الكاتدرائية Cathedral

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 8

‫الرجل األعمى‪ ،‬وهو صديق قديم لزوجتي‪ ،‬كان قادمًا لقضاء الليلة عندنا‪ُ .

‬توفيْت زوجُته منذ فترة‪ ،‬ولذا كان في زيارٍة عند‬


‫أقرباء زوجته في "كونيتيكيت"‪ .‬اتصَل بزوجتي من بيت حميه‪ ،‬واتفقا معًا‪ ،‬بأْن يسافر بالقطار في رحلٍة تستغرق خمس‬
‫ساعات‪ ،‬بينما تنتظره زوجتي في المحطة‪ .‬لم ترُه زوجتي منذ أْن كانت تعمل عنده في "سياتل" قبل عشرة أعوام‪ ،‬لكنها‬
‫بقيْت على تواصٍل معه‪ ،‬إذ كانا يسّج الِن أشرطًة صوتيًة ويتبادالنها عبر البريد‪ .‬لم أكْن متحّمسًا لزيارته‪ ،‬فهو رجٌل ال‬
‫أعرفه أبدًا‪ ،‬ولكونه أعمى فقد أزعجني أكثر‪ .‬كُّل ما أعرفه عن العميان اكتسبُته من خالل مشاهدة األفالم‪ ،‬وفي األفالم‬
‫يتحّرك العمياُن ببطٍء وال يضحكون أبدًا‪ ،‬وأحيانًا يهتدون في سيرهم بمساعدة كالٍب غير عمياء‪ .‬رجٌل أعمى في منزلي! لم‬
‫‪.‬يكن شيئًا أرغب به‬

‫ذات صيٍف في "سياتل"‪ ،‬كانت زوجتي بحاجٍة إلى عمٍل لكونها مفلسًة ‪ ،‬وألّن الرجل الذي كانْت تنوي الزواج به عند نهاية‬
‫الصيف؛ ما زال طالبًا في مدرسة الضباط‪ ،‬أي مفلسًا أيضًا‪ .‬لكنها كانت تحّبه‪ ،‬وهو يحّبها‪...‬إلخ‪ .‬لمحْت إعالنًا في الجريدة‪:‬‬
‫"نرجو المساعدة – القراءة لرجل أعمى" مع رقم الهاتف‪ ،‬فاتصلْت وذهبْت لزيارته‪ ،‬وحصلْت على الوظيفة فورًا‪ ،‬وعملْت‬
‫عند األعمى طوال الصيف‪ .‬لقد قرأْت له كتبًا ودراساٍت اجتماعية وتقارير صحفية وغيرها‪ ،‬وساعدْت ُه في تنظيم مكتبه‬
‫الصغير في دائرة الخدمات االجتماعية‪ ،‬ثم أصبحا صديقين مقّر بين‪ ،‬نعم‪ ..‬زوجتي والرجل األعمى‪ .‬كيف عرفُت هذه‬
‫األشياء؟ هي من أخبرني بذلك‪ ،‬بل أخبرْت ني أكثَر من ذلك‪ ،‬ففي آخر يوٍم من عملها عنده‪ ،‬طلَب األعمى أْن يلمس وجهها‪،‬‬
‫فوافقْت ! وأخبرْت ني أنه مّر ر أصابعه على كامل أجزاء وجهها‪ ،‬حتى أنفها ورقبتها!‪ ،‬كما أنها حاولْت أن تكتَب قصيدًة عن‬
‫‪.‬ذلك‪ ،‬فهي دائمًا تحاول أن تكتب قصيدة‪ ،‬وكانْت تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام‪ ،‬غالبًا بعد حدوٍث أمٍر مهّم في حياتها‬

‫عندما بدأنا نخرج معًا – أنا زوجتي‪ ،‬أرْت ني القصيدة‪ ،‬في القصيدة كانت تسترجُع أصابَع ُه والطريقَة التي مّر رها بها على‬
‫كامل وجهها‪ ،‬وفي القصيدة أيضًا تصُف مشاعرها في تلك اللحظات‪ ،‬وما جاَل في ذهنها عندما كان األعمى يلمُس أنفها‬
‫وشفتيها‪ .‬أذكُر أنني لم ُأِع ـْر اهتمامًا للقصيدة‪ ،‬بالطبع لم أخبْر ها بذلك‪ ،‬ربما ألنني ال أفهُم الشعر‪ ،‬وعادًة ال أمُّد يدي إلى‬
‫‪.‬كتِب الشعر عندما أنوي القراءة‬

‫المهّم ؛ ذلك الرجل الذي استمتَع بجمالها قبلي‪ ،‬والذي سيصبُح ضابطًا‪ ،‬كان حبيبها منذ أيام الطفولة‪ .‬أقوُل ذلك ألشير أنه‬
‫في نهاية الصيف الذي سمحْت به لألعمى أْن يلمَس وجهها‪ ،‬وّد عِت األعمى وتزّو جْت حبيَب الطفولة‪ ...‬إلخ‪ ،‬والذي غدا‬
‫ضابطًا رفيعًا وانتقلت معه من "سياتل"‪ ،‬لكنها بقيْت على اتصاٍل باألعمى‪ ،‬فأجرْت أول اتصاٍل به بعد سنة‪ ،‬ذات ليلٍة من‬
‫قاعدة القوى الجوية في "آالباما"‪ ،‬يومها كانْت بحاجٍة لشخٍص ُتـِس ـُّر له‪ ،‬فتحّدثا وطلَب منها أْن ترسَل شريطًا مسّج ًال تروي‬
‫فيه تفاصيل حياتها الجديدة‪ ،‬وفعًال أرسلْت شريطًا تتحدُث فيه عن زوجها وتفاصيل حياتهما في الجيش‪ ،‬وأخبرت األعمى‬
‫إنها تحّب زوجها‪ ،‬لكنها ال تحّب مكان إقامتهما‪ ،‬ولم ترتْح لعمله في الصناعات الحربية‪ ،‬وأخبرت األعمى أنها كتبْت‬
‫‪.‬قصيدًة ‪ ،‬وكانت القصيدة عنه‪ ،‬وأنها ستكتب قصيدًة عن معاناة زوجة ضابط في القوى الجوية‬

‫سّج ل األعمى شريطًا صوتيًا أيضًا‪ ،‬وأرسله لها‪ ،‬فرّد ْت عليه بشريٍط آخر‪ ،‬واستمّر هذه الحالة لسنوات‪ .‬كان ضابُط زوجتي‬
‫ينتقل من قاعدة عسكرية إلى أخرى‪ ،‬وكانت زوجتي ترسل األشرطة المسّج لة من عّدة قواعد للقوى الجوية‪ ،‬منها‪" :‬مودي‪-‬‬
‫ماك غواير‪ -‬ماك كونيل" وآخرها قاعدة "ترافيس" قرب سكرامنتو‪ ،‬حيث كانت تشعر بالوحدة الشديدة والعزلة عن الناس‪،‬‬
‫وبالضَي اع وسَط حياٍة دائمة التنقل‪ ،‬لدرجٍة لم تعْد تحتمُل فيها انتقاًال آخر‪ ،‬يومها ابتلعْت كَّل حبوب األدوية الموجودة في‬
‫‪.‬خزانة األدوية المنزلية‪ ،‬وشربْت زجاجًة من الِج ـّن ‪ ،‬ثم أخذْت حّمامًا ساخنًا‪ ،‬فُأغمَي عليها‬

