Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 18

‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫عنوان املقال‪ :‬املياه والبيئة في الواحات‬ ‫الكاتب‪ :‬حبران حسن‬


‫جامعة ابن طفيل‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم املغربية‪:‬أسئلة الرواسب الثقافية والتنمية‬
‫املستدامة‬ ‫االنسانية القنيطرة‬
‫البريد االلكتروني‪habranehassan@gmail.com:‬‬
‫تاريخ االرسال‪ 2019 /08/ 29. :‬تاريخ القبول‪ 2019/09/11 :‬تاريخ النشر‪2019/09/30 :‬‬
‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية والتنمية املستدامة‬
‫‪Water and Environment in the Morocco Oases:‬‬
‫‪Questions of Cultural Sediments and Sustainabl Development‬‬
‫ملخص املقال ‪:‬‬
‫يتميز النسق الراهن للواحات بمجموعة من التحديات الكبرى‪ ،‬من أهمها آليات تثمين املوارد‬
‫املائية عن طريق فهم العديد من املتغيرات املتصلة باملاء واالنسان والثقافة‪ .‬وعليه تسعى هذه‬
‫الدراسة إلى محاولة فهم كيف ينظر هذا االنسان إلى العالم الذي يعيش فيه‪ ،‬وكيف استطاع‬
‫من خالل العديد من االعراف والثقافات أن يساهم في الحفاظ على البيئة املحلية والتي لعبت‬
‫دورا بارزا في التنمية املستدام والتوازن البيئي‪ ،‬ثم إبراز بعض العوائق الثقافية التي تقف‬
‫حجزا أمام تطور هذه املجاالت‪ .‬فضال عن العديد من املعتقدات واملقدسات املائية التي اعتقد‬
‫بها االنسان الواحي والتي تتواجد اليوم على شكل رواسب ثقافية‪.‬‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪The current system of oases is distinguished by a lot of great challenges be them:‬‬
‫‪estimating materials for water resources by getting first a lot of variables that have‬‬
‫‪a relation with water, human being, and culture. Therefore, this study tries to‬‬
‫‪investigate the way people consider the world they are living in, and how they‬‬
‫‪become able to preserve the local environment based on various customs and‬‬
‫‪cultures, this plays a very noticeable role in both sustainable development and‬‬
‫‪environmental balance, then showing some cultural barriers which hinder the‬‬
‫‪development of these areas. Thanks to lots of believes and aquatic/watery‬‬

‫‪330‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫‪sanctuaries oasis like people used to consider and that are available now in the‬‬
‫‪form as cultural deposits.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬الواحات‪ ،‬التنمية املستدامة‪ ،‬الرواسب الثقافية‬
‫‪Keywords: Oases, sustainable development, cultural sediments‬‬
‫مق ـ ــدم ــة‪:‬‬
‫يتضح من خالل استقرائنا للواقع‪ ،‬أنه ال غنى عن النظر في العالقة الرابطة بين اإلنسان‬
‫والبيئة واملاء‪ ،‬باعتبار هذا األخير كان واليزال يشكل أحد العناصر التي لديها القدرة على الربط‬
‫بين العديد من املجاالت الطبيعية والثقافية‪ .‬ولتحليل وفهم هذه العالقة البد من تسليط‬
‫الضوء على العديد من املتغيرات‪ ،‬التي تطرح إشكالية املاء في عالقته بالبعد الثقافي‬
‫انثروبولوجيا‪ .‬فعنصر املاء )الفرشات املائية؛ السطحية والباطنية( والبعد الثقافي )األعراف‪،‬‬
‫العادات والتقاليد وأشكال السلطة وأنماط التدابير االجتماعية للماء(‪ .‬تعد مداخل أساسية‬
‫لفهم نظرة اإلنسان إلى الواقع االجتماعي الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫وعليه نهدف في هذه الدراسة إلى النظر في هذه الظاهرة الثقافية‪ ،‬في حدود العالقة الجدلية‬
‫التي تجمع بين األفراد باعتبارهم منتجين ثقافيين ومبدعين ألشكال الحياة االجتماعية بمختلف‬
‫تجلياتها‪ ،‬ومعطيات الواقع االيكولوجي الذي يفرز الفكر واالبتكار ويؤثر سلبا وايجابا في شكل‬
‫الثقافة القائمة ضمن سياق محدد‪.‬‬
‫فاملاء أو الذهب األزرق‪ ،‬هو بمثابة العنصر الباعث للحياة وعامل لالنتقال من مرحلة إلى‬
‫مرحلة‪ ،‬من املوت إلى الحياة ومن الحياة إلى املوت بواسطة تغسيل امليت‪ .‬هذه املراحل يكون‬
‫فيها املاء فاعال أساسيا ورمزا من رموزها‪ ،‬لذا كانت له أهمية بالغة في الحياة اليومية‪ ،‬كما‬
‫ارتبطت هذه القدسية بالعديد من املزارات واملعبودات املائية التي شكلت صورة من الصور‬
‫الرمزية التي يحملها االنسان في مخياله الثقافي تجاه الواقع الذي يعيش فيه‪ .‬ولعل هذا األمر‬
‫هو ما دفع االنسان في السياق املغربي إلى ابتكار أنظمة وحضارة مائية ذات العالقات املتعددة‬
‫سواء مع البيئة أو الثقافة‪.‬‬
‫إن أهمية املاء هذه جعلته يكتس ي طابعا خاصا في العديد من املجتمعات ونخص بالذكر‬
‫املجتمعات الواحية التي تتسم بمناخ صحراوي‪ ،‬وبالتالي يكون االشكال املؤطر لهذه الدراسة‬
‫هو غلى أي حد سعت هذه املجتمعات إلى ضرورة الحفاظ على املاء والدعوة إلى حسن‬

‫‪331‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫استغالله عبر أعراف محلية تهدف الى الحفاظ على البيئة واستعمال مختلف الوسائل‬
‫التقليدية أو املعاصرة للحصول عليه؟‪،‬‬
‫كان هناك اعتقاد بالعديد من الروحانيات تجاه املاء في هذه املجتمعات‪ ،‬فالنظر إلى املمارسات‬
‫اليومية لسكان الواحة من جانب املعتقدات والحكايات واألمثال الشعبية والشعر وحتى في‬
‫األدعية يتبين بشكل واضح مدى قدسية هذا العنصر في تاريخ هؤالء السكان‪ ،‬أما امتداد هذه‬
‫القداسة إلى اليوم فيمكن قراءتها على صيغة الرواسب أو البقايا الثقافية بمعنى استمرار‬
‫بعض العادات والتقاليد من املاض ي‪.‬‬
‫أما على مستوى املنهج‪ ،‬فيشار أننا عملنا على البحث الكيفي املعتمد أساسا على معطيات‬
‫وصفية‪ ،‬انطالقا من كلمات الناس عن تقنيتي املقابلة واملالحظة‪ ،‬إن بحث يقوم على جمع‬
‫املعطيات وتحليلها وتأويلها بهدف الكشف عن أنماط ذات داللة تصف ظاهرة معينة‪.‬‬
‫لقد سعى إنسان الواحات إلى جعل كل طاقاته وإمكاناته عبر التاريخ لضمان العيش عبر‬
‫ضمان امتالك املاء واألرض‪ ،‬لذا نفترض أن األعرف املحلية ساهمت تاريخيا في الحفاظ على‬
‫البيئة وهو ما نتج عنه تواجد أنظمة مائية قوية على املستوى املحلي‪ ،‬كما نفترض أن تنمية‬
‫بعض القطاعات املرتبطة باملاء تواجه تحديات لها عالقة بالرواسب الثقافية‪ .‬وأخيرا نفترض‬
‫أن الطبيعة االيكولوجية للمجال الواحي دفعت به إلى غرس أشجار ونباتات تستجيب لهذا‬
‫النظام االيكولوجي كما هو الحال في غراسة النخيل‪.‬‬
‫‪ :-1-2‬في معنى الواحات‪:‬‬
‫’‘ تعرف الواحة بأنها مجال أخضر يتميز بمناخ محلي ونظام زراعي كثيف ومتنوع وسط محيط‬
‫قاحل؛ اذ نجد العديد من التعاريف املقدمة في هذا السياق‪:‬‬
‫‪ -‬التعريف الجغرافي‪ :‬الواحة مجال أخضر وسط مجال قاحل‪.‬‬
‫‪ -‬التعريف االقتصادي‪ :‬الواحة مجال يتميز بكثافة وتنوع األنشطة‪.‬‬
‫‪ -‬التعريف السكاني‪ :‬الواحة مجال تتمركز فيه كثافات سكانية عالية مقارنة مع‬
‫املجاالت املجاورة‪.‬‬
‫‪ -‬التعريف املناخي‪ :‬الواحة مجال أكثر رطوبة ولطافة من املجاالت املجاورة’’ ‪.1‬‬
‫’‘وتعني الواحة بقعة من الخضرة في مجال قاحل تعتمد على الري‪( ،‬معجزة املياه ‪le mircale de‬‬
‫‪ )l’eau‬وذات زراعة متنوعة‪ ،‬وسكان مستقرون وعلى عكس ما هو شائع ال تتوفر كل الواحات‬

