Professional Documents
Culture Documents
الواحات é
الواحات é
sanctuaries oasis like people used to consider and that are available now in the
form as cultural deposits.
الكلمات املفتاحية :الواحات ،التنمية املستدامة ،الرواسب الثقافية
Keywords: Oases, sustainable development, cultural sediments
مق ـ ــدم ــة:
يتضح من خالل استقرائنا للواقع ،أنه ال غنى عن النظر في العالقة الرابطة بين اإلنسان
والبيئة واملاء ،باعتبار هذا األخير كان واليزال يشكل أحد العناصر التي لديها القدرة على الربط
بين العديد من املجاالت الطبيعية والثقافية .ولتحليل وفهم هذه العالقة البد من تسليط
الضوء على العديد من املتغيرات ،التي تطرح إشكالية املاء في عالقته بالبعد الثقافي
انثروبولوجيا .فعنصر املاء )الفرشات املائية؛ السطحية والباطنية( والبعد الثقافي )األعراف،
العادات والتقاليد وأشكال السلطة وأنماط التدابير االجتماعية للماء( .تعد مداخل أساسية
لفهم نظرة اإلنسان إلى الواقع االجتماعي الذي يعيش فيه.
وعليه نهدف في هذه الدراسة إلى النظر في هذه الظاهرة الثقافية ،في حدود العالقة الجدلية
التي تجمع بين األفراد باعتبارهم منتجين ثقافيين ومبدعين ألشكال الحياة االجتماعية بمختلف
تجلياتها ،ومعطيات الواقع االيكولوجي الذي يفرز الفكر واالبتكار ويؤثر سلبا وايجابا في شكل
الثقافة القائمة ضمن سياق محدد.
فاملاء أو الذهب األزرق ،هو بمثابة العنصر الباعث للحياة وعامل لالنتقال من مرحلة إلى
مرحلة ،من املوت إلى الحياة ومن الحياة إلى املوت بواسطة تغسيل امليت .هذه املراحل يكون
فيها املاء فاعال أساسيا ورمزا من رموزها ،لذا كانت له أهمية بالغة في الحياة اليومية ،كما
ارتبطت هذه القدسية بالعديد من املزارات واملعبودات املائية التي شكلت صورة من الصور
الرمزية التي يحملها االنسان في مخياله الثقافي تجاه الواقع الذي يعيش فيه .ولعل هذا األمر
هو ما دفع االنسان في السياق املغربي إلى ابتكار أنظمة وحضارة مائية ذات العالقات املتعددة
سواء مع البيئة أو الثقافة.
إن أهمية املاء هذه جعلته يكتس ي طابعا خاصا في العديد من املجتمعات ونخص بالذكر
املجتمعات الواحية التي تتسم بمناخ صحراوي ،وبالتالي يكون االشكال املؤطر لهذه الدراسة
هو غلى أي حد سعت هذه املجتمعات إلى ضرورة الحفاظ على املاء والدعوة إلى حسن
استغالله عبر أعراف محلية تهدف الى الحفاظ على البيئة واستعمال مختلف الوسائل
التقليدية أو املعاصرة للحصول عليه؟،
كان هناك اعتقاد بالعديد من الروحانيات تجاه املاء في هذه املجتمعات ،فالنظر إلى املمارسات
اليومية لسكان الواحة من جانب املعتقدات والحكايات واألمثال الشعبية والشعر وحتى في
األدعية يتبين بشكل واضح مدى قدسية هذا العنصر في تاريخ هؤالء السكان ،أما امتداد هذه
القداسة إلى اليوم فيمكن قراءتها على صيغة الرواسب أو البقايا الثقافية بمعنى استمرار
بعض العادات والتقاليد من املاض ي.
أما على مستوى املنهج ،فيشار أننا عملنا على البحث الكيفي املعتمد أساسا على معطيات
وصفية ،انطالقا من كلمات الناس عن تقنيتي املقابلة واملالحظة ،إن بحث يقوم على جمع
املعطيات وتحليلها وتأويلها بهدف الكشف عن أنماط ذات داللة تصف ظاهرة معينة.
لقد سعى إنسان الواحات إلى جعل كل طاقاته وإمكاناته عبر التاريخ لضمان العيش عبر
ضمان امتالك املاء واألرض ،لذا نفترض أن األعرف املحلية ساهمت تاريخيا في الحفاظ على
البيئة وهو ما نتج عنه تواجد أنظمة مائية قوية على املستوى املحلي ،كما نفترض أن تنمية
بعض القطاعات املرتبطة باملاء تواجه تحديات لها عالقة بالرواسب الثقافية .وأخيرا نفترض
أن الطبيعة االيكولوجية للمجال الواحي دفعت به إلى غرس أشجار ونباتات تستجيب لهذا
النظام االيكولوجي كما هو الحال في غراسة النخيل.
:-1-2في معنى الواحات:
’‘ تعرف الواحة بأنها مجال أخضر يتميز بمناخ محلي ونظام زراعي كثيف ومتنوع وسط محيط
قاحل؛ اذ نجد العديد من التعاريف املقدمة في هذا السياق:
-التعريف الجغرافي :الواحة مجال أخضر وسط مجال قاحل.
-التعريف االقتصادي :الواحة مجال يتميز بكثافة وتنوع األنشطة.
-التعريف السكاني :الواحة مجال تتمركز فيه كثافات سكانية عالية مقارنة مع
املجاالت املجاورة.
-التعريف املناخي :الواحة مجال أكثر رطوبة ولطافة من املجاالت املجاورة’’ .1
’‘وتعني الواحة بقعة من الخضرة في مجال قاحل تعتمد على الري( ،معجزة املياه le mircale de
)l’eauوذات زراعة متنوعة ،وسكان مستقرون وعلى عكس ما هو شائع ال تتوفر كل الواحات
على نخيل’’ .2وترتبط الواحة بنياتها السيما أشجار النخيل التي تعتبر ركيزة اإلنتاج الزراعي بهذه
املنظومة البيئية.