‫وبدًال من أْن تموت‪ ،‬مرضْت فقط‪ .‬ضابُط ها (وما حاجُت ه إلى االسم؟ لقد كان حبيبها منذ أيام الطفولة‪ ،‬فماذا يريد أكثر؟)‬
‫عاد إلى البيت من مكاٍن ما‪ ،‬فوجدها على حالتها تلك واتصل باإلسعاف‪ .‬وعلى الفور سّج لْت كَّل ما حدث معها على‬
‫شريط‪ ،‬وأرسلْت ه إلى األعمى‪ ،‬كعادتها خالل السنوات الماضية‪ ،‬تسّج ُل كل شيٍء على أشرطٍة وترسلها إليه‪ .‬وباإلضافة إلى‬
‫كتابتها لقصيدٍة كل سنة‪ ،‬كانت األشرطة وسيلَت ها األساسية للتسلية‪ .‬في أحد األشرطة أخبرِت األعمى أنها قّررِت العيش‬
‫بعيدًا عن ضابطها لفترٍة من الزمن‪ ،‬في شريٍط آخر أخبرته بطالقها‪ .‬بعد ذلك بدأنا نخرج معًا‪ ،‬ومن المؤّك د أنها أخبرت‬
‫األعمى بذلك‪ ،‬فهي تخبرُه بكل شيء أو هكذا يبدو لي‪ .‬مرًة طلبْت مني أْن أسمَع آخر شريٍط أرسله األعمى‪ ،‬كان ذلك منذ‬
‫عاٍم تقريبًا‪ ،‬وأضافْت أنني مذكوٌر في التسجيل‪ .‬أحضرُت مشروبًا وجلسنا في غرفة المعيشة جاهزين لالستماع‪ ،‬في البداية‬
‫وضعِت الشريط في المسّج لة وعّدلْت مفاتيَح الصوت‪ ،‬ثم بدأ شخٌص ما بالحديث بصوٍت عاٍل ‪ ،‬فأخفَض ْت صوَت المسّج ل‪.‬‬
‫وبعد دقائق من الثرثرة البريئة سمعُت اسمي على شفتّي الغريب‪ ،‬حين قال‪" :‬لم أكْن أعلم‪ ،‬ومن خالل كّل ما قلِته عنه‪،‬‬
‫يمكنني فقط أْن أسنتنتج‪ ،"...‬وعندها ثمة من قاَط عنا‪ ،‬ربما ُقرَع جرُس الباب أو حدث أمٌر آخر‪ ،‬ومن بعدها لم نُع ْد لمتابعة‬
‫‪.‬الشريط‪ .‬ربما كان ذلك أفضَل بالنسبة لي‪ ،‬فقد سمعُت كل ما أريد سماعه‬

‫‪!.‬واآلن‪ ،‬الرجُل األعمى نفسه‪ ،‬قادٌم لينام في منزلي‬


‫قلُت لزوجتي‪" :‬ربما آخذُه معي لنلعَب البولينغ"‪ ،‬كانت تطهو البطاطا بالصلصة في المطبخ‪ ،‬فوضعت السكيَن من يدها‪،‬‬
‫والتفتْت إلّي وقالت‪" :‬إذا كنَت تحّبني‪ ..‬فـُقـْم بواجبه من أجلي‪ ،‬وإذا كنَت ال تحّبني‪ ..‬فحسنًا‪ ،‬لكْن لو كان عندَك صديق‪ ،‬أُّي‬
‫‪".‬صديق‪ ،‬وجاَء لزيارتنا‪ ،‬كنُت سأقوم بواجبه على أكمل وجه‬
‫قلُت ‪" :‬لكْن ليَس عندي أصدقاٌء عميان"‪ ،‬فجّففْت يديها بمنشفة األطباق وصاحْت ‪" :‬أنَت ال تملُك أَّي أصدقاٍء أصًال"‪،‬‬
‫‪!".‬وأضافت‪" :‬اللعنة! لقد ُتوفيْت زوجته منذ فترة‪ ،‬أال تفهم؟ الرجل فقَد زوجته‬

‫لم أجْبها‪ ،‬وراحْت تحّد ثني عن زوجة األعمى‪ ،‬اسمها بيوال‪ ،‬بيوال! إنه اسٌم المرأٍة سوداء‪ ،‬فسألُت ‪" :‬هل كانت زوجته‬
‫"زنجية؟‬
‫ًة‬
‫عقلك فجأ ؟" ‪-‬‬ ‫فقدَت‬ ‫"!أنَت مجنون؟ هل‬
‫"!التقطْت زوجتي حّبة من البطاطا‪ ،‬ضربْت بها األرض ثم تدحرجْت تحت الفرن‪ ،‬وقالت‪" :‬ما مشكلتك؟ هل أنَت سكران؟‬
‫‪".‬إنه مجّر د سؤال" ‪-‬‬
‫بعد ذلك أخبرتني زوجتي عن تفاصيل أكثَر بكثيٍر مما كنُت أوُّد سماعه‪ ،‬فسكبُت كأسًا وجلسُت على طاولة المطبخ‬
‫‪ُ.‬مستمعًا‪ ،‬وبدأْت شظايا القّصة تتساقُط في أرجاء المكان‬

‫ذهبْت بيوال للعمل عند الرجل األعمى بعد أْن تركْت زوجتي العمَل عنده‪ ،‬وبعد فترٍة قصيرٍة تزّو جْت بيوال واألعمى زواجًا‬
‫كنسيًا‪ ،‬كان حفُل زفافهما صغيرًا (من سيذهُب إلى زفاٍف كهذا أصًال؟)‪ ،‬حيث اقتصر حضوُر الحفل على الزوجين‪،‬‬
‫باإلضافة إلى القّس وزوجته‪ .‬لكنه كان حفل زفاٍف كنسّي كالعادة‪ ،‬وكما كانت بيوال تريُده حسَب قول األعمى‪ .‬وبالرغم من‬
‫أّن بيوال كانت مصابًة بسرطان الُغ دد‪ ،‬إال أنه وبعد ثماني سنواٍت من ارتباطها مع األعمى (سـّم ـْت ـُه زوجتي "ارتباطًا")‪،‬‬
‫تدهورْت صّح ُتها سريعًا‪ ،‬وتوفيْت في إحدى غرف مشفى "سياتل"‪ ،‬حيُث كان األعمى جالسًا قرَب سريرها ممسكًا بيدها‪.‬‬
‫لقد تزّو جا‪ ،‬عاشا وعمال معًا‪ ،‬ناما معًا (وبالتأكيد مارَس ا الجنس)‪ ،‬وبعدها صار على الرجل األعمى أْن يدفن زوجته‪ .‬حدَث‬
‫كُّل ذلك دون أن يستطيع يومًا رؤية وجِه زوجته المسكينة‪ ،‬كان هذا فوق قدرتي على االستيعاب‪ ،‬وبسماعي لُه أحسسُت‬
‫ببعض األسى على األعمى‪ .‬ثم بدأُت أفّك ر بالحياة التعيسة التي عاشتها تلك المرأة‪ ،‬تصّو ْر امرأًة لم تستطْع أْن ترى نفسها‬
‫في عيون الرجل الذي يحُّبها‪ ،‬امرأًة تعيُش يومًا بعد يوٍم دون أْن تسمَع كلمة غزٍل واحدٍة من حبيبها‪ ،‬امرأًة ال يستطيع‬
‫زوجها قراءَة تعابير وجهها‪ ،‬يا لها من مأساة!‪ .‬امرأًة يمكنها أْن تتبّر ج أو ال تتبّر ج دون أن يختلف شيٌء بالنسبة لزوجها‪،‬‬
‫يمكنها أْن تضع ِظ ـًاّل حول عيٍن واحدٍة فقط‪ ،‬ودبوسًا غريبًا في فتحة أنفها‪ ،‬قد ترتدي بنطاًال أصفَر وحذاًء أحمَر ‪ ،‬ال فرق!‪.‬‬
‫ثم خطفها الموُت ويُد األعمى فوق يدها‪ ،‬وعيناُه العمياوان تسكبان الدموع ‪ -‬أتخّيُل المشهد اآلن‪ ،-‬ربما كان آخَر ما فّك رْت‬
‫به وهي على عربة الموتى‪ ،‬أنه لم يعرْف يومًا كيف يبدو شكُلها‪ .‬وتركْت زوَج ها وحيدًا‪ ،‬ال يملُك سوى عقد تأميٍن محدود‪،‬‬
‫ونصَف قطعٍة نقديٍة من فئة العشرين بيسو المكسيكية‪ ،‬أما النصُف الثاني من القطعة نفسها‪ ،‬فقد بقَي معها في التابوت‪ ،‬يا‬
‫‪!.‬للبؤس‬