‫‪332‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫على نخيل’’‪ .2‬وترتبط الواحة بنياتها السيما أشجار النخيل التي تعتبر ركيزة اإلنتاج الزراعي بهذه‬
‫املنظومة البيئية‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد أصبح مجال الواحات يسترعي اهتمام الباحثين على اختالف مشاربهم‪ ،‬ففي هذا‬
‫الصدد نجد أن ‪ pierre George‬في معجمه حول املصطلحات الجغرافية قد عرف الواحة بأنها‬
‫مجال االستقرار والزراعة وسط محيط قاحل‪ ،‬بمعنى ’‘ أن وجودها مرتبط باملاء‪ ،‬ألن السقي‬
‫هو الشرط الضروري لقيام زراعة منتظمة‪ ،‬حيث يتم السقي بعدة طر منها استغالل مياه‬
‫العيون أو األنهار أو مياه اآلبار عن طريق الطاقة الحيوانية أو الخطارات ’’‪.3‬‬
‫واالجتماعية على الرغم من قساوة الظروف املناخية واإلكراهات االقتصادية‪.4‬‬
‫يمكن القول من خالل هذه التعاريف بأن الواحات مرتبطة باستمرار بتواجد املوارد املائية‪،‬‬
‫وأن ندرة هذه املوارد والتحكم فيه استدعى وباستمرار وجود حياة بشرية متماسكة وجد‬
‫محكمة نشأ عنها ما سمي بالحضارة املائية‪ ،‬هذه الحضارة التي تقوم على خلق التوازن بين‬
‫العناصر املكونة للمجال وهي املناخ واملاء والتربة والنباتات واإلنسان والحيوانات‪.‬‬
‫’‘ويمكن التمييز بين عدة أنواع من الواحات حسب مصدر نشأتها’‘ ‪:5‬‬
‫‪‘’ -‬الواحات التي تعتمد على الري املؤقت واملوسمي‪ :‬حيث أن الفالحين يعتمدون على‬
‫مياه األمطار أو الفيضانات وذلك عبر تشييد حواجز تجبر املياه على الجريان نحول‬
‫الحقول‪.‬‬
‫‪ -‬واحات الدير أو اإلبط‪ :‬وتتركز على سفوح الجبال حيث تستفيد من جريان دائم‬
‫نسبيا‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة ألودية درعة‪ ،‬وزيز‪ ،‬وغريس‪ ،‬باملغرب‪ ،‬أو نهر بردي‬
‫بسوريا‪. 6‬‬
‫‪ -‬الواحات املعلقة )‪ :(perchées‬وتتركز في أعالي األودية في املناطق القاحلة‪ ،‬وهي عبارة‬
‫عن أشرطة خضراء ضيقة كواحات أعالي درعة‪ ،‬وزيز‪ ،‬وغريس باملغرب‪.‬‬
‫‪ -‬واحات بدون ري‪ :‬كما هو الشأن في بعض الواحات بالجنوب الجزائري‪ ،‬حيث تتوفر‬
‫هذه املناطق على سديمة مائية ال يتعدى عمقها ‪ 12‬مترا‪ ،‬تحت غطاء مر الرمال‪،‬‬
‫حفر فيها الفالحون حفرا تدعى أغواطا‪ ،‬وزرعوا فيها النخيل الذي يستطيع أن يدرك‬
‫بجذور املياه الجوفية’’‪.7‬‬
‫إلى جانب اختالف تعريفات وتصنيفات الواحات‪ ،‬نجد كذلك اختالفا أيضا في طرق استغاللها‬
‫ومردوديتها‪‘’ ،‬فهناك الواحات العصرية واملتطورة جدا (التي يتوفر سكانها على أعلى دخل فردي‬
‫‪333‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬
‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫في العالم ) واملوجودة بكاليفورنيا بالواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬حيث األساليب السقوية‬
‫املتطورة واإلنتاج الوافر‪ ،‬وكذا واحات جمهورية ادربيجان ذات اإلنتاج املرتفع والري املتطور‪،‬‬
‫ثم هناك الواحات التقليدية والضعيفة الدخل املتمركزة بالصحراء الكبرى اإلفريقية’’‪.8‬‬
‫نستخلص مما سبق بأن معايير تحديد مفهوم وتصنيف الواحة ليست محددة بل مختلفة‬
‫ومتنوعة‪ ،‬بحيث ال يمكن حصرها في الغطاء النباتي وحده‪" ،‬أشجار النخيل" ذلك أن هناك‬
‫واحات ال تتوفر على النخيل‪ ،‬ولكن تتوفر على أشجار ومغروسات أخرى‪ ،‬كالزيتون‪ ،‬والورديات‬
‫ومزورعات كالقطن مثال‪ ،‬كما ال يمكن حصرها في حيز جغرافي معين‪ ،‬إذ أنها تنتشر في جل‬
‫القارات وعبر عروض مختلفة‪ ،‬كما ال يمكن حصرها في أساليب الري التقليدي والزراعة‬
‫املعاشية‪ ،‬إذ أن هناك واحات عصرية وجد متطورة‪.‬‬
‫‪ :-2-2‬في نمط السكن بالواحات‬
‫أما نمط السكن بالواحات تاريخيا فهو معروف في الغالب "بالقصر" أو ’‘إغرم’‘ باألمازيغية‪ ،‬إذ‬
‫يشكل هندسة معمارية تضفي عليه مجموعة من الخصائص وتجعل منه أهم تراث مادي في‬
‫هذه املناطق‪ .‬رغم ما أصابه واليزال يصيبه من أشكال التدمير والتهميش واإلهمال جعلته يفقد‬
‫الكثير من مميزاته ووظائفه االيكولوجية واملادية والرمزية‪ ،‬كما هو الشأن )لقصر أسرير‪،‬‬
‫وقصر تااللت‪ ،‬وقصر تايرزة‪ ،‬وقصر الخربات في الجنوب الشرقي للمغرب‪ (...‬وال تقتصر هذه‬
‫الواحات على هذا النمط من السكن فحسب‪ ،‬بل نجد سكن بمواد عصرية (حديد‪ ،‬ياجور‪،‬‬
‫رمل‪ ،‬إسمنت) بأشكاله املعمارية املتنوعة واملتعددة‪ ،‬ويمكن أن نفسر هذا التحول باالنفجار‬
‫الديموغرافي الذي عرفته املنطقة إذ لم يعد القصر قادر على استيعاب هؤالء السكان وبالتالي‬
‫بات من الواجب البحث عن أراض مجاورة لتحقيق نوع من االستقرار واالستقالل الذاتيين‪،‬‬
‫أضف إلى ذلك تعدد سنوات الفيضانات التي شوهت من املكانة املعمارية للقصور وهدمت‬
‫معظم املنازل‪ ،‬رغم أن إحاطة القصر بسور كبير‪ ،‬وبأبراج محصنة‪ ،‬وباب واحد كبير يحرصه‬
‫حارس ’‘أبواب’’ باألمازيغية يصعب اختراقه‪ .‬إذ كانت الغاية منه‪ ،‬هي حماية القصر من األخطار‬
‫الخارجية سواء كان مصدرها من اإلنسان (الحروب والصراعات القبلية‪ )...‬أو من الطبيعة‬
‫(الفيضانات‪ ،‬العواصف‪.)...‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬وغيره من ظواهر التصحر والهجرة‪ ،‬نفترض أن تكون نظرة انسان الواحة‬
‫إلى الواقع الذي يعيش فيه مجرد بناء اجتماعي لواقع إكولوجي فرض تحدياته‪ ،‬كما قد تكون‬

