Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 20

‫‪123‬‬

‫عمرو الشلقاني *‬
‫ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻋﺪﺍﻡ ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﻴﻦ ‪ :‬ﺍﻟﺴﻨﻬﻮﺭﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ‪- 1952‬‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬
‫‪1954‬‬
‫المحامين»‪:‬‬
‫إعدامﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬ ‫يريد‬
‫ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ‬ ‫«الشعب‬
‫ﻣﺠﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ‬ ‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪:‬‬
‫ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻟﻸﺑﺤﺎﺙ ﻭﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ‬ ‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬
‫بينﻋﻤﺮﻭالقانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬ ‫السنهوري‬
‫ﺍﻟﺸﻠﻘﺎﻣﻲ‪،‬‬ ‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪:‬‬
‫ﻣﺞ ‪ ,1‬ﻉ ‪3‬‬ ‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫ﻧﻌﻢ يف أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬بطلاً آثر الوقوف مع التيار الديمقراطي‪ ،‬فنادى مع‬ ‫ظهر السنهوري‬ ‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪:‬‬
‫اجلناح املؤيد للواء حممد نجيب بعودة اجليش إىل ثكناته‪ ،‬وإطالق حرية األحزاب السياسية‪ ،‬متهيدً ا‬
‫‪2013‬‬ ‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪:‬‬
‫لعقد انتخابات نزهية يف ظل دستور جديد كان له الدور الكبري يف صوغ أحكامه‪ .‬ثم ظهر بعد‬
‫ﺷﺘﺎﺀاستخفاف العسكر بسيادة القانون‪ ،‬وعدائهم الستقالل القضاء‪ُ ،‬فيرضب القايض‬ ‫ذلك بأيام شهيد‬ ‫ﺍﻟﺸﻬﺮ‪:‬‬
‫‪123‬ثم يشتد العداء بينه وبني عبد النارص ُفيعزل من منصبه القضائي‪ ،‬و ُيمنع‬ ‫حمكمته‪،‬‬ ‫الكبري عىل س ّلم‬
‫‪- 140‬‬ ‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫من السفر أعوا ًما جزاء التزامه بمبادئه القانونية الرصينة‪.‬‬
‫‪10.12816/0000314‬‬ ‫‪:DOI‬‬
‫هذا الرسد التقليدي لقصة االعتداء عىل السنهوري نراه حمل اعرتاضات جوهرية‪ ،‬ملا يف ذلك الرسد‬
‫غري قليل للدور السيايس الذي أداه السنهوري قبل حلظة االعتداء عليه تلك‪،‬‬ ‫‪470791‬‬
‫التقليدي من إغفال‬ ‫ﺭﻗﻢ ‪:MD‬‬
‫ﻭﻣﻘﺎﻻﺕوالتعاون مع القائمني عىل حركة انقالب اجليش ما يتعذر معه اعتبار‬ ‫ﺑﺤﻮﺙأوجه الود‬
‫ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪ :‬وهو دور فيه من‬
‫ضحية طاهرة للعصف النارصي بسيادة القانون‪.‬‬ ‫‪AraBase‬‬
‫ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪:‬السنهوري جمرد‬
‫كيف لنا أن نفرس هذا التناقض الصارخ بني االعتداء عىل السنهوري يف ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪1954‬‬
‫ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ‪ ،‬ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ‪ ،‬ﺍﻟﻨﺨﺐ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ‪ ،‬ﺍﻹﻧﻘﻼﺑﺎﺕ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ‪،‬‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬‬
‫جراء تأييده للتيار الديمقراطي بحسب فولكلورنا القانوين من جانب‪ ،‬ومواقف السنهوري‬ ‫ّ‬
‫ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﻮﻥ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﻮﻥ ‪ ،‬ﺍﻟﺴﻨﻬﻮﺭﻱ ‪ ،‬ﻋﺒﺪﺍﻟﺮﺍﺯﻕ ﺑﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﺴﻨﻬﻮﺭﻱ ‪ ،‬ﻣﺼﺮ‬
‫السابقة عىل ذلك االعتداء الدرامي بكل ما انطوت عليه من تأييد ومباركة للتدابري الثورية‬
‫واخلارقة يف جمملها للرشعية الدستورية من جانب آخر؟‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/470791‬‬ ‫ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬
‫أمهية السؤال تكمن يف ما تشهده مرص اليوم وسط صدمة الشعب من عزوف نخبتنا القانونية عن‬
‫إقامة «العدل الثوري» احلق بعد ‪ 25‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ ،2011‬وذلك ألسباب نراها تارخيية‪،‬‬
‫باقية معنا بعد ستة عقود من انقالب اجليش‪ ،‬تاركة اجلميع يف توجس من أي تعامل ثوري مع نظام‬
‫مبارك وحاشيته‪ ،‬بينام نتابع أحكام الرباءة تصدر الواحد تلو اآلخر يف شأن كل من قامت ثورة ‪25‬‬
‫يناير يف وجه سلطانه‪.‬‬
‫هي هواجس املايض‪ ،‬تعود لرتاودنا يف احلارض‪ ،‬عساها تفيد يف حلظة ثورية جديدة كالتي تشهدها‬
‫النخبة القانونية يف مرص اليوم‪ ،‬حلظة حتمل يف طياهتا واقعة رضب أخرى‪ ،‬لسنهوري آخر‪ ،‬ربام عىل‬
‫س ّلم جملس الدولة‪ ،‬أو دار القضاء‪ ،‬أو الدستورية العليا‪ ،‬وك ّلهم سواء‪.‬‬

‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ 29.‬آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬تظاهرات مل يشهد تاريخ الثورات احلديثة أعجب منها؛‬ ‫ظهرية يوم‬ ‫القاهرة‬
‫ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ‬ ‫ﺟﻤﻴﻊ‬‫شهدت‬
‫© ‪ 2024‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ‬
‫وعبد‬
‫ﺗﺼﺮﻳﺢ‬ ‫والثورة ﺩﻭﻥ‬ ‫اجليش‬
‫ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ(‬ ‫بحياةﺍﻟﺒﺮﻳﺪ‬ ‫طرقاهتا‪ ،‬تارة‬
‫ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ‬ ‫ﻭﺳﻴﻠﺔ يف‬
‫)ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ‬ ‫املدينةﺃﻱوهتتف‬ ‫ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭشوارع‬
‫ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ‬ ‫املواطنني لتغمر‬
‫من ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ‬ ‫جمموعات‬
‫ﻭﻳﻤﻨﻊ‬ ‫ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡخرجت‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ‬
‫ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫* مدرس القانون املدين‪ ،‬كلية احلقوق جامعة القاهرة‪ ،‬وأستاذ مساعد‪ ،‬قسم القانون‪ ،‬اجلامعة األمريكية بالقاهرة‪.‬‬
‫‪123‬‬

‫عمرو الشلقاني *‬
‫ﻟﻺﺳﺘﺸﻬﺎﺩ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻗﻢ ﺑﻨﺴﺦ ﺍﻟﺒﻴﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﺣﺴﺐ ﺇﺳﻠﻮﺏ ﺍﻹﺳﺘﺸﻬﺎﺩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ‪:‬‬

‫المحامين»‪:‬‬ ‫إعدام‬ ‫يريد‬ ‫«الشعب‬ ‫ﺇﺳﻠﻮﺏ ‪APA‬‬


‫ﺍﻟﺸﻠﻘﺎﻣﻲ‪ ،‬ﻋﻤﺮﻭ‪ .(2013) .‬ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻋﺪﺍﻡ ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﻴﻦ‪ :‬ﺍﻟﺴﻨﻬﻮﺭﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ‪1952‬‬
‫‪- 1954.‬ﻣﺠﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‪ ،‬ﻣﺞ ‪ ,1‬ﻉ ‪ .140 - 123 ،3‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ‬
‫السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬ ‫‪http://search.mandumah.com/Record/470791‬‬
‫ﺇﺳﻠﻮﺏ ‪MLA‬‬
‫ﺍﻟﺸﻠﻘﺎﻣﻲ‪ ،‬ﻋﻤﺮﻭ‪" .‬ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻋﺪﺍﻡ ﺍﻟﻤﺤﺎﻣﻴﻦ‪ :‬ﺍﻟﺴﻨﻬﻮﺭﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ‪- 1952‬‬
‫"‪1954.‬ﻣﺠﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔﻣﺞ ‪ ,1‬ﻉ ‪ .140 - 123 :(2013) 3‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ‬
‫ظهر السنهوري يف أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬بطلاً آثر الوقوف مع التيار الديمقراطي‪ ،‬فنادى مع‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/470791‬‬
‫اجلناح املؤيد للواء حممد نجيب بعودة اجليش إىل ثكناته‪ ،‬وإطالق حرية األحزاب السياسية‪ ،‬متهيدً ا‬
‫لعقد انتخابات نزهية يف ظل دستور جديد كان له الدور الكبري يف صوغ أحكامه‪ .‬ثم ظهر بعد‬
‫ذلك بأيام شهيد استخفاف العسكر بسيادة القانون‪ ،‬وعدائهم الستقالل القضاء‪ُ ،‬فيرضب القايض‬
‫الكبري عىل س ّلم حمكمته‪ ،‬ثم يشتد العداء بينه وبني عبد النارص ُفيعزل من منصبه القضائي‪ ،‬و ُيمنع‬
‫من السفر أعوا ًما جزاء التزامه بمبادئه القانونية الرصينة‪.‬‬
‫هذا الرسد التقليدي لقصة االعتداء عىل السنهوري نراه حمل اعرتاضات جوهرية‪ ،‬ملا يف ذلك الرسد‬
‫التقليدي من إغفال غري قليل للدور السيايس الذي أداه السنهوري قبل حلظة االعتداء عليه تلك‪،‬‬
‫وهو دور فيه من أوجه الود والتعاون مع القائمني عىل حركة انقالب اجليش ما يتعذر معه اعتبار‬
‫السنهوري جمرد ضحية طاهرة للعصف النارصي بسيادة القانون‪.‬‬
‫كيف لنا أن نفرس هذا التناقض الصارخ بني االعتداء عىل السنهوري يف ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪1954‬‬
‫جراء تأييده للتيار الديمقراطي بحسب فولكلورنا القانوين من جانب‪ ،‬ومواقف السنهوري‬ ‫ّ‬
‫السابقة عىل ذلك االعتداء الدرامي بكل ما انطوت عليه من تأييد ومباركة للتدابري الثورية‬
‫واخلارقة يف جمملها للرشعية الدستورية من جانب آخر؟‬
‫أمهية السؤال تكمن يف ما تشهده مرص اليوم وسط صدمة الشعب من عزوف نخبتنا القانونية عن‬
‫إقامة «العدل الثوري» احلق بعد ‪ 25‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ ،2011‬وذلك ألسباب نراها تارخيية‪،‬‬
‫باقية معنا بعد ستة عقود من انقالب اجليش‪ ،‬تاركة اجلميع يف توجس من أي تعامل ثوري مع نظام‬
‫مبارك وحاشيته‪ ،‬بينام نتابع أحكام الرباءة تصدر الواحد تلو اآلخر يف شأن كل من قامت ثورة ‪25‬‬
‫يناير يف وجه سلطانه‪.‬‬
‫هي هواجس املايض‪ ،‬تعود لرتاودنا يف احلارض‪ ،‬عساها تفيد يف حلظة ثورية جديدة كالتي تشهدها‬
‫النخبة القانونية يف مرص اليوم‪ ،‬حلظة حتمل يف طياهتا واقعة رضب أخرى‪ ،‬لسنهوري آخر‪ ،‬ربام عىل‬
‫س ّلم جملس الدولة‪ ،‬أو دار القضاء‪ ،‬أو الدستورية العليا‪ ،‬وك ّلهم سواء‪.‬‬

‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ 29.‬آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬تظاهرات مل يشهد تاريخ الثورات احلديثة أعجب منها؛‬ ‫ظهرية يوم‬ ‫القاهرة‬
‫ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ‬ ‫ﺟﻤﻴﻊ‬‫شهدت‬
‫© ‪ 2024‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ‬
‫وعبد‬
‫ﺗﺼﺮﻳﺢ‬ ‫والثورة ﺩﻭﻥ‬ ‫اجليش‬
‫ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ(‬ ‫بحياةﺍﻟﺒﺮﻳﺪ‬ ‫طرقاهتا‪ ،‬تارة‬
‫ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ‬ ‫ﻭﺳﻴﻠﺔ يف‬
‫)ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ‬ ‫املدينةﺃﻱوهتتف‬ ‫ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭشوارع‬
‫ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ‬ ‫املواطنني لتغمر‬
‫من ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ‬ ‫جمموعات‬
‫ﻭﻳﻤﻨﻊ‬ ‫ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡخرجت‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ‬
‫ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫* مدرس القانون املدين‪ ،‬كلية احلقوق جامعة القاهرة‪ ،‬وأستاذ مساعد‪ ،‬قسم القانون‪ ،‬اجلامعة األمريكية بالقاهرة‪.‬‬
‫‪123‬‬

