ضياع‪ ،‬التي تعد مبثابة ثروة قومية وعاملية يتمتع بها العامل‬ ‫كبريا على ال�ساحة‬
‫أثرا ً‬ ‫ال�شخ�صيات الربملانية الفذة‪ ،‬التي تركت � ً‬
‫�أجمع‪.‬‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬وكان لها دور ُمهم يف البحث عن َمواطن اخللل‬
‫والف�ساد وحماولة عالجه‪ ،‬بيد �أنَّ هذه ال�شخ�صيات الربملانية‬
‫هذه �صورة م�صغرة ودقيقة من �سل�سلة ق�ضايا وطنية قومية‬
‫ظهرت بقوة خالل احلقبة الليربالية يف الفرتة من ‪1923‬م �إىل‬
‫دافع عنها ن�صار حتت قبة الربملان‪ ،‬ب�صوته املميز الذي كان‬
‫‪1952‬م؛ حيث �شهدت هذه الفرتة برملانًا قو ًّيا ب�أع�ضائه و�أحزابه‬
‫يجلجل يف القاعة‪ْ ،‬‬
‫بل �إنَّ نوبات الت�صفيق احلاد ال تكاد تهد�أ‬
‫من �أمثال �سعد زغلول‪ ،‬و�أحمد قر�شي با�شا وغريهما‪ .‬وبعد قيام‬
‫عقب كل ا�ستجواب يقدمه �سواء لرئي�س احلكومة‪� ،‬أو لأي‬
‫ت�شكل برملان يختلف عن �سابقه من عدة‬ ‫ثورة يوليو ‪1952‬م‪َّ ،‬‬
‫وزير مهما كانت الوزارة التي ير�أ�سها‪ ،‬وهذا يعك�س لنا بطبيعة‬
‫وجوه‪ ،‬غري �أنَّ �شخ�صيات هذا الربملان وفئاتها االجتماعية كانت‬
‫احلال مدى ثقل الرجل وخربته القانونية‪ ،‬وحر�صه ال�شديد على‬
‫مغايرة عن الربملانات ال�سابقة؛ ففي جمل�س ‪1976-1971‬م‪،‬‬
‫م�صالح املواطن‪ ،‬وهو الأمر الذي دفع �أهل دائرته (البدراوية) �إىل‬
‫�أن يجربوه على �أن يظل باملجل�س‪ْ ،‬‬ ‫بزغت عدة �شخ�صيات برملانية لفتت الأنظار �إليها‪ ،‬كان �أهمها‬
‫بل كانوا يحر�سون �صناديق‬
‫على الإطالق ممتاز ن�صار‪.‬‬
‫االنتخابات ب�أنف�سهم؛ خ�شية �أن يتم التالعب بها‪ ،‬وك�أنهم‬
‫وطنيا ي�ؤدونه‬
‫ًّ‬ ‫واجبا‬
‫ً‬ ‫�شعروا ب�أهمية الرجل ومكانته‪ ،‬و�أن عليهم‬ ‫�إنه الرجل الربملاين الأول‪ ،‬وزعيم املعار�ضني‪ ،‬الذي ارتبط‬
‫من خالل تر�شيحهم له‪.‬‬ ‫ا�سمه بالعديد من الق�ضايا الوطنية ال�شائكة‪ ،‬ومنها ق�ضية «ه�ضبة‬
‫عا�ش ممتاز ن�صار حياة �صاخبة مليئة بالأحداث‪ ،‬وقف فيها‬ ‫الأهرام»‪ ،‬التي �أقامت الدنيا و ْمل تقعدها � اَّإل بعد جناحه يف انتزاع‬
‫�شا ًخما غري مط�أطئ الر�أ�س �أو منك�رس لقرار رئي�س �أو وزير‪َّ ،‬‬
‫ولعل‬ ‫حكم تاريخي‪ ،‬يق�ضي مبنع بيع �أر�ض م�رص يف ه�ضبة الأهرام‪،‬‬
‫�شجاعته تعود لقوة �شخ�صيته و�أ�صوله االجتماعية؛ فهو �سليل‬ ‫الن�صابون والل�صو�ص من اخلارج واملرت�شون يف‬ ‫بعد �أنْ كاد ّ‬
‫عائلة النوا�رص؛ �إحدى العائالت الكبرية التابعة ملركز البداري‬ ‫الداخل �أن يبيعوها ‪� -‬أثناء فرتة االنفتاح االقت�صادي ‪ -‬مما دفع‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫ب�أ�سيوط‪ُ .‬ولد عام ‪1912‬م‪ ،‬ومل يلبث والده �أن دفعه لتلقي‬ ‫هيئة اليوني�سكو لتقدمي خطاب �شكر وثناء وتقدير ملمتاز ن�صار؛‬
‫تعليمه االبتدائي يف هذا املركز‪ ،‬الذي ح�صل منه على �شهادتي‬ ‫ع�ضو جمل�س ال�شعب‪ ،‬الذي كان وراء �إلغاء امل�رشوع‪ ،‬ومن خلفه‬

‫‪50‬‬
‫للق�ضاة‪ ،‬على �أنه معا�ش لرئي�س حمكمة النق�ض‪ ،‬وهو املن�صب‬ ‫(الكفاءة والبكالوريا) بني عامي ‪1923‬م و‪1927‬م‪ ،‬وكانت‬
‫الذي كان �سي�شغله لوال �أحداث مذبحة الق�ضاة‪ ،‬و�سجل كل ما‬ ‫برملانيا �ساط ًعا‪ ،‬ي�سرت�شد بنوره‬
‫ًّ‬ ‫املرحلة التالية هي التي �أفرزت لنا‬
‫دار من معارك ق�ضائية يف كتابه «معركة العدالة يف م�رص»‪‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬ ‫كل من يفكر يف الدخول يف معرتك احلياة الربملانية كنموذج‬
‫ُيحتذى به‪ .‬وقد انتقل ممتاز ن�صار للقاهرة بغر�ض درا�سة القانون‬
‫ممتاز ن�صار برملانيًّا‬ ‫حاليا)‪ .‬وبعد �أن‬
‫يف كلية احلقوق‪ ،‬جامعة ف�ؤاد الأول (القاهرة ًّ‬
‫بد�أت جتربته الربملانية عام ‪1976‬م عندما تر�شح و�سط �أهله‬ ‫ح�صل على لي�سان�س احلقوق‪ ،‬ا�شتغل باملحاماة يف مكتب مكرم‬
‫(البدراوية) الذين يفتخرون به‪ ،‬فقد كان لدعمهم �أكرب الأثر يف‬ ‫عبيد �سكرتري الوفد �آنذاك‪‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ .‬وقد �آثر اال�شتغال باملحاماة رغم‬
‫فوزه يف �أول معركة انتخابية برملانية‪ ،‬ثم �أعاد تر�شيح نف�سه يف‬ ‫�أنَّ ترتيبه عند التخرج كان ي�سمح له بالعمل يف النيابة العامة‪،‬‬
‫ظل طوال جمل�س ‪1979‬م‬ ‫املعركة الثانية عام ‪1979‬م‪ .‬وقد َّ‬ ‫ف�ضل‬
‫وبالرغم من �أن �أ�سباب ذلك غري وا�ضحة ف�إننا نعتقد ب�أنه َّ‬
‫واحدا من جمموعة امل�ستقلني الذين �أَ ْث َر ُوا احلياة‬
‫ً‬ ‫م�ستق ًّ‬
‫ال‪ ،‬وكان‬ ‫بعيدا عن العمل الروتيني‪ ،‬وهو ما يتفق و�شخ�صيته‪.‬‬ ‫بحرية ً‬‫العمل ِّ‬
‫الربملانية يف م�رص‪ ،‬وجعلوا من جمل�س ‪1976 – 1971‬م الع�رص‬ ‫لكننا جنده بعد �ست �سنوات من العمل يف املحاماة يتدرج من‬
‫الذهبي للمعار�ضة‪.‬‬ ‫النيابة �إىل الق�ضاء‪ ،‬ثم �إىل التفتي�ش الق�ضائي‪ ،‬حتى �شغل وظيفة‬
‫هذا‪ ،‬وت�شري م�ضابط جمل�س ‪1976‬م‪ ،‬وكذلك ‪1979‬م‬ ‫م�ست�شارا مبحكمة النق�ض‪.‬‬
‫ً‬ ‫م�ست�شار مبحكمة اال�ستئناف‪ ،‬ثم‬
‫�إىل عدد من احلقائق‪ ،‬ن�ستخل�ص منها �أنه كان زعيم املعار�ضة‬ ‫وخالل تلك الفرتة كان قد تقدم للرت�شح لع�ضوية جمل�س �إدارة‬
‫بالربملان‪ ،‬و�أنه �صاحب �أكرب عدد من اال�ستجوابات القوية التي‬ ‫ع�ضوا مبجل�س �إدارة النادي‬‫ً‬ ‫نادي الق�ضاة‪ ،‬وقد ان ُتخب بالفعل‬
‫�أثارت الر�أي العام‪ ،‬ليتابع با�ستمرار جل�سات الربملان لريى‬ ‫�سكرتريا للنادي يف ذات العام‪ ،‬وا�ستمر حتى‬ ‫ً‬ ‫عام ‪1947‬م‪ ،‬ثم‬
‫موقف احلكومة من هذه اال�ستجوابات‪ ،‬كما كان �أبرز نوابه يف‬ ‫رئي�سا لنادي الق�ضاء‪ .‬ممتاز ن�صار‬
‫عام ‪1962‬م وفيه مت انتخابه ً‬
‫جمل�س ‪1976‬م‪ .‬ومن ناحية �أخرى‪ ،‬ت�شري هذه امل�ضابط �إىل �أنه‬ ‫ومذبحة الق�ضاة‬
‫نائب خم�رضم يتمتع بحنكة القا�ضي والقانوين وال�سيا�سي‪ ،‬وقد‬
‫ممتاز ن�صار ومذبحة الق�ضاء‬
‫�أورد كتاب «الع�رص الذهبي للمعار�ضة» بالوثائق وال�شهود‪،‬‬
‫تعر�ض ن�صار قبل دخوله احلياة الربملانية لعدد من املواقف‪،‬‬
‫�أبرز النواب الذين تركوا ب�صمات وا�ضحة على هذا املجل�س‪،‬‬
‫وكان من بينهم ممتاز ن�صار‪� ،‬إىل جانب ٍّ‬ ‫�أثبت فيها وقوفه �إىل جانب العدالة‪ ،‬كان �أ�شهرها ما ُعرف بــ‬
‫كل من‪ :‬الدكتور حممود‬
‫«مذبحة الق�ضاء» عام ‪1969‬م يف عهد الرئي�س الراحل جمال‬
‫القا�ضي‪ ،‬والأ�ستاذ الدكتور حلمي مراد‪ ،‬والأ�ستاذ كمال الدين‬
‫عبد النا�رص‪ ،‬الذي �أراد توجيه الق�ضاء والق�ضاة يف نف�س اجتاه‬
‫ح�سني‪ ،‬وغريهم‪� ،‬إىل �أن �صدر قانون االنتخاب اجلديد‪ ،‬الذي‬
‫الدولة؛ حيث قام علي �صربي؛ نائب رئي�س اجلمهورية‪ ،‬بكتابة‬
‫جعل االنتخابات طبقًا لنظام القوائم احلزبية‪.‬‬
‫عدة مقاالت بجريدة اجلمهورية‪ ،‬تدعو �إىل �إدخال الق�ضاة‬
‫نوعيا يف م�سرية ن�صار الربملانية؛‬
‫تغيريا ًّ‬
‫�أحدث القانون اجلديد ً‬ ‫لالحتاد اال�شرتاكي‪ ،‬ليكونوا بجوار قوى ال�شعب العاملة‮‪،‬‬
‫ال‪ ،‬ومع هذا القانون مل يكن �أمامه بد‬ ‫�إذ كان ير�شح نف�سه م�ستق ًّ‬ ‫‬وو�صف‮‬الق�ضاة ب�أنهم يعي�شون يف �أبراج عاجية‪ ،‬و�أن فيهم بقايا‬
‫من دخول �أحد الأحزاب القائمة‪ ،‬لكي يكمل م�سريته الربملانية‪،‬‬ ‫الإقطاع والر�أ�سمالية البغي�ضة‪‬،‬ويجب ا�ستئ�صالهم من جذورهم‪،‬‬
‫فدخل حزب الوفد اجلديد يف �أواخر يناير عام ‪1984‬م‪ .‬وقد‬ ‫‬ثم قام علي �صربي با�ستدعاء ممتاز ن�صار‪‬،‬الذي كان ي�شغل وقتها‬
‫�أرجع �سبب ان�ضمامه لهذا احلزب‪� ،‬إىل �أنه‪� ‬أقرب الأحزاب‬ ‫رئي�س نادي الق�ضاة منذ عام ‪1967‬‮‬م‪‭ ‬،‬وكان وزير العدل �آنئذ‬
‫يعد امتدا ًدا حلزب الوفد‬ ‫القائمة �إىل فكره الليربايل‪ ،‬كما �أنه ّ‬ ‫ر�سميا‬
‫ًّ‬ ‫امل�ست�شار ع�صام ح�سونة‪ ،‬وطلب من ممتاز ن�صار االن�ضمام‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫القدمي‪ .‬وقد �شغل ن�صار من�صب رئي�س الهيئة الربملانية الوفدية‬ ‫مهما متثل يف �أمانة‬ ‫من�صبا ًّ‬
‫ً‬ ‫�إىل االحتاد اال�شرتاكي‪ ،‬وعر�ض عليه‬
‫مبجل�س ال�شعب‪.‬‬ ‫م�ستندا �إىل �أن الق�ضاء‬
‫ً‬ ‫الق�ضاء باحلزب‮‪� ،‬إال �أن ن�صار رف�ض ب�شدة‪،‬‬
‫ملكا حلزب‪ ،‬فرفع ع�صام‬ ‫ملك لل�شعب كله‮‪‬،‬وال ميكن �أن يكون ً‬
‫مواقف من حياة الربملاين‬ ‫ح�سونة الواقعة للرئي�س عبد النا�رص‪ ،‬وا�ستطاع �أن يح�صل من‬
‫ْمل يدع ذلك النائب ق�ضية كبرية كانت �أم �صغرية � اَّإل و�أدىل‬ ‫الرئي�س على موافقة ب�إبعاد الق�ضاة عن التنظيم الطليعي واالحتاد‬
‫بدلوه فيها‪ ،‬مادامت تقع �ضمن م�سئولية النائب وواجباته‪ .‬وقد‬ ‫اال�شرتاكي‪ .‬وظل ممتاز ن�صار خالل هذه الفرتة خري مدافع عن‬
‫وا�صل بجديته وحيويته رغم تقدم �سنه �أداء واجباته النيابية‪� ،‬إىل‬ ‫مر�شحا لرئا�سة حمكمة النق�ض‬ ‫ً‬ ‫العدالة وا�ستقالل الق�ضاء‪ ،‬وكان‬
‫حد م�ساءلته للوزراء عن ت�رصفاتهم‪ ،‬ا�ستنا ًدا �إىل حقه الد�ستوري‬ ‫طبقًا لرتتيب دوره‪ ،‬وقد ُ�س ِّوي له معا�شه بعد �إ�صالح ما حدث‬

‫‪51‬‬
‫ال�شاغل احل�صول على ت�أ�شرية وزير‪� ،‬أو قب�ض مكاف�أة جل�سات‬ ‫يف ذلك‪ ،‬وهو احلق الذي ال يقف عند م�ساءلة الوزير عن قراراته‬
‫بل َ�س َمت اهتماماته وارتفعت �إىل حد البحث وراء ما‬‫برملانية؛ ْ‬ ‫فقط‪ .‬ومل يفكر حلظة يف ا�سم �أو موقع الوزير �أو ثقله؛ يف ظل‬
‫ين�رش يف الداخل واخلارج‪ ،‬ويقع حتت م�سئولية وواجبات النائب‬ ‫مناخ �سيا�سي معني‪.‬‬
‫املخل�ص‪ ،‬الذي يعمل من �أجل م�رص‪ ،‬وهذا ما ينبغي �أن يتوافر يف‬
‫ونتناول فيما يلي بع�ض هذه اال�ستجوابات لنقف على عظمة‬
‫جميع النواب‪.‬‬
‫وقوة هذا الربملاين القدير‪ :‬فقد قدم ا�ستجوا ًبا للمهند�س عثمان‬
‫َّ‬
‫ولعل النموذج الذي بني �أيدينا ملمتاز ن�صار عن اهتمامه مبا‬ ‫�أحمد عثمان* الذي كان ي�شغل من�صب نائب رئي�س جمل�س‬
‫يدور خارج م�رص‪ ،‬هو طلب �إحاطة قدمه �إىل ال�سيد رئي�س جمل�س‬ ‫الوزراء‪ ،‬وذلك ب�ش�أن كتابه ال�شهري «�صفحات من جتربتي»‪،‬‬
‫الوزراء‪ ،‬ونوق�ش يف �شهر يوليو عام ‪1978‬م‪ ،‬وكان عبارة عن‬ ‫أحدا مل ي�ستطع‬‫ورغم �أن هذا الكتاب به العديد من الأخطاء ف�إن � ً‬
‫تقرير مرفوع من �رشكة «البوينج» الأمريكية‪ ،‬ت�ضمن يف ن�صو�صه‬ ‫�أن ي�ستجوب �صاحبه با�ستثناء ممتاز ن�صار و�أحمد فرغلي؛ نائبي‬
‫�أنَّ ال�رشكة املذكورة قدمت جلهتني يف م�رص مبلغ ‪ 8.7‬ماليني‬ ‫ونظرا‬
‫ً‬ ‫حزب العمل اللذين �أو�ضحا بالأدلة خمالفات الكاتب‪.‬‬
‫دوالر؛ لت�سهيل توزيع �إنتاجها يف م�رص‪ ،‬وكان ممتاز قد �أحاط‬ ‫ملكانة املهند�س عثمان ومتتعه مبركز �سيا�سي مرموق بحكم عالقة‬
‫ال�سيد وزير ال�سياحة والطريان املدين بهذا اخلرب‪ ،‬وطلب منه‬ ‫امل�صاهرة مع الرئي�س الراحل ال�سادات‪ ،‬ومدى انعكا�س ذلك على‬
‫الوقوف على مدى �صحة هذا البيان‪ ،‬وقد تقدم بال�شكر �إىل‬ ‫ت�سابق كافة الأجهزة وكبار ال�شخ�صيات على جماملة الرئي�س؛ فقد‬
‫ال�سيد وزير ال�سياحة الذي ا�ستعد للإجابة على طلب الإحاطة‪،‬‬ ‫وقفوا �إىل جانب املهند�س عثمان يف كل ما ي�صدر عنه‪ ،‬حتى ولو‬
‫كما �أو�ضح �أنَّ الذي دفعه للتقدم بهذا الطلب‪ ،‬هو حر�صه على‬ ‫كانت املعلومات التي �أوردها غري دقيقة‪ ،‬وراح �ضحية الت�صدي‬
‫�أنْ يكون كل ما ُين�رش عنا يف اخلارج‪ ،‬حمل حتقيق ومتحي�ص منا‪،‬‬ ‫لهذه الأكاذيب النائب �أحمد فرغلي‪ ،‬ف�أ�سقطوا عنه الع�ضوية بعد‬
‫وال نكون كالنعام فندفن رءو�سنا يف الرمال‪.‬‬ ‫اقتنا�ص �أول فر�صة لإيقاعه يف م�صيدتهم‪ ،‬ورغم هذه الإ�شارات‬
‫ناهيك عن العديد من الق�ضايا واالقرتاحات التي تخدم الوطن‬ ‫التي توحي �إىل ممتاز ن�صار بعدم تخطيه اخلطوط احلمراء‪ ،‬ف�إنها مل‬
‫يف �شتى فروعه ونواحيه‪ ،‬مثل اقرتاح م�رشوع قدمه مع بع�ض‬ ‫جتعله يفكر حلظة يف �أن يرتاجع عن ا�ستجواب �أية �شخ�صية‪ ،‬حتى‬
‫زمالئه‪ ،‬يق�ضي ب�إلغاء خم�ص�صات �أ�رستي الرئي�سني ال�سابقني جمال‬ ‫لو كان عثمان �أحمد عثمان نف�سه‪ ،‬وهو الذي �سيت�ضح الحقًا‬
‫كل من القاهرة والإ�سكندرية؛‬ ‫عبد النا�رص و�أنور ال�سادات يف ٍّ‬ ‫عندما يت�صدى التفاقية «كامب ديفيد» التى عقدها ال�سادات مع‬
‫حيث �إن كلتا الأ�رستني �أ�صبحتا يف حالة اقت�صادية طيبة مبا تزول‬ ‫�إ�رسائيل‪.‬‬
‫معه �أ�سباب ومربرات هذه املخ�ص�صات‪.‬‬ ‫فارق كبري بني نائب كممتاز ن�صار يختاره النا�س ليمثلهم‬
‫جانبا من جوانبه‬
‫ً‬ ‫وال يفوتنا يف هذا املجال �أن نذكر‬ ‫يف جمل�س ال�شعب‪ ،‬وكثري من �أع�ضاء هذا املجل�س الذين يجيئون‬
‫حمبا للحياة‪ ،‬يقدم خدماته للجميع‪،‬‬ ‫االجتماعية؛ فقد كان ًّ‬ ‫بالطرق امللتوية التي ال تخفى على �أحد‪ ،‬ومتثل مقومات ه�ؤالء‬
‫وخا�صة �أهل دائرته وكل من يعرفه‪ ،‬ومل تتمكن منه املنا�صب‪،‬‬ ‫الأ�شخا�ص لدخول الربملان؛ مثل املقدرة املالية‪ ،‬والقدرة على‬
‫فبقي على �سجيته متوا�ض ًعا غري متكرب‪ ،‬وغريها من ال�صفات‬ ‫التملق‪ ،‬والر�شوة‪� ..‬إلخ‪ .‬وهو الأمر الذي يخلق برملانًا �ضعيفًا ال‬
‫احلميدة التي من بينها �شهامة ال�صعايدة‪.‬‬ ‫يعرب عن جموع ال�شعب‪.‬‬
‫لقد كان الرجل �صورة رائعة ونادرة من تاريخ م�رص‪،‬‮ ‬�سواء‬ ‫�إنَّ ال�سبب الذي جعلنا نتحدث عن ممتاز ن�صار هو خروجه‬
‫عندما كان يف الق�ضاء‪،‬‮ ‬�أو عندما انتقل للربملان‪.‬‮ ‬�إنه امل�ست�شار‬ ‫عن امل�ألوف‪ ،‬فقد �شغلته كافة الق�ضايا التي مت�س الوطن واملواطن‪،‬‬
‫اجلليل والنائب املخ�رضم‮‪ ،‬والقا�ضي النبيل‪ ،‬ابن �أ�سيوط البار‪،‬‬ ‫جيدا ملا يدور‬
‫ً‬ ‫�سواء داخل م�رص �أو خارجها‪ ،‬وكان متاب ًعا‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫الغائب احلا�رض الذي مات ج�سده لكن ما زالت مواقفه حية‬ ‫خارج البالد‪ ،‬عرب مطالعة ال�صحف الكبرية مثل النيويورك تاميز‬
‫ت�شهد على عظمته‪ ،‬لقد رحل عن عاملنا عام ‪1987‬م‪ً ،‬‬
‫تاركا‬ ‫‪ ،New York Times‬وهذا يو�ضح لنا �أن اهتمامات ممتاز ن�صار مل‬
‫منوذجا م�رشفًا ملن �أراد �أن ي�سري على نهجه‪‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬
‫ً‬ ‫تنح�رص يف م�شكالت دائرته االنتخابية‪ ،‬ومل يجعل همه و�شغله‬