‫عندما حان الموعد‪ ،‬ذهبْت زوجتي إلى محطة القطار لتجلبه معها‪ ،‬فجلسُت وحدي منتظرًا‪ ،‬فال شيء عندي في هذه الحالة‬
‫سوى االنتظار الذي ألوُم األعمى عليه بالتأكيد‪ .‬كنُت أشرُب كأسًا وأشاهد التلفاز عندما سمعُت سيارًة تقف أمام المنزل‪،‬‬
‫‪.‬نهضُت من األريكة حامًال كأسي بيدي‪ ،‬واتجهُت إلى النافذة أللقي نظرة‬

‫شاهدُت زوجتي تضحُك وهي تركُن السيارة‪ ،‬ثم رأيُتها تخرج من السيارة وتغلق الباب‪ ،‬وما زالت االبتسامُة مرسومًة على‬
‫وجهها‪ ،‬مذهل!‪ .‬ثم استدارْت حول السيارة باتجاه الجانب اآلخر‪ ،‬حيُث كان األعمى يتهّيأ للنزول‪ .‬كان الرجُل األعمى ‪-‬‬
‫تخّيْل ذلك‪ -‬يرتدي لحيًة عمالقة!‪ ،‬لحيٌة فوق رجٍل أعمى! هذا كثير‪ .‬اتجه األعمى إلى المقعد الخلفي وسحب حقيبته من‬
‫عليه‪ ،‬أمسكْت زوجتي بذراعه وأغلقْت باب السيارة‪ ،‬مشَي ا من مصِّف السيارات إلى الرواق األمامي للبيت‪ ،‬وهما يتحدثان‬
‫‪.‬طوال الطريق‪ .‬أنهيُت شرابي وغسلُت الكأس وجففُت يدي‪ ،‬ثم اتجهُت إلى باب البيت‬
‫قالْت لي زوجتي‪" :‬أريدَك أْن تتعّر ف على روبرت"‪ ،‬وقالْت له‪" :‬هذا زوجي يا روبرت‪ ،‬حدثتَك عنه"‪ ،‬كانت تبتسُم وهي‬
‫‪.‬تمسُك بذراع األعمى‬
‫ًال‬ ‫ًا‬ ‫ُت‬ ‫مّد‬ ‫ًا‬
‫وضع األعمى حقيبته أرض ‪ ،‬يده إلّي ‪ ،‬أخذ ها‪ ..‬فعصَر ها بقّو ة‪ ،‬وبقي ممسك بيدي لبرهٍة ثم أفلتها‪ .‬وزمجَر قائ ‪" :‬أحُّس‬
‫وكأننا التقينا من قبل"‪ .‬قلُت ‪" :‬وأنا أيضًا" فلم يكْن عندي شيٌء آخر ألقوله‪ ،‬ثم قلُت ‪" :‬أهًال وسهًال‪ ،‬سمعُت كثيرًا عنك"‪.‬‬
‫وشرعنا المسيَر إلى غرفة الجلوس‪ ،‬زوجتي تقودُه من ذراعه بينما يحمل حقيبته بيده األخرى‪ ،‬كانت زوجتي تقول أشياء‬
‫من قبيل "إلى اليسار روبرت‪ ،‬أحسنت‪ ،‬اآلن انتبْه فهنالك كرسّي ‪ ،‬نعم هنا‪ ،‬اجلْس هنا على األريكة‪ ،‬لقد اشترينا هذه‬
‫‪".‬األريكة منذ أسبوعين‬

‫كنُت أوُّد الحديث عن األريكة القديمة‪ ،‬فقد كانت غاليًة علّي ‪ ،‬لكنني لم أقل شيئًا‪ .‬ثم أردُت الحديث عن المناظر الطبيعية‬
‫التي يشاهُدها المسافُر بالقطار على طول نهر "هودسون"‪ ،‬فعندما تسافر إلى نيويورك يجب أْن تجلس في الجانب األيمن‬
‫من القطار‪ ،‬وعندما تعود يجب أن تجلس في الجانب األيسر‪ .‬سألُت ‪" :‬هل كانْت رحلُتَك بالقطار موفقًة ؟ وبالمناسبة‪ ،‬في أي‬
‫‪".‬جانٍب من القطار كنَت جالسًا؟‬

‫"رّد ْت زوجتي‪" :‬يا لُه من سؤاٍل ُيسأل! وما الفرق في أي جانٍب كان؟‬
‫‪".‬مجّر د سؤال" ‪-‬‬
‫قال األعمى‪" :‬في الجانب األيمن‪ ،‬لم أركب القطار منذ قرابة أربعين عامًا‪ ،‬يومها كنُت طفًال يسافر مع أهله‪ ،‬كان ذلك منذ‬
‫زمن بعيد‪ ،‬حتى أني نسيُت ذاك الشعور‪ ،‬فالشتاُء يغزو لحيتي في هذا العمر‪ ،‬هكذا يقولون لي‪ .‬على كّل حال هل أبدو‬
‫"مميزًا يا عزيزتي؟‬
‫أجابت زوجتي‪" :‬أنَت حقًا ممّيز يا روبرت‪ ،‬روبرت‪ ..‬ما أسعدني برؤيتك يا روبرت!"‪ .‬وأخيرًا رفعْت زوجتي عينيها عن‬
‫‪.‬األعمى ونظرْت إلّي ‪ ،‬أحسسُت أنها لم تكْن راضيًة عّما بدَر مني‪ ،‬فهززُت لها كتفّي بال مباالة‬

‫لم ألتِق ‪ ،‬ولم أعرف بشكٍل شخصّي ‪ ،‬رجًال أعمى من قبل‪ .‬هذا األعمى كان في أواخر العقد الرابع من عمره‪ ،‬بدينًا‪..‬‬
‫أصلَع ‪ ..‬بأكتاٍف منحنيٍة وكأنه يحمل وزنًا ثقيًال فوقها‪ ،‬البسًا بنطاًال بنّيًا وحذاًء بنّيًا‪ ،‬وقميصًا بنّيًا فاتحًا مع ربطة عنق‪ ،‬كان‬
‫أنيقًا حقًا‪ ،‬وأيضًا كان يرتدي تلك اللحية العمالقة‪ .‬لكنه ال يحمل عكازًا وال يضع نّظ ارًة سوداء‪ ،‬لطالما ظننُت أن النظاراِت‬
‫السوداء َف رٌض على العميان‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬تمّنيُت لو يضُع نظارًة سوداء‪ ،‬حين نظرُت في عينيه ألّو ل مرٍة؛ بدْت لي مثل‬
‫عيون جميع الناس‪ ،‬لكن إذا أمعنَت النظَر تلحظ االختالف في عينيه‪ ،‬فهما شديدتا البياض‪ ،‬وتلحُظ البؤبؤ وهو يدوُر في‬
‫محجر العين دون معرفة صاحبه بذلك‪ ،‬ودون أْن يقدر على إيقافه‪ ،‬وكأنه ال يحُّس به‪ .‬عندما حّدقُت في وجهه رأيُت بؤبؤ‬
‫العين اليسرى يّتجه نحو األنف‪ ،‬بينما يحاول بؤبؤ العين اليمنى البقاَء في مكانه جاهدًا‪ ،‬لكنها مجّر ُد محاولة‪ ،‬إذ سرعاَن ما‬
‫‪.‬تابع تجواله في العين دون معرفة األعمى أو إرادته‬