هذا ،وقد أصبح مجال الواحات يسترعي اهتمام الباحثين على اختالف مشاربهم ،ففي هذا
الصدد نجد أن pierre Georgeفي معجمه حول املصطلحات الجغرافية قد عرف الواحة بأنها
مجال االستقرار والزراعة وسط محيط قاحل ،بمعنى ’‘ أن وجودها مرتبط باملاء ،ألن السقي
هو الشرط الضروري لقيام زراعة منتظمة ،حيث يتم السقي بعدة طر منها استغالل مياه
العيون أو األنهار أو مياه اآلبار عن طريق الطاقة الحيوانية أو الخطارات ’’.3
واالجتماعية على الرغم من قساوة الظروف املناخية واإلكراهات االقتصادية.4
يمكن القول من خالل هذه التعاريف بأن الواحات مرتبطة باستمرار بتواجد املوارد املائية،
وأن ندرة هذه املوارد والتحكم فيه استدعى وباستمرار وجود حياة بشرية متماسكة وجد
محكمة نشأ عنها ما سمي بالحضارة املائية ،هذه الحضارة التي تقوم على خلق التوازن بين
العناصر املكونة للمجال وهي املناخ واملاء والتربة والنباتات واإلنسان والحيوانات.
’‘ويمكن التمييز بين عدة أنواع من الواحات حسب مصدر نشأتها’‘ :5
‘’ -الواحات التي تعتمد على الري املؤقت واملوسمي :حيث أن الفالحين يعتمدون على
مياه األمطار أو الفيضانات وذلك عبر تشييد حواجز تجبر املياه على الجريان نحول
الحقول.
-واحات الدير أو اإلبط :وتتركز على سفوح الجبال حيث تستفيد من جريان دائم
نسبيا ،كما هو الحال بالنسبة ألودية درعة ،وزيز ،وغريس ،باملغرب ،أو نهر بردي
بسوريا. 6
-الواحات املعلقة ) :(perchéesوتتركز في أعالي األودية في املناطق القاحلة ،وهي عبارة
عن أشرطة خضراء ضيقة كواحات أعالي درعة ،وزيز ،وغريس باملغرب.
-واحات بدون ري :كما هو الشأن في بعض الواحات بالجنوب الجزائري ،حيث تتوفر
هذه املناطق على سديمة مائية ال يتعدى عمقها 12مترا ،تحت غطاء مر الرمال،
حفر فيها الفالحون حفرا تدعى أغواطا ،وزرعوا فيها النخيل الذي يستطيع أن يدرك
بجذور املياه الجوفية’’.7
إلى جانب اختالف تعريفات وتصنيفات الواحات ،نجد كذلك اختالفا أيضا في طرق استغاللها
ومردوديتها‘’ ،فهناك الواحات العصرية واملتطورة جدا (التي يتوفر سكانها على أعلى دخل فردي
333 مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية
املياه والبيئة في الواحات املغربية :أسئلة الرواسب الثقافية املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر2019
في العالم ) واملوجودة بكاليفورنيا بالواليات املتحدة األمريكية ،حيث األساليب السقوية
املتطورة واإلنتاج الوافر ،وكذا واحات جمهورية ادربيجان ذات اإلنتاج املرتفع والري املتطور،
ثم هناك الواحات التقليدية والضعيفة الدخل املتمركزة بالصحراء الكبرى اإلفريقية’’.8
نستخلص مما سبق بأن معايير تحديد مفهوم وتصنيف الواحة ليست محددة بل مختلفة
ومتنوعة ،بحيث ال يمكن حصرها في الغطاء النباتي وحده" ،أشجار النخيل" ذلك أن هناك
واحات ال تتوفر على النخيل ،ولكن تتوفر على أشجار ومغروسات أخرى ،كالزيتون ،والورديات
ومزورعات كالقطن مثال ،كما ال يمكن حصرها في حيز جغرافي معين ،إذ أنها تنتشر في جل
القارات وعبر عروض مختلفة ،كما ال يمكن حصرها في أساليب الري التقليدي والزراعة
املعاشية ،إذ أن هناك واحات عصرية وجد متطورة.
:-2-2في نمط السكن بالواحات
أما نمط السكن بالواحات تاريخيا فهو معروف في الغالب "بالقصر" أو ’‘إغرم’‘ باألمازيغية ،إذ
يشكل هندسة معمارية تضفي عليه مجموعة من الخصائص وتجعل منه أهم تراث مادي في
هذه املناطق .رغم ما أصابه واليزال يصيبه من أشكال التدمير والتهميش واإلهمال جعلته يفقد
الكثير من مميزاته ووظائفه االيكولوجية واملادية والرمزية ،كما هو الشأن )لقصر أسرير،
وقصر تااللت ،وقصر تايرزة ،وقصر الخربات في الجنوب الشرقي للمغرب (...وال تقتصر هذه
الواحات على هذا النمط من السكن فحسب ،بل نجد سكن بمواد عصرية (حديد ،ياجور،
رمل ،إسمنت) بأشكاله املعمارية املتنوعة واملتعددة ،ويمكن أن نفسر هذا التحول باالنفجار
الديموغرافي الذي عرفته املنطقة إذ لم يعد القصر قادر على استيعاب هؤالء السكان وبالتالي
بات من الواجب البحث عن أراض مجاورة لتحقيق نوع من االستقرار واالستقالل الذاتيين،
أضف إلى ذلك تعدد سنوات الفيضانات التي شوهت من املكانة املعمارية للقصور وهدمت
معظم املنازل ،رغم أن إحاطة القصر بسور كبير ،وبأبراج محصنة ،وباب واحد كبير يحرصه
حارس ’‘أبواب’’ باألمازيغية يصعب اختراقه .إذ كانت الغاية منه ،هي حماية القصر من األخطار
الخارجية سواء كان مصدرها من اإلنسان (الحروب والصراعات القبلية )...أو من الطبيعة
(الفيضانات ،العواصف.)...
وعلى هذا األساس ،وغيره من ظواهر التصحر والهجرة ،نفترض أن تكون نظرة انسان الواحة
إلى الواقع الذي يعيش فيه مجرد بناء اجتماعي لواقع إكولوجي فرض تحدياته ،كما قد تكون
هذه الثقافة مرتبطة بالبعد الديني باعتباره سندا لإلنسان الواحي ليعطي اجابات ملعطيات
الواقع االيكولوجي التي احتك بها إنسان الواحة.