‫‪52‬‬
‫‪53‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫مصـر و سياسة احليـاد اإليـجابي بعيدً ا عن دائـرة الصـر اع العالـمي‬
‫الدكتورة �صفاء خليفة‬

‫‪�«- -‬إن مفهوم عدم االنحياز �صيغة جديدة يف‬


‫العالقات الدولية متثل قوة ال�ضمري يف عاملنا الذي‬
‫نعي�ش فيه»‪.‬‬

‫‪«- -‬هو حركة وا�سعة نحو اال�ستقالل وال�سالم والتنمية‬


‫وم�شاركة جميع الدول يف م�صري الإن�سانية‪.‬‬
‫وهي ال تعني الوقوف على احلياد بني الكتلتني‬
‫أ�سا�سا رف�ض �أي موقف‬‫العظميني‪ ،‬ولكنها تعني � ً‬
‫يتخذ �سلفًا‪ ،‬و�أن يكون للدول غري املنحازة حرية‬
‫احلركة والت�رصف وفق م�صاحلها‪ .‬ومن هنا ف�إن‬
‫دول عدم االنحياز قد تلتقي مع دول منحازة يف‬
‫املع�سكر اال�شرتاكي �إذا اتفقت م�صاحلها ومباد�ؤها‪.‬‬
‫تناق�ضا بينها وبني الدول‬
‫ً‬ ‫فدول عدم االنحياز ال جتد‬
‫اال�شرتاكية يف معاداة اال�ستعمار‪ .‬بل �إنه يف بع�ض‬
‫الظروف قد تتوحد الأهداف بني دول تنتمي �إىل‬
‫مع�سكري القوتني العظميني ودول غري منحازة‪،‬‬
‫مثلما توحدت الأهداف � ً‬
‫أخريا بني اجلمهورية‬
‫العربية املتحدة و�سيا�سة فرن�سا و�سيا�سة االحتاد‬
‫ال�سوفيتي وباقي مع�سكر الدول اال�شرتاكية جتاه‬
‫�إ�رسائيل»‪.‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫‪�«- -‬إن �سيا�سة عدم االنحياز هي يف حقيقتها انحياز‬


‫ملبادئ احلرية‪ ،‬وانحياز لآمال ال�سالم‪ ،‬وانحياز‬
‫الحتماالت التقدم الباهرة‪ ،‬وانحياز لقدرة الفكر‬
‫الإن�ساين على االنطالق»‪.‬‬
‫جمال عبد النا�رص‬

‫‪54‬‬
‫وقد برزت يف هذا امل�ؤمتر اجلهود التي بذلها �شواين الي؛‬ ‫م�ؤتـمـر باندونـج (‪�24-18‬إبريل ‪1955‬م)‬
‫رئي�س وفد ال�صني‪ ،‬ونهرو؛ رئي�س وفد الهند‪ ،‬والرئي�س جمال‬ ‫وو�ضع �أ�س�س احلياد الإيجابي وعدم االنحياز‬
‫عبد النا�رص؛ رئي�س وفد م�رص‪ .‬ه�ؤالء الأقطاب الثالثة كانوا دعامة‬
‫انعقد م�ؤمتر باندوجن يف �إندوني�سيا يف الفرتة من ‪� 18‬إىل ‪24‬‬
‫امل�ؤمتر و�أهم �شخ�صياته‪.‬‬
‫�إبريل ‪1955‬م بح�ضور ر�ؤ�ساء ‪ 29‬دولة من �آ�سيا و�إفريقيا‪ .‬وقد‬
‫ولقد �ساعد م�ؤمتر باندوجن على تطوير توجهات ال�سيا�سة‬ ‫جمع هذه الدول هدف اخلال�ص من معاناة اال�ستعمار الغربي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫اخلارجية امل�رصية جتاه العامل العربي‪ ،‬بو�صفها �أحد الدول‬ ‫و�سعيها �إىل �أال يعود �إليها يف �شكل ا�ستعماري جديد‪ .‬كما تريد‬
‫القائدة حلركة احلياد الإيجابي وعدم االنحياز يف ال�رصاع‬ ‫�أن ت�ستكمل حترير البالد التي تخ�ضع لال�ستعمار يف �آ�سيا و�إفريقيا‪.‬‬
‫بني القوى العظمى‪ ،‬ودعم حركات التحرر الوطني داخل‬ ‫وكانت هذه الدول تريد �أن تبقى بعيدة عن دائرة ال�رصاع الذي‬
‫ؤ�رشا على‬
‫امل�ستعمرة‪ ،‬كما جاء هذا امل�ؤمتر ليكون م� ً‬
‫َ‬ ‫الدول‬ ‫كان يجري بني الكتلتني ال�رشقية والغربية‪ ،‬و�أن تعمل على تخفيف‬
‫بروز جمال عبد النا�رص كزعيم عربي‪ .‬حيث ارتفع �صوت‬ ‫حدة التوتر الدويل؛ حتى ال تبتلى ب�آثاره‪ ،‬داعية �إىل ال�سالم القائم‬
‫عبد النا�رص‪ ،‬ك�أول �صوت لزعيم عربي يف املجتمع الدويل‪ ،‬با�سم‬ ‫على العدل‪.‬‬
‫أي�ضا ندد عبد النا�رص ب�أ�ساليب‬
‫�شعب فل�سطني‪ .‬ويف هذا امل�ؤمتر � ً‬ ‫وقد لبت الدول املدعوة الدعوة �إىل امل�ؤمتر ومل تعتذر �أية واحدة‬
‫ال�ضغط ال�سيا�سي التي تلج�أ �إليها بع�ض الدول الكربى‪ ،‬م�ستخدمة‬ ‫منها؛ فا�شرتكت فيه ‪ 29‬دولة متثل �أكرث من ن�صف �سكان العامل‪،‬‬
‫فيها الدول ال�صغرية ك�أداة لتحقيق �أغرا�ضها‪ .‬كما طالب‬ ‫كانت جمي ًعا من الدول النامية التي تريد �أن تق�ضي على التخلف‬
‫بت�صفية اال�ستعمار‪.‬‬ ‫وتزيد من دخلها القومي‪ ،‬و�أن تتجنب يف الوقت نف�سه احل�صول‬
‫ويف ‪� 19‬إبريل ‪1954‬م‪� ،‬أعلن جمال عبد النا�رص �أهداف‬ ‫على معونات خارجية على ح�ساب ا�ستقاللها و�سيادتها‪.‬‬
‫الثورة على العامل‪ ،‬وحددها يف رفع م�ستوى معي�شة الفرد‪،‬‬ ‫وجاءت فكرة امل�ؤمتر من �إدراك الدول الآ�سيوية والإفريقية‬
‫و�إقامة حياة ديـمقراطيـة �سليمـة‪ ،‬والق�ضـاء على الإقطـاع‪،‬‬ ‫لأهمية توحيد جهودها ملواجهة امل�شكالت امل�شرتكة التي‬
‫وتقويـة اجليـ�ش‪ ،‬ون�شـر العـدالـة االجتماعيـة‪ .‬واتخذ امل�ؤتـمر‬ ‫تواجهها‪ ،‬خا�صة �أن هذه الدول كانت مطم ًعا للدول الأوروبية‬
‫القرارات التالية‪:‬‬ ‫اال�ستعمارية‪.‬‬
‫التعاون االقت�صادي والتجاري واالجتماعي بني بلدان‬
‫الكتلة الآ�سيوية الإفريقية؛ لتحقيق رفاهية ال�شعوب‪.‬‬

‫االعرتاف بحق تقرير امل�صري‪ ،‬وت�أييد ق�ضية احلرية‬


‫واال�ستقالل بالن�سبة لل�شعوب التابعة‪.‬‬

‫ا�ستنكار ا�ستعمار ال�شعوب‪ ،‬ونبذ �سيا�سة القوة كو�سيلة‬


‫حلل امل�شكالت الدولية‪.‬‬

‫املناداة بال�سالم والتعاون العاملي يف نطاق الأمم املتحدة‪.‬‬


‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫االعرتاف بحق الالجئني العرب يف العودة �إىل ديارهم‪.‬‬

‫وجوب نزع ال�سالح ك�رضورة حتمية ل�صيانة ال�سالم‪.‬‬

‫ويف امل�ؤمتر دعا الرئي�س جمال عبد النا�رص ل�سيا�سة احلياد‬


‫الإيجابي والتعاون ال�سلمي‪ ،‬و�أ�صبحت ال�سمة البارزة‬
‫لدول امل�ؤمتر هي �أنها «دول عدم االنحياز»‪.‬‬
‫جمال عبد النا�رص ي�رشح الأهداف التي قامت من �أجلها الثورة‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫جمـال عبد النا�صـر وم�ؤتـمـر بريـونـي‬
‫(‪ 19-18‬يوليو ‪1956‬م)‬
‫كان م�ؤمتر بريوين مبثابة دفع جديد ل�سيا�سة احلياد الإيجابي‬
‫مق�صورا على الدول الإفرو‪�-‬آ�سيوية‬
‫ً‬ ‫وعدم االنحياز‪ ،‬فلم يعد‬
‫التي تخل�صت من الت�سلط الغربي‪ ،‬ولكنه تالقى مع �سيا�سة دولة‬
‫�أوروبية تخل�صت هي الأخرى من الت�سلط ال�سوفيتي‪ .‬واجتمع‬
‫عبد النا�رص بالرئي�سني تيتو ونهرو يف بريوين يف يوليو ‪1956‬م‪،‬‬
‫حيث �أعادوا الت�أكيد على مبادئ باندوجن‪.‬‬
‫وجاء هذا امل�ؤمتر تثبي ًتا وت� ً‬
‫أكيدا ل�سيا�سة احلياد الإيجابي وعدم‬
‫االنحياز‪ ،‬اجتمع فيه ثالثة �أقطاب يدينون بهذه ال�سيا�سة‪ ،‬وهم‬
‫تيتو؛ رئي�س جمهورية يوغ�سالفيا‪ ،‬وجمال عبد النا�رص؛ رئي�س‬
‫جمهورية م�رص‪ ،‬وان�ضم �إليهما فيما بعد جواهر الل نهرو؛ رئي�س‬
‫وزراء الهند‪.‬‬
‫ر�سميا‬
‫ًّ‬ ‫وبعد انتهاء مباحثاتهم �أ�صدر الزعماء الثالثة بيانًا‬
‫ي�ؤكدون فيه على تبنيهم ملبد أ� «احلياد الإيجابي» يف ال�سيا�سات‬
‫اخلارجية‪ .‬و�ساعدت هذه الأيديولوجية التي انبثقت عن اجتماع‬
‫بريوين على حتديد ان�ضمام م�رص حلركة عدم االنحياز التي �أعقبت‬
‫م�ؤمتر باندوجن عام ‪1955‬م‪ ،‬والذي برز فيه الرئي�س تيتو وكذلك‬
‫رئي�س الوزراء نهرو‪ .‬وبالإ�ضافة لت�أكيد التزام املوقعني على‬
‫«�إعالن بريوين» على ال�سالم امل�شرتك‪ ،‬والأمن اجلماعي‪ ،‬ونزع‬
‫الأ�سلحة النووية‪ ،‬ف�إنهم تناولوا الق�ضايا النوعية لل�رشق الأو�سط‪،‬‬
‫ويف القلب منها الق�ضية الفل�سطينية و�سبل حلها‪.‬‬
‫وت�ستند �أهمية هذا امل�ؤمتر �إىل عدة عوامل متثلت يف الآتي‪:‬‬
‫عدم االنحياز مل يعد ي�شمل فقط املعيار اجلغرايف املقت�رص‬
‫على العامل الإفرو‪�-‬آ�سيوي‪ ،‬بل �أ�صبح ي�شمل دو ًال �أوروبية‬
‫مثل يوغ�سالفيا‪.‬‬
‫�أن �سيا�سة عدم االنحياز مل تعد ت�ضم الدول حديثة‬
‫اال�ستقالل عن اال�ستعمار الغربي‪ ،‬ولكن �أ�صبحت‬
‫ت�ضم الدول التي ا�ستطاعت االبتعاد عن دائرة ال�سيطرة‬
‫ال�سوفيتية‪.‬‬
‫أكيدا على �أن �سيا�سة‬
‫كان ا�شرتاك يوغ�سالفيا يف امل�ؤمتر ت� ً‬
‫عدم االنحياز‪ ،‬ميكن �أن ت�أخذ بها �أية دولة مهما كان‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫نظامها ال�سيا�سي واالقت�صادي والأيديولوجي‪.‬‬

‫وقد �أكدت قرارات بريوين على مبادئ م�ؤمتر باندوجن‪ ،‬كما‬


‫طالبت بحظر ال�سالح‪ ،‬وحظر التجارب النووية‪ ،‬ومنح املزيد‬ ‫ُ�صور جمال عبد النا�رص وبع�ض رجال الثـورة يف راجنون عا�صمة بورمـا‪ ،‬وهو يف‬
‫طريقه �إىل م�ؤمتر باندوجن‪ .‬وكانت بورما حتتفل ب�أحد �أعيادها القومية‪ ،‬وارتدى‬
‫من املعونات االقت�صادية للدول النامية‪ ،‬وقبول ال�صني يف الأمم‬ ‫عبد النا�رص مالب�س بورما الوطنية‪ ،‬وخرج ي�شارك ال�شعب عيده‪ ،‬مع نهرو و�أوفو‪،‬‬
‫املتحدة‪ ،‬وتوحيد �شطري �أملانيا‪ ،‬وتنفيذ قرارات الأمم املتحدة‬ ‫ثم عادوا ليتناولوا طعا ًما من طعام بورما ال�شعبي‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫م�ؤمتر الت�ضامن الآ�سيوي الإفريقي‬ ‫اخلا�صة بعودة ال�شعب الفل�سطيني‪ ،‬كما ا�ستنكرت قرارات امل�ؤمتر‬
‫(‪ 26‬دي�سمرب ‪1957‬م ‪ 1 -‬يناير ‪1958‬م)‬ ‫اال�ستعمار الفرن�سي يف اجلزائر‪ .‬وقد اتفق ممثلو الدول الثالث‬
‫امل�شرتكة فيه على قرارات ت�ؤيد حرية ال�شعوب‪ ،‬وتدعم �سيا�سة‬
‫عقد امل�ؤمتر الأول لت�ضامن ال�شعوب الإفرو‪�-‬آ�سيوية يف‬
‫احلياد وال�سالم وعدم االنحياز �إىل جانب � ٍّأي من املع�سكرين‪.‬‬
‫القاهرة للمرة الأوىل خالل الفرتة من ‪ 26‬دي�سمرب ‪1957‬م‬
‫�إىل �أول يناير ‪1958‬م‪ ،‬وح�رضه �أكرث من ‪ 150‬مندو ًبا ميثلون‬ ‫رئي�سا‬
‫ً‬ ‫وقد ح�ضـر جمال عبد النا�صـر هذا امل�ؤمتر بو�صفه‬
‫�شعبا من �شعوب القارتني‪ .‬وكان ثمرة مل�ؤمتر باندوجن‬ ‫‪ً 48‬‬ ‫جلمهورية م�رص‪ ،‬وكان ح�ضوره رف ًعا ل�ش�أن م�رص يف املحيط‬
‫ال�سابق عليه‪ ،‬وقد ت�شكل امل�ؤمتر حول معار�ضة النفوذ والهيمنة‬ ‫رئي�سا جلمهوريتها‪ .‬كما جاء هذا امل�ؤمتر عام ً‬
‫ال‬ ‫الدويل بعد انتخابه ً‬
‫اال�ستعمارية يف دول العامل الثالث‪ ،‬و�ساند امل�ؤمتر عد ًدا من‬ ‫من عوامل ال�سالم‪ ،‬ولذلك رحب به حمبو ال�سالم العاملي‪ .‬ويف‬
‫حركات التحرر الوطنية بها‪ ،‬كما ناق�ش امل�ؤمتر الق�ضايا التي‬ ‫ذلك يقول داج همر�شولد؛ ال�سكرتري العام للأمم املتحدة‪�« :‬إن‬
‫تهم القارتني الآ�سيوية والإفريقية يف تلك املرحلة‪ ،‬وكان من‬ ‫زيارة جمال عبد النا�رص ليوغ�سالفيا �ستعاون جهود الأمم املتحدة‬
‫يف �سبيل �إقرار ال�سالم الدويل»‪ .‬وعلق جمال عبد النا�رص على‬
‫خا�صا �أعلن فيه‪:‬‬
‫قرارا ًّ‬
‫بينها ق�ضية فل�سطني‪ ،‬وقد �أفرد لها امل�ؤمتر ً‬
‫هذا امل�ؤمتر بعد �أن �رشح ما دار فيه بقوله‪« :‬وانتهى امل�ؤمتر بانت�صار‬
‫«�أن �إ�رسائيل قاعدة ا�ستعمارية تهدد تقدم ال�رشق الأو�سط‬
‫كبري لل�سيا�سة التي تتبعها م�رص‪ ،‬وهي �سيا�سة عدم االنحياز»‪.‬‬
‫و�سالمته‪ ،‬وحـــق عرب فل�سطيـن يف عودتهم �إىل وطنـهم»‪.‬‬
‫وقد ذكر بع�ض الك َّتاب �أن هذا امل�ؤمتر كان ر ًّدا على العدوان‬
‫الثالثي على م�رص عام ‪1956‬م وت�ضام ًنا معها‪.‬‬

‫وجاءت م�شاركة م�رص كجـــزء من �إ�سرتاتيجية الزعيم جمال‬


‫عبد النا�رص بعد م�ؤمتر باندوجن ليكون لها �صوت �أ�سا�سي يف قيادة‬
‫العامل الثالـث‪ ،‬وبعد االجتماع الأول للم�ؤمتر ‪ -‬الذي �شاركت‬
‫فيه �ست و�أربعون دولة ‪ -‬ت�أ�س�ست �أمانة دائمة مقرها القاهرة‬
‫برئا�سة يو�سف ال�سباعي‪ ،‬وقامت الأمانة العامة بتن�سيق �أن�شطة‬
‫الأع�ضاء بامل�ؤمتر فيما يتعلق بالأن�شطة املناه�ضة لال�ستعمار‪.‬‬

‫جمال عبد النا�رص وقادة جمموعة عدم االنحياز ‪1956‬م والزعيم الهندي نهرو‪.‬‬

‫جمال عبد النا�رص مع وفد م�ؤمتر الت�ضامن الآ�سيوي الإفريقي‪.‬‬ ‫جمال عبد النا�رص والزعيم اليوغ�ساليف تيتو يف بريوين بيوغ�سالفيا‪.‬‬
‫جمـال عبد النا�صـر وم�ؤتـمـر بلجراد‬
‫(‪� 6–1‬سبتمرب ‪1961‬م)‬

‫ ُع ِقد م�ؤمتر حت�ضريي يف القاهرة خالل الفرتة من ‪� 5‬إىل‬


‫متهيدا مل�ؤمتر بلجراد‪ ،‬لتحديد مفهوم‬
‫ً‬ ‫‪ 13‬يونية ‪1961‬م‬
‫عدم االنحياز وبلورة مبادئه‪ ،‬فلم تكن دعوة االنحياز‬
‫وا�ضحة حتى ذلك احلني‪.‬‬
‫فلم يكن املفهوم احلقيقي لعدم االنحياز قد ا�ستقر‬
‫يف �ضمري املجتمع الدويل �إال بعد جهود كبرية كان فكر‬
‫هاما‪ .‬فكان هناك من يفهمها على‬ ‫عبد النا�رص فيها عام ً‬
‫ال ًّ‬
‫�أنها جمرد اتخاذ موقف �سلبي من القوتني العظميني‪ ،‬فهي‬
‫دعوة كانت تقابل بال �شك من جانب الذين �آثروا ال�سلبية‬
‫�إما عج ًزا و�إما ي� ًأ�سا‪ .‬وكان هناك من يت�صور �أن هناك كتلة‬
‫ثالثة بني الكتلتني املت�صارعتني‪.‬‬
‫ولقد ُوجهت الدعوة مل�ؤمتر بلجراد من ِقبل اجلمهورية‬
‫العربية املتحدة ويوغو�سالفيا و�إندوني�سيا‪ ،‬على �أن يعقد يف‬
‫بلجراد خالل الفرتة من ‪�1‬إىل ‪� 6‬سبتمرب ‪1961‬م‪ ،‬وكان‬
‫عبد النا�رص �أحد زعماء ثالثة وقعوا على هذه الدعوة مع‬
‫تيتو و�سوكارنو‪ .‬وح�رضته ‪ 25‬دولة‪.‬‬
‫ويف هذا امل�ؤمتر حدد الرئي�سان عبد النا�رص وتيتو مبادئ‬
‫عدم االنحياز ب�أنها تقوم على رغبتهما يف انتهاج �سيا�سة‬
‫وطنية م�ستقلة و�سلمية‪ ،‬وم�ساندة حركات حترر ال�شعوب‪،‬‬
‫ودعم ق�ضايا العامل الثالث الأخرى‪ ،‬و�شددا على نحو‬
‫خا�ص على حاجة البلدان غري املنحازة للتخل�ص من �أي‬
‫�شكل من �أ�شكال الرتتيبات الع�سكرية مع � ٍّأي من القوتني‬
‫العظميني‪� ،‬سواء من خالل �أحالف ع�سكرية �أو ترتيبات‬
‫دفاعية متبادلة �أو منح قواعد ع�سكرية‪.‬‬
‫وتركزت مقررات امل�ؤمتر الت�أ�سي�سي يف الآتي‪:‬‬
‫ال�شعوب لها احلق يف تقرير م�صريها بنف�سها‪.‬‬
‫حق كل دولة يف اال�ستقالل وحرية الت�رصف مبواردها‪.‬‬
‫�إدانة �أعمال القمع الع�سكرية التي تتعر�ض لها ال�شعوب‪،‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫التي ما تزال تطالب بحريتها وا�ستقاللها‪.‬‬