‫سألته‪" :‬سأحّضُر الشراب‪ ،‬أّي نوٍع تفّضل؟ عندي تشكيلٌة من كافة األنواع‪ ،‬وهذه إحدى هواياتي"‪ ،‬فأجاب بسرعًة وبنبرٍة‬
‫‪".‬عالية‪" :‬صديقي‪ ،‬ويسكي استكتلندية"‪ ،‬قلُت ‪" :‬حسنًا يا صاح‪ ،‬لقد عرفُت ذلك‬
‫مّد يده إلى حقيبته المتكئة جانب األريكة‪ ،‬وكأنه يحاول تحديد االتجاهات لينهَض ويسير‪ ،‬لم أُلـْم ه على ذلك‪ .‬قالت زوجتي‪:‬‬
‫"سوف أحمُل حقيبتك إلى غرفتك في األعلى"‪ ،‬فأجاب‪" :‬ال عليِك ‪ ،‬سآخذها معي حين أصعد إلى األعلى"‪ .‬سألُت ‪" :‬هل تريد‬
‫‪".‬بعض الماء مع الويسكي؟‬

‫‪".‬القليل القليل" ‪-‬‬

‫‪".‬فهمت" ‪-‬‬

‫وأردف قائًال ‪" :‬القليل من الماء فقط‪ ،‬ألن الممثل اإليرلندي باري فيتزجيرالد‪ ،‬وهو صديقي العزيز‪ ،‬يقول عندما يراني‬
‫أمزُج الويسكي بالماء‪ :‬يوميًا نشرب الماء‪ ،‬لكن عند الويسكي‪ ،‬أريدها ويسكي فقط"‪ .‬ضحكْت زوجتي وحَد ها من هذه النكتة‬
‫‪.‬الَس ِمجة‪ ،‬رفع األعمى لحيته بيده‪ ،‬ثم تركها تنزُل ببطء‬
‫حّضرُت المشروب‪ ،‬ثالث كؤوس كبيرة من الويسكي مع رّش ٍة ماٍء في كٍّل منها‪ ،‬جلسنا باسترخاٍء وتحدثنا عن أسفار‬
‫روبرت‪ ،‬أّو لها الرحلة الجوية الطويلة من الساحل الغربي إلى "كونيتيكيت"‪ ،‬ثم من "كونيتيكيت" إلى هنا بالقطار‪ ،‬وسكبنا‬
‫‪.‬كؤوسًا جديدة‬

‫تذّك رُت أنني قرأُت ذات يوم‪ ،‬أّن األعمى ال يدّخ ن‪ ،‬وقد فّسرُت ذلك بكونه ال يستطيع رؤية الدخان الذي ينفثه‪ ،‬أعتقد أنه‬
‫الشيء الوحيد الذي أعرفه عن العميان‪ .‬لكّن هذا األعمى دّخ ن سيجارته حتى عقبها‪ ،‬ثم أشعل واحدًة أخرى‪ ،‬إلى أْن مأل‬
‫‪.‬منفضة السجائر‪ ،‬فقامت زوجتي إلفراغها‬

‫جلسنا على طاولة العشاء مع كؤوس جديدة‪ ،‬مألْت زوجتي طبَق روبرت بشرائح اللحم‪ ،‬والبطاطا المطهية بالصلصة‪،‬‬
‫والفاصولياء الخضراء‪ ،‬وقد أعطيُت ه أنا رغيفين من الخبز المدهون بالزبدة‪ .‬رشفُت من كأسي وقلت‪" :‬اآلن‪ ..‬دعونا‬
‫نصّلي"‪ ،‬أخفَض الرجُل األعمى رأسه‪ ،‬نظرْت إليه زوجتي فاغرًة فمها‪ .‬فقلُت ‪" :‬دعونا نصّلي أاّل يرّن الهاتف‪ ،‬وأاّل يبرد‬
‫‪".‬الطعام‬

‫انغمسنا في الطعام‪ ،‬أكلنا كَّل شيٍء قابٍل لألكل على الطاولة‪ ،‬أكلنا وكأنه آخُر يوٍم لنا في الحياة‪ .‬لم نتحدث‪ ،‬كنا نأكل فقط‪،‬‬
‫كنا منهمكين بالطعام بشكٍل جّد ي‪ .‬وكان األعمى يأكل من طبقه الموضوع أمامه‪ ،‬ويعرف تمامًا مكاَن كِّل صنٍف في‬
‫الطبق‪ ،‬شاهدته بإعجاٍب وهو يتناول اللحَم بالشوكة والسكين‪ ،‬يقطع قطعًة من اللحم‪ ،‬يأكلها بالشوكة‪ُ ،‬يتبعها بالبطاطا ثم‬
‫‪.‬الفاصولياء‪ ،‬وبعدها يأكل قطعًة من الخبز المدهون بالزبدة‪ ،‬ويختُم هذه السلسلة بجرعٍة كبيرة من الحليب‬

‫أنهينا كل شيء‪ ،‬باإلضافة إلى نصف فطيرة الفراولة‪ ،‬وجلسنا منهكين لعدة دقائق‪ ،‬والعرُق يتصّبب من وجوهنا‪ ،‬ثم نهضنا‬
‫عن الطاولة تاركيَن بقايا المائدة المتسخة وراءنا‪ ،‬ودون أّي التفاٍت إلى الخلف‪ ،‬اتجهنا إلى غرفة الجلوس عائدين إلى‬
‫أماكننا‪ .‬جلَس روبرت وزوجتي على األريكة‪ ،‬بينما جلسُت على الكرسّي الكبير‪ ،‬وشرعا يتحدثان عن األمور المهّمة التي‬
‫لم يتحدثا عنها بشكٍل كاٍف خالل السنوات العشر الماضية‪ ،‬كنُت مستمعًا معظم الوقت‪ ،‬ثم قررُت المشاركة بالحديث لكي ال‬
‫يظّن األعمى بأني غادرُت الغرفة‪ ،‬أو تشعر زوجتي بأنني أصبحُت شخصًا هامشيًا‪ .‬كانا يتحدثان عن األشياء التي حدثت‬
‫معهما –فقط هما‪ -‬خالل عشر سنوات‪ ،‬انتظرُت أْن أسمع اسمي على شفتّي زوجتي العذبتين‪ ،‬كأن تقول‪" :‬ثـّم دخل زوجي‬
‫العزيز إلى حياتي"‪ ،‬لكنني لم أسمع شيئًا من هذا القبيل‪ ،‬واستمّر الحديث عن روبرت‪ .‬يبدو أّن روبرت هذا اشتغل في‬
‫مختلف المجاالت‪ ،‬ويبدو بارعًا في كل األعمال‪ ،‬وكان آخُر ها عندما عمل مع زوجته في شركة دولية للتسويق‪ ،‬ومنها –‬
‫كما فهمُت ‪ -‬كانا يؤّمنان مصاريَف حياتهما (إذا اعتبرناها حياًة )‪ .‬الرجل األعمى أيضًا‪ ،‬كان يعمل مذيعًا في إذاعة للهواة‪،‬‬
‫وحّدثنا بصوتِه الجهور عن الحوارات التي دارْت بينه وبين زمالئه في اإلذاعة‪ ،‬بعُضهم من الفيليبين‪ ،‬وآخرون من‬
‫آالسكا‪ ،‬وأيضًا من تاهيتي‪ ،‬وقال إنه يملك العديد من األصدقاء في حال رغَب بزيارة تلك المناطق‪ .‬بين الفينة واألخرى‬
‫كان يدير وجهه إلّي ‪ ،‬يضع يده على لحيته ويسألني شيئًا مثل‪ :‬منذ متى وأنت على رأس عملك؟ (ثالث سنوات)‪ ،‬وهل‬
‫‪.‬تحّب عملك؟ (ال)‪ ،‬هل ستبقى فيه؟ (وهل لدّي خياراٌت أخرى؟)‪ ،‬وأخيرًا عندما شعرُت أنه ذاهٌب إلى النوم‪ ،‬أشعلُت التلفاز‬