فإذا جاز لنا أن ننطلق من سؤال نراه ضروريا من الزاوية االنثروبولوجية ،أال وهو املتغيرات
املتحكمة تاريخيا في إنتاج ثقافة مائية بالواحات املغربية ـ والتي مازالت رواسبها الثقافية إلى
اليوم تتجلى في بعض املعتقدات واملزارات واملعبودات املائية ،نجد ان امالءات الواقع
االيكووجي لذات املجال فرض على ذات االنسان ان ينتج نظام مائي يتماش ى وفق املعطيات
الطبيعية ملجال الواحات.
-1في معنى التنمية املستدامة :
يعتبر مفهوم التنمية املستدامة من املفاهيم الشائعة والكثيرة االستعمال سواء من قبل
الباحثين والدارسين أو من قبل الهيئات واملنظمات املحلية والدولية املختصة وغير املختصة،
“فالتنمية لغة كما جاء في معجم املحيط تنمية الش يء تكثيره وزيادته ،تنمية االنتاج الزراعي/
التنمية االقتصادية تعني رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد ”.9
ويبدو من خالل هذا التعريف حصر التنمية في املجال االقتصادي ولم يستحضر البعد
االجتماعي واالنساني والبعد البيئي الطبيعي ،وهي األبعاد التي أصبحت املنظمات الدولية
تعتمدها لتحديد مفهوم التنمية.
ومفهوم التنمية املستدامة الذي استحدثته وتبنته برامج اإلنماء التي تشرف عليها األمم
املتحدة عام 1987مع صدور الوثيقة املسماة "مستقبلنا جميعا" ويعني مفهوم التنمية
املستدامة بصورة عامة أن على املجتمعات والدول أن تمض ي قدما في عملية اإلنماء
االقتصادي اعتمادا على تدوير ما لديها من موارد طبيعية ،وإعادة استغاللها عوضا عن
استنضابها بصورة مطردة”.10
’‘اتسع هذا املفهوم في وقت الحق بحيث أصبح يعني استخدام املوارد املتجددة والقابلة للتجدد
لدفع النمو االقتصادي ،مع املحافظة على التنوع البيولوجي وأنواع النوع الحيواني ،ولاللتزام
باملحافظة على نظافة الهواء واملاء واألرض وأصبح الشعار الذي يجمع سائر األطراف املهتمة
بشؤون التنمية هو تلبية احتياجات الحاضر مع عدم اإلضرار بقدرة األجيال القادمة على
الوفاء باحتياجاتها’‘ .11
“فمنظمة اليونسكو تركز في تعريفها ملفهوم التنمية على األبعاد الثالثة التالية”:12
البعد البيئي :تطرح التنمية املستديمة بتأكيدها على مبدأ الحاجات البشرية ،مسألة
السلم الصناعي ،أي الحاجات التي يتكفل النظام االقتصادي بتلبيتها ،لكن الطبيعة
تضع حدودا يجب تحديدها ،واحترامها في مجال التصنيع والهدف من وراء كل ذلك
هو التسيير والتوظيف األحسن للرأسمال الطبيعي بدال من تبذيره.
البعد االقتصادي :يعني البعد االقتصادي للتنمية املستديمة االنعكاسات الراهنية
واملقبلة لالقتصاد على البيئة ،إنه يطرح مسألة اختيار وتمويل وتحسين التقنيات
الصناعية في مجال توظيف املوارد الطبيعية ،توفق التنمية املستدامة بين هذين
البعدين ،ليس في أخذها بعين االعتبار املحافظة على الطبيعة فحسب ،بل بتقديريها
ملجموع العالقات املقامة بين الطبيعة وبين األفعال البشرية كذلك.
البعد االجتماعي والسياس ي :تتميز التنمية املستديمة خاصة بهذا البعد الثالث ،إنه
البعد اإلنساني باملعنى الضيق ،إنه يجعل من النمو وسيلة للتالحم االجتماعي
ولعملية التطوير في االختيار السياس ي وال بد لهذا االختيار أن يكون قبل كل ش يء
اختيار إنصاف بين األجيال بمقدار ما هو بين الدول.
فإذا كان من معاني التنمية تحقيق رفاهية اإلنسان وهو ما يتدخل الجانب االقتصادي
لتحديده رقميا ،وتنظيمه كميا ،فإن مؤشرات أخرى ال تقل أهمية تحتفظ بمكانتها في تحديد
مدلول الرفاهية ،فالبعد اإلنساني واالجتماعي ،في ارتباطهما بالبيئة ،يفرضان توازنا بغاية تفقد
التنمية مدلولها ،ويغيب معنى االستدامة .ويوضع الشكالن التاليان مكونات ومحاور
االستدامة .ويظل هاجس املستقبل حاضرا أمام تعريفات التنمية املستدامة والبيئة
املستدامة .فالتطور التكنولوجي يسير في طريق وجيز تغيير البنيات االقتصادية وحجم أرقام
اإلنتاج ،لكن استبعاد املصلحة املستقبلية لألجيال اآلتية يخرج العملية من نطاق التنمية
املستدامة.
-2في معنى الرواسب الثقافية:
يقصد بالرواسب الثقافية استمرار بعض العادات والتقاليد من املاض ي ،ويعتبر االستخدام
االنثروبولوجي أكثر االستخدامات لهذا املفهوم فهي تعني عند تايلور :تلك العمليات الذهنية
واألفكار والعادات وأنماط السلوك واآلراء واملعتقدات القديمة التي كانت سائدة في املجتمع في
وقت من األوقات والتي اليزال املجتمع يحافظ عليها ويتمسك بها بعد أن انتقل من حالته
336 مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية
املياه والبيئة في الواحات املغربية :أسئلة الرواسب الثقافية املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر2019
القديمة إلى حالته الجديدة تختلف فيها كل االختالف عما كانت عليه في الحالة األولى التي أدت
في األصل إلى ظهور تلك األفكار والعادات واملعتقدات .ويعتقد تايلور أن أهم ما يميز هذه
املخلفات الثقافية هو فقدانها لوظيفتها وفائدتها ومعناها .وتعتبر من أقدم املفاهيم التي
ارتبطت باالنثروبولوجيا وذلك الرتباطها بنشأة هذا العلم منذ بداية القرن التاسع عشر على
أيدي علماء التطوريين.