‫ا�ستنكار الأعمال العدوانية الإ�رسائيلية‪ ،‬كما طالب امل�ؤمتر‬
‫با�ستكمال اال�ستقالل اجلزائري‪.‬‬
‫ا�ستنكر امل�ؤمتر التمييز العن�رصي بكل �أ�شكاله‪.‬‬
‫�أكد امل�ؤمتر على �رضورة التحرك الإيجابي‪ ،‬والعمل على‬
‫نزع ال�سالح ومنع التجارب النووية‪.‬‬ ‫�صور ا�ستقبال جمال عبد النا�رص لوفود م�ؤمتر الت�ضامن الآ�سيوي الإفريقي‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫قوة هذه الدعوة على ال�ساحة الدولية ومدى انت�شارها وجدوى‬ ‫ال من الرئي�س الإندوني�سي �أحمد �سوكارنو‬ ‫وكلف امل�ؤمتر ك ًّ‬
‫مبادئها ال�سلمية الهادفة‪ .‬يقول جمال عبد النا�رص‪�« :‬إن العمل‬ ‫ورئي�س جمهورية مايل موديبو كيتا باالت�صال بالرئي�س الأمريكي‬
‫من �أجل ال�سالم هو الذي �سلح �شعبنا ب�شعار عدم االنحياز‪،‬‬ ‫جون كيندي‪ ،‬ومنا�شدته االجتماع برئي�س وزراء االحتاد‬
‫و�إن الذين يحاولون اليوم ا�ستغالل �شعار عدم االنحياز لي�سرتوا‬ ‫ال�سوفيتي‪� ،‬إال �أن خرو�شوف �أر�سل خطا ًبا �إىل امل�ؤمتر ي�ؤكد فيه‬
‫به �أمام �شعوبهم انحيازهم �إىل مع�سكرات احلرب واال�ستعمار‪،‬‬ ‫على ا�ستمرار االحتاد ال�سوفيتي يف �إجراء التجارب النووية‪.‬‬
‫رائدا يف رفع هذا‬
‫�إمنا يقدمون �إطرا ًء غري مبا�رش ل�شعبنا الذي كان ً‬
‫ال�شعار عن �إميان‪ ،‬ويف الن�ضال من �أجله ‪ -‬عن حاجة حقيقية �إليه‬ ‫نظرا لأن خطر‬‫منا�سبا؛ ً‬
‫ً‬ ‫لقد كان توقيت انعقاد م�ؤمتر بلجراد‬
‫نابعة من �صميم كفاحه لإحراز التقدم‪ ،‬و�إن التعاون الدويل من‬ ‫احلرب كان حقيقة واقعة‪ ،‬كما �أن الدول الكربى مل تتمكن خالل‬
‫�أجل الرخاء امل�شرتك ل�شعوب العامل هو امتداد طبيعي للحرب‬ ‫هذه الفرتة من جمابهة املحن الكربى‪ ،‬ولذلك يعترب م�ؤمتر بلجراد‬
‫�ضد اال�ستعمار‪� ..‬ضد اال�ستغالل»‪.‬‬ ‫كبريا ل�سيا�سة عدم االنحياز‪ ،‬ودلي ً‬
‫ال �صادقًا على‬ ‫تاريخيا ً‬
‫ًّ‬ ‫انت�صارا‬
‫ً‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫�صور �أثناء م�ؤمتر بلجراد �سبتمرب ‪1961‬م‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫جمال عبد النا�رص وم�ؤمتر القمة الثاين حلركة عدم‬
‫االنحياز بالقاهرة (‪� 10-5‬أكتوبر ‪1964‬م)‬
‫توجت جهود عبد النا�رص يف عامل عدم االنحياز‪ ،‬حينما‬
‫انعقد م�ؤمتر القمة الثاين لعدم االنحياز يف القاهرة يف الفرتة من‬
‫‪� 5‬إىل ‪� 10‬أكتوبر ‪1964‬م‪ .‬وكانت م�رص هي الدولة امل�ضيفة‪،‬‬
‫وقد ا�شرتكت يف هذا امل�ؤمتر ‪ 47‬دولة غري الدول التي �شهدته‬
‫كمراقبة‪ ،‬يف حني مل ي�شرتك يف م�ؤمتر بلجراد �سوى ‪ 32‬دولة‪.‬‬

‫وقد انعقد هذا امل�ؤمتر يف القاهرة بعد �أن كان العامل قد فقد‬
‫�أحد الأقطاب الثالثة الذين تزعموا �سيا�سة عدم االنحياز‪ ،‬وهو‬
‫الزعيم الهندي نهرو‪ ،‬وهذا امل�ؤمتر هو متابعة للن�ضال املمتد‪،‬‬
‫وعر�ضا؛ بحيث ي�ستحق �أن يكون‬ ‫ً‬ ‫والذي يزداد كل يوم عمقًا‬
‫م�ؤمتر تدعيم ال�سالم عن طريق التعاون الدويل‪ .‬ف�إن تخفيف حدة‬
‫احلرب الباردة التي كانت تخيم على م�ؤمتر بلجراد‪ ،‬ال يعني �أن‬
‫دور عدم االنحياز قد انتهى؛ فمفهومه احلقيقي هو العمل من‬
‫�أجل �سالم دائم يقوم على العدل‪.‬‬

‫�أدان عبد النا�رص يف خطابه‪� ،‬أمام م�ؤمتر القاهرة‪ ،‬اال�ستعمار‬


‫بجميع �أ�شكاله و�أنواعه القدمي منها واحلديث‪ ،‬و�أدان �سيا�سات‬
‫القمع امل�سلح كما جتري يف امل�ستعمرات الربتغالية ويف اجلنوب‬
‫العربي املحتل ويف عدن وعمان‪ ،‬و�أدان �سيا�سات الأحالف‬
‫والقواعد الع�سكرية‪ ،‬و�أدان �سيا�سات اال�ستيالء على �أرا�ضي‬
‫ال�شعوب وطردها بالقوة بت�أييد من اال�ستعمار‪ ،‬كما يجري يف‬
‫فل�سطني‪ ،‬و�أدان �سيا�سات التحيز والتفرقة العن�رصية كما يحدث‬
‫يف جنوب �إفريقيا‪ .‬ونبه عبد النا�رص �إىل �أن الفوارق امل�ؤملة يف‬
‫م�ستويات معي�شة ال�شعوب لن يكون من �ش�أنها �إال و�ضع العامل‬
‫ال‪�« :‬إن هناك‬‫على فوهة بركان ال يهد أ� وال ي�ستقر وال ينام‪ ،‬قائ ً‬
‫فوارق مروعة بني الدول املتقدمة والدول املتخلفة‪ .‬وي�ضاعف‬
‫من الإح�سا�س بهذه الفوارق �أن �شعوب الدول املتخلفة ترى‪،‬‬
‫وهي على حق فيما تراه‪� ،‬أن رخاء غريها قد �أخذ منها بو�سائل‬
‫النهب اال�ستعماري املروعة‪.»....‬‬

‫وطالب عبد النا�رص املجتمع الدويل بالعدل‪ ،‬فقال‪« :‬ال‬


‫ذاكـرة م�صـر‬

‫نريد �أن ينتهي تق�سيم العامل �إىل كتلة غربية وكتلة �رشقية لتقوم‬
‫تق�سيمات �أخرى �أكرب و�أخطر‪ ،‬كتلة من الفقراء وكتلة من‬
‫الأغنياء‪ ،‬كتلة من املتقدمني وكتلة من املتخلفني‪ .‬كتلة يف ال�شمال‬
‫من الكرة الأر�ضية من حقها الرخاء‪ ،‬وكتلة يف اجلنوب لي�س لها‬
‫�صور �أثناء م�ؤمتر عدم االنحياز بالقاهرة �أكتوبر ‪1964‬م‪.‬‬ ‫غري احلرمان‪ .‬كتلة من البي�ض وكتلة من امللونني»‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ت�ضمن الإعالن النهائي للم�ؤمتر الذي �أطلق عليه برنامج ال�سالم والتعاون الدويل‪ ،‬واتفق �أع�ضاء حركة عدم االنحياز‬
‫على الآتي‪:‬‬

‫العمل امل�شرتك لتحرير الدول غري امل�ستقلة والق�ضاء على اال�ستعمار‪ ،‬وا�ستنكار عدم تنفيذ �إعالن الأمم املتحدة اخلا�ص مبنح‬
‫البلدان �أو ال�شعوب امل�ستعمرة ا�ستقاللها‪.‬‬
‫ت�أييد كفاح �شعب فل�سطني للتحرر من اال�ستعمار والعن�رصية‪ ،‬و�شجب �سيا�سة الإمربيالية اخلا�صة مبنطقة ال�رشق الأو�سط‪،‬‬
‫ويقرر وفقًا مليثاق الأمم املتحدة‪.‬‬
‫ت�أييد ا�ستعادة حقوق ال�شعب العربي يف فل�سطني كاملة غري منقو�صة‪ ،‬وحقه الطبيعي يف تقرير م�صريه‪ ،‬ون�ضاله من �أجل‬
‫التحرر من اال�ستعمار‪.‬‬
‫ً‬
‫انتهاكا للإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‪ ،‬ومبد أ� امل�ساواة بني ال�شعوب‪ ،‬وندد يف هذا الإطار بحكومة‬ ‫اعتبار التمييز العن�رصي‬
‫جنوب �إفريقيا العن�رصية‪.‬‬
‫فورا ودون �رشوط وتطبيق مبد�أ امل�ساواة يف ال�سيادة بني الدول‪،‬‬
‫�إن حق اال�ستقالل التام هو حق طبيعي يجب االعرتاف به ً‬
‫واالمتناع عن �أي تهديد با�ستعمال القوة‪ ،‬وي�شري �إىل وجوب حل جميع املنازعات الدولية بالو�سائل ال�سلمية‪ ،‬وبالتزام الدول‬
‫للتعاون من �أجل دفع عجلة التنمية االقت�صادية يف الدول النامية والعامل �أجمع‪.‬‬
‫�إن م�شكلة الأمم املق�سمة �سبب �أ�سا�سي للتوتر الدويل‪ ،‬ولذلك يعلن امل�ؤمتر تعاطفه مع هذه ال�شعوب‪� ،‬إ�شارة �إىل م�شكلة تق�سيم‬
‫�أملانيا‪ ،‬كما يعلن امل�ؤمتر قلقه ب�ش�أن امل�س�ألة القرب�صية‪ ،‬كما طالب امل�ؤمتر رفع احل�صار االقت�صادي الأمريكي املفرو�ض على‬
‫كوبا‪.‬‬
‫طالب امل�ؤمتر بحل املنازعات الدولية بالطرق ال�سلمية وفقًا مليثاق الأمم املتحدة دون التهديد با�ستعمال القوة �أو با�ستخدامها‪.‬‬
‫وقد �أ�شار امل�ؤمتر �إىل احرتام ال�سالم واال�ستقرار يف �شبه جزيرة الهند ال�صينية‪.‬‬
‫حتمية نزع ال�سالح‪ ،‬وا�ستخدام الطاقة الذرية للأغرا�ض ال�سلمية‪ ،‬وحترمي جميع التجارب النووية‪ ،‬ومنع انت�شار الأ�سلحة‬
‫النووية و�إلغائها‪ ،‬و�إن�شاء مناطق خالية من الأ�سلحة النووية‪.‬‬
‫طلب امل�ؤمتر من الدول الكربى �أن تتخذ خطوات عاجلة نحو حتقيق نزع ال�سالح حتت رقابة دولية فعالة ودقيقة‪.‬‬
‫ينا�شد امل�ؤمتر جميع الدول �أن تن�ضم �إىل معاهدة مو�سكو للحظر اجلزئي لتجارب الأ�سلحة النووية‪.‬‬
‫�أكد امل�ؤمتر على �أن وجود الأحالف الع�سكرية قد زادت من حدة التوتر الدويل وت�صاعد احلرب الباردة‪ ،‬كما اعترب �أن‬
‫وتهديدا للحرية وال�سالم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫انتهاكا ل�سيادة الدول‬ ‫ا�ستمرار وجود القواعد الع�سكرية الأجنبية يف �أرا�ضي بع�ض الدول ميثل‬
‫العاملي‪ .‬و�أو�صى امل�ؤمتر ب�إزالة القواعد الأجنبية من قرب�ص‪ ،‬وندد بعزم الدول اال�ستعمارية على �إن�شاء قواعد يف املحيط‬
‫الهندي؛ بهدف ال�ضغط على الدول النا�شئة يف �إفريقيا و�آ�سيا‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫ر�أى امل�ؤمتر �أن تقوم الأمم املتحدة بوظائفها ب�شكل فعال‪ ،‬و�أن تراعي يف �أعمالها املبادئ الأ�سا�سية للتعاي�ش ال�سلمي‪ ،‬وطالب‬
‫بان�ضمام ال�صني ال�شعبية �إليها‪.‬‬
‫�أهمية و�ضع برنامج للعمل من �ش�أنه �أن يعالج م�شكالت الدول النامية‪ ،‬ويتحقق يف �إطاره تعاون �أف�ضل بني الدول ال�صناعية‬
‫والدول النامية‪ ،‬ويطالب بالتعجيل ب�إن�شاء وكالة متخ�ص�صة للتنمية ال�صناعية‪.‬‬
‫طالب امل�ؤمتر بتعزيز جماالت التعاون الثقايف والعلمي والرتبوي بني دوله والدول املتقدمة‪ ،‬ويدعو الدول ال�صناعية الكربى‬
‫لتزويد الدول النامية مبزايا التقدم العلمي والتكنولوجي لتحقيق التنمية االقت�صادية‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫كلمة الرئي�س جمال عبد النا�رص يف م�ؤمتر الأقطاب بالهند (‪� 21‬أكتوبر ‪1966‬م)‬

‫�أيها الإخوة والأ�صدقاء‪:‬‬


‫مبكرا للحديث عن هذا اللقاء الذي يجمع يف مدينة نيودلهي املجيدة ما بني يوغو�سالفيا والهند‬‫ً‬ ‫رمبا كان الوقت ال يزال‬
‫واجلمهورية العربية املتحدة‪ .‬ول�ست �أريد �أن �أ�سبق مناق�شاتنا �أو نتائجها‪ ،‬و�إن كنت �أرجو �أن ت�سمحوا يل ب�إبداء بع�ض‬
‫املالحظات ال�رسيعة‪:‬‬
‫�أو ًال‪� :‬إنني �أ�ست�أذنكم يف توجيه �شكر خا�ص وحار لل�شعب الهندي العظيم الذي ي�ست�ضيف هذا االجتماع يف عا�صمته‪،‬‬
‫ؤكدا بذلك دور الهند الطليعي يف حركة الثورة الوطنية من �أجل اال�ستقالل‪ ،‬ويف الن�ضال من �أجل بلوغ التقدم‬‫م� ً‬
‫االقت�صادي واالجتماعي الذي هو غاية اال�ستقالل ال�سيا�سي وم�ضمونه‪.‬‬

‫ثانيا‪� :‬إننا نلتقي هنا ‪ -‬الهند ويوغو�سالفيا واجلمهورية العربية املتحدة ‪ -‬بالدرجة الأوىل ك�أ�صدقاء قدامى‪ ،‬جمعنا تقليد‬
‫ ً‬
‫تاريخي من العمل امل�شرتك‪� ،‬صنعته وعززته وحدة يف املبادئ واملثل العليا‪ ،‬وعمقته لقاءات متعددة يف بريوين والقاهرة‬
‫وا�ستمرارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫من قبل‪ ،‬ويف نيودلهي اليوم؛ ا�ستطرا ًدا‬
‫وك�أ�صدقاء فنحن ال جنتمع هنا لكي نخرج حلو ًال للم�شكالت‪� ،‬أو دواء لكل الأمرا�ض؛ و�إمنا نلتقي قبل كل �شيء لكي‬
‫دائما �شعوبنا‪.‬‬
‫دائما و�أخل�صت لها ً‬
‫نتبادل الأفكار واخلربات الن�ضالية‪ ،‬ولن�ضع ما ن�صل �إليه خلدمة املبادئ التي �آمنت بها ً‬
‫إيجابيا يف ق�ضايا و�آمال ال�شعوب التي جتمعها‬
‫ونتمنى لو ا�ستطاع جهدنا ‪ -‬كما حدث يف املا�ضي ‪� -‬أن يكون �إ�سها ًما � ًّ‬
‫مع �شعوبنا �آمال احلرية والتقدم وال�سالم‪.‬‬

‫دائما ‪ -‬و�أعني بها �سيا�سة عدم االنحياز ‪� -‬سليمة‬


‫دائما و�أخل�صت لها ً‬ ‫ثال ًثا‪� :‬إن ال�سيا�سة التي �آمنت بها �شعوبنا ً‬
‫يف جوهرها‪ ،‬برغم كل التطورات املتالحقة‪ ،‬كما �أن املبادئ الأ�صيلة لهذه ال�سيا�سة ‪ -‬و�أعني بها مبادئ التعاي�ش‬
‫ال�سلمي كما حددتها م�ؤمترات باندوجن وبلجراد والقاهرة – ما زالت �صحيحة‪ ،‬بل �إن التجارب ت�ؤكد لنا ذلك كل‬
‫يوم وتقوي من �إميانها بها‪ .‬ولقد تتطلب منا التغيريات التي طر�أت على العامل يف ال�سنوات الأخرية اجتهادات جديدة‪،‬‬
‫لكن هذه االجتهادات ال مت�س ال�سيا�سة نف�سها �أو املبادئ الأ�صلية فيها‪� .‬إن العامل يختلف اليوم عن عامل ال�رصاع بني‬
‫الكتلتني الغربية وال�رشقية الذي واجهناه �سنة ‪١٩٥٥‬م �أو بعدها‪ ،‬لكنه مع ذلك ال يزال عاملًا يحكمه ال�رصاع و�إن‬
‫تعددت مراكزه‪.‬‬

‫راب ًعا‪� :‬إن املتناق�ضات التي كانت بني �أ�سباب ال�رصاع يف ال�صورة ال�سابقة ما زالت باقية‪ ،‬وما زال اال�ستعمار يف عديد‬
‫من قارات العامل يحاول قهر ال�شعوب‪ ،‬وما زالت التفرقة العن�رصية متار�س بنف�س الرعونة الال �أخالقية‪ ،‬وما زالت متار�س‬
‫ب�أب�شع ما تكون للإرهاب والإخ�ضاع‪.‬‬
‫ما زالت ق�ضية ال�سالم واحلرب برغم ميزان الرعب النووي معر�ضة للمطامع واملغامرات‪ ،‬ولي�س من �شك �أن ن�ضال‬
‫ال�شعوب �ضد ذلك كله حقق انت�صارات هائلة‪ ،‬لكننا ال ن�ستطيع �أن نخدع �أنف�سنا ونت�صور �أن اخلطر قد زال‪.‬‬

‫خام�سا‪ :‬وكذلك فلقد ظهرت متناق�ضات جديدة �أخطرها يف ر�أينا هو التناق�ض بني الفقر والغنى‪ ،‬وبني التقدم والتخلف‪.‬‬‫ً‬ ‫‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫وبرغم �أن �شعوبنا الآن تبذل من اجلهد �أكرث مما بذلت يف �أي وقت من �أوقات ن�ضالها احلديث؛ ف�إن �أدواتها املادية‬
‫والعلمية والتكنولوجية ال ت�ساعد طموحها بالقدر الكايف‪ .‬كما �أنها تتعر�ض �أثناء جهدها ال�شاق والبطويل ملعوقات‬
‫وعراقيل توجه �إليها من جانب القوى الرائدة يف ال�سيطرة‪ ،‬بل �أقول �إنها تتعر�ض ل�ضغوط عنيفة تكاد ت�صل �إىل حد‬
‫احلرب االقت�صادية والنف�سية‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ال عن مطالبه �أن نرف�ض موقف الرتدد الذي يراد �إيقاعنا فيه‪،‬‬ ‫�ساد�سا‪ :‬ومن ال�رضوري حتى بالن�سبة لكرامة عملنا‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ ً‬
‫�إن موقف الرتدد هو مقدمة ملوقف الرتاجع؛ ولذلك ف�إنه من ال�رضوري �أن نقف م ًعا يف حزم‪ ،‬و�أن نثبت للذين مل يروا‬
‫احلقيقة �أن رخاء العامل ال يتجز�أ‪ ،‬و�أن �سالم العامل ال يتجز�أ‪ ،‬و�أن التقدم للإن�سانية ال يتجز�أ‪.‬‬

‫�ساب ًعا‪� :‬إن وقفتنا يف حزم ال ميكن �أن حتقق فعلها و�أثرها �إال بتعاون وثيق بيننا يف كل املجاالت ال�سيا�سية واالقت�صادية‬
‫أي�ضا ميكن لنا ولغرينا �أمانًا بغري حدود �ضد غارات‬
‫والثقافية‪ ،‬و�إن ذلك ال يدفع خطانا �إىل الأمام فح�سب‪ ،‬و�إمنا هو � ً‬
‫اال�ستعمار اجلديد والرجعية املتحالفة معه‪.‬‬
‫ويف هذا ال�صدد ف�إنه من ال�رضوري �أن يت�صل كفاحنا لت�صفية اجليوب اال�ستعمارية‪ ،‬ونحن نعرف بع�ضها يف منطقتنا‬
‫من العامل‪ ..‬ال�رشق الأو�سط و�إفريقيا‪ ،‬ف�إن هذه اجليوب ميكن �أن تكون مراكز انطالق لالنق�ضا�ض علينا بوا�سطة حتالف‬
‫اال�ستعمار والرجعية؛ بق�صد �إعادة ال�سيطرة على �شعوبنا املنا�ضلة ومنع تقدمها االقت�صادي واالجتماعي‪.‬‬
‫ �إن �سيا�سة عدم االنحياز هي يف حقيقتها انحياز ملبادئ احلرية‪ ،‬وانحياز لآمال ال�سالم‪ ،‬وانحياز الحتماالت التقدم‬
‫الباهرة‪ ،‬وانحياز لقدرة الفكر الإن�ساين على االنطالق‪.‬‬
‫كما �أن ال�شعوب امل�ؤمنة بهذه ال�سيا�سة ال تق�صد بها �أن تنعزل عن عاملها‪ ،‬بل هي على العك�س تق�صد �أن تتفاعل معه‪،‬‬
‫وتعاين ق�ضاياه وهي متار�س كفاحها اليومي من مفهوم امل�صلحة الوطنية‪ ،‬يعترب ال�سالم العاملي القائم على العدل جز ًءا ال‬
‫يتجز�أ من وجدانه ومن �ضمريه‪.‬‬