‫نظرْت زوجتي إلّي بحنق‪ ،‬كادْت أْن تنفجر من الغضب‪ ،‬ثم نظرْت إلى األعمى وقالت‪" :‬روبرت‪ ،‬هل عندك تلفاز؟"‪،‬‬
‫فأجاب‪" :‬عزيزتي‪ ،‬عندي اثنان‪ ،‬تلفاٌز ملّو ن وتلفاٌز قديٌم باألبيض واألسود‪ .‬ومن المضحك أنني عندما أشعل التلفاز‪ ،‬وهو‬
‫"دائمًا مشعٌل عندي‪ ،‬فإنني أشعُل التلفاز الملّو ن‪ .‬مضحٌك! أليَس كذلك؟‬
‫‪.‬لم أعرف ما أقول‪ ،‬لم يكن عندي شيٌء ألقوله‪ ،‬وال أُّي رأي‪ .‬ولذا تابعُت نشرة األخبار‪ ،‬وحاولُت اإلصغاء لما يقوله المذيع‬

‫‪".‬هذا تلفاٌز ملّو ن" قالها األعمى وأضاف‪" :‬ال تسألني كيف عرفُت ذلك"‬
‫‪".‬قلُت ‪" :‬اشتريناه منذ فترٍة قريبة‬
‫شرب األعمى كأسًا أخرى‪ ،‬أمسَك لحيته ورفعها‪ ،‬اشتنشقها ثم أفلتها‪ ،‬انحنى على األريكة‪ ،‬وضع منفضة السجائر على‬
‫‪.‬طاولة القهوة‪ ،‬أشعَل سيجارًة ‪ ،‬أرجع ظهره إلى الخلف واضعًا رجًال على رجل‬
‫وضعْت زوجتي يدها على فمها وتثاءبت‪ ،‬تمّط ْت قليًال وقالت‪" :‬أعتقد أنني سأصعد إلى األعلى وأرتدي ثوب النوم‪.‬‬
‫روبرت‪ ..‬تصّر ْف وكأنك في منزلك"‪ ،‬فقال األعمى‪" :‬أنا مرتاٌح هكذا"‪ ،‬رّدت‪" :‬أريدَك أن تشعر بالراحة حقًا"‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫‪"".‬إني مرتاٌح حقًا‬

‫بعد أن غادرِت الغرفة‪ ،‬استمعُت مع األعمى إلى النشرة الجوية ثم األخبار الرياضية‪ .‬لقد أطالْت زوجتي غيابها‪ ،‬ولم أكْن‬
‫أعلم إْن كانت ستعود أم ال‪ ،‬حسبُت أنها قد نامت‪ ،‬وتمّنيُت لو تعود بسرعة‪ ،‬ألني ال أريد البقاء وحيدًا مع رجٍل أعمى‪.‬‬
‫سألُته إذا كان يرغب بكأٍس أخرى‪ ،‬فأجاب‪" :‬بالتأكيد"‪ ،‬ودعوته لتدخين سيجارة ماريوانا معي‪ ،‬فقال‪" :‬سأجّرب بعضها‬
‫‪".‬معك"‪ ،‬قلت‪" :‬عظيم! هذا ما أريد‬

‫أحضرُت كأسين وجلسُت بجانبه على األريكة‪ ،‬ثم لففُت لكلينا سيجارتي ماريوانا عريضتين‪ ،‬أشعلُت واحدًا ووضعُته بين‬
‫‪.‬أصابعه‪ ،‬فأخذه وعَّب منه‪ .‬قلُت ‪" :‬استنشْق بأكثَر مما تستطيع"‪ ،‬أحسسُت أنه ال يجيد تدخين الماريوانا‬

‫عادت زوجتي إلى غرفة الجلوس‪ ،‬البسًة ثوب النوم الوردي‪ ،‬وخَّف النوم الوردي‪ .‬قالت‪" :‬ما هذه الرائحة؟!"‪ ،‬فقلُت ‪:‬‬
‫"قررنا تجريب بعٍض من الماريوانا"‪ .‬ألقْت زوجتي نظرتها المتوحشة علّي ‪ ،‬وقالت لألعمى‪" :‬روبرت‪ ،‬لم أكْن أعلم أنك‬
‫تدّخ ن الماريوانا"‪ ،‬فأجاب‪" :‬إني أدّخ نها اآلن‪ ،‬إنها المرة األولى‪ ،‬لكني لم أشعر بتأثيرها بعد"‪ .‬وهنا تدّخ لُت ‪" :‬هذا النوع‬
‫‪.‬ممتٌع جدًا‪ ،‬ومعتدٌل أيضًا‪ ،‬إنه من النوع الذي يبقيَك صاحيًا‪ ،‬وال يشّو ش الذهن"‪ ،‬فقال‪" :‬ال يبدو كما تقول"‪ ،‬وضحك‬

‫جلسْت زوجتي على األريكة بيني وبين األعمى‪ ،‬أعطيُتها سيجارة الماريوانا فسحبْت منها وأعادتها إلي‪ ،‬وقالت‪" :‬إلى أين‬
‫نحن ماضون؟ ال ينبغي أْن أدّخ ن من هذا‪ ،‬فأنا بالكاد أستطيُع إبقاء عينّي مفتوحتين‪ ،‬هذا العشاء قضى علّي ‪ ،‬كان من‬
‫‪".‬األجدر أاّل آكل كثيرًا‬

‫هذا بسبب فطيرة الفراولة"‪ ،‬قالها األعمى وتابع‪" :‬الفطيرُة قضْت عليِك "‪ ،‬وضحَك ضحكته المزمجرة التي تنتهي"‬
‫باهتزازاٍت من رأسه‪ .‬قلُت ‪" :‬بقَي القليُل من فطيرة الفراولة"‪ ،‬وأضافْت زوجتي‪" :‬هل تريد المزيد يا روبرت؟"‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫‪"".‬ربما بعد قليل‬