‫‪334‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫هذه الثقافة مرتبطة بالبعد الديني باعتباره سندا لإلنسان الواحي ليعطي اجابات ملعطيات‬
‫الواقع االيكولوجي التي احتك بها إنسان الواحة‪.‬‬
‫فإذا جاز لنا أن ننطلق من سؤال نراه ضروريا من الزاوية االنثروبولوجية‪ ،‬أال وهو املتغيرات‬
‫املتحكمة تاريخيا في إنتاج ثقافة مائية بالواحات املغربية ـ والتي مازالت رواسبها الثقافية إلى‬
‫اليوم تتجلى في بعض املعتقدات واملزارات واملعبودات املائية‪ ،‬نجد ان امالءات الواقع‬
‫االيكووجي لذات املجال فرض على ذات االنسان ان ينتج نظام مائي يتماش ى وفق املعطيات‬
‫الطبيعية ملجال الواحات‪.‬‬
‫‪ -1‬في معنى التنمية املستدامة ‪:‬‬
‫يعتبر مفهوم التنمية املستدامة من املفاهيم الشائعة والكثيرة االستعمال سواء من قبل‬
‫الباحثين والدارسين أو من قبل الهيئات واملنظمات املحلية والدولية املختصة وغير املختصة‪،‬‬
‫“فالتنمية لغة كما جاء في معجم املحيط تنمية الش يء تكثيره وزيادته‪ ،‬تنمية االنتاج الزراعي‪/‬‬
‫التنمية االقتصادية تعني رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد ”‪.9‬‬
‫ويبدو من خالل هذا التعريف حصر التنمية في املجال االقتصادي ولم يستحضر البعد‬
‫االجتماعي واالنساني والبعد البيئي الطبيعي‪ ،‬وهي األبعاد التي أصبحت املنظمات الدولية‬
‫تعتمدها لتحديد مفهوم التنمية‪.‬‬
‫ومفهوم التنمية املستدامة الذي استحدثته وتبنته برامج اإلنماء التي تشرف عليها األمم‬
‫املتحدة عام ‪ 1987‬مع صدور الوثيقة املسماة "مستقبلنا جميعا" ويعني مفهوم التنمية‬
‫املستدامة بصورة عامة أن على املجتمعات والدول أن تمض ي قدما في عملية اإلنماء‬
‫االقتصادي اعتمادا على تدوير ما لديها من موارد طبيعية‪ ،‬وإعادة استغاللها عوضا عن‬
‫استنضابها بصورة مطردة”‪.10‬‬
‫’‘اتسع هذا املفهوم في وقت الحق بحيث أصبح يعني استخدام املوارد املتجددة والقابلة للتجدد‬
‫لدفع النمو االقتصادي‪ ،‬مع املحافظة على التنوع البيولوجي وأنواع النوع الحيواني‪ ،‬ولاللتزام‬
‫باملحافظة على نظافة الهواء واملاء واألرض وأصبح الشعار الذي يجمع سائر األطراف املهتمة‬
‫بشؤون التنمية هو تلبية احتياجات الحاضر مع عدم اإلضرار بقدرة األجيال القادمة على‬
‫الوفاء باحتياجاتها’‘ ‪.11‬‬
‫“فمنظمة اليونسكو تركز في تعريفها ملفهوم التنمية على األبعاد الثالثة التالية”‪:12‬‬

‫‪335‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫‪ ‬البعد البيئي‪ :‬تطرح التنمية املستديمة بتأكيدها على مبدأ الحاجات البشرية‪ ،‬مسألة‬
‫السلم الصناعي‪ ،‬أي الحاجات التي يتكفل النظام االقتصادي بتلبيتها‪ ،‬لكن الطبيعة‬
‫تضع حدودا يجب تحديدها‪ ،‬واحترامها في مجال التصنيع والهدف من وراء كل ذلك‬
‫هو التسيير والتوظيف األحسن للرأسمال الطبيعي بدال من تبذيره‪.‬‬
‫‪ ‬البعد االقتصادي‪ :‬يعني البعد االقتصادي للتنمية املستديمة االنعكاسات الراهنية‬
‫واملقبلة لالقتصاد على البيئة‪ ،‬إنه يطرح مسألة اختيار وتمويل وتحسين التقنيات‬
‫الصناعية في مجال توظيف املوارد الطبيعية‪ ،‬توفق التنمية املستدامة بين هذين‬
‫البعدين‪ ،‬ليس في أخذها بعين االعتبار املحافظة على الطبيعة فحسب‪ ،‬بل بتقديريها‬
‫ملجموع العالقات املقامة بين الطبيعة وبين األفعال البشرية كذلك‪.‬‬
‫‪ ‬البعد االجتماعي والسياس ي‪ :‬تتميز التنمية املستديمة خاصة بهذا البعد الثالث‪ ،‬إنه‬
‫البعد اإلنساني باملعنى الضيق‪ ،‬إنه يجعل من النمو وسيلة للتالحم االجتماعي‬
‫ولعملية التطوير في االختيار السياس ي وال بد لهذا االختيار أن يكون قبل كل ش يء‬
‫اختيار إنصاف بين األجيال بمقدار ما هو بين الدول‪.‬‬
‫فإذا كان من معاني التنمية تحقيق رفاهية اإلنسان وهو ما يتدخل الجانب االقتصادي‬
‫لتحديده رقميا‪ ،‬وتنظيمه كميا‪ ،‬فإن مؤشرات أخرى ال تقل أهمية تحتفظ بمكانتها في تحديد‬
‫مدلول الرفاهية‪ ،‬فالبعد اإلنساني واالجتماعي‪ ،‬في ارتباطهما بالبيئة‪ ،‬يفرضان توازنا بغاية تفقد‬
‫التنمية مدلولها‪ ،‬ويغيب معنى االستدامة‪ .‬ويوضع الشكالن التاليان مكونات ومحاور‬
‫االستدامة‪ .‬ويظل هاجس املستقبل حاضرا أمام تعريفات التنمية املستدامة والبيئة‬
‫املستدامة‪ .‬فالتطور التكنولوجي يسير في طريق وجيز تغيير البنيات االقتصادية وحجم أرقام‬
‫اإلنتاج‪ ،‬لكن استبعاد املصلحة املستقبلية لألجيال اآلتية يخرج العملية من نطاق التنمية‬
‫املستدامة‪.‬‬
‫‪ -2‬في معنى الرواسب الثقافية‪:‬‬