‫�شكرا لكم �أيها الأ�صدقاء‪ ،‬وليوفقنا اهلل فيما نق�صد �إليه‪.‬‬


‫ً‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫لقطة معربة وم�ؤثرة �أثناء لقاء جمال عبد النا�رص مع رئي�سة وزراء الهند �أنديرا غاندي‪.‬‬ ‫عبد النا�رص‪ ،‬وتيتو‪ ،‬و�أنديرا غاندي؛ رئي�سة وزراء الهند‪ ،‬يف �أول لقاء يف دلهي يف‬
‫�إطار م�ؤمتر الأقطاب‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫«�أرماندي�س» ب�إيطاليا‪ .‬ولكي يهرب من مالحقة عائلته قام‬ ‫ولد يو�سف عبد اهلل وهبي يف ‪ 14‬يوليو ‪1898‬م بالفيوم‬
‫بتغيري ا�سمه �إىل رم�سي�س‪ ،‬ومل يعد �إىل م�رص �إال بعد �أن و�صله خرب‬ ‫على �شاطئ ترعة بحر يو�سف‪ ،‬و�سمي بهذا اال�سم تيم ًنا‬
‫وفاة والده البا�شا عام ‪1921‬م الذي تويف وترك له ولإخوته‬ ‫با�سمها‪ .‬وبد أ� تعليمه يف كتاب الع�سيلي‪ ،‬ثم تلقى تعليمه‬
‫جدا كان ن�صيبه منها ‪ 10.000‬جنيه من الذهب‬ ‫ثروة كبرية ًّ‬ ‫مهند�سا مثله‪،‬‬
‫ً‬ ‫باملدر�سة ال�سعدية‪ ،‬كان �أبوه البا�شا يريده �أن ي�صبح‬
‫اخلال�ص‪.‬‬ ‫بعيدا متا ًما عن هذا الطريق‪ ،‬وو�سط ده�شة‬
‫ولكن ع�شقه للتمثيل دفعة ً‬
‫بعد �أن ت�سلم يو�سف وهبي �إرثه‪ ،‬قام ب�إن�شاء فرقة م�رسحية‬ ‫م�صارعا‬
‫ً‬ ‫عائلته كلها التحق بال�سريك للعمل كممثل‪ ،‬كما عمل‬
‫خا�صة‪ ،‬و�أطلق عليها «فرقة رم�سي�س» ‪1930‬م‪ ،‬وقرر �أن‬ ‫يف �سريك احلاج �سليمان؛ حيث تدرب على يد بطل ال�رشق يف‬
‫يقدم بها �شي ًئا خمتلفًا عن ما يقدمه م�شاهري امل�رسح يف ذلك‬ ‫امل�صارعة �آنذاك امل�صارع عبد احلليم امل�رصي‪ .‬وهكذا انتقل من‬
‫الوقت ‪ -‬علي الك�سار وجنيب الريحاين ‪ -‬بعد �أن قام بدرا�سة‬ ‫�أعلى طبقة يف املجتمع �إىل �أدنى طبقة وهي طبقة (امل�شخ�صاتية)‬
‫�أعمالهما درا�سة مت�أنية‪ ،‬و أُ�طلق عليه يف تلك الفرتة من بداياته‬ ‫التي مل يكن معتـرفًــا ب�شهادتها �أمــام مـحاكــم الدولـفي ذلك‬
‫لقب «ر�سول العناية الإلهية» الذي �سوف ينه�ض بفن التمثيل‬ ‫الوقت‪ .‬وكرد فعل طبيعي للعار الذي حلق ب�سمعة عائلته من‬
‫ومم�رصا‪،‬‬ ‫م�رسحيا م�ؤلفًا‬ ‫يف م�رص‪ .‬وقد قدمت الفرقة ‪ 284‬عم ً‬
‫ال‬ ‫جراء فعلته قام والده بطرده من بيت العائلة‪ ،‬و�أحلقه باملدر�سة‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫قـام وهبـي ب�إخراج معظمها‪ .‬ويف عام ‪1932‬م �أنتــج وم َّثل‬ ‫الزراعية مب�شتهر يف حماولة منه لإ�صالحه وتهذيبه‪.‬‬
‫�أول فيلم م�رصي ناطق «�أوالد الذوات»‪.‬‬ ‫وقد �شغف يو�سف وهبي بالتمثيل لأول مرة يف حياته‬
‫يعترب �صاحب �أ�شهر فرقة يف تاريخ امل�رسح امل�رصي والتي‬ ‫عندما �شاهد فرقـة الفنان اللبنـاين «�سليــم القــرداحـــي»‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫�أجنبت العديد من املمثلني يف الع�رص الذهبي لل�سينما وامل�رسح‪،‬‬ ‫يف �سوهــاج‪ ،‬فبد�أ ب�إلقــاء املونولوجــات و�أداء التمثيليـات‬
‫عرف بدقة اختياره لأدواره‪ ،‬وب�أدائه املتميز باللغة العربية‬ ‫بالنادي الأهلـي واملدر�سـة‪.‬‬
‫الف�صحى‪ .‬وقد توىل يو�سف وهبي من�صب املدير العام للفرقة‬ ‫مل ي�ستجب يو�سف وهبي ملحاوالت �أهله لإبعاده عن جمال‬
‫القومية ‪ -‬امل�رسح القومي ‪ -‬واملدير الفني ل�رشكتي الإنتاج‬ ‫التمثيل والفن؛ فهرب �إىل �إيطاليا لتعلم امل�رسح عقب احلرب‬
‫«نحا�س فيلم» و«�أفالم رم�سي�س»‪.‬‬ ‫العاملية الأوىل ب�إغراء من �صديقه القدمي املخرج حممد كرمي‪،‬‬
‫بعد بداية قوية يف امل�رسح دخل يو�سف وهبي �إىل ال�سينما‬ ‫وتتلمذ للممثل الإيطايل كيانتوين‪ .‬ودر�س بالعديد من املعاهد‬
‫ال؛ وذلك ب�سبب �إعطائه امل�رسح اجلزء الأكرب من‬‫أخرا قلي ً‬
‫مت� ً‬ ‫العاملية؛ مثل معهد «دانتي اليجريي» مبيالنو ومعهد ال�سينما‬

‫‪65‬‬
‫ت�أ�س�ست جمعية حتمل ا�سمه يف م�سقط ر�أ�سه بالفيوم؛ وهي‬ ‫اهتمامه‪ ،‬وب�سبب �آخر �أهم وهو العداء الذي ن�ش�أ بينه وبني‬
‫«جمعية �أ�صدقاء يو�سف وهبي» و�أقيم له متثال �أمام هذه‬ ‫ال�صحافة والر�أي العــام عندما قرر جت�سيد �شخ�صية النبــي ﷺ‬
‫اجلمعية‪.‬‬ ‫على �شا�شة ال�سينما‪ ،‬وهو ما �أثار حفيظة اجلمهور والنقاد بل‬
‫والعاملني باملجال ال�سينمائي نف�سه‪.‬‬
‫أي�ضا على و�سام تقدير من جمل�س‬
‫وقد ح�صل يو�سف وهبي � ً‬
‫قيادة الثورة‪ ،‬وجائزة الدولة التقديرية يف الفنون عام ‪1957‬م‪،‬‬ ‫بعد �أن هد�أت هذه الأزمة بد�أ يو�سف وهبي يف الإعداد مع‬
‫ودرجة الدكتوراه الفخرية من �أكادميية الفنون عام ‪1975‬م عن‬ ‫املخرج حممد كرمي لفيلم روائي طويل وهو فيلم «زينب»‪ ،‬على‬
‫جممل عطائه للفن امل�رصي‪ ،‬كما ح�صل على العديد من الأو�سمة‬ ‫�أن يقوم هو ب�إنتاجه ويقوم حممد كرمي بالإخراج‪ .‬ثم اتفق مع‬
‫من �إيطاليا والفاتيكان‪.‬‬ ‫حممد كرمي بعد ذلك على �صناعة �أول فيلم م�رصي ناطق‬
‫يف عام ‪1979‬م قام يو�سف وهبي بتمثيل دور اليهودي‬ ‫جناحا �ساحقًا‪ ،‬فقام‬
‫ً‬ ‫وهو فيلم «�أوالد الذوات» الذي حقق‬
‫العجوز الذي يع�شق م�رص بعد �أن عا�ش كل حياته بها‪ ،‬وذلك‬ ‫يو�سف وهبي بكتابة ثاين �أفالمه وهو «الدفاع» عام ‪1935‬م‪،‬‬
‫يف فيلم «�إ�سكندرية ليه»‪ ،‬وهي املرة الأوىل التي يقوم فيها ممثل‬ ‫وا�شرتك يف �إخراجه مع نيازي م�صطفى‪ ،‬ثم كان الفيلم الثالث‬
‫ب�أداء �شخ�صية اليهودي بعد ثورة ‪1952‬م‪ .‬وقد �أظهر يف هذه‬ ‫«املجد اخلالد» عام ‪1937‬م الذي قام فيه بالكتابة والتمثيل‬
‫مدعما بخربة �سنني طويلة من الإبداع‬ ‫إح�سا�سا مرهفًا‬
‫ال�شخ�صية �‬ ‫والإنتاج والإخراج‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والفن‪.‬‬ ‫عمل بعد ذلك يو�سف وهبي كم�ؤلف لثالثة �أفالم متتالية‪:‬‬
‫اجته يو�سف وهبي يف نهاية حياته لأداء الأدوار الكوميدية‬ ‫«ليلـة ممطـرة»‪ ،‬و«ليلـى بنت الريـف»‪ ،‬و«ليلـى بنت مـدار�س»‪،‬‬
‫يف عدد من الأفالم‪ ،‬وجنح فيها ب�شكل الفت للنظر‪ .‬وبرغم‬ ‫كلها من �إخراج توجو مزراحي‪ .‬بعد جناح هذه الأفالم قام‬
‫الأفالم العديدة التي كتبها و�أخرجها وم َّثل فيها يو�سف وهبي‬ ‫يو�سف وهبي ب�إخراج فيلم «غرام وانتقـام» الذي قام فيه ‪ -‬بغرابة‬
‫ف�إنها مل تكن �أف�ضل �أعماله‪ ،‬بل على العك�س فقد كانت �أف�ضل‬ ‫�شديدة ‪ -‬بدور العا�شق �صغري ال�سن‪ ،‬وقد بلغ من العمر وقتها‬
‫�أفالمه هي التي �شارك فيها بالتمثيل فقط دون �أي ن�شاط �آخر؛‬ ‫الرابعة وال�ستني‪ .‬وقد ح�صل ب�سبب �إحدى �أغاين هذا الفيلم‬
‫مثل «�إ�شـاعــة حـب»‪ ،‬و«مذكـــرات زوج»‪ ،‬وكانت على‬ ‫على لقب بك؛ لأنها كانت متجد يف ذات العائلة املالكة‪ ،‬عقب‬
‫العك�س من �أدواره يف امل�رسح‪ ،‬كلها �شخ�صيات كوميدية �أداها‬ ‫ح�ضور امللك فاروق �أول عر�ض لفيلم «غرام وانتقـام» يف �سينما‬
‫مبنتهى الرباعة فحازت على ا�ستح�سان اجلميع‪ .‬وقد كانت هذه‬ ‫ريفويل بالقاهرة‪.‬‬
‫تدعيما لر�أي بع�ض النقاد امل�رسحيني الذين‬
‫ً‬ ‫الأدوار الكوميدية‬ ‫نقيبا للممثلني‪ ،‬ويف عام ‪1953‬م‬
‫يف عام ‪1950‬م انتخب ً‬
‫يرون �أن يو�سف وهبي تفوق يف الكوميديا �أكرث من الرتاجيديا‪.‬‬ ‫وتخليدا لذكراه‬
‫ً‬ ‫فنيا للم�رسح بوزارة الإر�شاد‪.‬‬
‫م�ست�شارا ًّ‬
‫ً‬ ‫عمل‬

‫ذاكـرة م�صـر‬

‫‪66‬‬
67
‫‪« -‬مالك الرحمة»‪.‬‬ ‫‪« -‬املوت املدين»‪.‬‬
‫‪�« -‬رضبة قدر»‪ ،‬عام ‪1947‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬را�سبوتني»‪.‬‬
‫‪�« -‬شادية الوادي»‪.‬‬ ‫‪« -‬ابن الفالح»‪.‬‬
‫‪« -‬رجل ال ينام»‪ ،‬عام ‪1948‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬بنت مدار�س»‪.‬‬
‫‪« -‬كر�سي االعرتاف»‪ ،‬عام ‪1949‬م‪.‬‬ ‫‪�« -‬أوالد ال�شوارع»‪.‬‬
‫‪« -‬بيومي �أفندي»‪.‬‬ ‫‪« -‬ناكر ونكري»‪.‬‬
‫‪« -‬غزل البنات»‪.‬‬ ‫‪« -‬بيومي �أفندي»‪.‬‬
‫‪�« -‬أمينة»‪.‬‬
‫‪« -‬الأفوكاتو مديحة»‪ ،‬عام ‪1950‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬أوالد الذوات»‪ ،‬عام ‪1932‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬أوالد ال�شوارع»‪ ،‬عام‪1951‬م‪.‬‬
‫‪« -‬الدفاع»‪ ،‬عام ‪1935‬م‪.‬‬
‫‪« -‬حبيب الروح»‪.‬‬
‫‪« -‬املجد اخلالد»‪ ،‬عام ‪1937‬م‪.‬‬
‫‪« -‬بنت الهوى»‪ ،‬عام ‪1953‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬ساعة تنفيذ»‪ ،‬عام ‪1938‬م‪.‬‬
‫‪« -‬بيت الطاعة»‪.‬‬
‫‪« -‬ليلة ممطرة»‪ ،‬عام ‪1939‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬أ�سعد الأيام»‪ ،‬عام ‪1954‬م‪.‬‬
‫‪« -‬عري�س من �إ�سطنبول»‪ ،‬عام‪1941‬م‪.‬‬
‫‪« -‬حياة �أو موت»‪.‬‬
‫‪« -‬ليلى بنت مدار�س»‪.‬‬
‫‪« -‬عهد الهوى»‪ ،‬عام ‪1955‬م‪.‬‬
‫‪« -‬ليلى بنت الريف»‪.‬‬
‫‪« -‬بحر الغرام»‪.‬‬
‫‪« -‬عا�صفة على الريف»‪ ،‬عام ‪1942‬م‪.‬‬
‫‪« -‬املالك ال�صغري»‪ ،‬عام ‪1958‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬أوالد الفقراء»‪.‬‬
‫‪« -‬حبيبي الأ�سمر»‪.‬‬
‫‪« -‬بنت ذوات»‪.‬‬
‫‪« -‬مفت�ش املباحث»‪ ،‬عام ‪1959‬م‪.‬‬
‫‪« -‬جوهرة»‪ ،‬عام ‪1943‬م‪.‬‬
‫‪« -‬النا�س اللي حتت»‪ ،‬عام ‪1960‬م‪.‬‬
‫‪« -‬طريق م�ستقيم»‪.‬‬
‫‪�« -‬إ�شاعة حب»‪.‬‬
‫‪« -‬برلنتي»‪ ،‬عام ‪1944‬م‪.‬‬
‫‪« -‬مال ون�ساء»‪.‬‬
‫‪�« -‬سيف اجلالد»‪.‬‬
‫‪« -‬مولد الر�سول»‪.‬‬
‫‪« -‬ابن احلداد»‪.‬‬
‫‪« -‬اخليانة العظمى»‪ ،‬عام ‪1962‬م‪.‬‬
‫‪« -‬غرام وانتقام»‪.‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫‪« -‬اال�ستعباد»‪.‬‬
‫‪�« -‬سفري جهنم»‪ ،‬عام ‪1945‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬أيام زمان»‪ ،‬عام ‪1963‬م‪.‬‬
‫‪« -‬الفنان العظيم»‪.‬‬
‫‪« -‬اعرتافات زوج»‪ ،‬عام ‪1964‬م‪.‬‬
‫‪« -‬بنات الريف»‪.‬‬
‫‪« -‬القاهرة ‪ ،»30‬عام ‪1966‬م‪.‬‬
‫‪« -‬يد اهلل»‪ ،‬عام ‪1946‬م‪.‬‬
‫‪« -‬نورا»‪ ،‬عام ‪1967‬م‪.‬‬
‫‪�« -‬ضحايا املدينة»‪.‬‬
‫‪« -‬كيف �رسقنا القنبلة الذرية؟»‪.‬‬
‫‪�« -‬شمعه حترتق»‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫‪�« -‬أزمة �سكن»‪ ،‬عام ‪1972‬م‪.‬‬ ‫‪�« -‬شنبو يف امل�صيدة»‪ ،‬عام ‪1968‬م‪.‬‬
‫‪« -‬البحث عن ف�ضيحة»‪ ،‬عام ‪1973‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬احللوة عزيزة»‪ ،‬عام ‪1969‬م‪.‬‬
‫‪« -‬زمان يا حب»‪.‬‬ ‫‪« -‬مريامار»‪.‬‬
‫‪« -‬البنات الزم تتجوز»‪.‬‬ ‫‪« -‬دلع البنات»‪.‬‬
‫‪« -‬حكايتي مع الزمان»‪.‬‬ ‫‪« -‬احلب الكبري»‪ ،‬عام ‪1970‬م‪.‬‬
‫‪« -‬الرداء الأبي�ض»‪ ،‬عام ‪1975‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬االختيار»‪ ،‬عام ‪1971‬م‪.‬‬
‫‪« -‬الب�ؤ�ساء»‪ ،‬عام ‪1978‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬ع�شق احلياة»‪.‬‬
‫‪�« -‬إ�سكندرية ليه»‪ ،‬عام ‪1979‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬موعد مع احلبيب»‪.‬‬
‫‪« -‬دماء على الثوب الوردي»‪ ،‬عام ‪1982‬م‪.‬‬ ‫‪« -‬عامل ال�شهرة»‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫‪70‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬
‫‪71‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫‪ 4‬فرباير ‪1942‬م‬
‫جابرييل واربورج‬
‫ترجمة الدكتور علي عفيفي علي غازي‬

‫‪72‬‬
‫ب�أن �أفعال المب�سون �أدت �إىل هبوط �شعبية حزب الوفد الذي �أتى‬ ‫ّمت توجيه هذا الإنذار بوا�سطة ال�سري مايلز المب�سون‬
‫به الإجنليز‪.‬‬ ‫(الحقًا اللورد كيلرين) املندوب ال�سامي الربيطاين يف القاهرة‬
‫يقول توم ليتل ‪ Tom Little‬يف كتاب م�رص احلديثة �أن‬ ‫�إىل امللك فاروق الأول يف ‪ 4‬فرباير ‪1942‬م‪ .‬وقد اعترب �أحد‬
‫اللورد كيلرين (ال�سري المب�سون) قد �أ�ضعف مثلث القوة يف م�رص‪،‬‬ ‫مالمح تاريخ م�رص ال�سيا�سي؛ �إذ �أذل الق�رص‪ ،‬و�أعاد الوفد �إىل‬
‫والذي من خالله ت�سري احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬والذي نتج عنه زيادة‬ ‫ال�سلطة بعد �أكرث من �أربع �سنوات من الإبعاد ال�سيا�سي‪ ،‬فعودة‬
‫ال�ضغينة بني الإجنليز وامللك من ناحية‪ ،‬كما �أن الإهانة العظمى‬ ‫الوفد مل تكن يف ظروف �سعيدة؛ لأنه كان بتدخل وبتهديد من‬
‫يف ‪ 4‬فرباير ‪1942‬م قد و�سعت امل�سافة بني امللك وال�شعب من‬ ‫اجلي�ش الربيطاين؛ ولي�س ب�شعبيته‪ .‬ونلحظ ونلم�س يف ال�سنتني‬
‫ناحية �أخرى‪ .‬وي�ست�شعر البع�ض �أن �أحداث فرباير قد �أ�ضعفت‬ ‫رئي�سا للوزراء‪ ،‬وبت�شكيله‬
‫الالحقتني عندما �أ�صبح النحا�س با�شا ً‬
‫كثريا من الت�أييد اجلماهريي ل�صالح‬ ‫حكومة وفدية خال�صة‪ ،‬االنحدار يف �شعبية الوفد‪ ،‬الذي تزامن‬
‫�شعبية حزب الوفد‪ ،‬الذي فقد ً‬
‫الإخوان امل�سلمني‪.‬‬ ‫مع �صعود احلركات الأخرى التي تزعمها الإخوان امل�سلمون‪.‬‬