هذا وتعتبر املشكالت التي أثيرت حولها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من
أهم املشكالت التي أثيرت في االنثروبولوجيا عامة ،وملعالجة بعض ما خلفته الثقافة من أنماط
في التفكير والسلوك ونظرة اإلنسان الواحي إلى الواقع الذي يعيش فيه سواء في عالقته باملاء أو
البيئة .خاصة تلك التي لها عالقة باملوارد املائية والتي نجدها في املخيال الثقافي بشكل يصعب
نزع حضورها وتوقيف انتشارها في األوساط االجتماعية.
وبناء على ما سبق ،يحضر إلى أذهاننا كيف قدست الشعوب القديمة عنصر املاء ،وربطته
بمجموعة من األساطير النشوئية ،وامتد ذلك إلى الكتب السماوية التي منحت املاء دائما مقاما
مهما في النشوء والحياة والعقاب أيضا ‘’ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا
من املاء أو مما رزقكم هللا قالوا :إن هللا حرمهما على الكافرين’’ ’‘ ،13وما أنزل هللا من السماء
من املاء فأحيا به األرض بعد موتها’’ .
أما بشمال إفريقيا عامة فتشهد أسطورة ‘’تسليت ن أوزار’’ على قداسة املاء ،من خالل
عالقته الحميمية باألرض؛ لكنها ليست الوحيدة الدالة على تقديس املاء ،فهناك الحوريات
اللواتي تشهدن النقائش الالتينية ،والكتابات الرومانية على عبادتها باملغرب قبل وأثناء
االحتالل الروماني ،وهي مخلوقات أسطورية مؤنثة ارتبطت باملياه العذبة والحامات .فهناك
العديد من الكائنات التي يعتبرها البعض أسطورية على اعتبار أنها مرتبطة بمجال السقي أو
الحقول الزراعية وهي ترتبط ارتباطا وثيقا باملاء ،فهذا األخير ال يشكل فقط ذلك العنصر
الطبيعي) االنهار ،العيون ،اآلبار ،املستنقعات ،االمطار (...وإنما له امتدادات على املستوى
الرمزي والثقافي .في حين يذهب البعض اآلخر إلى محاولة التأصيل لهذه املمارسات االجتماعية
بمقاربة أنثروبولوجية مغايرة ،فما هي االنعكاسات والرواسب الثقافية لعنصر املاء بالواحات؟
-3الرواسب الثقافية للماء بالواحات:
خالل بحث االنسان الواحي عن املاء في الفرشات الباطنية ،خاصة أثناء حفر اآلبار بأدوات
تختلف حسب القدرة االقتصادية للفرد ،يراهن صاحب املنزل أو صاحب البئر كل آماله
ونواياه ‘’راه النية الصافية هي كولش ي ‘’ لكي يجد املاء في باطن األرض .وعندما يتحقق املراد يتم
االحتفال بذلك بالذبيحة في جو يسوده الفرح واملرح بالدقائق القليل التي قد يحصل عليها
صاحب املنزل ،أما عن طقوس الذبيحة فهي ال تتجاوز الفرح واملرح بوجود املاء ،إال أن الذبيحة
تختلف حسب املكانة االجتماعية التي يحتلها الفرد ،سواء عامل في قطاع البناء ،أو مهاجر
خارج بالد املغرب أو له مكانة رمزية بالواحات ،آنذاك تتوزع الذبيحة حسب هذه املكانة.
هذه العالقة الرابطة بين املاء في بعده الطبيعي ‘’املاء بما هو ماء’’ ،والبعد الثقافي من خالل
املعتقد الديني ،واالعراف البيئية التي من خاللها تنتظم الحياة الزراعية واملائية بالواحات...
يشكالن من حيث املظهر ظاهر انثروبولوجية تثير انتباهنا كباحثين ،ثم معرفة كيف ينظر
إنسان الواحة إلى الواقع الذي يعيش فيه ،وكيف بمقدوره أن يربط املاء بالعديد من
املعتقدات الثقافية التي ذكرناها’‘ .مع العلم أن هناك صعوبة الفصل بينهما ،فاملاء له
خاصيات متعددة )طبية ونفسية وطاقية وبيئية واجتماعية (..وكل هذه الخصائص تجتمع
وتتكامل ،لتشكل في نهاية املطاف كال مركبا يصعب تفكيكه.
ومن وجهة النظر هذه ،فإن فهم ما شغل الحياة اليومية لهذا املجتمع ،كطريقة للنظر إلى
الحياة اليومية ،يقول ) غيرتز كليفورد ،اإلسالم من وجهة نظر علم اإلناسة :التطور الديني في
املغرب وأندونيسيا ،سنة النشر بدون،ص ( 78أنه يسبق في الواقع فهم الدين بوصفه طريقة
مختلفة للنظر إلى الحياة ،وذلك ليس ألنه يعد متحف للمعقول الشائع ،كما َيود أن يقول
مالينوفسكي ،بل ألنه كالفن أو العلم أو االيديولوجا أو القانون أو التاريخ يصدر عن إدراك
لعدم كفاءة مفاهيم املعقول الشائع للغرض ذاته الذي تلتزم به هذه املجاالت :أي إدراك ما
تعنيه التجربة التي عاشها اإلنسان أو ما اكتسبه االنسان في حياته االجتماعية.
أما أسماء األماكن واملجاالت االيكولوجية بالواحات فهي األخرى مرتبطة باملاء؛ مثل ‘’أمان ن
تكطاط’’ بمعنى ماء الطيور وهذا يبين لنا كيف ألسماء بعض املجاالت أن تدل من حيث املعنى ـ
أنثروبولوجيا ـ على التفاعل االيكولوجي بين العديد من املكونات الطبيعية والحيوانية
والبشرية ،بل وأن الرواية الشفوية تذهب بالقول بأن أصل تسمية تنجداد بهذا االسم يرجع
إلى ‘’تين إيكداد’’ باألمازيغية ،والتي تعني املستنقع الذي تجتمع فيه الطيور ،في حين نجد
مهتمين آخرين يعزون أصل التسمية إلى (تين إنجدا) أي املكان الذي يستريح فيه املسافرون،
وسميت على هذا االسم ألنها أقرب منطقة الستراحة املسافرين حيث أن املنطقة كانت في
القديم من أهم نقط العبور للقوافل التجارية املتجهة نحو التوات ثم السودان ،فهذه األمور
وغيرها كافية لتبيان مكان املاء عند سكان هاته الواحة رغم كافة العوامل الطبيعية التي
تتطلب مجهودا مضاعف من أجل التكيف ،هذا وقد ت4عبين لنا أنه بإمكان من يمتلك املاء في
الحقول الزراعية في ذات الواحة أنه بإمكانه أن يتالعب ويرفع الثمن في بيعه )املاء( على مالكي
األراض ي.