‫يقصد بالرواسب الثقافية استمرار بعض العادات والتقاليد من املاض ي‪ ،‬ويعتبر االستخدام‬
‫االنثروبولوجي أكثر االستخدامات لهذا املفهوم فهي تعني عند تايلور‪ :‬تلك العمليات الذهنية‬
‫واألفكار والعادات وأنماط السلوك واآلراء واملعتقدات القديمة التي كانت سائدة في املجتمع في‬
‫وقت من األوقات والتي اليزال املجتمع يحافظ عليها ويتمسك بها بعد أن انتقل من حالته‬
‫‪336‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬
‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫القديمة إلى حالته الجديدة تختلف فيها كل االختالف عما كانت عليه في الحالة األولى التي أدت‬
‫في األصل إلى ظهور تلك األفكار والعادات واملعتقدات ‪ .‬ويعتقد تايلور أن أهم ما يميز هذه‬
‫املخلفات الثقافية هو فقدانها لوظيفتها وفائدتها ومعناها ‪ .‬وتعتبر من أقدم املفاهيم التي‬
‫ارتبطت باالنثروبولوجيا وذلك الرتباطها بنشأة هذا العلم منذ بداية القرن التاسع عشر على‬
‫أيدي علماء التطوريين‪.‬‬
‫هذا وتعتبر املشكالت التي أثيرت حولها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من‬
‫أهم املشكالت التي أثيرت في االنثروبولوجيا عامة ‪ ،‬وملعالجة بعض ما خلفته الثقافة من أنماط‬
‫في التفكير والسلوك ونظرة اإلنسان الواحي إلى الواقع الذي يعيش فيه سواء في عالقته باملاء أو‬
‫البيئة‪ .‬خاصة تلك التي لها عالقة باملوارد املائية والتي نجدها في املخيال الثقافي بشكل يصعب‬
‫نزع حضورها وتوقيف انتشارها في األوساط االجتماعية‪.‬‬
‫وبناء على ما سبق‪ ،‬يحضر إلى أذهاننا كيف قدست الشعوب القديمة عنصر املاء‪ ،‬وربطته‬
‫بمجموعة من األساطير النشوئية‪ ،‬وامتد ذلك إلى الكتب السماوية التي منحت املاء دائما مقاما‬
‫مهما في النشوء والحياة والعقاب أيضا ‘’ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا‬
‫من املاء أو مما رزقكم هللا قالوا‪ :‬إن هللا حرمهما على الكافرين’’ ‪ ’‘ ،13‬وما أنزل هللا من السماء‬
‫من املاء فأحيا به األرض بعد موتها’’ ‪.‬‬
‫أما بشمال إفريقيا عامة فتشهد أسطورة ‘’تسليت ن أوزار’’ على قداسة املاء‪ ،‬من خالل‬
‫عالقته الحميمية باألرض؛ لكنها ليست الوحيدة الدالة على تقديس املاء‪ ،‬فهناك الحوريات‬
‫اللواتي تشهدن النقائش الالتينية‪ ،‬والكتابات الرومانية على عبادتها باملغرب قبل وأثناء‬
‫االحتالل الروماني‪ ،‬وهي مخلوقات أسطورية مؤنثة ارتبطت باملياه العذبة والحامات‪ .‬فهناك‬
‫العديد من الكائنات التي يعتبرها البعض أسطورية على اعتبار أنها مرتبطة بمجال السقي أو‬
‫الحقول الزراعية وهي ترتبط ارتباطا وثيقا باملاء‪ ،‬فهذا األخير ال يشكل فقط ذلك العنصر‬
‫الطبيعي) االنهار‪ ،‬العيون‪ ،‬اآلبار‪ ،‬املستنقعات‪ ،‬االمطار‪ (...‬وإنما له امتدادات على املستوى‬
‫الرمزي والثقافي‪ .‬في حين يذهب البعض اآلخر إلى محاولة التأصيل لهذه املمارسات االجتماعية‬
‫بمقاربة أنثروبولوجية مغايرة‪ ،‬فما هي االنعكاسات والرواسب الثقافية لعنصر املاء بالواحات؟‬
‫‪ -3‬الرواسب الثقافية للماء بالواحات‪:‬‬
‫خالل بحث االنسان الواحي عن املاء في الفرشات الباطنية‪ ،‬خاصة أثناء حفر اآلبار بأدوات‬
‫تختلف حسب القدرة االقتصادية للفرد‪ ،‬يراهن صاحب املنزل أو صاحب البئر كل آماله‬

‫‪337‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫ونواياه ‘’راه النية الصافية هي كولش ي ‘’ لكي يجد املاء في باطن األرض‪ .‬وعندما يتحقق املراد يتم‬
‫االحتفال بذلك بالذبيحة في جو يسوده الفرح واملرح بالدقائق القليل التي قد يحصل عليها‬
‫صاحب املنزل‪ ،‬أما عن طقوس الذبيحة فهي ال تتجاوز الفرح واملرح بوجود املاء‪ ،‬إال أن الذبيحة‬
‫تختلف حسب املكانة االجتماعية التي يحتلها الفرد‪ ،‬سواء عامل في قطاع البناء‪ ،‬أو مهاجر‬
‫خارج بالد املغرب أو له مكانة رمزية بالواحات‪ ،‬آنذاك تتوزع الذبيحة حسب هذه املكانة‪.‬‬
‫هذه العالقة الرابطة بين املاء في بعده الطبيعي ‘’املاء بما هو ماء’’‪ ،‬والبعد الثقافي من خالل‬
‫املعتقد الديني‪ ،‬واالعراف البيئية التي من خاللها تنتظم الحياة الزراعية واملائية بالواحات‪...‬‬
‫يشكالن من حيث املظهر ظاهر انثروبولوجية تثير انتباهنا كباحثين‪ ،‬ثم معرفة كيف ينظر‬
‫إنسان الواحة إلى الواقع الذي يعيش فيه‪ ،‬وكيف بمقدوره أن يربط املاء بالعديد من‬
‫املعتقدات الثقافية التي ذكرناها‪’‘ .‬مع العلم أن هناك صعوبة الفصل بينهما‪ ،‬فاملاء له‬
‫خاصيات متعددة )طبية ونفسية وطاقية وبيئية واجتماعية ‪ (..‬وكل هذه الخصائص تجتمع‬
‫وتتكامل‪ ،‬لتشكل في نهاية املطاف كال مركبا يصعب تفكيكه‪.‬‬
‫ومن وجهة النظر هذه‪ ،‬فإن فهم ما شغل الحياة اليومية لهذا املجتمع‪ ،‬كطريقة للنظر إلى‬
‫الحياة اليومية‪ ،‬يقول ) غيرتز كليفورد‪ ،‬اإلسالم من وجهة نظر علم اإلناسة‪ :‬التطور الديني في‬
‫املغرب وأندونيسيا‪ ،‬سنة النشر بدون‪،‬ص ‪ ( 78‬أنه يسبق في الواقع فهم الدين بوصفه طريقة‬
‫مختلفة للنظر إلى الحياة‪ ،‬وذلك ليس ألنه يعد متحف للمعقول الشائع‪ ،‬كما َيود أن يقول‬
‫مالينوفسكي‪ ،‬بل ألنه كالفن أو العلم أو االيديولوجا أو القانون أو التاريخ يصدر عن إدراك‬
‫لعدم كفاءة مفاهيم املعقول الشائع للغرض ذاته الذي تلتزم به هذه املجاالت‪ :‬أي إدراك ما‬
‫تعنيه التجربة التي عاشها اإلنسان أو ما اكتسبه االنسان في حياته االجتماعية‪.‬‬
‫أما أسماء األماكن واملجاالت االيكولوجية بالواحات فهي األخرى مرتبطة باملاء؛ مثل ‘’أمان ن‬
‫تكطاط’’ بمعنى ماء الطيور وهذا يبين لنا كيف ألسماء بعض املجاالت أن تدل من حيث املعنى ـ‬
‫أنثروبولوجيا ـ على التفاعل االيكولوجي بين العديد من املكونات الطبيعية والحيوانية‬
‫والبشرية‪ ،‬بل وأن الرواية الشفوية تذهب بالقول بأن أصل تسمية تنجداد بهذا االسم يرجع‬
‫إلى ‘’تين إيكداد’’ باألمازيغية‪ ،‬والتي تعني املستنقع الذي تجتمع فيه الطيور‪ ،‬في حين نجد‬
‫مهتمين آخرين يعزون أصل التسمية إلى (تين إنجدا) أي املكان الذي يستريح فيه املسافرون‪،‬‬
‫وسميت على هذا االسم ألنها أقرب منطقة الستراحة املسافرين حيث أن املنطقة كانت في‬
‫القديم من أهم نقط العبور للقوافل التجارية املتجهة نحو التوات ثم السودان‪ ،‬فهذه األمور‬

‫‪338‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫وغيرها كافية لتبيان مكان املاء عند سكان هاته الواحة رغم كافة العوامل الطبيعية التي‬
‫تتطلب مجهودا مضاعف من أجل التكيف‪ ،‬هذا وقد ت‪4‬عبين لنا أنه بإمكان من يمتلك املاء في‬
‫الحقول الزراعية في ذات الواحة أنه بإمكانه أن يتالعب ويرفع الثمن في بيعه )املاء( على مالكي‬
‫األراض ي‪.‬‬
‫وتمثل عين ‘’تسبلباط’’ مزارا طقوسيا بامتياز‪ ،‬إذ تحج إليه النساء ملمارسة بعض العادات‬
‫والتقاليد التي لها عالقة جد وطيدة باملاء‪ .‬فالكتابات والدراسات التي تناولت حضور املقدس‬
‫في العنصر الذكوري )سيدي‪ ،‬موالي‪ ،‬ضريح فالن‪ ،‬بركة فالن‪ (...‬في مجتمعاتنا عامة‪ ،‬وأعطت‬
‫مساحات واسعة لشخصياتها الوازنة عبر التاريخ‪ ،‬بل منهم من أفرد كتبا بعينها ملتصوفة‬
‫وصلحاء وأولياء بعينهم‪ ،‬لكن‪ ،‬باملقابل‪ ،‬ظل الحضور املقدس النسائي في الدراسات والكتابات‬
‫العربية قليال جدا‪ ،‬بل وباهتا في أغلب األحيان‪ ،‬إذ يجري إدراجهن عرضا مع أسماء ذكورية ال‬
‫أقل وال أكثر‪.‬‬