‫من ال�رضوري كذلك �أن نُ�شري �إىل بع�ض كتابات ال�سيا�سيني‬ ‫ك�شفت ال�سجالت الربيطانية الر�سمية‪ ،‬التي تعاملت مع تلك‬
‫امل�رصييــن‪ ،‬وبع�ض �أفراد اجلي�ش امل�صـري عن �أحداث‬ ‫كثريا من التفا�صيل‪ ،‬وبالرغم‬
‫الفرتة‪ ،‬والتي باتت متاحة للعامة‪ً ،‬‬
‫فرباير ‪1942‬م ‪ .‬مثلاً ي�صف حممد ح�سني هيكل‪ ،‬بعد مرور‬ ‫من �أنها قليلة‪ ،‬ف�إنها دقيقة‪ ،‬و�أكرث �ضمانًا‪ .‬ولكن من ال�رضوري‬
‫‪� 10‬سنوات على احلدث‪ ،‬يف مذكراته‪ ،‬وخ�ص�ص ف�صلاً كاملاً‬ ‫�أن ن�سرتجع بع�ض املالحظات التي كتبها بع�ض امل�ؤرخني‬
‫لهذا اليوم الذي ال ُين�سى‪ ،‬فيقول‪ 4«:‬فرباير ‪1942‬م‪ ،‬من الأيام‬ ‫وال�سيا�سيني يف املا�ضي عن هذا املو�ضوع‪ .‬فقد اعترب جون مارلو‬
‫الأكرث �سوا ًدا يف التاريخ امل�رصي والتاريخ الإجنليزي يف م�رص‪،‬‬ ‫مطلبا �رضور ًّيا‪ ،‬وقد عرب عن هذا‬
‫‪ John Marlowe‬هذا الإنذار ً‬
‫يف �سطور قليلة‪� .‬إذ يقول عن ظروف تويل النحا�س ال�سلطة �أنها‬
‫ال ُي�ستخدم �ضده مع ا�ضمحالل‬ ‫�سالحا قات ً‬
‫ً‬ ‫«قدمت ملناف�سيه‬
‫احلماية الربيطانية»‪.‬‬
‫يذكر كذلك زكي حممد قر�شي ‪ Z. M. Quraishi‬يف تاريخه‬
‫عن الوفد‪ ،‬تفا�صيل كثرية لكنها غري دقيقة؛ فقد عرب عن و�صف‬
‫الأحداث التي �أدت �إىل الإنذار واملواجهة بني المب�سون وفاروق‪،‬‬
‫ُفي�شري �إىل �أنها املرة الأوىل التي تتدخل فيها احلكومة الربيطانية‬
‫يف حركة �شعبية يف م�رص‪ ،‬وتتو�سط لعودة حزب الوفد لل�سلطة‪.‬‬
‫ورحب العامة بهذه اخلطوة مبظاهرات من احلما�س وال�سعادة‪.‬‬
‫يدعيه �أنها مظاهرات احلما�س‪ ،‬فيذكر‬‫وي�ستطرد على الرغم مما ّ‬
‫�أن ظروف تويل الوفــد لل�سلطــة‪ ،‬مكنت امللـك من احل�شــد‬
‫والتدعيم للعنا�رص �ضد الوفد‪ ،‬واتهام الوفد باخليانة‪ ،‬ليحمي‬
‫عر�شه ومكانته‪.‬‬
‫جيدا �أن االحتاد �ضد‬
‫يعرف املالحظون لل�سيا�سات امل�رصية ً‬
‫عظيما‪ ،‬ومل يتطلب الإنذار الإجنليزي‪.‬‬‫ً‬ ‫الوفد مل يكن �إجنا ًزا‬
‫و�أكرث من ذلك ف�إن الوفد قد �أ�صبح يف عداد اخلائنني يف‬
‫بع�ض الدوائر يف �أعقاب توقيع املعاهدة امل�رصية الربيطانية‬
‫عام ‪1936‬م‪ .‬وال�ستعادة امللك فاروق ملكانته يقول‬
‫ماكربيد ‪� McBride‬أن ال�سرية الذاتية لفاروق �أخذت‬
‫حر�صا و�أكرث واقعية عندما و�صف‬ ‫ً‬ ‫اجتاها �أكرث‬
‫ً‬
‫الأ�سباب التي �أدت �إىل �إذالل فاروق‪ ،‬فهو ُي�رصح‬
‫ميال للحرب �ضد �أملانيا‪ .‬ومع دخول �إيطاليا احلرب؛ حيث‬ ‫يكن اً‬ ‫فهو اليوم الذي ُ�سجل يف التاريخ امل�رصي بجانب دن�شواي‪� ،‬أو‬
‫إيطاليا‪ ،‬بات اجلي�ش الإيطايل على‬
‫يقطن يف م�رص قرابة خم�سني � ًّ‬ ‫معركة التل الكبري‪� ،‬أو �رضب الإ�سكندرية بالقنابل‪� ،‬أو � ٍّأي من‬
‫مقربة من احلدود امل�رصية �سواء يف ليبيا �أو �إثيوبيا‪ .‬وكان علي‬ ‫تلك الأيام يف التاريخ امل�رصي‪ ،‬وال يمُ كن �أن تمُ حى عرب الأجيال»‪.‬‬
‫ماهر م�شمئ ًزا من م�ساندة بالده لإجنلرتا التي بدت كاحل�صان‬ ‫و ُي�رصح هيكل‪� ،‬أنه مل ي�ستطع‪ ،‬بالرغم مما بذله من جهود‪ ،‬خالل‬
‫اخلا�رس‪ .‬وهو ما �أدى �إىل �إجبار امللك على التخلي عن علي ماهر‬ ‫الع�رش �سنوات التي مرت منذ تلك الأحداث‪ ،‬تغطية التفا�صيل‬
‫يف ‪ 22‬يونية ‪1940‬م‪ ،‬وترتب على ذلك ت�شكيل حكومتني‪،‬‬ ‫الكاملة التي �أدت �إىل �أحداث ‪ 4‬فرباير‪.‬‬
‫كانتا على عالقات ودية بالإجنليز؛ الأوىل برئا�سة ح�سن �صربي‪،‬‬ ‫يذكر ثالثة من قادة ال�ضباط الأحرار حممد جنيب وجمال‬
‫والثانية برئا�سـة ح�سيـن �ســري‪ .‬وبالرغم من م�ساندة ودعم‬ ‫عبد النا�رص و�أنور ال�سادات‪� ،‬أحداث فرباير ‪1942‬م‪ ،‬يف‬
‫ال�سلطات الربيطانية‪ ،‬والأحرار الد�ستوريني وامل�ستقلني‪ ،‬املتمثلني‬ ‫كتاباتهم بعد �أحداث ثورة يوليو ‪1952‬م‪� .‬إذ ُي�رصح حممد جنيب‬
‫يف حكوماتهم‪ ،‬ف�إن احلكومة ظلت تـحظـى بكـراهية الق�صـر‬ ‫�أن �إذعان �أو ت�سليم فاروق للإنذار كان نقطة �سقوطه‪ ،‬وكان من‬
‫من ناحية‪ ،‬والوفد من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫العوامل الرئي�سة التي �أدت �إىل �أن ال�ضباط الأحرار قاموا بالثورة‬
‫يف ‪1952‬م‪� .‬أما جمال عبد النا�رص فقد و�صف يف كتابه الإنذار‬
‫انزوى الوفد �إىل �صفوف املعار�ضة منذ دي�سمرب ‪1937‬م‪،‬‬
‫ب�أنه كارثة‪ ،‬دفعت ال�ضباط الأحرار �إىل عدم االكتفاء باحلديث‬
‫وخ�رس انتخابات �إبريل ‪1938‬م‪ ،‬وبينما كانت كل الأحزاب‬
‫عن الف�ساد‪ ،‬ولكن �شجعهم على الت�ضحية بحياتهم يف �سبيل‬
‫مدعومة من امللك فاروق‪ ،‬كانت �أق�صى غاية لها هي �أن يظل‬
‫حفظ كرامة الوطن‪ .‬و ُيعرب �أنور ال�سادات عن �أحداث ‪1942‬م‪،‬‬
‫بعيدا عن ال�سلطة‪ ،‬وكان الوفد ُيحاول �أن يجعل دوره‬
‫الوفد ً‬
‫ب�أنها نقطة فا�صلة يف تاريخ م�رص املعا�رص‪ ،‬وقد �رصح ب�أنه نتيجة‬
‫القيادي مبثابة املمثل احلقيقي للوطنية امل�رصية‪ ،‬وقد ظهرت‬
‫االنقالب الإجنليزي يف ‪ 4‬فرباير ‪1942‬م‪ ،‬قد فر�ض الوفد على‬
‫للنور نوايا الوفد يف �إبريل ‪1940‬م عندما بعث مبذكرة �إىل‬
‫م�رص عامني من الديكتاتورية‪ .‬فعامان من ال�سم�رسة واالختال�س‬
‫ال�سري مايلز المب�سون يعرت�ض فيها على �إجراءات الطوارئ‪،‬‬
‫ا�ستحوذا على احلزب يف م�رص‪.‬‬
‫مطالبا ب�ضمان؛ من �أجل جالء القوات الإجنليزية عن م�رص‬
‫ً‬
‫بنهاية احلرب‪ ،‬وقبول اعرتاف بريطانيا العظمى بوحدة �شطري‬
‫‪ 4‬فرباير ‪1942‬م نقطة حتول يف قوة م�رص ال�سيا�سية‬
‫وادي النيل‪ ،‬م�رص وال�سودان‪ ،‬حتت التاج امل�رصي‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من رف�ض املندوب ال�سامي الربيطاين لتلك املذكرة‪،‬‬ ‫هذه الأمثلة القليلة تو�ضح �أن �أحداث ‪ 4‬فرباير ‪1942‬م‪،‬‬
‫وحام‬ ‫ف�إن ن�شـرها قد �أعاد الوفد للواجهة كمتحدث ر�سمــي‬ ‫وما بعدها يف نظر امل�ؤرخني وال�سيا�سيني كانت نقطة حتول يف‬
‫ٍ‬
‫للم�رصيني‪.‬‬ ‫قوة م�رص ال�سيا�سية‪ .‬فنجد �أن تناول الفرتة التي �سبقت �أحداث‬
‫تفهما �أف�ضل ل�صدمة الإنذار‪ .‬و ُي�شري �إىل �أنه‬
‫فرباير ‪1942‬م ُيعطي ً‬
‫متاحا‪ ،‬فالأهم من تلك‬
‫والآن نعود �إىل دليل �آخر‪� ،‬أ�صبح ً‬ ‫مع ا�شتعال �أور احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ف�إن احلكومة امل�رصية‪ ،‬التي‬
‫الأمور‪� ،‬أن النحا�س با�شا كان �أول الوا�صلني �إىل دار املندوب‬ ‫�شكلها حزب الأحرار الد�ستوريني‪ ،‬بقيادة علي ماهر‪ ،‬التزمت‬
‫ال�سامي الربيطاين يف القاهرة يف �أوائل يونية ‪1941‬م‪ ،‬بعد عام‬ ‫بتعهداتها باملعاهدة امل�رصية الإجنليزية لعام ‪1936‬م‪ ،‬بو�ضع‬
‫من �صدور تلك املذكرة؛ وذلك لكي ي�ؤكد على و�صوله لل�سلطة‬ ‫قانون جديد للخدمة الع�سكرية‪ ،‬وبقطع العالقات الدبلوما�سية‬
‫مب�ساندة الإجنليز‪ .‬ومما يثري الده�شة �أن الو�سيط بني النحا�س با�شا‬ ‫مع �أملانيا‪ .‬ومبوجب اخلطاب الذي �أ�صدره علي ماهر و�ضعت‬
‫وال�سفارة الإجنليزية كان �أمني عثمان با�شا‪ ،‬الذي كوفئ على‬ ‫م�رص نف�سها يف خدمة بريطانيا �أثناء احلرب‪ ،‬وكان لعلي ماهر؛‬
‫خدماته لربيطانيا �أثناء مفاو�ضات معاهدة عام ‪1936‬م‪ ،‬وكان‬ ‫رئي�س احلكومة امل�رصية حتى �أغ�سط�س ‪1939‬م‪ ،‬ت�أثريه القوي‬
‫حمل ثقة الإجنليز يف مواقف عدة‪.‬‬ ‫تناغما بني احلكومة والق�رص‪.‬‬ ‫يف امللك فاروق‪ ،‬وهو ما �أوجد‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫ً‬
‫�إال �أن بريطانيا العظمى‪ ،‬وهي ال�ضلع الثالث واملت�سلط يف مثلث‬
‫يف �إحدى املقابـالت مع ال�سيد (الحقًا ال�سري) �سمـارت‬
‫ال�سيا�سة يف م�رص كانت غري �سعيدة وغري را�ضية عن العالقة‬
‫‪W. Smart‬؛ �سكرتري ال�سفارة ل�شئون ال�رشق‪ ،‬جند �أن عثمان‬
‫احل�سنة بني علي ماهر وامللك فاروق‪.‬‬
‫با�شا‪ ،‬رافق النحا�س با�شا و�سانده يف �آرائه عن �شئون م�رص‬
‫الداخلية؛ حيث قدم النحا�س ثالثة مقرتحات لأجل حت�سني‬ ‫وبالرغم من �إذعان علي ماهر يف خطابه‪ ،‬و�إقراره مبعاهدة‬
‫العالقات امل�رصية الإجنليزية‪ ،‬والتي كانت كلها تن�رصف �إىل‬ ‫‪1936‬م‪ ،‬ف�إنه رف�ض تقدمي �أي تعهدات للإجنليز‪ ،‬كما �أنه مل‬

‫‪74‬‬
‫وكان ال�سبب الأول الذي �أدى �إىل الكارثة هو �ضعف‬ ‫قبول ا�ستقالة احلكومة وحل املجال�س النيابية التي كان يمُ ثل‬
‫موقف ح�سني �رسي كرئي�س للحكومة �أمام الق�رص‪ ،‬وخلفه علي‬ ‫الوفد فيها �أقلية‪.‬‬
‫ماهر‪ ،‬الذي ا�ستطاع �أن ُيقنع امللك فاروق بذلك‪ .‬وقد كان والء‬
‫�أما احللول الثالثة فهي‪:‬‬
‫ح�سيـن �سـري لنا (بريطانيا العظمى) قد �أدى �إىل �أن يخـ�ضــع‬
‫لالهتمامات الربيطانية‪ ،‬ومع �ضمان الدعم الكامل‪ ،‬كل‬ ‫ت�شكيل جمل�س وزراء وفدي بقيادته (النحا�س با�شا)‪.‬‬
‫التفاعالت �ضد العنا�رص الإنـجليزيــة داخل وخــارج الق�صـر‪،‬‬ ‫ت�شكيل جمل�س وزراء ائتاليف بقيادته (النحا�س با�شا)‪.‬‬
‫الوطنيني‪ ،‬والإخوان امل�سلمني‪ ،‬والأزهر‪ ،‬وم�ؤيدي علي ماهر‬
‫ت�شكيل جمل�س وزراء غري حزبي بقيادة ح�سني �رسي با�شا‬
‫با�شا‪ ،‬مت تنظيمهم عرب الإدارة‪ ،‬واحتاد الطلبة يف اجلامعة‪ ،‬رتبت‬
‫مع جبهته لتدعمه‪.‬‬
‫لتكون مبثابة حمالت م�ستمرة �ضد �رسي با�شا ك�أداة للإجنليز‪.‬‬
‫وهذا بدوره �أ�ضعف مركزه يف الربملان؛ حيث انت�رص للأغلبية‪،‬‬ ‫ومتادى �أمني عثمان يف حتذيره لربيطانيا؛ �إما �أن يعود الوفد‬
‫لذلك كان عليه االعتماد على دعم الأحزاب الأخرى‪ ،‬مع‬ ‫�إىل ال�سلطة‪� ،‬أو �أنه ي�ؤكد �إمكانية قيام مقاومة �ضد الإجنليز من قبل‬
‫حزب ال�سعديني والأحرار الد�ستوريني‪ ،‬والوفد‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منهم كان‬ ‫الوفد‪ ،‬ولذلك ف�إنه اقرتح تدخل الإجنليز مل�ساعدة النحا�س با�شا‬
‫ُيريد ال�سلطة‪ ،‬وهو ما �أدى �إىل �أن بات موقف ح�سني �رسي با�شا‬ ‫يف حتقيق �أهدافه‪ ،‬وقد ذكر �أن الوفد مقتنع ب�أننا (دار املندوب‬
‫�صعبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ال�سامي الربيطاين يف القاهرة) نعمل ما ن�شاء يف م�رص‪ ،‬و�أي تدخل‬
‫وقد �أكد المب�سون على �أن الو�ضع ال�سيا�سي الداخلي كان‬ ‫من قبلنا ي�صب يف م�صلحة الوفد‪.‬‬
‫يحمل �أ�سباب �سقوط �رسي با�شا‪ ،‬والتي ُيجملها يف النقاط التالية‪:‬‬ ‫ومن الوا�ضح �أن الوفد قد �أمن اقرتابه بخطوات حذرة‪،‬‬
‫مل تكن هناك حكومة حتت �سلطة النظام ال�سابق راغبة يف التعاون‬ ‫والتي تتبعها بوا�سطة غزو الأملان للبلقان يف ربيع عام ‪1941‬م‪،‬‬
‫معنا‪ ،‬وتُبقي على دعم امللك‪ ،‬وبدونها وبغياب الظهري ال�شعبي‪،‬‬ ‫وقد ارتبطت بامل�شاعر املتنامية بني امل�رصيني من الطبقة احلاكمة‪،‬‬
‫ومل تكن ت�ستطيع التعامل مع الربملان غري املنتخب‪ ،‬والذي على‬ ‫والتي قويت بعد غزو �أملانيا لرو�سيا يف يونية ‪1941‬م‪ ،‬واالنت�صار‬
‫�أ�سا�سه اعتمدت احلكومة‪ .‬هناك العديد من امل�شكالت الداخلية‬ ‫الأملاين مل يكن �أكرث من انت�صار بريطاين‪ ،‬ولكنه كان الأقل من‬
‫�أ�ضيفت �إىل �صعوبات �رسي؛ منها �ضعف ح�صاد املح�صول يف‬ ‫تلك ال�رشور‪ .‬ومن كلمات المب�سون �أن «الوفد ا�ستخدم اخلطر‬
‫�سببا يف تقليل م�ساحة القطن املزروعة‪،‬‬ ‫عام ‪1941‬م الذي كان ً‬ ‫احلايل لت�سهيل عودتهم �إىل احلكم»‪.‬‬
‫أي�ضا اتخذت‬‫وهدفها هو زيادة امل�ساحة املزروعة باحلبوب‪ .‬و� ً‬
‫التدابري ملنع االحتكار والتخزين للحفاظ على �سعر احلبوب‪.‬‬ ‫وقد �رصح المب�سون ب�أن الرغبة يف تقوية حكومة ح�سني �رسي‬
‫أرا�ض‪ ،‬وكانوا مت�أثرين‬ ‫ال من المب�سون‬ ‫عن طريق م�شاركة الوفد على الرغم من �أن ك ًّ‬
‫عدد من �أع�ضاء الربملان كانوا �أ�صحاب � ٍ‬
‫أ�رص �رسي على تلك الإجراءات‪ ،‬والتي بدورها‬ ‫ور�ؤ�ساء احلكومة الربيطانية الذين ا�ست�شاروهم كانوا على ر�أي‬
‫بتلك التدابري‪ ،‬و� ّ‬
‫�أدت �إىل �أن باتت �سيا�سته غري مقبولة‪ ،‬و�أدت �إىل ارتفاع املعي�شة‪.‬‬ ‫واحد ب�أنه لي�س من الرغبة وال احلكمة لنا �أن نتدخل يف ذلك‬
‫أي�ضا عدم ت�أكدنا من �أن احلكومة الوفدية تُذعن لر�أينا‪.‬‬
‫احلل‪ ،‬و� ً‬
‫ويف الو�ضع الداخلي‪ ،‬اتهم المب�سون �رسي با�شا ب�أنه كان‬ ‫لذلك احلل الأف�ضل هو ت�شجيع الأحزاب لأجل الو�صول �إىل‬
‫أي�ضا‬
‫�سلميا مع م�سببي ال�شغب يف م�رص؛ مثل الإخوان امل�سلمني‪ً � .‬‬‫ًّ‬ ‫اتفاق ُيحقق الوحدة ال�سيا�سية‪ .‬وهذه الأمنية غري الواقعية كانت‬
‫هناك امل�شكالت املتعلقة بالرقابة التي تعود �إىل �إ�رصار المب�سون‪،‬‬ ‫قد و�صفت من قبل بع�ض موظفي مكاتب الأجانب ب�أنها رائعة‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫والتي �أدت �إىل حماكمات برملانية‪ .‬واملوقف غري الثابت وغري‬


‫وا�ضحا وال يلزمه‬ ‫املقبول من ال�شعب من حكومة �رسي كان‬ ‫ومن الوا�ضح �أن فكرة تدخل الإجنليز يف �شئون م�رص‬
‫ً‬
‫برهان‪.‬‬ ‫ال�سيا�سية الداخلية �صدرت يف يونية ‪1941‬م من قبل الوفد‪،‬‬
‫ولي�ست من ال�سفارة الربيطانية‪ .‬وقد ت�سببت الأحداث التي‬
‫وال�ستكمال ال�صورة ف�إنه يجب االطالع علىالأحداث‬ ‫وقعت بني يونية ‪1941‬م ويناير ‪1942‬م يف �إحداث تغري‬
‫الع�سكرية وال�سيا�سية املحيطة مب�رص؛ مثل قيام ر�شيد علي‬ ‫كامل يف مواقف بريطانيا‪ .‬وقد ت�سبب �إنذار ‪ 4‬فرباير يف جعل‬
‫(الكيالين) يف العراق‪ ،‬والذي �أدى �إىل ال�شعور بعدم الراحة‬ ‫قدر �أهمية تتبع التفكري الذي قدم كمذكرة �رسية �إىل‬
‫المب�سون ُي ِّ‬
‫يف م�رص‪ ،‬طبقًا لأنور ال�سادات الذي كان يف ذلك الوقت �ضد‬ ‫�إيدن كتبت بعد الأحداث‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وهو الالفت ما بني موقف المب�سون من فاروق‪ ،‬وموقف اللورد‬ ‫الأملان مع عزيز علي امل�رصي‪ ،‬وكانت �إحدى الدعوات الأوىل‬
‫كرومر من ال�سلطان ال�شاب عبا�س حلمي الثاين‪ ،‬منذ خم�سني‬ ‫للتحرير يف العامل العربي‪ .‬ومع نك�سة الإجنليز يف ليبيا‪ ،‬ومع‬
‫عا ًما م�ضت‪ .‬ونظر المب�سون للملك فاروق‪ ،‬ذي الع�رشين‬ ‫ازدياد التوقعات يف جناح الغزو الأملاين مل�رص‪ ،‬ويف دائرة العالقات‬
‫نوعا من‬
‫عا ًما‪ ،‬والذي ي�صغره ب�أربعني عا ًما‪ ،‬واعترب �أن ما قام به ً‬ ‫اخلارجية‪ ،‬والتي تتعلق ب�أزمة في�شي ‪ Vichy‬والتي �أدت �إىل ت�أجيج‬
‫قادرا على املناورة‪ ،‬والمب�سون قادر على‬‫التبجح‪ ،‬وهو ال يزال ً‬ ‫التظاهرات ال�سيا�سية �ضد احلكومة والأباطرة الإجنليز‪ ،‬والتي‬
‫اال�ستقاللية‪.‬‬ ‫ُحر�ضت من قبل الق�رص من خالل علي ماهر‪ ،‬وال�شيخ م�صطفى‬
‫املراغي؛ �شيخ الأزهر حتى وفاته يف عام ‪1945‬م‪ ،‬وهو من �أكرب‬
‫ظهرا‪ ،‬يف نف�س يوم الإنذار‪ ،‬التقى ال�سري‬‫يف ال�ساعة الثالثة ً‬ ‫املحر�ضني ل�سيا�سة فاروق الإ�سالمية‪.‬‬
‫مايلز المب�سون بامللك فاروق يف الق�رص بح�ضور ‪� 17‬شخ�صية‬
‫وجند �أن كارثة في�شي روجت من قبل الإجنليز �أن م�رص‬
‫�سيا�سية قيادية‪ ،‬ومنهم النحا�س با�شا‪ ،‬لي�صل �إىل توافق �أن ُيبقيه‬
‫ع ّلقت التواجد الدبلوما�سي مع في�شي‪ ،‬وهذا الأمر كان قد ّمت‬
‫يف ال�سلطة مع عدم االلتزام بالأوامر الربيطانية‪ .‬وقد و�صفت‬
‫ت�أخريه لعدة �شهور؛ وذلك ب�سبب رف�ض فاروق االمتثال لرغبة‬
‫املقابلة ونتائجها من قبل �أحد احل�ضور‪ ،‬وهو حممد ح�سنني‬
‫أخريا عندما �أراد �رسي با�شا �أن يتخذ خطوة يف‬ ‫الإجنليز‪ .‬و� ً‬
‫هيكل‪ ،‬وقد وجه بدوره اللوم �إىل النحا�س با�شا ب�سبب التدخل‬
‫يناير‪1942‬م‪ ،‬قام بذلك بدون تعريف امللك فاروق‪ ،‬وكان ذلك‬
‫الإجنليزي ونتائجه‪ .‬ويف ر�أيه �أنه كان من املمكن تفادي هذا‬
‫مبخالفة االمتياز امللكي‪ .‬وكان امللك يخ�شى املواجهة املبا�رشة‬
‫التدخل لو وافق النحا�س با�شا على ت�شكيل حكومة ائتالف‬
‫مع ال�سلطات الربيطانية‪ ،‬التي امتنعت عن رف�ض حكومة �رسي‪،‬‬
‫بدل من حكومة وفدية فقط‪ .‬وبعد �صدور الإنذار �أح�س‬ ‫وطني اً‬
‫واختارت وزير اخلارجية امل�رصي ككب�ش فداء‪.‬‬
‫هيكل �أن ال�سفارة الربيطانية كانت �سرت�ضى عن حكومة ائتالفية‬
‫برئا�سة النحا�س با�شا‪ ،‬لكن الأخري كان غري راغب يف حل و�سط‪،‬‬ ‫لالقتبا�س من �إنذار المب�سون مرة �أخرى‪ :‬يف هذه النقطة‬
‫ورف�ض كل احللول التي قُدمت من قبل احل�ضور‪.‬‬ ‫�شعرت ُملز ًما بدخول احلدث‪ ،‬وكنت مجُ ًربا �أن �أ�شري �إىل �أن‬
‫�رسي با�شا وح�سنني با�شا‪ ،‬مل يكونا مرغمني على تقدمي الت�ضحية‬
‫جتاهل النحا�س با�شا للإنذار‬ ‫بوزير اخلارجية لت�ؤثر على القرار الذي اتخذه رئي�س الوزراء‬
‫وحكومته‪.‬‬
‫وحافظ النحا�س با�شا على املن�صب الذي �أخذه يف البداية‪،‬‬
‫وقد جتاهل الإنذار‪ ،‬و�أعلن �أنه راغب يف ت�شكيل حكومة �إذا كان‬ ‫بنا ًء على ذلك ف�إن �إقالة وزير اخلارجية مل تكن مقبولة‪ ،‬لكن‬
‫جيدا �أن هذا كله مبثابة‬
‫مكلفًا للقيام بذلك من امللك‪ ،‬مع العلم ً‬ ‫املواجهة املفتوحة بني حكومة �رسي والق�رص‪ ،‬والتظاهرات‬
‫خ�ضوع من امللك للإنذار الربيطاين‪.‬‬ ‫احلا�شدة‪ ،‬التي نُظمت �ضده و�ضد ال�سلطات الربيطانية حتت‬
‫قادرا على �أن ي�ستعيد ثقة‬
‫�شعار «يحيا روميل» وبالتايل مل يعد ً‬
‫و ّمت رف�ض ذلك من قبل القادة الآخرين‪ ،‬وهو ما �أدى‬ ‫ودعم الربملان‪ ،‬ويف النهاية �أُجرب �رسي على تقدمي ا�ستقالته �إىل‬
‫�إىل نتيجة واحدة من هذا اللقاء‪ ،‬وهي قرار وقع من قبل كل‬ ‫امللك يف الأول من فرباير ‪1942‬م‪.‬‬
‫احلا�رضين من بينهم النحا�س با�شا‪ ،‬هو االحتجاج �ضد التدخل‬
‫وقرر المب�سون‪ ،‬بدعم من �إيدن ‪� ،Eden‬أن يتدخل‪ ،‬و ُيجرب‬
‫الإجنليزي يف ال�شئون الداخلية امل�رصية‪ ،‬و�إدانة تقوي�ض ال�سيادة‬
‫امللك فاروق عرب ح�سنني با�شا �أن احلل الأوحد للكارثة هو‬
‫واال�ستقالل امل�رصيني‪ .‬وعر�ض هذا القرار على ال�سفارة الربيطانية‬
‫ت�شكيل حكومة حتت قيادة النحا�س با�شا‪ ،‬باعتباره ممثلاً حلزب‬
‫ب�أوامر ملكية يف ال�ساعة ال�ساد�سة والربع م�سا ًء‪� ،‬أي بعد �إنذار‬
‫الأغلبية يف م�رص‪ .‬ومل ينجح امللك فاروق يف �إقناع النحا�س با�شا‬
‫المب�سون بحوايل خم�سة ع�رشة دقيقة‪ ،‬وقد ر�آه المب�سون على‬
‫�شكل حكومة ائتالفية‪ ،‬ورف�ض مطلب المب�سون‪ ،‬وهو ما �أدى‬ ‫ُلي ِّ‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫�أنه رف�ض للن�صيحة‪ ،‬لكنه طلب مقابلة �رسيعة مع امللك‪ .‬وح�سب‬


