Professional Documents
Culture Documents
الكاتدرائية Cathedral
الكاتدرائية Cathedral
الكاتدرائية Cathedral
ذات صيٍف في "سياتل" ،كانت زوجتي بحاجٍة إلى عمٍل لكونها مفلسًة ،وألّن الرجل الذي كانْت تنوي الزواج به عند نهاية
الصيف؛ ما زال طالبًا في مدرسة الضباط ،أي مفلسًا أيضًا .لكنها كانت تحّبه ،وهو يحّبها...إلخ .لمحْت إعالنًا في الجريدة:
"نرجو المساعدة – القراءة لرجل أعمى" مع رقم الهاتف ،فاتصلْت وذهبْت لزيارته ،وحصلْت على الوظيفة فورًا ،وعملْت
عند األعمى طوال الصيف .لقد قرأْت له كتبًا ودراساٍت اجتماعية وتقارير صحفية وغيرها ،وساعدْت ُه في تنظيم مكتبه
الصغير في دائرة الخدمات االجتماعية ،ثم أصبحا صديقين مقّر بين ،نعم ..زوجتي والرجل األعمى .كيف عرفُت هذه
األشياء؟ هي من أخبرني بذلك ،بل أخبرْت ني أكثَر من ذلك ،ففي آخر يوٍم من عملها عنده ،طلَب األعمى أْن يلمس وجهها،
فوافقْت ! وأخبرْت ني أنه مّر ر أصابعه على كامل أجزاء وجهها ،حتى أنفها ورقبتها! ،كما أنها حاولْت أن تكتَب قصيدًة عن
.ذلك ،فهي دائمًا تحاول أن تكتب قصيدة ،وكانْت تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام ،غالبًا بعد حدوٍث أمٍر مهّم في حياتها
عندما بدأنا نخرج معًا – أنا زوجتي ،أرْت ني القصيدة ،في القصيدة كانت تسترجُع أصابَع ُه والطريقَة التي مّر رها بها على
كامل وجهها ،وفي القصيدة أيضًا تصُف مشاعرها في تلك اللحظات ،وما جاَل في ذهنها عندما كان األعمى يلمُس أنفها
وشفتيها .أذكُر أنني لم ُأِع ـْر اهتمامًا للقصيدة ،بالطبع لم أخبْر ها بذلك ،ربما ألنني ال أفهُم الشعر ،وعادًة ال أمُّد يدي إلى
.كتِب الشعر عندما أنوي القراءة
المهّم ؛ ذلك الرجل الذي استمتَع بجمالها قبلي ،والذي سيصبُح ضابطًا ،كان حبيبها منذ أيام الطفولة .أقوُل ذلك ألشير أنه
في نهاية الصيف الذي سمحْت به لألعمى أْن يلمَس وجهها ،وّد عِت األعمى وتزّو جْت حبيَب الطفولة ...إلخ ،والذي غدا
ضابطًا رفيعًا وانتقلت معه من "سياتل" ،لكنها بقيْت على اتصاٍل باألعمى ،فأجرْت أول اتصاٍل به بعد سنة ،ذات ليلٍة من
قاعدة القوى الجوية في "آالباما" ،يومها كانْت بحاجٍة لشخٍص ُتـِس ـُّر له ،فتحّدثا وطلَب منها أْن ترسَل شريطًا مسّج ًال تروي
فيه تفاصيل حياتها الجديدة ،وفعًال أرسلْت شريطًا تتحدُث فيه عن زوجها وتفاصيل حياتهما في الجيش ،وأخبرت األعمى
إنها تحّب زوجها ،لكنها ال تحّب مكان إقامتهما ،ولم ترتْح لعمله في الصناعات الحربية ،وأخبرت األعمى أنها كتبْت
.قصيدًة ،وكانت القصيدة عنه ،وأنها ستكتب قصيدًة عن معاناة زوجة ضابط في القوى الجوية
سّج ل األعمى شريطًا صوتيًا أيضًا ،وأرسله لها ،فرّد ْت عليه بشريٍط آخر ،واستمّر هذه الحالة لسنوات .كان ضابُط زوجتي
ينتقل من قاعدة عسكرية إلى أخرى ،وكانت زوجتي ترسل األشرطة المسّج لة من عّدة قواعد للقوى الجوية ،منها" :مودي-
ماك غواير -ماك كونيل" وآخرها قاعدة "ترافيس" قرب سكرامنتو ،حيث كانت تشعر بالوحدة الشديدة والعزلة عن الناس،
وبالضَي اع وسَط حياٍة دائمة التنقل ،لدرجٍة لم تعْد تحتمُل فيها انتقاًال آخر ،يومها ابتلعْت كَّل حبوب األدوية الموجودة في
.خزانة األدوية المنزلية ،وشربْت زجاجًة من الِج ـّن ،ثم أخذْت حّمامًا ساخنًا ،فُأغمَي عليها
وبدًال من أْن تموت ،مرضْت فقط .ضابُط ها (وما حاجُت ه إلى االسم؟ لقد كان حبيبها منذ أيام الطفولة ،فماذا يريد أكثر؟)
عاد إلى البيت من مكاٍن ما ،فوجدها على حالتها تلك واتصل باإلسعاف .وعلى الفور سّج لْت كَّل ما حدث معها على
شريط ،وأرسلْت ه إلى األعمى ،كعادتها خالل السنوات الماضية ،تسّج ُل كل شيٍء على أشرطٍة وترسلها إليه .وباإلضافة إلى
كتابتها لقصيدٍة كل سنة ،كانت األشرطة وسيلَت ها األساسية للتسلية .في أحد األشرطة أخبرِت األعمى أنها قّررِت العيش
بعيدًا عن ضابطها لفترٍة من الزمن ،في شريٍط آخر أخبرته بطالقها .بعد ذلك بدأنا نخرج معًا ،ومن المؤّك د أنها أخبرت
األعمى بذلك ،فهي تخبرُه بكل شيء أو هكذا يبدو لي .مرًة طلبْت مني أْن أسمَع آخر شريٍط أرسله األعمى ،كان ذلك منذ
عاٍم تقريبًا ،وأضافْت أنني مذكوٌر في التسجيل .أحضرُت مشروبًا وجلسنا في غرفة المعيشة جاهزين لالستماع ،في البداية
وضعِت الشريط في المسّج لة وعّدلْت مفاتيَح الصوت ،ثم بدأ شخٌص ما بالحديث بصوٍت عاٍل ،فأخفَض ْت صوَت المسّج ل.