وتمثل عين ‘’تسبلباط’’ مزارا طقوسيا بامتياز ،إذ تحج إليه النساء ملمارسة بعض العادات
والتقاليد التي لها عالقة جد وطيدة باملاء .فالكتابات والدراسات التي تناولت حضور املقدس
في العنصر الذكوري )سيدي ،موالي ،ضريح فالن ،بركة فالن (...في مجتمعاتنا عامة ،وأعطت
مساحات واسعة لشخصياتها الوازنة عبر التاريخ ،بل منهم من أفرد كتبا بعينها ملتصوفة
وصلحاء وأولياء بعينهم ،لكن ،باملقابل ،ظل الحضور املقدس النسائي في الدراسات والكتابات
العربية قليال جدا ،بل وباهتا في أغلب األحيان ،إذ يجري إدراجهن عرضا مع أسماء ذكورية ال
أقل وال أكثر.
لقد عملت األعراف ملا كانت تمليه الظروف االيكولوجية على الواحة وهو ما يمكن أن نستشفه
من اعتقاد إنسان الواحات أن هناك كائنات غير طبيعية في حياتهم تسكن هذه املجاالت
االيكولوجية ) تارير ،تسليت ن أونزار ،عتى أو نزار…( وكانوا يعتقدون أن هذه الكائنات تسكن
مناطق محددة بالذات وهي في الغالب أماكن مظلمة أو برك مائية أو أنهار ومغارات ومنابع
مائية وأضرحة ومواقد النيران ،والتي أصبحت تساعد اإلنسان الواحي سيكولوجيا على األقل
في شفاء بعض األمراض وتجديد أمل العوانس كما في ’‘تسبلباط بالخربات و ’‘سيدي امحمد
اوبراهيم بتغفرت’’ و ’‘ اللة ميمونة ’‘.
ونظرا للقيمة املقدسة التي تحتلها املياه بالواحات ،تفرض أعراف الواحات مثال بواحة فركلة
في الجنوب الشرقي للمغرب أي فرد لم يحضر أشغال ’‘حفصايم’‘ أو ’‘أمشغال’’ و’’وهو شكل
من أشكال التويزا والتعاون بين أهل القصر ،من خالله يتم تنقية أو صيانة السواقي
والخطارات من الرمال والطين واألزبال؛ من أجل الحفاظ على البيئة وكذا تنقية السواقي من
املواد الصلبة التي تنتج اثر العديد من العوامل سواء الرياح التي تجر بعض املواد البالسيكية
الى السواقي أو من طرف بعض االفراد الخارقين لألعراف التي يضعها القصر بشكل جماعي
والتي تهم بشكل عام البيئة املحلية املرتبطة باملاء.
في بعض القصور خاصة حينما يتعلق األمر بتنظيف الخطارة أو الساقية من النفايات أو
الرمال ،بشراء ’‘الوقيد’’ أو إعطاء ’‘خمس موزونات’’ ويستفيد منها باقي أفراد القصر ،كما
يمنع غسل املالبس أو ترك البقايا الصلبة في األماكن املخصصة للشرب على ضفاف الخطارة،
في بعض القصور وذلك نتيجة الوعي بخطورة هذا األمر على شجر النخيل وعلى اإلنسان .
أما في باقي القصور فالزلت تعاني من هذه املشكلة والتي تتطلب فالحقيقة تدخال من أجل
الحفاظ على استمرار الواحة باملعنى االيكولوجي ،وتعتبر العديد من الخطارات بالواحات من
أهم البؤر التي تستوجب الدراسة والتحليل .تقوم النساء بعملية غسل املالبس في صهريج
يسمى ’‘املارج’’ وهو عبارة عن حوض مائي تجتمع فيه املياه ،ليوزع بعد ذلك في الحقول
الزراعية بمعنى أن العملية تتم قبل توزيع املياه نحو املزروعات والنخيل والنباتات التي
تتوفرها هذه املناطق ،ليتم سقيها بماء الغسيل.
علما أنه ليس باألمر الهين منع النساء من هذه العملية ،وبالنظر إلى أسباب تعثر املجتمعات
’‘يرجع في كثير من األحيان إلى الرغبة في التمسك بالقديم والتعلق به ،ولعل ذلك نتيجة
لالعتبارات عديد :منها عقيدة راسخة بأن القديم سهل ومتقبل ،بينما الجديد يحتاج إلى جهد
لالقتناع به وادراك فائدته واإلحساس بأهميته’‘ .15
وغير بعيد عن هذا السياق ،نجد العامل أو ‘’املنقب ‘’ في هذا املجال وتحديدا في اآلبار ،أن
لحظة انبثاق عين مائي في باطن األرض تطلب النساء )العاقرات( بأن يشربن من الدفعة األولى
لهذه املياه الباطنية ،على اعتقاد أن هذا املاء يشفي من العقم ،فقدسيته في هذا املستوى ليس
مرتبط بهذه املجتمعات الواحية فحسب .وإنما نجد األمر في سياقات مغاير كبعض دول
جنوب الصحراء الذين كانوا قد قدسوا في الحقب القديمة البحر واألنهار ،وآمن السالفيون
بانتشار األرواح والجن حول النافورات ،وقدم سكان أمريكا األصليون )املايا واالنكا
والسيوكس (...قرابين متنوعة آللهة املطر والبحيرات .واليوم ال زال الهندوس يقومون بطقوس
الطهارة بالغنج ،وهو ما يشهد على استمرارية عبادة املياه التي غالبا ما اعتبرت مصدرا للحياة
الكونية ،فكانت حسب الفيلسوف االغريقي طاليس )نهاية القرن السابع قبل امليالد( العنصر
االول الذي منح الحياة لباقي العناصر الطبيعية ،أما ‘’أريسطو’’ ،فصنف املاء ضمن العناصر
األربعة األساسية في عالم الفزيائي
.ولفهم هذه املجتمعات املحلية والنهوض بها تنمويا البد من الوقف على جل هذه املستويات
الثقافية ،خاصة وأن املدخل االنثروبولوجي أصبح ضروريا لتنمية املجتمعات املحلية وكذا
العاملية ،نظرا لكون الثقافة ركيزة أساسية ألي سؤال تنموي ،ونقصد بالثقافة في هذا السياق
ُ
نفس التعريف الذي قدمه ‘’غيرتز’’ أي أنها تقرأ كما ُيقرأ النص ،وأنها تتألف من الرموز ،التي
هي نواقل للمعنى ،أو حتى كما تداولها تايلور ‘’ذلك الكل املركب الذي يشمل املعرفة
واملعتقدات والفن واألخالق والقانون واألعراف والقدرات والعادات األخرى التي يكتسبها
اإلنسان باعتباره عضوا في املجتمع’’ .فعندما نكون بصدد وسط تسوده ثقافة تقليدية ،فإنه
من الصعب أن تنجح السياسة التنموية وأن تحقق أهدافها" .