‫�إىل تدبري متطرف مت يف الثالثة �أيام التالية‪ ،‬و�أدى بامللك لأن يدعو‬
‫رواية المب�سون‪ ،‬يف التا�سعة م�سا ًء و�صل �إىل الق�رص ب�صحبة‬
‫النحا�س با�شا لت�شكيل احلكومة اجلديدة من اختياره و�أن يواجه‬
‫اجلرنال �سيتون؛ قائد القوات الربيطانية يف م�رص وجمموعة مميزة‬
‫العواقب‪.‬‬
‫من �ضباط اجلي�ش‪ ،‬خا�صة قادة القوات امل�سلحة‪ ،‬وخالل انتظارنا‬
‫�سمعنا حترك (قعقعة) الدبابات وال�سيارات املدرعة ت�أخذ مكانها‬ ‫ويف هذه النقطة نرى �أنه من املُ�ستح�سن النظر يف العالقات‬
‫حول الق�رص‪.‬‬ ‫ال�شخ�صية بني ال�سفري الربيطاين وامللك امل�رصي‪ ،‬وهناك ت�شابه‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫ونا�شد النحا�س با�شا المب�سون تبادل ر�سائل ت�ؤكد االلتزام‬ ‫كان االجتماع ما بني ال�سري مايلز المب�سون وامللك فاروق‬
‫الربيطاين ب�رشوط معاهدة ‪1936‬م‪ ،‬وااللتزام بعدم التدخل‬ ‫قت�ضبا‪ ،‬ومن بني احل�سابات التي كتبت �أو قيلت عن مقابلة‬‫ُم ً‬
‫يف ال�شئون امل�رصية الداخلية‪ .‬وت�ؤكد اخلطابات املتبادلة يف‬ ‫أول ب�سبب �أنها كتبت بعد‬‫المب�سون كانت مقاربة للحقيقة‪ � ،‬اً‬
‫‪ 5‬فرباير �أن النحا�س با�شا قد وافق على ت�شكيل حكومة بنا ًء على‬ ‫وثانيا �أن هذا‬
‫ً‬ ‫احلدث بوا�سطة واحد �أو اثنني من امل�شاركني‪،‬‬
‫تكليف من امللك‪ ،‬وممار�سته �صالحياته الد�ستورية مع عدم وجود‬ ‫التقرير ال ُيـمجد المب�سون ب�أية طريقة‪ ،‬ولكن بالأحـرى كان‬
‫�أي تدخل خارجي يف ال�شئون الداخلية للبالد‪ ،‬خا�صة ت�شكيل‬ ‫مبثابـة بيـان‪.‬‬
‫الوزارة وقبول ا�ستقالتها‪� ،‬أو �إقالتها‪ .‬وتلك اخلطابات ن�رشت‬ ‫البيان �شفوي من ال�سري المب�سون‬
‫على النحو الواجب بق�صد �إعادة االعتبار للنحا�س با�شا‪.‬‬
‫�أعلم ال�سري مايلز المب�سون امللك فاروق ببيان �شفوي‪،‬‬
‫وتقدم �أمني عثمان بداية من التقارب بني النحا�س با�شا‬ ‫يقول فيه «بو�ضوح‪ ،‬جاللتك غري منا�سب للعر�ش»‪ .‬وبعد‬
‫والمب�سون بالن�صح لل�سري المب�سون بتقلي�ص املن�صب الوزاري‪،‬‬ ‫البيان‪� ،‬س ّلم المب�سون امللك خطاب تنازله عن العر�ش‪ ،‬وطلب‬
‫أثريا‪ ،‬و�أكثـر‬
‫وتعيينه ك�أمني عام ملجل�س الوزراء‪ ،‬ليكون �أكثـر ت� ً‬ ‫منه توقيعه يف احلال‪ ،‬و�إال �ستكون هناك مواجهات ع�سكرية‪.‬‬
‫فائدة لنا كظل قوي للنحا�س با�شا‪.‬‬ ‫وقد �رصح المب�سون �أنه كان ُيريد �أن يتنازل فاروق عن العر�ش‪.‬‬
‫بعد ب�ضعة �أ�سابيع من ت�شكيل النحا�س با�شا للوزارة‪� ،‬أ�صدر‬ ‫وكان فاروق �سيوقع التنازل لوال تدخل ح�سنني بكلمات باللغة‬
‫ملكيا يق�ضي بتعيني �أمني عثمان يف من�صب‬ ‫قرارا‬ ‫العربية‪ ،‬ومل يفهمها المب�سون‪ ،‬و�أ�شار �إىل اقرتاح ا�ستدعاء‬
‫ًّ‬ ‫امللك فاروق ً‬
‫�شكل حكومة من اختياره‪ ،‬مل ُيذكر من قبل‬ ‫النحا�س با�شا ُلي ِّ‬
‫رئي�س ديوان املحا�سبة‪ ،‬والذي كان مبثابة و�سيط االت�صال بني‬
‫رئي�س الوزراء وال�سفري الربيطاين امللك فاروق‪ ،‬وح�صل �أمني‬ ‫ال�سري مايلز المب�سون كبديل للتنازل عن العر�ش‪ ،‬ولكن امللك‬
‫تقديرا لذلك على لقب فار�س من ملكة بريطانيا‪� ،‬إال‬ ‫عثمان‬ ‫هو الذي اقرتحه وقبله المب�سون على م�ض�ض‪ .‬وكان المب�سون‬
‫ً‬
‫�أنه اغتيل يف يناير ‪1946‬م؛ رمبا ب�سبب �آرائه املوالية للإجنليز‪.‬‬ ‫ُيفكر بجدية يف تنازل فاروق عن العر�ش‪ ،‬والذي اعتقد �أنه كان‬
‫هو املخرج‪ ،‬لكنه ر�أى �أن من احلكمة‪� ،‬أن ي�سمح له ب�أن ُير�سل‬
‫جدا يف نقطة �أخرى‪ ،‬وهي اجلهة‬ ‫�رصيحا ًّ‬
‫ً‬ ‫وكان المب�سون‬ ‫أخريا وافق يف ال�ساد�سة م�سا ًء‪ ،‬ونحن‬
‫يف طلب النحا�س با�شا و� ً‬
‫امل�سئولة عن ت�شويه احلقيقة عن مقابلته التاريخية مع امللك‬ ‫(الإجنليز) يجب �أن نقبل باحلل‪ ،‬احلقيقة �أن القبول ت�أخر ثالث‬
‫فاروق‪« :‬جتنب م�شاعر جاللتك‪ ،‬كنت قد وافقته طلبه �أن تظل‬ ‫�صعبا على امللك‪ ،‬و�أعتقد �أنه‬
‫قرارا ً‬
‫�ساعات‪ ،‬وفيما يبدو �أنه كان ً‬
‫�أعمالنا يف تلك الليلة داخل الأربعة جدران‪ ،‬كان هناك تفاهم‬ ‫كان محُ قًّا يف ذلك‪.‬‬
‫�صارم من جانبنا ولي�س من جانبهم‪ ،‬وكان حدي ًثا ما بني امل�رصيني‬
‫مبا فيهم الوفديني‪ ،‬بعد �أن فر�ضت من قبل احلراب الربيطانية‪،‬‬ ‫وا�ضحا‪ ،‬و ُي�ساعد على‬
‫ً‬ ‫جعل هذا الت�رصيح موقف المب�سون‬
‫وهذا كان مخُ الفًا للحقيقة‪ .‬والدبابات الربيطانية قد تدخلت‬ ‫فهم التفا�صيل القليلة‪ ،‬والإ�صدارات القليلة التي ذكرت ل�سنوات‬
‫إخال�صا مل ُيك�شف»‪.‬‬ ‫لغر�ض �آخر‪ ،‬والذي كان من ناحيتنا �‬ ‫عديدة الحقًا بعد الأحداث من قبل اثنني من امل�شاركني؛‬
‫ً‬
‫امللك فاروق‪ ،‬واجلرنال �سيتون‪ .‬وعن �صدق ف�إن ال�سري مايلز‬
‫و�ضوحا يف خطاب المب�سون يف ‪ 12‬مار�س؛ حيث‬ ‫ً‬ ‫الأكرث‬ ‫وا�ضحا يف نهاية البيان عندما‬ ‫المب�سون يف تلك الق�ضية‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫ً‬
‫�ساخطا‪،‬‬ ‫ا�ستعر�ض امل�شهد ال�سيا�سي امل�رصي‪ ،‬اجلمهور كان كله‬ ‫كتب‪« :‬كثري من الأحداث يف تلك الليلة‪ ،‬التي �أعرتف �أنني‬
‫�سيتم تذكره خا�صة‬
‫ّ‬ ‫ُيقال يف ق�صة حقيقية �أن امللك فاروق‬ ‫وقحا‪ ،‬حدث‬ ‫حد ما ً‬ ‫ال يمُ كن �أن �أ�ستمتع �أكرث‪ ،‬وكان ذلك �إىل ٍّ‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫يف �س�ؤال املقابلة معه يف ‪ 4‬فرباير‪� ،‬أن مو�ضوع تنازله عن العر�ش‬ ‫ذلك بعد املقابلة التي كان المب�سون ُيف�ضل فيها تنازل فاروق‬
‫�ســرا بني الأربعـة �أفراد الذين ح�ضـروا اللقـاء‪.‬‬
‫�سيظل ًّ‬ ‫فخورا مبا حققه‪ ،‬وكان بطريقة ما يريد �أن‬ ‫عن العر�ش‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫هناك تفا�صيل هامة قد ر�أت النور بوا�سطة م�صدر جديد‪،‬‬ ‫ي�صمت �أو ُيعيد كتابة �أحداث هذا اليوم»‪ .‬وكان من امل�ستغرب‬
‫�أو ًال �أن النحا�س با�شا و�صل �إىل ال�سفارة لي�ضمن �سالمة و�صوله‬ ‫�أن النحا�س با�شا قد هوجم ب�شدة من قبل القادة ال�سيا�سيني‬
‫وثانيا �أن حترك المب�سون يف �أحداث‬
‫للحكم قبل �إنذار ‪ 4‬فرباير‪ً .‬‬ ‫امل�رصيني ب�سبب دوره يف تلك الأحداث‪ ،‬على الرغم من �أنه من‬
‫ذلك اليوم كان لت�أمني تنازل فاروق عن العر�ش‪ ،‬و�أن تكليف‬ ‫غري املرجح �أنهم عرفوا �أن النحـا�س هو من �أوائل من اقرتحوا‬
‫ال ً‬
‫و�سطا قبله امللك فاروق‬ ‫النحا�س با�شا بت�شكيل الوزارة‪ ،‬كان ح ًّ‬ ‫التدخل الربيطاين‪ .‬وتبعه خطـاب قـوي مبثابة احتجـاج من قبل‬
‫بنا ًء على ن�صيحة ح�سنني با�شا‪.‬‬ ‫�أحمد ماهر؛ رئي�س جمل�س النواب‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫طارق �إبراهيم احل�سيني‬

‫�أُقيم هذا ال�رصح ال�شامخ ليكون املقر الرئي�س لل�رشكة‬ ‫�إذا تقرر �أن الثغور مر�آة تنعك�س عليها �صورة ما يف البالد‬
‫العاملية لقناة ال�سوي�س‪ ،‬ولقد جاءت فكرة بنائه نتيجة ملتطلبات‬ ‫من مدنيات يف مرفقها ومعاملها‪ ،‬كان وجود مبنى القبة �أو الدار‬
‫عامة فر�ضتها ظروف الع�رص ومتغرياته احلديثة التي �أملت على‬ ‫البي�ضاء ‪ -‬كما �أطلق عليه م�ؤرخ مدن القناة ف�ؤاد فرج ‪� -‬ألزم ما‬
‫ال�رشكة �إدخال هذا النوع من املباين لزوم �صياغة وحتديث‬ ‫يكون ليظهر الثغر يف مظهره الأهلي الالئق به‪ .‬وعليه جاء املبنى‬
‫الهيكل الإداري بها‪ ،‬واملبنى يواجه ال�سفن والقادم من‬ ‫الإداري ل�رشكة قناة ال�سوي�س �أحد �أبرز العناوين بني من�ش�آت‬
‫كح ْ�صن معرب وكمدخل رئي�س للثغر الوليد‪.‬‬ ‫جهة ال�شمال ِ‬ ‫مدينة بور�سعيد‪ ،‬بل الأهم والأ�شهر بني املباين التي �أقامتها‬
‫وتبدو القوة املعمارية التي تنبع منه كان مردها �إىل و�ضوح‬ ‫ال�رشكة العاملية لقناة ال�سوي�س يف ُمدن القناة قاطبة‪ .‬ويمُ كن‬
‫التكوين وحجم مقايي�س البناء‪ ،‬والتي تمَ ّكن املعماري فيها من‬ ‫القول عنه �إنه املبنى التاريخي الرئي�س ملكاتب و�إدارة �رشكة قناة‬
‫ا�ستنباط عدد من الأمناط املعمارية من منابع فكرية عاملية عديدة‪،‬‬ ‫ال�سوي�س ببور�سعيد؛ حيث كان وما زال ي�ستخدم ملتابعة حركة‬
‫�إ�ضافة ملفاهيم جمالية وتقنيات و�أ�شكال �إن�شائية حديثة يف‬ ‫ال�سفن املارة بالقناة‪ ،‬وي�رشف ب�شكل مبا�رش على ال�شاطئ الغربي‬
‫مواءمة تامة ملوقع مميز بامتداد م�سطحات مياه حميطة به‪ ،‬فظهرت‬ ‫للقناة يف مواجهة لل�سفن العابرة للمجرى املالحي ذها ًبا و�إيا ًبا‬
‫كو�سيط يف�صله عن بقية املن�ش�آت املجاورة له فبدا وك�أنه مبنى‬ ‫عرب جمرى القناة‪ ،‬وما ميثله من داللة رمزية ل�سيادة امل�ؤ�س�سة على‬
‫عائم على �صفحة القناة‪.‬‬ ‫املجرى املالحي العاملي‪.‬‬
‫املوقع‬ ‫من جهة �أُخرى حاول املعماري �أن ي�ستغل بع�ض مفردات‬
‫يقع املبنى يف حي ال�رشق يف نهاية �شارع اجلمهورية‪ ،‬ال�سلطان‬ ‫وعنا�رص العمارة الإ�سالمية امل�رشقية‪ ،‬التي جاءت على املبنى‬
‫عثمان �سابقًا‪ ،‬وبداية �شارع م�صطفى كامل‪ ،‬واجهورن �سابقًا‪،‬‬ ‫وا�ضحة و�رصيحة؛ كالقباب يك�سوها بالطات القا�شاين يعلوها‬
‫واملبنى محُ اط باملاء من ثالث جهات‪ ،‬الواجهة ال�رشقية تُ�رشف‬ ‫�أهلة تُ�شري اىل مدخل القناة‪ ،‬والبائكة ذات العقود املخمو�سة التي‬
‫على املجرى املالحي للقناة فيما ُيعرف بحو�ض �إ�سماعيل‪ ،‬ومن‬ ‫تدور بواجهات املبنى للو�صول �إىل الطابع ال�رشقي املميز الذي‬
‫اجلهة ال�شمالية جند حو�ض التجارة‪� .‬أما اجلهة اجلنوبية فت�رشف‬ ‫�أ�ضفى على املبنى طاب ًعا من الفخامة واجلمال‪.‬‬
‫على حو�ض الرت�سانة و�رشيف‪ .‬هذا ويتمتع املوقع مبميزات‬ ‫ويبدو �أن اختيار ميناء بور�سعيد ليكون بها املقر الإداري‬
‫عمرانية و�سياحية وثقافية هامة؛ ذلك ملا ُيحيطه من مبانٍ �أثرية‬ ‫الرئي�س لل�رشكة كان مرجعه وقوع امليناء على املدخل ال�شمايل‬
‫وتراثية و�إطاللته على �أحوا�ض القناة‪ ،‬و�إ�رشافه على املجرى‬ ‫للقناة �إ�ضافة �إىل تطور امليناء ب�شكل �رسيع حتى غدا املمر الرئي�س‬
‫املالحي مدخل القناة ال�شمايل‪.‬‬ ‫لتجارة العامل العابرة بني ال�رشق والغرب‪ ،‬وملتقى الأجنا�س‬
‫ال عن �إعادة قناة‬ ‫الب�رشية من م�شارق الأر�ض ومغاربها‪ .‬ف�ض ً‬
‫الإن�شاء‬ ‫ال�سوي�س البحر املتو�سط كمجرى رئي�س للتجارة الدولية العابرة‪.‬‬
‫�شرُ ع يف ت�شييد هذا ال�رصح بداية من عام ‪1890‬م‪ ،‬وذلك‬ ‫وعليه جاء موقع البناء من �أهم و�أبرز عنا�رص التكوين‪ ،‬حني راعت‬
‫عندما اتخذت ال�رشكة العاملية لقناة ال�سوي�س للمالحة البحرية‬ ‫ال�رشكة ُح�سن االختيار واملواءمة التامة لطبيعة عمله وت�صميمه‬
‫عو�ضا عن املبنى‬
‫ً‬ ‫القرار ببناء مبنى �إداري جديد لها ببور�سعيد‬ ‫ك�أكرب من�ش�أة �إدارية لها يف ُمدن القناة‪ ،‬وبها املقر الرئي�س للرئي�س‬
‫اخل�شبي القدمي‪ ،‬ويف املوقع نف�سه على النا�صية الفا�صلة بني‬ ‫الأعلى لل�رشكة العاملية مب�رص‪ .‬وفُ�ضل املوقع ملا يتمتع به من �سمات‬
‫حو�ض التجارة وحو�ض الرت�سانة يف اجلهة الغربية من القناة‪.‬‬ ‫عديدة متيزه عن غريه من مواقع امليناء‪ ،‬فجاء منف�صلاً �إىل ٍّ‬
‫حد ما‬
‫وقد وقع اختيار ال�رشكة على املعماري الباري�سي �شارل ماريت‬ ‫عن ما �سيكون يف امل�ستقبل من تكد�س وازدحام‪ ،‬حتيطه املياه‬
‫‪ Charles Marette‬ليقوم بو�ضع الدرا�سات اخلا�صة بت�صميم‬ ‫من ثالث جهات عملت كو�سيط يف�صله عن بقية املن�ش�آت‬
‫املبنى اجلديد‪ ،‬و�إثر قرار ال�رشكة اجته املعماري �إىل م�رص لدرا�سة‬ ‫املجاورة له‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫املبنى اخل�شبي القدمي‪ ،‬الواجهة ال�شمالية املطلة على حو�ض التجارة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫نظرا لقوة حتمل هذا النوع من الأ�سقف‬ ‫ببقية البناء من الداخل؛ ً‬ ‫وت�صميم بع�ض امل�رشوعات الإن�شائية اخلا�صة بال�رشكة ومنها‬
‫ال عما يتمتع به هذا النوع من‬ ‫ومقوماتها الفائقة للحريق‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫مدر�سة للبنني يف بورتوفيق مبدينة ال�سوي�س‪� ،‬إىل جانب الت�صميم‬
‫الأ�سقف من القوة يف دعم اجلدران وبع�ض النقاط الهامة يف‬ ‫اخلا�ص باملبنى الإداري لل�رشكة ببور�سعيد خا�صة بعد �أن �أ�صبح‬
‫املبنى‪ .‬بالإ�ضافة لتخفيف حمل وثقل القباب على اجلدران‬ ‫كاف ال�ستيعاب الزيادة املطردة يف �أعداد‬‫ٍ‬ ‫املبنى القدمي غري‬
‫والعقود احلاملة لها»‪ .‬ووافق بالفعل جمل�س �إدارة ال�رشكة يف‬ ‫املوظفني والذي بلغ مائة و�ستة ع�رش موظفًا ف�ضلاً عن القائمني‬
‫اجتماعه يف ‪ 7‬نوفمرب ‪1893‬م مبوجب عقد جديد على اقرتاح‬ ‫باخلدمات املعاونة لهم‪.‬‬
‫كوانيه با�ستبدال الأ�سقف من اخل�شب �إىل اخلر�سانة امل�سلحة‪.‬‬
‫ويف اخلام�س ع�رش من �شهر دي�سمرب عام ‪1891‬م قَدم‬
‫وعلى الرغم من رحيل املهند�س املعماري‪ ،‬ف�إن ت�صميم‬ ‫املعماري ت�شارلز مارتن ملفًّا كام ً‬
‫ال مب�رشوعه لإقامة املبنى مبا يف‬
‫يجر عليه التغري �سواء يف الهيكل املعدين الداخلي �أو يف‬
‫القباب مل ِ‬ ‫ذلك جميع املخططات وامل�ساقط واملوا�صفات اخلا�صة ب�أعمال‬
‫التك�سية بالبالطات اخلزفية‪ ،‬بالإ�ضافة للألواح اخلر�سانية امل�صبوبة‬ ‫البناء‪ .‬وقد بدا امل�رشوع من خاللها �أنه �سوف ُيقام على م�ساحة‬
‫على الهيكل احلديدي للقباب‪ .‬وقد ا�ستغرق البناء عامني بوا�سطة‬ ‫‪2230‬م‪ ،2‬وهو يتكون من مبنى مركزي ميتد من ال�شمال �إىل‬
‫�رشكة مقاوالت �إدمون كوانيه وحتت �إ�رشاف كبري مهند�سي‬ ‫اجلنوب‪ ،‬ويتكون من ثالثة طوابق‪ .‬يعلوه ثالث قباب‪ ،‬القبة‬
‫ال�رشكة‪ ،‬بالإ�ضافة لعدد �ضخم من البنائني امل�رصيني والإيطاليني‬ ‫املركزية وهي الو�سطى‪ ،‬وقبتان جانبيتان‪ ،‬قائمة على هياكل‬
‫والفرن�سيني وغريهم من جن�سيات �أخرى‪ .‬ويف الأول من مايو‬ ‫معدنية من احلديد من الداخل ويك�سوها ويزخرفها من اخلارج‬
‫‪1895‬م مت تركيب وتو�صيل جميع اخلدمات املقدمة للمبنى‪،‬‬ ‫بالطات خزفية‪ ،‬ويرتبط باملبنى املركزي ومدمج به جناحان‬
‫وبعدها ب�شهر من العام نف�سه مت االنتهاء من جميع الأعمال‪ ،‬ومت‬ ‫ميتدان من ال�رشق �إىل الغرب على غرار املبنى املركزي �إال �أنهما‬
‫ت�سليم املبنى لل�رشكة يف ‪ 28‬يوليو عام ‪1895‬م‪ ،‬و�إن ظل املبنى‬ ‫يتكونان من طابقني فقط‪ .‬على جانب �آخر ف�ضلت ال�رشكة‬
‫حتت االختبار‪ ،‬والت�سليم النهائي كان يف عام ‪1920‬م‪.‬‬ ‫التعاقد مع �رشكة مقاوالت �إدمون كوانيه للكتل اخلر�سانية‬
‫مل يطر�أ على املبنى �أي تغري جوهري حتى موعد الت�سليم‬ ‫‪ ،Edmond Coignet Béton Aggloméré‬للقيام ب�أعمال‬
‫النهائي‪ ،‬و�إن كانت هناك بع�ض �أعمال التطوير خا�صة مع ت�أ�سي�س‬ ‫البناء يف ‪ 3‬مار�س ‪1891‬م دون طرح امل�رشوع يف مناق�صة بني‬
‫�شارة قيادة امليناء «الفانو�س» �أعلى القبة املركزية‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�رشكات املقاوالت الفرن�سية الأخرى‪ ،‬خا�صة �أن لهذه ال�رشكة‬
‫لتثبيت امل�صاعد و�إعادة ترتيب املكاتب‪ ،‬وكان العمل الأكرث‬ ‫�سابقة �أعمال مع �رشكة قناة ال�سوي�س يف مدينة بور�سعيد‪ ،‬حني قام‬
‫و�ضوحا قد مت يف عام ‪1949‬م عندما قررت ال�رشكة تركيب‬ ‫ً‬ ‫م�ؤ�س�س ال�رشكة الأول فران�سوا كوانيه بو�ضع ت�صميم وت�شييد فنار‬
‫�رشفة زجاجية �أ�سفل القبة املركزية حجبت منطقة االنتقال املثمنة‬ ‫بور�سعيد عام ‪1869‬م بتقنية خر�سانة كوانيه‪ .‬و�أثبتت التجارب‬
‫اخلارجية بالإ�ضافة لكامل رقبة القبة؛ وذلك بغر�ض ا�ستحداث‬ ‫ال�سابقة جودتها وفاعليتها‪ ،‬وعليه ف�ضلت ا�ستعمال نف�س الكتل‬
‫بع�ض املرافق اخلدمية لإدارات �أُخرى جديدة باملبنى‪ ،‬وقد كلفت‬ ‫اخلر�سانية يف بناء املبنى الإداري لل�رشكة بنف�س التقنية والنظام‪.‬‬
‫ال�رشكة �إحدى �رشكات املقاوالت القاهرية ‪V. Scerbo & co‬‬ ‫وعلى �إثر ح�صول ال�رشكة على الت�صميمات اخلا�صة باملبنى‬
‫بتنفيذ امل�رشوع‪ .‬وبالفعل �أ�سندت �رشكة املقاوالت الت�صميم‬ ‫من املعماري واالتفاق النهائي مع �رشكة املقاوالت التي �ستقوم‬
‫والتنفيذ لأحد مهند�سيها؛ املهند�س هرني روبى ‪.Henri Rauby‬‬ ‫بتنفيذ امل�رشوع �شرُ ع يف التوقيع على عقد الأ�سعار واملوا�صفات‬
‫أُ� ِحلقَت باملبنى ا�سرتاحة لكبار الزوار نزل بها يف عام ‪1911‬م‬ ‫يف ‪ 28‬يوليو ‪1892‬م‪ ،‬وات ُِّخ َذت اخلطوات نحو ال�رشوع يف‬
‫اخلديوي عبا�س حلمي الثاين وامللك جورج اخلام�س‪ ،‬كما اتخذه‬ ‫بداية البناء يف الأول من مايو ‪1893‬م‪.‬‬
‫ا�ستكويل قائد القوات الربيطانية �أثناء العدوان الثالثي على مدينة‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫وعلى �إثر وفاة املعماري ت�شارلز مارتن يف �إبريل ‪1893‬م‬