‫‪ -4‬املاء والقيم البيئية بالواحات من خالل األعراف‪:‬‬


‫منذ زمن بعيد‪ ،‬قامت ساكنة الواحات بتطوير ثقافة مبنية على احترام البيئة وتقديسها‬
‫وخاصة املياه التي مكنت من تعميق العالقات االجتماعية بين الساكنة بقصور وقصبات‬
‫الواحات عامة‪ ،‬ويتجلى هذا األمر من خالل مجموعة من األعراف التي سطرها هؤالء السكان‬
‫رغم بعض التحوالت االجتماعية التي طرأت على هذا النظام العرفي‪ ،‬وهو األمر الذي يدفعنا إلى‬
‫تجديد وجهة نظرنا حول هذه األعراف والتطور الحاصل في العالم‪ ،‬فاألعراف املحلية كانت له‬
‫في الحقيقة دورا بارزا في الحفاظ على التوازن البيئي وفي املوارد البيئية‪.‬‬
‫يتم تحديد طاقم خاص يسهر على تدبير وتسيير شؤون كل خطارة‪ ،‬من أجل قطع الطريق أمام‬
‫النزاعات والخالفات وبعض النفايات التي قد يتجرأ البعض لرميها في الساقية التي تستفيد‬
‫الساكنة‪ ،‬وهو األمر الذي يحيلنا على أن هناك أعراف محلية تصل أحيانا الى درجة الزجر تجاه‬
‫الفرد الذي قد يخل بالتوازن البيئي‪ 14‬ومن االجراءات التي تقوم بها ساكنة هذه الواحات‬
‫املغربية نذكر ما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬شيخ الخطارة(أمغار ن خطارة) ‪ :‬ويعتبر الرأس املفكر واملرجع األساس ي لحل النزاعات التي‬
‫تطرأ بين الفالحين داخل حدود الخطارة التي يتزعمها‪ ،‬سواء تعلق األمر بالنزاعات حول‬
‫املاء أو بعض النفايات التي قد تعرقل السير العادي ملياه السواقي أو الخطارات ‪.‬‬
‫‪339‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬
‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫لقد عملت األعراف ملا كانت تمليه الظروف االيكولوجية على الواحة وهو ما يمكن أن نستشفه‬
‫من اعتقاد إنسان الواحات أن هناك كائنات غير طبيعية في حياتهم تسكن هذه املجاالت‬
‫االيكولوجية ) تارير‪ ،‬تسليت ن أونزار‪ ،‬عتى أو نزار…( وكانوا يعتقدون أن هذه الكائنات تسكن‬
‫مناطق محددة بالذات وهي في الغالب أماكن مظلمة أو برك مائية أو أنهار ومغارات ومنابع‬
‫مائية وأضرحة ومواقد النيران‪ ،‬والتي أصبحت تساعد اإلنسان الواحي سيكولوجيا على األقل‬
‫في شفاء بعض األمراض وتجديد أمل العوانس كما في ’‘تسبلباط بالخربات و ’‘سيدي امحمد‬
‫اوبراهيم بتغفرت’’ و ’‘ اللة ميمونة ’‘‪.‬‬
‫ونظرا للقيمة املقدسة التي تحتلها املياه بالواحات‪ ،‬تفرض أعراف الواحات مثال بواحة فركلة‬
‫في الجنوب الشرقي للمغرب أي فرد لم يحضر أشغال ’‘حفصايم’‘ أو ’‘أمشغال’’ و’’وهو شكل‬
‫من أشكال التويزا والتعاون بين أهل القصر‪ ،‬من خالله يتم تنقية أو صيانة السواقي‬
‫والخطارات من الرمال والطين واألزبال؛ من أجل الحفاظ على البيئة وكذا تنقية السواقي من‬
‫املواد الصلبة التي تنتج اثر العديد من العوامل سواء الرياح التي تجر بعض املواد البالسيكية‬
‫الى السواقي أو من طرف بعض االفراد الخارقين لألعراف التي يضعها القصر بشكل جماعي‬
‫والتي تهم بشكل عام البيئة املحلية املرتبطة باملاء‪.‬‬
‫في بعض القصور خاصة حينما يتعلق األمر بتنظيف الخطارة أو الساقية من النفايات أو‬
‫الرمال‪ ،‬بشراء ’‘الوقيد’’ أو إعطاء ’‘خمس موزونات’’ ويستفيد منها باقي أفراد القصر‪ ،‬كما‬
‫يمنع غسل املالبس أو ترك البقايا الصلبة في األماكن املخصصة للشرب على ضفاف الخطارة‪،‬‬
‫في بعض القصور وذلك نتيجة الوعي بخطورة هذا األمر على شجر النخيل وعلى اإلنسان ‪.‬‬
‫أما في باقي القصور فالزلت تعاني من هذه املشكلة والتي تتطلب فالحقيقة تدخال من أجل‬
‫الحفاظ على استمرار الواحة باملعنى االيكولوجي‪ ،‬وتعتبر العديد من الخطارات بالواحات من‬
‫أهم البؤر التي تستوجب الدراسة والتحليل‪ .‬تقوم النساء بعملية غسل املالبس في صهريج‬
‫يسمى ’‘املارج’’ وهو عبارة عن حوض مائي تجتمع فيه املياه‪ ،‬ليوزع بعد ذلك في الحقول‬
‫الزراعية بمعنى أن العملية تتم قبل توزيع املياه نحو املزروعات والنخيل والنباتات التي‬
‫تتوفرها هذه املناطق‪ ،‬ليتم سقيها بماء الغسيل‪.‬‬
‫علما أنه ليس باألمر الهين منع النساء من هذه العملية‪ ،‬وبالنظر إلى أسباب تعثر املجتمعات‬
‫’‘يرجع في كثير من األحيان إلى الرغبة في التمسك بالقديم والتعلق به‪ ،‬ولعل ذلك نتيجة‬

‫‪340‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫لالعتبارات عديد‪ :‬منها عقيدة راسخة بأن القديم سهل ومتقبل‪ ،‬بينما الجديد يحتاج إلى جهد‬
‫لالقتناع به وادراك فائدته واإلحساس بأهميته’‘ ‪.15‬‬

‫‪ -5‬االهمية البيئية للماء في عالقته بالنخيل والواحة ‪:‬‬


‫تعتبر النخيل صديقة البيئة بامتياز كون مكوناتها يعاد تدويرها بيئيا‪ ،‬باإلضافة إلى دورها‬
‫املحوري في توفير ظروف مناخية معتدلة كالرطوبة والظل‪ ،‬للمزروعات التي تبت تحتها‬
‫كالخضراوات والحبوب والفصة‪.‬‬
‫إن النخلة أيضا بفعل امتدادها العمومي وتجمعها في مناطق األوردية والواحات تساهم في خلق‬
‫مناخ محلي يقلل من قارية املناخ الصحراوي ومن التطرف الحراري في الصيف والشتاء‪ ،‬وأيضا‬
‫من حدة التبخر للماء وكذا التخفيف من قوة الرياح‪.‬‬
‫كما أن شجرة النخيل تشكل حلقة أساسية في التوازن البيئي للواحة هذا التوازن الهش املبني‬
‫على أساس تكامل بين مكونات الواحة )املاء‪ ،‬التربة‪ ،‬املزروعات‪ ،‬نمط االستغالل‪ ،‬االنسان‪(...‬‬
‫وانسجام بين هذه العناصر‪ .‬غير أن أي تدخل بدون دراسة وفهم لعناصر التنافس والتكامل في‬
‫املنظومة الواحية قد يعصف بالواحة ونظامها البيئي‪.‬‬
‫وفي سياق آخر نجد اشكالية التأقلم واالنعكاسات على الوسط البيئي؛ ففي مرزوكة وهي احدى‬
‫املناطق بالجنوب الشرقي املغربي بإقليم الراشدية التي استفادة من التنزيل املجالي لالتفاقية‬
‫الدولية للتنوع البيولوجي ‪ CDB‬سنة ‪ ،2000‬التي تراهن على السياحة كمدخل للتنمية‬
‫املستدامة‪ ،‬نجد في املقابل أنه أثر سلبا على النشاط السياحي ـ املبني على استهالك كميات أكبر‬
‫من املياه ـ على األوساط البيئية والبنيات االجتماعية للمجاالت املستقبلية أمرا متفقا عليه من‬
‫قبيل تدهور الغطاء النباتي املتواجد باملنطقة‪ ،‬واتصحر والهجرة واالخالل بالتوازنات الجهوية؛‬
‫ومن هذه التأثيرات نذكر‪:‬‬
‫التخلي على نمط عيش الرحل بسبب الظروف املناخية )قلة الكأل‪ ،‬زيادة معدالت التطرف‬
‫الحراري صيفا و شتاء( ‪.‬‬
‫الضرر الكبير الذي يلحق بالكثبان الرملية من جراء املخيمات املتنقلة والجوالت السياحية‬
‫‪ wilddor‬عبر سيارات الدفع الرباعي ودراجات ‪ QUADES‬من تدمير لألعشاش وجحور عدد من‬
‫الحشرات والزواحف ودهس العديد من التكوينات العشبية‬