إن هذه األنساق الثقافية التي نسجها وينسجها إنسان الواحة تكاد تشبه أنساق األهمية التي
تحدث عنها ‘’كليفور غيرت’’ حينما اعتبر أن الثقافة ال تهتم فقط كيف يتصرف اإلنسان وإنما
كيف ينظر إلى األشياء ،ثم كتابات ‘’مالينوفسكي ‘’التي تميزت بالدراسات امليدانية ليخلص بأن
النشاطات أو األنشطة اإلنسانية و إن كانت تغطيها جزء من العاطفة والتصوف والسحر
واألساطير ،فإنها تخدم الحياة اليومية لإلنسان فبها يحيا و يعيش ،بل أن غريتز ذهب بالقول
أن عدد كبير من رجال الدين اعتنقوا الدين لهذا الغرض .
-6دور املؤسسات التقليدية في الحفاظ على البيئة واملياه بالواحات
يعتبر املاء عنصرا محددا في نظام الواحات )عيون ،أنهار ،خطارات وآبار( ،ويشكل التدبير
االجتماعي والثقافي للماء ،تنظيم سوسيوثقافي يهتم بالحياة الزراعية لسكان الواحة ـ ـ وربما في
مناطق أخرى ـ ـ عبر وضع أعراف وقوانين تنظم كيفية توزيع املاء على املالكين .وقد سعى سكان
الواحات إلى استعمال املوارد املائية بشكل عقالني يحفظها من االتالف ويضمن توزيعها بشكل
أمثل تماشيا مع متطلبات النباتات وتكيفا مع املحيط الطبيعي والبشري .وهكذا اختار لوسطه
ما يالئمه من التقنيات.
كما ُيعرف التدبير االجتماعي للماء بأنه بناء اجتماعي Construction socialيتم انتاجه تاريخيا
لكنه ليس بناء مغلقا وال معزوال عن املؤثرات األخرى...فهو دراسة شبكات الري التقليدية
انطالقا من املمارسات املجالية للفالحين ،بهدف فهم أسس النجاح و اإلخفاق في صيرورة تنمية
السقي والصرف ،والتفكير في األشكال املمكنة لتدبير الثروة املائية في الدوائر السقوية
العصرية والقطاعات االقتصادية واالجتماعية املختلفة .وفي هذا السياق يرى ‘’بول كالفال ‘’
أن التدبير االجتماعي للمسألة املائية يشترط فيها أن تحقق نوع من التوازن بين الحاجيات
واالمكانات في الزمن واملكان .
فالتدبير االجتماعي للماء في هذا السياق هو تلك األنظمة االجتماعية والثقافية التي أنتجها
اإلنسان عبر التاريخ )كطريقة تقسيم املاء ،واملؤسسات التي تسهر على التنظيم :الزاوية
والقبيلة ،واالعراف البيئية التي أبدعها انسان الواحة لتنظيم حياته الزراعية املرتبطة باملاء(...
ُ
أي املؤسسات االجتماعية التي تشرف على ذلك بما فيها الجماعة وكل الفاعلين داخل املجال
السقوي كلجنة املاء وشيخ املاء ‘’ أمغار نوامان’’ وأمين املاء ...
أما القبيلة فتستعص ي على التعريف ،وذلك بفعل اختالف املورفولوجيات وأحجامها ،وكذا
زوايا النظر التي ينطلق الباحث منها لوضع تعريف معين ،فنجد مثال Gautierيعرف القبيلة
بأنها تنظيم بيولوجي ينبني على الروح العائلية ،فهي جماعة من األجيال ترتبط فيما بينها برابطة
الدم ،إذ أن الروح القبلية هي امتداد للروح العائلية ،بمعنى أنها ترتبط بعالقة دموية ال
بالعالقة الترابية ،مع العلم أن ابن خلدون أكد عكس ذلك حينما اعتبر أن مقولة وحدة الدم
أو الجد املشترك مجرد إيديولوجية .وأن ليس هناك من يضمن انتقال دماء صافية من السلف
إلى الخلف.
وفي ذات السياق ،اعتبرها ‘’بول باسكون ‘’ P.Pasconجمعية سياسية مبنية على عوامل
اقتصادية وجغرافية :كما تعبر عنها عالقات االنسان باألرض ،والطاقة البشرية ،والثورة
الطبيعية لفضاء ما في مستوى تكنولوجي معين’’ أي التركز بشكل مباشر على كل من األبعاد
السياسية ،واالقتصادية ،والجغرافية ،والتكنولوجية وااليكولوجية ،لكن في الواحات يضعنا
البعد التاريخي أمام واقع التنوع والتعدد ،ويرفض االنثروبولوجي ‘’عبد هللا حمودي’’ جل هذه
التعاريف سواء تلك املبنية على الدم أو النسب ،أو حتى مجال ترابي كما عزاها ريمون
جاموس ،ليعطي لها مفهوما إجرائيا ،إذ يقول أنها مجموعة يشار إليها غالبا بكلمات ‘’قبيلة’’ أو
‘’تقبيلت’’ ،وألعضاء هذه املجموعة عمومة مجال ترابي يعتبرونه ملكا جماعيا لهم ،ويستغلون
موارده بناء على انتمائهم الذي يتفقون هم بأنفسهم على أنه يأتي من أصل مشترك ،كما
يعتبرون أنفسهم متضامنين في الدفاع عن ذلك املجال ،ومن ناحية أخرى يرى الباحث في
مجال االنثروبولوجيا ‘’عبد هللا حمودي ‘’ أن هؤالء يمارسون نمط عيش مرتبط بفهمهم
إلكراهات هذا املجال ،وهو نمط يميزهم من أنماط أخرى ،خاصة نمط العيش في املدن وسبله.