‫مقرا له قبل �أن يتم جال�ؤهم عن م�رص يف ‪ 18‬يونية‬ ‫بور�سعيد ًّ‬ ‫اقرتح املقاول �إدمون كوانيه ‪ Edmond Coignet‬على رئي�س‬
‫‪1956‬م ك�آخر قاعدة لربيطانيا يف منطقة القناة‪.‬‬ ‫�رشكة القناة من خالل خطابه يف ‪ 8‬يونية ‪1893‬م والذي جاء‬
‫وقد تعاقب على �إدارة ال�رشكة العاملية لقناة ال�سوي�س من‬ ‫فيه‪�« :‬أعتقد �أنه �سيكون من الأف�ضل االعتماد على الأ�سقف‬
‫هذا املقر خم�سة ر�ؤ�ساء من الأجانب بداية من افتتاحه يف‬ ‫عو�ضا عن الأ�سقف اخل�شبية �أعلى‬
‫امل�صنوعة من اخلر�سانة امل�سلحة ً‬
‫عام ‪1895‬م حتى ت�أميم القناة يف ‪1956‬م‪ .‬مل يكن من‬ ‫العقود يف الوجهات‪ ،‬لتحل حملها �أ�سقف من اخلر�سانة امل�سلحة‬

‫‪80‬‬
‫ويت�ضح التماثل يف الواجهتني ال�رشقية والغربية؛ حيث تتكون كل‬ ‫بينهم فرديناند ديلي�سب�س �صاحب التوقيع على امل�رشوع‪ ،‬فجاء‬
‫واجهة من ق�سم بارز‪ ،‬ثم ق�سم مرتد على جانبيه جناحان بارزان‬ ‫جول جي�شارد (‪1896-1894‬م) �أول من �أدار ال�رشكة من‬
‫يف الواجهة الغربية‪ ،‬كل جناح تتقدمه �رشفة بها ثالث نوافذ يف‬ ‫خالله‪ ،‬ثم الربن�س اوج�ست الربيك (‪1913-1896‬م)‪ ،‬ثم‬
‫طابقني؛ الدور الأر�ضي نافذتان م�ستطيلتان‪ ،‬يتو�سطهما باب‪،‬‬ ‫�شارلز جونارت (‪1927-1913‬م)‪ ،‬ثم لوي�س دي فوجيه‬
‫والدور الأول ثالث نوافذ معقودة بعقد مدبب ترتكز ٌّ‬
‫كل‬ ‫(‪1948-1927‬م)‪ ،‬وكان �آخرهم فران�سوا �شارلز روكـ�س‬
‫منها على ف�صني جانبيني‪ ،‬كذلك احلال بالواجهتني ال�شمالية‬ ‫(‪1956-1948‬م)‪ .‬وي�أتي الدكتور حلمــي حممـد بهجــت‬
‫تاما‪ ،‬وزاد يف‬
‫ال ًّ‬ ‫واجلنوبية؛ �إذ تتماثل ٌّ‬
‫كل منهما والآخر متاث ً‬ ‫يف املركز ال�ساد�س ك�أول م�رصي �ضمن قائمة مديري ال�رشكة‬
‫رونق الواجهات وبهائها عن�رص البواكى‪ ،‬فامتازت كل واجهة‬ ‫ور�ؤ�ساء هيئة قناة ال�سوي�س الذي توىل املن�صب ملدة عام‪ ،‬من يوليو‬
‫ببائكة يف الطابقني‪ ،‬بائكة من عقود مدببة خممو�سة حممولة على‬ ‫‪1956‬م �إىل يوليو ‪1957‬م‪.‬‬
‫ُدعامات يف الدور الأر�ضي‪ ،‬وف�صو�ص يف الدور الأول‪ .‬كما‬
‫خففت البوائك يف واجهات املبنى من قوة و�رصامة الأ�سلوب‬
‫الو�صف املعماري‬
‫الإن�شائي يف الداخل‪ .‬و�أعطت الإح�سا�س بوجود منطقة فا�صلة‬ ‫ات�سم املظهر العام للمبنى بالتماثل واالن�سجام‪ ،‬واتبع يف‬
‫بني داخل وخارج املبنى؛ وذلك بوجود تباين يف التحميل الذي‬ ‫عمارته ُطرق و�أ�ساليب النه�ضة الأوروبية احلديثة؛ �إذ يتكون‬
‫ات�سم بالثقل يف الداخل‪.‬‬ ‫من طابق حتت م�ستوى الأر�ض (البدروم) وطابقني يف جناحيه‬
‫وثالثة طوابق �أعلى الطابق املرتد يف �ساق املبنى‪ ،‬يعلوها قبة‬
‫طريقة الإن�شاء والتخطيط املعماري‬ ‫مركزية و�سطى وقبتان جانبيتان‪ ،‬وهي من ال�سمات املعمارية التي‬
‫ظهرت يف العمارة البيزنطية‪ ،‬ومت �إحيا�ؤها يف الطراز الكال�سيكي‬
‫ُ�شيد املبنى بنظام احلوائط احلاملة ‪ Bearing Wall‬الذي‬
‫وطراز ع�رص النه�ضة الفرن�سي امل�ستحدث الباروك‪ .‬كما جاءت‬
‫�سائدا يف تلك الفرتة‪ ،‬وقد ا�ستخدم فيها مداميك من احلجر‬ ‫كان ً‬
‫القباب ك�إحدى الأ�شكال اخلا�صة بتغطية �سقف املبنى‪ ،‬وتعدت‬
‫ال�صناعي (كتل اخلر�سانة) والطوب‪ ،‬وو�ضعت �أ�سا�سات �رشيطية‬
‫علما على املبنى الإداري ل�رشكة قناة‬
‫الوظيفة فيما بعد لت�صبح ً‬
‫م�ستمرة �أ�سفل احلوائط‪ .‬وكانت تتم بتطهري املوقع من �أي عوائق‬
‫ال�سوي�س مبدينة بور�سعيد‪ ،‬و�أ�صبح ُيعرف مببنى القبة‪ .‬وجاء كل‬
‫�أو خملفات‪ ،‬ثم تحُ فر الأ�سا�سات وتفر�ش بالردمي املكون من حجر‬
‫م�ستوفى للوازمه من القاعات املق�سمة �إىل‬
‫ً‬ ‫طابق من طوابقه‬
‫غ�شيم‪ ،‬ويدك باملاء ثم تبنى عليه احلوائط احلاملة‪.‬‬ ‫مكاتب‪ ،‬ولكل مكتب ا�ستعمال خا�ص ب�إدارة معينة من �إدارات‬
‫�أما عن التخطيط املعماري فقد جاء غري تقليدي؛ حيث‬ ‫ال�رشكة‪ ،‬وهي مربعة �أو م�ستطيلة ال تختلف �إال يف امل�ساحة‬
‫ومعربا عن االحتياجات التي تطلبتها طبيعة ووظيفة‬ ‫ً‬ ‫جديدا‬
‫ً‬ ‫بدا‬ ‫واحلجم‪ ،‬كما جاءت �أر�ضية كل طابق يف م�ستوى واحد مما‬
‫املبنى‪ ،‬وهو توفري �أكرب عدد من املكاتب ال�ستيعاب �أعداد‬ ‫جعل �أر�ضية املكاتب م�ستوية‪ ،‬وبالتايل الأ�سقف م�ستوية ترتكز‬
‫املوظفني القائمني على �إدارة ال�رشكة وغرف وملحقات لأغرا�ض‬ ‫على جدران البناء‪ .‬ويدخل ال�ضوء الكايف للمكاتب وملحقاتها‬
‫عرب نوافذ كبرية مت�سعة خلف بائكة على حمور عقودها مطلة على‬
‫�أُخرى تخدم هذا العدد من العاملني‪ ،‬فظهر التخطيط مت� ً‬
‫أثرا �إىل‬
‫حد بعيد بتخطيط املباين العامة الأوروبية‪ ،‬التي متيزت يف �أغلب‬‫ٍّ‬ ‫اخلارج يغلق عليها درف تتبع نظام ال�شي�ش والزجاج‪ ،‬وجاءت‬
‫�أ�شكالها املتنوعة بالتماثل واالنتظام يف م�ساقطها الأفقية ويف‬ ‫ال�سالمل الداخلية للمبنى مت�سعة ومنب�سطة مريحة ال تتعب‬
‫�شكل واجهاتها‪ .‬واختار املعماري للمبنى منط التخطيط ذي‬ ‫ال�صاعد‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫الأجنحة �أو الأذرع املمتدة‪ ،‬وهو واحد من التخطيطات العديدة‬ ‫هند�سيا �صار ًما‪،‬‬ ‫وللمبنى �أربع واجهات اتبعت قانونًا‬
‫ًّ‬
‫التي ظهرت يف ع�رص النه�ضة الأوروبية الواردة �إىل م�رص يف القرن‬ ‫وحظيت بالعناية التامة من حيث تق�سيمها �إىل م�ستويات �أفقية‬
‫التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين‪ .‬ومتيز يف مبنى القبة حني جاء‬ ‫ور�أ�سية يف ات�ساعها وارتفاعها بكراني�ش بارزة نتج عنها بع�ض‬
‫تكون من مبنى مركزي‬ ‫على �شكل حرف «‪ »U‬الإفرجني العميق‪ّ ،‬‬ ‫الظالل‪ ،‬وامتازت بالتماثل والتطابق بني �أجزائها الواقعة على‬
‫م�ستطيل «�ساق» يف الو�سط‪ ،‬ي�شكل املبنى الرئي�س الذي ميتد من‬ ‫جانبي املدخلني الرئي�سني‪ ،‬فجاءت منتظمة م�ستقيمة تتفاوت يف‬
‫ال�شمال �إىل اجلنوب يت�صل به جناحان �أو ذراعان ي�شكالن زاوية‬ ‫طولها وتنظيمها املعماري والزخريف‪ .‬وات�سم تخطيطها بالتماثل‬
‫قائمة يف طريف املبنى ال�شمايل واجلنوبي‪ .‬وت�شغل امل�ساحة الكلية‬ ‫والتناظر؛ من حيث املداخل والأبواب والنوافذ املحورية‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الطراز املعماري‬ ‫املُ�شيد عليها املبنى ‪ 2562‬م‪ ،2‬وهو على �شكل م�ستطيل منتظم‬
‫من امل�سلم به �أن النه�ضة الأوروبية ب�صفة عامة تدين يف ن�ش�أتها‬ ‫الأبعاد له �أربع واجهات تتخذ االجتاهات الأ�صلية الأربعة‪،‬‬
‫بالكثري للثقافة واحل�ضارة العربية الإ�سالمية؛ �إذ كان العرب هم‬ ‫كل منهما ‪ 84‬م‪ ،‬والواجهتان‬ ‫الواجهتان ال�رشقية والغربية طول ٍّ‬
‫الذين واجهوا الأنظار �إىل عظمة الرتاث الكال�سيكي القديـم‬ ‫كل منهما ‪ 30.5‬م‪،‬‬ ‫ال�شمالية واجلنوبية جناحا املبنى طول ٍّ‬
‫كثريا من �آراء علماء اليونان القدامى‬‫حني �ضمنوا م�ؤلفـاتهم ً‬ ‫وارتفاع كل واجهة من واجهات املبنى ‪ 20‬م‪ ،‬ويتكون املبنى‬
‫و�أفكارهم ومبادئهم‪ .‬وعندما ترجمت هذه امل�ؤلفات �إىل اللغة‬ ‫من ثالثة طوابق وبدروم يتم النزول �إليه بوا�سطة �سالمل درك يف‬
‫الالتينية حفزت الأوروبيني للعمل على بعث الرتاث الكال�سيكي‬ ‫جناحيه‪ ،‬وطابق �أر�ضي يتو�صل �إليه عن طريق �سالمل و�أبواب من‬
‫ودرا�سته يف �أ�صوله اليونانية والالتينية الأوىل‪ .‬ومثلما كان للثقافة‬ ‫الأربع جهات‪ ،‬وطابق �أول ي�صعد �إليه عن طريق �سلمني رئي�سني‪,‬‬
‫العربية الإ�سالمية دور يف ن�ش�أة النه�ضة الأوروبية‪ ،‬كان للعمارة‬ ‫واحد يف كل جناح من جناحي املبنى‪ ،‬و�آخر فرعى يف اجلناح‬
‫والفنون العربية الإ�سالمية �أثر وا�ضح على املعماريني والفنانني‬ ‫اجلنوبي‪ .‬وامتازت الأجنحة ب�أنها مدجمة باملبنى الرئي�س ال�سابق‪،‬‬
‫يف ع�رص النه�ضة‪.‬‬ ‫كما اتخذ امل�سقط الأفقي طابع التطابق والتماثل املحوري يف‬
‫التخطيط والفراغات الداخلية لطابقي املبنى وجناحيه‪ ،‬وظهر‬
‫واحدا من �أهم الأمثلة التى ظهرت بها‬‫ً‬ ‫ويعد مبنى القبة‬
‫املدخل كعن�رص رئي�س على حمور متاثل التكوين على الواجهات‬
‫ت�أثريات طراز عمارة النه�ضة الأوروبية احلديثة‪ ،‬ب�صفة خا�صة يف‬
‫الرئي�سة للمبنى‪ .‬واعتمد الت�صميم على �شبكة ت�صميمية وحيدة‬
‫فرن�سا وبريطانيا �سواء من حيث التخطيط والعنا�رص املعمارية �أو‬
‫االجتاه من ال�شمال �إىل اجلنوب يف �ساق املبنى‪ ،‬ومن ال�رشق �إىل‬
‫الوحدات الزخرفية‪.‬‬
‫الغرب يف جناحيه وا�س ُتخدمت املمرات «الرواق» التي حتيط‬
‫وقد ظهر طراز ع�رص النه�ضة امل�ستحدث يف �أوروبا يف‬ ‫رئي�سا للحركة‬
‫حمورا ً‬
‫ً‬ ‫بكامل املبنى يف طابقيه الأر�ضي والأول‬
‫�أواخر القرن الثامن ع�رش وبداية القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬وانتقل‬ ‫ويف الربط بني الفراغات املختلفة‪ .‬ورمبا يعود ا�ستخدام هذا‬
‫�إىل م�رص ب�شكل �رسيع ليظهر يف العمارة ال�سكنية احل�ضارية‬ ‫التخطيط للم�ساحة الوا�سعة التي ُ�شيد عليها‪ ،‬كما �أعطى هذا‬
‫بالإ�ضافة ال�ستعماله يف جمموعة مهمة من العمائر ذات النفع‬ ‫نوعا من الفخامة والر�سوخ‪.‬‬‫التخطيط للمبنى ً‬
‫العام‪ .‬كما ُيعترب طراز ع�رص النه�ضة امل�ستحدث ب�أفرعه من‬
‫�أن�سب ُ‬
‫الطرز الأوروبية امل�ستحدثة التي توافق مباين املنافع العامة‬ ‫جدير بالذكر �أنه ُا�ستخدم يف البناء مواد وتقنيات حديثة متثل‬
‫على وجه العموم‪ ،‬ذلك �أن هذا الطراز و�أفرعه تتميز بتعدد‬ ‫�صدى ملدى التطور التقني والعلمي وال�صناعي الذي مت التو�صل‬ ‫ً‬
‫�أنواعها و�أ�شكالها‪ ،‬بالإ�ضافة ملرونته و�إمكانية تكيفه ليالئم‬ ‫�إليه يف �أوروبا منذ بداية القرن التا�سع ع�رش امليالدي؛ مثل‬
‫جميع الأغرا�ض‪.‬‬ ‫�صناعة احلديد الزهر واملطاوع واخلر�سانة امل�سلحة والأ�سمنت‪،‬‬
‫فقد ُ�شيدت �أ�سقف املبنى من اخلر�سانة املح�صورة بني الق�ضبان‬
‫غلب على عمارة املبنى طراز ع�رص النه�ضة الفرن�سي‬ ‫احلديدية‪ ،‬فلم تكن قد ظهرت بعد امل�شبكات احلديدية التي‬
‫امل�ستحدث‪ ،‬لن�ش�أة املدينة منذ البداية على �أيدي فرن�سية‪،‬‬ ‫ت�ستعمل الآن فيما ُيعرف باخلر�سانة امل�سلحة‪ .‬كما ا�ستعمل‬
‫وكذلك املبنى حني و�ضع ت�صميمه وتخطيطه املهند�س الفرن�سي‬ ‫املعمار يف املبنى الأ�سمنت امل�ستورد‪ ،‬و�صنع منه بالإ�ضافة للرمل‬
‫�شارل ماريت‪ ،‬وقام على ت�شييده املقاول الفرن�سي �إدمون كونيه‪،‬‬ ‫واجلري كتل احلجر ال�صناعي (خر�سانة كوانيه) املادة الرئي�سية‬
‫و�أ�رشفت على التنفيذ �إدارة هيئة قناة ال�سوي�س برئا�سة فرديناند‬ ‫يف بناء اجلدران واحلوائط احلاملة‪ .‬وكانت مادة جديدة غالية‬
‫ديلي�سب�س؛ لذلك جاء املبنى على ن�سق املباين العامة الفرن�سية‬ ‫الثمن‪ ،‬ومل يكن بالبالد م�صانع لإنتاجها‪ ،‬ورمبا كان الأوروبيون‬
‫مثل مباين الطراز الإمرباطوري الثانى ذات طراز ع�رص النه�ضة‬ ‫يعتربونها من �أ�رسار بالدهم ال�صناعية‪ .‬وجاءت القباب يف املبنى‬
‫امل�ستحدث‪ ،‬ومباين الطراز اجلمهوري الثالث التي ُ�شيدت‬ ‫كواحدة من �أهم التطورات املعمارية والإن�شائية الوافدة يف‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫على منط طراز النه�ضة والباروك اجلديد؛ حيث �شاع ا�ستخدام‬ ‫تاريخ العمارة يف م�رص يف الع�رص احلديث‪ ،‬حني ابتكر ون َّوع‬
‫القباب يف تغطية املن�ش�آت امل�شيدة وفق هذا الطراز‪ ،‬وهو ما‬ ‫املعماري يف الت�صميم والت�شييد يف بناء قبابه الثالث‪ ،‬ومعه من‬
‫اعتمد عليه املعماري يف تغطية املبنى بقبة مركزية وقبتني على‬ ‫تقنيات وابتكارات الع�رص‪ ،‬ف�شيد قبا ًبا خفيفة الوزن من اخلر�سانة‬
‫اجلانبني‪ .‬كما يمُ كن �أن ن�ستجلي بع�ض ال�سمات الأخرى التي‬ ‫ل فراغات الهيكل املعدين امل�صنوع من احلديد واملكون من‬ ‫مت أ‬
‫متثلت يف ا�ستخدام امل�ساحات امل�ستطيلة بقدر امل�ستطاع‪ ،‬وهي‬ ‫عوار�ض ودعامات ر�أ�سية تطوقها دوائر معدنية على �أبعاد‬
‫التي تتنا�سب مع طبيعة ا�ستخدام املبنى‪ ،‬كما متيز هذا الطراز‬ ‫مت�ساوية مع دوران القبة وارتفاعها‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫حاليا لأعمال ترميم معماري و�إعادة‬ ‫أخريا‪ ،‬يخ�ضع املبنى ًّ‬ ‫� ً‬ ‫ب�صفة عامة با�ستخدام الأ�سطح امل�ستوية اخلالية من التفا�صيل‬
‫ت�أهيل؛ حيث ُيعترب �أحد �أبرز العالمات العمرانية الرتاثية املميزة‬ ‫فات�صفت بالرزانة والتق�شف‪ ،‬ف�شابهت بذلك �أعمال رجال‬
‫ملدينة بور�سعيد بوابة قناة ال�سوي�س ال�شمالية‪ ،‬كما ُيعد �أول الأ�شياء‬ ‫احلركة الكال�سيكية الرومان�سيكية التي ات�صفت بقلة الزخارف‬
‫التي تتبادر للذهن عند ذكر القناة وا�سم بور�سعيد ك�أيقونة تتلألأ‬ ‫وا�ستعمال الأ�شكال الهند�سية الوا�ضحة كرد فعل �أو تقليد‬
‫يف الذاكرة والعيون حتمل كل تاريخ العابرين �إىل هذه البقعة‬ ‫للخاليا الباروكية‪ .‬هذا �إ�ضافة �إىل بع�ض �سمات �أُخرى اقتب�سها‬
‫ال�ساحرة من م�رصيني وفرن�سيني ويونانيني و�إجنليز و�إيطاليني وكل‬ ‫املعماري من ُطرز معمارية �أُخرى كان �أبرزها على املبنى الطراز‬
‫�أجنا�س البحر املتو�سط‪.‬‬ ‫الإ�سالمي امل�ستحدث‪.‬‬