‫‪341‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫وغير بعيد عن هذا السياق‪ ،‬نجد العامل أو ‘’املنقب ‘’ في هذا املجال وتحديدا في اآلبار‪ ،‬أن‬
‫لحظة انبثاق عين مائي في باطن األرض تطلب النساء )العاقرات( بأن يشربن من الدفعة األولى‬
‫لهذه املياه الباطنية‪ ،‬على اعتقاد أن هذا املاء يشفي من العقم‪ ،‬فقدسيته في هذا املستوى ليس‬
‫مرتبط بهذه املجتمعات الواحية فحسب‪ .‬وإنما نجد األمر في سياقات مغاير كبعض دول‬
‫جنوب الصحراء الذين كانوا قد قدسوا في الحقب القديمة البحر واألنهار‪ ،‬وآمن السالفيون‬
‫بانتشار األرواح والجن حول النافورات‪ ،‬وقدم سكان أمريكا األصليون )املايا واالنكا‬
‫والسيوكس‪ (...‬قرابين متنوعة آللهة املطر والبحيرات‪ .‬واليوم ال زال الهندوس يقومون بطقوس‬
‫الطهارة بالغنج‪ ،‬وهو ما يشهد على استمرارية عبادة املياه التي غالبا ما اعتبرت مصدرا للحياة‬
‫الكونية‪ ،‬فكانت حسب الفيلسوف االغريقي طاليس )نهاية القرن السابع قبل امليالد( العنصر‬
‫االول الذي منح الحياة لباقي العناصر الطبيعية‪ ،‬أما ‘’أريسطو’’‪ ،‬فصنف املاء ضمن العناصر‬
‫األربعة األساسية في عالم الفزيائي‬
‫‪.‬ولفهم هذه املجتمعات املحلية والنهوض بها تنمويا البد من الوقف على جل هذه املستويات‬
‫الثقافية‪ ،‬خاصة وأن املدخل االنثروبولوجي أصبح ضروريا لتنمية املجتمعات املحلية وكذا‬
‫العاملية‪ ،‬نظرا لكون الثقافة ركيزة أساسية ألي سؤال تنموي‪ ،‬ونقصد بالثقافة في هذا السياق‬
‫ُ‬
‫نفس التعريف الذي قدمه ‘’غيرتز’’ أي أنها تقرأ كما ُيقرأ النص‪ ،‬وأنها تتألف من الرموز‪ ،‬التي‬
‫هي نواقل للمعنى‪ ،‬أو حتى كما تداولها تايلور ‘’ذلك الكل املركب الذي يشمل املعرفة‬
‫واملعتقدات والفن واألخالق والقانون واألعراف والقدرات والعادات األخرى التي يكتسبها‬
‫اإلنسان باعتباره عضوا في املجتمع’’ ‪ .‬فعندما نكون بصدد وسط تسوده ثقافة تقليدية‪ ،‬فإنه‬
‫من الصعب أن تنجح السياسة التنموية وأن تحقق أهدافها" ‪.‬‬
‫إن هذه األنساق الثقافية التي نسجها وينسجها إنسان الواحة تكاد تشبه أنساق األهمية التي‬
‫تحدث عنها ‘’كليفور غيرت’’ حينما اعتبر أن الثقافة ال تهتم فقط كيف يتصرف اإلنسان وإنما‬
‫كيف ينظر إلى األشياء‪ ،‬ثم كتابات ‘’مالينوفسكي ‘’التي تميزت بالدراسات امليدانية ليخلص بأن‬
‫النشاطات أو األنشطة اإلنسانية و إن كانت تغطيها جزء من العاطفة والتصوف والسحر‬
‫واألساطير‪ ،‬فإنها تخدم الحياة اليومية لإلنسان فبها يحيا و يعيش ‪ ،‬بل أن غريتز ذهب بالقول‬
‫أن عدد كبير من رجال الدين اعتنقوا الدين لهذا الغرض ‪.‬‬
‫‪ -6‬دور املؤسسات التقليدية في الحفاظ على البيئة واملياه بالواحات‬

‫‪342‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫يعتبر املاء عنصرا محددا في نظام الواحات )عيون‪ ،‬أنهار‪ ،‬خطارات وآبار( ‪ ،‬ويشكل التدبير‬
‫االجتماعي والثقافي للماء‪ ،‬تنظيم سوسيوثقافي يهتم بالحياة الزراعية لسكان الواحة ـ ـ وربما في‬
‫مناطق أخرى ـ ـ عبر وضع أعراف وقوانين تنظم كيفية توزيع املاء على املالكين‪ .‬وقد سعى سكان‬
‫الواحات إلى استعمال املوارد املائية بشكل عقالني يحفظها من االتالف ويضمن توزيعها بشكل‬
‫أمثل تماشيا مع متطلبات النباتات وتكيفا مع املحيط الطبيعي والبشري‪ .‬وهكذا اختار لوسطه‬
‫ما يالئمه من التقنيات‪.‬‬
‫كما ُيعرف التدبير االجتماعي للماء بأنه بناء اجتماعي ‪ Construction social‬يتم انتاجه تاريخيا‬
‫لكنه ليس بناء مغلقا وال معزوال عن املؤثرات األخرى‪...‬فهو دراسة شبكات الري التقليدية‬
‫انطالقا من املمارسات املجالية للفالحين‪ ،‬بهدف فهم أسس النجاح و اإلخفاق في صيرورة تنمية‬
‫السقي والصرف‪ ،‬والتفكير في األشكال املمكنة لتدبير الثروة املائية في الدوائر السقوية‬
‫العصرية والقطاعات االقتصادية واالجتماعية املختلفة ‪ .‬وفي هذا السياق يرى ‘’بول كالفال ‘’‬
‫أن التدبير االجتماعي للمسألة املائية يشترط فيها أن تحقق نوع من التوازن بين الحاجيات‬
‫واالمكانات في الزمن واملكان ‪.‬‬
‫فالتدبير االجتماعي للماء في هذا السياق هو تلك األنظمة االجتماعية والثقافية التي أنتجها‬
‫اإلنسان عبر التاريخ )كطريقة تقسيم املاء‪ ،‬واملؤسسات التي تسهر على التنظيم‪ :‬الزاوية‬
‫والقبيلة‪ ،‬واالعراف البيئية التي أبدعها انسان الواحة لتنظيم حياته الزراعية املرتبطة باملاء‪(...‬‬
‫ُ‬
‫أي املؤسسات االجتماعية التي تشرف على ذلك بما فيها الجماعة وكل الفاعلين داخل املجال‬
‫السقوي كلجنة املاء وشيخ املاء ‘’ أمغار نوامان’’ وأمين املاء ‪...‬‬
‫أما القبيلة فتستعص ي على التعريف‪ ،‬وذلك بفعل اختالف املورفولوجيات وأحجامها‪ ،‬وكذا‬
‫زوايا النظر التي ينطلق الباحث منها لوضع تعريف معين‪ ،‬فنجد مثال ‪ Gautier‬يعرف القبيلة‬
‫بأنها تنظيم بيولوجي ينبني على الروح العائلية‪ ،‬فهي جماعة من األجيال ترتبط فيما بينها برابطة‬
‫الدم‪ ،‬إذ أن الروح القبلية هي امتداد للروح العائلية‪ ،‬بمعنى أنها ترتبط بعالقة دموية ال‬
‫بالعالقة الترابية ‪ ،‬مع العلم أن ابن خلدون أكد عكس ذلك حينما اعتبر أن مقولة وحدة الدم‬
‫أو الجد املشترك مجرد إيديولوجية‪ .‬وأن ليس هناك من يضمن انتقال دماء صافية من السلف‬
‫إلى الخلف‪.‬‬
‫وفي ذات السياق‪ ،‬اعتبرها ‘’بول باسكون ‘’‪ P.Pascon‬جمعية سياسية مبنية على عوامل‬
‫اقتصادية وجغرافية‪ :‬كما تعبر عنها عالقات االنسان باألرض‪ ،‬والطاقة البشرية‪ ،‬والثورة‬