‫عمرو الشلقاني *‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪:‬‬


‫السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫ظهر السنهوري يف أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬بطلاً آثر الوقوف مع التيار الديمقراطي‪ ،‬فنادى مع‬
‫اجلناح املؤيد للواء حممد نجيب بعودة اجليش إىل ثكناته‪ ،‬وإطالق حرية األحزاب السياسية‪ ،‬متهيدً ا‬
‫لعقد انتخابات نزهية يف ظل دستور جديد كان له الدور الكبري يف صوغ أحكامه‪ .‬ثم ظهر بعد‬
‫ذلك بأيام شهيد استخفاف العسكر بسيادة القانون‪ ،‬وعدائهم الستقالل القضاء‪ُ ،‬فيرضب القايض‬
‫الكبري عىل س ّلم حمكمته‪ ،‬ثم يشتد العداء بينه وبني عبد النارص ُفيعزل من منصبه القضائي‪ ،‬و ُيمنع‬
‫من السفر أعوا ًما جزاء التزامه بمبادئه القانونية الرصينة‪.‬‬
‫هذا الرسد التقليدي لقصة االعتداء عىل السنهوري نراه حمل اعرتاضات جوهرية‪ ،‬ملا يف ذلك الرسد‬
‫التقليدي من إغفال غري قليل للدور السيايس الذي أداه السنهوري قبل حلظة االعتداء عليه تلك‪،‬‬
‫وهو دور فيه من أوجه الود والتعاون مع القائمني عىل حركة انقالب اجليش ما يتعذر معه اعتبار‬
‫السنهوري جمرد ضحية طاهرة للعصف النارصي بسيادة القانون‪.‬‬
‫كيف لنا أن نفرس هذا التناقض الصارخ بني االعتداء عىل السنهوري يف ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪1954‬‬
‫جراء تأييده للتيار الديمقراطي بحسب فولكلورنا القانوين من جانب‪ ،‬ومواقف السنهوري‬ ‫ّ‬
‫السابقة عىل ذلك االعتداء الدرامي بكل ما انطوت عليه من تأييد ومباركة للتدابري الثورية‬
‫واخلارقة يف جمملها للرشعية الدستورية من جانب آخر؟‬
‫أمهية السؤال تكمن يف ما تشهده مرص اليوم وسط صدمة الشعب من عزوف نخبتنا القانونية عن‬
‫إقامة «العدل الثوري» احلق بعد ‪ 25‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ ،2011‬وذلك ألسباب نراها تارخيية‪،‬‬
‫باقية معنا بعد ستة عقود من انقالب اجليش‪ ،‬تاركة اجلميع يف توجس من أي تعامل ثوري مع نظام‬
‫مبارك وحاشيته‪ ،‬بينام نتابع أحكام الرباءة تصدر الواحد تلو اآلخر يف شأن كل من قامت ثورة ‪25‬‬
‫يناير يف وجه سلطانه‪.‬‬
‫هي هواجس املايض‪ ،‬تعود لرتاودنا يف احلارض‪ ،‬عساها تفيد يف حلظة ثورية جديدة كالتي تشهدها‬
‫النخبة القانونية يف مرص اليوم‪ ،‬حلظة حتمل يف طياهتا واقعة رضب أخرى‪ ،‬لسنهوري آخر‪ ،‬ربام عىل‬
‫س ّلم جملس الدولة‪ ،‬أو دار القضاء‪ ،‬أو الدستورية العليا‪ ،‬وك ّلهم سواء‪.‬‬

‫شهدت القاهرة ظهرية يوم ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬تظاهرات مل يشهد تاريخ الثورات احلديثة أعجب منها؛‬
‫إذ خرجت جمموعات من املواطنني لتغمر شوارع املدينة وهتتف يف طرقاهتا‪ ،‬تارة بحياة اجليش والثورة وعبد‬

‫* مدرس القانون املدين‪ ،‬كلية احلقوق جامعة القاهرة‪ ،‬وأستاذ مساعد‪ ،‬قسم القانون‪ ،‬اجلامعة األمريكية بالقاهرة‪.‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪124‬‬


‫النارص‪ ،‬وتارة أخرى بسقوط األحزاب والنقابات والرجعية‪ ،‬بل وبسقوط الدستور ومعه احلرية والديمقراطية‬
‫كذلك‪ .‬وما إن وصلت إحدى هذه املجموعات إىل مقر جملس الدولة يف اجليزة‪ ،‬حتى عال اهلتاف ليشمل‬
‫الدكتور عبد الرزاق باشا السنهوري‪ ،‬رئيس جملس الدولة حينئذ‪ ،‬الذي ما لبث املتظاهرون أن أخذوا ينعتونه‬
‫باجلاهل واخلائن‪ ،‬ويطالبون بسقوطه هو اآلخر‪.‬‬
‫توقفت املسرية خارج بوابة املجلس املغلقة بسالسل احلديد‪ ،‬فدخل أحد الضباط إىل مكتب السنهوري وطلب‬
‫منه اخلروج إىل حديقة املحكمة ملخاطبة املوجودين فيها والتهدئة من روعهم‪ .‬وحينئذ اقتحمت مجوع املتظاهرين‬
‫أخريا إىل‬
‫بالسب والرضب‪ .‬عندها فقط بدا أن السنهوري فطن ً‬ ‫ّ‬ ‫وانقض بعضهم عىل السنهوري‬ ‫ّ‬ ‫فناء املجلس‪،‬‬
‫أن األمر مل يكن «مظاهرة أخاطب فيها املتظاهرين –كام ا ّدعى الضابط– بل أمر اعتداء مبيت ع ّ‬
‫يل‪ ،‬وما لبث‬
‫دفعا إىل احلديقة وتواىل االعتداء»(‪.)1‬‬
‫املتظاهرون أن دفعوين ً‬
‫وجهت إليه تلقّاها أحد السعاة‬
‫يحُ كى أن املتظاهرين كادوا يفتكون بالسنهوري ذلك اليوم‪ ،‬لوال أن الرضبة التي ّ‬
‫يف جملس الدولة‪ .‬كام يحُ كى أن السنهوري مل يتمكن من مغادرة مكان االعتداء إلاّ بعد قدوم الصاغ صالح سامل‪،‬‬
‫الذي اصطحبه إىل اخلارج وهو مدثر بسجادة من مكاتب املجلس‪ ،‬وفق إحدى الروايات‪.‬‬
‫موج ًها‬
‫ثم كان اليوم التايل لالعتداء‪ ،‬فأدىل السنهوري بأقواله إىل النيابة العامة من عىل فراشه يف املستشفى‪ِّ ،‬‬
‫طالبا من زوجته عدم‬
‫االهتام رصاحة إىل الصاغ مجال عبد النارص بتدبري االعتداء عليه يوم ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس‪ ،‬ثم ً‬
‫السامح بدخول نارص عليه الغرفة عندما قدم األخري لزيارته واالطمئنان إليه يف املستشفى‪.‬‬
‫وتؤكد الوثائق املتاحة لنا صدق حدس السنهوري‪ ،‬فالتظاهرات كانت مأجورة‪ ،‬واملتظاهرون خرجوا من‬
‫هيئة التحرير اخلاضعة لسلطة الضباط األحرار‪ ،‬وبأمر من رئيس البوليس احلريب –أو الرشطة العسكرية كام‬
‫تُعرف اليوم– وذلك وفق خطة كان األستاذ أمحد محروش عقلها املد ِّبر‪ ،‬بالتعاون مع زميليه يف التنظيم إبراهيم‬
‫الطحاوي وأمحد طعيمة( ‪.)2‬‬
‫تلك‪ ،‬باختصار‪ ،‬هي اخلطوط العريضة ملا أصبح ُيط َلق عليه بالعامية «قصة رضب السنهوري باجلزمة عىل س ّلم‬
‫جملس الدولة»‪ .‬وهي قصة تعرفها نخبتنا القانونية جيدً ا‪ ،‬وتُكثر اإلشارة إليها يف معرض وصالت النحيب املألوفة‬
‫عماّ كانت عليه تلك النخبة من ازدهار قبل انقالب اجليش عام ‪ ،1952‬ثم ما آلت إليه بعده من اهنيار يف املقدرات‪،‬‬
‫أصاب جهاز العدالة بأرسه‪ ،‬من قضاء وحماماة وكليات حقوق‪ ،‬خالل العقود الستة املنرصمة من «نظام يوليو»‪ ،‬مثلام‬
‫أصاب معها التزام الدولة بمبادئ سيادة القانون واستقالل القضاء يف ظل عهود نارص ومن ورائه السادات ومبارك‪.‬‬
‫يطل علينا السنهوري يف الرسد السالف للقصة بطلاً آثر الوقوف مع التيار الديمقراطي خالل أزمة آذار‪ /‬مارس‬
‫‪ ،1954‬فنادى مع اجلناح املؤيد للواء حممد نجيب بعودة اجليش إىل ثكناته‪ ،‬وإطالق حرية األحزاب السياسية‪،‬‬
‫متهيدً ا لعقد انتخابات نزهية يف ظل دستور جديد كان للسنهوري الدور الكبري يف صوغ أحكامه‪.‬‬
‫ثم يأيت بعد ذلك مشهد السنهوري شهيدً ا عىل استخفاف العسكر بسيادة القانون‪ ،‬وعدائهم الستقالل القضاء‪،‬‬
‫ُفيرضب القايض الكبري عىل سلم حمكمته‪ ،‬ثم يشتد العداء بينه وبني عبد النارص‪ُ ،‬فيعزل من منصبة القضائي‪،‬‬
‫وسموه عن‬
‫ّ‬ ‫و ُيمنع من السفر أعوا ًما جزاء التزامه بمبادئه القانونية وإيثاره ع ّفة القايض عىل العقيدة السياسية‬
‫مر احلكومات املتعاقبة‪.‬‬
‫نزواهتا املتقلبة‪ ،‬وبالطبع رفضه لكل حتالف‪ ،‬ولو تكتيكي‪ ،‬مع من يف يده السلطة عىل ّ‬
‫‪ 1‬عبد الرزاق السنهوري من خالل أوراقه الشخصية‪ ،‬إعداد نادية السنهوري وتوفيق الشاوي (القاهرة‪ :‬الزهراء لإلعالم العريب‪،‬‬
‫‪ ،)1988‬ص ‪.284‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.284-283‬‬
‫‪125‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫هذا الرسد التقليدي لقصة االعتداء عىل السنهوري نراه حمل اعرتاضات جوهرية‪ ،‬ال متت بصلة إىل مكانة الرجل‬
‫الفكرية كواحد من أنبغ فقهاء القانون يف تارخينا احلديث‪ ،‬بل ربام أنبغهم عىل اإلطالق‪ .‬إنام يكمن االعرتاض يف‬
‫ما ينطوي عليه ذلك الرسد التقليدي‪ ،‬بنرباته البطولية‪ ،‬من إغفال غري قليل للدور السيايس الذي أداه السنهوري‬
‫قبل حلظة االعتداء عليه تلك‪ ،‬وهو دور فيه من أوجه الود والتعاون مع القائمني عىل حركة انقالب اجليش ما‬
‫يتعذر معه اعتبار السنهوري جمرد ضحية طاهرة للعصف النارصي بسيادة القانون‪ .‬فالرجل الذي ضرُ ب عىل‬
‫س ّلم جملس الدولة يف ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬وكان بذلك ضحية شديدة الدرامية لرفض «العسكر» تب ّني‬
‫أيضا الرجل نفسه الذي‬‫دستور ديمقراطي جديد وعقد انتخابات نزهية خيتار فيها الشعب ممثّليه بالربملان‪ ،‬هو ً‬
‫جلس عىل منصتة القضائية يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬بعد أسبوع واحد من قيام اجليش بانقالبه العسكري‪،‬‬
‫فأفتى بام نراه يأيت عىل أحكام دستور ‪ 1923‬ويتعارض مع أبسط قواعد املنطق القانوين السليم‪.‬‬
‫ثم أمىض السنهوري بعد ذلك اجلانب األكرب من تلك املرحلة احلرجة ما بني انقالب اجليش واشتعال أزمة آذار‪/‬‬
‫مارس ‪ 1954‬وهو يمد الضباط األحرار‪ ،‬وعىل رأسهم نارص‪ ،‬بمختلف صور العون القانوين يف مرشوع «تطهري»‬
‫احلياة السياسية عىل نحو ما سنتناول بالتفصيل‪ .‬فقد ساهم يف صوغ بعض القوانني احلساسة للنظام العسكري‬
‫احلاكم يف تلك املرحلة‪ ،‬وأفتى من قسم الرأي يف جملس الدولة بتحصني هذه القوانني من الطعن عليها بالعيب‬
‫أو العوار‪ ،‬كام صدرت يف ظل رئاسته للمجلس ً‬
‫أيضا جمموعة مهمة من األحكام القضائية املؤيدة لتلك القوانني‪.‬‬
‫أدل عىل مقدار ما وصلت إليه أوجه الود والتعاون بني جملس الدولة والقائمني عىل انقالب اجليش حتى‬ ‫وليس ّ‬
‫آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬من أننا نجد سليامن بك حافظ يف مذكراته‪ ،‬وهو زميل السنهوري يف إدارة دفة التعاون‬
‫القانوين‪/‬العسكري هذا‪ ،‬قد ذهب يف تفسريه لواقعة االعتداء إىل استبعاد ضلوع جبهة عبد النارص فيها «النعدام‬
‫الباعث من جهتهم‪ ،‬إذ كانوا يعلمون أن السنهوري مل ينحز إىل جانب أي من الفريقني يف اخلالف الواقع بينهام‪،‬‬
‫بل لعله كان يف املرحلة األخرية منه أكثر لو ًما لنجيب منه لصحبه»(‪.)3‬‬
‫ولعل مطالعة غالف جملة روز اليوسف يف عددها الصادر قبل أسبوع من وقوع االعتداء عىل السنهوري أن‬
‫تكون أفضل متثيل للحال الذي بلغه هذا الود والتعاون بني نخبة القانونيني والضباط األحرار‪ ،‬إذ نجد عىل‬
‫تأبط ذراعيه نارص ونجيب من كل ناحية‪ ،‬بينام‬
‫كاريكاترييا لدستور البالد اجلديد املرتقب‪ ،‬وقد ّ‬
‫ًّ‬ ‫الغالف رسماً‬
‫يقوم صالح سامل عىل زفّه كالعروس بالورد من األمام‪ ،‬بينام السنهوري يف اخللف حيتفي باملوكب الدستوري‬
‫أيضا عن طريق دق الصاجات‪ ،‬وسليامن حافظ إىل جانبه يف مشهد مقارب حلركات األراجوزات يف املوالد‪،‬‬ ‫ً‬
‫احتفالاً هو اآلخر بقرب صدور الدستور املأمول‪.‬‬
‫جراء تأييده للتيار‬
‫كيف لنا أن نفرس هذا التناقض الصارخ بني االعتداء عىل السنهوري يف ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪ّ 1954‬‬
‫الديمقراطي حسب فولكلورنا القانوين من جانب‪ ،‬ومواقف السنهوري السابقة عىل ذلك االعتداء الدرامي من‬
‫جانب آخر‪ ،‬بكل ما انطوت عليه من تأييد ومباركة للتدابري الثورية واخلارقة يف جمملها للرشعية الدستورية؟‬
‫قبل هذا وذاك‪ ،‬ملاذا العودة من األصل إىل استذكار قصة رضب السنهوري عىل س ّلم جملس الدولة؟ هل من‬
‫فائدة ترجى لتلك الذكرى؟ َأوليس من األجدى عدم فتح دفاتر املايض من جديد‪ ،‬واالنتباه إىل ما حييق بحارضنا‬
‫القانوين من مشكالت ومرص تسترشف مستقبلها الدستوري يف أعقاب ثورة ‪ 25‬يناير؟‬
‫الرأي لدينا أن الثورة‪ ،‬أي ثورة‪ ،‬أينام تكن‪ ،‬أو كيفام تَقُ ْم‪ ،‬هي دو ًما عند أهل القانون جريمة‪ ،‬وعند أهل الثوار‬
‫عدل وقصاص‪ .‬كانت تلك معضلة السنهوري يف األعوام الفارقة بني انقالب اجليش عام ‪ 1952‬واشتعال أزمة‬