‫املبنى اخل�شبي القدمي‪ ،‬الواجهة ال�رشقية املطلة على القناة‪.‬‬


‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫ال�سلم اخل�شبي باجلناح ال�شمايل‪ ،‬الطابق الأر�ضي والطابق الأول‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫املدخل يتو�سط الق�سم الأو�سط من الواجهة الغربية‪.‬‬
‫الواجهة ال�شمالية املطلة علىحو�ض التجارة‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫منظر عام للقبة الو�سطى من الواجهة ال�رشقية والواجهة الغربية‪ ،‬و�شكل تف�صيلي ل�شعار قناة ال�سوي�س من الواجهة الغربية على �إثر تعريبه بعد ت�أميم ال�رشكة‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫املبنى اخل�شبي القدمي‪ ،‬الواجهة ال�رشقية املطلة على القناة‪.‬‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫منظر عام للمبنى عند الفراغ من بنائه‪ ،‬و�إىل الي�سار جند اللوحة املدون عليها ا�سم �رشكة املقاوالت �آدمون كونيه للكتل اخلر�سانية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫منظور للقبة الو�سطى‪ ،‬الواجهة ال�رشقية بعد �إ�ضافة ال�رشفة عام ‪1949‬م‪ ،‬عمل طارق احل�سيني‪.‬‬

‫ذاكـرة م�صـر‬
‫قطاع ر�أ�سي للواجهة اجلنوبية‪ ،‬عمل طارق احل�سيني‪.‬‬

‫تفا�صيل لتيجان الأعمدة املوجودة يف املبنى‪.‬‬


‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬
‫ا�سم الكتاب‪ :‬املقاهي الثقافية يف العامل‬
‫امل�ؤلف‪ :‬كامل رحومة‬
‫عر�ض‪ :‬الدكتور خالد عزب‬

‫ح�صار ال�سوي�س»‪ ،‬والروائي ر�ضا �صالح‪ ،‬واملرتجم حممد �أبو‬ ‫يف م�رص والعامل كان للمقاهي �أدوار �سيا�سية وثقافية و�أدبية‬
‫بكر النيفياوي‪ ،‬وال�شاعر والناقد �صالح جنم‪ .‬وكان من الرواد‬ ‫واجتماعية‪ ،‬لكننا مل ن�ؤرخ لها الآن ب�صورة جيدة‪ .‬كامل رحومة‬
‫�شاعر العامية الراحل كامل عيد رم�ضان؛ م�ؤلف �أغنية «باري�س‬ ‫مثقف م�رصي يعي�ش يف دمنهور �أ�س�س جمعية (عبدالوهاب‬
‫البحرية يا م�رص» التي غناها املطرب حممد قنديل‪.‬‬ ‫هاما‬
‫امل�سريي لتنمية الفنون والآداب) من دمنهور‪� .‬ألف كتا ًبا ًّ‬
‫وللمقهى تاريخ عريق يف امل�شاركة يف الأحداث ال�سيا�سية‬ ‫بعنوان «املقاهي الثقافية‪ ..‬القاهرة‪ ..‬باري�س‪ ..‬دمنهور»؛ وهنا‬
‫عرب العقود املا�ضية‪ ،‬فما بني احتفالية ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ومنا�رصة‬ ‫ثقافيا قو ًّيا يف مقاهي م�رص‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫حراكا‬ ‫يفاجئنا امل�ؤلف ب�أن هناك‬
‫الق�ضية الفل�سطينية يف ال�سبعينيات‪� ،‬إىل معار�ضة نظام مبارك‬ ‫خارج العا�صمة‪ .‬ومن هذه املقاهي‪:‬‬
‫وكذا امل�شاركة يف ثورة ‪ 25‬يناير التي قال عنها �صاحب املقهى‬ ‫مقهى نيو �سوريا‬
‫(املعلم يحيى)‪« :‬الواحد يقدر ميوت وهو مطمن»‪ ،‬وقد �صدقت‬ ‫بال�سوي�س‪ ،‬ل�صاحبه وم�ؤ�س�سه املثقف الع�صامي؛ يحيى حممود‬
‫�أمنيته ووافته املنية بعدها بفرتة وجيزة يف �شهر يونية ‪2011‬م‪.‬‬ ‫عارف‪ ،‬ال�شهري بابن بطوطة؛ لكرثة �أ�سفاره‪ ،‬وهو �صديق للعديد‬
‫مقهى ال�سنديون‬ ‫من رجال الفكر والثقافة يف م�رص‪ ،‬الذين كانوا يلبون دعوته‬
‫بفوه يف كفر ال�شيخ‪ ,‬على اجلانب الآخر من النهر ملحافظة‬ ‫دائما‪ ،‬ومنهم الأديب الكبري يحيى الطاهر عبد اهلل‪.‬‬
‫ً‬
‫البحرية يرتبع مقهى ال�سنديون الأدبي على فرع النيل امل�ؤدي �إىل‬ ‫واملقهى يقع يف قلب حي ال�سوي�س منذ ‪1978‬م‪ ،‬بجوار‬
‫ر�شيد‪ ،‬وهو مقهى قريب من �أهم حا�رضة له ‪ -‬دمنهور‪ -‬لقربها‬ ‫�أ�شهر م�ساجد املدينة (م�سجد ال�شهداء) الذي كان له دور كبري‬
‫املكاين‪ ،‬مما كان له الأثر بالت�أثر الثقايف من البيئة الثقافية الكربى‬ ‫يف املقاومة ال�شعبية يف حرب ال�ساد�س من �أكتوبر ‪1973‬م‪.‬‬
‫التي خلفها مقهى عبد املعطي امل�سريي‪.‬‬
‫ذاكـرة م�صـر‬

‫يقع املقهى يف حميط جغرايف ي�ضم �أهم امل�ؤ�س�سات احلكومية‬


‫مقهى القللي‬ ‫والتجارية بال�سوي�س‪ ،‬وهو قريب من ميدان النافورة الذي �شهد‬
‫بالفيوم‪ ،‬وامل�شهور بكونه ملتقى للفنانني والأدباء‪ ،‬وهو ما‬ ‫العديد من الأن�شطة ال�سيا�سية والثقافية‪ .‬ويرتاد املقهى لفيف من‬
‫�شاخ�صا يف مكانه‪ .‬هو املقهى الذي قال فيه املرحوم‬
‫ً‬ ‫زال �إىل الآن‬ ‫رموز ال�سوي�س الثقافية والفكرية؛ مثل ال�شاعر الكبري الكابنت‬
‫ال�شاعر �صالح جاد �سنة ‪2007‬م ق�صيدته «القللي» التي ينهيها‬ ‫غزايل م�ؤ�س�س فرقة «والد الأر�ض»‪ ،‬واملثقف املو�سوعي �سيد‬
‫مبا يقول‪« :‬لعله الآن‪ ..‬هناك يف املقهى ينتظر عودتنا لي�ضحك‪..‬‬ ‫ن�صري‪ ،‬والفنان الت�شكيلي ال�شهري الدكتور علي ال�سوي�سي‪،‬‬
‫ويحكي»‪ .‬واملقهى �أول من د�شن فكرة م�رسح املقاهي التي‬ ‫وم�ؤرخ ال�سوي�س املعروف ح�سني الع�شي �صاحب كتاب «خفايا‬
‫‪90‬‬
‫�شي ًئا! وهو يبذل ق�صارى جهده �أال يجرب و�أال يخطئ و�أال يرتك‬ ‫انت�رشت يف كثري من مقاهي املحرو�سة‪ ،‬ومن فرقها «فرقة املخترب‬
‫ثغرة يف بحثه قد يحا�سب عليها‪ .‬وهو عاد ًة ما يلقي بحثه �أمام‬ ‫امل�رصي»‪.‬‬
‫جمهرة من الأ�ساتذة ال يعرفهم وال يعرفونه ويف �إطار جو من‬ ‫مقهى عبد الاله قناوي‬
‫الرتب�ص العام‪.‬‬ ‫باملنيا‪ ،‬وبدايته كانت يف نهاية ال�ستينيات من العقد املنفرط‪،‬‬
‫وهو عبارة عن حديقة كثيفة الأ�شجار ويطل املقهى على �أحد‬
‫�إن �أي م�ؤلف ال يكتب (للنا�س جمي ًعا) و�إمنا ملجموعة حمددة‬
‫أر�ستقراطيا يف بدايته‬
‫ًّ‬ ‫روافد نهر النيل (اخلور)‪ ،‬وقد كان مكانًا �‬
‫من الب�رش‪ .‬وكل كاتب ‪ -‬يف ت�صوري ‪ -‬يحتاج �إىل جماعة من‬
‫يتم فيه ا�ستقطاب كبار املوظفني من البحراوية املغ�ضوب عليهم‬
‫القراء تتوافر فيهم عدة �رشوط‪� :‬أن يكونوا مهتمني بالق�ضية التي‬
‫بنفيهم �إىل مدينة قنا‪ ،‬وكانوا ي�سمونه �آنذاك «كازينو»‪ .‬وعلى بعد‬
‫يتناولها و�أن يكونوا على م�ستوى فكري ميكنهم من احلكم على‬
‫خطوات من املقهى كانت توجد مكتبة �صغرية للغاية‪ ،‬ا�سمها‬
‫�أعماله‪ ،‬فال يكيلون املدح دون ح�ساب �أو مقيا�س‪ ،‬و�أال يكونوا‬
‫«رباب»‪ ،‬كان ي�ست�أجرها �شاعر �شاب ا�سمه �أجمد ريان‪ ،‬وكان‬
‫من احلا�سدين احلاقدين‪ .‬مثل ه�ؤالء ميكنهم توجيه النقد للم�ؤلف‬
‫يجتمع فيها �أدباء جيله؛ مثل �سيد عبد العاطي‪ ،‬وعطية ح�سن‪،‬‬
‫قدرا من ال�رشعية‪،‬‬
‫داخل �إطار من ال�صداقة والتقبل املبدئي‪ ،‬فيعطيه ً‬ ‫وحمدي من�صور‪ ،‬وغريهم‪ .‬وقد التحق بهم بع�ض ال�شباب‬
‫فهذا ي�شد من �أزره‪ ،‬واحلوار الدافئ الذكي يولد يف نف�سه الثقة‬
‫وقتها‪ ،‬و�أطلقوا على �أنف�سهم «جماعة رباب» ك�أول جمعية‬
‫طالبا يف‬
‫فيزداد الإبداع‪ .‬ومن �أطرف الأ�شياء �أنني حينما كنت ً‬ ‫�أدبية تظهر يف ال�صعيد‪ ،‬وقد �أ�صدرت جملة حتمل نف�س اال�سم‪.‬‬
‫املدر�سة الثانوية كنت كلما �أر�سلت خطا ًبا لإحدى ال�صحف‪،‬‬
‫كما تكونت يف نف�س املكان فيما بعد «جماعة �أفرا�س الأدبية»‬
‫لأعرب عن �إعجابي ب�شيء ما �أو لأ�ستنكر �شي ًئا ما‪� ،‬أُفاج�أ ب�أن خطابي‬
‫ثقافيا‪ ،‬ظهرت �آثاره يف جملة‬‫ًّ‬ ‫م�رشوعا‬
‫ً‬ ‫املعتنية بالقراءة‪ ،‬وكانت‬
‫يجد طريقه �إىل الن�رش‪ ،‬بل و ُيعطى مكان ال�صدارة �أحيانًا‪.‬‬
‫حملت نف�س اال�سم‪.‬‬
‫وكنت �أحارلهذه الظاهرة‪ ،‬وكان زمالئي يف املدر�سة يف�رسونها‬
‫هاما من كتابه ملقهى عبد املعطي‬ ‫جانبا ًّ‬
‫ً‬ ‫لكن امل�ؤلف يفرد‬
‫راق‪ ،‬فكنت �أ�صدقهم وترتفع معنوياتي وتزداد‬ ‫ب�أن �أ�سلوبي �أدبي ٍ‬
‫امل�سريي بدمنهور‪ ،‬مرك ًزا على �شهادة الدكتور عبد الوهاب‬
‫ثقتي بنف�سي‪� .‬إىل �أن اكت�شفت �أن امل�س�ألة جمرد ت�شابه �أ�سماء‪ ،‬و�أن‬ ‫امل�سريي عن هذا املقهى؛ �إذ يقول‪ :‬وظاهرة مقهى امل�سريي‪ ،‬ما‬
‫كثريا من حمرري ال�صحف كان يظن �أن عبد الوهاب امل�سريي من‬ ‫ً‬ ‫كانت لتغيب على رجل مثل الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أن‬
‫دمنهور هو عبد املعطي امل�سريي الأديب �صاحب املقهى يف نف�س‬ ‫خمت�رصا يف �سريته الذاتية الأ�شهر «رحلتي‬ ‫ي�صوغ لها و�صفًا ولو‬
‫ً‬
‫املدينة!‬ ‫الفكرية»‪ ،‬ب�صفته �أهم معامل دمنهور الثقافية يف �إبان �شبابه‪ ،‬وقد‬
‫وكان بيننا �شاعر العامية حامد الأطم�س وال�شاعر فتحي �سعيد‬ ‫�أ�سهم ب�صورة فعالة يف ظهور كثري من املبدعني واملثقفني‪ ،‬بل‬
‫(رحمهما اهلل)‪ ،‬كما تعرفت على حممد �صدقي كاتب الق�صة‬ ‫واملجددين يف القرن ال�سابق‪ ،‬وكذا القرن احلايل‪ .‬ولقد حتدث يف‬
‫وعبد القادر حميدة وغريهما‪ .‬كان املقهى هو بيت الثقافة يف‬ ‫�سريته «رحلتي الفكرية» عن الفعاليات باملقهى‪ ،‬وعن امل�شاهري‬
‫دمنهور‪ .‬وكان �أمني يو�سف غراب يرتدد عليه‪ ،‬وقيل يل �إن يحيى‬ ‫الذين التقى بهم هناك‪ .‬ومما قال يف ذلك‪« :‬ومن معامل دمنهور‬
‫حقي وحممد عبد احلليم عبد اهلل وغريهما من امل�شاهري من �أبناء‬ ‫الأ�سا�سية ‪ -‬مقهى امل�سريي ‪ -‬ل�صاحبه الأ�ستاذ عبد املعطي‬
‫البحرية وممن عملوا فيها كانوا من رواد هذا املقهى الأدبي‪.‬‬ ‫امل�سريي‪ ،‬ترددت عليه مرة �أو مرتني قبل دخول اجلامعة وجل�ست‬
‫على هام�ش جماعة ال�شعراء والفنانني والق�صا�صني واملفكرين‬
‫ولكن بعد قيام ثورة يوليو‪ ،‬ت�سارعت عملية التحديث التي‬
‫ع�ضوا‬
‫ً‬ ‫واملثقفني وحمبي الثقافة‪ ،‬وبعد دخويل اجلامعة‪� ،‬أ�صبحت‬
‫تت�سم بظهور الدولة املركزية القوية‪ ،‬فانتقل الأ�ستاذ عبد املعطي‬
‫العدد الثاين والثالثون ‪ -‬يناير ‪2018‬‬

‫أ�سا�سيا يف تلك اجلامعة التي كانت تلتقي يف املقهى‪ ،‬يف جو‬ ‫� ًّ‬
‫امل�سريي وحامد الأطم�س �إىل القاهرة ليعمال يف املجل�س الأعلى‬
‫كله مودة ودون ا�ستقطابات �أيديولوجية ودون خوف �أو وجل‬
‫للفنون والآداب (ومع هذا ا�ستمر املقهى‪ ،‬وما يزال ‪ -‬ح�سبما‬
‫من التجريب �أو اخلط�أ؛ فاملرء �أمام �أ�صدقائه ال يدعي وال ي�ضطر‬
‫ثقافيا يرتدد عليه املثقفون والفنانون)‪ .‬وللأ�سف‬
‫منتدى ًّ‬
‫ً‬ ‫�سمعت ‪-‬‬
‫�إىل موازنة الأمور‪ ،‬بل يعرب عما بداخله يف جر�أة‪ ،‬وهو يعرف‬
‫مات الأ�ستاذ عبد املعطي امل�سريي م�شلو ًال عن احلركة‪ ،‬م�شغو ًال‬
‫�أن ما �سيقوله �سيقابل �إما بالإعجاب و�إما بال�ضحك وال�سخرية‪،‬‬
‫بهول احلدث‪ ،‬ولذا اختفى الأ�ستاذ عبد املعطي من احلياة الأدبية‬
‫و�سخرية الأ�صدقاء‪ ،‬مفعمة باحلب (على عك�س امل�ؤمترات العامة‬
‫والعامة فج�أة‪.‬‬
‫التي �أ�صبحت ف�ضاءات زمنية وم�ساحات مكانية تلقى فيها‬
‫الكتاب الذي بني �أيدينا عمل مرجعي مهم به كذلك‬ ‫�أوراق طويلة ت�سمى «بحو ًثا» �أعدت بعناية م�سبقًا‪ ،‬توثق فيها‬
‫ببليوجرافيا لأ�شهر مقاهي الوطن العربي لذا فهو ي�ستحق �أن ُيقر�أ‪.‬‬ ‫�أحيانًا البدهيات‪� ،‬أو يظل الباحث يوازن نف�سه حتى ال يقول‬
‫‪91‬‬
‫جملة ربع سنوية – العدد الثاني والثالثون – يناير ‪2018‬‬

‫ذاكرة مصر – جملة ربع سنوية – العدد الثاني والثالثون – يناير ‪ – 2018‬تصدر عن مكتبة اإلسكندرية‬ ‫مكتبة اإلسكندرية‬

You might also like