‫‪343‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫الطبيعية لفضاء ما في مستوى تكنولوجي معين’’ أي التركز بشكل مباشر على كل من األبعاد‬
‫السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والجغرافية‪ ،‬والتكنولوجية وااليكولوجية‪ ،‬لكن في الواحات يضعنا‬
‫البعد التاريخي أمام واقع التنوع والتعدد‪ ،‬ويرفض االنثروبولوجي ‘’عبد هللا حمودي’’ جل هذه‬
‫التعاريف سواء تلك املبنية على الدم أو النسب‪ ،‬أو حتى مجال ترابي كما عزاها ريمون‬
‫جاموس‪ ،‬ليعطي لها مفهوما إجرائيا ‪ ،‬إذ يقول أنها مجموعة يشار إليها غالبا بكلمات ‘’قبيلة’’ أو‬
‫‘’تقبيلت’’‪ ،‬وألعضاء هذه املجموعة عمومة مجال ترابي يعتبرونه ملكا جماعيا لهم‪ ،‬ويستغلون‬
‫موارده بناء على انتمائهم الذي يتفقون هم بأنفسهم على أنه يأتي من أصل مشترك‪ ،‬كما‬
‫يعتبرون أنفسهم متضامنين في الدفاع عن ذلك املجال‪ ،‬ومن ناحية أخرى يرى الباحث في‬
‫مجال االنثروبولوجيا ‘’عبد هللا حمودي ‘’ أن هؤالء يمارسون نمط عيش مرتبط بفهمهم‬
‫إلكراهات هذا املجال‪ ،‬وهو نمط يميزهم من أنماط أخرى‪ ،‬خاصة نمط العيش في املدن وسبله‪.‬‬
‫في واقع األمر‪ ،‬بالقدر الذي تتواجد العديد من التعاريف حول مفهوم القبيلة‪ ،‬بالقدر الذي‬
‫يتيه الباحث في هذه السلسلة العديدة من التعاريف في مجاالت مختلفة‪ .‬ولعل هذا األمر هو ما‬
‫ذهب إليه أحد الباحثين إلى التأكيد على ضرورة إعادة النظر‪ ،‬إبيستيمولوجيا‪ ،‬في طرح‬
‫إشكالية القبيلة‪ ،‬كإشكالية مفهوم باألساس‪ ،‬فعوض طرح سؤال ما هو مفهوم القبيلة؟ ـ الذي‬
‫يعتبره الباحث ) سؤاال فلسفيا مجردا( ـ يقترح صيغة أخرى للسؤال ‪ :‬ماذا نعني بالقبيلة في‬
‫التاريخ؟ بما يفتح إمكانية إلدراك القبيلة في تاريخها ‪.‬‬
‫عموما‪ ،‬تتدخل القبيلة من الناحية التنظيمية في صيغة ‘’لجميعت ‘’ وهي بمثابة لجنة املاء‬
‫بالصيغة املعاصرة وتتكون من ‪’‘ 12‬إخس ‘’ أو عظم‪ .‬كل ‘’إخس ‘’ يمثل املمتلكين للماء خاصة‬
‫ماء الخطارات‪ ،‬وهم الذين يشرفون على التنظيم والحفاظ على التقسيم االجتماعي للماء الذي‬
‫ُ َ‬
‫كان منذ تاريخ مض ى أي التنظيم‪ ،‬مع اإلشارة أنه بإمكان القبيلة أن تخول ‘’أمغار نوامان’’ أو‬
‫شيخ املاء لشخص قد يمتلك القليل من املاء أو ال يمتلك؛ فقط يكفي أن يتسم باملعقولية‬
‫والصدق ومعروف لدى القصور بالصفات الحميدة وهي مواصفات رمزية يكتسبها الفرد خالل‬
‫حياته االجتماعية‪ .‬ويذكرنا هذا األمر بالشخصية الكاريزمية التي تحدث عنها ماكس فيبر‪ ،‬أما‬
‫معايير امتالك املاء من عدمه فيتداخل فيه البعد التاريخي أو املساهمة في جلب املاء إلى القصر‬
‫خاصة في ما يتعلق بنظام الخطارات‪.‬‬
‫أما بالنسبة للمتكريين للماء؛ أو املاء مقابل ملغ مالي لفترة محددة ـ في هذه القصور ال يقتصر‬
‫األمر فقط عند اللذين ال يملكون املاء فحسب وإنما أيضا الذين يستفيدون من دقائق قليلة‪،‬‬

‫‪344‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫وبالتالي يكون مضطرا للكراء عبر دفع ثمن محدد حتى يحقق نوع من التوازن الفالحي والحفاظ‬
‫على منتوجه الزراعي عبر شراء املاء من القبيلة‪ ،‬ويظهر التنظيم املحكم لهذه القصور من‬
‫خالل املال العائد من كراء ماء الخطارة ليتم صرف ذلك في صيانة الخطارة من أنواع التلوث‬
‫الذي قد يصيب مصادر املياه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من التداخل الذي نجده قائم بين املؤسسات التقليدية ) جماعة‪ ،‬القبيلة‪(...‬‬
‫واملعاصرة ) الجمعية‪ ،‬الجماعة التربية‪ (...‬خاصة في تدبير بعض املشاريع التنموية إال أن هذا‬
‫األمر يطرح أحيانا اختالفا بين املؤسستين وحينا آخرا توافقا‪ .‬وهو تداخل من خالل خصوبة‬
‫القديم في الجديد فاملعركة بين القدماء وبين املعاصرين تسود داخل كل منا‪ ،‬وتكمن نجاعة‬
‫كل مبادرة وحيويتها في قدرتها على االندماج داخل هذه املعركة‪ ،‬وأن تكون نضاال‪ ،‬ومكمن‬
‫الخصوبة هو في كل مبادرة تحبل بالتناغم‪ ،‬والنزعة املحافظة املتسامية‪ ،‬والخيال املتطور’’‬
‫أما في نظر جاك بيرك بخصوص هذه العالقة الرابطة بين القديم والجديد في املجتمع املغربي‬
‫أنه ال ينبغي لهذا التغير أن يفك ارتباطه مع الثقافة التقليدية‪.‬‬
‫وإذا كانت القبيلة تتدخل في تنظيم وهيكلة املوارد املائية وتحديدا في الخطارة وكذا القيام‬
‫‘’بالداللة ‘’‪ ،‬فإن للزاوية دور بارز في هذا التنظيم‪ ،‬إذ ال يمكن أن نتصور زاوية من دون كتلة‬
‫قبلية ترتكز عليها وتسندها‪ ،‬وهذا االرتباط يعكس في العمق مدى حاجة كل منها لآلخر‪،‬‬
‫فالزاوية تخدم القبيلة بالطبع ـ وهذا ما تؤكده اسهاماتها املتعدد ووظائفها املختلفة التي تؤديها‬
‫من داخل مجالها القبلي ـ وباملثل‪ ،‬تبدي القبيلة استعدادها الدائم لخدمة الزاوية وإرضاء‬
‫شيخها التماسا لبركته‪ ،‬هذه األخيرة )البركة( التي تترجم سوسيولوجيا إلى أشكال من التدخالت‬
‫الحاسمة التي تتراوح بين املعقول والالمعقول‪ ،‬البسيط واملعقد‪ ،‬املادي والروحي ‪ ،‬كما يحضر‬
‫واقع الهيبة ورد الهيبة باملعنى الذي تناوله مارسيل موس‪ .‬فأفرد القبيلة يأتون إلى زاوية بهيبات‬
‫مادية قد تكون )خروف‪ ،‬دجاج‪ ،‬قمح‪ ،‬كسكس ‪ (...‬في مقابل الروحانيات كالبركة وتحقيق‬
‫الرض ى وطلب الغيث‪.‬‬
‫كما أن للزاوية ( دور الصلح أو فصل النزاعات والصراعات القبلية التي تكون حول املاء‪ ،‬وفي‬
‫ظل غياب شبه تام للسلطة املركزية آنذاك‪ ،‬ستظهر فئة من الناس مهمتهم التوسط في‬
‫املنازعات والتحكيم بين األطراف املتنازعة‪ ،‬وذلك لضمان الصلح وبالتالي األمن واالستقرار من‬
‫داخل القبيلة‪ .‬فاألمر يتعلق ببعض األسر ‘’الكرامية’’ وشيوخ الزوايا‪ ،‬إذ يعتبر الهواريين ـ نسبة‬

‫‪345‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫إلى زاوية سيدي الهواري ـ من أقوى الزوايا التي عرفتها املنطقة بالنظر إلى ما كانوا يحتكمون‬
‫عليه من سلطة روحية ورمزية‪.‬‬
‫وعلى سبيل الختم‪ ،‬يبدو لنا أن هناك عالقة رابطة بين املاء واالنسان‪ ،‬فهو ذلك العنصر الذي‬
‫من خالله استطاع إنسان الواحة أن يبني وينسج العديد من العادات والتقاليد واألعراف‬
‫والقيم واألنظمة والتدابير االجتماعية التقليدية للماء؛ على شكل رواسب ثقافية نالمسها في‬
‫العديد من املجاالت التي استمرت إلى يومنا هذا‪ ،‬ولعل األمر الذي يفسر هذه الظاهرة‬
‫السوسيولوجية قد ال تعزو إلى سبب محدد وإنما إلى أسباب متعددة ومختلفة‪ ،‬فمنها األسباب‬
‫التاريخية واالجتماعية والثقافية والظروف االيكولوجية الصعبة التي دفعت بهذا االنسان أن‬
‫يصوغ نموذجا ثقافيا أو نظرته الخاصة إلى املجال الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫‪ -7‬النتائج‪:‬‬
‫‪ ‬بناء على ما سلف‪ ،‬يمكننا القول أن املرتكزات األساسية للموارد املائية بالواحات يحكمها‬
‫أكثر من مستوى وهو ما يطرح املجال في طابعه املركب خاصة إذا ما تناولنا مستويات‬
‫السلطة والهيمنة والتراتبيات االجتماعية التي لها عالقة باملاء‪ ،‬ثم بعض الصراعات القبلية‬
‫التي الزلنا نحصد رواسبها في العديد من املجاالت السياسية وعادات الزواج‪ .‬إذ كانت العالية‬
‫في أغلب األحيان مصدر املشاكل للسافلة‪ ،‬األولى كمنبع للموارد املائية والثانية مستقبل‬
‫لذات املوارد‪ .‬وبالتالي فأي منع للموارد املائية من العالية بواحات املغرب نحو السافلة ال‬
‫يمكن أن تكون سوى مصدر قلق ومشاكل؛ وهو األمر الذي نالمسه اليوم على شكل رواسب‬
‫ثقافية‪ ،‬لكن ترجمت إلى العديد من الظواهر االجتماعية كالسلوك االنتخابي وعادات‬
‫الزواج‪ ،‬وعليه ال غرابة أن نجد أي منع للزواج بين العالية والسافلة خاصة إذا اتخذت‬
‫بعهدها االثني‪.‬‬
‫‪ ‬ما يمكن قوله عن األعرف املحلية املرتبطة بالبيئة؛ أنها شكلت في الحقيقة عبر التاريخ ملجأ‬
‫محليا يعول عليها في تنظيم شؤون الحياة اليومية املرتبطة باملاء والبيئة‪ ،‬وبالتالي بات من‬
‫الواجب البحث عن هذه األعرف من أجل تدوينها وتثمينها وتطويره‪.‬‬
‫‪ ‬ال زالت الواحات في املجتمع املغربي تواجه العديد من التحديات الثقافية املرتبطة باملاض ي‬
‫والتي تتواجد اليوم على شكل رواسب أو بقايا ثقافية كالصراعات االثنيات والتراتبيات‬
‫االجتماعية للماء وهو األمر الذي يؤثر سلبا على تفعيل العديد من املشاريع التنموية؛ وعليه‬

‫‪346‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬


‫املياه والبيئة في الواحات املغربية‪ :‬أسئلة الرواسب الثقافية‬ ‫املجلد األول – العدد الثالث – سبتمبر‪2019‬‬

‫بات املدخل الثقافي ضروريا الى جانب مداخل أخرى تمكننا من الفهم العميق واملكثف لنظرة‬
‫االنسان الواحي للعالم الذي يعيش في‪.‬‬
‫‪ ‬حاول سكان الواحات االستجابة للظروف االيكولوجية على شكل أنظمة وتقنيات الري‬
‫املرتبطة باملاء‪ ،‬كما أنه األمر الذي دفع باإلنسان إلى االعتقاد بأن هناك كائنات غير طبيعية‬
‫في حياتهم تسكن هذه املجاالت االيكولوجية ) تارير‪ ،‬تسليت ن أونزار‪ ،‬عتى أو نزار…(‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬محمد آيت حمزة‪ ،‬التوازن اإليكولوجي الواحي بين التنافس والتكامل‪ ،‬مجلة املجال واملجتمع بالواحات‬
‫املغربية‪ ،‬سلسلة الندوات رقم ‪ ،6‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية مكناس‪ ،1993 ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ -2‬محمد بلفقيه‪ ،‬أوليات في الجغرافيا الزراعية‪ ،‬منشورات اللجنة الوطنية املغربية للجغرافيا‪ ،‬مطبعة‬
‫فضالة‪ ،1978 ،‬ص‪.105‬‬
‫‪ -3‬د‪ .‬امحمد امهدان‪ ،‬املاء والتنظيم االجتماعي دراسة سوسيولوجية ألشكال التدبير اإلجتماعي للسقي بواحة‬
‫تدغى‪ ،‬جامعة ابن زهر أكادير‪ ،2012 ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ -4‬حسن رامو وعبد املجيد السامي‪ ،‬وبوجمعة بوتوميت‪ ،‬الواحات رهانات التنمية املستدامة باملغرب‬
‫الصحراوي‪ ،‬دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط‪ ،‬ط‪2016‬ص ‪.176‬‬
‫‪ -5‬ذ‪ .‬محمد أزهار‪ ،‬االنسان والبيئة في الواحات السهبية القاحلة واحة ميسور نموذجا (املغرب الشرقي)‪ ،‬مجلة‬
‫املجال واملجتمع بالواحات املغربية‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.127 ،‬‬
‫‪ -6‬محمد بلفقيه ‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.106‬‬
‫‪ -7‬محمد بلفقيه ‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.106‬‬
‫‪ -8‬محمد بلفقيه‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.300‬‬
‫‪ -9‬أديب اللجمي– شحادة الخوري بن سالمة‪ -‬عبد اللطيف عب نبيلة الرزاز‪ ،‬املحيط‪.‬‬
‫‪http://islamport.com/k/mjl/6398/63046.htm‬‬
‫‪ -10‬أنطونيو غدنز بمساعدة كارين بيردسال‪ ،‬علم االجتماع )مع مداخالت عرية(‪ ،‬املنظمة العربية للترجمة‪،‬‬
‫مؤسسة ترجمان‪ ،‬ترجمة وتقديم الدكتور فايز الصياغ‪ ،‬الطبعة االولى‪ :‬بيروت‪ ،‬اكتوبر ‪ ،2005‬ص‪.640‬‬
‫‪ -11‬أنطونو غيدنز‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.640‬‬
‫‪ -12‬املوقع االلكتروني ملنظمة اليونسكو‪/https://ar.unesco.org .‬‬
‫‪ 13‬القرآن الكريم ‪ ،‬سورة األعراف ‪ -‬اآلية ‪.50‬‬
‫‪ 14‬حسن حبران‪ ،‬التدابير االجتماعية للموارد البيئية بواحة فركلة‪ ،‬بحث لنيل شهادة املاجستر بكلية اآلداب‬
‫والعلوم االنسانية بالقنيطرة ‪ ،‬املوسم الدراس ي ‪ ،2018-2017-‬ص ‪.102‬‬
‫‪ 15‬عبد املالك كامل‪‘’ ،‬دراسة في أثر الرواسب الثقافية على التنمية املستدامة’’‪ ،‬القاهرة ‪ ،2007‬الطبعة‬
‫األولى ‪ ،2008‬ص‪20:‬‬
‫‪347‬‬ ‫مدارات تاريخية – دورية دولية محكمة ربع سنوية‬

You might also like