وبعد دقائق من الثرثرة البريئة سمعُت اسمي على شفتّي الغريب ،حين قال" :لم أكْن أعلم ،ومن خالل كّل ما قلِته عنه،
يمكنني فقط أْن أسنتنتج ،"...وعندها ثمة من قاَط عنا ،ربما ُقرَع جرُس الباب أو حدث أمٌر آخر ،ومن بعدها لم نُع ْد لمتابعة
.الشريط .ربما كان ذلك أفضَل بالنسبة لي ،فقد سمعُت كل ما أريد سماعه
لم أجْبها ،وراحْت تحّد ثني عن زوجة األعمى ،اسمها بيوال ،بيوال! إنه اسٌم المرأٍة سوداء ،فسألُت " :هل كانت زوجته
"زنجية؟
ًة
عقلك فجأ ؟" - فقدَت "!أنَت مجنون؟ هل
"!التقطْت زوجتي حّبة من البطاطا ،ضربْت بها األرض ثم تدحرجْت تحت الفرن ،وقالت" :ما مشكلتك؟ هل أنَت سكران؟
".إنه مجّر د سؤال" -
بعد ذلك أخبرتني زوجتي عن تفاصيل أكثَر بكثيٍر مما كنُت أوُّد سماعه ،فسكبُت كأسًا وجلسُت على طاولة المطبخ
ُ.مستمعًا ،وبدأْت شظايا القّصة تتساقُط في أرجاء المكان
ذهبْت بيوال للعمل عند الرجل األعمى بعد أْن تركْت زوجتي العمَل عنده ،وبعد فترٍة قصيرٍة تزّو جْت بيوال واألعمى زواجًا
كنسيًا ،كان حفُل زفافهما صغيرًا (من سيذهُب إلى زفاٍف كهذا أصًال؟) ،حيث اقتصر حضوُر الحفل على الزوجين،
باإلضافة إلى القّس وزوجته .لكنه كان حفل زفاٍف كنسّي كالعادة ،وكما كانت بيوال تريُده حسَب قول األعمى .وبالرغم من
أّن بيوال كانت مصابًة بسرطان الُغ دد ،إال أنه وبعد ثماني سنواٍت من ارتباطها مع األعمى (سـّم ـْت ـُه زوجتي "ارتباطًا")،
تدهورْت صّح ُتها سريعًا ،وتوفيْت في إحدى غرف مشفى "سياتل" ،حيُث كان األعمى جالسًا قرَب سريرها ممسكًا بيدها.
لقد تزّو جا ،عاشا وعمال معًا ،ناما معًا (وبالتأكيد مارَس ا الجنس) ،وبعدها صار على الرجل األعمى أْن يدفن زوجته .حدَث
كُّل ذلك دون أن يستطيع يومًا رؤية وجِه زوجته المسكينة ،كان هذا فوق قدرتي على االستيعاب ،وبسماعي لُه أحسسُت
ببعض األسى على األعمى .ثم بدأُت أفّك ر بالحياة التعيسة التي عاشتها تلك المرأة ،تصّو ْر امرأًة لم تستطْع أْن ترى نفسها
في عيون الرجل الذي يحُّبها ،امرأًة تعيُش يومًا بعد يوٍم دون أْن تسمَع كلمة غزٍل واحدٍة من حبيبها ،امرأًة ال يستطيع
زوجها قراءَة تعابير وجهها ،يا لها من مأساة! .امرأًة يمكنها أْن تتبّر ج أو ال تتبّر ج دون أن يختلف شيٌء بالنسبة لزوجها،
يمكنها أْن تضع ِظ ـًاّل حول عيٍن واحدٍة فقط ،ودبوسًا غريبًا في فتحة أنفها ،قد ترتدي بنطاًال أصفَر وحذاًء أحمَر ،ال فرق!.
ثم خطفها الموُت ويُد األعمى فوق يدها ،وعيناُه العمياوان تسكبان الدموع -أتخّيُل المشهد اآلن ،-ربما كان آخَر ما فّك رْت
به وهي على عربة الموتى ،أنه لم يعرْف يومًا كيف يبدو شكُلها .وتركْت زوَج ها وحيدًا ،ال يملُك سوى عقد تأميٍن محدود،
ونصَف قطعٍة نقديٍة من فئة العشرين بيسو المكسيكية ،أما النصُف الثاني من القطعة نفسها ،فقد بقَي معها في التابوت ،يا
!.للبؤس
عندما حان الموعد ،ذهبْت زوجتي إلى محطة القطار لتجلبه معها ،فجلسُت وحدي منتظرًا ،فال شيء عندي في هذه الحالة
سوى االنتظار الذي ألوُم األعمى عليه بالتأكيد .كنُت أشرُب كأسًا وأشاهد التلفاز عندما سمعُت سيارًة تقف أمام المنزل،
.نهضُت من األريكة حامًال كأسي بيدي ،واتجهُت إلى النافذة أللقي نظرة
شاهدُت زوجتي تضحُك وهي تركُن السيارة ،ثم رأيُتها تخرج من السيارة وتغلق الباب ،وما زالت االبتسامُة مرسومًة على
وجهها ،مذهل! .ثم استدارْت حول السيارة باتجاه الجانب اآلخر ،حيُث كان األعمى يتهّيأ للنزول .كان الرجُل األعمى -
تخّيْل ذلك -يرتدي لحيًة عمالقة! ،لحيٌة فوق رجٍل أعمى! هذا كثير .اتجه األعمى إلى المقعد الخلفي وسحب حقيبته من
عليه ،أمسكْت زوجتي بذراعه وأغلقْت باب السيارة ،مشَي ا من مصِّف السيارات إلى الرواق األمامي للبيت ،وهما يتحدثان
.طوال الطريق .أنهيُت شرابي وغسلُت الكأس وجففُت يدي ،ثم اتجهُت إلى باب البيت
قالْت لي زوجتي" :أريدَك أْن تتعّر ف على روبرت" ،وقالْت له" :هذا زوجي يا روبرت ،حدثتَك عنه" ،كانت تبتسُم وهي
.تمسُك بذراع األعمى
ًال ًا ُت مّد ًا
وضع األعمى حقيبته أرض ،يده إلّي ،أخذ ها ..فعصَر ها بقّو ة ،وبقي ممسك بيدي لبرهٍة ثم أفلتها .وزمجَر قائ " :أحُّس
وكأننا التقينا من قبل" .قلُت " :وأنا أيضًا" فلم يكْن عندي شيٌء آخر ألقوله ،ثم قلُت " :أهًال وسهًال ،سمعُت كثيرًا عنك".
وشرعنا المسيَر إلى غرفة الجلوس ،زوجتي تقودُه من ذراعه بينما يحمل حقيبته بيده األخرى ،كانت زوجتي تقول أشياء
من قبيل "إلى اليسار روبرت ،أحسنت ،اآلن انتبْه فهنالك كرسّي ،نعم هنا ،اجلْس هنا على األريكة ،لقد اشترينا هذه
".األريكة منذ أسبوعين
كنُت أوُّد الحديث عن األريكة القديمة ،فقد كانت غاليًة علّي ،لكنني لم أقل شيئًا .ثم أردُت الحديث عن المناظر الطبيعية
التي يشاهُدها المسافُر بالقطار على طول نهر "هودسون" ،فعندما تسافر إلى نيويورك يجب أْن تجلس في الجانب األيمن
من القطار ،وعندما تعود يجب أن تجلس في الجانب األيسر .سألُت " :هل كانْت رحلُتَك بالقطار موفقًة ؟ وبالمناسبة ،في أي
".جانٍب من القطار كنَت جالسًا؟
"رّد ْت زوجتي" :يا لُه من سؤاٍل ُيسأل! وما الفرق في أي جانٍب كان؟
".مجّر د سؤال" -
قال األعمى" :في الجانب األيمن ،لم أركب القطار منذ قرابة أربعين عامًا ،يومها كنُت طفًال يسافر مع أهله ،كان ذلك منذ
زمن بعيد ،حتى أني نسيُت ذاك الشعور ،فالشتاُء يغزو لحيتي في هذا العمر ،هكذا يقولون لي .على كّل حال هل أبدو
"مميزًا يا عزيزتي؟
أجابت زوجتي" :أنَت حقًا ممّيز يا روبرت ،روبرت ..ما أسعدني برؤيتك يا روبرت!" .وأخيرًا رفعْت زوجتي عينيها عن
.األعمى ونظرْت إلّي ،أحسسُت أنها لم تكْن راضيًة عّما بدَر مني ،فهززُت لها كتفّي بال مباالة
لم ألتِق ،ولم أعرف بشكٍل شخصّي ،رجًال أعمى من قبل .هذا األعمى كان في أواخر العقد الرابع من عمره ،بدينًا..
أصلَع ..بأكتاٍف منحنيٍة وكأنه يحمل وزنًا ثقيًال فوقها ،البسًا بنطاًال بنّيًا وحذاًء بنّيًا ،وقميصًا بنّيًا فاتحًا مع ربطة عنق ،كان
أنيقًا حقًا ،وأيضًا كان يرتدي تلك اللحية العمالقة .لكنه ال يحمل عكازًا وال يضع نّظ ارًة سوداء ،لطالما ظننُت أن النظاراِت
السوداء َف رٌض على العميان .في الحقيقة ،تمّنيُت لو يضُع نظارًة سوداء ،حين نظرُت في عينيه ألّو ل مرٍة؛ بدْت لي مثل
عيون جميع الناس ،لكن إذا أمعنَت النظَر تلحظ االختالف في عينيه ،فهما شديدتا البياض ،وتلحُظ البؤبؤ وهو يدوُر في
محجر العين دون معرفة صاحبه بذلك ،ودون أْن يقدر على إيقافه ،وكأنه ال يحُّس به .عندما حّدقُت في وجهه رأيُت بؤبؤ
العين اليسرى يّتجه نحو األنف ،بينما يحاول بؤبؤ العين اليمنى البقاَء في مكانه جاهدًا ،لكنها مجّر ُد محاولة ،إذ سرعاَن ما
.تابع تجواله في العين دون معرفة األعمى أو إرادته
سألته" :سأحّضُر الشراب ،أّي نوٍع تفّضل؟ عندي تشكيلٌة من كافة األنواع ،وهذه إحدى هواياتي" ،فأجاب بسرعًة وبنبرٍة
".عالية" :صديقي ،ويسكي استكتلندية" ،قلُت " :حسنًا يا صاح ،لقد عرفُت ذلك
مّد يده إلى حقيبته المتكئة جانب األريكة ،وكأنه يحاول تحديد االتجاهات لينهَض ويسير ،لم أُلـْم ه على ذلك .قالت زوجتي:
"سوف أحمُل حقيبتك إلى غرفتك في األعلى" ،فأجاب" :ال عليِك ،سآخذها معي حين أصعد إلى األعلى" .سألُت " :هل تريد
".بعض الماء مع الويسكي؟
".فهمت" -
وأردف قائًال " :القليل من الماء فقط ،ألن الممثل اإليرلندي باري فيتزجيرالد ،وهو صديقي العزيز ،يقول عندما يراني
أمزُج الويسكي بالماء :يوميًا نشرب الماء ،لكن عند الويسكي ،أريدها ويسكي فقط" .ضحكْت زوجتي وحَد ها من هذه النكتة
.الَس ِمجة ،رفع األعمى لحيته بيده ،ثم تركها تنزُل ببطء
حّضرُت المشروب ،ثالث كؤوس كبيرة من الويسكي مع رّش ٍة ماٍء في كٍّل منها ،جلسنا باسترخاٍء وتحدثنا عن أسفار
روبرت ،أّو لها الرحلة الجوية الطويلة من الساحل الغربي إلى "كونيتيكيت" ،ثم من "كونيتيكيت" إلى هنا بالقطار ،وسكبنا
.كؤوسًا جديدة
تذّك رُت أنني قرأُت ذات يوم ،أّن األعمى ال يدّخ ن ،وقد فّسرُت ذلك بكونه ال يستطيع رؤية الدخان الذي ينفثه ،أعتقد أنه
الشيء الوحيد الذي أعرفه عن العميان .لكّن هذا األعمى دّخ ن سيجارته حتى عقبها ،ثم أشعل واحدًة أخرى ،إلى أْن مأل
.منفضة السجائر ،فقامت زوجتي إلفراغها
جلسنا على طاولة العشاء مع كؤوس جديدة ،مألْت زوجتي طبَق روبرت بشرائح اللحم ،والبطاطا المطهية بالصلصة،
والفاصولياء الخضراء ،وقد أعطيُت ه أنا رغيفين من الخبز المدهون بالزبدة .رشفُت من كأسي وقلت" :اآلن ..دعونا
نصّلي" ،أخفَض الرجُل األعمى رأسه ،نظرْت إليه زوجتي فاغرًة فمها .فقلُت " :دعونا نصّلي أاّل يرّن الهاتف ،وأاّل يبرد
".الطعام
انغمسنا في الطعام ،أكلنا كَّل شيٍء قابٍل لألكل على الطاولة ،أكلنا وكأنه آخُر يوٍم لنا في الحياة .لم نتحدث ،كنا نأكل فقط،
كنا منهمكين بالطعام بشكٍل جّد ي .وكان األعمى يأكل من طبقه الموضوع أمامه ،ويعرف تمامًا مكاَن كِّل صنٍف في
الطبق ،شاهدته بإعجاٍب وهو يتناول اللحَم بالشوكة والسكين ،يقطع قطعًة من اللحم ،يأكلها بالشوكةُ ،يتبعها بالبطاطا ثم
.الفاصولياء ،وبعدها يأكل قطعًة من الخبز المدهون بالزبدة ،ويختُم هذه السلسلة بجرعٍة كبيرة من الحليب
أنهينا كل شيء ،باإلضافة إلى نصف فطيرة الفراولة ،وجلسنا منهكين لعدة دقائق ،والعرُق يتصّبب من وجوهنا ،ثم نهضنا
عن الطاولة تاركيَن بقايا المائدة المتسخة وراءنا ،ودون أّي التفاٍت إلى الخلف ،اتجهنا إلى غرفة الجلوس عائدين إلى
أماكننا .جلَس روبرت وزوجتي على األريكة ،بينما جلسُت على الكرسّي الكبير ،وشرعا يتحدثان عن األمور المهّمة التي
لم يتحدثا عنها بشكٍل كاٍف خالل السنوات العشر الماضية ،كنُت مستمعًا معظم الوقت ،ثم قررُت المشاركة بالحديث لكي ال
يظّن األعمى بأني غادرُت الغرفة ،أو تشعر زوجتي بأنني أصبحُت شخصًا هامشيًا .كانا يتحدثان عن األشياء التي حدثت
معهما –فقط هما -خالل عشر سنوات ،انتظرُت أْن أسمع اسمي على شفتّي زوجتي العذبتين ،كأن تقول" :ثـّم دخل زوجي
العزيز إلى حياتي" ،لكنني لم أسمع شيئًا من هذا القبيل ،واستمّر الحديث عن روبرت .يبدو أّن روبرت هذا اشتغل في
مختلف المجاالت ،ويبدو بارعًا في كل األعمال ،وكان آخُر ها عندما عمل مع زوجته في شركة دولية للتسويق ،ومنها –
كما فهمُت -كانا يؤّمنان مصاريَف حياتهما (إذا اعتبرناها حياًة ) .الرجل األعمى أيضًا ،كان يعمل مذيعًا في إذاعة للهواة،
وحّدثنا بصوتِه الجهور عن الحوارات التي دارْت بينه وبين زمالئه في اإلذاعة ،بعُضهم من الفيليبين ،وآخرون من
آالسكا ،وأيضًا من تاهيتي ،وقال إنه يملك العديد من األصدقاء في حال رغَب بزيارة تلك المناطق .بين الفينة واألخرى
كان يدير وجهه إلّي ،يضع يده على لحيته ويسألني شيئًا مثل :منذ متى وأنت على رأس عملك؟ (ثالث سنوات) ،وهل
.تحّب عملك؟ (ال) ،هل ستبقى فيه؟ (وهل لدّي خياراٌت أخرى؟) ،وأخيرًا عندما شعرُت أنه ذاهٌب إلى النوم ،أشعلُت التلفاز
نظرْت زوجتي إلّي بحنق ،كادْت أْن تنفجر من الغضب ،ثم نظرْت إلى األعمى وقالت" :روبرت ،هل عندك تلفاز؟"،
فأجاب" :عزيزتي ،عندي اثنان ،تلفاٌز ملّو ن وتلفاٌز قديٌم باألبيض واألسود .ومن المضحك أنني عندما أشعل التلفاز ،وهو
"دائمًا مشعٌل عندي ،فإنني أشعُل التلفاز الملّو ن .مضحٌك! أليَس كذلك؟
.لم أعرف ما أقول ،لم يكن عندي شيٌء ألقوله ،وال أُّي رأي .ولذا تابعُت نشرة األخبار ،وحاولُت اإلصغاء لما يقوله المذيع
".هذا تلفاٌز ملّو ن" قالها األعمى وأضاف" :ال تسألني كيف عرفُت ذلك"
".قلُت " :اشتريناه منذ فترٍة قريبة
شرب األعمى كأسًا أخرى ،أمسَك لحيته ورفعها ،اشتنشقها ثم أفلتها ،انحنى على األريكة ،وضع منفضة السجائر على
.طاولة القهوة ،أشعَل سيجارًة ،أرجع ظهره إلى الخلف واضعًا رجًال على رجل
وضعْت زوجتي يدها على فمها وتثاءبت ،تمّط ْت قليًال وقالت" :أعتقد أنني سأصعد إلى األعلى وأرتدي ثوب النوم.
روبرت ..تصّر ْف وكأنك في منزلك" ،فقال األعمى" :أنا مرتاٌح هكذا" ،رّدت" :أريدَك أن تشعر بالراحة حقًا" ،فأجاب:
"".إني مرتاٌح حقًا
بعد أن غادرِت الغرفة ،استمعُت مع األعمى إلى النشرة الجوية ثم األخبار الرياضية .لقد أطالْت زوجتي غيابها ،ولم أكْن
أعلم إْن كانت ستعود أم ال ،حسبُت أنها قد نامت ،وتمّنيُت لو تعود بسرعة ،ألني ال أريد البقاء وحيدًا مع رجٍل أعمى.
سألُته إذا كان يرغب بكأٍس أخرى ،فأجاب" :بالتأكيد" ،ودعوته لتدخين سيجارة ماريوانا معي ،فقال" :سأجّرب بعضها
".معك" ،قلت" :عظيم! هذا ما أريد
أحضرُت كأسين وجلسُت بجانبه على األريكة ،ثم لففُت لكلينا سيجارتي ماريوانا عريضتين ،أشعلُت واحدًا ووضعُته بين
.أصابعه ،فأخذه وعَّب منه .قلُت " :استنشْق بأكثَر مما تستطيع" ،أحسسُت أنه ال يجيد تدخين الماريوانا
عادت زوجتي إلى غرفة الجلوس ،البسًة ثوب النوم الوردي ،وخَّف النوم الوردي .قالت" :ما هذه الرائحة؟!" ،فقلُت :
"قررنا تجريب بعٍض من الماريوانا" .ألقْت زوجتي نظرتها المتوحشة علّي ،وقالت لألعمى" :روبرت ،لم أكْن أعلم أنك
تدّخ ن الماريوانا" ،فأجاب" :إني أدّخ نها اآلن ،إنها المرة األولى ،لكني لم أشعر بتأثيرها بعد" .وهنا تدّخ لُت " :هذا النوع
.ممتٌع جدًا ،ومعتدٌل أيضًا ،إنه من النوع الذي يبقيَك صاحيًا ،وال يشّو ش الذهن" ،فقال" :ال يبدو كما تقول" ،وضحك
جلسْت زوجتي على األريكة بيني وبين األعمى ،أعطيُتها سيجارة الماريوانا فسحبْت منها وأعادتها إلي ،وقالت" :إلى أين
نحن ماضون؟ ال ينبغي أْن أدّخ ن من هذا ،فأنا بالكاد أستطيُع إبقاء عينّي مفتوحتين ،هذا العشاء قضى علّي ،كان من
".األجدر أاّل آكل كثيرًا
هذا بسبب فطيرة الفراولة" ،قالها األعمى وتابع" :الفطيرُة قضْت عليِك " ،وضحَك ضحكته المزمجرة التي تنتهي"
باهتزازاٍت من رأسه .قلُت " :بقَي القليُل من فطيرة الفراولة" ،وأضافْت زوجتي" :هل تريد المزيد يا روبرت؟" ،فأجاب:
"".ربما بعد قليل
عدنا لمشاهدة التلفاز ،تثاءبْت زوجتي مرًة أخرى وقالْت " :السرير جاهز إذا أردَت النوم يا روبرت ،أعرف أنَك أمضيَت
!".يومًا طويًال ،وعندما توّد النوم أخبرنا" ،هّز ْت ـُه من ذراعه وصاحْت " :روبرت
صحا من غفوته وقال" :لقد أمضيُت وقتًا رائعًا ،يفوق كل األشرطة المسّج لة ،أليس كذلك؟" ،فقلُت " :هذا عائٌد إليك"،
وضعُت السيجارة بين أصابعه ،استنشقها بعمٍق ثم أطلق غمامًة ،بدا لي وكأنه يدّخ ن الماريوانا منذ أن كان في التاسعة من
.عمره
قالْت زوجتي" :سأبقى جالسًة بينكما ،وعيناي مغمضتان ،إذا كان هذا ال يزعجكما ،وعندما تنزعجاِن أخبراني ،وإذا لم
يحدْث ذلك سأبقى جالسًة بعينين مغمضتين إلى أْن تقّر را الذهاب إلى النوم" .ثم قالْت لروبرت" :سريرك جاهٌز في الغرفة
.المجاورة لغرفتنا في الطابق العلوي" ،وأغلقْت عينيها ونامت
انتهى البرنامج اإلخباري فغّيرُت القناة ،تمّنيُت لو لم تكْن زوجتي متعبًة بهذا الشكل ،رأُسها مّتكٌئ على كتف األريكة ،فُمها
مفتوح ،ثوُبـها منحسٌر عن ساقيها كاشفًا فخذًا شهّيًا ،مددُت يدي وغّط يُت ساقيها ،بعد أْن تأّك دُت أّن األعمى ال يراني ،ماذا
.بحّق الجحيم! لقد انكشَف فخُذ ها مجّددًا
"قلُت " :هل أنَت متعٌب ؟ هل تريدني أْن آخذَك إلى السرير؟ هل أنَت جاهٌز للنوم؟
ليس بعد ،سأبقى معك يا صاح ،سأبقى معَك حتى تقّر ر أنَت الذهاب إلى النوم .لم تسنْح لنا الفرصُة للكالم ،تعرُف ما"
.أعنيه ،أحُّس أننا -أنا وهي -احتكرنا كامل األمسية" .رفَع لحيته بيده ثم تركها تهوي ،وتناول علبة السجائر والوالعة
قلت" :رائع! إني سعيٌد برفقتك" ،وربما كنُت فعًال كذلك ،فكَّل ليلٍة أدّخ ن الماريوانا وحدي ،وأبقى صاحيًا ألطول فترٍة أقدر
عليها ثم أخلُد إلى النوم .من النادر أْن أذهَب مع زوجتي إلى النوم بنفس الوقت ،وحين أناُم تزورني تلك األحالم الشريرة،
.فأستيقُظ بسببها كالمجنون
كان التلفاز يعرُض شيئًا ما عن الكنيسة والعصور الوسطى ،لم يكن برنامجًا تافهًا كما أحّب ،أردُت مشاهدة شيٍء آخر،
قّلبُت بين القنواِت فلم أجْد شيئًا يصُلح للمشاهدة ،ولذا عدُت إلى القناة األولى واعتذرت .قال األعمى" :ال عليَك يا عزيزي،
أنا سعيٌد بكل األحوال ،أّي شيٍء تريد مشاهدته سيكون جّيدًا بالنسبة لي ،فأنا أتعّلم من كل شيء ،التعُّلم ال ينتهي ،لْن
".يضّر ني أْن أتعّلم شيئًا جديدًا هذه الليلة ،ال تنَس ..لدّي أذنان
لم نقْل شيئًا لبرهٍة من الزمن ،كان األعمى منحنيًا إلى األمام ،وأذنه اليمنى تتجه إلى مصدر الصوت .بين الفينة واألخرى
.كانْت أجفاُنـه تتدّلى فوق عينيه ،ثم يرفعها بحركٍة سريعة ،يمسُك لحيته ويشّدها ،وكأنه يفّك ر بما يسمعه من التلفاز
على شاشة التلفاز ،كان بضعُة رجاٍل يرتدون القالنس ،يتعّر ضون للتعذيب من قبل رجاٍل يرتدون هياكل عظمية ،ورجاٌل
يلبسون ما يوحي بأنهم شياطين ،الرجاُل الشياطين كانوا يلبسون أقنعَة الشيطان ذات القرون ،واألذيال الطويلة .هذا
العرُض كان جزءًا من كرنفال ،وقال المذيع اإلنكليزي الذي يعّلق على المشهد؛ إّن ذلك يحدث في إسبانيا مرًة كل عام.
.حاولُت أْن أشرح لألعمى ما يحدث ،فقال" :هياكل عظمية ،أعرف الهياكل العظمية" ،ثم أومأ ونام
كان التلفاز يعرض كاتدرائيًة واحدة ،ثم ثالث كاتدرائيات طوال ،وبعدها انتقل المشهُد إلى تلك الكاتدرائية الشهيرة في
فرنسا ،بعوارضها الطائرة وأبراجها الممتدة حتى السحاب ،انسحبْت الكاميرا لُتظهر الكاتدرائيًة كاملًة وهي تغفو على خّط
.األفق
في بعض الفترات ،كان المذيع الذي يعّلق على المشاهد؛ يصمت تاركًا الكاميرا تتجول بين الكاتدرائيات ،وأحيانًا في
األرياف المجاورةُ ،مظهرًة رجاًال يسيرون خلف الثيران في الحقول .انتظرُت ألطول مدة ممكنة ،ثم شعرُت بضرورة أْن
أقول شيئًا ،فقلُت " :إنهم يعرضون الكاتدرائيات من الخارج اآلن ،نوافير المياه ،تماثيل صغيرة منحوتة على شكل وحوش.
أعتقد أنهم في إيطاليا اآلن ،نعم إنها إيطاليا ،فهنالك لوحات على جدران الكنيسة" .سألني" :هل هي لوحات جّصية؟" ،ثم
رشَف من كأسه .مددُت يدي إلى كأسي فوجدُتها فارغة ،حاولُت أن أتذّك ر ما علّي تذُّك ره" :تسأُلني إْن كانْت هذه اللوحات
".جّصية؟ إنه سؤال وجيه ،لكني ال أعرف
انتقلت الكاميرا إلى كاتدرائية قرب لشبونة ،ال توجد فروٌق كبيرة بين الكاتدرائيات البرتغالية والكاتدرائيات الفرنسية
واإليطالية ،لكنها موجودة ،ومعظُم الفروق في التصميم الداخلي .ثم خطَر شيٌء في بالي فقلُت " :يخطُر لي شيء ،هل تملُك
أدنى فكرٍة عّما تكون الكاتدرائيات عليه؟ هل تعرف كيف تبدو؟ هل تفهُم علّي ؟ إذا ذكَر أحُدهم كلمة "كاتدرائية" أمامك،
!".فهل لديَك أُّي تصّو ر عّما يتحدث؟ هل تعرف الفرق بين الكاتدرائية والكنسية؟ ُقـْل
نفَث الدخان من فمه بشكٍل متقّط ٍع وقال" :أعرف أنها تحتاج مئات الرجال ،وخمسين أو مائة سنة حتى يتّم بناؤها" ،لقد
سمعُت هذا للتّو ،أعرف أّن أجياًال من نفس العائلة عملوا على بناِء كاتدرائيٍة واحدة ،سمعُت هذا من المذيع أيضًا ،الرجاُل
الذين بدأوا حياتهم في بنائها؛ لم يعيشوا إلى زمٍن يروَن فيه اكتمال ما بنوه .وفي هذه النقطة ،هم ال يختلفون عنا بشيء،
.صحيح؟" ،ضحَك األعمى وتدّلى جفناه على عينيه ،وبدا وكأنه يأخذ قيلولة ،وربما يتخّيل نفسه في البرتغال
كان التلفاز يعرض كاتدرائيًة في ألمانيا ،والمذيع يتابع السرد بصوته الرتيب" .كاتدرائيات!" قالها األعمى وهو يستيقظ
ويحّر ك رأسه إلى األمام والخلف" :في الحقيقة يا عزيزي ،كُّل ما أعرفه عن الكاتدرائيات هو ما قلُته قبَل قليل ،وقد عرفُته
من المذيع .لكْن هل تصف لي إحداها؟ أتمّنى أْن تفعل ذلك ،سأحّب ذلك ،فأنا ال أملُك فكرًة جيدًة عنها" .حّدقُت طويًال في
الكاتدرائية المعروضة على الشاشة ،كيف أبدأ بالشرح؟ لكْن فأْل ُقـْل إّن حياتي متوقفٌة على ذلك ،فأْل ُقـْل إّن حياتي مهّددٌة من
ِ.قبل شخٍص مجنون ،أمَر ني بأْن أصَف لُه الكاتدرائية أو أموت
إنها تمتُّد إلى األعلى ،عاليًا جدًا حتى السماء ،إنها كبيرٌة جدًا ،لبعِض الكنائس دعائم كبيرة تحفظ لها تماسكها ،يمكن قول"
الكثير من األشياء ،الدعائم تسّمى عوارض ،إنها تذّك رني بالجسور لسبٍب ما ،لكنَك ربما ال تعرُف ما هي الجسور أيضًا؟
أحيانًا يكون في الكاتدرائية شياطيُن منحوتٌة أمامها ،أحيانًا تماثيل لملوٍك وسّيدات ،لكْن ال تسألني لماذا" .كان األعمى يهّز
برأسه ،بل إن الجانب العلوي من جسده كان يتحّر ك لألمام والخلف .قلُت " :إني ال أجيُد الشرح ،أليس كذلك؟" ،توّقَف عن
االهتزاز ،وحنى جذعه إلى األمام ليصغي إلّي ،مّر ر أصابعه داخل لحيته .لم أستطْع إيصال الفكرة له ،بدا ذلك واضحًا،
لكنه انتظرني لكي أتابع الشرح على نفس المنوال ،أومأ لْي وكأنه يشجعني ،فّك رُت بشيٍء آخر يمكن قوله" :الكاتدرائيات
كبيرة جدًا ،إنها عمالقة ،مبنيٌة من الحجارة ،ومن الرخام أحيانًا .في ذلك الزمن الذي ُبنيْت فيه الكاتدرائيات؛ أراَد الناُس أن
يكونوا على مقربٍة من هللا ،في تلك األيام البعيدة؛ كان الدين جزءًا أساسيًا من حياة كل إنسان ،يمكنَك معرفُة ذلك من
".الكاتدرائيات التي بنوها .أعتذر؛ فهذا كل ما أستطيع فعله لك ،فأنا ال أجيد الشرح
قال األعمى" :هذا جّيد يا عزيزي ،اسمعني ،آمُل أال تمانع أْن أطلب منَك شيئًا ،هل لي أْن أطلب منك؟ دعني أسألَك سؤاًال
بسيطًا ،نعم أم ال؟ إني رجٌل فضولّي فحسب ،وال أقصد اإلساءة ،دعني أسألَك هل أنت -بطريقٍة ما -رجٌل مؤمن؟ لْن
تغضب إذا سألت؟!" .أومأُت له برأسي لكنه لم يَر ذلك ،فالغمُز بالعين هو نفُس اإليماءة بالنسبة لألعمى" :أظُّن أني لسُت
"مؤمنًا بأي شيء ،أعتذُر إذا كان كالمي قاسيًا ،أتفهمني؟
".بالتأكيد" -
تابع المذيع سرده للمشاهد ،بينما تنّهدْت زوجتي أثناء نومها ،ثم أخذْت نفسًا عميقًا وواصلت النوم .قلُت " :سامحني ألني ال
أستطيُع إخبارَك كيف تبدو الكاتدرائية ،ربما ال أملُك هذه الموهبة ،وال أستطيع فعَل أكثر مما فعلت" .بقَي األعمى صامتًا
لدقائق ورأسه منحٍن إلى األمام مصغيًا إلّي ،فقلُت " :في الحقيقة ،الكاتدرائيات ال تعني شيئًا مهّم ًا بالنسبة لي ،إنها أشياء
تشاهدها في نهاية السهرة التلفزيونية ،هذا كّل شيء عنها ،هذا جوهُرها" .ابتلَع األعمى ريقه ،أخرَج منديًال من حقيبته ،ثم
قال" :فهمُت عليَك يا صديقي ،ال عليك ،يحدُث هذا عادًة ،ال تقلْق " ،وأضاف" :هل تخدمني بشيء؟ خطرْت في بالي فكرة،
لماذا ال تجلُب ورقًة كبيرة وقلمًا؟ سوف نصنُع شيئًا ،سوف نرسُم كاتدرائيًة معًا ،أحضْر قلمًا وورقًة كبيرة ،هّيا بسرعة،
".أحضر األشياء
صعدُت إلى الطابق العلوي ،أحسسُت بساقَّي وقد خارْت قواهما ،أحسسُت بتعٍب وكأنني كنُت أركُض لمسافٍة طويلة .أجلُت
نظري في غرفة زوجتي ،وجدُت بضعة أقالٍم في سّلٍة صغيرٍة على الطاولة ،ثم تساءلُت أين سأجُد الورقة الكبيرة التي
طلبها األعمى؟ .في المطبخ الواقع في الطابق السفلي ،وجدُت كيسًا ورقيًا فيه بقايا من قشور البصل ،أفرغُت الكيس
ونفضُته ،أخذُت الكيس معي إلى غرفة الجلوس ،وجلسُت على األرض قرب ساقّي األعمى .نّظ فُت الطاولة ،فردُت الثنياِت
.التي كانت في الكيس ،ومددته على طاولة القهوة
نهض األعمى من األريكة وجلس بجواري على السجادة ،مّر ر أصابعه على الورقة من األعلى إلى األسفل ،ثم على
الجوانب ،وعلى الزوايا األربع أيضًا ،وقال" :حسنًا ،لنبدأ العمل" .تلَّمَس يدي التي تمسُك بالقلم ،أغلَق قبضته على يدي،
".وقال" :ابدأ يا صديقي ،ارُس ْم ،سوف ترى كيف سألحق بيدك ،سيكون عمًال جيدًا ،فقط ابدأ كما أقول لك ،ارُس ْم
وهكذا بدأُت ،في البداية رسمُت مرّبعًا يشبه البيت ،قد يكون بيتًا عشُت فيه سابقًا ،ثم وضعُت للبيت سقفًا ،وعلى طرفّي
السقف رسمُت ُبرجين عاليين ،يا للجنون! .خالل ذلك كان األعمى يقول" :ممتاز ،رائع ،أنت تقوم بعمل عظيم .لم تحُلْم أّن
شيئًا كهذا قد يحدُث معَك طوال حياتك ،أليس كذلك؟ في الحقيقة الحياُة غريبة ،جميعنا يعرف هذا .تابْع ،أبدْع " .أضفُت
نوافَذ مقنطرة ،رسمُت العوارَض الطائرة ،وعّلقُت أبوابًا ضخمة ،لم أكْن أستطيع التوقف عن الرسم .انتهى بُّث القناة
التلفزيونية ،وضعُت القلم جانبًا ،أغلقُت أصابعي وفتحُتها .وضع األعمى يده على الورقة ،مّرر رؤوَس أصابعه على
!".الخطوط التي تركها القلم ،ثم هّز برأسه" :عمٌل رائع
التقطُت القلم ثانيًة ،أمسك األعمى بيدي ،وتابعنا الرسم ،لسُت رّسامًا جيدًا ،لكني تابعُت بنفس الطريقة .فتحْت زوجتي
عينيها وحّدقْت بنا ،كانت على األريكة وما زالْت ساقاها مكشوفتان ،وقالت" :ماذا تفعالن؟ أخبراني ،أريد أْن أعرف" .لم
أجْبها ،فقال األعمى" :إننا نرسُم كاتدرائية ،نعمل كالنا عليها" ،ثم قال لي" :اضغْط بقوة ،هذا جّيد ،نعم رائع .طننَت أنَك ال
تستطيُع فعَل ذلك ،لكنَك استطعت ،أليس كذلك؟ أنَت اآلن تطهو على ناٍر هادئة ،أتفهُم ما أقول؟ سوف ننجُز عمًال هامًا بعد
!".دقيقة ،انَس ذراعَك القديمة ،ضْع قليًال من الناس في الداخل ،فما قيمُة الكاتدرائية من دون الناس؟
قالت زوجتي" :ما الذي يحدُث يا روبرت؟ ماذا تفعالن؟ ما الذي يجري هنا؟!" .فأجابها" :كُّل شيء على ما يرام" ،ثم قال
!".لي" :أغـِلـْق عينيَك اآلن" ،ففعلُت وأغلقُتهما كما طلب .وأضاف" :هل هما مغمضتاِن حقًا؟ ال تغّش
تابعنا الرسم معًا ،أصابُعه تركُب فوق أصابعي ،بينما تسيُر يدي على الورقة .كان ذلك شيئًا لم يحدث معي طوال حياتي.
".ثم قال" :أعتقُد أننا نجحنا ،لقد فعلتها! ،انظْر إليها اآلن ،ما رأيك؟
لكّن عينّي ما زالتا ُمغلقتين ،اعتقدُت أنه يجب علّي إبقاؤهما مغمضتين لفترٍة أطول ،أحسسُت أنه أمٌر واجٌب علّي .قال
".األعمى" :حسنًا ،هل أنَت تنظر اآلن؟
!".أبقيُت عينّي مغمضتين ،كنُت في بيتي ،أعرُف ذلك ،لكنني لم أشعْر أنني في أّي مكان ،وقلُت " :إنها حقًا جميلة