‫‪ 3‬سليامن حافظ‪ ،‬ذكريايت عن الثورة (القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،)2010 ،‬ص ‪.129‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪126‬‬


‫آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬وكذلك احلال اليوم بعد عامني من قيام ثورة ‪ 25‬يناير‪ ،‬وشعب مرص مصدوم من عزوف‬
‫نخبتنا القانونية عن إقامة «العدل الثوري» من بعدها‪ ،‬وذلك ألسباب نراها تارخيية‪ ،‬باقية معنا بعد ستة عقود من‬
‫انقالب اجليش‪ ،‬تاركة اجلميع يف حال توجس من أي تعامل ثوري مع نظام مبارك وحاشيته‪ ،‬بينام نتابع أحكام‬
‫الرباءة تصدر الواحد تلو اآلخر يف شأن كل من قامت ثورة ‪ 25‬يناير يف وجه سلطانه‪.‬‬
‫هي هواجس املايض‪ ،‬تعود لرتاودنا يف احلارض‪ ،‬عساها تفيد يف حلظة ثورية جديدة كالتي تشهدها النخبة القانونية‬
‫يف مرص اليوم‪ ،‬حلظة حتمل يف طياهتا واقعة رضب أخرى‪ ،‬لسنهوري آخر‪ ،‬ربام عىل س ّلم جملس الدولة‪ ،‬أو دار‬
‫القضاء‪ ،‬أو الدستورية العليا‪ ،‬وكلهم سواء‪.‬‬

‫وبعد أسبوع من “الحركة المباركة”‬


‫بدأ «نظام يوليو» أسبوعه األول يف احلكم بأزمة دستورية‪ ،‬صدر بشأهنا فتوى من جملس الدولة يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو‬
‫‪ ،1952‬قيل حينها «إن الطرفني املدين والعسكري التزما مسبقًا بالنزول عىل هذه الفتوى الدستورية أ ًيا كان حمتواها»(‪.)4‬‬
‫واحلق أن هذه الفتوى كانت أول قطرة لغيث من التدابري «الثورية»‪ ،‬اخلارقة يف جمملها ملبادئ سيادة القانون‬
‫واستقالل القضاء خالل فرتة ما بني انقالب اجليش وأزمة آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬كمحاكم «الغدر» و«الشعب»‪،‬‬
‫وحل األحزاب والنقابات‪ ،‬وحتصني قرارات العسكر إزاء رقابة جملس الدولة عليها‪ ،‬وكل ذلك بمباركة كبار‬
‫قضاة جملس الدولة نفسه‪ ،‬وفقهاء القانون بكليات احلقوق من ورائهم‪.‬‬
‫كان امللك فاروق قد تنازل عن العرش البنه الرضيع أمحد فؤاد الثاين يف ‪ 26‬متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬وذلك بعد‬
‫ثالثة أيام فقط من انقالب اجليش‪ ،‬فثار التساؤل حول تشكيل جملس الوصاية عىل العرش ليحكم باسم املليك‬
‫القارص‪ ،‬ومدى وجوب حلف هذا املجلس اليمني أمام الربملان قبل تو ّليه السلطة‪.‬‬
‫وكان دستور ‪ 1923‬هو احلاكم حلظتها‪ ،‬وكانت مواده متسقة إىل حد بعيد مع مبادئ احلكم الديمقراطي يف‬
‫فنصت رصاحة عىل أن «مجيع السلطات مصدرها األمة»‪ ،‬واشرتطت املادة (‪ )50‬منه‬ ‫الدولة املدنية احلديثة‪ّ ،‬‬
‫وجوب حلف امللك اليمني أمام الربملان قبل تو ّليه احلكم‪ ،‬كام اشرتطت املادة (‪ )51‬منه أن حيلف األوصياء عىل‬
‫قارصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫العرش اليمني ذاهتا قبل تو ّليهم احلكم باسم امللك إذا كان‬
‫وقد روعيت تلك املواد عند وفاة امللك فؤاد عام ‪ ،1936‬وانتقال احلكم إىل ويل عهده األمري فاروق‪ ،‬الذي مل‬
‫جملسا للوصاية عىل العرش‪ ،‬وقام أعضائه‬‫فشكل الربملان حينئذ ً‬ ‫يكن قد جتاوز بعدُ السابعة عرشة من العمر‪ّ ،‬‬
‫بحلف اليمني أمام الربملان‪ ،‬إىل أن أتم فاروق الثامنة عرشة بالتقويم اهلجري‪ ،‬فذهب بدوره إىل مقر الربملان يف‬
‫‪ 29‬متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1937‬ووقف أمام األغلبية الوفدية فيه ليتلو اليمني الذي نصه‪« :‬أحلف باهلل العظيم أن أحرتم‬
‫(‪)5‬‬
‫الدستور وقوانني األمة املرصية وأحافظ عىل استقالل الوطن وسالمة أراضيه»‪.‬‬
‫ومن العجيب أن مواد دستور ‪ ،1923‬بروحها املدنية احلديثة تلك‪ ،‬جاءت ً‬
‫أيضا متسقة متا ًما مع واقع احلكم يف‬
‫مرص حلظتها‪ ،‬حيث ال يتصور عاقل نزوح من يف يده السلطة عنها إلاّ بموته نتيجة مرض فتاك‪ ،‬أو فنائه لسبب‬
‫أعنف يف مقدرات السياسة‪ .‬ومن ثم يبدو أن واضعي الدستور آثروا االقتصاد يف مداد أقالمهم‪ ،‬واكتفوا يف‬
‫صوغ املادة (‪ )52‬منه بتنظيم مسائل انتقال احلكم لوفاة امللك من دون التعرض لغريها من احتامالت خلو‬

‫‪ 4‬وحيد رأفت‪ ،‬فصول من ثورة ‪ 23‬يوليو (القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،)1978 ،‬ص ‪.121- 120‬‬
‫‪ 5‬راجع يف كل ما سبق‪ :‬عبد الرمحن الرافعي‪ ،‬يف أعقاب الثورة املرصية‪ :‬ثورة ‪ 3 ،1919‬ج (القاهرة‪ :‬دار املعارف‪،)1989-1987 ،‬‬
‫ج ‪ ،3‬ص ‪ 18- 17‬و‪.49-47‬‬
‫‪127‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫العرش ألي سبب آخر‪ ،‬كأن يتنازل امللك عنه مثلاً ملرض يعيقه عن االضطالع بمهامه‪ ،‬أو أن يتم عزل امللك‬
‫عن العرش بثورة الشعب عليه‪ ،‬ثم يبقى يف قيد احلياة‪.‬‬
‫وإزاء هذا الغموض يف مواد الدستور‪ ،‬أخذت الترصحيات تتضارب بشأن جملس الوصاية عىل عرش األمري أمحد‬
‫فؤاد‪ ،‬فنجد عيل باشا ماهر‪ ،‬رئيس الوزراء حينئذ‪ ،‬تارة يقول بوجوب أن حيلف األوصياء اليمني أمام الربملان‬
‫ويدعي أن املادة (‪)52‬‬ ‫قبل تو ّليهم سلطات احلكم وفقًا للامدة (‪ )52‬من الدستور‪ ،‬وتارة أخرى ينفي ذلك ّ‬
‫تقترص فقط عىل حالة وفاة امللك من دون تنازله عن العرش(‪.)6‬‬
‫جمر ًدا من أي أثر سيايس‪،‬‬ ‫وحتى ال يتصور القارئ أن هذا اخلالف يف تفسري دستور ‪ 1923‬كان خال ًفا ً‬
‫فقهيا ّ‬
‫ينبغي لنا التذكري بأن وزارة اهلاليل باشا كانت قد أمرت بحل جملس النواب عقب وقوع حريق القاهرة يف‬
‫كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ ،1952‬ثم تال ذلك وقف جلسات جملس الشيوخ‪ ،‬فكانت احلياة النيابية َّ‬
‫معطلة متا ًما عند‬
‫قيام «حركة اجليش» يف ‪ 23‬متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬وبالتايل كان من شأن اإلرصار عىل أداء األوصياء اليمني أمام‬
‫الربملان أن ُيدعى املجلس النيايب إىل االنعقاد‪ ،‬ومن ثم عودة األغلبية الوفدية إىل مقاعدها‪ ،‬وهو أمر مل يكن عىل‬
‫هوى حكام مرص اجلدد من العسكر‪ ،‬وال عىل هوى ساسة البلد من املناوئني حلزب الوفد‪.‬‬
‫إزاء هذا التباين يف تفسري املادة (‪ )52‬من الدستور‪ ،‬اتفق عيل ماهر مع الضباط األحرار برئاسة اللواء حممد‬
‫نجيب بك عىل استطالع وجهة نظر قسم الرأي يف جملس الدولة يف هذا الشأن‪ ،‬وقيل حينئذ «إن الطرفني املدين‬
‫والعسكري التزما مسبقًا بالنزول عىل هذه الفتوى الدستورية أ ًيا كان حمتواها»(‪.)7‬‬
‫وعىل ذلك‪ ،‬انعقد قسم الرأي يف جملس الدولة يف الساعة احلادية عرشة من صباح يوم ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪،1952‬‬
‫بغرض اإلجابة عن طلب الفتوى املقدم من رئيس الوزراء‪ ،‬ونصه «هل جيوز دعوة الربملان املنحل لالنعقاد‬
‫لفض مظروف الوصاية [عىل العرش] وليحلف األوصياء أمامه باليمني الدستورية وذلك تطبيقًا للامدة ‪ 52‬من‬
‫وتوجه إىل ذلك االجتامع الطارئ مجيع مستشاري قسم الرأي يف املجلس‪ ،‬بمن فيهم األستاذ سليامن‬
‫ّ‬ ‫الدستور؟»(‪.)8‬‬
‫حافظ بك وكيل املجلس لقسمي الرأي والترشيع(‪ .)9‬كام فوجئ احلضور بقدوم رئيس جملس الدولة الدكتور عبد‬
‫الرزاق السنهوري باشا لريأس االجتامع بنفسه‪ ،‬وذلك عىل غري العادة‪ ،‬حيث كان سليامن حافظ هو الذى يرتأس‬
‫تلك االجتامعات يف الظروف العادية‪ .‬وقد كان يف قدوم السنهوري إىل مقر رئاسة قسم الرأي يف شارع الفلكي‪،‬‬
‫ورئاسته لذلك االجتامع الطارئ‪ ،‬ثم خروج سليامن حافظ من االجتامع ملقابلة رئيس الوزراء عيل ماهر باشا‬
‫والتشاور معه عىل ما يبدو‪ ،‬ثم عودته بعد ذلك للمشاركة يف االجتامع ثانية‪ ،‬كان يف كل ذلك ما يدعو إىل الشعور‬
‫باألمهية االستثنائية للموضوع املطروح ألخذ رأي املجلس فيه‪ ،‬وبمقدار فداحة األثر السيايس هلذا الرأي(‪.)10‬‬
‫ويشري حمرض االجتامع إىل انقسام الرأي يف تفسري املادة ‪ 52‬بني وجهتني‪ ،‬األوىل تب ّناها الدكتور وحيد رأفت دون‬
‫وملخص الرأي األول‬
‫ّ‬ ‫غريه من احلضور‪ ،‬والثانية ا ّدعاها سائر قسم الرأي‪ ،‬ويف مقدمته السنهوري وسليامن حافظ‪.‬‬
‫أن األصل يف الدستور هو أن حيلف امللك وجملس األوصياء اليمني أمام الربملان قبل توليّ أي منهام سلطات احلكم‪،‬‬

‫‪ 6‬وهذا ما يبدو من مطالعة املذكرات الشخصية للدكتور وحيد رأفت بك‪ ،‬والذى كان يشغل حينئذ وظيفة رئيس ادارة الرأي بمجلس‬
‫الدولة لوزاريت اخلارجية والعدل‪ ،‬انظر‪ :‬رأفت‪ ،‬ص ‪.121- 120‬‬
‫‪ 7‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.121- 120‬‬
‫‪ 8‬املختار من فتاوى اجلمعية العمومية لقسمي الفتوى والترشيع يف مخسني عام ًا‪ ،‬تقديم طارق البرشي (القاهرة‪ :‬جملس الدولة‪،)1997 ،‬‬
‫ص ‪ .46-39‬انظر يف النص الكامل ملحرض اجللسة‪ ،‬ملحق الكتاب رقم (‪.)11‬‬
‫وهم األساتذة أبو العينني سامل وعبده حمرم وعمر لطفي وحامد عبد الكريم وعبد العزيز خري الدين وعبد الرمحن نصري‪ ،‬فضلاً عن‬‫‪ُ 9‬‬
‫الدكتور وحيد رأفت كام أرشنا سابقًا‪ ،‬انظر‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ 10‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ 40‬و‪ ،42‬وحافظ‪ ،‬ص ‪.56 - 51‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪128‬‬


‫وأن سكوت املادة (‪ )52‬عن تناول حالة التنازل عن العرش ال ينفي هذا األصل‪ ،‬وال يعني اقتصار حكم املادة عىل‬
‫أيضا بنزول امللك فاروق عنه‪،‬‬‫حالة وفاة امللك دون غريها‪ ،‬بل جيب أن يقاس عىل خلو العرش لوفاة امللك خلوه ً‬
‫ومن ثم جيب إعامل املبدأ األصيل يف الدستور ودعوة الربملان املنحل لالنعقاد يف جلسة تأدية األوصياء اليمني‪.‬‬
‫ّأما الوجهة الثانية التي انتهى إليها املجلس برئاسة السنهوري‪ ،‬فكان مفادها «أن املادة ‪ 52‬من الدستور مقصورة‬
‫عىل حالة الوفاة‪ ،‬أما حالة النزول عن العرش فإن الدستور مل يواجهها وال يمكن دعوة جملس النواب املنحل إىل‬
‫العمل يف هذه احلالة»(‪ .)11‬واتسا ًقا مع رأي األغلبية هذا‪ ،‬عكف السنهوري وحافظ يف ختام اجللسة عىل صوغ‬
‫مادة جديدة تضاف إىل نصوص األمر امللكي لعام ‪ 1922‬واخلاص بتنظيم الوالية عىل العرش‪ ،‬وذلك «بغية‬
‫إنشاء نظام للوصاية املؤقتة»(‪.)12‬‬
‫وما بني وجهتي النظر هاتني‪ ،‬ال نجد أي صعوبة يف ترجيح رأى الدكتور وحيد رأفت عىل أنه األقرب إىل املنطق‬
‫القانوين السليم(‪ ،)13‬بينام ال يسعنا فهم رأي األغلبية يف هذا االجتامع‪ ،‬وىف مقدمتها السنهوري باشا‪ ،‬سوى‬
‫بتحميل رأهيم هذا عىل أثره السيايس البالغ؛ فالقول مع وحيد رأفت بتطبيق املادة (‪ )52‬من الدستور بعد تنازل‬
‫امللك فاروق عن العرش كان يستتبعه تفعيل الربملان بدعوة األغلبية الوفدية فيه إىل االنعقاد‪ ،‬وما من شك يف أن‬
‫ختوف من القائمني عىل احلكم حينئذ‪ ،‬سواء يف الوزارة املدنية لعيل ماهر أو يف صفوف‬ ‫مثل هذا اإلجراء كان حمل ّ‬
‫العسكر من الضباط األحرار‪ ،‬ففساد احلياة السياسية خالل األعوام السابقة حلركة اجليش كان أحد االسباب‬
‫أيضا أن يف دعوة جملس‬ ‫الرئيسة التي سيقت إلضفاء طابع الرضورة عىل االنقالب العسكري‪ ،‬ومن الواضح ً‬
‫النواب إىل سامع يمني األوصياء عىل العرش خماطرة بعودة حزب الوفد إىل تق ّلد وظائف السلطة الترشيعية‬
‫باعتباره حزب األغلبية يف الربملان‪ ،‬وهو ما قد يؤدي بدوره إىل تقويض حركة اجليش‪ ،‬بل وإدماغ موقفهم‬
‫القانوين باخلروج عىل الدستور‪.‬‬
‫مد جملس الدولة برئاسة السنهوري باشا يد العون الثمينة إىل الضباط األحرار بعد أسبوع واحد من‬ ‫هكذا‪ ،‬إ ًذا‪ّ ،‬‬
‫االنقالب العسكري‪ ،‬فاستحدث فكرة «جملس الوصاية املؤقت» ثم صاغها باملادة (‪ )11‬أعاله يف قانون الوالية‬
‫عىل العرش‪ ،‬وبذلك متكنت حكومة عيل ماهر من تفادي الصدام مع األغلبية الوفدية يف جملس النواب وضمنت‬
‫يف الوقت ذاته غطاء ال يستهان به من املرشوعية الدستورية يف أداء األوصياء اليمني أمام الوزارة‪ ،‬ومن خلفها‬
‫حكام البلد الفعليني من الضباط األحرار يف اجليش‪.‬‬

‫السنهوري و«الفقه الثوري»‬


‫صدرت البيانات األوىل للقائمني عىل انقالب اجليش دونام استخدام لكلمه «الثورة» يف وصفهم لوقائع ليلة‬
‫‪ 23‬متوز‪ /‬يوليو ‪ .1952‬وبقيت احلال كذلك ملا يقارب السته أشهر من وقوع االنقالب‪ ،‬فأشاروا إىل أنفسهم‬
‫أولاً بمصطلح «القيادة العامة» ثم «الضباط األحرار»‪ ،‬وأخذت الصحف تشري إىل «حركة اجليش» ثم «احلركة‬
‫املباركة»‪ .‬ومل يظهر مصطلح «ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ »1952‬يف اخلطاب العام للصحافة أو يف بيانات الضباط االحرار‬
‫حتى مشارف عام ‪.1953‬‬
‫‪ 11‬املختار من فتاوى اجلمعية العمومية‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪ 12‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ .46‬يف تفاصيل اجللسة ودور السنهوري وحافظ يف صوغ هذه املادة‪ ،‬انظر‪ :‬رأفت‪ ،‬ص ‪ ،23-121‬وحافظ‪،‬‬
‫ص ‪.56-51‬‬
‫‪ 13‬راجع يف الرأي نفسه‪ :‬عادل أمني‪ ،‬احلياة الدستورية يف مرص‪( 1994-1952 ،‬القاهرة‪ :‬سينا للنرش‪ ،)1995 ،‬ص ‪ ،17-15‬ويرى‬
‫أمني أن املرسوم بقانون الذي صدر ً‬
‫تنفيذا هلذه الفتوى «كان حماولة شاذة للتوفيق بني أمور متعارضة‪ ،‬فهو خيالف القواعد الدستورية كام‬
‫واضحا حلق الناخبني املرصيني ملامرسة سلطاهتم عن طريق نواهبم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫انتهاكا‬ ‫خيالف اإلدراك السليم لألمور‪ ،‬وذلك باإلضافة إىل أنه ُيعترب‬
‫الرشعيني املنتخبني»‪ ،‬املصدر املذكور‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪129‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫وش ّتان ما بني لفظي «الثورة» و«االنقالب» يف الداللة واملعنى‪ ،‬وليس أعلم من رجال القانون بقيمة هذا‬
‫االختالف بينهام‪ ،‬وما يستتبع كلاًّ منهام من أثر فقهي متباين جدً ا يف املنظومة القانونية للبالد‪.‬‬
‫من هنا نجد الف ًتا للنظر أنه يف يوم انعقاد قسم الرأي يف جملس الدولة للنظر يف طلب الفتوى السالف الذكر‪،‬‬
‫نرشت جريدة األهرام أوىل مقاالت الدكتور سيد صربي يف سلسلته عن «الفقه الثوري»‪ ،‬التي دافع فيها عن‬
‫النظرية الدستورية القائلة بسقوط الدساتري القائمة بعد الثورات واالنقالبات‪ ،‬وذهب فيها إىل أن ما حدث يف‬
‫يومي ‪ 23‬و‪ 26‬متوز‪ /‬يوليو ‪ 1952‬ما هو إلاّ «ثورة» أطاح فيها اجليش نظام احلكم القديم‪ ،‬ومل يتبق سوى إعالن‬
‫قادة هذه الثورة لسقوط دستور ‪ ،1923‬إثباتًا بذلك لواقع احلال‪ ،‬ودونام احلاجة إىل أي إجراءات أخرى(‪.)14‬‬
‫ويبدو أن املقال هذا قد لقي اهتام ًما يف أوساط اجليش‪ ،‬ولدى القائمني عىل حركة ‪ 23‬يوليو خاصة‪ .‬وكاتبه‪،‬‬
‫الدكتور سيد صربي‪ ،‬هو أستاذ القانون الدستوري يف كلية احلقوق‪ -‬جامعة فؤاد األول‪ ،‬أو جامعة القاهرة يف ما‬
‫أيضا يف آراء بعض مستشاري جملس‬ ‫بعد‪ .‬ونجد أن نظرية الدكتور صربي هذه يف «الفقه الثوري» كان هلا صدى ً‬
‫الدولة ّممن حرضوا اجتامع قسم الرأي يف يوم نرش هذا املقال‪ ،‬فذهب األستاذ عبده حمرم مثلاً إىل أن البالد دخلت‬
‫بعد انقالب اجليش يف «حالة الرضورة»‪ ،‬بكل ما يستتبعها من السامح بإجراءات القانون االستثنائية‪ ،‬بينام قال‬
‫األستاذ عبد الرمحن نصري‪ ،‬يف سياق معارضته دعوة الربملان إىل االنعقاد‪ ،‬إنه «حتى لو س ّلمنا بانطباق حالة الوفاة‬
‫معطلة وأمام ثورة داخلية‪ ،‬وال يمكن‬ ‫عىل حالة النزول‪ ،‬فإننا لسنا أمام جملس نواب منحل وإنام أمام حياة نيابية َّ‬
‫القول بعودة هذا املجلس املنحل للعمل»(‪.)15‬‬
‫ولعل رأي األستاذ أبو العينني سامل يف هذا الشأن‪ ،‬وعىل نحو ما ورد يف حمرض االجتامع‪ ،‬كان هو أكثر آراء‬ ‫َّ‬
‫طبقنا حكم الدستور‪ ،‬فإن احلل‬ ‫تأثرا بنظرية الفقه الثوري تلك‪ ،‬إذ ذهب إىل أنه «إذا ّ‬ ‫مستشاري جملس الدولة ً‬
‫الذى قال به الدكتور وحيد رأفت يكون هو احلل الصحيح‪ ،‬ولكن األمر هنا أمر ثورة قامت إلصالح شئون هذه‬
‫البلد التي ساءت‪ ،‬فيجب يف هذه احلالة النظر إىل االعتبارات التى قامت هبا هذه الثورة وعدم التقيد بنصوص‬
‫حرفيا إلاّ ما استطعنا أن نصل إىل األهداف التي قامت عليها هذه احلركة املباركة‪ .‬وإذا كان القائمون‬ ‫ً‬ ‫الدستور‬
‫عىل هذا احلركة قد أعلنوا احرتامهم ألحكام الدستور فإهنم يقصدون بذلك األحكام الدستورية الصاحلة‬
‫واحلياة النيابية السليمة‪ ،‬وأرى أنه ال يمكن دعوة الربملان املنحل لالنعقاد»(‪.)16‬‬
‫وكام رأينا‪ ،‬فقد انتهت فتوى املجلس بالفعل إىل عدم احلاجة إىل دعوة الربملان إىل االنعقاد‪ ،‬لكن صائغيها مل‬
‫يستندوا يف هذا إىل نظرية الفقه الثوري‪ ،‬واكتفوا بتسبيب رأهيم عىل أساس قصور أحكام دستور ‪ 1923‬عن‬
‫تناول حالة النزول عن العرش رصاحة‪ .‬ولعله كان أفضل ملستشاري املجلس أن يسندوا فتواهم تلك إىل رأي‬
‫عمليا عن أثر‬
‫ً‬ ‫الفقه الثوري رصاحة‪ ،‬بدلاً من ذلك التفسري املعيب يف مواد الدستور‪ ،‬وهو التفسري الذى متخض‬
‫القول ذاته بسقوط الدستور متا ًما‪.‬‬
‫امتد اجتامع قسم الرأي يف جملس الدولة ما يقارب الست ساعات‪ ،‬وأخذت هلجة النقاش فيه تزداد حدة‬
‫بمرور الوقت‪ ،‬إىل أن انتهت اجللسة بمداخلة أخرية للدكتور وحيد رأفت أثبتها أمني الرس يف املحرض الرسمي‬
‫لالجتامع‪ ،‬وسجل فيها تأكيد رأفت رصاحة بأنه «ال يمكن أن يوافق» عىل رأي السنهوري وحافظ‪ ،‬م ّتهماً تفسري‬
‫األغلبية للامدة (‪ )52‬بأنه «خمالفة خطرية ألحكام الدستور بل تعديل ألحكامه»(‪.)17‬‬
‫‪ 14‬سيد صربى‪« ،‬الفقه الثوري‪ »،‬األهرام‪ ،1952/8/24 ،1952/7/31 :‬و‪ 5‬و‪ ،1952/9/13‬وقد قام الدكتور وحيد رأفت بالرد‬
‫عىل هذه املقاالت بأخرى معارضة هلا يف اجلريدة ذاهتا‪ ،‬ومشار إليها باملرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 15‬انظر حمرض اجللسة‪ ،‬يف‪ :‬املختار من فتاوى اجلمعية العمومية‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ 16‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪ 17‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪130‬‬


‫وإذا أخذنا بصحة هذا الرأي‪ ،‬كام نرى‪ ،‬وقلنا إن الفتوى الصادرة يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪ 1952‬ما كان جيب هلا أن‬
‫تصدر بتأييد السنهوري‪ ،‬وهو القايض اجلالس عىل منصة احلكم يف جملس الدولة واملسؤول عن صون استقالل‬
‫ينصب‬
‫ّ‬ ‫القضاء من كل نزعة سياسية‪ ،‬إذا اخذنا بصحة هذا الرأي‪ ،‬فإن التساؤل التايل الذي علينا طرحه جيب أن‬
‫عىل كيفية تفسري ذلك الترصف من السنهوري وهو الفقيه الغيور عىل سيادة القانون يف كتاباته‪.‬‬
‫كيف ساند أكرب مفكري القانون يف مرص‪ ،‬بل يف العامل العريب‪ ،‬ذلك التأويل املريب يف مواد الدستور املرصي‪،‬‬
‫وملاذا سمح بصدور فتوى قانونية حتمل اسمه وتأيت إىل أهم مبادئ الليربالية القانونية؟‬
‫شائكا ال مفر من جماهبته؛ سؤال مناطه تأييد السنهوري ألن يتولىّ حكم هذا‬ ‫ً‬ ‫باختصار‪ ،‬علينا أن نواجه سؤالاً‬
‫البلد جملس للوصاية عىل العرش ال حيلف اليمني أمام نواب الشعب املنتخبني منه يف الربملان كام يتطلب التفسري‬
‫الدستورى السليم‪ ،‬وإنام حيلف اليمني أمام جملس للوزراء يعلم اجلميع‪ ،‬وعىل رأسهم السنهوري نفسه‪ ،‬بتعاونه‬
‫مع القائمني عىل حركة انقالب اجليش‪.‬‬
‫الدافع الذي تقدمه القلة القليلة من الك ّتاب الذين تعرضوا رصاحة هلذا السؤال يتلخص يف عداوة السنهوري‬
‫الشهرية حلزب الوفد‪ ،‬ورغبته يف تصفية حساباته السياسية معه بعد أن ناوأه بمراس يف األعوام السابقة عىل‬
‫وزيرا‬
‫الثورة‪ .‬هكذا‪ ،‬نجد وحيد رأفت يشري يف مذكراته إىل أهنا كانت عداوة «معلومة منذ أن كان السنهوري ً‬
‫سعد ًيا يف وزارة النقرايش ثم بعدما حاول الوفد عند توليه احلكم عام ‪ 1950‬إقصاءه عن منصبه كرئيس ملجلس‬
‫الدولة»(‪ .)18‬ويف ذلك إشارة إىل حماولة الوزارة الوفدية مترير بعض التعديالت يف قانون تأسيس املجلس عام‬
‫‪ ،1950‬يمتنع بمقتضاها عىل كل من تولىّ منصب سيايس أن يرأس جملس الدولة بعد ذلك‪ .‬ومل يكن خيفى عىل‬
‫أحد أن الغرض من هذه التعديالت املقرتحة كان إجبار السنهوري عىل التقاعد من رئاسة املجلس‪ ،‬انتقا ًما من‬
‫إقالة كبار املوظفني الوفديني من املصالح احلكومية املختلفة إبان توليّ الوزارة السعدية احلكم وكان السنهوري‬
‫وزيرا للمعارف يف األربعينيات من مرحلة التجربة الليربالية(‪ .)19‬غري أن حماولة الوفد تلك إلقصاء‬ ‫ً‬ ‫فيها‬
‫السنهوري عن املجلس رسعان ما باءت بالفشل يف ظل الزوبعة الصحافية التي أثارهتا‪ ،‬ومن بعدها هتديد بعض‬
‫قضاة املجلس باالستقالة اجلامعية يف حال تعديل الوفد قانون املجلس(‪.)20‬‬
‫ولعل ما أجج تلك العداوة بني السنهوري واحلكومة الوفدية ما صدر عن جملس الدولة من أحكام قضائية ناوأ‬
‫فيها قضاته تعسف السلطة التنفيذية يف مبارشهتا عملها‪ ،‬بد ًءا من إقرار املجلس بحق القضاء اإلداري يف الرقابة‬
‫مرورا بإلغاء القرارات الوزارية املتعاقبة خلروجها عن أحكام القانون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عىل دستورية القوانني عام ‪،1948‬‬
‫خاصة بعد توليّ الوفد للسلطة عام ‪ ،1950‬إىل إقرار املجلس بأحقيته يف الرقابة عىل األوامر العسكرية يف ‪22‬‬
‫آذار‪ /‬مارس ‪ 1951‬التي أعقبتها حماولة جديدة للوزارة الوفدية لتعديل قانون املجلس بإحلاقه وزارة العدل‪.‬‬
‫كل من املجلس ونقابة املحامني عىل ذلك التعديل القانوين األخري‪ ،‬إلاّ أن األغلبية الوفدية يف‬ ‫وقد اعرتض ٌّ‬
‫الربملان دفعت به يف كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ 1952‬وذلك بأيام قبل إقالة حكومة النحاس باشا وحل جملس النواب‬
‫يف أعقاب حريق القاهرة يف الشهر نفسه(‪.)21‬‬
‫غري أن موقف جملس الدولة هذا املناوئ للسلطة التنفيذية رسعان ما انقلب إىل وترية مغايرة متا ًما بعد نجاح‬

‫‪ 18‬انظر بشكل عام‪ :‬رأفت‪ ،‬فصول من ثورة ‪ 23‬يوليو‪.‬‬


‫‪ 19‬راجع يف وجهة النظر نفسها‪Nathan J. Brown, The Rule of Law in the Arab World: Courts in Egypt and the Gulf, :‬‬
‫‪Cambridge Middle East Studies; 6 (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), pp. 73-74.‬‬
‫تدخل الرساي لصالح السنهوري ما سمح ببقائه يف منصبه يف املجلس‪ .‬انظر‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫‪ 20‬ويرى البعض ً‬
‫أيضا يف ّ‬
‫‪ 21‬راجع يف كل ما سبق‪ :‬لطيفه حممد سامل‪ ،‬النظام القضائي املرصي احلديث‪( 1914-1875 ،‬القاهرة‪ :‬مركز الدراسات السياسية‬
‫واالسرتاتيجية باألهرام‪ ،)1984 ،‬ص ‪.284-283‬‬
‫‪131‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫حركة اجليش يف ‪ 23‬متوز‪ /‬يوليو ‪1952‬؛ فقد مد املجلس‪ ،‬وعىل رأسه السنهوري باشا‪ ،‬يد العون واملؤازرة إىل‬
‫التحول فتوى املجلس‬
‫ّ‬ ‫احلكومات املتعاقبة عىل حكم مرص حتى آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬وكان أول مؤرشات هذا‬
‫يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬التي أتت وفق هوى حكومة عيل باشا ماهر‪ ،‬ومن خلفها الضباط األحرار‪ ،‬يف جت ّنب‬
‫عودة الوفد إىل الربملان‪.‬‬
‫ويبدو من مذكرات وحيد رأفت يف االجتامع الذي متخضت عنه هذه الفتوى أن مقدار العداوة بني السنهوري‬
‫وحافظ من جهة والوفد من جهة أخرى كان قد وصل إىل حد املطالبة بأن «تضمن الفتوى الصادرة منا دعوة‬
‫احلكومة إىل استخدام القوة إذا ما حاول جملس النواب الوفدي املنحل االنعقاد من تلقاء نفسه»‪ .‬كام نجد يف‬
‫حمرض اجللسة سليامن حافظ يتوعد احلضور رصاحة بأنه «إذا سئلت يف ذلك فإين سأفتي بأن احلكومة تستطيع‬
‫أن متنع هذا االجتامع بل يتعني عليها أن متنعه ولو بالقوة»(‪ ،)22‬فثار رأفت يف وجه سليامن حافظ عند سامعه هذا‬
‫يستعدوا احلكومة عىل نواب انتخبهم الشعب لتمثيله»‪،‬‬ ‫الرأي‪ ،‬مذكّ ًرا بأنه «ال يليق بسدنة القانون وحرماته أن ْ‬
‫خاصة أن الوطن «بصدد انقالب عسكري ال يعلم إلاّ اهلل إىل أين سيقود البالد‪ ،‬وإنَّ واجبنا كحقوقيني مدنيني‬
‫أن نتضافر ملواجهة ما يصاحب تلك االنقالبات العسكرية من خطر عىل احلريات»(‪.)23‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬صدرت الفتوى يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪ 1952‬ثم أعقبها يف آب‪ /‬أغسطس اهنيار العالقات الودية‬
‫بني ماهر والضباط األحرار‪ .‬وكان يف مقدمة اخلالفات بينهام اعرتاض ماهر رصاحة عىل مرشوع قانون حتديد‬
‫م ْلكية األرض الزراعية‪ ،‬إىل أن وصل الصدام بينهام أوجه يف ليلة ‪ 5‬أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ ،1952‬فتم اعتقال أربعة‬
‫وستني شخصية من كبار الساسة ورجال احلكم من خمتلف األحزاب السياسية‪ ،‬ثم أقيل عيل ماهر من رئاسة‬
‫الوزارة يف اليوم التايل‪ ،‬وأخذ الضباط األحرار يف البحث عن رئيس وزراء جديد خلالفته‪.‬‬
‫كان اسم السنهوري أبرز األسامء املرشحة للمنصب لدى الضباط األحرار‪ ،‬وما من شك أن تأييده قانون حتديد‬
‫امل ْلكية الزراعية كان من األسباب الرئيسة وراء ترشيحه للمنصب‪ .‬وكان الرجل نفسه قد أعرب عن استعداده‬
‫االستقالة من جملس الدولة لتوليّ رئاسة الوزارة اجلديدة‪ ،‬إلاّ أن الضغوط األمريكية‪ ،‬يف ما يبدو‪ ،‬أثنت الضباط‬
‫عن هذا االختيار‪ .‬وكان يف مقدمة اعرتاضات السفري األمريكي جيمس كافري سبق توقيع السنهوري عىل «إعالن‬
‫ستوكهومل» يف ‪ ،1951‬ذلك اإلعالن الذى تب ّنته حركة السالم الدولية وأيده كبار املفكرين من اليسار األورويب‬
‫أمثال جان بول سارتر‪ ،‬فثارت خماوف السفري األمريكي من ميول السنهوري «املتطرفة»‪ ،‬وضغط الستبعاده من‬
‫توليّ املنصب‪ ،‬فكان ثاين األسامء املرشحة لرئاسة الوزارة سليامن بك حافظ‪ ،‬وكيل جملس الدولة لقسمي الرأي‬
‫والترشيع‪ ،‬وكان بدوره مستعدً ا لرتك املجلس واالنضامم إىل الوزارة اجلديدة ولكن من دون توليّ رئاستها(‪.)24‬‬
‫وإزاء استبعاد اسم السنهوري‪ ،‬ثم رفض حافظ توليّ املنصب‪ ،‬ولدت الوزارة اجلديدة برئاسة اللواء حممد نجيب‬
‫يف ‪ 7‬أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ ،1952‬فكانت بذلك أول وزارة مدنية يرأسها رجل من العسكر يف تاريخ السياسة املرصية‬
‫منذ أن تولىّ عرايب باشا رئاسة الوزارة عام ‪ .1882‬ويبدو أن الثنائي القانوين السنهوري‪ /‬حافظ قام بدور مهم‬
‫مرجحا له السالمة القانونية الضطالع رجل اجليش بزمام جملس‬
‫ً‬ ‫يف إقناع نجيب بتوليّ منصب رئاسة الوزارة‪،‬‬
‫الوزراء يف أعقاب االنقالبات العسكرية‪.‬‬
‫ووزيرا للداخلية‪ ،‬وكان له الدور األكرب يف انتقاء‬
‫ً‬ ‫نائبا لرئيس جملس الوزراء‬
‫انضم سليامن حافظ إىل وزارة نجيب ً‬

‫‪ 22‬أنظر حمرض اجللسة‪ ،‬يف‪ :‬املختار من فتاوى اجلمعية العمومية‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ 23‬رأفت‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ “extremist” 24‬راجع يف ذلك مراسالت كافري‪ ،‬ولقاء خاص مع خالد حميى الدين‪ ،‬يف‪Joel Gordon, Nasser’s Blessed Movement: :‬‬
‫‪Egypt’s Free Officers and the July Revolution, Studies in Middle Eastern History (New York: Oxford University Press,‬‬
‫‪1992), p. 67.‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪132‬‬


‫أغلب وزرائها الذين مل يشملوا بالطبع أي وفديني يف صفوفهم‪ .‬ويف يوم تشكيل الوزارة‪ُ ،‬قبلت استقالة الدكتور‬
‫مسته بغري وجه حق يف حركة إعادة تنظيم جملس الدولة(‪ ،)25‬بينام بقي‬ ‫وحيد رأفت من منصبه ملا رآه من ختطيات ّ‬
‫رئيسا للمجلس بعد تشكيل الوزارة‪ ،‬واضطلع بحكم منصبه هذا يف إمدادها بمختلف صور العون‬ ‫السنهوري ً‬
‫القانوين‪ ،‬سواء يف صوغ بعض القوانني احلساسة التي دفعت هبا وزارة نجيب‪ ،‬أو يف الفتوى من قسم الرأي يف‬
‫أساسا يف جمموعة من‬‫ً‬ ‫املجلس حول سالمة هذه القوانني من العيوب الدستورية‪ .‬ويف مرحلة الحقة‪ ،‬متثّل العون‬
‫األحكام الصادرة عن جملس الدولة واملؤيدة ألعامل الوزارة املختلفة‪.‬‬

‫السنهوري و«تطهير» الحياة السياسية‬


‫يف يوم تشكيل وزارة نجيب تلك‪ ،‬التي تولىّ فيها حافظ مهام الداخلية‪ ،‬ظهر مقال لألستاذ أمحد أبو الفتح يف‬
‫جريدة املرصي املؤيدة للوفد‪ ،‬وذلك حتت عنوان «إىل أين؟»‪ ،‬اسرتجع فيه الصحايف بتكوينه القانوين وقائع‬
‫يؤصل ملا تواجهه البالد من خماطر االنفالت الدستوري واهنيار سيادة القانون لدى القائمني‬
‫االنقالب وراح ّ‬
‫عىل حكمه‪ ،‬فهاجم السنهوري ومعه حافظ من دون أن يذكرمها رصاحة‪ ،‬ووضع ثقال اللوم عليهام فقال‪:‬‬
‫ويف اعتقادي أن اخلطأ بدأ يوم أفتى جملس الدولة فتواه يف جملس الوصاية املؤقت‪ ،‬وتاله خطأ آخر يوم استمسك‬
‫عيل ماهر هبذه الفتوى‪ ،‬ويوم نادى بعض الك ّتاب بالفقه الثوري‪ ،‬وأقول يف اعتقادي إنه يف تلك األيام بدأت‬
‫األخطاء‪ ،‬فقد جانب اجلميع نص الدستور الذي أعلن اجليش أنه عامد ثورته‪ ..‬وبدأت األخطاء‪ ،‬وأخذ كل خطأ‬
‫برقبة خطأ آخر‪ ،‬وإذا بأعاصري األخطاء هتب ذات اليمني وذات الشامل ومن فوق ومن حتت‪ ،‬واملرء وسط كل‬
‫ذلك ذاهل تائه حياول أن يصد هذا فيرصعه ذاك(‪.)26‬‬
‫وكأن أبو الفتح يتوقّع هبذا ما سيصيب احلياة احلزبية يف األشهر التالية من إعادة هيكلة جذرية عىل يد الثنائي‬
‫حافظ‪ /‬السنهوري‪ ،‬إذ إهنا أصابت الوفد ومعه أحزاب األقلية يف مقتل‪ ،‬وأبقت عىل اإلخوان والشيوعيني إىل‬
‫أن كان الفتك هبم عقب أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬لتولد بذلك اجلمهورية األوىل عىل أنقاض مبادئ سيادة‬
‫القانون واستقالل القضاء‪ ،‬وبتعاون يف ذلك من سدنة هذه املبادئ ومن ُيفرتض فيهم نرصهتا من القانونيني‪.‬‬
‫كانت الدعوة إىل «تطهري» احلياة السياسية هي النداء الرئيس لالجتاه اإلصالحي يف السياسة املرصية قبل انقالب‬
‫اجليش يف متوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬حتى إن حكومة اهلاليل باشا بادرت يف آذار‪ /‬مارس ‪ 1952‬إىل تشكيل «جلان تطهري»‬
‫يف خمتلف الوزارات‪ ،‬ثم واكب فتوى جملس الدولة يف ‪ 31‬متوز‪ /‬يوليو ‪ 1952‬بشأن الوصاية عىل العرش صدور‬
‫نداء يف اليوم نفسه من اللواء حممد نجيب إىل مجيع األحزاب واهليئات السياسية املرصية «بتطهري نفسها واإلعالن‬
‫عن براجمها»‪ ،‬إىل أن أصبح «التطهري» هو املصطلح الغالب عىل اخلطاب السيايس لوزارة نجيب بعد تشكيلها يف‬
‫‪ 7‬أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ ،1952‬فاستصدرت الوزارة يف اليوم التايل املرسوم بقانون رقم ‪ 179‬لعام ‪ 1952‬بشأن تنظيم‬
‫مضيقة فيه اخلناق عىل حرية تشكيل األحزاب عىل نحو مل تشهده احلياة السياسية املرصية‬ ‫األحزاب السياسية‪ّ ،‬‬
‫من قبل‪ .‬وباسم احلاجة إىل «التطهري»‪ ،‬أجازت املادة (‪ )5‬من هذا القانون لوزير الداخلية االعرتاض عىل طلب‬
‫تكوين احلزب‪ ،‬وجعلت من اختصاص القضاء اإلداري يف جملس الدولة النظر يف الطعون يف هذه االعرتاضات‪،‬‬
‫كام ألزمت املادة (‪ )19‬منه مجيع األحزاب القائمة عند العمل بالقانون بأن تعيد تكوين نفسها وفقًا ألحكامه‪.‬‬
‫كان سليامن حافظ هو املسؤول األول عن إعداد هذا القانون‪ .‬ومل يكن ّ‬
‫يقل هو اآلخر عن السنهوري شهرة يف عدائه‬

‫‪ 25‬رأفت‪ ،‬ص ‪.123‬‬


‫‪ 26‬أمحد أبو الفتح‪« ،‬إىل أين؟‪ »،‬املرصي‪.1952/9/7 ،‬‬
‫‪133‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫حلزب الوفد ورئيسه النحاس باشا عىل وجه اخلصوص(‪ .)27‬وإذا كانت أحكام القانون الذي أعده قد طاولت نظر ًيا‬
‫مجيع األحزاب يف الساحة السياسية املرصية‪ ،‬فإن حزب الوفد كان‪ ،‬بال شك‪ ،‬املترضر الرئيس من أحكامه؛ فبعد‬
‫فتنحى النحاس‬‫متوخيا أحكام قانون األحزاب اجلديد‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫صدور القانون‪ ،‬قام الوفد بإعادة تنظيم أوراقه الداخلية‪،‬‬
‫باشا عن رئاسة احلزب ُ‬
‫وأسندت إليه رئاسته الفخرية‪ ،‬بينام انتقلت رئاسة احلزب الفعلية إىل عبد السالم باشا مجعة‬
‫خل ًفا للنحاس‪ .‬وهبذا التشكيل اجلديد تقدم الوفد إىل وزارة الداخلية بإخطار إعادة تكوين احلزب يوم ‪ 6‬ترشين‬
‫األول‪ /‬أكتوبر ‪ ،1952‬وذلك قبل يوم واحد من انقضاء املهلة املمنوحة لألحزاب يف هذا الشأن‪.‬‬
‫وزيرا للداخلية‪ ،‬عىل إخطار الوفد بإعادة تشكيله هذه‪ .‬وكان اعرتاضه بدعوى‬‫اعرتض سليامن حافظ‪ ،‬بصفته ً‬
‫أن يف توليّ النحاس الرئاسة الرشفية حلزب الوفد حتايلاً وخمالفة لقانون تنظيم األحزاب‪ .‬كام اعرتض حافظ‬
‫أيضا‪ ،‬وللسبب نفسه‪ ،‬عىل استمرار عضوية عبد الفتاح باشا الطويل يف الوفد‪ .‬وإزاء هذه االعرتاضات‪ ،‬انتقل‬ ‫ً‬
‫اخلالف بني حافظ والوفد إىل قاعات املداولة يف جملس الدولة‪ ،‬لتفصل حمكمة القضاء اإلداري يف النزاع بموجب‬
‫تكونت من ‪12‬‬
‫وشكل الوفد هيئة للدفاع عن احلزب ّ‬ ‫اختصاصها املنصوص عليه يف قانون األحزاب اجلديد‪ّ .‬‬
‫حماميا من كبار رجال املحاماة حينئذ‪ ،‬وىف مقدمتهم األساتذة إبراهيم فرج وحممود سليامن غنام وحممد صالح‬ ‫ً‬
‫الدين‪ ،‬ووحيد رأفت بعد استقالته من جملس الدولة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حدة يف ترافعه عن مصري احلزب‪ ،‬فنجده يف جلسة‬ ‫ولعل األستاذ إبراهيم فرج كان أكثر أعضاء هيئة الدفاع ّ‬
‫عيا أن «القضية التي تنظروهنا اليوم ليست قضية مصطفى النحاس‬ ‫مد ً‬
‫االستامع األوىل للنزاع أمام جملس الدولة ّ‬
‫أو عبد الفتاح الطويل‪ ،‬بل هي قضية احلياة النيابية يف مرص!» ‪ ،‬ثم نراه يوم ‪ 10‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪1953‬‬
‫(‪)28‬‬

‫يرتافع يف القضية‪ ،‬ويتهم سليامن حافظ رصاحة بالتواطؤ حلل حزب الوفد‪ ،‬وذلك يف جلسة صاخبة حرضها‬
‫حولوا قاعة املحكمة إىل شبه مظاهرة سياسية» نادى فيها فرج بأن األمة املرصية وحدها‬
‫«مجع غفري من املواطنني ّ‬
‫دون سليامن حافظ هي صاحبة احلق يف حل حزب الوفد ‪.‬‬
‫(‪)29‬‬

‫السنهوري ودستور ‪1954‬‬


‫قامت حمكمة القضاء اإلداري بتأجيل دعوى الوفد للحكم إىل ‪ 19‬شباط‪ /‬فرباير ‪ ،1953‬غري أن املجلس مل‬
‫يتسن له فصل النزاع يف هناية املطاف‪ ،‬فقد أذاع اللواء حممد نجيب يف ‪ 10‬كانون األول‪ /‬ديسمرب ‪ 1952‬بيانًا‬
‫دستورا جديدً ا‬
‫ً‬ ‫أعلن فيه باسم الشعب املرصي سقوط دستور ‪ ،1923‬وأن «احلكومة آخذة يف تأليف جلنة تضع‬
‫منز ًها عن عيوب الدستور الزائل»(‪ .)30‬ثم تال ذلك إذاعة بيان آخر يف ليلة ‪ 16‬كانون‬‫يقره الشعب ويكون َّ‬
‫الثاين‪ /‬يناير ‪ 1953‬أعلن نجيب فيه «حل مجيع األحزاب السياسية منذ اليوم ومصادرة مجيع أمواهلا لصالح‬
‫الشعب بدلاً من أن تنفق يف بذر بذور الفتن والشقاق‪ ،‬ولكي تنعم البالد باالستقرار واإلنتاج أعلن قيام فرتة‬
‫ً‬
‫وتنفيذا هلذا البيان صدر‬ ‫انتقالية ملدة ثالثة سنوات حتى نتمكن من إقامة حكم ديموقراطي دستوري سليم»(‪.)31‬‬
‫يف ‪ 18‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ 1953‬املرسوم بقانون رقم ‪ 37‬لعام ‪ ،1953‬ليقيض بإلغاء قانون األحزاب اجلديد‪،‬‬
‫وحظر أي نشاط حزيب عىل أعضاء األحزاب املختلفة‪ .‬واستنا ًدا إىل ذلك املرسوم بقانون‪ ،‬تم شطب دعوى الوفد‬

‫‪ 27‬يذهب رأفت يف هذا السياق إىل أن «من املعروف عن األستاذ سليامن حافظ أنه كان يف وقت ما من أنصار احلزب الوطني القديم‪،‬‬
‫عدوا لدو ًدا حلزب الوفد ورئيسه مصطفى النحاس بالذات‪ ،‬بل ولألحزاب السياسية بوجه عام‪ ،‬فانعكست معامل هذا العداء يف‬‫كام كان ً‬
‫نصوص الترشيع الذى أعده (مرسوم بقانون ‪ 179‬لسنة ‪ .»)1952‬انظر‪ :‬رأفت‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ 28‬املرصي‪ ،1952/11/21 ،‬و راجع يف تشكيل هيئة الدفاع‪ :‬رأفت‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪ 29‬املرصي‪1953 /1/11 ،‬؛ رأفت‪ ،‬ص ‪ ،80‬و ‪Gordon, p. 77.‬‬
‫‪ 30‬رأفت‪ ،‬ص ‪ ،45‬واألهرام ‪.1952 /12/ 10‬‬
‫‪ 31‬اجلريدة الرسمية (‪ 17‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪.)1953‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪134‬‬


‫أمام جملس الدولة بعدما أصبح احلزب بموجب هذا القانون يف عداد املنظامت السياسية «املحظورة»‪.‬‬
‫كذلك صدر يف ‪ 18‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ 1953‬املرسوم بقانون رقم ‪ 36‬لعام ‪ 1953‬الذي اعترب «كل تدبري اختذه‬
‫أو يتخذه القائد العام للقوات املسلحة بوصفه رئيس حركة اجليش التي قامت يف ‪ 23‬يوليو ‪ ،1952‬بقصد محاية‬
‫هذه احلركة والنظام القائم عليها‪ ،‬من قبيل أعامل السيادة التي ال جيوز الطعن فيها أمام حمكمة القضاء اإلداري‬
‫بمجلس الدولة»‪ ،‬كام قىض بتحصني مجيع الترشيعات الصادرة يف شكل مراسيم بقوانني خالل املدة السابقة عىل‬
‫إعالن سقوط دستور ‪ ،1923‬ويف مقدمتها بالطبع ترشيع اإلصالح الزراعي‪ .‬وعىل هذا األساس أصدر جملس‬
‫رافضا طعن هذا األخري بشأن‬ ‫الدولة حكمه يف قضية حييى البدراوي عاشور يف ‪ 21‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ً ،1953‬‬
‫عدم دستورية قانون حتديد امللكية الزراعية(‪.)32‬‬
‫هكذا إذن تعاقبت املراسيم بقوانني تعلن سقوط الدستور ثم حل األحزاب وحتصني مجيع الترشيعات والتدابري‬
‫الصادرة منذ ‪ 23‬متوز‪ /‬يوليو ‪ 1952‬عن رقابة املحاكم‪ ،‬فخلت بذلك الساحة السياسية من مجيع قوى املعارضة‬
‫عدا اإلخوان املسلمني‪ ،‬إىل أن كان الصدام معهم يف آذار‪ /‬مارس ‪ .1954‬وخلت بذلك ً‬
‫أيضا املنظومة القانونية‬
‫من كل قيد دستوري حيد من قدرة النظام عىل «تطهري» احلياة احلزبية‪ ،‬ومالحقة كبار القائمني عىل الشأن‬
‫السيايس قبل حركة اجليش‪ ،‬وال سيام استبعاد الوفديني منهم وفق رغبة سليامن حافظ الرصحية يف ذلك(‪.)33‬‬
‫وبينام بقي السنهوري عىل رأس قضاء إداري منزوع املخالب‪ ،‬ال سلطان ملجلس الدولة فيه حيال هذه التدابري‬
‫الثورية املحصنة من رقابة املحاكم‪ ،‬استمر سيل املراسيم بقوانني الصادرة عن وزارة نجيب‪ ،‬تارة بتعديل قانون‬
‫األحكام العرفية وإنشاء نوع جديد من املحاكم العرفية جيلس عىل منصة القضاء فيها مخسة من ضباط اجليش‬
‫ملحاكمة أعداء النظام(‪ ،)34‬وتارة أخرى باستحداث جمموعة من املحاكم االستثنائية‪ ،‬مثل «حمكمة الغدر» يف‬
‫كانون األول‪/‬ديسمرب ‪ ،1952‬ومن بعدها «حمكمة الثورة» يف أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ ،1953‬ثم إحالة أعداء النظام إىل‬
‫هذه املحاكم االستثنائية‪ ،‬وىف مقدمتهم أقطاب الوفد من أمثال عثامن باشا حمرم وفؤاد رساج الدين باشا‪ ،‬ومن‬
‫بعده السيدة زينب الوكيل حرم النحاس‪.‬‬
‫شكلتها وزارة نجيب بغرض وضع‬ ‫ويف ‪ 21‬شباط‪ /‬فرباير ‪ ،1953‬انعقدت أول جلسة للجنة اخلمسني التي ّ‬
‫دستور جديد للبالد‪ .‬وكان ذلك يف القاعة الرئيسة ملا هو جملس الشعب اليوم‪ ،‬فجلس نجيب عىل كريس العرش‬
‫الذي كان جيلس عليه امللك فاروق من قبل‪ ،‬وجلس سائر أعضاء اللجنة يف مقاعد نواب الشعب يف الربملان‪،‬‬
‫منتخ ًبا لعضوية هذه اللجنة‪ .‬وكان السنهوري يف مقدمة هذا احلضور‪ ،‬بينام اس ُتبعد‬‫رغم أن أحدً ا منهم مل يكن َ‬
‫وحيد رأفت عن عضوية اللجنة وعن املشاركة يف وضع الدستور اجلديد‪ ،‬رغم أنه أستاذ القانون يف كلية احلقوق‬
‫واملشهود له بالباع الطويل يف الفقه الدستوري‪ ،‬ربام جزا ًء له عىل اعرتاضه عىل فتوى جملس الدولة يف ‪ 31‬متوز‪/‬‬
‫يوليو ‪ ،1952‬ومن بعدها ترافعه عن الوفد يف قضية احلزب أمام جملس الدولة ثم اشرتاكه يف هيئة الدفاع عن‬
‫بعض األقطاب الوفديني مثل عثامن باشا حمرم‪.‬‬
‫فشكلت جلنة فرعية من مخسة أعضاء‪ ،‬كان السنهوري‬ ‫عىل كل حال‪ ،‬انربت هيئة وضع الدستور إىل عملها‪ّ ،‬‬
‫من بينهم‪ ،‬بغرض بحث مستقبل احلكم يف مرص بني النظام امللكي وإعالن اجلمهورية‪ .‬وانتهت هذه اللجنة يف‬
‫‪ 24‬آذار‪ /‬مارس ‪ 1953‬إىل اختيار النظام اجلمهوري الربملاين بإمجاع اآلراء‪ ،‬وهو النظام الذي جيعل من رئاسة‬
‫رشفيا بال سلطات تُذكر‪ ،‬فظهرت الصحف يف اليوم التايل تعلن قرار اللجنة عىل قرائها لتفتح‬ ‫ً‬ ‫منصبا‬
‫ً‬ ‫اجلمهورية‬
‫‪ 32‬املرصي‪.1953/1/22 ،‬‬
‫‪ 33‬راجع يف ذلك خطاب حافظ إىل عيل ماهر يف‪ :‬األهرام‪.1952/8/29 ،‬‬
‫‪ 34‬املرسوم بقانون رقم ‪ 154‬لسنة ‪ 1952‬واملصوب بالقانون رقم ‪ 155‬لسنة ‪ 1952‬بشأن اضافة مادة جديدة إىل القانون رقم ‪ 15‬لسنة‬
‫رابعا‪.‬‬
‫‪ 1923‬بنظام األحكام العرفية وهي املادة ‪ً 6‬‬
‫‪135‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫بذلك صفحة جديدة يف اخلطاب السيايس املحتدم حينئذ حول إمكان الرجوع إىل احلياة النيابية وتفعيل دور‬
‫األحزاب السياسية‪ ،‬ولكن مع تفادي مثالبها عىل نحو ما كانت قبل انقالب اجليش‪.‬‬
‫وقد كان للسنهوري رأي يف هذا املسألة‪ ،‬عرضه بشكل تفصييل ودافع عنه عىل املأل‪ ،‬مؤداه رضورة جت ّنب عودة‬
‫احلياة احلزبية إىل سريهتا األوىل قبل الثورة‪ ،‬من ترشذم االجتاهات السياسية والتناحر بني األحزاب‪ ،‬ومن ثم‬
‫وجوب اختزال النشاط السيايس مستقبلاً يف ثالثة أحزاب حمددة باالسم ال رابع هلا‪ ،‬كان أوهلا حزب يميني‬
‫حمافظ يدافع عن التقاليد وينادي بعودة البالد إىل سابق عهدها من عظمة التاريخ‪ ،‬وثانيها حزب ذو نزعة ليربالية‬
‫ريا حزب‬ ‫يتب ّنى التوجه اإلصالحي احلذر ويدافع عن احلريات الفردية سواء املدنية منها أو االقتصادية‪ ،‬وأخ ً‬
‫اشرتاكي العقيدة غرضه الدفاع عن «املكاسب الثورية» التي حتققت بعد انقالب اجليش‪.‬‬
‫تباعا اسم «حزب املحافظني» و«حزب األحرار»‬ ‫ومن بني هذه األحزاب الثالثة‪ ،‬التي أطلق السنهوري عليها ً‬
‫خيف الفقيه والقايض الكبري تأييده املطلق للفصيل االشرتاكي يف هذه‬ ‫و«احلزب اجلمهوري االشرتاكي»‪ ،‬مل ِ‬
‫التشكيلة احلزبية اجلديدة‪ ،‬معللاً رأيه برضورة تب ّني سياسة تقدمية يف الشأن االجتامعي جتعل من قانون اإلصالح‬
‫نموذجا حيتذى به يف ما قد تتب ّناه الدولة مستقبلاً من إصالحات ترشيعية منشودة‪.‬‬
‫ً‬ ‫الزراعي‬
‫وال خيفى عىل القارئ هنا كيف اختفى حزب الوفد متا ًما من تصور السنهوري ملستقبل احلياة السياسية يف مرص‪.‬‬
‫وإذا كان نظام يوليو قد حقق للسنهوري بعض آماله يف رؤية إعادة التوزيع العادل للثروة يف مرص‪ ،‬فإنه ال يغيب‬
‫برمتها‪ ،‬وفدية كانت‬ ‫أيضا أن النظام ذاته كان مسؤو ً‬
‫ال عماّ نال السنهوري من إقصاء عن احلياة الساسية ّ‬ ‫عن القارئ ً‬
‫أو غريها‪ ،‬مع دخول البالد يف هيمنة احلزب الواحد عىل مقدرهتا خالل الستة عقود التالية النقالب اجليش‪.‬‬
‫وكان ضرب السنهوري على ّ‬
‫سلم مجلس الدولة‬
‫عرضنا حتى اآلن لبعض تفاصيل مرحلة ما بني قيام انقالب اجليش يف ‪ 1952‬واندالع أزمة آذار‪ /‬مارس‬
‫‪ .1954‬ورأينا كيف كان تأييد السنهوري ومعه سليامن حافظ للقائمني عىل االنقالب بعد أسبوع من وقوعه‪،‬‬
‫ثم استمرار تأييدهم بعد ذلك وعىل نحو مطرد‪ ،‬حتى أصبح الثنائي القانوين السنهوري‪ /‬حافظ من كبار الوجوه‬
‫السياسية يف هذه الفرتة‪ ،‬خاصة ما تعلق يف وقائعها بتفكيك املنظومة القانونية املرصية وفق دستور ‪1923‬؛ فقد‬
‫أفتى الرجالن بام ينتهك مبدأ حياد رجل القضاء عن السياسة‪ ،‬وفاضال بني التفسري السليم للامدة (‪ )52‬منه‬
‫وعداوهتم السياسية حلزب الوفد‪ ،‬وغ ّلبا التفسري اخلاليف يف أحكام هذا الدستور عىل رؤية نواب الوفد يعودون‬
‫إىل الربملان‪ .‬وكان معهام يف ذلك كله سائر أعضاء قسم الرأي يف جملس الدولة‪ ،‬باستثناء الدكتور وحيد رأفت‬
‫مدافعا عن حق الشعب يف عودة نوابه َ‬
‫املنتخبني منه إىل الربملان‪ ،‬كام رأينا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الذي وقف دون غريه‬
‫وزيرا للداخلية يف وزارة نجيب‪ ،‬واضطلع انطال ًقا من منصبه هذا بـ “تطهري” احلياة‬
‫ثم انتقل سليامن حافظ بعد ذلك ً‬
‫السياسية من نخبة ما قبل الثورة من الوفديني‪ ،‬ليصبح بعد ذلك املستشار القانوين لنجيب عقب إعالن اجلمهورية‬
‫رئيسا ملجلس الدولة بعد حتجيم دور هذا اجلهاز القضائي يف‬ ‫يف ‪ 18‬حزيران‪ /‬يونيو ‪ ،1953‬بينام بقي السنهوري ً‬
‫الرقابة عىل عمل السلطة التنفيذية‪ ،‬خاصة ما تعلق منها بتطبيق القوانني الثورية املحصنة من رقابة املحاكم عليها‪.‬‬
‫إىل أن كانت أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬حني وقف الرجالن عىل األنقاض الباقية من مبادئ القانون‪ ،‬ومل تكن‬
‫كثرية‪ ،‬وحتالفا مع حممد نجيب يف صدام فرقته مع عبد النارص ومؤيديه‪ ،‬ثم حتمال ثمن فشل هذا التحالف‪ ،‬فقرر‬
‫جملس قيادة الثورة إعفاء نجيب من منصبه يف ‪ 15‬ترشين الثاين‪ /‬نوفمرب ‪ ،1954‬وتم إقصاؤه إىل فيال حرم النحاس‬
‫باشا يف ضواحي القاهرة حيث بقي معتقلاً قرابة عرشين عا ًما‪ .‬كام أقيل حافظ من منصبه واع ُتقل هو اآلخر إبان‬
‫العدوان الثالثي عام ‪ ،1956‬حتى إذا ما ُأفرج عنه قام بزيارة وحيد رأفت يف مكتبه‪ ،‬وقد أصبحا كالمها من مماريس‬
‫املحاماة بعد أن كانا من القضاة يف جملس الدولة‪ ،‬ودار بينهام‪ ،‬وفق مذكرات رأفت‪ ،‬احلديث التايل‪:‬‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪136‬‬


‫استذكرنا سو ًيا ما جرى من أحداث منذ الفتوى إياها اخلاصة بموضوع الوصاية عىل العرش‪ ،‬فأظهر يل (أي‬
‫حافظ) الندم عىل موقفه من هذا املوضوع ولتأييده املطلق لقادة حركة اجليش عىل حساب احلكم الديموقراطي‬
‫تكفريا عن تلك الذنوب‪ ،‬رمحه‬
‫ً‬ ‫النيايب‪ ،‬وقال وهو يف غاية التأثر إن ما أصابه من اعتقال وغم بعد ذلك إنام كان‬
‫اهلل رمحة واسعة وأسكنه فسيح جناته‪.35‬‬
‫ّأما السنهوري‪ ،‬فكان ما كان عليه من واقعة االعتداء بفناء جملس الدولة يوم ‪ 29‬آذار‪ /‬مارس ‪ ،1954‬ثم‬
‫أعقبها يف ‪ 14‬نيسان‪ /‬أبريل صدور قرار جملس قيادة الثورة بإسقاط احلقوق السياسية عن ‪ 39‬من الوزراء‬
‫احلزبيني السابقني عىل الثورة‪ ،‬وكان السنهوري واحدً ا منهم‪ ،‬ففقد هبذا القرار صالحية تو ّليه رئاسة جملس‬
‫وأطيح هكذا عن منصبه‪...‬‬ ‫الدولة‪ُ ،‬‬
‫ويف ما خيص جملس الدولة‪ ،‬فقد استمر يف منهج التأييد ملن يف يده السلطة‪ ،‬فأقر رشعية قرار حرمان الوزراء‬
‫السابقني من حقوقهم السياسية‪ ،‬وأكد بذلك استحالة عودة السنهوري إىل املجلس من طريق القانون‪ ،‬وبدأت‬
‫بذلك أوىل صفحات عالقة جديدة بني النخبة القانونية ونظام يوليو احلاكم‪ ،‬كام استقرت اإلشارة عليه اليوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫تتحكم هبا اهلواجس األمنية‪ ،‬وال يزال الشعب املرصي يدفع بسببها‬ ‫وهي عالقة تواطؤ عىل متطلبات القانون‪،‬‬
‫أغىل األثامن‪ ،‬يف شهداء ثورة ال قانون هلا‪.‬‬

‫عبدالرزاق باشا السنهوري‬

‫دعوة احلضور إىل اجتامع الربملان لسامع حلف اليمني الدستورية من‬
‫امللك فاروق قبل تنصيبه عىل عرش البالد يف متوز‪ /‬يوليو ‪1937‬‬ ‫مصطفى باشا النحاس‬

‫‪ 35‬رأفت‪ ،‬ص ‪.123‬‬


‫‪137‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫امللك فاروق يف جلسة حلف اليمني أمام الربملان (قاعة جملس الشعب اليوم) ً‬
‫حماطا بأمراء األرسة املالكة من جانب‪ ،‬ووزارة‬
‫النحاس باشا من جانب آخر‬

‫امللكة نازيل واألمريات شقيقات فاروق يتابعن جلسة حلف اليمني من املقصورة امللكية يف الربملان‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪138‬‬

‫القضاة ووسطهم امللك فاروق يف فناء مبنى جملس الدولة القديم عقب افتتاحه عام ‪1949‬‬

‫طابع الربيد التذكاري بميالد األمري أمحد‬


‫فؤاد الثاين يف كانون الثاين‪ /‬يناير ‪1952‬‬

‫أول طابع بريد تذكاري بانقالب اجليش يف‬


‫‪ 23‬متوز‪ /‬يوليو ‪1952‬‬
‫‪139‬‬ ‫المحور‪ :‬الدستور في الفكر العربي الحديث (‪ :)I‬تواريخ وقضايا‬

‫«الشعب يريد إعدام المحامين»‪ :‬السنهوري بين القانون والثورة (‪)1954 – 1952‬‬

‫غالف جملة روز اليوسف الصادرة يف أعقاب حريق القاهرة‪ 18 ،‬شباط‪ /‬فرباير ‪1952‬‬

‫غالف جملة روز اليوسف يف ‪22‬‬


‫آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬وفيه السنهوري‬
‫يف اخللف بالصاجات يزف دستور‬
‫مرص املرتقب‬
‫العدد ‪3‬‬

‫شتاء ‪2013‬‬ ‫‪140‬‬

‫جريدة األخبار‪ :‬اجليش والشعب «جبهة واحدة» يف أزمة‬ ‫عدد املرصي ‪ 26‬آذار‪ /‬مارس ‪ :1954‬تسليم اجليش السلطة‬
‫آذار‪ /‬مارس ‪1954‬‬ ‫حلكومة منتخبة‬

‫غالف جملة روز اليوسف يف أعقاب‬


‫أزمة آذار‪ /‬مارس ‪ 1954‬وهي تظهر‬
‫حائرا بني الرضب عىل رأس‬ ‫ً‬ ‫نارص‬
‫اإلخوان أو الشيوعيني أولاً ؟‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like