في واقع األمر ،بالقدر الذي تتواجد العديد من التعاريف حول مفهوم القبيلة ،بالقدر الذي
يتيه الباحث في هذه السلسلة العديدة من التعاريف في مجاالت مختلفة .ولعل هذا األمر هو ما
ذهب إليه أحد الباحثين إلى التأكيد على ضرورة إعادة النظر ،إبيستيمولوجيا ،في طرح
إشكالية القبيلة ،كإشكالية مفهوم باألساس ،فعوض طرح سؤال ما هو مفهوم القبيلة؟ ـ الذي
يعتبره الباحث ) سؤاال فلسفيا مجردا( ـ يقترح صيغة أخرى للسؤال :ماذا نعني بالقبيلة في
التاريخ؟ بما يفتح إمكانية إلدراك القبيلة في تاريخها .
عموما ،تتدخل القبيلة من الناحية التنظيمية في صيغة ‘’لجميعت ‘’ وهي بمثابة لجنة املاء
بالصيغة املعاصرة وتتكون من ’‘ 12إخس ‘’ أو عظم .كل ‘’إخس ‘’ يمثل املمتلكين للماء خاصة
ماء الخطارات ،وهم الذين يشرفون على التنظيم والحفاظ على التقسيم االجتماعي للماء الذي
ُ َ
كان منذ تاريخ مض ى أي التنظيم ،مع اإلشارة أنه بإمكان القبيلة أن تخول ‘’أمغار نوامان’’ أو
شيخ املاء لشخص قد يمتلك القليل من املاء أو ال يمتلك؛ فقط يكفي أن يتسم باملعقولية
والصدق ومعروف لدى القصور بالصفات الحميدة وهي مواصفات رمزية يكتسبها الفرد خالل
حياته االجتماعية .ويذكرنا هذا األمر بالشخصية الكاريزمية التي تحدث عنها ماكس فيبر ،أما
معايير امتالك املاء من عدمه فيتداخل فيه البعد التاريخي أو املساهمة في جلب املاء إلى القصر
خاصة في ما يتعلق بنظام الخطارات.
أما بالنسبة للمتكريين للماء؛ أو املاء مقابل ملغ مالي لفترة محددة ـ في هذه القصور ال يقتصر
األمر فقط عند اللذين ال يملكون املاء فحسب وإنما أيضا الذين يستفيدون من دقائق قليلة،
وبالتالي يكون مضطرا للكراء عبر دفع ثمن محدد حتى يحقق نوع من التوازن الفالحي والحفاظ
على منتوجه الزراعي عبر شراء املاء من القبيلة ،ويظهر التنظيم املحكم لهذه القصور من
خالل املال العائد من كراء ماء الخطارة ليتم صرف ذلك في صيانة الخطارة من أنواع التلوث
الذي قد يصيب مصادر املياه.
وعلى الرغم من التداخل الذي نجده قائم بين املؤسسات التقليدية ) جماعة ،القبيلة(...
واملعاصرة ) الجمعية ،الجماعة التربية (...خاصة في تدبير بعض املشاريع التنموية إال أن هذا
األمر يطرح أحيانا اختالفا بين املؤسستين وحينا آخرا توافقا .وهو تداخل من خالل خصوبة
القديم في الجديد فاملعركة بين القدماء وبين املعاصرين تسود داخل كل منا ،وتكمن نجاعة
كل مبادرة وحيويتها في قدرتها على االندماج داخل هذه املعركة ،وأن تكون نضاال ،ومكمن
الخصوبة هو في كل مبادرة تحبل بالتناغم ،والنزعة املحافظة املتسامية ،والخيال املتطور’’
أما في نظر جاك بيرك بخصوص هذه العالقة الرابطة بين القديم والجديد في املجتمع املغربي
أنه ال ينبغي لهذا التغير أن يفك ارتباطه مع الثقافة التقليدية.
وإذا كانت القبيلة تتدخل في تنظيم وهيكلة املوارد املائية وتحديدا في الخطارة وكذا القيام
‘’بالداللة ‘’ ،فإن للزاوية دور بارز في هذا التنظيم ،إذ ال يمكن أن نتصور زاوية من دون كتلة
قبلية ترتكز عليها وتسندها ،وهذا االرتباط يعكس في العمق مدى حاجة كل منها لآلخر،
فالزاوية تخدم القبيلة بالطبع ـ وهذا ما تؤكده اسهاماتها املتعدد ووظائفها املختلفة التي تؤديها
من داخل مجالها القبلي ـ وباملثل ،تبدي القبيلة استعدادها الدائم لخدمة الزاوية وإرضاء
شيخها التماسا لبركته ،هذه األخيرة )البركة( التي تترجم سوسيولوجيا إلى أشكال من التدخالت
الحاسمة التي تتراوح بين املعقول والالمعقول ،البسيط واملعقد ،املادي والروحي ،كما يحضر
واقع الهيبة ورد الهيبة باملعنى الذي تناوله مارسيل موس .فأفرد القبيلة يأتون إلى زاوية بهيبات
مادية قد تكون )خروف ،دجاج ،قمح ،كسكس (...في مقابل الروحانيات كالبركة وتحقيق
الرض ى وطلب الغيث.
كما أن للزاوية ( دور الصلح أو فصل النزاعات والصراعات القبلية التي تكون حول املاء ،وفي
ظل غياب شبه تام للسلطة املركزية آنذاك ،ستظهر فئة من الناس مهمتهم التوسط في
املنازعات والتحكيم بين األطراف املتنازعة ،وذلك لضمان الصلح وبالتالي األمن واالستقرار من
داخل القبيلة .فاألمر يتعلق ببعض األسر ‘’الكرامية’’ وشيوخ الزوايا ،إذ يعتبر الهواريين ـ نسبة
إلى زاوية سيدي الهواري ـ من أقوى الزوايا التي عرفتها املنطقة بالنظر إلى ما كانوا يحتكمون
عليه من سلطة روحية ورمزية.