‫عدنا لمشاهدة التلفاز‪ ،‬تثاءبْت زوجتي مرًة أخرى وقالْت ‪" :‬السرير جاهز إذا أردَت النوم يا روبرت‪ ،‬أعرف أنَك أمضيَت‬
‫‪!".‬يومًا طويًال‪ ،‬وعندما توّد النوم أخبرنا"‪ ،‬هّز ْت ـُه من ذراعه وصاحْت ‪" :‬روبرت‬
‫صحا من غفوته وقال‪" :‬لقد أمضيُت وقتًا رائعًا‪ ،‬يفوق كل األشرطة المسّج لة‪ ،‬أليس كذلك؟"‪ ،‬فقلُت ‪" :‬هذا عائٌد إليك"‪،‬‬
‫وضعُت السيجارة بين أصابعه‪ ،‬استنشقها بعمٍق ثم أطلق غمامًة ‪ ،‬بدا لي وكأنه يدّخ ن الماريوانا منذ أن كان في التاسعة من‬
‫‪.‬عمره‬

‫قالْت زوجتي‪" :‬سأبقى جالسًة بينكما‪ ،‬وعيناي مغمضتان‪ ،‬إذا كان هذا ال يزعجكما‪ ،‬وعندما تنزعجاِن أخبراني‪ ،‬وإذا لم‬
‫يحدْث ذلك سأبقى جالسًة بعينين مغمضتين إلى أْن تقّر را الذهاب إلى النوم"‪ .‬ثم قالْت لروبرت‪" :‬سريرك جاهٌز في الغرفة‬
‫‪.‬المجاورة لغرفتنا في الطابق العلوي"‪ ،‬وأغلقْت عينيها ونامت‬
‫انتهى البرنامج اإلخباري فغّيرُت القناة‪ ،‬تمّنيُت لو لم تكْن زوجتي متعبًة بهذا الشكل‪ ،‬رأُسها مّتكٌئ على كتف األريكة‪ ،‬فُمها‬
‫مفتوح‪ ،‬ثوُبـها منحسٌر عن ساقيها كاشفًا فخذًا شهّيًا‪ ،‬مددُت يدي وغّط يُت ساقيها‪ ،‬بعد أْن تأّك دُت أّن األعمى ال يراني‪ ،‬ماذا‬
‫‪.‬بحّق الجحيم! لقد انكشَف فخُذ ها مجّددًا‬

‫"قلُت ‪" :‬هل أنَت متعٌب ؟ هل تريدني أْن آخذَك إلى السرير؟ هل أنَت جاهٌز للنوم؟‬
‫ليس بعد‪ ،‬سأبقى معك يا صاح‪ ،‬سأبقى معَك حتى تقّر ر أنَت الذهاب إلى النوم‪ .‬لم تسنْح لنا الفرصُة للكالم‪ ،‬تعرُف ما"‬
‫‪.‬أعنيه‪ ،‬أحُّس أننا ‪ -‬أنا وهي‪ -‬احتكرنا كامل األمسية"‪ .‬رفَع لحيته بيده ثم تركها تهوي‪ ،‬وتناول علبة السجائر والوالعة‬

‫قلت‪" :‬رائع! إني سعيٌد برفقتك"‪ ،‬وربما كنُت فعًال كذلك‪ ،‬فكَّل ليلٍة أدّخ ن الماريوانا وحدي‪ ،‬وأبقى صاحيًا ألطول فترٍة أقدر‬
‫عليها ثم أخلُد إلى النوم‪ .‬من النادر أْن أذهَب مع زوجتي إلى النوم بنفس الوقت‪ ،‬وحين أناُم تزورني تلك األحالم الشريرة‪،‬‬
‫‪.‬فأستيقُظ بسببها كالمجنون‬
‫كان التلفاز يعرُض شيئًا ما عن الكنيسة والعصور الوسطى‪ ،‬لم يكن برنامجًا تافهًا كما أحّب ‪ ،‬أردُت مشاهدة شيٍء آخر‪،‬‬
‫قّلبُت بين القنواِت فلم أجْد شيئًا يصُلح للمشاهدة‪ ،‬ولذا عدُت إلى القناة األولى واعتذرت‪ .‬قال األعمى‪" :‬ال عليَك يا عزيزي‪،‬‬
‫أنا سعيٌد بكل األحوال‪ ،‬أّي شيٍء تريد مشاهدته سيكون جّيدًا بالنسبة لي‪ ،‬فأنا أتعّلم من كل شيء‪ ،‬التعُّلم ال ينتهي‪ ،‬لْن‬
‫‪".‬يضّر ني أْن أتعّلم شيئًا جديدًا هذه الليلة‪ ،‬ال تنَس ‪ ..‬لدّي أذنان‬

‫لم نقْل شيئًا لبرهٍة من الزمن‪ ،‬كان األعمى منحنيًا إلى األمام‪ ،‬وأذنه اليمنى تتجه إلى مصدر الصوت‪ .‬بين الفينة واألخرى‬
‫‪.‬كانْت أجفاُنـه تتدّلى فوق عينيه‪ ،‬ثم يرفعها بحركٍة سريعة‪ ،‬يمسُك لحيته ويشّدها‪ ،‬وكأنه يفّك ر بما يسمعه من التلفاز‬

‫على شاشة التلفاز‪ ،‬كان بضعُة رجاٍل يرتدون القالنس‪ ،‬يتعّر ضون للتعذيب من قبل رجاٍل يرتدون هياكل عظمية‪ ،‬ورجاٌل‬
‫يلبسون ما يوحي بأنهم شياطين‪ ،‬الرجاُل الشياطين كانوا يلبسون أقنعَة الشيطان ذات القرون‪ ،‬واألذيال الطويلة‪ .‬هذا‬
‫العرُض كان جزءًا من كرنفال‪ ،‬وقال المذيع اإلنكليزي الذي يعّلق على المشهد؛ إّن ذلك يحدث في إسبانيا مرًة كل عام‪.‬‬
‫‪.‬حاولُت أْن أشرح لألعمى ما يحدث‪ ،‬فقال‪" :‬هياكل عظمية‪ ،‬أعرف الهياكل العظمية"‪ ،‬ثم أومأ ونام‬

‫كان التلفاز يعرض كاتدرائيًة واحدة‪ ،‬ثم ثالث كاتدرائيات طوال‪ ،‬وبعدها انتقل المشهُد إلى تلك الكاتدرائية الشهيرة في‬
‫فرنسا‪ ،‬بعوارضها الطائرة وأبراجها الممتدة حتى السحاب‪ ،‬انسحبْت الكاميرا لُتظهر الكاتدرائيًة كاملًة وهي تغفو على خّط‬
‫‪.‬األفق‬

‫في بعض الفترات‪ ،‬كان المذيع الذي يعّلق على المشاهد؛ يصمت تاركًا الكاميرا تتجول بين الكاتدرائيات‪ ،‬وأحيانًا في‬
‫األرياف المجاورة‪ُ ،‬مظهرًة رجاًال يسيرون خلف الثيران في الحقول‪ .‬انتظرُت ألطول مدة ممكنة‪ ،‬ثم شعرُت بضرورة أْن‬
‫أقول شيئًا‪ ،‬فقلُت ‪" :‬إنهم يعرضون الكاتدرائيات من الخارج اآلن‪ ،‬نوافير المياه‪ ،‬تماثيل صغيرة منحوتة على شكل وحوش‪.‬‬
‫أعتقد أنهم في إيطاليا اآلن‪ ،‬نعم إنها إيطاليا‪ ،‬فهنالك لوحات على جدران الكنيسة"‪ .‬سألني‪" :‬هل هي لوحات جّصية؟"‪ ،‬ثم‬
‫رشَف من كأسه‪ .‬مددُت يدي إلى كأسي فوجدُتها فارغة‪ ،‬حاولُت أن أتذّك ر ما علّي تذُّك ره‪" :‬تسأُلني إْن كانْت هذه اللوحات‬
‫‪".‬جّصية؟ إنه سؤال وجيه‪ ،‬لكني ال أعرف‬

‫انتقلت الكاميرا إلى كاتدرائية قرب لشبونة‪ ،‬ال توجد فروٌق كبيرة بين الكاتدرائيات البرتغالية والكاتدرائيات الفرنسية‬
‫واإليطالية‪ ،‬لكنها موجودة‪ ،‬ومعظُم الفروق في التصميم الداخلي‪ .‬ثم خطَر شيٌء في بالي فقلُت ‪" :‬يخطُر لي شيء‪ ،‬هل تملُك‬
‫أدنى فكرٍة عّما تكون الكاتدرائيات عليه؟ هل تعرف كيف تبدو؟ هل تفهُم علّي ؟ إذا ذكَر أحُدهم كلمة "كاتدرائية" أمامك‪،‬‬
‫‪!".‬فهل لديَك أُّي تصّو ر عّما يتحدث؟ هل تعرف الفرق بين الكاتدرائية والكنسية؟ ُقـْل‬

‫نفَث الدخان من فمه بشكٍل متقّط ٍع وقال‪" :‬أعرف أنها تحتاج مئات الرجال‪ ،‬وخمسين أو مائة سنة حتى يتّم بناؤها"‪ ،‬لقد‬
‫سمعُت هذا للتّو ‪ ،‬أعرف أّن أجياًال من نفس العائلة عملوا على بناِء كاتدرائيٍة واحدة‪ ،‬سمعُت هذا من المذيع أيضًا‪ ،‬الرجاُل‬
‫الذين بدأوا حياتهم في بنائها؛ لم يعيشوا إلى زمٍن يروَن فيه اكتمال ما بنوه‪ .‬وفي هذه النقطة‪ ،‬هم ال يختلفون عنا بشيء‪،‬‬
‫‪.‬صحيح؟"‪ ،‬ضحَك األعمى وتدّلى جفناه على عينيه‪ ،‬وبدا وكأنه يأخذ قيلولة‪ ،‬وربما يتخّيل نفسه في البرتغال‬

‫كان التلفاز يعرض كاتدرائيًة في ألمانيا‪ ،‬والمذيع يتابع السرد بصوته الرتيب‪" .‬كاتدرائيات!" قالها األعمى وهو يستيقظ‬
‫ويحّر ك رأسه إلى األمام والخلف‪" :‬في الحقيقة يا عزيزي‪ ،‬كُّل ما أعرفه عن الكاتدرائيات هو ما قلُته قبَل قليل‪ ،‬وقد عرفُته‬
‫من المذيع‪ .‬لكْن هل تصف لي إحداها؟ أتمّنى أْن تفعل ذلك‪ ،‬سأحّب ذلك‪ ،‬فأنا ال أملُك فكرًة جيدًة عنها"‪ .‬حّدقُت طويًال في‬
‫الكاتدرائية المعروضة على الشاشة‪ ،‬كيف أبدأ بالشرح؟ لكْن فأْل ُقـْل إّن حياتي متوقفٌة على ذلك‪ ،‬فأْل ُقـْل إّن حياتي مهّددٌة من‬
‫‪ِ.‬قبل شخٍص مجنون‪ ،‬أمَر ني بأْن أصَف لُه الكاتدرائية أو أموت‬

‫إنها تمتُّد إلى األعلى‪ ،‬عاليًا جدًا حتى السماء‪ ،‬إنها كبيرٌة جدًا‪ ،‬لبعِض الكنائس دعائم كبيرة تحفظ لها تماسكها‪ ،‬يمكن قول"‬
‫الكثير من األشياء‪ ،‬الدعائم تسّمى عوارض‪ ،‬إنها تذّك رني بالجسور لسبٍب ما‪ ،‬لكنَك ربما ال تعرُف ما هي الجسور أيضًا؟‬
‫أحيانًا يكون في الكاتدرائية شياطيُن منحوتٌة أمامها‪ ،‬أحيانًا تماثيل لملوٍك وسّيدات‪ ،‬لكْن ال تسألني لماذا"‪ .‬كان األعمى يهّز‬
‫برأسه‪ ،‬بل إن الجانب العلوي من جسده كان يتحّر ك لألمام والخلف‪ .‬قلُت ‪" :‬إني ال أجيُد الشرح‪ ،‬أليس كذلك؟"‪ ،‬توّقَف عن‬
‫االهتزاز‪ ،‬وحنى جذعه إلى األمام ليصغي إلّي ‪ ،‬مّر ر أصابعه داخل لحيته‪ .‬لم أستطْع إيصال الفكرة له‪ ،‬بدا ذلك واضحًا‪،‬‬
‫لكنه انتظرني لكي أتابع الشرح على نفس المنوال‪ ،‬أومأ لْي وكأنه يشجعني‪ ،‬فّك رُت بشيٍء آخر يمكن قوله‪" :‬الكاتدرائيات‬
‫كبيرة جدًا‪ ،‬إنها عمالقة‪ ،‬مبنيٌة من الحجارة‪ ،‬ومن الرخام أحيانًا‪ .‬في ذلك الزمن الذي ُبنيْت فيه الكاتدرائيات؛ أراَد الناُس أن‬
‫يكونوا على مقربٍة من هللا‪ ،‬في تلك األيام البعيدة؛ كان الدين جزءًا أساسيًا من حياة كل إنسان‪ ،‬يمكنَك معرفُة ذلك من‬
‫‪".‬الكاتدرائيات التي بنوها‪ .‬أعتذر؛ فهذا كل ما أستطيع فعله لك‪ ،‬فأنا ال أجيد الشرح‬

‫قال األعمى‪" :‬هذا جّيد يا عزيزي‪ ،‬اسمعني‪ ،‬آمُل أال تمانع أْن أطلب منَك شيئًا‪ ،‬هل لي أْن أطلب منك؟ دعني أسألَك سؤاًال‬
‫بسيطًا‪ ،‬نعم أم ال؟ إني رجٌل فضولّي فحسب‪ ،‬وال أقصد اإلساءة‪ ،‬دعني أسألَك هل أنت ‪ -‬بطريقٍة ما‪ -‬رجٌل مؤمن؟ لْن‬
‫تغضب إذا سألت؟!"‪ .‬أومأُت له برأسي لكنه لم يَر ذلك‪ ،‬فالغمُز بالعين هو نفُس اإليماءة بالنسبة لألعمى‪" :‬أظُّن أني لسُت‬
‫"مؤمنًا بأي شيء‪ ،‬أعتذُر إذا كان كالمي قاسيًا‪ ،‬أتفهمني؟‬

‫‪".‬بالتأكيد" ‪-‬‬

‫تابع المذيع سرده للمشاهد‪ ،‬بينما تنّهدْت زوجتي أثناء نومها‪ ،‬ثم أخذْت نفسًا عميقًا وواصلت النوم‪ .‬قلُت ‪" :‬سامحني ألني ال‬
‫أستطيُع إخبارَك كيف تبدو الكاتدرائية‪ ،‬ربما ال أملُك هذه الموهبة‪ ،‬وال أستطيع فعَل أكثر مما فعلت"‪ .‬بقَي األعمى صامتًا‬
‫لدقائق ورأسه منحٍن إلى األمام مصغيًا إلّي ‪ ،‬فقلُت ‪" :‬في الحقيقة‪ ،‬الكاتدرائيات ال تعني شيئًا مهّم ًا بالنسبة لي‪ ،‬إنها أشياء‬
‫تشاهدها في نهاية السهرة التلفزيونية‪ ،‬هذا كّل شيء عنها‪ ،‬هذا جوهُرها"‪ .‬ابتلَع األعمى ريقه‪ ،‬أخرَج منديًال من حقيبته‪ ،‬ثم‬
‫قال‪" :‬فهمُت عليَك يا صديقي‪ ،‬ال عليك‪ ،‬يحدُث هذا عادًة ‪ ،‬ال تقلْق "‪ ،‬وأضاف‪" :‬هل تخدمني بشيء؟ خطرْت في بالي فكرة‪،‬‬
‫لماذا ال تجلُب ورقًة كبيرة وقلمًا؟ سوف نصنُع شيئًا‪ ،‬سوف نرسُم كاتدرائيًة معًا‪ ،‬أحضْر قلمًا وورقًة كبيرة‪ ،‬هّيا بسرعة‪،‬‬
‫‪".‬أحضر األشياء‬

‫صعدُت إلى الطابق العلوي‪ ،‬أحسسُت بساقَّي وقد خارْت قواهما‪ ،‬أحسسُت بتعٍب وكأنني كنُت أركُض لمسافٍة طويلة‪ .‬أجلُت‬
‫نظري في غرفة زوجتي‪ ،‬وجدُت بضعة أقالٍم في سّلٍة صغيرٍة على الطاولة‪ ،‬ثم تساءلُت أين سأجُد الورقة الكبيرة التي‬
‫طلبها األعمى؟‪ .‬في المطبخ الواقع في الطابق السفلي‪ ،‬وجدُت كيسًا ورقيًا فيه بقايا من قشور البصل‪ ،‬أفرغُت الكيس‬
‫ونفضُته‪ ،‬أخذُت الكيس معي إلى غرفة الجلوس‪ ،‬وجلسُت على األرض قرب ساقّي األعمى‪ .‬نّظ فُت الطاولة‪ ،‬فردُت الثنياِت‬
‫‪.‬التي كانت في الكيس‪ ،‬ومددته على طاولة القهوة‬

‫نهض األعمى من األريكة وجلس بجواري على السجادة‪ ،‬مّر ر أصابعه على الورقة من األعلى إلى األسفل‪ ،‬ثم على‬
‫الجوانب‪ ،‬وعلى الزوايا األربع أيضًا‪ ،‬وقال‪" :‬حسنًا‪ ،‬لنبدأ العمل"‪ .‬تلَّمَس يدي التي تمسُك بالقلم‪ ،‬أغلَق قبضته على يدي‪،‬‬
‫‪".‬وقال‪" :‬ابدأ يا صديقي‪ ،‬ارُس ْم ‪ ،‬سوف ترى كيف سألحق بيدك‪ ،‬سيكون عمًال جيدًا‪ ،‬فقط ابدأ كما أقول لك‪ ،‬ارُس ْم‬

‫وهكذا بدأُت ‪ ،‬في البداية رسمُت مرّبعًا يشبه البيت‪ ،‬قد يكون بيتًا عشُت فيه سابقًا‪ ،‬ثم وضعُت للبيت سقفًا‪ ،‬وعلى طرفّي‬
‫السقف رسمُت ُبرجين عاليين‪ ،‬يا للجنون!‪ .‬خالل ذلك كان األعمى يقول‪" :‬ممتاز‪ ،‬رائع‪ ،‬أنت تقوم بعمل عظيم‪ .‬لم تحُلْم أّن‬
‫شيئًا كهذا قد يحدُث معَك طوال حياتك‪ ،‬أليس كذلك؟ في الحقيقة الحياُة غريبة‪ ،‬جميعنا يعرف هذا‪ .‬تابْع ‪ ،‬أبدْع "‪ .‬أضفُت‬
‫نوافَذ مقنطرة‪ ،‬رسمُت العوارَض الطائرة‪ ،‬وعّلقُت أبوابًا ضخمة‪ ،‬لم أكْن أستطيع التوقف عن الرسم‪ .‬انتهى بُّث القناة‬
‫التلفزيونية‪ ،‬وضعُت القلم جانبًا‪ ،‬أغلقُت أصابعي وفتحُتها‪ .‬وضع األعمى يده على الورقة‪ ،‬مّرر رؤوَس أصابعه على‬
‫‪!".‬الخطوط التي تركها القلم‪ ،‬ثم هّز برأسه‪" :‬عمٌل رائع‬

‫التقطُت القلم ثانيًة ‪ ،‬أمسك األعمى بيدي‪ ،‬وتابعنا الرسم‪ ،‬لسُت رّسامًا جيدًا‪ ،‬لكني تابعُت بنفس الطريقة‪ .‬فتحْت زوجتي‬
‫عينيها وحّدقْت بنا‪ ،‬كانت على األريكة وما زالْت ساقاها مكشوفتان‪ ،‬وقالت‪" :‬ماذا تفعالن؟ أخبراني‪ ،‬أريد أْن أعرف"‪ .‬لم‬
‫أجْبها‪ ،‬فقال األعمى‪" :‬إننا نرسُم كاتدرائية‪ ،‬نعمل كالنا عليها"‪ ،‬ثم قال لي‪" :‬اضغْط بقوة‪ ،‬هذا جّيد‪ ،‬نعم رائع‪ .‬طننَت أنَك ال‬
‫تستطيُع فعَل ذلك‪ ،‬لكنَك استطعت‪ ،‬أليس كذلك؟ أنَت اآلن تطهو على ناٍر هادئة‪ ،‬أتفهُم ما أقول؟ سوف ننجُز عمًال هامًا بعد‬
‫‪!".‬دقيقة‪ ،‬انَس ذراعَك القديمة‪ ،‬ضْع قليًال من الناس في الداخل‪ ،‬فما قيمُة الكاتدرائية من دون الناس؟‬
‫قالت زوجتي‪" :‬ما الذي يحدُث يا روبرت؟ ماذا تفعالن؟ ما الذي يجري هنا؟!"‪ .‬فأجابها‪" :‬كُّل شيء على ما يرام"‪ ،‬ثم قال‬
‫‪!".‬لي‪" :‬أغـِلـْق عينيَك اآلن"‪ ،‬ففعلُت وأغلقُتهما كما طلب‪ .‬وأضاف‪" :‬هل هما مغمضتاِن حقًا؟ ال تغّش‬

‫‪".‬إنهما فعًال مغمضتان" ‪-‬‬


‫‪".‬أبقيهما كذلك‪ ،‬وال تتوقْف ‪ ،‬تابع الرسم" ‪-‬‬

‫تابعنا الرسم معًا‪ ،‬أصابُعه تركُب فوق أصابعي‪ ،‬بينما تسيُر يدي على الورقة‪ .‬كان ذلك شيئًا لم يحدث معي طوال حياتي‪.‬‬
‫‪".‬ثم قال‪" :‬أعتقُد أننا نجحنا‪ ،‬لقد فعلتها!‪ ،‬انظْر إليها اآلن‪ ،‬ما رأيك؟‬

‫لكّن عينّي ما زالتا ُمغلقتين‪ ،‬اعتقدُت أنه يجب علّي إبقاؤهما مغمضتين لفترٍة أطول‪ ،‬أحسسُت أنه أمٌر واجٌب علّي ‪ .‬قال‬
‫‪".‬األعمى‪" :‬حسنًا‪ ،‬هل أنَت تنظر اآلن؟‬

‫‪!".‬أبقيُت عينّي مغمضتين‪ ،‬كنُت في بيتي‪ ،‬أعرُف ذلك‪ ،‬لكنني لم أشعْر أنني في أّي مكان‪ ،‬وقلُت ‪" :‬إنها حقًا جميلة‬

You might also like