وعلى سبيل الختم ،يبدو لنا أن هناك عالقة رابطة بين املاء واالنسان ،فهو ذلك العنصر الذي
من خالله استطاع إنسان الواحة أن يبني وينسج العديد من العادات والتقاليد واألعراف
والقيم واألنظمة والتدابير االجتماعية التقليدية للماء؛ على شكل رواسب ثقافية نالمسها في
العديد من املجاالت التي استمرت إلى يومنا هذا ،ولعل األمر الذي يفسر هذه الظاهرة
السوسيولوجية قد ال تعزو إلى سبب محدد وإنما إلى أسباب متعددة ومختلفة ،فمنها األسباب
التاريخية واالجتماعية والثقافية والظروف االيكولوجية الصعبة التي دفعت بهذا االنسان أن
يصوغ نموذجا ثقافيا أو نظرته الخاصة إلى املجال الذي يعيش فيه.
-7النتائج:
بناء على ما سلف ،يمكننا القول أن املرتكزات األساسية للموارد املائية بالواحات يحكمها
أكثر من مستوى وهو ما يطرح املجال في طابعه املركب خاصة إذا ما تناولنا مستويات
السلطة والهيمنة والتراتبيات االجتماعية التي لها عالقة باملاء ،ثم بعض الصراعات القبلية
التي الزلنا نحصد رواسبها في العديد من املجاالت السياسية وعادات الزواج .إذ كانت العالية
في أغلب األحيان مصدر املشاكل للسافلة ،األولى كمنبع للموارد املائية والثانية مستقبل
لذات املوارد .وبالتالي فأي منع للموارد املائية من العالية بواحات املغرب نحو السافلة ال
يمكن أن تكون سوى مصدر قلق ومشاكل؛ وهو األمر الذي نالمسه اليوم على شكل رواسب
ثقافية ،لكن ترجمت إلى العديد من الظواهر االجتماعية كالسلوك االنتخابي وعادات
الزواج ،وعليه ال غرابة أن نجد أي منع للزواج بين العالية والسافلة خاصة إذا اتخذت
بعهدها االثني.
ما يمكن قوله عن األعرف املحلية املرتبطة بالبيئة؛ أنها شكلت في الحقيقة عبر التاريخ ملجأ
محليا يعول عليها في تنظيم شؤون الحياة اليومية املرتبطة باملاء والبيئة ،وبالتالي بات من
الواجب البحث عن هذه األعرف من أجل تدوينها وتثمينها وتطويره.
ال زالت الواحات في املجتمع املغربي تواجه العديد من التحديات الثقافية املرتبطة باملاض ي
والتي تتواجد اليوم على شكل رواسب أو بقايا ثقافية كالصراعات االثنيات والتراتبيات
االجتماعية للماء وهو األمر الذي يؤثر سلبا على تفعيل العديد من املشاريع التنموية؛ وعليه
بات املدخل الثقافي ضروريا الى جانب مداخل أخرى تمكننا من الفهم العميق واملكثف لنظرة
االنسان الواحي للعالم الذي يعيش في.
حاول سكان الواحات االستجابة للظروف االيكولوجية على شكل أنظمة وتقنيات الري
املرتبطة باملاء ،كما أنه األمر الذي دفع باإلنسان إلى االعتقاد بأن هناك كائنات غير طبيعية
في حياتهم تسكن هذه املجاالت االيكولوجية ) تارير ،تسليت ن أونزار ،عتى أو نزار…(
الهوامش:
-1محمد آيت حمزة ،التوازن اإليكولوجي الواحي بين التنافس والتكامل ،مجلة املجال واملجتمع بالواحات
املغربية ،سلسلة الندوات رقم ،6كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية مكناس ،1993 ،ص.78
-2محمد بلفقيه ،أوليات في الجغرافيا الزراعية ،منشورات اللجنة الوطنية املغربية للجغرافيا ،مطبعة
فضالة ،1978 ،ص.105
-3د .امحمد امهدان ،املاء والتنظيم االجتماعي دراسة سوسيولوجية ألشكال التدبير اإلجتماعي للسقي بواحة
تدغى ،جامعة ابن زهر أكادير ،2012 ،ص.12
-4حسن رامو وعبد املجيد السامي ،وبوجمعة بوتوميت ،الواحات رهانات التنمية املستدامة باملغرب
الصحراوي ،دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط ،ط2016ص .176
-5ذ .محمد أزهار ،االنسان والبيئة في الواحات السهبية القاحلة واحة ميسور نموذجا (املغرب الشرقي) ،مجلة
املجال واملجتمع بالواحات املغربية ،املرجع نفسه ،ص.127 ،
-6محمد بلفقيه ،املرجع نفسه ،ص.106
-7محمد بلفقيه ،املرجع نفسه ،ص.106
-8محمد بلفقيه ،املرجع نفسه ،ص.300
-9أديب اللجمي– شحادة الخوري بن سالمة -عبد اللطيف عب نبيلة الرزاز ،املحيط.
http://islamport.com/k/mjl/6398/63046.htm
-10أنطونيو غدنز بمساعدة كارين بيردسال ،علم االجتماع )مع مداخالت عرية( ،املنظمة العربية للترجمة،
مؤسسة ترجمان ،ترجمة وتقديم الدكتور فايز الصياغ ،الطبعة االولى :بيروت ،اكتوبر ،2005ص.640
-11أنطونو غيدنز ،املرجع نفسه ،ص.640
-12املوقع االلكتروني ملنظمة اليونسكو/https://ar.unesco.org .
13القرآن الكريم ،سورة األعراف -اآلية .50
14حسن حبران ،التدابير االجتماعية للموارد البيئية بواحة فركلة ،بحث لنيل شهادة املاجستر بكلية اآلداب
والعلوم االنسانية بالقنيطرة ،املوسم الدراس ي ،2018-2017-ص .102
15عبد املالك كامل‘’ ،دراسة في أثر الرواسب الثقافية على التنمية املستدامة’’ ،القاهرة ،2007الطبعة
األولى ،2008ص20:
347 مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية