Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 368

‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ح دار احلضارة للنشر والتوزيع‪1435 ،‬هـ‬


‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النشر‬
‫املقبل‪ ،‬عمر عبداهلل حممد‬
‫قواعد نبوية‪ :‬مخسون قاعدة نبوية يف العلم واألخالق والسلوك‪/.‬‬
‫عمر عبداهلل حممد املقبل – ط‪ – 2‬الرياض‪1435 ،‬هـ‪.‬‬
‫ص؛ ‪ 00 × 00‬سم‪.‬‬
‫ردمك‪978- 603- 506- 313- 5 :‬‬

‫أ ‪ -‬العنوان‬ ‫‪ - 2‬احلديث – مباحث عامة‬ ‫‪ - 1‬األخالق اإلسالمية‬

‫‪1435/9435‬‬ ‫ديوي‪212 :‬‬

‫رقم اإليداع‪1435 /9435 :‬‬

‫ردمك‪978- 603- 506- 313- 5 :‬‬

‫حقوق الطبعة حمفوظة‬


‫الطبعة الثانية‬
‫‪1436‬هـ ‪2015-‬م‬

‫دار احلضارة للنشر والتوزيع‬


‫ص‪ .‬ب‪ 102823 :‬الرياض‪11685 :‬‬
‫هاتف‪ 2787333 – 2496555 :‬فاكس‪2483004 :‬‬
‫املستودع تلفون‪ 2416139 :‬فاكس‪2422528 :‬‬
‫الرقـــــم املوحــــــــــد‪920000908 :‬‬

‫‪2‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫‪3‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪4‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫احلمد هلل اهلادي ألقوم سنن‪ ،‬والصالة والسالم على من خصّه‬


‫ربّه جبوامع الكلم‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فهذه هي الطبعة الثانية لكتابي «قواعد نبوية»‪ ،‬بعد نفاد الطبعة‬
‫األوىل منه‪ ،‬والفضل هلل وحده‪.‬‬
‫وهذا الكتاب جاء صِنواً لكتابي اآلخر «قواعد قرآنية» ولتحقيق‬
‫نفس الفكرة اليت قصدتها من ذلك الكتاب‪ ،‬وهو تسليط الضوء على‬
‫تلك اجلملة اجلامعة مما نطق به ج‪ ،‬دون التوسع يف بقية ألفاظ احلديث‬
‫إن كان للحديث بقيّة – كما صنع عامة من شرحوا الكتب اليت اعتنت‬
‫جبمع جوامع الكلم كاألربعني النووية وغريها – كحديث‪« :‬من بطّا به‬
‫عمله مل يسرع به نسبه»‪ ،‬فإن هذه اجلملة اجلامعة وردت ضمن سياق‬
‫حديث‪ ،‬فاقتصرتُ عليها يف التعليق‪ ،‬فإن كان احلديث برمته قصرياً يف‬
‫كلماته‪ ،‬كقوله ج‪« :‬من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»‪ ،‬أو‬
‫«ال تتغضب»‪ ،‬كان التعليق عليه كله‪.‬‬
‫إن من األمور املتفق عليها بني املسلمني‪ ،‬أن نبينا حممداً ج قد‬
‫أوتي من الفضائل ما مل جيمعه اهلل يف بشر سواه‪ ،‬ومن مجلة هذه الفضائل‬
‫اليت حالّه اهلل بها‪ :‬أنه أوتي جوامع الكلم؛ فاختصرت له املعاني‬
‫العظيمة يف كلمات قليلة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وجوامع كلمه – اليت جاءت بها الشريعة – نوعان‪:‬‬


‫«أحدهما‪ :‬ما هو يف القُرآن‪ ،‬كقوله ﻷ‪ :‬ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇﭼ قال احلسنُ‪ :‬مل ترتك هذه اآليةُ خرياً إالَّ أَمرت به‪ ،‬وال شرّاً إالَّ‬
‫َنهَتْ عنه‪.‬‬
‫والثَّاني‪ :‬ما هو يف كالمه ج‪ ،‬وهو موجودٌ منتشرٌ يف السُّنن املأثورةِ‬
‫(‪)1‬‬
‫عنه ج»ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهذه اجلوامع املصطفوية لن يدرك اإلنسان سرّ قوتها إال إذا تذكر‬
‫أنه ج أوتيها‪ « :‬وهو ُأمّي من أمةٍ أمية‪ ،‬مل يقرأ كتاباً وال درس علماً‪ ،‬وال‬
‫صحب عاملاً وال معلماً‪ ،‬فأتى مبا بهر العقول‪ ،‬وأذهل الفطن‪ ،‬من إتقان‬
‫ما أبان‪ ،‬وإحكام ما أظهر‪ ،‬فلم يعثر فيه بزلل يف قول أو عمل»(‪.)2‬‬
‫«أفصح الناس لساناً‪ ،‬وأوضحهم بياناً‪ ،‬وأوجزهم كالماً‪ ،‬وأجزهلم‬
‫(‪)3‬‬
‫التكلف‪ ،‬وال يتخلله‬ ‫ألفاظاً‪ ،‬وأصحهم معاني‪ ،‬ال يظهر فيه هجنة‬
‫فيهقة التعسف‪ ...،‬كالمه جامع لشروط البالغة‪ ،‬و ُمعْ ِربٌ عن نهج‬
‫الفصاحة‪ ،‬ولو مزج بغريه لتميز بأسلوبه‪ ،‬ولظهر فيه آثار التنافر‪ ،‬فلم‬

‫‪6‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يلتبس حقه من باطله‪ ،‬ولبان صدقه من كذبه‪ ،‬هذا ومل يكن متعاطياً‬
‫للبالغة‪ ،‬وال خمالطاً ألهلها من خطباءَ‪ ،‬أو شعراء‪ ،‬أو فصحاء‪ ،‬و إمنا هو‬
‫من غرائز فطرته‪ ،‬و بداية جبلته‪ ،‬وما ذاك إال لغاية تراد‪ ،‬وحادثة تشاد!»‬
‫وألجل هذا كلّه‪ ،‬وملا جعل اهلل يف كالمه من خاصية التشريع –‬
‫كونه املبلّغ عن اهلل رساالته – فقد اعتنى العُلماء كثرياً بهذا النوع من‬
‫األحاديث‪ ،‬فصنفوا فيه التصانيف‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫السنَن املأثورة» ألبي بكر ابن‬
‫‪« -1‬اإلجياز وجوامع الكلم مِنَ ُّ‬
‫السُّنِّيِّ – رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪« -2‬الشهاب يف احلِكَم واآلداب» للقاضي أبي عبدِاهلل القُضاعي‪:‬‬
‫مجع فيه مِنْ جوامع الكلم الوجيزة‪ ،‬وصنَّفَ على مِنوالِه قومٌ آخرون‪،‬‬
‫فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثريةً‪.‬‬
‫‪ -3‬أَشارُ اخلطَّابيُّ – رمحه اهلل – يف أوَّل كتابه«غريب احلديث» إىل‬
‫مجلةٍ يسرية من األحاديث اجلامعة‪.‬‬
‫ن الصَّالحِ –‬
‫‪ -3‬ومن ذلك‪ :‬ما أماله اإلمامُ احلافظُ أبو عمرو ب ُ‬
‫رمحه اهلل – يف جملسٍ من جمالسه‪ ،‬ومسَّاه‪«:‬األحاديث الكلّيَّة» مجع فيه‬
‫األحاديثَ اجلوامعَ اليت يُقال‪ :‬إنَّ مدارَ الدِّين عليها‪ ،‬وما كان يف معناها‬
‫ستةٍ وعشرين‬
‫ِمنَ الكلمات اجلامعةِ الوجيزةِ‪ ،‬فاشتمل جملسهُ هذا على َّ‬
‫حديثاً‪.‬‬
‫‪ -4‬ثمَّ جاء بعده اإلمام الفقيهُ الزَّاهِدُ القُدوةُ‪ ،‬أبو زكريا حييى‬

‫‪7‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫النَّوويَّ – رمحةُ اهللِ عليهِ – فأخذَ هذه األحاديثَ – اليت أمالها ابنُ‬
‫الصَّالحِ – وزادَ عليها متامَ اثننيِ وأربعنيَ حديثاً‪ ،‬ومسى كتابه‬
‫بـ«األربعني»‪ ،‬وهي املعروفة باألربعني النووية‪ ،‬اليت اشتهرت‪ ،‬وكَثُرَ‬
‫سنِ قصدِه –‬
‫حفظُها‪ ،‬ونفع اهلل بها‪ ،‬ولعل ذلك بربكة نيَّة جامِعِها‪ ،‬وحُ ْ‬
‫رمحه اهلل»(‪.)1‬‬
‫ويف عصرنا هذا وما قبله مست همة بعض العلماء إىل التصنيف‬
‫يف هذا الباب – أيضاً – ولعل من أشهر الكتب يف هذا‪ ،‬كتابُ العالمة‬
‫عبدالرمحن بن ناصر السعدي ‪« :‬بهجة قلوب األبرار‪ ،‬وقرة عيون‬
‫األخيار‪ ،‬يف شرح جوامع األخبار»‪ ،‬فإنه انتقى من هذا الباب تسعةً‬
‫وتسعني حديثاً‪ ،‬ومل يكتف بهذا بل شرحها شرحاً موجزاً‪ ،‬سهل العبارة‪،‬‬
‫مليئ ًا بالفوائد والقواعد – كما هي عادته يف مصنفاته(‪.)2‬‬
‫ج ‪ -‬أو مبا اصطلحنا عليه‬ ‫ومل تكن العناية جبوامع كلمه‬
‫بـ«القواعد النبوية» ‪ -‬مقتصرةً على علماء الشريعة فحسب‪ ،‬بل كان‬
‫لعل ماء اإلسالم قاطبةً اهتمامٌ ظاهر بهذا النوع من األحاديث؛ يظهر‬
‫ذلك جلياً يف كتب البالغة‪ ،‬والبيان‪ ،‬واألدب‪ ،‬واليت ال يكاد خيلو كتاب‬

‫‪8‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫منها إال وينوّه مبا أوتيه نبينا ج من قدرة عظيمة على صياغة املعاني‬
‫الكثرية يف مجلٍ قصرية‪ ،‬ويضمنون كتبهم مناذج من ذلك‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يصدر كتابه «اإلعجاز‬ ‫فهذا أبو منصور الثعاليب (ت‪430 :‬هـ)‬
‫واإلجياز» ‪ -‬بعد أن ذكر مناذج من اآليات القرآنية اليت تشبه القواعد –‬
‫بذكر مناذج من الكالم النبوي املعجز يف بالغته وبيانه‪ ،‬مع قصر ألفاظه‬
‫وتراكيبه؛ فعقد لذلك ثالثة فصول‪ ،‬منها قوله يف الفصل الثالث‪« :‬فصل‬
‫يف سائر أم ثاله وروائع أقواله‪ ،‬وأحاسني حكمه يف جوامع كلمه اليت‬
‫يلوح عليها نور النبوة‪ ،‬وجتمع فوائد الدين والدنيا»(‪ ،)2‬ثم ذكر أكثر من‬
‫ثالثني منوذجاً‪.‬‬
‫وتأتي هذه «القواعد النبوية» رغبةً يف االندراج يف مسالك هؤالء‬
‫العلماء‪ ،‬والسري على طريقتهم‪ ،‬وإن مل أبلغ منزلتهم يف البذل والعلم‪،‬‬
‫ولكن على حدّ قول األول‪:‬‬
‫إن التشبّه بالكرام فالح‬
‫اجتهدتُ يف انتقاء كلماتٍ جوامع من حديثه الشريف‪ ،‬وحاولت‬
‫أن أربط هدايتها بواقعنا املعاصر‪ ،‬إذْ لكل عصرٍ مستجداته وأحداثه اليت‬

‫‪9‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫حتتاج إىل معاجلة يف ضوء الوحيني‪ :‬الكتاب والسنّة‪ ،‬لتكون املعاجلة وِفْقَ‬
‫ذلك ب رهاناً عملياً على حيوية نصوص الوحيني‪ ،‬وقدرتهما على مواكبة‬
‫أحوال الناس يف كل زمان ومكان‪ ،‬ولتكون نرباساً نهتدي يف مسرينا إىل‬
‫اهلل‪ ،‬فإمنا يراد من العلم العمل‪.‬‬
‫اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك‪ ،‬مقرّبا ملعاني سنة نبيك‬
‫ج‪ ،‬وذخراً عندك أجده حني ألقاك‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫عمر بن عبداهلل املقبل‬

‫تويرت ‪@ :‬‬

‫يف يوم السبت ‪1436/4/18‬هـ‬

‫‪10‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة األوىل‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫إمنا األعمال بالنيات‬

‫«وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل‬


‫إال أن يعلم الناس مقاصدهم يف أعماهلم‪ ،‬ويقعد‬
‫إىل التدريس يف أعمال النيات ليس إال»‪.‬‬
‫[ابن أبي مجرة]‪.‬‬

‫كان كثري من أهل العلم يفضّلون البدء بهذا احلديث العظيم – الذي‬
‫ميثّل قاعدة من أعظم قواعد اإلسالم – يف مصنّفاتهم‪ ،‬كما فعل البخاري‬
‫وغريه من األئمة؛ ألن النيب × جعله ميزاناً لألعمال الباطنة‪ ،‬كما أنه أحد‬
‫شرطي قبول العمل‪ :‬اإلخالص واملتابعة‪.‬‬
‫وليس من قبيل املبالغة أن يقال‪ :‬إن هذه القاعدة العظيمة تعيش مع‬
‫اإلنسان يف حركاته وسكناته؛ لذا كان من فقه املؤمن أن يوليها عناية بالغة‪،‬‬
‫كما كان األئمة يفعلون‪ ،‬ويعربون عن هذه احلفاوة البالغة بهذه القاعدة‬
‫بكلمات مشهورة ستأتي اإلشارة إىل بعضها‪.‬‬
‫وملا كان قبول العمل هو الغاية اليت مشّر هلا املشمرون‪ ،‬وكان‬
‫اإلخالصُ أحد ركين قبول العمل؛ كانت العناية به من أهم املهمات‪ ،‬واحلذر‬
‫من ذهابها أو ضعفها من أوجب الواجبات‪ ،‬فال شيء أعلى وال أحلى من‬
‫اإلخالص ومثراته‪ ،‬وال شيء أخوف على املؤمن من حبوط العمل إما كلياً‬

‫‪11‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أو جزئياً! وتأمل هاتني الصورتني اللتني ذكرهما القرآن عن املخلصني‬


‫واملشركني؛ ليتبني لك الفرق‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ [البقرة‪:‬‬
‫‪ ،]112‬وقال سبحانه‪ :‬ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ [الفرقان‪.]23 :‬‬
‫إذا تبني هذا‪ ،‬فمن اجلدير بنا أن نقف عند معنى النية اليت ذكرها النيب‬
‫× يف هذا احلديث‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أما النية – اليت ذكرها النيب × يف هذه القاعدة –‪ :‬فهي القصد‬
‫للعمل تقرباً إىل اهلل‪ ،‬وطلباً ملرضاته وثوابه‪ ،‬فيدخل يف هذا‪ :‬نية العمل نفسه‬
‫– صالة‪ ،‬صيام‪...‬اخل – ‪ ،‬ونية املعمول له‪ ،‬أي‪ :‬ملن عمِل اإلنسانُ عملَه‬
‫هذا؟ أهو هلل أم لغريه؟‬
‫واعلم – رزقين اهلل وإياك اإلخالص يف القول والعمل – أن النية يف‬
‫كالم العلماء تقع مبعنيني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬متييز العبادات بعضها عن بعض – كتمييز صالة الظهر من‬
‫صالة العصر مثالً‪ ،‬ومتييز رمضان من صيام غريه –‪ ،‬أو متييز العبادات من‬
‫العادات – كتمييز الغسل من اجلنابة من غسل التربد والتنظيف‪ ،‬وكمن يذبح‬
‫شاة أضحيةً أو رغبةً يف أكل حلمها‪ ،‬وحنو ذلك –‪ ،‬وهذه النية هي اليت توجد‬
‫كثرياً يف كالم الفقهاء وكتبهم‪.‬‬
‫واملعنى الثاني‪ :‬متييز املقصود بالعمل‪ :‬وهل هو هلل وحده ال شريك له‪،‬‬
‫أم هلل وغريه؟ وهذه هي النية اليت يتكلم عليها علماء الرتبية والسلوك‪ ،‬الذين‬

‫‪12‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫عنوا بالكالم على اإلخالص وتوابعه‪ ،‬وهي اليت توجد كثرياً يف كالم السلف‬
‫املتقدمني رمحهم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وهي اليت يتكرر ذكرها يف كالم النيب ×‪ ،‬تارة بلفظ النية‪ ،‬وتارة بلفظ‬
‫اإلرادة‪ ،‬وتارة بلفظ مقارب لذلك‪ ،‬وقد جاء ذكرها كثرياً يف كتاب اهلل عز‬
‫وجل بغري لفظ النية أيضاً من األلفاظ املقاربة هلا (‪.)1‬‬
‫إن احلديث عن هذه القاعدة يستحق أن يفرد مبجلدات! كيف وقد قال‬
‫بعض األئمة‪ :‬إن هذا احلديث – يعين حديث النية – هو نصف الدين؟!‬
‫ذلك أن األعمال‪ :‬إما ظاهرةٌ أو باطنة‪ ،‬فاألعمال الظاهرة دليلها‪ :‬حديث‬
‫«من عمل عمالً‪ ،)2(»...‬ودليل األعمال الباطنة هو هذه القاعدة النبوية‬
‫احملكمة‪« :‬إمنا األعمال بالنية»‪.‬‬
‫وقال اإلمام عبدالرمحن بن مهدي‪« :‬ينبغي أن جيعل هذا احلديث رأس‬
‫كل باب»(‪.)3‬‬
‫فحريٌّ بالعبد – بعد معرفة منزلة هذا احلديث العظيم والقاعدة النبوية‬
‫احملكمة – أن يستحضر هذا احلديث يف أعماله كلها؛ حبيث ينوي نية شاملة‬
‫ألموره كلها – ما يأتي منها وما يذر – فيجاهد نفسه على أن تكون هلل‬
‫وحده‪ ،‬وطلباً ملرضاته‪ ،‬واتقاء لسخطه‪.‬‬
‫وأن يروّض نفسه على عدم االلتفات للخلق‪ ،‬وال يرجو نفعهم أو‬

‫‪13‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫مدحهم‪ ،‬فإن حصل شيء من ذلك – دون قصد – مل يضره‪ ،‬بل قد يكون‬
‫من عاجل بشرى املؤمن(‪.)1‬‬
‫وهذا كلّه حيتاج من املؤمن أن يتدبر النصوص من الوحيني – الكتاب‬
‫والسنة – الواردة يف فضل اإلخالص واملخلصني‪ ،‬وأن يتأمل يف مثرات‬
‫اإلخالص يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫انظر كيف صرف اهلل الفاحشة عن نبيه يوسف عليه الصالة والسالم‬
‫بسبب إخالصه!‬
‫وتأمل كيف غفر اهلل المرأة بغيٍّ سقت كلباً(‪ )2‬ال ترجو إال اهلل!‬
‫والعجيب أن احليوان املسقي من أخبث احليوانات! واألعجب أن النيب‬
‫× مل يذكر عنها أنها عابدة وال متصدقة‪ ،‬بل مل يذكر عنها إال هذا الوصف‬
‫الذي هو أقبح ما تعاب به املرأة ‪ ..‬لكنه اإلخالص الذي نقل هذا العمل‬
‫اليسري إىل هذه املنزلة العالية من الثواب! ويف مقابل ذلك تأمل تلك األفعال‬
‫الكبرية‪ ،‬ومنها‪ :‬تطاير الرقاب عن أجسادها‪ ،‬كيف تنقلب بسوء النية إىل عملٍ‬
‫يستحق صاحبه العقوبة عليه! ولذلك ملا سُئل النيب × عن الرجل يقاتل‬
‫شجاعة‪ ،‬أو محية‪ ،‬أو ليُرى مقامُه يف صف القتال «أيّ ذلك يف سبيل اهلل»؟‬
‫فقال‪« :‬من قاتل لتكون كلمة اهلل هي العليا فهو يف سبيل اهلل»(‪.)3‬‬
‫قال ابن رجب‪« :‬واألعمال إمنا تتفاضل ويعظم ثوابها حبسب ما يقوم‬

‫‪14‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫بقلب العامل من اإلميان واإلخالص‪ ،‬حتى إن صاحب النية الصادقة –‬


‫وخصوصاً إذا اقرتن بها ما يقدر عليه من العمل – يلتحق صاحبها بالعامل‪،‬‬
‫قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [النساء‪.]100 :‬‬
‫ويف الصحيح مرفوعاً‪« :‬إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل‬
‫صحيحاً مقيماً»(‪« ، )1‬إن باملدينة أقواماً ما سرمت مسرياً‪ ،‬وال قطعتم وادياً إال‬
‫(‪)2‬‬
‫وإذا هَمَّ‬ ‫كانوا معكم – أي‪ :‬يف نياتهم وقلوبهم وثوابهم – حبسهم العُذْر»‬
‫العبد باخلري‪ ،‬ثم مل ُيقَدَّر له العمل؛ كُتِبت همتُه ونيتُه له حسنةً كاملة (‪)3‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ومما يعني على حتقيق اإلخالص‪ :‬قراءة سري املخلصني‪ ،‬فإن النفس –‬
‫بال ريب – تنشط لذكر الصاحلني‪ ،‬مع احلذر من بعض الكلمات اليت قد يقع‬
‫فيها تنقري وتدقيق يف بعض دقائق اإلخالص – توجد يف بعض كتب‬
‫السلوك– ليس عليها أثارة من علمٍ‪ ،‬وال هدى الكتاب والسنة‪ ،‬وغالبها‬
‫تصدر عن عُبّاد وزهّاد‪ ،‬ال عن علماء راسخني‪.‬‬
‫يقول مطرِّف بن عبدِاهلل رمحه اهلل‪« :‬صالحُ القلب بصالحِ العملِ‪،‬‬
‫وصالحُ العملِ بصالحِ النيَّ ِة» (‪.)4‬‬
‫وما أمجعَ ما قال داود الطَّائيّ رمحه اهلل‪ :‬رأيتُ اخلريَ كلَّه إنَّما جيمعُه‬

‫‪15‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫صبْ‪.‬‬
‫حُسْنُ النِّيَّة‪ ،‬وكفاك به خرياً وإنْ مل تَنْ َ‬
‫ال يوجد يف حياتنا عمل – مهما كانت منزلته – إال ويرتبط بهذه‬
‫القاعدة العظيمة‪« :‬إمنا األعمال بالنيات»‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬اإلحسان إىل اخللق‬
‫باملال أو القول أو الفعل؛ فإن ذلك كله مجيل وعظيم‪ ،‬وإذا اقرتنت به نية‬
‫صاحلة كان ثوابه أعظم‪ ،‬تأمل جيداً قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭼ [النساء‪:‬‬
‫‪ ،]114‬أي‪ :‬فإنه خري‪ ،‬ثم قال‪ :‬ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ [ النساء‪ ] 114 :‬فرتّب األجر العظيم على فعل‬
‫ذلك ابتغاء مرضاته‪ ،‬ويف البخاري مرفوعاً‪« :‬من أخذ أموال الناس يريد‬
‫أداءها أدّاها اهلل عنه‪ ،‬ومن أخذها يريد إتالفها أتلفه اهلل»(‪ )2‬فانظر كيف جعل‬
‫النية الصاحلة سبباً قوياً للرزق وأداء اهلل عنه‪ ،‬وجعل النية السيئة سبباً للتلف‬
‫واإلتالف!‬
‫وإذا كان هذا يف األمور املتعدية النفع؛ فإن قاعدتنا هذه «إمنا األعمال‬
‫بالنيات» جتري النية يف األمور املباحة‪ ،‬واألمور الدنيوية‪:‬‬
‫«فمن قصدَ بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية االستعانةَ بذلك على‬
‫القيام حبق اهلل وقيامه بالواجبات واملستحبات‪ ،‬واستصحَب هذه النية‬
‫الصاحلة يف أكله وشربه‪ ،‬ونومه وراحته ومكاسبه؛ انقلبت عاداته عبادات‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وبارك اهلل للعبد يف أعماله‪ ،‬وفتح له من أبواب اخلري والرزق أموراً ال‬
‫حيتسبها وال ختطر له على بال‪ ،‬ومن فاتته هذه النية الصاحلة – جلهله أو‬
‫تهاونه – فقد فاته خري كثري جداً» (‪.)1‬‬
‫وبعد‪ :‬فحقيق باملؤمن الذي يريد جناة نفسه ونفعها‪ :‬أن يفهم معنى هذه‬
‫القاعدة‪ ،‬وأن يكون العمل بها نُصب عينيه يف مجيع أحواله وأوقاته‪ ،‬وليعلم‬
‫أن بلوغ مراتب الصادقني ليست مستحيلة‪ ،‬ولكنها حتتاج إىل جهد وجماهدة‪،‬‬
‫ملاذا؟ جييب عن هذا سهلٌ بن عبداهلل التُّستَري –رمحه اهلل– إذ يقول‪« :‬ليس‬
‫ن اإلخالصِ؛ ألنَّه ليس هلا فيه نصيبٌ» (‪.)2‬‬
‫على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِ َ‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫من َأخْلَصَ خُلّص يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫اإلخالص سببٌ لقبول العمل وبركته‪ ،‬ونيل رضى اهلل‬
‫وجنته‪.‬‬
‫قَصْدُ وجهٍ واحد ـ وهو وجه اهلل تعاىل ـ أهون من مصانعة‬
‫ومُراءات وجوهٍ كثرية‪ ،‬ال ينفعون وال يضرون!‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪17‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثانية‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‬

‫«اتبعوا وال تبتدعوا فقد كفيتم»‬

‫هذه قاعدة عظيمة جامعة‪ ،‬وهي صنو القاعدة السابقة‪« :‬إمنا األعمال‬
‫بالنيات» وهلذا قال أبو عبيد القاسم بن سالم‪« :‬مجع النيب × مجيع أمر‬
‫اآلخرة يف كلمة واحدة‪« :‬من أحدث يف أمرنا ما ليس منه فهو رد» ومجع أمر‬
‫الدنيا كله يف كلمة واحدة‪« :‬إمنا األعمال بالنيات» يدخالن يف كل باب» (‪.)2‬‬
‫فهذا احلديث إذاً «قاعدة عظيمة من قواعد اإلسالم‪ ،‬وهو من جوامع‬
‫(‪)3‬‬
‫– أي يف الدين –‬ ‫كلمه ×؛ فإنه صريح يف رد كل البدع واملخرتعات»‬
‫وهو كامليزان لألعمال يف ظاهرها‪ ،‬كما أنّ حديث‪« :‬األعمال بالنيَّات» – كما‬
‫تقدم –‪« :‬ميزان لألعمال يف باطِنها» (‪.)4‬‬
‫ولعظيم ما اشتملت عليه هذه القاعدة من معاني جعلها الشاطيبُّ أحد‬
‫األصول اليت بنى عليها كتابه املشهور «االعتصام»‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وقوله‪« :‬فهو رد»‪ :‬أي مردود عليه‪ ،‬ومؤدى ذلك‪ :‬البطالن‪ ،‬وعدم‬
‫(‪)1‬‬
‫االعتداد به‪.‬‬
‫وهذه القاعدة تدل مبنطوقها ومفهومها على معانٍ جليلة‪:‬‬
‫أما منطوقها‪ :‬فإنها تدل على أن كل بدعة أُحدثت يف الدين‪ ،‬ليس هلا‬
‫أصل يف الكتاب والسنة‪ ،‬سواء كانت من البدع القولية الكالمية – كبدعة‬
‫الرفض واالعتزال وغريها – أو من البدع العملية – كالتعبد هلل بعبادات مل‬
‫يشرعها اهلل وال رسوله – فإن ذلك كله مردود على أصحابه‪ ،‬وأهله‬
‫مذمومون حبسب بدعهم وبُعدها عن الدين‪ ،‬فمن أخرب بغري ما أخرب اهلل به‬
‫ورسوله‪ ،‬أو تعبد بشيء مل يأذن اهلل به ورسوله ومل يشرعه فهو مبتدع‪ ،‬ومن‬
‫حرم املباحات‪ ،‬أو تعبد بغري الشرعيات فهو مبتدع(‪.)2‬‬
‫وأما مفهوم هذه القاعدة‪ :‬فإن من عمل عمالً عليه أمر اهلل ورسوله –‬
‫وهو التعبد هلل بالعقائد الصحيحة‪ ،‬واألعمال الصاحلة‪ :‬من واجب ومستحب‬
‫– فعمله مقبول‪ ،‬وسعيه مشكور‪.‬‬
‫ويستدل بهذه القاعدة على أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬كل عبادة فُعلت على وجهٍ منهي عنه فإنها فاسدة؛ ألنه ليس‬

‫«‬

‫»‬

‫‪19‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫عليها أمر الشارع‪ ،‬وأن النهي يقتضي الفساد‪ ،‬وكل معاملة نهى الشارع عنها‬
‫(‪)1‬‬
‫فإنها الغية ال يعتد بها‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬يدخل يف قوله‪« :‬ما ليس منه» قسمان‪ :‬العبادات‪ ،‬واملعامالت‪:‬‬
‫فأما العبادات‪ :‬فما كان منها خارجاً عن حكم اهلل ورسوله بالكلية فهو‬
‫مردود على عامله‪ ،‬وعامله يدخل حتت قوله‪ :‬ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [الشورى‪.]21 :‬‬
‫فمن تقرَّب إىل اهلل بعمل مل جيعله اهلل ورسولُه قربة إىل اهلل؛ فعمله‬
‫باطلٌ مردودٌ عليه‪ ،‬وهو شبيهٌ حبالِ الذين كانت صالتُهم عندَ البيت مُكاء‬
‫وتصدية‪ ،‬وهذا كمن تقرَّب إىل اهلل تعاىل بسماع املالهي‪ ،‬أو بالرَّقص‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك من احملدثات اليت مل يشرع اهلل ورسولُه التقرُّب بها بالكلية‪.‬‬
‫وكذلك‪ :‬من تقرَّب بعبادة ُنهِيَ عنها خبصوصها‪ ،‬كمن صامَ يومَ العيد‪،‬‬
‫أو صلَّى يف وقت النهي‪.‬‬
‫وأمَّا من عمل عمالً أصلُه مشروعٌ وقربةٌ‪ ،‬ثم أدخلَ فيه ما ليس مبشروع‪ ،‬أو‬
‫أخلَّ فيه مبشروع؛ فهذا خمالفٌ أيضاً للشريعة بقدر إخالله مبا أخلَّ به‪ ،‬أو‬
‫إدخاله ما أدخلَ فيه‪ ،‬وهل يكونُ عملُه من أصله مردوداً عليه أم ال؟ فهذا ال‬
‫يُطلق القولُ فيه بردٍّ وال قَبولٍ‪ ،‬وفيه تفصيل ليس هذا موضعه‪.‬‬
‫وأمَّا املعامالت‪ :‬كالعقود والفسوخ وحنوهما‪:‬‬
‫فما كان منها تغيرياً لألوضاع الشرعية‪ ،‬كجعل حدِّ الزِّنى عقوبةً مالية‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وما أشبه ذلك؛ فإنَّه مردودٌ من أصله‪ ،‬وما كان منها عقداً منهياً عنه يف‬
‫الشرع‪ ،‬إما لكون املعقود عليه ليس حمالً للعقد‪ ،‬أو لفوات شرطٍ فيه‪ ،‬أو‬
‫صلُ به للمعقود معه أو عليه؛ ففي ذلك تفاصيل تطلب يف‬
‫لظلم حي ُ‬
‫مظانها(‪.)2())1‬‬
‫ثالثاً‪ :‬عبّر عن «الدين» بـ«األمر» تنبيهاً على أن هذا الدين هو أمرنا الذي‬
‫نهتم له ونشتغل به‪ ،‬حبيث ال خيلو عنه شيء من أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا(‪.)3‬‬
‫رابعاً‪ :‬أن قوله‪« :‬يف أمرنا» دليل على أن احملدثات يف األمور الدنيوية‬
‫غري داخلةٍ يف حدّ البدعة‪ ،‬بل هي من األمور املباحة يف أصلها‪ ،‬وهلذا قبل‬
‫النيب × رأي سلمان الفارسي س يف حفر اخلندق‪ ،‬وأحدث الفاروق س‬
‫ديوان اجلند الذي تسجل فيه أمساؤهم‪ ،‬واتفق السلف على جواز كتابة‬
‫احلديث – بعد اختالف قديم ثم انقرض – من أجل حفظ السنة والشريعة‬
‫بعامة‪ ،‬إىل غري ذلك من الوقائع اليت ال تكاد حتصر‪.‬‬
‫ومن تأمل يف اإلحداث يف الدين وجد أنه ينطوي على مفاسد كثرية‪،‬‬
‫منها‪:‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪21‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أوالً‪ :‬أن يف االبتداع يف الدين نوعاً من االستدراك على صاحب‬


‫الشرع؛ فإن اهلل تعاىل قضى وامنتّ على عباده بإكمال الدين بقوله‪ :‬ﭽ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﭼ [املائدة‪:‬‬
‫‪ ،]3‬وليس بعد الكمال إال النقص‪ ،‬فمن أحدثَ يف الدين واخرتع للناس‬
‫عبادةً جديدة‪ ،‬فكأنه يقول بلسان حاله‪ :‬إن الدين غري كامل! وهذا وإن مل يَدُرْ‬
‫خبلد مسلم‪ ،‬إال أن هذا مؤداه يف احلقيقة‪.‬‬
‫وهلل در اإلمام مالك يوم قال‪ :‬ومن أحدث يف هذه األمة شيئاً مل يكن‬
‫عليه سلفها فقد زعم أن رسول اهلل × خان الدين! ألن اهلل تعاىل يقول‪:‬‬
‫ﭽﭻ ﭼ ﭽﭾﭼ فما مل يكن يومئذ ديناً ال يكون اليوم ديناً(‪.)1‬‬
‫وهلذا قال عليه الصالة والسالم قوالً قطع به كل استثناء يتوهمه أحدٌ‬
‫يف هذا الباب‪ ،‬كما يف الصحيح من حديث جابر‪« :‬كل بدعة ضاللة» (‪ ،)2‬فلم‬
‫يستثن شيئاً‪ ،‬و(كل) – كما هو مقرر يف األصول – من أقوى وأصرح صيغ‬
‫العموم‪ ،‬وبه يتبني أن تقسيمَ بعضِ العلماء البدعَ إىل بدعة حسنة‪ ،‬أو‬
‫مستحبة‪ ،‬أو مباحة‪...‬إخل‪ ،‬أنه تقسيم مردود بهذا العموم الشامل‪ ،‬ويقال‪ :‬ما‬
‫دلت األدلة على مشروعيته فهو مشروع بذاته‪ ،‬وتشرع – تبعاً لذلك –‬
‫الوسائل اليت تعني على حتقيقه‪ ،‬بشرط أن ال يكون يف تلك الوسائل خمالفة‬
‫شرعية؛ كمن يتوصل إىل الصدقة بسرقة أموال الناس!‬
‫ثانياً‪ :‬لو فُتِحَ الباب لكل أحدٍ أعجبته عبادةٌ من العبادات أن يشرّعها‬
‫للناس وحيثهم عليها؛ مل يصبح لبالغ النيب × قيمة‪ ،‬ولصار التعبد هلل تعاىل‬

‫«‬ ‫«‬

‫‪22‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫حلمّل العباد آصاراً‬


‫ملفقاً من أقوال الرجال الذين يقع منهم اخلطأ والغلط‪ ،‬و ُ‬
‫من العبادات مل يأذن بها اهلل‪ ،‬وللحقهم من احلرج شيء عظيم! وهذا مشاهد‬
‫ومعلوم من أحوال اجملتمعات اليت فشت فيها البدع‪.‬‬
‫بل إن الناس بهذا سيُ ْنقَلون من باب التأسي بالنيب × إىل اتباع أهواء‬
‫الناس؛ ألنه «ما من بدعة إال وللهوى فيها مدخل؛ ألنها راجعة إىل نظر‬
‫خمرتعها ال إىل نظر الشارع» (‪.)1‬‬
‫وبه نعلم أن إغالق باب االجتهاد يف العبادات رمحةٌ من اهلل تعاىل‬
‫بعباده؛ ليكون تعبدهم متصالً بالسند األعلى حممدٍ ×‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬أن املالحظ واملشاهد‪ ،‬أنه ما من بدعةٍ تفشو إال صارت سبباً يف‬
‫طمس سنة من السنن أو خفائها؛ ذلك أن العبادة إما أن تكون وفق السنة‬
‫وإال خرجت عنها إىل حد البدعة‪ ،‬سواء بقصد أم بغري قصد‪.‬‬
‫يقول حسان بن عطية‪« :‬ما أحدث قوم بدعة يف دينهم؛ إال نزع اهلل من‬
‫سنتهم مثلها‪ ،‬ثم مل يعدها إليهم إىل يوم القيامة» (‪ ،)2‬واآلثار يف هذا الباب‬
‫كثرية(‪.)3‬‬
‫ومن تأمل يف واقع بعض اجملتمعات اإلسالمية اليت فشت فيها بعض‬
‫البدع تيقن هذه احلقيقة‪ ،‬فحني يفشو التوسل احملرم أو الشركي يضعف‬
‫التوحيد‪ ،‬وحني تنتشر األذكار املبتدعة ختتفي األذكار الشرعية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬واهلل‬
‫املستعان‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫واخلالصة‪« :‬أن من أحدث يف اإلسالم رأياً مل يكن له من الكتاب‬


‫والسنة سندٌ ظاهر أو خفي‪ ،‬ملفوظ أو مستنبط؛ فهو مردود عليه‪ ،‬واملراد أن‬
‫ذلك األمر واجب الرد‪ ،‬جيب على الناس رده‪ ،‬وال جيوز ألحد اتباعه‬
‫والتقليد فيه» (‪.)1‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫االبتداع إمنا هو يف أمور الدين ال يف الدنيا‪.‬‬
‫املبتدع يف حقيقته مستدرك على الشريعة اليت كمّلها اهلل‪.‬‬
‫إغالق باب البدع من مظاهر الرمحة باألمة حتى ال تشتت بني‬
‫آراء الرجال‪.‬‬
‫ظهور البدع مؤذن خبفاء السنن‪ ،‬وظهور السنن خيفي البدع‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثالثة‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫الدين النصيحة‬

‫«وال نعرف يف أبواب العلم حديثاً أمجع يف‬


‫األشياء كلها من هذا احلديث‪ ،‬وال أحسن‬
‫سناً‪ ،‬وال بطريق‬
‫يف أعمال الرب كلها حُ ْ‬
‫الصاحلني أشد اتباعاً من هذا احلديث»‪.‬‬
‫(احلارث احملاسيب)‪.‬‬

‫تأتي هذه القاعدة النبوية العظيمة يف سياق ينبئ عن أهميتها‪ ،‬حني‬


‫كررها النيب × ثالث مرات فقال‪« :‬الدين النصيحة‪ ،‬الدين النصيحة‪ ،‬الدين‬
‫(‪)2‬‬
‫وهو أسلوب يلقي يف روع السامع أهميةً أكرب‪ ،‬وإال فكل‬ ‫النصيحة»‬
‫حديثه × مهم‪ ،‬إال أن هذا التكرار يشي مبزيد من االهتمام والتنبيه لألمة أن‬
‫يعلموا حق العلم أن الدين كله – ظاهره وباطنه – منحصر يف النصيحة!‬
‫وهي القيام التام بهذه احلقوق اخلمسة‪« :‬هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة‬
‫املسلمني وعامتهم»‪.‬‬
‫والنصيحة – كما يقول اخلطابي‪« :‬كلمة جامعة‪ ،‬معناها حيازة احلظ‬
‫للمنصوح له‪ ،‬وهي من وجيز الكالم‪ ،‬بل ليس يف الكالم كلمة مفردة‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪25‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة‪ ،‬وهذا احلديث من األحاديث اليت‬
‫قيل فيها أنها أحد أرباع الدين‪ ،‬قال النووي‪ :‬بل هو وحده حمصل لغرض‬
‫الدين كله! ألنه منحصر يف األمور اليت ذكرها» (‪.)1‬‬
‫وبعد هذا البيان ملعنى هذه الكلمة العظيمة‪ ،‬لننظر يف تطبيق ذلك على‬
‫اخلمسة اليت خصها النيب × بالذكر‪:‬‬
‫فالنصيحة هلل‪ :‬االعرتاف بوحدانية اهلل‪ ،‬وتفرده بصفات الكمال على‬
‫وجه ال يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه‪ ،‬والقيام بعبوديته ظاهراً‬
‫وباطناً‪ ،‬واإلنابة إليه كل وقت بالعبودية‪ ،‬والطلب رغبة ورهبة مع التوبة‬
‫واالستغفار الدائم؛ ألن العبد ال بد له من التقصري يف شيء من واجبات اهلل‪،‬‬
‫أو التجرؤ على بعض احملرمات‪ ،‬وبالتوبة املالزمة واالستغفار التام ينجرب‬
‫نقصه‪ ،‬ويتم عمله وقوله(‪.)2‬‬
‫وأما النصيحة لكتاب اهلل‪ :‬فبحفظه وتدبره‪ ،‬وتعلم ألفاظه ومعانيه‪،‬‬
‫واالجتهاد يف العمل به يف نفسه ويف غريه‪.‬‬
‫وأما النصيحة للرسول‪ :‬فهي اإلميان به وحمبته‪ ،‬وتقدميه فيها على‬
‫النفس واملال والولد‪ ،‬واتباعه يف أصول الدين وفروعه‪ ،‬وتقديم قوله على‬
‫قول كل أحد‪ ،‬واالجتهاد يف االهتداء بهديه‪ ،‬والنصر لدينه‪.‬‬
‫وأما النصيحة ألئمة املسلمني – وهم والتهم‪ ،‬من اإلمام األعظم إىل‬
‫األمراء والقضاة إىل مجيع من هلم والية عامة أو خاصة –‪ :‬فباعتقاد واليتهم‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫والسمع والطاعة هلم‪ ،‬وحث الناس على ذلك‪ ،‬وبذل ما يستطيعه من‬
‫إرشادهم‪ ،‬وتنبيههم إىل كل ما ينفعهم وينفع الناس‪ ،‬وإىل القيام بواجبهم‪.‬‬
‫وأما النصيحة لعامة املسلمني‪ :‬فبأن حيب هلم ما حيب لنفسه‪ ،‬ويكره هلم‬
‫ما يكره لنفسه‪ ،‬ويسعى يف ذلك حبسب اإلمكان؛ فإن من أحبَّ شيئاً سعى له‬
‫(‪)1‬‬
‫واجتهد يف حتقيقه وتكميله‪.‬‬
‫ومما يؤكد موقع هذه القاعدة يف قلب املؤمن أن النيب × كان إذا بايع‬
‫أحداً من أصحابه بايعه على أركان اإلسالم الكبار‪ ،‬وعلى النصح لكل‬
‫مسلم‪ ،‬كما يف حديث جرير س قال‪« :‬بايعت رسول اهلل × على إقام‬
‫الصالة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» (‪.)2‬‬
‫ويدخل يف معنى ما سبق ذكره‪ :‬ما ذكره شيخ اإلسالم – رمحه اهلل –‪:‬‬
‫«نصح الرجل فيمن يعامله‪ ،‬ومن يوكّله ويوصي إليه‪ ،‬ومن يستشهده‪ ،‬بل‬
‫ومن يتحاكم إليه‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬وإذا كان هذا يف مصلحة خاصة فكيف‬
‫بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم املسلمني‪ :‬من األمراء واحلكام والشهود‬
‫والعمال – أهل الديوان وغريهم –! فال ريب أن النصح يف ذلك أعظم» (‪.)3‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪27‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫إن من أشرف العاملني بهذه القاعدة اجلليلة هم‪ :‬اآلمرون باملعروف‬


‫والناهون عن املنكر‪ ،‬وما أحقهم بوصف شيخ اإلسالم إذ يقول عنهم أنهم‪:‬‬
‫«أطِبَّاءُ األديان‪ ،‬الذين تُشفَى بهم القلوب املريضة‪ ،‬وتهتدي بهم القلوب‬
‫الضالة‪ ،‬وترشُدُ بهم القلوبُ الغاوية‪ ،‬وتستقيم بهم القلوبُ الزائغة‪ ،‬وهم‬
‫أعالمُ اهلدى ومصابيح الدُّجى» (‪.)1‬‬
‫والنيب ‪ ‬فسَّر النصيحة بهذه األمور اخلمسة اليت تشمل القيام حبقوق‬
‫اهلل‪ ،‬وحقوق كتابه‪ ،‬وحقوق رسوله‪ ،‬وحقوق مجيع املسلمني على اختالف‬
‫أحواهلم وطبقاتهم؛ فشمل ذلك الدين كله‪ ،‬ومل يبق منه شيء إال دخل يف‬
‫هذا الكالم اجلامع احمليط‪.‬‬
‫وإذا تقررت أهمية النصيحة ومنزلتها يف الدين‪ ،‬ومشول معناها؛ فمن‬
‫التوفيق للعبد أن يسلك يف نصحه السبيل األوفق‪ ،‬مراعياً يف ذلك احلكمة‪:‬‬
‫زماناً‪ ،‬ومكاناً‪ ،‬وحاالً‪.‬‬
‫فاخلطاب الذي يوجه للعلماء واألمراء وعموم األكابر ليس كالذي‬
‫يوجّه لعامة الناس‪ ،‬واألسلوب الذي خياطب به الوالدان ليس كاألسلوب‬
‫الذي خياطب به غريهما‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫قال اإلمام مِسْعرُ بن كِدام‪ :‬رحم اهلل من أهدى إليّ عيوبي يف سر بيين‬
‫وبينه؛ فإن النصيحة يف املأل تقريع(‪.)2‬‬
‫ومن النصح أن يُرشَدَ املستنصح ملا يناسبه وينفعه‪ ،‬وإن كان هذا‬
‫التوجيه قد ال يناسب شخصاً آخر يستنصح يف ذات املوضوع؛ كما لو سأل‬

‫‪28‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫طالب مبتدئ يف العلم عن الكتب املناسبة له‪ ،‬فال يصلح أن يكون اجلواب‬
‫ذاته يوجّه للمتوسط أو املتقدم يف طريق الطلب(‪.)1‬‬
‫ومثة معنىً دقيق يندرج حتت هذه القاعدة العظيمة «الدين النصيحة»‬
‫وهي‪ :‬التثبيت على اخلري‪ ،‬وحثّ صاحبه أن يزداد منه‪ ،‬فإن كثرياً من الناس‬
‫ينحصر مفهوم النصيحة عنده يف التنبيه على اخلطأ! قال حامت األصم‪:‬‬
‫النصيحة للخلق‪ :‬إذا رأيت إنساناً يف احلسنة أن حتثه عليها‪ ،‬وإذا رأيته يف‬
‫معصية أن ترمحه(‪.)2‬‬
‫ومن املهم – لتكون النصيحة مؤثرة ونافعة – أن يستحضر الناصح‬
‫صدق النية‪ ،‬ونفع املنصوح‪ ،‬ال التشفي أو الفرح باخلطأ‪ ،‬قال اإلمام‬
‫الشافعي‪ :‬ما ناظرت أحداً إال على النصيحة‪.‬‬
‫إن من احملزن أن يرى املؤمن يف واقع كثريٍ من املسلمني خرقاً كثرياً‬
‫ملضمون هذه القاعدة! ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ )1‬يف البيوع‪ ،‬وعموم املعامالت‪.‬‬
‫‪ )2‬يف األمور االجتماعية‪ ،‬وخاصة ما خيص الزواج‪ ،‬فكم حصل‬
‫بسبب اإلخالل بهذا األصل العظيم «الدين النصيحة« من مآسٍ‬
‫وآالم جترعها أحد الطرفني‪ ،‬بسبب اجملاملة اليت حتمل على كتم‬
‫العيوب‪ ،‬وعدم النصح يف اخلاطب أو املخطوبة!‬
‫‪ )3‬املوظفون يف الدوائر احلكومية‪ ،‬فيقع من عدد غري قليل تقصري‪،‬‬
‫وعدم نصح يف أداء الوظيفة‪ ،‬وهم الذين ائتمنوا عليها من قبل‬

‫‪29‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫احلكومة‪ ،‬ويأخذون عليها أجراً! كالتقصري يف احلضور‬


‫واالنصراف‪ ،‬أو أداء العمل‪ ،‬أو مراعاة الناس حسب املصاحل‬
‫اخلاصة‪.‬‬
‫‪ُ )4‬مالّكُ بعض القنوات الفضائية اليت تبث من املواد املفسدة للدين‬
‫واألخالق‪ ،‬وتستورد ما أنتجه الغرب وتبثه بني املسلمني! وكم‬
‫شاهد الناس من آثار هذا الغش وعدم النصح‪ ،‬من قلة احلياء‪،‬‬
‫واجلرأة على حدود اهلل! نعوذ باهلل تعاىل من الغش وأهله‪.‬‬
‫يقول احلافظ الذهيب‪« :‬فتأمل هذه الكلمة اجلامعة‪ ،‬فمن مل ينصح هلل‬
‫ت‪ :‬يا ناقص الدين‬
‫ولألئمة وللعامة كان ناقص الدين‪ ،‬وأنت لو دُ ِعيْ َ‬
‫لغضبت! » (‪.)1‬‬
‫اللهم اجعلنا من عبادك املتناصحني لك وفيك‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫النصيحة مبعناها الشامل هي الدين كله‪.‬‬
‫النصيحة ال تقتصر على بيان األخطاء‪ ،‬بل تشمل التثبيت والتشجيع‬
‫على اخلري‪.‬‬
‫من املهم – عند النصح – مراعاة حال املنصوح‪ ،‬والوقت والزمان!‬

‫‪30‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الرابعة‪:‬‬


‫احلالل ب ّين واحلرام بيّن‬

‫«إمنا الورع يف املشتبهات‪ ،‬وأما الكبائر‬


‫فكل أحد يتقيها»‪.‬‬
‫(أشهب بن عبدالعزيز)‪.‬‬

‫هذه قاعدة نبوية حمكمة‪ ،‬وردت يف ثنايا حديث النعمان بن بشري رضي‬
‫اهلل عنهما قال‪ :‬مسعت رسول اهلل ج‪ ،‬يقول – وأهوى النعمان بإصبعيه إىل‬
‫أذنيه –‪« :‬إن احلالل بني‪ ،‬وإن احلرام بني‪ ،‬وبينهما مشتبهات ال يعلمهن كثري‬
‫من الناس‪ ،‬فمن اتقى الشبهات استربأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع يف الشبهات‬
‫وقع يف احلرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول احلمى يوشك أن يرتع فيه‪ ،‬أال وإن‬
‫لكل مَ ِلك حِمى‪ ،‬أال وإن حِمى اهلل حمارمُه‪ ،‬أال وإن يف اجلسد مضغة‪ ،‬إذا‬
‫صلحت صلح اجلسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد اجلسد كله‪ ،‬أال وهي‬
‫القلب»(‪.)1‬‬
‫ما أمجل وقع هذه القاعدة على األذن!‬
‫فهي بديعة يف سبكها اللغوي‪ ،‬وأكثر مجاالً يف سعة مدلوهلا الشرعي‪،‬‬
‫فهي«من أمجع القواعد للمعاني الكثرية؛ والشتماهلا على جل األحكام‬

‫‪31‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الشرعية‪ :‬فإن احلالل واحلرام إما أن يكون احلكم فيهما بيّناً ال خالف فيه بني‬
‫العلماء‪ ،‬وإما أن يكون خافياً تتجاذبه وجوه التأويالت‪ ،‬فكل منهم يذهب‬
‫فيه مذهباً» (‪.)1‬‬
‫«قال املهلب رمحه اهلل‪ :‬الوسائط التى بني احلالل واحلرام حيتف بها‬
‫أصالن من كل الطرفني‪ ،‬فأيهما قام الدليل عليه أضيفت الوسيطة إليه‪ ،‬وقد‬
‫يقوم دليالن من الطرفني فيقع االشتباه‪ ،‬ويعسر الرتجيح؛ فهذه الذي من‬
‫َّاتقَاها‪« :‬استربأ لدينه وعرضه» كما قال ×» (‪.)2‬‬
‫إن هلذه القاعدة النبوية احملكمة دالالت مهمة‪ ،‬حنتاجها يف واقعنا‬
‫العلمي والعملي‪ ،‬أذكر منها بإجياز‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬أن هذه القاعدة قسّمت – وبوضوح ال حيتاج معه إىل تفسري –‬
‫األحكامَ الشرعية املتعلقة باحلالل واحلرام – من حيث وضوحها وخفائها –‬
‫إىل قسمني ال ثالث هلما‪ ،‬وهذا التقسيم ليس جمرد خرب علمي يتوقف عنده‬
‫املكلّف! وإمنا يراد أن يستفيد منه يف حياته العملية‪ ،‬فاحلالل البيّن ال جيوز‬
‫التورع عنه‪ ،‬وال مينع الناس عنه‪ ،‬واحلرام البني ال جيوز اإلقدام عليه‪ ،‬وتبقى‬
‫املنطقة املتوسطة بينهما – منطقة املشتبهات – هي اليت حتتاج إىل وقفة أخرى‬
‫كما سيأتي بعد قليل‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ثانياً‪ :‬ما ضابط احلالل البيّن؟ وما ضابط احلرام البني؟ وما ضابط‬
‫املشتبه؟‬

‫قال أهل العلم‪:‬‬


‫احلالل البيّن‪ :‬هو الذي ال خيتلف العلماء يف حلّه اختالفاً معترباً‪ ،‬كحِلِّ‬
‫املاء واخلبز والنكاح والبيع والشراء‪ ،‬واللباس‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫وأما احلرام البني‪ :‬فهو الذي ال ختتلف كلمة العلماء يف حترميه اختالفاً‬
‫معترباً‪ ،‬كتحريم اخلمر‪ ،‬والزنا‪ ،‬والربا‪ ،‬وامليسر‪ ،‬وامليتة‪ ،‬وقطيعة الرحم‪ ،‬وترك‬
‫الصالة‪ ،‬ومنع الزكاة وحنو ذلك‪.‬‬
‫وأما املشتبه‪ :‬فهو الذي يقع فيه خالف معترب بني العلماء يف حله‬
‫وحرمته‪ ،‬أو يكون فيه شبهة معتربة شرعاً يف حلّه وحرمته‪ ،‬كما يقع يف بعض‬
‫املكاسب اليت يتعاطها الناس؛ كاملساهمة يف الشركات املختلطة‪ ،‬وحنو ذلك‬
‫من املعامالت اليت يتجاذبها أصل حتليل وأصل حتريم‪ ،‬ومثل‪ :‬شرب أو أكل‬
‫ما اختلف يف حلّه وحرمته من املطعومات واملشروبات‪ ،‬ومثل بعض صور‬
‫األنكحة املختلف فيها‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬يف قوله ×‪« :‬وبينهما مشتبهات» ينبغي أن ُيعْلم أن هذا االشتباه‬
‫ليس يف أصل الدليل الشرعي‪ ،‬بل هو بالنسبة إىل الناظر يف األدلّة – وهو‬
‫العامل اجملتهد – وإال فال ميكن أن يوجد حكم شرعيٌ يشتبه على مجيع‬
‫العلماء! إذ هذا خالف البيان الذي ذكره اهلل يف قوله سبحانه عن نبيه ×‪:‬‬
‫ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭼ [النحل– ‪« ،]44‬وإمنا‬
‫تشتبه على بعض الناس دون بعض؛ فإن اهلل سبحانه مل يرتك شيئاً جيب له فيه‬
‫حكم إال وقد جعل فيه له بياناً‪ ،‬ونصب عليه دليالً‪ ،‬ولكن البيان ضربان‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بيان جلي يعرفه عامة الناس‪ ،‬وخفي ال يعرفه إال اخلاص من العلماء‪،‬‬
‫والدليل على صحة هذا قوله عليه السالم‪« :‬ال يعلمها كثري من الناس» وقد‬
‫عُقل ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها‪ ،‬وإن كانوا قليل العدد‪ ،‬وإذا صار‬
‫(‪)1‬‬
‫معلوماً عند بعضهم فليس مبشتبه يف نفسه»‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬قوله × – يف حق ترك املشتبهات –‪« :‬فقد استربأ لدينه‬
‫وعرضه» دليل بل أصلٌ كبري يف طلب الرباءة للدين والعِرض‪ ،‬الذي قد‬
‫يلحقه طعنٌ فيهما بسبب تقحّمه ملوارد الشُبه!‬
‫تأمل ماذا صنع نبيك × حينما أراد أن يقلب زوجته (‪ )2‬صفية رضي‬
‫اهلل عنها – حني زارته يف معتكفه – ورآه رجالن فأسرعا؟ قال‪« :‬على‬
‫رسلكما إنها صفية»! مع أنه × معصوم‪ ،‬لكنه علّل هذا للرجلني بقوله‪« :‬إن‬
‫الشيطان جيري من اإلنسان جمرى الدم‪ ،‬وإني خشيت أن يقذف يف قلوبكما‬
‫شراً» أو قال‪« :‬شيئاً»(‪ ،)3‬فهذا تطبيق عملي لالسترباء للعرض‪.‬‬
‫وأما االسترباء للدين فأمثلته ال حتصى‪ ،‬أكتفي من ذلك مبوقفني‪:‬‬
‫‪ -1‬تُحدثنا أمنا عائشة – رضي اهلل عنها – عن أبيها أبي بكر –‬
‫رضي اهلل عنه – فتقول‪« :‬كان ألبي بكر غالم يُخرج له اخلراج‪،‬‬
‫وكان أبو بكر يأكل من خراجه‪ ،‬فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو‬
‫بكر‪ ،‬فقال له الغالم‪ :‬أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر‪ :‬وما هو؟‬
‫قال‪ :‬كنت تكهنت إلنسان يف اجلاهلية وما أُحسن الكهانة‪ ،‬إال أني‬

‫‪34‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫خدعته! فلقيين فأعطاني بذلك‪ ،‬فهذا الذي أكلتَ منه‪ ،‬فأدخل أبو‬
‫بكر يده فقاء كل شيء يف بطنه!» (‪.)1‬‬
‫‪ -2‬واشرتى اإلمامُ اجلليل حممد بن سريين – أحد أجالء التابعني‬
‫(ت‪ – )110 :‬زيتاً كثرياً للتجارة‪ ،‬فسقطت فيه فأرة‪ ،‬فخشي أن‬
‫يكون سقوط هذه الفأرة قد أفسد بقية الزيت‪ ،‬فأراقه كله‪،‬‬
‫س بسبب دَين ركبه من شراء هذا الزيت!‬
‫فحُِب َ‬
‫ومبثل هذه املواقف رفع اهلل منزلة هؤالء األئمة –رمحهم اهلل–‪ ،‬فأين‬
‫هؤالء ممن يأكل احلرام الصريح من ربا أو رشوة أو ميسر وال يبالي؟! ثم‬
‫يتعجب بعد ذلك من قسوة قلبه ونزع الربكة من ماله!‬
‫رابعاً‪ :‬من املهم جداً – وحنن نتحدث عن الورع – أن نذكر ضابطه؛‬
‫حتى ال خيتل امليزان‪ ،‬ومن أحسن من وقفتُ على كالمٍ له يف هذا شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية –رمحه اهلل–‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫«الورع املشروع هو الورع عما قد ختاف عاقبته؛ وهو ما يُعلم حترميه‪،‬‬
‫وما يشك يف حترميه وليس يف تركه مفسدة أعظم من فعله –مثل حمرم معني–‪،‬‬
‫مثل‪ :‬من يرتك أخذ الشبهة ورعاً مع حاجته إليها‪ ،‬ويأخذ بدل ذلك حمرماً بيّناً‬
‫حترميه! أو يرتك واجباً تركه أعظم فساداً من فعله مع الشبهة‪ ،‬كمن يكون‬
‫على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها‪ ،‬وليس له وفاءٌ إال من مال فيه شبهة‪،‬‬
‫فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة!‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪35‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وكذلك من «الورع»‪ :‬االحتياط بفعل ما يشك يف وجوبه‪ ،‬لكن على‬


‫هذا الوجه‪.‬‬
‫ومتام «الورع»‪ :‬أن يعلم اإلنسانُ خريَ اخلريين وشرَّ الشرين‪ ،‬ويعلم أن‬
‫الشريعة مبناها على حتصيل املصاحل وتكميلها‪ ،‬وتعطيل املفاسد وتقليلها‪،‬‬
‫وإال فمن مل يوازن ما يف الفعل والرتك من املصلحة الشرعية واملفسدة‬
‫الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل حمرمات‪ ،‬ويرى ذلك من الورع! كمن يدع‬
‫اجلهادَ مع األمراء الظلمة‪ ،‬ويرى ذلك ورعاً! ويدع اجلمعة واجلماعة خلف‬
‫(‪)1‬‬
‫األئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع!‪ »...‬إخل‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬ما احلكمة من الوصية برتك املشتبهات وهي ليست حراماً‬
‫حمضاً؟‬
‫واجلواب‪« :‬ألن مَنْ مل يُعرف باجتناب الشبهات مل يسلم لقول من‬
‫يطعن فيه‪ ،‬ويف هذا إشارة إىل احملافظة على أمور الدين‪ ،‬ومراعاة املروءة» (‪.)2‬‬
‫فتبني مبا سبق أن «هذا احلديث أصلٌ فى القول حبماية الذرائع» (‪.)3‬‬
‫وأخرياً‪ ،‬فلنختم حديثنا عن هذه القاعدة النبوية احملكمة ببعض أقوال‬
‫السلف اليت تبيّن عظيم منزلة الورع يف نفوسهم‪ ،‬وتبني وتكشف أن هؤالء‬
‫القوم –رضي اهلل عنهم– إمنا قالوا ما قالوا عن جتربة وتطبيق عملي؛ لذا‬
‫بارك اهلل يف أقواهلم‪ ،‬وصار هلا األثر الكبري فيمن جاء بعدهم‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫‪ -1‬روي عن ابن عمر قال‪ :‬إني ألحب أن أدع بيين وبني احلرام سرتة‬
‫من احلالل ال أخرقها‪.‬‬
‫‪ -2‬وقال احلسن‪ :‬مازالت التقوى باملتقني حتى تركوا كثرياً من‬
‫احلالل؛ خمافة احلرام‪.‬‬
‫‪ –3‬وقال سفيان بن عيينة‪ :‬ال يصيب عبد حقيقة اإلميان حتى جيعل‬
‫بينه وبني احلرام حاجزاً من احلالل‪ ،‬وحتى يدع اإلثم وما تشابه منه(‪.)1‬‬
‫أال ما أحوج األمة إىل أئمة يف الورع مع تنامي وكثرة موارد الشبه؛‬
‫ليقتدي بهم الناس‪ ،‬ولريوا مجيل أفعاهلم‪ ،‬كما مسعوا اجلميل من أقواهلم‪.‬‬
‫اللهم إنا نسألك علماً نافعاً‪ ،‬وعمالً صاحلاً‪ ،‬ورزقا طيباً ال شبهة فيه‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫األحكام يف الشريعة ال خترج عن هذه القسمة الثالثية‪ :‬حالل بيّن‪ ،‬وحرام‬
‫بيّن‪ ،‬وأمور مشتبهة ‪ -‬وهي األقل‪.‬‬
‫وجود االشتباه هو نوع من االبتالء؛ لرتبية األمة على الورع‪.‬‬
‫ال ميكن أن تكون املسائل مشتبهة على كل علماء األمة‪ ،‬بل هذا يقع‬
‫لبعض أهل العلم‪.‬‬
‫على العاقل أن يتجنب مواضع الشبهات‪ ،‬وال يعتمد على ثقة الناس به‪.‬‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪37‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة‪:‬‬


‫من يرد اهلل به خرياً يفقهه يف الدين‬

‫«الفقيهُ حقَّ الفقه هو من مل يُ َقنّط الناس‬


‫من رمحة اهلل‪ ،‬ومل يرخص هلم يف معاصي‬
‫اهلل‪ ،‬ومل يؤمنهم مكر اهلل»‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫(أمري املؤمنني علي‬

‫هذه القاعدة النبوية قطعة من حديث أخرجه الشيخان من حديث‬


‫معاوية – رضي اهلل عنه – وحدّث به على منرب النيب × أنه مسعه يقول‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يف الدين‪ ،‬وال تزال عصابة من املسلمني‬ ‫«من يرد اهلل به خرياً يفقهه‬
‫يقاتلون على احلق ظاهرين على من ناوأهم‪ ،‬إىل يوم القيامة»(‪.)2‬‬
‫ولبيان سعة مدلول هذه القاعدة النبوية احملكمة تأمل معي هذه القصة‪:‬‬
‫كان الوزير ابن هبرية احلنبلي – رمحه اهلل – يشرح الصحيحني‪ ،‬فلما‬
‫حهُ‪ ،‬وتكلم على معنى الفقه‪،‬‬
‫بلغ هذا احلديث – كما يقول ابن رجب – شرَ َ‬
‫وآل به الكالم إىل ذكر مسائل الفقه املتفق عليها واملختلف فيها بني األئمة‬
‫األربعة املشهورين‪ ،‬وقد أفرده الناس من الكتاب‪ ،‬وجعلوه مبفردهِ جملدةً‪،‬‬

‫«‬ ‫»‬ ‫«‬


‫»‬

‫‪38‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ومسوه بكتاب‪« :‬اإلفصاح»– وهو قطعة منه‪ ،‬وهذا الكتاب صنفه يف واليته‬
‫الوزارة‪ ،‬واعتنى به ومجع عليه أئمة املذاهب‪ ،‬وأوفدهم من البلدان إليه‬
‫ألجله‪ ،‬حبيث إنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار‪ ،‬وثالثة عشر ألف دينار‪،‬‬
‫وحدث به‪ ،‬واجتمع اخللق العظيم لسماعه عليه‪ ،...‬واشتغل به الفقهاء يف‬
‫ذلك الزمان على اختالف مذاهبهم‪ ،‬يدرسون منه يف املدارس واملساجد‪،‬‬
‫ويعيده املعيدون‪ ،‬وحيفظ منه الفقهاء (‪.)1‬انتهى‪.‬‬
‫و من املعلوم أن الفِقه يف معناه اللغوي‪ :‬هو ا ْلفَهم‪ ،‬ويف عُرْفِ الفقهاء‪:‬‬
‫حكَامِ الشَّرْعِيَّة الفرعية‪ ،‬مَن أدلتها التفصيلية باالستدالل‪.‬‬
‫العلم بِاأل ْ‬
‫وال شك أن معنى احلديث ههنا‪ ،‬املراد به املعنى اللغوي؛ ليتناول فهم‬
‫كل علم من عُلُوم الدّين – كما سيأتي إن شاء اهلل‪.‬‬
‫إن داللة هذه القاعدة النبوية على فضل الفقه يف الدين بيّنة ظاهرة‪،‬‬
‫وماذا يرجو املؤمن إال أن يكون ممن أراد اهلل بهم خرياً! فتلك سعادة الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ومما دلّت عليه هذه القاعدة النبوية مبفهومها‪ :‬أن من مل يتفقه يف الدين‬
‫مل يرد اهلل به خرياً‪ ،‬ولكن مما ينبغي إيضاحه هنا أن الفقه يف الدين على‬
‫نوعني‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬نوعٌ ال يعذر أحدٌ برتكه‪ ،‬وهو الذي ال تصح عبادته وال‬
‫معاملته إال به‪ ،‬فهذا من الفقه الواجب تعلمه على كل مسلم‪ ،‬وال يعذر أحد‬
‫بالتقصري يف طلبه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫والنوع الثاني‪ :‬وهو التفقه الذي يكون زائداً على هذا‪ ،‬وهو فرض‬
‫كفاية‪ ،‬ويدخل فيه‪ :‬تعلُّم مجيع الوسائل املعينة على الفقه يف الدين كعلوم‬
‫العربية بأنواعها‪ ،‬فمن أراد اهلل به خرياً فقهه يف هذه األمور ووفقه هلا‪ ،‬ومن‬
‫وُفّق لذلك فقد وُفق خلري عظيم‪.‬‬
‫إن أوجه اخلريية اليت أشار إليها النيب × يف حديثه هذا كثرية‪ ،‬منها ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬نيله بركة هذا احلديث‪ ،‬وأنه ممن أراد اهلل به خرياً‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه يعبد اهلل على بصرية يف كل ما يأتي ويذر‪.‬‬
‫‪ -3‬نيله الثواب العظيم يف تعليم اخللق‪ ،‬وتبصريهم بدينهم – إن هو‬
‫زكّى علمه بالتعليم والبالغ – فإن كل مَنْ يُعبَد اهلل على بصريةٍ‬
‫بسببه فهو شريك يف األجر‪ ،‬كما أن له بركة ما جاء من األحاديث‬
‫واآلثار يف فضل معلم الناس اخلري‪.‬‬
‫‪ -4‬أن املتفقه يف الدين وارث من ورثة النيب ×؛ فإن «ا ْلعُ َلمَاءَ َورَثَةُ‬
‫الْ َأنْبِيَاءِ‪ ،‬وَإِنَّ الْ َأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا ِدرْ َهمًا وإمنا وَرَّثُوا ا ْلعِلْمَ‪،‬‬
‫َفمَنْ َأخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (‪.)1‬‬
‫‪ -5‬أن قوله ×‪« :‬خرياً» يف قوله‪« :‬من يرد اهلل به خرياً» جاءت نكرةً‬
‫يف سياق الشرط؛ ليشمل القليل والكثري‪ ،‬ومن أغراض التنكري يف‬
‫اللغة‪ :‬التعظيم؛ وهو كذلك ههنا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫كثريٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة النبوية احملكمة‪« :‬من يرد اهلل‬
‫به خرياً يفقهه يف الدين» يظن أن الفقه قاصرٌ على معرفة مسائل احلالل‬
‫واحلرام‪ ،‬وهذا فهم مغلوط! فإن معرفة احلالل واحلرام جزءٌ من ذلك‪ ،‬بل‬
‫احلديث يشمل ما هو أوسع من ذلك؛ ِمن الفقه يف دين اهلل بعموم أبوابه‪،‬‬
‫وأصل الفقه وأساسه‪ :‬معرفة التوحيد وما يكمله‪ ،‬والشرك وما يضاده أو‬
‫ينايف كماله‪ ،‬ومعرفةُ معاني كالم اهلل عز وجل الذي أنزله يف كتابه على‬
‫رسول × ‪ ،‬ومعرفة معاني حديث رسول اهلل ×‪ ،‬وهلذا كان بعض العلماء‬
‫يسمي فهم ما خيتص بعلوم العقائد‪ :‬الفقه األكرب‪ ،‬وعلى هذا األساس جاءت‬
‫تسمية الكتاب املشهور عند أصحاب أبي حنيفة – رمحه اهلل– بـ«الفقه‬
‫األكرب»‪.‬‬
‫وهلذا قال بعض املفسرين يف تفسري قوله تعاىل‪ :‬ﭽﯧ ﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ [التوبة‪ ،]122 :‬قال‪:‬‬
‫«يعين الفرقة القاعدين‪ ،‬يتعلمون القرآن والسنن والفرائض واألحكام» (‪.)1‬‬
‫فأنت ترى أنه أدخل يف الفقه يف الدين‪ :‬تعلمَ معاني القرآن‪ ،‬والسنن‪،‬‬
‫والفرائض‪ ،‬واألحكام‪ ،‬فجعل تعلم األحكام صورة من التفقه يف الدين‬
‫وليس الفقه كُلّه‪.‬‬
‫بل وتتسع دائرة الفقه عند السلف؛ لتشمل ما يتعلق بالعمل بالعلم‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وطبيعة النظرة إىل هذه احلياة‪ ،‬كما قال ابن عمر‪« :‬إمنا الفقيه الزاهد يف الدنيا‪،‬‬
‫الراغب يف اآلخرة» (‪.)1‬‬
‫وقال احلسن البصري‪« :‬ال َفقِيه هوَ الزَّاهِد فِي الدنيَا‪ ،‬الرَّاغِب فِي‬
‫اآلخِرَة‪ ،‬والبصري بِأَمر دينه‪ ،‬املداوم على عبادة ربه» (‪.)2‬‬
‫وقال مُجَاهِد‪« :‬إَِّنمَا ا ْل َفقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ» (‪.)3‬‬
‫وقال الشعيب – رمحه اهلل –‪« :‬إَِّنمَا ا ْل َفقِيهُ مَنْ َورِعَ عَنْ مَحَارِمِ اهللِ‪،‬‬
‫وَا ْلعَالِمُ مَنْ خَافَ اهللَ» (‪.)4‬‬
‫وقال الْحَارِثُ بْنُِ َي ْعقُوب‪« :‬إِنَّ ا ْل َفقِيهَ كُلَّ ا ْل َفقِيهِ مَنْ َفقِهَ فِي ا ْلقُرْآنِ‬
‫وَعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَانِ» (‪.)5‬‬
‫– ومثة صفةٌ أخرى نبّه السلف عليها خبصوص الفقيه التام فقهه‪،‬‬
‫وذلك فيما روي عن علي رضي اهلل عنه‪« :‬ا ْل َفقِيهُ مَنْ لَمْ يُوِئسِ النَّاسَ مِنْ‬
‫جلّ» (‪.)6‬‬
‫هلل عَزَّ َو َ‬
‫حمَةِ اهللِ َتعَالَى‪ ،‬وَلَمْ يُرَخِّصْ َلهُمْ فِي َمعَاصِي ا ِ‬
‫َر ْ‬
‫وخالصة ما تقدم التعليق عليه يف هذه القاعدة العظيمة أمران‪:‬‬
‫– أن الفقه يف الدين أعم من أن خيص بالفقه يف األحكام اخلاصة‬
‫باحلالل واحلرام‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫– أن الفقه ال يقف عند حدِّ املعرفة العلمية‪ ،‬بل نص السلف – يف‬


‫مواضع كثرية – على دخول العمل‪ ،‬واخلشية من اهلل‪ ،‬والتوازن يف عرض‬
‫الدين‪ ،‬وأن ذلك كلّه من مسات الفقيه‪ ،‬ومن قصّر يف شيء من ذلك فقد‬
‫نقص فقهه حبسبه‪.‬‬

‫وهلذا ملا قال رجل للحسن البصري – رمحه اهلل – وقد راجعه يف‬
‫مسألة‪ :‬يا أبا سعيد! ما مسعت أحداً من الفقهاء يقول هذا! قال‪« :‬وهل‬
‫رأيت فقيها بعينيك؟! إمنا الفقيه‪ :‬الزاهد يف الدنيا‪ ،‬البصري بدينه‪ ،‬املداوم على‬
‫عبادة ربه» (‪.)1‬‬

‫ومع هذا الفضل العظيم الذي حوته هذه القاعدة النبوية‪« :‬من يرد اهلل‬
‫به خرياً يفقهه يف الدين» واخلريِ الوفري الذي أعده اهلل ألهل الفقه يف دينه‬
‫العاملني؛ إال إنك جتد انصرافاً عجيباً – من قبل كثري من أبناء املسلمني– عن‬
‫تعلم العلوم الشرعية والتفقه فيها!‬

‫إن اإلنسان ليدرك أنه ال يطلب من الناس‪ ،‬بل وال من أكثرهم أن‬
‫يندرجوا يف التفقه مبعناه الدقيق‪ ،‬إال أن احملزن أن هناك تقصرياً كبرياً يف التفقه‬
‫عند احلد الواجب‪ ،‬ويتبني لك هذا عندما تسمع أسئلة كثري من الناس يف‬
‫برامج الفتوى اإلذاعية والفضائية‪ ،‬واليت يقع السؤال فيها عن أمور أقدم فيها‬
‫أصحابها على أعمال كبار دون أن يكلفوا أنفسهم أن يسألوا! مع تهيؤ فرص‬

‫‪43‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫السؤال سواء باالتصال أو برسائل اجلوال‪ ،‬أو بغريها من الوسائل‪.‬‬

‫اللهم فقهنا يف الدين‪ ،‬وعلمنا التأويل‪ ،‬وزدنا علماً‪ ،‬وانفعنا مبا علمتنا‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫إذا سلكتَ طريق التفقه يف الدين فقد أراد اهلل بك خرياً‪،‬‬
‫فلتهنك نعمة اهلل عليك‪.‬‬
‫ال يُطْلب من كل الناس أن يكونوا فقهاء وعلماء! لكن يطلب‬
‫منهم أن يتفقهوا فيما حيتاجون إليه يف عبادتهم ومعاملتهم اليت‬
‫تلزمهم‪.‬‬
‫الفقه يف الدين ال يقتصر على الفقه يف األحكام‪ ،‬بل يشمل‬
‫الفقه يف عموم الشريعة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية السادسة‪:‬‬


‫ما نقصت صدقةٌ ِمن مال‬
‫( ‪)1‬‬

‫قال واهب األموال سبحانه‪ :‬ﭽ ﭽ ﭾ ﭿ‬


‫ﮀ ﮁﮂﮃﮄ ﮅ ﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﭼ [سورة البقرة‪.]261 :‬‬

‫يا هلذا البيان النبوي اآلسر! ولكأمنا تهجم هذه القاعدة النبوية على‬
‫القلب لتزيح عنه معنىً خيالف الصورة احلسية اليت يراها اإلنسان باحلساب‬
‫املادي‪ ،‬لتقول له‪ :‬إن الصدقة وإن نقصت مادياً فهي يف احلقيقة تعود على‬
‫املال بالنماء والربكة‪ ،‬الذي جيعل القليل املبارك خرياً من مال كثريٍ منزوع‬
‫الربكة‪.‬‬
‫لقد جبلت النفوس على حب املال‪ ،‬وللشيطان – عند إرادة اإلنفاق‬
‫والبذل – حضوره‪ ،‬كما قال تعاىل‪ :‬ﭽﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘﭼ [البقرة‪ ،]268 :‬فتأتي نصوص الشريعة لتمأل القلب يقيناً‬
‫ورغبةً فيما عند اهلل‪ ،‬كما يف هذه القاعدة النبوية‪ ،‬وكما يف تتمة اآلية السابقة‪:‬‬
‫ﭽﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫إذاً ‪ ..‬ما حقيقة هذا النقص املنفي يف هذه القاعدة؟ وما الفضل الذي‬
‫سيعود على املتصدق – كما يف آية البقرة –؟‬
‫حقيقة ذلك ببساطة‪ :‬أن الصدقة واإلنفاق يف وجوه اخلري عموماً ال‬
‫تنقص املال من كل وجه؛ ألنه لو فرض أنه نقص من جهة فقد زاد من‬
‫جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك املال وتنميه‪ ،‬وتدفع عنه اآلفات‪ ،‬وتفتح‬
‫للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تفتح على غريه‪ ،‬فهل‬
‫يقابل ذلك النقصُ بعضَ هذه الثمرات اجلليلة؟!‬
‫إن الزيادة اليت حتصل ببذل الصدقة قد تكون كمية وقد تكون كيفية‪:‬‬
‫فالكمية‪ :‬بأن يفتح اهلل لك باباً من أبواب الرزق مل ختطر يف بالك‪ ،‬أو‬
‫خيفف اهلل عنك دَيناً بتسخري اهلل للدائن(‪.)1‬‬
‫وأما الكيفية‪ :‬فبأن ينزل اهلل الربكة فيما بقي من مالك؛ فيحفظه‪،‬‬
‫ويكفيك لقضاء أمورك‪ ،‬وال يسلط عليه ما يستنفقه‪.‬‬
‫وهلذا يقال‪ :‬إن الصدقة هلل اليت يف حملها ال تُنفِد املال قطعاً‪ ،‬وال تنقصه‬
‫بنص حديث النيب ×‪ ،‬وباملشاهدات والتجربات املعلومة‪ ،‬هذا كله سوى ما‬
‫لصاحبها عند اهلل من الثواب اجلزيل‪ ،‬واخلري والرفعة‪.‬‬
‫بل حتى من «الربكة فيه‪ ،‬ودفع املفسدات عنه‪ ،‬واإلخالف عليه مبا هو‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪46‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫أجدى وأنفع‪ ،‬وأكثر وأطيب ﴿وما أنفقتم من شيء فهو خيلفه﴾‪ ،‬أو يف اآلخرة‬
‫بإجزال األجر وتضعيفه‪ ،‬أو فيهما! وذلك جابر ألصناف ذلك النقص‪ ،‬بل‬
‫وقع لبعض ال ُكمّل أنه تصدق من ماله فلم جيد فيه نقصاً! قال الفاكهاني‪:‬‬
‫أخربني من أثق به‪ ،‬أنه تصدق من عشرين درهماً بدرهمٍ‪ ،‬فوزنها فلم‬
‫تنقص! قال‪ :‬وأنا وقع لي ذلك(‪.)1‬‬
‫بل إن صدقتك قد تكون سبباً ألن يدفع اهلل عنك ألواناً من املصائب‬
‫واألدواء‪.‬‬
‫نقل الذهيب – رمحه اهلل – يف «السري» أن رجالً سأل ابن املبارك – رمحه‬
‫اهلل – عن قرحة خرجت يف ركبته منذ سبع سنني‪ ،‬وقد عاجلها بأنواع‬
‫العالج‪ ،‬وسأل األطباء فلم ينتفع!‬
‫فقال له‪ :‬اذهب‪ ،‬فاحفر بئراً يف مكان حيتاج الناس فيه إىل املاء؛ فإني‬
‫(‪)2‬‬
‫أرجو أن ينبع هناك عني‪ ،‬وميسك عنك الدم؛ ففعل الرجل فربأ‪.‬‬
‫وقصص السابقني والالحقني يف هذا ال تكاد حتصر‪.‬‬
‫أال وإن من أعظم مثرات الصدقة املعنوية‪ :‬أنها تكفر اخلطيئات‬
‫والسيئات‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ (البقرة‪« ،)271 :‬أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن‬

‫‪47‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫عَبَّاس أَنه قَرَأَ‪﴿ :‬وتكفر عَ ْنكُم من سَيِّئَاتكُمْ﴾ فقَالَ‪ :‬الصَّدَقَة هِيَ الَّتِي‬
‫تكفر»(‪.)1‬‬
‫بعد هذا أيها اإلخوة‪ ،‬حيق للرازيّ أن يقول‪« :‬اعلم أن معاقد اخلري‬
‫على كثرتها حمصورة يف أمرين‪ :‬صدق مع احلق‪ ،‬وخُلُق مع اخلَلْق‪ ،‬والذي‬
‫يتعلق مع اخلَلْق حمصور يف قسمني‪ :‬إيصال نفع إليهم‪ ،‬ودفع ضرر عنهم‪،‬‬
‫فقوله‪ :‬ﭽﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ إشارة إىل إيصال النفع إليهم‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ﭽ ﭧ ﭨ ﭼ إشارة إىل دفع الضرر عنهم؛ فدخل يف هاتني‬
‫الكلمتني مجيع أنواع اخلري وأعمال الرب» (‪.)2‬‬
‫وكما تتناول هذه القاعدة النبوية املال أصالةً؛ فالواقع يشهد بتناوهلا ملن‬
‫آتاه اهلل علماً فبلّغه الناس‪ ،‬فهو – كما قال ابن القيم ‪« :– :‬يتَنَاوَل َن َفقَة العلم‬
‫إما بِ َلفْظِهِ وإِمَّا بتنبيهه وإشارته وفحواه‪ ،‬فالعامل كلما بذل علمه للناس وأنفق‬
‫منه؛ تفَجَّرَت ينابيعه فازداد كثرة وقوَّة وظهوراً‪ ،‬فيكتسب بتعليمه حفظ مَا‬
‫علِمه‪ ،‬وحيصل له بِه علم ما مل يكن عنده‪ ،‬ورمبا تكون املسألة يف نفسه غري‬
‫مكشوفة‪ ،‬وال خا ِرجَة من حيّز اإلشكال‪ ،‬فَإِذا تكلم بها وعلّمها؛ اتضحت له‬
‫وأضاءت وانفتح له منها علوم أخر! وأيضاً‪ :‬فإن اجلزَاء من جنس العمل؛‬
‫فكما علّم اخللق من جهالتهم جزاه اهلل بأن علّمه من جهالته» (‪.)3‬‬
‫وليُعلم أنه ال تقف الصدقة عند هذا‪ ،‬فكما أن صدقة املال ال تُنقص‬

‫‪48‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫منه شيئاً بل تزيده وتنميه؛ فكذلك «تبسمك يف وجه أخيك صدقة لك –‬


‫وهو ال ينقص منك شيئاً –! وأمرك باملعروف ونهيك عن املنكر صدقة –‬
‫وهو ال ينقص منك شيئاً –! وإرشادك الرجل يف أرض الضاللة لك صدقة‬
‫– وهو ال ينقص منك شيئاً –! وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة –‬
‫وهو ال ينقص منك شيئاً –! وإماطتك احلجر والشوكة والعظم عن الطريق‬
‫لك صدقة – وهو ال ينقص منك شيئاً –! وإفراغك من دلوك يف دلو أخيك‬
‫لك صدقة – وهو ال ينقص منك شيئاً –!» (‪.)1‬‬
‫إن اجلواد يرى يف مالـه سُـبُال‬ ‫يرى البخيلُ سبيل املال واحدةً‬

‫اللهم قنا شح أنفسنا‪ ،‬واجعلنا للمعروف من الباذلني‪ ،‬وللخري من‬


‫املتصدقني‪ ،‬وتقبل منا إنك أنت السميع العليم‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬من فوائد الصدقة‪ :‬أنها تنمي املال وتباركه وتدفع عنه اآلفات‪،‬‬
‫ويؤجر صاحبها‪.‬‬
‫‪ -‬قد تبني بالتجربة واملشاهدة أن الصدقة تدفع وترفع أنواعاً من‬
‫البالء‪.‬‬
‫‪ -‬الصدقة لفظ يعم كل إنفاق مما وهب اهلل اإلنسان؛ من مال أو علم أو‬
‫جاه أو أي منفعة صاحلة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة السابعة‪:‬‬
‫األرواح جنود جمنّدة‬

‫رأى ابن عباس رجالً فقال‪ :‬إن هذا‬


‫ليحبين‪ ،‬قالوا‪ :‬وما علمك؟ قال‪ :‬إني‬
‫ألحبه؛ و(األرواح جنود جمندة‪.)...‬‬

‫هذه القاعدة النبوية هي جزء من حديث أخرجه مسلمٌ يف صحيحه من‬


‫حديث أبي هريرة – رضي اهلل عنه – أن رسول اهلل × قال‪« :‬األرواح‬
‫جنود جمندة‪ ،‬فما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف» وهو يف صحيح‬
‫البخاري معلَّقاً من حديث عائشة رضي اهلل عنها(‪.)1‬‬
‫وهذه القاعدة تنبّه على حكمةٍ من حِكم اهلل يف خلقه؛ وهو التشاكل‬
‫والتماثل يف اخلري والشر‪ ،‬والصالح والفساد‪ ،‬وأن اخلَيِّرَ من الناس حينّ إىل‬
‫شكله‪ ،‬والشرير نظري ذلك مييل إىل نظريه‪ ،‬فتعارف األرواح يقع حبسب‬
‫الطباع اليت جُِبلت عليها من خري وشر‪ ،‬فإذا اتفقت تعارفت‪ ،‬وإذا اختلفت‬
‫تناكرت(‪.)2‬‬
‫«وقد استقرت حكمة اهلل– عز وجل– يف خلقه وأمره على وقوع‬

‫‪50‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫جانِسه بالطبع‪،‬‬
‫التناسب والتآلف بني األشباه‪ ،‬واجنذاب الشيء إىل مُوافِ ِقه ومُ َ‬
‫وهروبه من خمالفه ونفرته عنه بالطبع‪ ،‬فسِ ّر التمازج واالتصال يف العامل‬
‫العلوي والسفلي إمنا هو التناسب والتشاكل والتوافق‪ ،‬وسِ ّر التباين‬
‫واالنفصال إمنا هو بعدم التشاكل والتناسب‪ ،‬وعلى ذلك قام اخللق واألمر‪،‬‬
‫فاملثل إىل مثله مائل وإليه صائر‪ ،‬والضد عن ضده هارب وعنه نافر» (‪.)1‬‬
‫ودعنا – أيها القارئ – ننظر يف تطبيق عملي هلذه القاعدة صار سبباً يف‬
‫جتاوز حمنةٍ مرت بأهلها‪ ،‬وفتنة أظلت أصحابها‪ ،‬تلك هي‪ :‬قصة أصحاب‬
‫الكهف‪.‬‬
‫فإن هؤالء الفتية – كما ذكر املؤرخون – ملا رأوا ما يصنع قومُهم بعني‬
‫بصريتهم؛ عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود ألصنامهم والذبح‬
‫كل واحد منهم‬
‫هلا؛ ال ينبغي إال هلل الذي خلق السموات واألرض! فجعل ُّ‬
‫يتخلص من قومه‪ ،‬وينحاز منهم ويتربز عنهم ناحية‪ ،‬فكان أول من جلس‬
‫منهم وحدَه أحدُهم‪ ،‬جلس حتت ظل شجرة‪ ،‬فجاء اآلخر فجلس عنده‪،‬‬
‫وجاء اآلخر فجلس إليهما‪ ،‬وجاء اآلخر فجلس إليهم‪ ،‬وجاء اآلخر‪ ،‬وجاء‬
‫اآلخر‪ ،‬وجاء اآلخر‪ ،‬وال يعرف واحدٌ منهم اآلخر! وإمنا مجعهم هناك الذي‬
‫مجع قلوبهم على اإلميان‪ ،‬قال ابن كثري –رمحه اهلل– معلقاً على هذا التقارب‪:‬‬
‫وهذا كما جاء يف احلديث‪« :‬األرواح جنود جمندة‪ ،‬فما تعارف منها ائتلف‪،‬‬
‫وما تناكر منها اختلف» (‪.)2‬‬

‫‪51‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أما اآليات الدالة على معنى هذه القاعدة النبوية فكثرية‪ ،‬ومن أظهرها‬
‫وأوضحها‪:‬‬

‫‪ )1‬قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ‬


‫ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ [النور‪.]26 :‬‬

‫ومبثل هذه اآلية والقاعدة النبوية اليت حنن بصدد احلديث عنها؛ يوقن‬
‫املؤمن أن اهلل تعاىل مل خيرت لنبيه × من زوجات وأصحاب إال الطبيات من‬
‫النساء‪ ،‬والطيبني من الرجال؛ إذْ هو × سيد الطيبني املطيبني‪ ،‬فمن زعم أن‬
‫يف زوجاته أو أصحابه من ليس كذلك فقد كذّب اهلل يف خربه‪ ،‬وكذب‬
‫رسوله × أيضاً‪.‬‬

‫‪ )2‬ومن دالالت القرآن الكريم على هذه القاعدة قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ [التكوير‪ ،]7 :‬وقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﭼ [الصافات‪ ]22 :‬أي أشباههم وأضرابهم‪ ،‬يقول‬
‫الفاروق رضي اهلل عنه يف تفسري قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬﭼ‪« :‬الضُرباء‪ :‬كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله‪،‬‬
‫وذلك أن اهلل يقول‪ :‬ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯔﯕ‬

‫‪52‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﯖ ﯗﯘﭼ [الواقعة‪ ]10 – 7 :‬قال‪ :‬هم الضرباء(‪.)1‬‬


‫هلل يف األرض باألهواء ختتلف‬ ‫إن القلـــوب ألجنـــاد جمنـــدة‬
‫وما تنـاكر منهـا فهـو خمتلـف‬ ‫فما تعارف منها فهـو مؤتلـف‬

‫روي عن مالك –رمحه اهلل– أنه قال‪« :‬الناس أشكال كأجناس الطري؛‬
‫احلمام مع احلمام‪ ،‬والغراب مع الغراب‪ ،‬والبط مع البط‪ ،‬والصعو مع‬
‫(‪)2‬‬
‫الصعو‪ ،‬وكل إنسان مع شكله»ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهذا هو منطق الواقع؛ فالطيّب ال يقبل إال طيباً‪ ،‬من قول أو عمل‪ ،‬أو‬
‫صديق أو شريك‪ ،‬أو زوج‪ ،‬واخلبيث ال يقبل إال اخلبيث كذلك‪.‬‬
‫وذلك‪« :‬أن األجساد اليت فيها األرواح تلتقي يف الدنيا فتأتلف وختتلف‬
‫على حسب ما جُعلت عليه من التشاكل أو التنافر يف بدء اخللقة؛ ولذلك‬
‫(‪)3‬‬
‫ترى البَر اخليّر حيب شكله وحين إىل قربه وينفر عن ضده‪ ،‬وكذلك الرَّهِق‬
‫الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده» (‪.)4‬‬
‫ومن مجيل ما روي عن بن مسعود رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬ال تسل‬
‫(‪)5‬‬
‫أحداً عن وُ ّده لك‪ ،‬وانظر ما يف نفسك له؛ فإن يف نفسه مثل ذلك‪.‬‬

‫«‬ ‫«‬

‫‪53‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وكتب أبو الدرداء إىل مسلمة بن خملد‪ ،‬وهو أمري على مصر‪ :‬أما بعد‪،‬‬
‫فإن العبد إذا عمل بطاعة اهلل أحبه اهلل‪ ،‬فإذا أحبه اهلل حبّبه إىل خلقه‪ ،‬وإذا‬
‫عمل مبعصية اهلل أبغضه اهلل‪ ،‬وإذا أبغضه اهلل بغضه إىل خلقه‪.‬‬
‫قال ابن عبدالرب رمحه اهلل معلقاً‪« :‬هذا كالم خرج على العموم‪ ،‬ومعناه‬
‫اخلصوص؛ أي‪ :‬حبّب أهل الطاعة إىل أهل اإلميان‪ ،‬وبغّض إليهم أهل النفاق‬
‫والعصيان؛ ودليل ذلك قوله × «القلوب أجناد جمندة‪ ،‬ما تعارف منها‬
‫ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف» (‪.)1‬‬
‫أما إن سألت عن األثر العملي هلذه القاعدة يف حياتنا! فقد أجاب ابن‬
‫اجلوزي – رمحه اهلل تعاىل – عن هذا حيث يقول‪« :‬ويستفاد من هذا احلديث‬
‫أن اإلنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صالح؛ فينبغي أن‬
‫يبحث عن املقتضي لذلك ليسعى يف إزالته‪ ،‬حتى يتخلص من الوصف‬
‫املذموم‪ ،‬وكذلك القول يف عكسه» (‪)2‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫«وعلماء الرتبية واألخالق يعدون الصحبة واملعاشرة ركناً من أركان‬
‫اقتباس كلٍّ من الصاحبَني من اآلخر؛ فيحثون على صحبة األخيار‪،‬‬
‫وحيذرون من صحبة األشرار‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫فكــل قــرين باملقــارن يقتــدي‬ ‫عن املرء ال تسأل وسل عن قرينه‬

‫وقال آخر‪:‬‬
‫فقلــتُ قــوالً فيــه إنصــاف‬ ‫وقائــــل كيــــف تفارقتمــــا‬

‫‪54‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫والنــــاس أشــــكال وآالف‬ ‫مل يــك مــن شــكلي ففارقتــه‬

‫وقيل‪:‬‬
‫وإن مل يكونوا من قبيل وال بلد‬ ‫«وال يصحب اإلنسان إال نظريه‬

‫وَقيل‪ :‬الْأَخ نسيب الْجِسْم‪ ،‬وَالصديق نسيب الرّوح‪ ،‬وَقيل‪ :‬انْظُر من‬
‫تصاحب؛ فقلّ نواة طرحت َمعَ حَصَاة إلَا أشبهتها» (‪.)1‬‬
‫اللهم ارزقنا إخوة فيك يدلونا على اخلري‪ ،‬ويوصوننا باحلق والصرب‪،‬‬
‫وجنبنا وأهلنا وأوالدنا رفقاء الشر والفساد‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬من سنن اهلل تعاىل يف خلقه وعظيم قدرته‪ :‬أن جعل كل خملوق‬
‫حينّ ويطمئن إىل ما يشاكله يف طباعه‪.‬‬
‫‪ -‬ال ميكن أن خيتار رسول اهلل لصحبته األشرار وأشقياء الناس‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كنت تستحسن أعمال املفسدين واملاجنني الساقطني؛ فراجع‬
‫قلبك وتدينك!‬
‫‪ -‬حب الصاحلني وأعمال الصالح مؤشر خري يف العبد‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة الثامنة‪:‬‬
‫إمنا الطاعة يف املعروف‬

‫«أطيعوني ما أطعت اهلل ورسوله‪ ،‬فإذا‬


‫عصيت اهلل ورسوله فال طاعة لي‬
‫]‪.‬‬ ‫عليكم»‪[ .‬الصديق‬

‫وُرُوْدُ هذه القاعدة له سببٌ ثابت يف الصحيحني من حديث أمري‬


‫املؤمنني علي – رضي اهلل عنه – ذلك أن النيب × بعث سرية واستعمل‬
‫عليهم رجالً من األنصار‪ ،‬وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا‪ ،‬فأغضبوه يف‬
‫شيء؛ فقال‪ :‬امجعوا لي حطباً‪ ،‬فجمعوا له‪ ،‬ثم قال‪ :‬أو ِقدوا ناراً‪ ،‬فأوقَدوا‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬أمل يأمركم رسول اهلل × أن تسمعوا لي وتطيعوا؟! قالوا‪ :‬بلى! قال‪:‬‬
‫فادخلوها! قال‪ :‬فنظر بعضهم إىل بعض فقالوا‪ :‬إمنا فررنا إىل رسول اهلل ×‬
‫من النار! فكانوا كذلك‪ ،‬وسكن غضبُه‪ ،‬وطفئت النار‪ ،‬فلما رجعوا ذكروا‬
‫ذلك للنيب ×‪ ،‬فقال‪« :‬لو دخلوها ما خرجوا منها‪ ،‬إمنا الطاعة يف‬
‫املعروف»(‪.)1‬‬
‫هذه هي قصة هذه القاعدة العظيمة‪ ،‬واليت ال ختتص بهذا السبب –‬
‫فالعربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب – بل هي عامة يف كل من جتب‬

‫‪56‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫طاعته – من الوالة‪ ،‬والوالدين‪ ،‬والزوج‪ ،‬وغريهم – فإن الشارع أمر بطاعة‬


‫هؤالء‪ ،‬وطاعة كلِّ واحد منهم إمنا تكون حبسب حاله‪ ،‬ومبا يقتضيه العُرف؛‬
‫وهذا من عظمة هذا الدين‪ ،‬فإنك جتده يف األمور اليت يصعب ضبطها بسبب‬
‫اختالف األحوال أو األزمان أو األشخاص يَرُدّ الناس إىل العرف والعادة‪،‬‬
‫كما هو احلال يف الرب والصلة‪ ،‬والعدل واإلحسان العام؛ فكلها تقيّد بهذا‬
‫القيد‪.‬‬
‫ويفهم مما سبق أمور‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬أن من أَ َمر منهم مبعصية اهلل – وهذا يشمل‪ :‬فعل احملرم وترك‬
‫الواجب – فإنه ال طاعة له‪ ،‬وهلذا أمجع العلماء على أن من أَ َمر مبنكر ال تلزم‬
‫طاعته؛ قال اهلل عز وجل‪ :‬ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶﯷ ﭼ‪.‬‬
‫وقد فقه هذا املعنى أمراء العدل‪ ،‬ومنهم عمر بن عبدالعزيز – رمحه اهلل‬
‫– حيث قال يف أول خطبة له بعد توليه اخلالفة‪« :‬أطيعوني ما أطعت اهلل‪،‬‬
‫فإذا عصيته فال طاعة لي عليكم»‪.‬‬
‫كما فقهه أئمة الدين‪ ،‬فمن تأمل يف سرية اإلمام أمحد بن حنبل –‬
‫رضي اهلل عنه – على سبيل املثال – وجدها يف قمة التوازن‪ ،‬فإنه ملا دعي إىل‬
‫معصية اهلل وهي القول خبلق القرآن أبى‪ ،‬ومل جيب حبرف واحدٍ‪ ،‬وعذّب‬
‫بسبب ذلك من قبل إمامه‪ ،‬وحصل له من احملن واالبتالء شيء عظيم‪ ،‬وهو‬
‫يف الوقت ذاته صابر حمتسب‪ ،‬رابط اجلأش‪ ،‬ومل تكن تلك الفتنة لتجعل‬
‫ميزانه يف باب السمع والطاعة لوالة األمور أن خيتل – وإن ظلموا وجاروا –‬
‫بل كان ينهى من يريد اخلروج عليهم‪ ،‬وختم حياته بإباحة كل من آذاه إال‬

‫‪57‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫من كان عدواً لإلسالم‪ ،‬أما من كانت عداوته شخصية فقد أباحه وحلّله‬
‫رمحه اهلل‪.‬‬
‫يقول حنبل – وهو ابن عمه رمحه اهلل –‪ :‬اجتمع فقهاء بغداد يف والية‬
‫الواثق إىل أبي عبداهلل وقالوا له‪ :‬إن األمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار‬
‫القول خبلق القرآن وغري ذلك – وال نرضى بإمرته وال سلطانه‪ ،‬فناظرهم يف‬
‫ذلك‪ ،‬وقال عليكم باإلنكار بقلوبكم‪ ،‬وال ختلعوا يداً من طاعة‪ ،‬وال تشقوا‬
‫عصا املسلمني‪ ،‬وال تسفكوا دماءكم ودماء املسلمني معكم‪ ،‬وانظروا يف عاقبة‬
‫أمركم‪ ،‬واصربوا حتى يسرتيح بر أو يسرتاح من فاجر‪ ،‬وقال‪ :‬ليس هذا‬
‫( ‪)1‬‬
‫صواباً‪ ،‬هذا خالف اآلثار‪.‬‬
‫ومن دالالت هذه القاعدة النبوية «إمنا الطاعة يف املعروف»‪:‬‬
‫أنه إذا تعارضت طاعة هؤالء الواجبة‪ ،‬ونافلة من النوافل؛ فإن طاعتهم‬
‫تقدم؛ ألن ترك النفل ليس مبعصية‪ ،‬فمثالً لو نهى زوجته عن صيام النفل‬
‫ملصلحته‪ ،‬أو حج النفل‪ ،‬أو أمر الوالي الشرعي بأمر من أمور السياسة وهذا‬
‫األمر يرتتب عليه ترك واجب؛ وجب تقديم طاعته ألنها واجبة‪ ،‬وإن ترتب‬
‫عليه ترك املستحب‪.‬‬
‫وأَُأ ِّكد ههنا على أن ذلك يف حالة التعارض‪ ،‬أما إذا مل يكن مثة‬
‫تعارض‪ ،‬بل أمكن طاعتهم مع فعل النافلة فإنه ال طاعة هلم يف النهي عن‬
‫النفل‪ ،‬وأضرب لذلك مثاالً يوضح املعنى‪ :‬فلو أن أحد الوالدين طلب من‬

‫‪58‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ولده أن يذهب به إىل السوق بعد الصالة مباشرةً‪ ،‬وعامل الوقت يف هذا‬
‫مقصود‪ ،‬والولد يريد أن يتنفل‪ ،‬فهنا تعارض أمر الوالد ونافلة الولد‪ ،‬فهنا‬
‫يقال‪ :‬جيب على الولد أن يبادر خلدمة والده؛ ألن تأخره عن الذهاب يف ذلك‬
‫الوقت قد يضر به‪ ،‬أو يفوّت عليه مصلحة من املصاحل‪ ،‬لكن لو كان‬
‫الذهاب إىل السوق فيه سعة من الوقت‪ ،‬ولكن الوالد قال‪ :‬ال أريدك أن‬
‫تتنقل – من غري سبب – فهنا ال طاعة له؛ ألن النيب × قيّد الطاعة‬
‫باملعروف فقال‪« :‬إمنا الطاعة يف املعروف»‪.‬‬
‫ومن املسائل اليت يبتلى بها بعض األزواج‪:‬‬
‫أن تأمره أمه بطالق زوجته لغري سبب شرعي‪ ،‬قال شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية – رمحه اهلل – فيمن تأمره أمه بطالق امرأته قال‪ :‬ال حيل له أن يطلقها‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫بل عليه أن يربها وليس تطليق امرأته من برها‪.‬‬
‫ومن املسائل اليت يبتلى بها بعض الناس‪ :‬ما سئل عنه اإلمام أمحد –‬
‫رضي اهلل عنه – من قبل أحد طالب العلم‪ ،‬حيث يقول‪ :‬إني أطلب العلم‪،‬‬
‫وإن أمي متنعين من ذلك‪ ،‬تريد حتى أشتغل يف التجارة‪ ،‬قال لي‪ :‬دارها‬
‫وأرضها‪ ،‬وال تدع الطلب(‪.)2‬‬
‫وهذه األجوبة من هؤالء األئمة رمحهم اهلل – وغريها كثري – هي من‬
‫فقههم التطبيقي هلذه القاعدة النبوية العظيمة‪« :‬إمنا الطاعة يف املعروف»‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«وإمنا العاقل الذي يعلم خري اخلريين‪ ،‬وشر الشرين‪ ،‬وينشد‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫مرضان خمتلفان داوى األخطرا»‬ ‫إن اللبيــب إذا بــدا مــن جســمه‬

‫ومن دالالت هذه القاعدة – وهي الداللة الثالثة يف حديثنا هذا – ‪:‬‬
‫أن هذه الطاعة – كغريها من أوامر الشرع – منوطة باالستطاعة؛ فإنه‬
‫إذا كانت األوامر الواجبة بأصل الشرع معلقة بهذا القيد فكذلك طاعة‬
‫هؤالء‪ ،‬الذين طاعتهم تبع لطاعة اهلل‪ ،‬وقد جاءت نصوص تصرّح بهذا القيد‬
‫يف بعض هذه املواضع اخلطرية‪ ،‬كما يف الصحيحني من حديث ابن عمر‪ :‬كنا‬
‫إذا بايعنا رسول اهلل × على السمع والطاعة‪ ،‬يقول لنا‪« :‬فيما استطعتم»(‪.)2‬‬

‫ويف شأن بيعة النساء‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﭬ ﭭ ﭮﭼ‬


‫[املمتحنة‪.]12 :‬‬

‫هذه منارات وإشارات يف بيان هذه القاعدة النبوية الشاملة‪ ،‬وإال فإن‬
‫شرحها ميكن أن يفرد بأكثر من هذا؛ لعظيم ما اشتملت عليه من أحكام‬
‫جليلة‪ ،‬ومعان كثرية‪.‬‬

‫اللهم أهلمنا طاعتك واتباع أمرك‪ ،‬وطاعة من وليتهم علينا باملعروف‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬الطاعة املطلقة ليست إال لصاحب التشريع احلكيم سبحانه‪.‬‬
‫‪ -‬مهما وليت من أمور الناس فتبقى أنت وهم عبيد هلل سبحانه‬
‫مالك اجلميع‪.‬‬
‫‪ -‬يا من وليت شيئاً من أمور املسلمني! كن من أهل املعروف‬
‫لتحافظ على واليتك‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية التاسعة‪:‬‬


‫ال ضرر وال ضرار‬

‫«الضرر والضرار مبثوث منعه يف الشريعة‬


‫كلها‪ ،‬يف وقائع جزئيات‪ ،‬وقواعد كليات»‪.‬‬
‫[الشاطيب]‪.‬‬

‫قبل الولوج إىل بيان شيء من دالالت هذه القاعدة؛ حيسن أن أشري إىل‬
‫أن هذا احلديث الذي اشتملت عليه هذه القاعدة ال ختلو طريق من طرقه‬
‫اليت روي بها من مقال عند أئمة احلديث – رمحهم اهلل – إال أن له طرقاً‬
‫كثرية جعلت بعض احلفّاظ جيزم بقوته وثبوته‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن رجب‪:‬‬
‫«وقد ذكر الشيخ رمحه اهلل – يعين النووي – أن بعض طرقه ُتقَوّى‬
‫ببعض‪ ،‬وهو كما قال‪ ،‬وقد استدل اإلمام أمحد بهذا احلديث‪ ،‬وقال أبو عمرو‬
‫بن الصالح‪ :‬هذا احلديث أسنده الدارقطين من وجوه‪ ،‬وجمموعها يقوّي‬
‫احلديث وحيسّنه‪ ،‬وقد تقبله مجاهري أهل العلم‪ ،‬واحتجوا به‪ ،‬وقول أبي داود‪:‬‬
‫إنه من األحاديث اليت يدور الفقه عليها؛ يُشعِر بكونه غري ضعيف‪ ،‬واهلل‬
‫أعلم»(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إذا تبني هذا‪ ،‬فليعلم أن هذا احلديث قاعدةٌ من القواعد اجلليلة‬


‫اجلامعة لكل خري‪ ،‬الناهية عن كل شر؛ هلذا يعتربه الفقهاء من أهم قواعد‬
‫الدين‪ ،‬حتى قال أبو داود – كما سبق‪« :‬الفقه يدور على مخسة أحاديث –‬
‫ومنها حديث‪« :‬ال ضرر وال ضرار» (‪.)1‬‬
‫وقال ابن عبدالرب‪« :‬وهو لفظ عام متصرف يف أكثر أمور الدنيا‪ ،‬وال‬
‫يكاد أن حياط بوصفه‪ ،‬إال أن الفقهاء ينزعون به يف أشياء خمتلفة»(‪.)2‬‬
‫فجدير باملسلم أن يتعلم هذه القاعدة‪ ،‬ويعرف ما تيسر له من‬
‫تطبيقاتها؛ ليفيد منها يف حياته العلمية والعملية‪.‬‬
‫ومثة سؤال يُطْرحُ ههنا‪ :‬ما معنى الضرر والضرار املنفيني ههنا؟ وهل‬
‫هما شيء واحد أم بينهما فرق؟‬
‫واجلواب‪ :‬أن من أهل العلم من قال‪ :‬إنه ال فرق بينهما‪ ،‬ومنهم –‬
‫وهو األشهر وعليه األكثر – أن بينهما فرقاً‪ :‬فقيل‪ :‬إن الضرر هو االسم‪،‬‬
‫والضرار الفعل‪ ،‬فاملعنى‪ :‬أن الضرر نفسه منتف يف الشرع‪ ،‬وإدخال الضرر‬
‫بغري حق كذلك‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الضرر‪ :‬أن يدخل على غريه ضرراً مبا ينتفع هو به‪ ،‬والضرار‪:‬‬
‫أن يدخل على غريه ضرراً بال منفعة له به‪ ،‬كمن منع ما ال يضره ويتضرر به‬
‫املمنوع‪ ،‬ورجح هذا القول طائفة‪ ،‬منهم ابن عبدالرب‪ ،‬وابن الصالح‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وقيل‪ :‬الضرر أن يضر مبن ال يضره – أي يقع الضرر منه ابتداءً –‪،‬‬
‫وأما الضرار‪ :‬فبأن يضر مبن قد أضر به على وجه غري جائز‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبكل حال فالنيب × إمنا نفى الضرر والضرار بغري حق‪.‬‬
‫وملا كانت هذه القاعدة باحملل الذي نوّه به األئمة – رمحهم اهلل – كان‬
‫على طالب العلم أن جيتهد يف فهم معناها جيداً‪ ،‬والنظر يف بعض تطبيقاتها‪.‬‬

‫واملطالع يف كتب الفقهاء جيد أن هذه القاعدة حاضرة االستدالل يف‬


‫أبواب كثرية من الفقه؛ يف البيوع‪ ،‬والرهون‪ ،‬واألنكحة‪ ،‬والطب‪ ،‬واجلنايات‪،‬‬
‫والقصاص؛ إذ مبناها على دفع ومنع سائر أنواع الضرر إال بدليل؛ ألن قوله‪:‬‬
‫«ال ضرر» نكرة يف سياق النفي؛ فتعم مجيع أنواع الضرر‪ ،‬واملراد بها املُضارَّة‬
‫املقصودة واملتعمدة‪.‬‬

‫وأما إذا فعل الضرر املستحق للحاجة إليه واالنتفاع به – ال لقصد‬


‫اإلضرار – فليس مبضار‪.‬‬

‫وبكلِّ حال فالنَّيبُّ × إنَّما نفى الضرر والضرار بغري حق‪.‬‬

‫فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ حبق – إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ اهلل‪،‬‬
‫فيعا َقبُ بقدر جرميته‪ ،‬أو كونه ظلمَ غريه‪ ،‬فيطلب املظلومُ مقابلتَه بالعدلِ –‬
‫فهذا غري مرادٍ قطعاً‪ ،‬وإمنا املرادُ‪ :‬إحلاقُ الضرر بغريِ حقٍّ‪ ،‬وهذا على نوعني‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫أحدهما‪ :‬أنْ ال يكونَ يف ذلك غرضٌ سوى الضرر بذلك الغري؛ فهذا‬
‫ال ريبَ يف قُبحه وحترميه‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬أن يكون له غرض آخر صحيح‪ ،‬مثل أن يتصرف يف‬
‫ملكه مبا فيه مصلحة له‪ ،‬فيتعدى ذلك إىل ضرر غريه‪ ،‬أو مينع غريَه من‬
‫االنتفاع مبلكه توفرياً له‪ ،‬فيتضرر املمنوع بذلك؛ ففي هذه الصورة تفاصيل‬
‫ليس هذا موضع ذكرها»(‪.)1‬‬
‫واحلاصل‪« :‬أن الضرار حمرم‪ ،‬ال جيوز متكني صاحبه منه‪ ،‬فعلى اإلنسان‬
‫أن يكون مقصودُه نفع اخللق‪ ،‬واإلحسان إليهم مطلقاً‪ ،‬وهذا هو الرمحة اليت‬
‫(‪)2‬‬
‫بُعث بها حممد × يف قوله‪ :‬ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ »‪.‬‬
‫ومن تأمل يف الواقع؛ فإنه سيجد صوراً من خرق هذه القاعدة «ال‬
‫ضرر وال ضرار»‪ ،‬ولعلنا نذكر بعض هذه الصور‪ ،‬ليتوقاها من وقع فيها‪،‬‬
‫وحيذر من الوقوع فيها من سلمه اهلل منها‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلضرار بالوصية‪ :‬وهذه الصورة مما نص القرآن على النهي عنها‪،‬‬
‫قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ‬
‫ﮭ ﭼ [النساء‪ ]12 :‬قال احلرب ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪:‬‬
‫اإلضرار يف الوصية من الكبائر‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ومن صور اإلضرار يف الوصية‪:‬‬


‫‪-‬أن خيص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه اهلل له‪ ،‬فيتضرر‬
‫بقية الورثة بتخصيصه‪.‬‬
‫‪-‬وتارة بأن يوصي ألجنيب بزيادة على الثلث‪ ،‬فتنقص حقوق الورثة‪،‬‬
‫وهلذا قال النيب ×‪« :‬الثلث والثلث كثري»(‪ ،)1‬فعلى اإلنسان أن‬
‫يتقي اهلل يف هذا األمر‪ ،‬وال حيملنه حب أحد الورثة أو بغضه على‬
‫الزيادة يف حقه أو االنتقاص منه‪ ،‬فإن اهلل تعاىل يقول‪ :‬ﭽ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬
‫ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﭼ [املائدة‪.]8 :‬‬
‫وليتأمل املؤمن ختم هذه اآلية الكرمية بقوله‪ :‬ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦﭼ فال ينفع املضار أن يتحايل‪ ،‬أو يراوغ‪ ،‬فإن اهلل مطلع على‬
‫قصده ومراده‪ ،‬ولينظر من جيور يف وصيته أو يضار فيها يف حلظة قدومه على‬
‫اهلل‪ ،‬وأن اهلل سيحاسبه‪ ،‬وعليه أن يسأل نفسه‪ :‬ماذا لو كان والده أو مورثه‬
‫ق صد اإلضرار به‪ ،‬هل يرضى بذلك؟ فليثق أن الورثة ال يرضون‪ ،‬وليتذكر‬
‫هذا املضار يف وصيته – أيضاً – أن من أسرع اآلثار السيئة هلذا اجلور‪ :‬النزاع‬
‫بني الورثة‪ ،‬والتفرق والتشتت‪ ،‬مما جيعل ورثته مشاتةً لألعداء‪.‬‬
‫وأعرفُ إخوةً بنني وبنات‪ ،‬وصلت اخلصومة بينهم إىل احملاكم بسبب‬
‫جور الوالد وعدم عدله‪ ،‬فصاروا مشاتة للناس‪ ،‬نسأل اهلل العافية‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫‪ -2‬ومن صور اإلضرار اليت يقع فيها بعض الناس‪ :‬الرجعة يف‬
‫النكاح‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭼ [البقرة‪.]231 :‬‬
‫فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة املضارة‪ ،‬فإنه آثم بذلك‪،‬‬
‫وهذا كما كانوا يف أول اإلسالم – قبل حصر الطالق يف ثالث – يطلق‬
‫الرجل امرأته‪ ،‬ثم يرتكها حتى يقارب انقضاء عدتها‪ ،‬ثم يراجعها‪ ،‬ثم‬
‫يطلقها‪ ،‬ويفعل ذلك أبداً بغري نهاية‪ ،‬فيدع املرأة ال مطلقة وال ممسكة‪ ،‬فأبطل‬
‫اهلل ذلك‪ ،‬وحصر الطالق يف ثالث مرات»(‪.)1‬‬
‫وإنين أذكّر إخواني ممن قد يقع يف ذلك – بعد ختويفه بعقوبة اهلل – أن‬
‫يسأل نفسه‪ :‬هل يرضى أن يقع هذا على موليته؟!‬
‫وخالصة ما سبق احلديث فيه عن هذه القاعدة النبوية «ال ضرر وال‬
‫ضرار« يُذكر يف اآلتي‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه متى ثبت الضرر وجب رفعه‪ ،‬ومتى ثبت اإلضرار وجب رفعه‬
‫مع عقوبة قاصد اإلضرار مبا يليق به شرعاً‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الضرر يزال‪ ،‬كالرد بالعيب‪ ،‬وغريه مما يدخل حتت هذه القاعدة‬
‫املأخوذة من احلديث‪.‬‬
‫‪ .3‬النهي عن اجملازاة بأكثر من املثل‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪ .4‬منع التصرف يف ملك اإلنسان مبا يتعدى ضرره إىل الغري على غري‬
‫الوجه املعتاد‪.‬‬
‫هذا ما تيسر إيراده من معاني هذه القاعدة النبوية العظيمة‪« :‬ال ضرر‬
‫وال ضرار»‪.‬‬
‫نسأل اهلل تعاىل أن يرزقنا العدل يف أقوالنا وأفعالنا‪ ،‬وأن جينبنا الظلم‬
‫دقيقه وجليلة‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬شريعة اهلل تعاىل مبنية على جلب املصاحل للعباد ودفع املضار‬
‫عنهم‪.‬‬
‫‪ -‬لومل يكن من مفاسد اإلضرار باآلخرين إال تأنيب الضمري لكفى‬
‫به رادعاً‪.‬‬
‫‪ -‬يكون الضرر أشنع عندما توصله إىل من تربطك به عالقة قرابة‪:‬‬
‫كزوج أو أخ‪.‬‬
‫‪ -‬التعساء يف هذه احلياة هم الذين ال يشعرون بالراحة إال على‬
‫دموع اآلخرين!‬

‫‪68‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية العاشرة‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫الكذب يهدي إىل الفجور‬

‫«واهلل ما كذبت منذ علمت أن الكذب‬


‫يشني صاحبه»‪[ .‬عمر بن عبدالعزيز]‬

‫هذه القاعدة النبوية العظيمة جتلي صفاءَ خمبَر هذا الدين ومجالَ م ْظهَره؛‬
‫فهو حيبب ألتباعه مكارم األخالق‪ ،‬وشريف األوصاف‪ ،‬وُيكَرّه إليهم رذائل‬
‫األخالق‪ ،‬ومساوئ األوصاف‪.‬‬
‫والكذب كما هو مشهور‪ :‬هو اإلخبار بالشيء على ما ليس هو عليه‬
‫يف الواقع‪ ،‬ولكن ينبغي أن يقيّد ذلك مبخالفته قدراً أو شرعاً‪.‬‬
‫وإمنا قيدناه بذلك؛ ألن اهلل تعاىل اشرتط يف الشهادة على الرمي بالزنا‬
‫أربعة شهود‪ ،‬فلو جاء ثالثة وشهدوا بأنهم رأوا فالناً يزني – ومل يأتوا برابع‬
‫– فإنهم عند اهلل كاذبون‪ ،‬ولو كانوا ثالثة‪ ،‬وأخربوا مبا رأوا حقيقةً! كما قال‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽﯔ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﭼ [النور‪.]13 :‬‬

‫‪69‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وأما الفجور‪ ،‬فأصله‪ :‬امليل عن القصد‪ ،‬أو امليل عن االستقامة‪ ،‬وقيل‪:‬‬


‫االنبعاث يف املعاصي(‪.)1‬‬
‫وقيل‪ :‬الفجور أن خيرج عن احلق عمداً حتى يصيِّر احلقَّ باطالً‬
‫والباطلَ حقاً! وهذا مما يدعو إليه الكذب(‪.)2‬‬
‫وأصل الفَجْر الشق‪ ،‬فالفجور‪ :‬شَق سِرت الديانة‪ ،‬ويطلق على امليل إىل‬
‫الفساد‪ ،‬وعلى االنبعاث يف املعاصي‪ ،‬وهو اسم جامع للشر(‪.)3‬‬
‫وكما أن الكذب يدعو إىل الفجور الذي هو جامع للشر؛ فكذلك‬
‫الصدق يدعو إىل البِر‪ ،‬الذي «هو‪ :‬جامع اخلريات؛ من اكتساب احلسنات‪،‬‬
‫واجتناب السيئات‪ ،‬ويطلق على العمل اخلالص الدائم املستمر معه إىل‬
‫املوت»(‪.)4‬‬
‫أنشد مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الواسطي‪:‬‬
‫فالصـــدق أكرمهـــا نتاجـــاً‬ ‫وإذا األمـــــور تزاوجـــــت‬
‫حليفــــه بالصــــدق تاجــــا‬ ‫الصـــدق يعقـــد فـــوق رأس‬
‫(‪)5‬‬
‫يف كـــل ناحيـــة ســـراجا‬ ‫والصــــدق يقــــدح زنــــده‬

‫قال ابن حبان – رمحه اهلل –‪« :‬إن اللَّه جل وعال فضّل اللسانَ على‬

‫‪70‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫سائر اجلوارح‪ ،‬ورفع درجته‪ ،‬وأبان فضيلته‪ ،‬بأن أنطقه من بني سائر اجلوارح‬
‫بتوحيده‪ ،‬فال جيب للعاقل أن يُعوِّد آلةً خلقها اللَّه للنطق بتوحيده بالكذب!‬
‫بل جيب عليه املداومة برعايته بلزوم الصدق‪ ،‬وما يعود عليه نفعُه يف دارَيه؛‬
‫ألن اللسان يقتضي مَا عُوّد‪ ،‬إن صدقاً فصدقاً‪ ،‬وإن كذباً فكذباً‪.‬‬
‫ولقد أحسن الذي يقول‪:‬‬
‫إن اللســان ملــا عــودت معتــاد‬ ‫عــوِّد لســانك قــولَ اخلــري حتــظ‬
‫فاخرت لنفسك وانظر كيف ترتاد‬ ‫موَكَّــل بتقاضــي مــا ســننت لــه‬

‫كان عبداهلل بن مسعود يقول‪ :‬ال يزال العبدُ يكذب وتنكت يف قلبه‬
‫نكتةٌ سوداء‪ ،‬حتى يَسوَدّ قلبُه؛ فيكتب عند اهلل من الكاذبني(‪.)1‬‬
‫ولقد كان الكذب من أقبح اخلالل اليت يُعيّر بها اإلنسان يف اجلاهلية‪،‬‬
‫ومل يزده اإلسالم إال تأكيداً على قبحه وخسته‪ ،‬فصار من الكبائر املتفق‬
‫عليها‪.‬‬
‫ومن القصص العجيبة اليت تؤكد قبح الكذب عند أهل اجلاهلية‪ :‬أن‬
‫أبا سفيان – ملا كان مشركاً – وسأله هرقل عدة أسئلة عن النيب × يف فرتة‬
‫ما بعد صلح احلديبية‪ ،‬منها‪ :‬فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما‬
‫قال؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فهل يغدر؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬وحنن منه يف مدة ال ندري ما هو‬
‫فاعل فيها‪ ،‬قال أبو سفيان‪ :‬ومل متكين كلمة أُدخِل فيها شيئاً غري هذه الكلمة!‬

‫‪71‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫( ‪)1‬‬
‫وأيم اهلل لوال خمافة أن يؤثر عَليّ الكذب لكذبت!‬
‫فقارن بني هذا وبني جرأة بعض الناس على الكذب ورمبا بشكل‬
‫يومي‪ ،‬من غري حياء من اهلل وال من خلقه!‬
‫ومن القصص اليت تدل على هذا املعنى يف صدر اإلسالم‪:‬‬
‫أن سليمان بن يسار أُدخل على هشام بن عبدامللك‪ ،‬فقال هشام‪ :‬يا‬
‫سليمان! من الذي توىل كربه منهم؟ قال‪ :‬عبداهلل بن أُبي ابن سلول! قال‪:‬‬
‫كذبت! هو علي! فدخل ابنُ شهاب الزهري‪ ،‬فسأله هشام‪ ،‬فقال‪ :‬هو عبداهلل‬
‫بن أُبي! قال‪ :‬كذبت! هو علي! فقال‪ :‬أنا أكذب ال أبا لك! فواهلل لو نادى‬
‫مناد من السماء‪ :‬إن اهلل أحل الكذب‪ ،‬ما كذبتُ! حدثين سعيد‪ ،‬وعروة‪،‬‬
‫وعبيد‪ ،‬وعلقمة بن وقاص‪ ،‬عن عائشة‪ :‬أن الذي توىل كربه عبداهلل بن أبي‪،‬‬
‫قال‪ :‬فلم يزل القوم يغرون به‪ ،‬فقال له هشام‪ :‬ارحل‪ ،‬فو اهلل ما كان ينبغي‬
‫(‪)2‬‬
‫لنا أن حنمِل على مثلك!‬
‫إن َم ْقتَ الكذب مركوز يف الفطر السليمة‪ ،‬وما زادته األدلة من‬
‫الكتاب والسنة إال رسوخاً‪ ،‬وحسب املؤمن رادعاً له عن آفات اللسان كلها‬
‫– ومنها الكذب – أن يتدبر هذه اآلية‪ :‬ﭽﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﭼ‬
‫[اإلسراء‪ ،]36 :‬قال قتادة‪ :‬أي ال تقل رأيتُ وأنت مل تره‪ ،‬ومسعتُ ومل‬
‫تسمع‪ ،‬وعلمتُ ومل تعلم(‪.)3‬‬

‫‪72‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن يف قوله ×‪« :‬إن الكذب يهدي إىل الفجور» لداللةً على أن‬
‫الكاذب ال يزال يرتدّى يف دركات الفجور حتى تهوي به يف النار‪.‬‬
‫وإن أشد أنواع الكذب وأعظمها جرماً تلك اليت يُكذبُ فيها على اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬ثم ما يتعلق بأكل حقوق الناس بالباطل‪ ،‬فإن اقرتنت بها اليمني‪،‬‬
‫فتلك هي اليمني الغموس اليت تغمس صاحبها يف اإلثم‪ ،‬ثم تغمسه يف النار‬
‫( ‪)1‬‬
‫والعياذ باهلل! ولقد ثبت عن النيب × أنه قال‪« :‬من حلف على مينيِ صربٍ‬
‫يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي اهلل وهو عليه غضبان»(‪.)2‬‬
‫كما أن الكذب يتضاعف جرمُه حبسب ما يؤدي إليه؛ فالكذب يف‬
‫املعامالت أشد من الكذب يف جمرد اإلخبار اليت ال يتعدّى ضررها‪ ،‬والكذب‬
‫يف باب األعراض ليس كالكذب يف باب األموال‪ ،‬وحَسْب الكاذب يف بيعه‬
‫أن متحق بركة بيعه‪ ،‬كما يف الصحيحني‪« :‬البيِّعان باخليار مامل يتفرقا‪ ،‬فإن‬
‫صدقا وبيّنا بُورك هلما يف بيعهما‪ ،‬وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»(‪.)3‬‬
‫وما ترتب على الكذب يف البيع والشراء؛ فإنه من أكل املال بالباطل‪.‬‬
‫وأحسن الصدق عند اهلل والناس‬ ‫ما أقبح الكـذب املـذموم قائلـه‬

‫وثبت يف البخاري عن مسرة بن جندب‪ ،‬قال‪ :‬كان النيب × إذا صلى‬

‫‪73‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫صالة أقبل علينا بوجهه فقال‪« :‬من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال‪ :‬فإن رأى‬
‫أحدٌ قصّها‪ ،‬فيقول‪ :‬ما شاء اهلل‪ ،‬فسألَنا يوماً فقال‪« :‬هل رأى أحد منكم‬
‫رؤيا؟» قلنا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪« :‬لكين رأيتُ الليلة رجلني أتياني فأخذا بيدي‪،‬‬
‫فأخرجاني إىل األرض املقدسة‪ ،‬فإذا رجل جالس‪ ،‬ورجل قائم‪ ،‬بيده كَلُّوبٌ‬
‫من حديد فيدخل ذلك الكَلُّوب يف شدقه حتى يبلغ قفاه‪ ،‬ثم يفعل بشدقه‬
‫اآلخر مثل ذلك‪ ،‬ويلتئم شدقه هذا‪ ،‬فيعود فيصنع مثله‪ ،‬قلت‪ :‬ما هذا؟‪»...‬‬
‫إىل أن قاال له‪« :‬أما الذي رأيتَه يُشَق شدقه؛ فكذاب! حيدث بالكذبة فتُحمل‬
‫عنه حتى تبلغ اآلفاق‪ ،‬فيُصنع به إىل يوم القيامة‪.)1(»...‬‬

‫وسبحان اهلل! إن اإلنسان لريى تأويل هذا يف هذا الزمن بالذات!‬


‫فبضغطة زر تنتشر املعلومة‪ ،‬ويف حلظات يسرية تبلغ اآلفاق! على صفحات‬
‫الشبكة العاملية‪ ،‬فماذا تنشر؟! قبل أن تضغط على زر النشر اقرأ جيداً ما‬
‫الذي تريد نشره من األخبار‪ ،‬أو املعلومات‪ ،‬فإن كان صدقاً فلله احلمد‪ ،‬وإن‬
‫كان كذباً سيبلغ اآلفاق؛ فقد مسعتَ ما حدثك به الصادق املصدوق ×!‬

‫اللهم ارزقنا الصدق يف القول والعمل‪ ،‬وباعد بيننا وبني الكذب كما‬
‫باعدت بني املشرق واملغرب‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫‪ -‬الكذب ال يرتك صاحبه؛ فمن كذب اليوم بلسانه سيكذب غداً‬
‫يف معاملته وأخالقه‪.‬‬
‫‪ -‬يف زمن سرعة انتقال املعلومات حيسن باملسلم أن حيذر من كل‬
‫كذبة حتدثه بها نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬أيها الناشرون لكل ما مسعتم أو قرأمت من أحاديث منسوبة‬
‫لرسول اهلل دون أن تتثبتوا من صحتها‪ :‬الكذب عليه ليس‬
‫كالكذب على غريه! فتثبتوا‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية احلادية عشرة‪:‬‬


‫من سن يف اإلسالم سنة حسنة‬
‫فله أجرها وأجر من عمل بها بعده‬
‫ما انتهك املرء من أخيه حرمةً أعظم من أن يساعده‬
‫على معصية ثم يهوّنها عليه‪( .‬بعضُ السلف)‬

‫( ‪)1‬‬
‫يف صدر النهار‪ ،‬يقبل على النيب × قومٌ حفاةٌ عراة‪ ،‬جمتابي النِّمار‬
‫أو العباء‪ ،‬متقلدي السيوف‪ ،‬عامتهم من مضر‪ ،‬بل كلهم من مضر؛ فت َمعَّر‬
‫وجهُ رسولِ اهلل × ملا رأى بهم من الفاقة‪ ،‬فدخل ثم خرج‪ ،‬فأمر بالالً فأذن‬
‫وأقام‪ ،‬فصلى ثم خطب فقال‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭼ [النساء‪ ]1 :‬إىل آخر اآلية‪ ،‬ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ [النساء‪]1 :‬‬
‫واآلية اليت يف احلشر‪ :‬ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭼ‬
‫[احلشر‪« ]18 :‬تصدق رجل من ديناره‪ ،‬من درهمه‪ ،‬من ثوبه‪ ،‬من صاع بره‪،‬‬
‫من صاع متره – حتى قال – ولو بشق مترة» قال‪ :‬فجاء رجل من األنصار‬
‫بصُرة(‪ )2‬كادت كفُّه تعجز عنها‪ ،‬بل قد عجزت! قال‪ :‬ثم تتابع الناس‪ ،‬حتى‬

‫‪76‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫رأيت كومني من طعام وثياب‪ ،‬حتى رأيت وجه رسول اهلل × يتهلل كأنه‬
‫مُذْهَبة‪ ،‬فقال رسول اهلل ×‪« :‬من سن يف اإلسالم سنة حسنة‪ ،‬فله أجرها‪،‬‬
‫وأجر من عمل بها بعده‪ ،‬من غري أن ينقص من أجورهم شيء‪ ،‬ومن سن يف‬
‫اإلسالم سنة سيئة‪ ،‬كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده‪ ،‬من غري أن‬
‫ينقص من أوزارهم شيء»(‪.)1‬‬
‫إن جاللة هذا املوقف‪ ،‬وعظمة هذا احلدث؛ جعلت النيب × يثبت‬
‫هذه القاعدة اجلليلة الرائعة‪ ،‬وينقشها على صدور أصحابه الذين كانوا‬
‫شاهدين على ذلك املوقف‪.‬‬
‫تأمل يف ألفاظها وعباراتها‪« :‬من سن يف اإلسالم سنة حسنة» أي‪ :‬أتى‬
‫بطريقة مرضية يشهد هلا أصل من أصول الدين «فاتُّبع عليها»(‪ ،)2‬كما يف‬
‫سنن الرتمذي(‪.)3‬‬
‫لقد أوردنا قصة هذه القاعدة؛ لتعلم «أن السنة هاهنا مِثْل ما فعل ذلك‬
‫الصحابي‪ ،‬وهو العمل مبا ثبت كونه سنة‪ ،‬وأن احلديث مطابق لقوله يف‬
‫احلديث اآلخر‪« :‬من أحيا سنة من سنيت قد أميتت بعدي» احلديث إىل قوله‪:‬‬
‫«ومن ابتدع بدعة ضاللة»‪ ،‬فجعل مقابل تلك السنة االبتداع‪ ،‬فظهر أن السنة‬
‫احلسنة ليست مببتدعة»(‪.)4‬‬

‫‪77‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ومن لطائف تفسري السلف املتعلق بهذا املعنى‪ ،‬قول عبداهلل بن مسعود‬
‫يف آية‪ :‬ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ قال‪﴿ :‬ما قدّمت﴾ من سنة‬
‫صاحلة يعمل بها من بعده؛ فله أجر من عمل بها من غري أن ينقص من‬
‫أجورهم شيئاً وما ﴿أخَّرَتْ﴾ من سنة سيئة يعمل بها بعده؛ فإن عليه مثل وزر‬
‫من عمل بها من غري أن ينقص من أوزارهم شيئاً»(‪.)1‬‬
‫إن هلذه القاعدة النبوية العظيمة آثاراً عملية ينبغي أن يُرى أثرها على‬
‫املؤمن حني يسمعها‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬أن هذا الكالم دعوة إىل التنافس يف اخلري‪ ،‬والتسابق يف افتتاح‬
‫مشروعاته النافعة‪.‬‬
‫‪ -2‬ومما يدخل يف طي هذه القاعدة‪ :‬ما أشار إليه املنذري – رمحه اهلل‬
‫سخُ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو كتبه أو‬
‫– بقوله‪« :‬ونَ ْ‬
‫عمل به ما بقي خطه‪ ،‬وناسخُ ما فيه إثم‪ :‬عليه وزره ووزر ما‬
‫عمل به ما بقي خطه»(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬نستفيد كذلك من هذه القاعدة‪ :‬فضل الصحابة رضوان اهلل‬
‫عليهم «ألنهم سنوا سنن اخلري‪ ،‬وافتتحوا أبوابه‪ ،‬والشك يف أنهم‬
‫الذين سنوا مجيع السنن‪ ،‬وسابقوا إىل املكارم‪ ،‬ولو عدت مكارِ ُمهُم‬

‫«‬ ‫»‬ ‫«‬

‫»‬

‫‪78‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫(‪)1‬‬
‫وحصرت ملألت أسفارًا‪ ،‬ولظلت األعنيُ مبطالعتها حيارى»‬
‫فرضي اهلل عنهم وأرضاهم‪.‬‬
‫‪ -4‬التحذير من البدع يف الدين‪ ،‬وهذا أصل متفق عليه بني علماء‬
‫امللة‪.‬‬
‫وإمنا قيّد التحذير من البدع يف الدين؛ ألن أمور الدنيا األمر فيها‬
‫واسع‪ ،‬وباق على أصل اإلباحة‪ ،‬وحكمه خيتلف حبسب مآالته‪ :‬إن خرياً‬
‫فخري‪ ،‬وإن شراً فشر‪.‬‬
‫وعلى هذا فجميع املخرتعات املعاصرة داخلة يف أصل اإلباحة‪،‬‬
‫كاألسلحة احلديثة‪ ،‬وتقنيات االتصاالت‪ ،‬ووسائل النقل املتنوعة‪.‬‬

‫وأنت إذا تأملتَ أيها املؤمن هذا‪ ،‬وجدت أن سدّ باب االبتداع يف‬
‫الدين‪ ،‬وإباحته يف أمر الدنيا من مظاهر عظمة هذه الشريعة‪ ،‬وبيان ذلك‪ :‬أنه‬
‫لو فُِتحَ الباب لكل من أراد أو لكل فرقة وطائفة أن تبتدع يف الدين ما ليس‬
‫منه لتمزقت األمة وتفرقت‪ ،‬ولوقع نقيض مقصود الشريعة من االجتماع‬
‫واالعتصام بالوحي‪ ،‬تأمل هذه اآلية‪ ،‬يقول اهلل عزّ وجل‪ :‬ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﭼ [األنعام‪.]159 :‬‬
‫أما وجه العظمة يف إباحة االبتداع واالخرتاع يف أمر الدنيا فإن اهلل‬
‫تعاىل حني استخلف أبانا آدم وذريته؛ كان من ضرورة هذا االستخالف سعي‬

‫‪79‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫هذا املخلوق يف عمارة األرض‪ ،‬ولن يتم ذلك إال بفتح الباب على مصراعيه‬
‫يف هذه األمور‪ ،‬اليت هي مشرتك إنساني‪ ،‬وهلذا فإن من قرأ يف كتب‬
‫احلضارات وجد أثر هذا التالقح الفكري يف أمم األرض‪ ،‬وحضارات‬
‫الشعوب‪ ،‬فهذه أمة خترتع شيئاً‪ ،‬فتطوره أمة أخرى‪ ،‬وأمة تبدأ مبشروع‬
‫هندسي فتطوره أخرى‪ ،‬وهكذا‪ ،‬حتى أصبح شعوب األرض كلهم بال‬
‫استثناء يستفيد بعضهم من بعض يف هذا الباب‪.‬‬
‫وقد سبق تفصيل بعض هذا املعنى يف القاعدة الثانية ‪« :‬من أحدث يف‬
‫أمرنا هذا»‪.‬‬
‫‪ -5‬ومن دالالت هذه القاعدة النبوية اجلليلة‪ :‬أن الوسائل هلا أحكام‬
‫املقاصد‪ ،‬سواء كان ذلك يف الشأن الديين أو الدنيوي‪ ،‬ولنضرب‬
‫على ذلك بعض األمثلة اليت توضح املراد‪:‬‬
‫فمن أمثلة الوسائل الدينية‪:‬‬
‫‪ ‬مجع الصحابة املصاحف على مصحف واحد؛ كان وسيلة إىل غاية‬
‫من أعظم الغايات‪ ،‬وهي حفظ القرآن الكريم‪ ،‬ومنع التفرق بني‬
‫املسلمني‪ ،‬وتضليل بعضهم بعضاً‪ ،‬وقصة بدء اجلمع اليت ذكرها‬
‫البخاري عن حذيفة رضي اهلل عنه تدل على هذا‪.‬‬
‫فالقرآن يف ذاته حمفوظ‪ ،‬لكن وسيلة اجلمع مل يقم سببها إال بعد وفاة‬
‫النيب × حني خشي الصحابة رضي اهلل عنهم تفرق الناس باختالف‬
‫األحرف اليت يقرأون بها‪ ،‬فكان مجعه رمحة من اهلل‪ ،‬وغاية احلكمة من‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫وقل مثل ذلك يف مجع السنة وتبويبها وترتيبها؛ فهذه سنة حسنة‬
‫يتوصل بها إىل حفظ السنة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ومن أمثلة الوسائل الدنيوية‪ :‬ما فعله أمري املؤمنني عمر – رضي اهلل‬
‫عنه – يف وضع ديوان اجلند‪ ،‬وبعض الرتاتيب اإلدارية اليت اقتضتها مصلحة‬
‫الدولة آنذاك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫أبدِع يف الدنيا وال تبتدع يف الدين‪.‬‬
‫إن عجز مالُك عن اخلري فال يعجز لسانُك‪.‬‬
‫الذِّكر احلسن عمرك الثاني‪..‬فأحسن إليه‪.‬‬
‫السعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة الثانية عشرة‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫كل مسكر مخر‪ ،‬وكل مخر حرام‬
‫مناقـــــسد تفســـــد الرجـــــل الكر ـــــا‬ ‫رأيــــــــت اخلمــــــــر منقصــــــ ـةً وفيهــــــــا‬
‫وال أشــــــــفي بهــــــــا أبــــــــداً ســــــــقيما‬ ‫فــــــــال – واهلل – أشــــــــربها حيــــــــاتي‬

‫هذه قاعدة عظيمة‪ ،‬بل هي أصل من األصول يف باب األشربة‪ ،‬واليت‬


‫تؤكد محاية الشريعة ألحد الضروريات اخلمس‪ ،‬وهو العقل‪ ،‬ذلكم اهلبة‬
‫الربانية العظيمة هلذا اإلنسان‪ ،‬وهذه اخلمس هي‪ :‬الدين‪ ،‬العرض‪ ،‬املال‪،‬‬
‫العقل‪ ،‬النفس‪.‬‬
‫والنصوص يف حفظ هذه الضروريات متواترة‪ ،‬ومما أطبق عليه العقالء‬
‫يف كل دين‪ ،‬وإن وقع اختالف يف بعض التفاصيل‪.‬‬
‫وكلمة املُسْكر – يف أصل تركبيها – تدل على حرية‪ ،‬فإن الشيء إذا‬
‫أغلق عليه وحيل دون جريانه الطبيعي حَارَ‪ ،‬وكذلك تَصَْنعُ اخلمر‪ ،‬وهلذا قال‬
‫من أوتي جوامع الكلم × هذه القاعدة اجلامعة‪« :‬كل مسكر مخر‪ ،‬وكل مخر‬
‫حرام»‪ ،‬يقول ابن القيم – رمحه اهلل –‪« :‬فلفظ اخلمر عام يف كل مسكر‪،‬‬
‫فإخراج بعض األشربة املسكرة عن مشول اسم اخلمر هلا؛ تقصريٌ به وهضم‬

‫‪82‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫لعمومه‪ ،‬بل احلق ما قاله صاحب الشرع‪ :‬كل مسكر مخر»(‪.)1‬‬


‫ومراده – رمحه اهلل – الردّ بهذا على طائفة من الفقهاء قصرت يف‬
‫معرفة حد اخلمر «حيث خصوه بنوع خاص من املسكرات‪ ،‬وكل هذا من‬
‫تقصريهم يف معرفة حد اخلمر؛ فإن صاحب الشرع قد حده حبد يتناول كل‬
‫فرد من أفراد املسكر فقال‪« :‬كل مسكر مخر»‪ ،‬فأغنانا هذا احلد عن باب‬
‫طويل عريض كثري التعب من القياس‪ ،‬وأثبتنا التحريم بنصه ال بالرأي‬
‫والقياس»(‪.)2‬‬
‫إذا تبني هذا فإن حتريم اخلمر مما تواترت به النصوص من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وأمجع عليه سلف األمة‪ ،‬ويف حترميها من احلكم الظاهرة والباطنة ما‬
‫يعسر معه احلصر‪.‬‬
‫ومن أول ما يُذكر يف علل النهي عنها ما ذكره حمرِّم هذه اخلمرة علينا‪،‬‬
‫وهو ربنا العليم اخلبري فقال‪ :‬ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ‬
‫[املائدة‪.]91 :‬‬
‫وأنت إذا تأملت هذه العلة وجدتها يف مجيع املسكرات واملخدرات‪،‬‬
‫فوجب طرد احلكم يف اجلميع‪ ،‬فكل ما صد عن الصالة وعن ذكر اهلل ﻷ فهو‬
‫داخل يف هذا احلكم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وال يسرتيب منصف أن اخلمر واملخدرات تفعل فعلها يف عقل‬


‫صاحبها‪ ،‬حتى يفعل ما ال ميكنه أن يقدم عليه حال إفاقته‪ ،‬وهلذا مسّتها‬
‫العرب أمَّ اخلبائث‪.‬‬
‫روى النسائي – رمحه اهلل – يف سننه عن عثمان رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫«اجتنبوا اخلمر فإنها أم اخلبائث‪ ،‬إنه كان رجل ممن خال قبلكم تَعبَّد‪ ،‬فعلِقتْه‬
‫امرأةٌ غوية‪ ،‬فأرسلت إليه جاريتها‪ ،‬فقالت له‪ :‬إنا ندعوك للشهادة‪ ،‬فانطلَق‬
‫مع جاريتها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه‪ ،‬حتى أفضى إىل امرأة وضيئة‬
‫عندها غالم وباطية مخر(‪ ،)1‬فقالت‪ :‬إني واهلل ما دعوتك للشهادة‪ ،‬ولكن‬
‫دعوتك لتقع علي‪ ،‬أو تشرب من هذه اخلمرة كأساً‪ ،‬أو تقتل هذا الغالم‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬فاسقيين من هذا اخلمر كأس ًا‪ ،‬فسقته كأساً‪ ،‬قال‪ :‬زيدوني فلم يَرِمْ‬
‫حتى وقع عليها‪ ،‬وقتل النفس! فاجتنبوا اخلمر‪ ،‬فإنه واهلل ال جيتمع اإلميان‬
‫وإدمان اخلمر إال ليوشك أن خيرج أحدُهما صاحبَه»(‪.)3‬‬
‫وما ذكره عثمان – رضي اهلل عنه – يصدّقه الواقع؛ فكم من حوادث‬
‫قتل‪ ،‬أو بالسيارات‪ ،‬كان سببها تعاطي اخلمرة وما هو أخبث منها‬
‫كاملخدرات! اليت يسعى املفسدون لنشرها‪ ،‬ويف أمريكا وحدها نشرت‬

‫»‬ ‫«‬
‫»‬ ‫«‬

‫‪84‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إحصائية تقول‪ :‬إنه يف كل ‪ 39‬دقيقة ميوت شخص واحد بسبب اخلمر‪،‬‬


‫وجمموع من ميوتون بسببها سنوياً يف بريطانيا وحدها حنو ‪ 200.000‬شخص!‬
‫وتقول منظمة الصحة العاملية يف تقرير حديثٍ نشر يف منتصف شهر‬
‫ربيع األول من عام ‪1432‬هـ عن آثار الكحوليات على الصحة يف العامل إن‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ 2.5‬مليون شخص تقريبا ميوتون كل عام ألسباب متصلة بالكحوليات‪.‬‬
‫إن املقام ال حيتمل سرد ما وقفت عليه من املفاسد اليت جترها وتسببها‬
‫هذه اخلمرة وما يلحق بها من خمدرات ومسكرات‪ ،‬إال أنه ميكن القول بأن‬
‫هذه املفاسد تنقسم إىل قسمني‪ :‬مفاسد دينية‪ ،‬ومفاسد دنيوية‪:‬‬
‫أما املفاسد الدينية‪ :‬فقد جاء النص عليها يف اآلية اآلنفة الذكر‪ ،‬وأي‬
‫خري يف عملٍ يصد اإلنسان عن الصلة بربه‪ ،‬فإن الصالة والذكر هما احلبل‬
‫الذي يتعلق به املؤمن‪ ،‬ويتصل به مع ربه‪ ،‬فإذ جاء ما يقطعهما –بل ويربطه‬
‫بالشر من جهة أخرى– فتلك حقيقة بأن تسمى مبا مساها به عثمان – رضي‬
‫اهلل عنه – «اخلمر أم اخلبائث» فهي أمُّ كل شر‪ ،‬وأساس كلِّ خُ ْبثٍ‪.‬‬
‫ومن املفاسد الدينية اليت نصت عليها اآلية‪ :‬إيقاع العداوة والبغضاء‬
‫بني أهلها‪ ،‬وكم شاهد الناس من هذا عرباً‪ :‬فكم من حادثة قتلٍ بني شخصني‬
‫بسببها ثارت العداوة بني أسرتني بل قبيلتني! وكم من أُسرٍ تشتت بسبب‬
‫تعاطي أحد أفرادها للخمرة أو املخدر! وكم من فاحشة ارتكبت حال تناول‬
‫اخلمر‪ ،‬فهتكت أعراض‪ ،‬بل رمبا كان العرض املهتوك عرض أحد األقارب!‬
‫نعوذ باهلل من غضب اهلل وعقابه‪.‬‬

‫‪G B http://ara.reuters.com/article/internetNews/idARACAE‬‬

‫‪85‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وأما مفاسدها الدنيوية‪ :‬فشيء ال يكاد حيصر‪ ،‬سواء من الناحية الطبية‪،‬‬


‫أو االقتصادية‪ ،‬أو االجتماعية!‬
‫أما مضرتها الصحية‪ :‬فقد أمجع عليها األطباء؛ ألنهم وجدوها سبباً يف‬
‫كثري من األمراض اخلطرية على الكبد‪ ،‬واجلهاز اهلضمي‪ ،‬والعصيب‪ ،‬وغري‬
‫ذلك مما هو مفصّل يف مواضعه‪.‬‬
‫وأما على الصعيد االقتصادي‪ ،‬فأرقام كبرية مزعجة تقرؤها إذا ما‬
‫قررت أن ختوض يف املشاكل االقتصادية واخلسائر اليت تعود على الدول‬
‫بسبب هذه املشكلة الدولية! فخسائر اجملتمع من جرَّاء اخلمر تصل إىل ‪166‬‬
‫بليون دوالر سنويًّا كما تقدرها منظمات الصحية العاملية‪ ،‬وثلث أسرّة‬
‫املستشفيات يف الدول الصناعية يشغلها مرضى اخلمر‪.‬‬
‫وتصرف دولة مثل بريطانيا ‪ 164‬مليون إسرتليين سنويًّا لعالج مرضى‬
‫اخلمر‪ ،‬حيث يقبع يف املستشفيات العقلية والنفسية يف إجنلرتا ما يقرب من‬
‫العشرين إىل الثالثني ألف شخص بسبب اخلمر‪ ،‬وُيعَدّ هذا ضعف القدر‬
‫الذي تكسبه من جراء بيع اخلمور‪ ،‬ويف أيرلندا ‪ %40‬من زوار املستشفيات‬
‫من مرضى اخلمر‪.‬‬
‫ووصل حبسب إحصائية يف أوائل الثمانينيات عدد مصحات عالج‬
‫إدمان الكحوليات يف بلد كأملانيا إىل ‪ 9000‬مصحة‪ ،‬وحيذر اخلرباء أن األمر‬
‫يزداد سوءاً‪ ،‬وأن اجملتمع مهدد بقوة بسبب اخلمر‪ ،‬حيث ظهرت أمراض‬
‫عديدة وسط الشباب‪ ،‬وقلَّ معدل والدة األطفال كما ذكر يف تقرير ظهر يف‬
‫الرابع عشر من شهر مارس ‪2002‬م‪.‬‬
‫والعجيب أنه مع هذا التقدم املادي املذهل للغرب‪ ،‬إال أنها أخفقت‬

‫‪86‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يف هذه املعضلة الكبرية‪ ،‬وصارت من أعقد املشكالت اليت جيأر منها الغرب‪،‬‬
‫ويبحث عن حل لكن دون جدوى! فهذا السيناتور األمريكي وليم فولربايت‬
‫يقول عن مشكلة اخلمر‪« :‬لقد وصلنا إىل القمر‪ ،‬ولكن أقدامنا مازالت‬
‫منغمسة يف الوحل‪ ،‬إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الواليات املتحدة فيها‬
‫أكثر من ‪ 11‬مليون مدمن مخر وأكثر من ‪ 44‬مليون شارب مخر!»‪.‬‬
‫أما املشاكل االجتماعية للخمر فحدِّث وال حرج‪ ،‬ففي دراسة‬
‫اجتماعية حديثة عن اجملتمع األمريكي ظهر أن الطالق بني الزوجني الذي‬
‫يعاني أحدهما من شرب اخلمر يزيد ‪ 3‬أضعاف احتماالت الطالق العادي‪.‬‬
‫وتظهر مشاكل كبرية بني أفراد األسر اليت تشرب اخلمر؛ لضعف‬
‫االتصال فيما بينهم‪ ،‬ولضعف قدرتهم على حل واستيعاب املشاكل‪ ،‬كما أنه‬
‫جل تعرضهم لسوء املعاملة أو اإلهمال يأتي ‪ %81‬ضحايا‬
‫من مليون طفل سُ ّ‬
‫بسبب اخلمر‪ ،‬وأوضحت الدراسة أن الكحول هو مفتاح لـ‪ %86 :‬من القتل‬
‫غري العمد‪ %54 ،‬من القتل املتعمد والشروع فيه‪ %62 ،‬من حوادث‬
‫االغتصاب‪ %48 ،‬من وقائع اللصوصية‪ %44 ،‬من السطو على املنازل‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫و‪ %66‬من املدمنني يستخدمون املخدرات األخرى‪.‬‬
‫وأما حياة املدمن فتتغري رأسًا على عقب! من خالفات ال تنتهي مع‬
‫العائلة واألصدقاء‪ ،‬إىل عالقات متوترة مع رؤساء العمل بسبب اإلهمال‪،‬‬
‫وفقدانِ القدرة على اإلجناز‪ ،‬وهو ما يؤدي عادة إىل البطالة‪ ،‬كما يصبح‬
‫شخصًا منبوذًا مسببًا لألضرار ومتصفًا بالعنف‪.‬‬

‫«‬ ‫«‬

‫‪87‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وباجلملة‪ ،‬فلو مل يكن يف اخلمر إال ذهاب العقل لكفى سبباً للتحريم!‬
‫فكيف يشرب ما يزيل عقله! فيكون أضحوكةً للصبيان‪ ،‬ويتصرف تصرف‬
‫اجملانني؟! لكن كثرياً من الناس ال يعقلون! فتجدهم يتهافتون عليها‪،‬‬
‫فيُذْهِبُونَ بها عقوهلم‪ ،‬وأديانهم‪ ،‬ويهتكون بسببها أعراضهم‪ ،‬ويتلفون أمواهلم‬
‫وصحتهم‪ ،‬نعوذ باهلل من احلرمان‪.‬‬

‫ومع كل ما تبذله الدول الكربى من أساليب يف حماربة هذا الداء‬


‫ا خلبيث‪ ،‬إال أنه هذه احملاوالت تقف عاجزة‪ ،‬وضعيفة‪ ،‬إذا ما قورنت بسلطان‬
‫الضمري الذي يربيه اإلسالم يف أتباعه‪ ،‬بتنمية عبادة املراقبة هلل تعاىل فيما يأتي‬
‫اإلنسان ويذر‪ ،‬وهلذا فمع انتشار اخلمر يف العامل‪ ،‬ومع تورط بعض املسلمني‬
‫فيها‪ ،‬إال أن نسبة من يشربونها يف الدول اإلسالمية ال تقارن أبداً بأصغر بلد‬
‫من بلدان أوربا املتحضرة يف باب املادة‪ ،‬الفقرية يف باب الروح‪.‬‬

‫وبعد‪ :‬فإن من أشد اآلثار اليت جتعل املؤمن خياف من شربها يف الدنيا‬
‫أن يُ حرم من التلذذ بها يف اآلخرة‪ ،‬ففي سياق هذه القاعدة النبوية اليت حنن‬
‫بصدد احلديث عنها‪ ،‬خيتم النيب × هذه القاعدة حمذرا ومنذراً من يفكر يف‬
‫شربها فيقول – كما يف الصحيحني‪« :‬ومن شرب اخلمر يف الدنيا فمات وهو‬
‫يدمنها مل يتب؛ مل يشربها يف اآلخرة»(‪.)1‬‬

‫‪88‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فإىل كل من ابتلي بشيء من هذه املسكرات واملخدرات‪ ،‬ما أحراك أن‬


‫تقتدي بصحابة نبيك × الذين قالوا حني مسعوا منادي اهلل ينادي‪ :‬ﭽﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ [املائدة‪ ]91 :‬فقالوا‪« :‬انتهينا‪ ..‬انتهينا»‬
‫( ‪)1‬‬

‫قُلها بثقة يف عون ربك‪ ،‬وابذل السبب واجلهد يف اجتنابها‪ ،‬وقل لرفقاء السوء‬
‫ممن يزينها لك‪ :‬هذا فراق بيين وبينكم‪ ،‬وعجلت إليك ربي لرتضى‪ ،‬وأبشر‬
‫بالفرج العاجل‪ ،‬يغشاك من بني يديك ومن خلفك؛ فإن ربك يقول‪:‬‬
‫ﭽﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ‬
‫[العنكبوت‪.]69:‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫أطع ربك واحفظ عقلك‪.‬‬
‫اجملتمع األطوع هلل بعيد عن املهلكات‪.‬‬
‫حياة اإلدمان ال تليق بك أيها املسلم‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثالثة عشرة‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من بطّأ به عمله مل يسرع به نسبده‬

‫«اجعل خزانتك قربك‪ ،‬واحشه من كل خري؛‬


‫حتى إذا قدمت فرحت مبا قدمت إليه من‬
‫املعروف»‪[ .‬السَّري السَّقَطي]‪.‬‬
‫‪‬‬

‫ما أجلها من قاعدة وأمساها! يسكن العدل يف سكونها‪ ،‬ويرتبع‬


‫القسط على عرشها!‬
‫ال حماباة وال طبقية وال جماملة يف هذا الدين العظيم الذي يربي يف‬
‫أتباعه رضاعة العزة والكرامة بشيء يقدرون عليه‪ ،‬ومن كسبهم وجِدّهم‪ ،‬ال‬
‫بشيء آخر ال طاقة هلم به‪.‬‬
‫وبيان هذا‪ :‬أن اإلنسان ال حياسَب وال يُمدح وال يُذم على ما ال اختيار‬
‫له فيه – كنَسَبه‪ ،‬ولونه‪ ،‬ومجاله‪ ،‬ومكانه‪ ،‬والزمان الذي يعيش فيه‪ ،‬وحنو هذه‬
‫املعاني – بل ميدح ويذم على قوله وعمله؛ فذاك مِن كَسِْبه!‬
‫وال ريب أن النسب الشريف من نعمة اهلل على العبد إذا اقرتن‬
‫بالتقوى‪ ،‬إال أنه مل جيعل له الشرع اعتباراً يف التفاضل مطلقاً‪ ،‬إال ما اتصل‬
‫بنسب النيب ×‪ ،‬فإن الشريعة «علقت بالنسب أحكاماً‪ :‬ككون اخلالفة من‬

‫‪90‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قريش‪ ،‬وكون ذوي القربى هلم اخلمس‪ ،‬وحتريم الصدقة على آل حممد ×‬
‫وحنو ذلك؛ ألن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غريهم»(‪.)1‬‬
‫ولقد قرّر النيب × أن كل امرءٍ سيحاسب على عمله ال على نسبه‬
‫بوسائل عدّة‪ ،‬ورسّخه بعِدة رسائل أرسلها يف أوقاتٍ متفاوتة‪ ،‬وبأساليب‬
‫متنوعة‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه أول ما أُنزِلَ عليه‪ :‬ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭼ قال‪:‬‬
‫«يا معشر قريش! اشرتُوا أنفسَكم من اهللِ؛ ال أُغين عنكم من اهللِ‬
‫شيئاً‪ ،‬يا بين عبداملطلب! ال أغين عنكم من اهلل شيئاً‪ ،‬يا عباس بن‬
‫عبداملطلب! ال أُغين عنك من اهلل شيئاً‪ ،‬يا صفية عمّة رسول اهلل!‬
‫ال أغين عنك من اهلل شيئاً‪ ،‬يا فاطمة بنت حممد! سليين ما شئتِ‪،‬‬
‫من مالي ال أغين عنكِ من اهلل شيئاً»(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬يف فتح مكة‪ ،‬أمر النيب × بالالً أن يصعد فوق الكعبة لريفع‬
‫األذان‪ ،‬يف مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش لريى هذا‬
‫العبد احلبشي يقف كهذا املوقف! ولكنه اإلسالم‪ ،‬واهلدي النبوي‬
‫الذي يربي بالفعل والقول‪.‬‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل إنه يف نفس اليوم يدخل × الكعبةَ ويصلي‬
‫فيها‪ ،‬وال يدخل معه سوى أسامة بن زيد – مواله ابن مواله – وبالل‬

‫‪91‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫احلبشي‪ ،‬وعثمان بن طلحة املسئول عن مفتاح الكعبة!‬
‫إنها رسالة أبلغ من مائة خطبة‪ ،‬إنها رسالة عملية ليعرف الناس يف هذا‬
‫اليوم العظيم ما هي موازين حممد × يف تقييم الناس‪ ،‬ومعرفة منازهلم!‬
‫‪ -3‬وهو موقف وقع يف أعظم مشهد عرفتْه الدنيا يف ذلك الوقت!‬
‫إنه مشهد حجة الوداع‪ ،‬ففي بعض مشاهد تلك احلجة‪ ،‬وبينما الناس‬
‫مستعدون للنفري من عرفة‪ ،‬وإذا باألبصار ترمق الدابة اليت كان النيب ×‬
‫يركبها‪ ،‬ويتساءلون‪ :‬من الذي سيحظى بشرف إال الذي سيحظى بشرف‬
‫االرتداف مع النيب ×؟ فلم يَرُعْهم إال وأسامة – الغالم األسود‪ :‬مواله‬
‫وابن مواله – يركب خلف النيب ×!‬
‫فعل هذا × وهو الذي خطب يف ذلك اليوم خطبته العظيمة اليت قرّر‬
‫فيها أصول التوحيد واإلسالم‪ ،‬وهدم فيها أصول الشرك واجلاهلية‪ ،‬وقال‬
‫ي هاتني موضوع»‪.‬‬
‫كلمته املشهورة‪« :‬إن كل شيء من أمر اجلاهلية حتت قدمَ ّ‬
‫إنها الرتمجة العملية لقوله ×‪« :‬أال إن ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪،‬‬
‫ال فضل لعربي على أعجمي‪ ،‬وال لعجمي على عربي‪ ،‬وال ألمحر على‬
‫أسود‪ ،‬وال ألسود على أمحر إال بالتقوى»(‪.)2‬‬
‫وإذا تأملتَ القرآن وجدتَه يصدّق هذه القاعدة النبوية اجلليلة‪« :‬من‬
‫بطأ به عمله مل يسرع به نسبه»‪ ،‬ففي القرآن سورة كاملة يف ذمِّ عمّ النيب ×‬

‫‪92‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫أبي هلب تتلى إىل يوم القيامة‪ ،‬ويقرأها الصبيان يف أول حمفوظاتهم‪ ،‬ويف‬
‫مقابل ذلك‪ ،‬فالصحابي الوحيد الذي ذكر امسه يف القرآن هو زيد بن‬
‫حارثة‪ ،‬مواله وحِبه‪ ،‬فأي برهان أعظم من ذلك على تقرير هذه القاعدة!‬
‫يقول ابن تيمية‪« :‬وهلذا ليس يف كتاب اهلل آية واحدة ميدح فيها أحداً‬
‫بنسبه‪ ،‬وال يذم أحداً بنسبه؛ وإمنا ميدح باإلميان والتقوى‪،‬ويذم بالكفر‬
‫والفسوق والعصيان»(‪.)1‬‬
‫وقال أيضاً‪« :‬والفضل إمنا هو باألمساء احملمودة يف الكتاب والسنة‬
‫مثل‪ :‬اإلسالم‪ ،‬واإلميان‪ ،‬والرب‪ ،‬والتقوى‪ ،‬والعلم‪ ،‬والعمل الصاحل‪،‬‬
‫واإلحسان‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬ال مبجرد كون اإلنسان عربياً‪ ،‬أو عجمياً‪ ،‬أو أسود‪،‬‬
‫أو أبيض‪ ،‬وال بكونه قرويا‪ ،‬أو بدوياً»(‪.)2‬‬
‫ومن األشياء الالفتة للناظر يف تراجم األئمة الكبار – الذين جاءوا بعد‬
‫طبقة الصحابة رضوان اهلل عليهم – أن كثرياً منهم من املوالي‪ ،‬وكم نفع اهلل‬
‫بهم من أمم! وال زال نفعهم ولن يزال إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها‪،‬‬
‫فظهر بذلك مصداق قوله ×‪« :‬إن اهلل يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به‬
‫آخرين»(‪.)3‬‬
‫يقول الزهري – رمحه اهلل –‪ :‬قدمت على عبدامللك بن مروان فقال‪:‬‬
‫من أين قدمت يا زهري؟ قلت‪ :‬من مكة! قال‪ :‬فمن خلّفت بها يسود أهلها؟‬

‫‪93‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫قلت‪ :‬عطاء بن أبي رباح‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم من املوالي؟ قلت‪ :‬من‬
‫املوالي‪ .‬قال‪ :‬ومب سادهم؟ قلت‪ :‬بالديانة والرواية! قال‪ :‬إن أهل الديانة‬
‫والرواية لينبغي أن يسودوا‪ .‬قال‪ :‬فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت‪ :‬طاوس‬
‫بن كيسان‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم من املوالي؟ قلت‪ :‬من املوالي‪ ،‬قال‪ :‬ومب‬
‫سادهم؟ قلت‪ :‬مبا سادهم به عطاء! قال‪ :‬إنه لينبغي‪ ،‬قال‪ :‬فمن يسود أهل‬
‫مصر؟ قلت‪ :‬يزيد بن أبي حبيب‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم من املوالي؟ قلت‪:‬‬
‫من املوالي‪ .‬قال‪ :‬فمن يسود أهل الشام؟ قلت‪ :‬مكحول‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب‬
‫أم من املوالي؟ قلت‪ :‬من املوالي‪ ،‬عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل! قال‪:‬‬
‫فمن يسود أهل اجلزيرة؟ قلت‪ :‬ميمون بن مهران‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم من‬
‫املوالي؟ قلت‪ :‬من املوالي! قال‪ :‬فمن يسود أهل خراسان؟ قلت‪ :‬الضحاك‬
‫بن مزاحم‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم املوالي؟ قلت‪ :‬من املوالي‪ .‬قال‪ :‬فمن يسود‬
‫أهل البصرة؟ قلت‪ :‬احلسن بن أبي احلسن‪ ،‬قال‪ :‬فمن العرب أم من املوالي؟‬
‫قلت‪ :‬من املوالي‪ .‬قال‪ :‬فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت‪ :‬إبراهيم النخعي‪،‬‬
‫قال‪ :‬فمن العرب أم املوالي؟ قلت‪ :‬من العرب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويلك يا زهري! فرّجت عين! واهلل ليسودن املوالي على العرب‬
‫حتى خيطب هلا على املنابر والعرب حتتها! قلت‪ :‬يا أمري املؤمنني! هو أمر اهلل‬
‫ودينه‪ ،‬من حفظه ساد‪ ،‬ومن ضيّعه سقط»(‪.)1‬‬
‫وهذا أبو صاحل السَّ ّمان‪ ،‬احملدث الثقة‪ ،‬ابن ذكوان‪ ،‬كان موىل من‬

‫‪94‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫املوالي‪ ،‬لكن امسع شهادة أبي هريرة له‪ :‬ما يضر هذا أن ال يكون من بين‬
‫عبد مناف!‬
‫ويقول األعمش – تلميذه –‪ :‬كان أبو صاحل مؤذناً‪ ،‬فأبطأ اإلمام؛‬
‫(‪)1‬‬
‫فأمّنا‪ ،‬فكان ال يكاد جييزها من الرقة والبكاء!‬
‫روي أن عمر – رضي اهلل عنه – قال‪« :‬إن العرب شرُ َفت برسول اهلل‪،‬‬
‫ولعل بعضها يلقاه إىل آباء كثرية‪ ،‬وما بيننا وبني أن نلقاه إىل نسبه ثم ال نفارقه‬
‫إىل آدم إال آباء يسرية‪ ،‬وواهلل لئن جاءت األعاجم باألعمال‪ ،‬وجئنا بغري‬
‫عمل؛ فهم أوىل مبحمد منا يوم القيامة! فال ينظر رجل إىل قرابة! وليعمل ملا‬
‫عند اهلل؛ فإن من قصّر به عملُه مل يسرع به نسبُه»(‪.)2‬‬
‫ومثَّة نوع من األنساب يقع فيه التفاخر من بعض الناس‪ ،‬وهو النسب‬
‫املعنوي‪ ،‬فمِن الناس مَن قد يفاخر بأن أباه كان عاملاً‪ ،‬أو وزيراً‪ ،‬أو أمرياً‪ ،‬أو‬
‫حاكماً‪ ،‬وهو قليل احلظ من الديانة واألخالق‪ ،‬وماذا يغين عنه ذلك؟!‬
‫واألجدر بهذا املتفاخر أن يكون عصامياً ال عظامياً‪ ،‬أي‪ :‬جيتهد أن يكون‬
‫كعصام الذي سوّد نفسه بنفسه‪ ،‬بسبب علو همته – بعد توفيق اهلل – وال‬
‫يكون عظامياً يفاخر بآباء ماتوا‪ ،‬وعظام بالية‪:‬‬
‫تضــايق عنــه مــا بنتــه جــدوده‬ ‫إذا املـرء مل يــف افتخــاراً لنفســه‬

‫‪95‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وهلل در القائل‪:‬‬
‫فال ترتك التقوى اتكاالً علـى النسـب‬ ‫لعمـــر اهلل مـــا ا إلنســـان إال بدينـــه‬
‫وقد وضـع الشـرك الشـقيَّ أبـا هلـب‬ ‫لقــد رفــع اإلســالم ســلمان فــارسٍ‬
‫حملتســـــب إال بـــــآخر مكتســـــب‬ ‫فمـــا احلســـب املـــوروث إن در دره‬
‫من املثمرات اعتده الناس يف احلَطَـب‬ ‫إذا الغصــن مل يثمــر وإن كــان شــعبة‬

‫ولسائل أن يقول‪« :‬فإن مل يبطئ به العمل‪ ،‬وسارع إىل اخلري وسبق إليه‪،‬‬
‫فهل يسرع به النسب؟‬
‫فيقال‪ :‬ال شك أن النسب الشريف من نعم اهلل على العبد إذا تزين‬
‫بالتقوى‪ ،‬وإال فال أثر له‪ ،‬وال ينفع صاحبه عند اهلل – كما سبق –‪ ،‬ويف‬
‫الصحيح‪« :‬إن اهلل اصطفى كنانة من ولد إمساعيل‪ ،‬واصطفى قريشا من‬
‫كنانة‪ ،‬واصطفى من قريش بين هاشم‪ ،‬واصطفاني من بين هاشم»(‪ ،)1‬وقال‪:‬‬
‫«خياركم يف اإلسالم خياركم يف اجلاهلية إذا فقهوا»(‪.)3(»)2‬‬
‫يقول ابن تيمية – رمحه اهلل – موضحاً هذا املعنى‪:‬‬
‫«وأما نفس القرابة فلم يعلّق بها ثواباً وال عقاباً‪ ،‬وال مدح أحداً مبجرد‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا ال ينايف ما ذكرناه من أن بعض األجناس والقبائل أفضل من‬
‫بعض‪ ،‬فإن هذا التفضيل معناه كما قال النيب ×‪« :‬الناس مَ َعادن كمعادن‬
‫الذهب والفضة؛ خيارهم يف اجلاهلية خيارهم يف اإلسالم إذا فقهوا»(‪،)4‬‬

‫‪96‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فاألرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة‪ ،‬كان معدن الذهب خرياً؛‬
‫ألنه مظنة وجود أفضل األمرين فيه‪ ،‬فإن قدر أنه تعطل ومل خيرج ذهبا‪ ،‬كان‬
‫ما خيرج الفضة أفضل منه‪.‬‬
‫فالعرب يف األجناس وقريش فيهم ثم هاشم يف قريش مظنة أن يكون‬
‫فيهم من اخلري أعظم مما يوجد يف غريهم؛ وهلذا كان يف بين هاشم النيب ×‪،‬‬
‫الذي ال مياثله أحد يف قريش‪ ،‬فضالً عن وجوده يف سائر العرب وغري‬
‫العرب‪ ،‬وكان يف قريش اخللفاء الراشدون وسائر العشرة وغريهم ممن ال‬
‫يوجد له نظري يف العرب وغري العرب‪ ،‬وكان يف العرب من السابقني األولني‬
‫من ال يوجد له نظري يف سائر األجناس‪.‬‬

‫فال بد أن يوجد يف الصنف األفضل ما ال يوجد مثله يف املفضول‪ ،‬وقد‬


‫يوجد يف املفضول ما يكون أفضل من كثري مما يوجد يف الفاضل‪ ،‬كما أن‬
‫األنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء‪،‬‬
‫واملؤمنون املتقون من غري قريش أفضل من القرشيني الذين ليسوا مثلهم يف‬
‫اإلميان والتقوى‪ ،‬وكذلك املؤمنون املتقون من قريش وغريهم أفضل ممن‬
‫ليس مثلهم يف اإلميان والتقوى من بين هاشم‪.‬‬

‫فهذا هو األصل املعترب يف هذا الباب دون من ألغى فضيلة األنساب‬


‫مطلقاً‪ ،‬ودون من ظن أن اهلل تعاىل يفضل اإلنسان بنَسَبه على من هو مثله يف‬
‫اإلميان والتقوى! فضالً عمن هو أعظم إمياناً وتقوى‪ ،‬فكال القولني خطأ‪،‬‬
‫وهما متقابالن‪ ،‬بل الفضيلة بالنسب فضيلة مجلة‪ ،‬وفضيلة ألجل املظنة‬
‫والسبب‪ ،‬والفضيلة باإلميان والتقوى فضيلة تعيني وحتقيق وغاية؛ فاألول‬

‫‪97‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫يفضل به ألنه سبب وعالمة‪ ،‬وألن اجلملة أفضل من مجلة تساويها يف العدد‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬يفضل به ألنه احلقيقة والغاية»(‪.)1‬‬


‫اللهم أعزنا بطاعتك‪ ،‬وال تذلنا مبعصيتك‪ ،‬وارفعنا يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫نسب بال عمل كشجرة بال مثر‪.‬‬
‫(تََّبتْ) عُوتب بها نسيب‪ ،‬وبالل أذن فوق الكعبة‪ ،‬حقاً إنه‬
‫العمل‪.‬‬
‫إن ساعدك النسب والعمل فهي نعمة إىل نعمة‪.‬‬
‫انتبه‪ :‬فالسؤال هناك‪ :‬ما العمل؟ ال ما النسب!‬

‫‪98‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الرابعة عشرة‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫البِّر حسن اخللق‬
‫الدين كله خُلق! فمن زاد عليك يف اخللق‪:‬‬
‫زاد عليك يف الدين‪( .‬ابن القيم)‬

‫هذه القاعدة العظيمة‪ ،‬من القواعد اليت مجعت اخلري فأوعت؛ فسبحان‬
‫من أهلم نبيه جوامع الكلم هذه!‬
‫فما الرب؟!‬
‫أصل البِر‪ ،‬هو‪« :‬التوسع يف فعل اخلري‪ ،‬يقال‪ :‬بَرَّ العبدُ ربَّه‪ ،‬أي‪ :‬توسّع‬
‫يف طاعته‪ ،‬فالرب من اللّه‪ :‬الثواب‪ ،‬ومن العبد‪ :‬الطاعة‪ ،‬وقد يستعمل يف‬
‫الصدق وحسن اخللق؛ ألنهما من اخلري املتوسع فيه»(‪.)2‬‬
‫والذي يلفت النظر يف هذه القاعدة العظيمة‪ :‬كيف جيمع النيب ‪ ‬ذاك‬
‫الرب الواسع األطراف يف حسن اخللق؟ والذي يظهر ألول وهلة أنه إمنا هو‬
‫شعبة من شعب الرب؟‬
‫ولكن عند التأمل‪ :‬نرى أن حسن اخللق هنا يعم أمرين اثنني جيمعان‬
‫الدين كله! وهما‪:‬‬
‫‪ .1‬حُسْنُ اخلُلق مع اهلل تعاىل‪ ،‬وال يتحقق حسن اخللق معه سبحانه إال‬
‫بتحقيق أركان اإلسالم واإلميان‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪ .2‬ثم حُسْنُ اخلُلق مع خَلق اهلل تعاىل‪ ،‬يدخل يف هذا كل خملوقات اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬من إنس وجن وحيوان ومجاد – كبيوت اهلل تعاىل – ‪.‬‬
‫بهذا نعلم السر الذي جعل النيب ‪ ‬جيمع الرب الواسع يف حسن اخللق‪،‬‬
‫وألن اخلُلق إمنا مسي خُلقاً؛ ألنه يصري كاخلِلقة يف صاحبه»(‪.)1‬‬
‫وبهذا يزول عنك – أيها املبارك – ما قد يقع من إشكال يف تنوّع‬
‫عبارات السلف يف تفسري حسن اخللق‪:‬‬
‫يقول عليّ– رضي اهلل عنه–‪« :‬حسن اخللق يف ثالث خصال‪ :‬اجتناب‬
‫احملارم‪ ،‬وطلب احلالل‪ ،‬والتّوسعة على العيال»(‪.)2‬‬
‫ويقول احلسن البصري‪« :‬حسن اخللق‪ :‬الكرم والبذلة واالحتمال»(‪،)3‬‬
‫وقال مرةً‪« :‬حسن اخللق‪ :‬بسط الوجه‪ ،‬وبذل النّدى‪ ،‬وكفّ األذى»(‪.)4‬‬
‫ويقول اإلمام أمحد‪« :‬حسن اخلُلق أن ال تغضب وال حتتد»(‪ ،)5‬وقال‬
‫مرةً‪« :‬حسن اخللق‪ :‬أن حتتمل ما يكون من الناس»(‪ ،)6‬وقال إسحاق بن‬
‫راهويه‪ :‬هو بسط الوجه‪ ،‬وأن ال تغضب»(‪.)7‬‬

‫‪100‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وقال ابن املبارك‪« :‬حسن اخللق‪ :‬طالقة الوجه‪ ،‬وبذل املعروف‪ ،‬وكف‬
‫األذى»(‪.)1‬‬
‫وقال ابن رجب‪« :‬إنّ حسن اخللق قد يراد به التّخلّق بأخالق الشّريعة‬
‫والتّأدّب بآداب اهلل الّيت أدّب بها عباده يف كتابه كما قال لرسوله ×‪:‬‬
‫ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ »(‪.)2‬‬
‫إن حسن اخللق إذا كان مطلوباً من مجيع املسلمني؛ فهو من الدعاة إىل‬
‫اهلل تعاىل والعلماء أكثر إحلاحاً؛ فهم أصحاب رسالة ودعاة هدى‪ ،‬والفِطَرُ‬
‫جمبولة على التأثر بالفعل أكثر من القول‪ ،‬وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن‬
‫يكون النيب من قومه‪ ،‬ويبعث بعد عدة عقود من الزمان؛ ليظهر للناس خُلُقه‬
‫قبل النبوة‪ ،‬فكيف به بعدها!‬
‫أمل يكن الصدق واألمانة اللتان عُرف بهما نبينا × قبل البعثة من‬
‫أعظم الدواعي لقبول دعوته عند عقالء الناس؟! بل إن هرقل ملا سأل أبا‬
‫سفيان تلك األسئلة املشهورة‪ ،‬ومنها‪ :‬هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن‬
‫يقول ما قال؟ فذكر أبو سفيان أنه مل يكن كذلك‪ ،‬فقال هرقل مباشرةً‪ :‬أعرف‬

‫«‬

‫»‬

‫‪101‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫( ‪)1‬‬
‫أنه مل يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اهلل!‬
‫وهلذا فإن الداعية والعامل حينما ينزل إىل امليدان ال ميثل نفسه يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬وإمنا ميثل العلم الذي حيمله‪ ،‬فليتق اهلل يف ذلك‪ ،‬وليجاهد نفسه على‬
‫ما فيه من كزازة‪ ،‬أو خُلق غري حسن‪ ،‬أو سرعة غضب‪ ،‬أو تعالٍ‪ ،‬أو غريها‬
‫من األخالق اليت تنفر عنها الفطر السوية‪ ،‬وينبغي على الداعي واحملتسب يف‬
‫األمر والنهي أن يعلم أن الغرية‪ ،‬أو كونه يدعو إىل حق‪ ،‬ال تسوّغ له‬
‫الفضاضة‪ ،‬وال القسوة‪ ،‬فقد قال اهلل خلري نيب معه خري أصحاب‪ :‬ﭽ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ [آل عمران‪ ]159 :‬فمن الناس بعدهم؟‬
‫يقول ابن عقيل معلقاً على اآلية السابقة‪« :‬شهد احلق له‪ ،‬لوال ختلُّقه‬
‫للخُلُق اجلميل النفضوا عنك‪ ،‬ومل يقنع باملعجز يف حتصيلهم‪ ،‬فال تقنع أنت‬
‫بالعلوم‪ ،‬وتظن أنها كافية يف حوش الناس إىل الدين‪ ،‬بل حسن ذلك وجله‬
‫( ‪)2‬‬
‫باألخالق اجلميلة»‪.‬‬
‫وإذا تأملت يف حياة النيب × وجدتها كلها جتسيداً عملياً حلسن اخللق‬
‫يف مجيع أحواله‪ :‬حرباً وسلماً‪ ،‬فرح ًا وحزناً‪ ،‬غنى وفقراً‪.‬‬
‫وأحدُ األسرار يف هذا األمر‪ :‬أن النيب × نفسه ربط كمال اإلميان‬
‫حبسن اخللق فقال‪« :‬أكمل املؤمنني إميانا أحسنهم خلقاً»(‪ ،)3‬وقال – حينما‬
‫سئل × عن أكثر ما يدخل الناس اجلنة –‪« :‬تقوى اهلل وحسن اخللق»(‪)4‬؛‬

‫‪102‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وما ذاك إال «ألَن تقوى اهلل يصلح مَا َبني العَبْد َوبَني ربه‪ ،‬وَحسن اخلُلق‬
‫يصلح مَا بَينه وبَني خلقه‪ ،‬فتقوى اهلل توجب لَهُ حمبَّة اهلل‪ ،‬وحسن اخللق يَدعو‬
‫الناس إىل حمبّته»(‪.)1‬‬
‫أما ما يقطفه صاحب اخللق احلسن – مع اهلل ومع الناس – من‬
‫مثرات فال تسَلْ‪:‬‬
‫فلقد «ثبت عنه ‪ ‬أنه قال‪« :‬أكمل املؤمنني إمياناً أحسنهم خلقاً»‪،‬‬
‫ومن املعلوم أن أحب خَلْقه إليه املؤمنون‪ ،‬فإذا كان أكملهم إمياناً أحسنهم‬
‫خلقاً؛ كان أعظمهم حمبة له أحسنهم خلقاً‪ ،‬واخلُلُق‪ :‬الدين؛ كما قال اهلل‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﭼ قال ابن عباس‪ :‬على دين عظيم‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وبذلك فسّره سفيانُ بن عيينة وأمح ُد بن حنبل وغريُهما»‪.‬‬
‫إن حبسن اخللُق يدرك املؤمن درجة الصائم والقائم‪ ،‬وصاحبه أحب‬
‫الناس إىل اهلل‪ ،‬وأقربهم من النبيني جملساً‪ ،‬وحسن اخللق هو أثقل ما يوضع‬
‫يف امليزان‪.‬‬
‫رُئي بعض السلف يف املنام؛ فسئل عن بعض إخوانه الصاحلني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وأين ذلك!! رُفع يف اجلنة حبُسن خلقه‪.‬‬
‫يقول املاوردي‪« :‬إذا حسنت أخالق اإلنسان كثر مصافوه‪ ،‬وقلّ‬

‫‪103‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫معادوه؛ فتسهّلت عليه األمور الصّعاب‪ ،‬والنت له القلوب الغضاب»(‪ )1‬وإذا‬


‫نظرت يف الواقع وجدتَ صدق ذلك‪.‬‬
‫وههنا سؤال يطرح نفسه‪ :‬كيف أُحصّل حسن اخللق هذا؟ فيقال‪:‬‬
‫«حسن اخللق تارة حيصل بكمال الفطرة منحة من اخلالق‪ ،‬فكم من‬
‫صيب خيلق صادقاً سخياً حليماً‪ ،‬وتارة حيصل باالكتساب‪ ،‬وذلك بالرياضة –‬
‫وهي محل النفس على األعمال اجلالبة للخلق املطلوب –‪ ،‬فمن أراد حتصيل‬
‫خُلُ ق اجلود فليتكلف فعل اجلود من البذل؛ ليصري ذلك طبعاً له‪ ،‬إال أنه ال‬
‫ينبغي أن يطلب تأثري ذلك يف يومني أو ثالثة! وإمنا يؤثر مع الدوام‪ ،‬كما ال‬
‫يطلب يف النمو علو القامة يف يومني أو ثالثة‪ ،‬وللدوام تأثري عظيم»(‪.)2‬‬
‫ثم يقول ‪« : ‬واإلثم‪ :‬ما حاك يف نفسك‪ ،‬وكرهت أن يطلع عليه‬
‫الناس» وسبحان اهلل! ما أشد توافق الوحيني قرآناً وسنة؟ فأنت حني تقرأ‬
‫هذه اجلملة؛ تشعر وكأنها تفسري عملي وتطبيقي لقوله سبحانه‪ :‬ﭽ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ [القيامة‪.]14 :‬‬
‫وما أشد حاجتنا إىل التأمل يف هذه اجلملة النبوية‪ ،‬اليت تعطي اإلنسان‬
‫ص فيه واضح‪،‬‬
‫دليالً ال يطّلع عليه غريه من الناس‪ ،‬وهي متوجهة فيما ال ن ّ‬
‫أما ما فيه نص بيّن فال خيار للعبد يف االلتزام به‪ ،‬وإمنا تتنزل هذه الوصية‬
‫النبوية على حالٍ ترِد فيها بعض املسائل الشرعية على العبد‪ ،‬ويبحث فيها –‬

‫‪104‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن كان من أهل البحث – أو يسمع من أهل العلم فيها خالفاً‪ ،‬ثم ال تطمئن‬
‫نفسه لقولٍ من تلك األقوال‪ ،‬بينما تنشرح نفسه للقول اآلخر‪ ،‬فهنا يقال له‬
‫ما أرشد إليه النيب × يف قوله‪« :‬واإلثم ما حاك يف نفسك‪ ،‬وكرهت أن يطّلع‬
‫عليه الناس»‪ ،‬فانظر‪ :‬هل يف صدرك حرجٌ من ذلك؟ أو أنك حني تفعله تكره‬
‫أن يطلع الناس عليه‪ ،‬إذن فدعه واسرتح‪ ،‬فإن دِينَك غالٍ وعزيز‪ ،‬واعلم أن‬
‫«عذاب الوجدان‪ ،‬أو وخز الضمري وتأنيبه؛ هو الذكرى اليت تعِضُ القلب‬
‫وال تفارقه ليل نهار»(‪.)1‬‬
‫وأختم حديثي يف هذه القاعدة النبوية‪ :‬بأن أنبه إىل أن من أهل الفسق‬
‫والفجور من أصبحت «اآلثام ال حتيك بنفوسهم‪ ،‬وال يكرهون أن يطلع‬
‫عليها الناس‪ ،‬بل بعضهم يتبجح! ويُخرب مبا يصنع من الفجور والفسق!‬
‫فالتوجيه يف هذا احلديث ال يتوجه إىل مثل هؤالء! ولكن الكالم مع الرجل‬
‫املستقيم؛ فإنه إذا همّ بسيئة حاك ذلك يف نفسه‪ ،‬وكره أن يطّلع الناس على‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا امليزان الذي ذكره النيب عليه الصالة والسالم إمنا يكون مع أهل‬
‫اخلري والصالح»(‪.)2‬‬
‫اللهم اهدنا ألحسن األخالق ال يهدي ألحسنها إال أنت‪ ،‬واصرف‬
‫عنا سيئها ال يصرف عنا سيئها إال أنت‪ ،‬واجعل هوانا تبعاً ملا جاء به نبيك‬
‫×‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫حسِّن خُلقك تكن من أبر الناس‪.‬‬
‫حُسن اخللق سرت سابغ ملن ال سرت له‪.‬‬
‫من اعتاد اآلثام انتكست فطرته‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة عشرة‪:‬‬


‫إمنا الناس كاإلبل املائة‬
‫إن البلوى يف معاشرة أهل زمانك عظيمة!‬
‫فاستعن بها على ما يلقاك من أذاهم فإنك ال‬
‫ختلو من قليلِه وإن سلمتَ من كثريِه‪( .‬اخلطابي)‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة اليت دلّ عليها قول النيب ×‪:‬‬
‫(‪.)1‬‬
‫«إمنا الناس كاإلبل املائة‪ ،‬ال تكاد جتد فيها راحلة»‬
‫واملعنى‪ :‬أن املتميز ومن يصلح للقيادة والتأثري نادر يف الناس مع كثرة‬
‫عددهم‪ ،‬ومع كثرة من يدعي ذلك أيضاً‪ ،‬وهذا كحال اإلبل يف كثرتها‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فالنجائب والرواحل فيهن قالئل‪.‬‬
‫وأنت تلحظ هذه البالغة العجيبة‪ ،‬واالختصار املذهل هلذا املعنى‬
‫العظيم‪ ،‬يف هذه العبارات القليلة‪ ،‬وال غرو! فهو × أفصح من تكلم‬
‫بالضاد‪.‬‬
‫ومن وجوه اإلعجاز البالغي يف هذه القاعدة‪ :‬أنها ربطت املعنى بأمرٍ‬
‫خفي؛ ألن انتقال الذهن من معنى اإلبل إىل الناس إمنا يكون باعتبار املعنى‬
‫املشهور يف اإلبل‪ ،‬وهو‪ :‬كثرة األكل‪ ،‬وقلة الفهم‪ ،‬مع كِبَر األعضاء وطوهلا‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أو هو الصرب واجلَلَد على العمل‪ ،‬أما عزة وجود الكامل‪ ،‬مع كثرة أفراد‬
‫جنسه فهو معنى بعيدٌ عن اخلاطر؛ مما يستدعي تأمالً ونظراً يف هذا املعنى‬
‫العميق‪ ،‬وهو – أيضاً – مما تعرفه العرب من حياتها العامة‪ ،‬إذ كانت اإلبل‬
‫(‪)1‬‬
‫أكثر وسائل التنقل استعماالً يف ذلك الوقت‪ ،‬وإىل وقت قريب‪.‬‬
‫ومن تأمل القرآن الكريم؛ وجد آيات عديدة تؤكد هذا املعنى العام‪،‬‬
‫ففي عشرات اآليات جند احلديث عن أكثرية الضالني‪ ،‬وأكثرية الذين ال‬
‫ُي ْعمِلون عقوهلم فيما ينفعهم‪ ،‬وقلة الشاكرين‪ ،‬فتأمل هذه اآليات‪ :‬ﭽ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖﯗﭼ [البقرة‪ ،]243 :‬وقوله تعاىل‪ :‬ﭽﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﭼ [األنعام‪ ،]116 :‬ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ‬
‫[هود‪ ،]17 :‬ﭽ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ [يوسف‪:‬‬
‫‪ ،]103‬ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [سبأ‪.]13 :‬‬
‫ومن تأمل قصة طالوت مع قومه؛ ظهر له هذا املعنى الذي دلّت عليه‬
‫هذه القاعدة النبوية‪« :‬الناس كإبل مائة»‪ ،‬ووجه الداللة من قصة طالوت‬
‫ظاهرة‪ :‬فإن اهلل تعاىل ملا بعثه ملِكاً على أولئك املأل من بين إسرائيل‪ ،‬حصل‬
‫منهم ما حصل يف أحقيته بامللك – مع أنهم هم الذين طلبوا من نبيهم أن‬
‫يبعث هلم ملكاً ليقاتلوا يف سبيل اهلل – فلما استقر األمر لطالوت‪ ،‬قال هلم –‬
‫يف أول اختبار يفحص به حال قومه‪ ،‬فتأمل كيف بدأ التخاذل املبكر منهم –‪:‬‬
‫ﭽﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚﭛ‬

‫‪108‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ‬
‫[البقرة‪ ،]249 :‬مع أنهم قبل ذلك كانوا قد رسبوا يف اختبارٍ قبله‪ ،‬وهو الذي‬
‫قصّه اهلل علينا بقوله‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ [البقرة‪ ،]246 :‬وهكذا تتفق شواهد‬
‫الوحي على هذه القاعد النبوية احملكمة‪« :‬الناس كإبل مائة ال تكاد جتد فيها‬
‫راحلة»‪.‬‬
‫وهذه القاعدة النبوية الكرمية مشتملة على‪ :‬خرب صادق‪ ،‬وإرشاد نافع‪.‬‬
‫«أما اخلرب‪ :‬فإنه × أخرب‪ ،‬أن النقص شامل ألكثر الناس‪ ،‬وأن الكامل‬
‫–أو مقارب الكمال– فيهم قليل‪ ،‬كاإلبل املائة‪ ،‬تستكثرها‪ ،‬فإذا أردت منها‬
‫راحلة تصلح للحمل والركوب‪ ،‬والذهاب واإلياب؛ مل تكد جتدها! وهكذا‪:‬‬
‫الناس كثري‪ ،‬فإذا أردتَ أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو‬
‫اإلمامة‪ ،‬أو الواليات الكبار أو الصغار‪ ،‬أو للوظائف املهمة؛ مل تكد جتد من‬
‫يقوم بتلك الوظيفة قياماً صاحلاً‪ ،‬وهذا هو الواقع؛ فإن اإلنسان ظلوم جهول‪،‬‬

‫‪109‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫والظلم واجلهل سبب للنقائص‪ ،‬وهي مانعة من الكمال والتكميل»(‪.)1‬‬


‫«قال أبو الدرداء‪« :‬وجدت الناسَ‪ُ :‬أخْبُرْ َتقْلِه» أي‪ :‬إذا خربتَ الناس‬
‫(‪)2‬‬
‫بدا لك من أكثرهم ما ال ترضى منهم حتى تقليهم»‪.‬‬
‫كما قال القائل‪:‬‬
‫لدى اجملد حتى عُد ألفٌ بواحد‬ ‫ومل أر أمثــال الرجــال تفاوتــت‬

‫وقالت احلكماء‪ :‬الكرام يف اللئام كالغُرة يف الفرس‪.‬‬


‫«وأما اإلرشاد‪ :‬فإن مضمون هذا اخلرب إرشاد منه × إىل أنه ينبغي‬
‫جملموع األمة أن يسعوا‪ ،‬وجيتهدوا يف تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام‬
‫باملهمات‪ ،‬واألمور الكلية العامة النفع‪.‬‬
‫وقد أرشد اهلل إىل هذا املعنى يف قوله‪ :‬ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ [التوبة‪]122:‬‬
‫فأمر باجلهاد‪ ،‬وأن يقوم به طائفة كافية‪ ،‬وأن يتصدى للعلم طائفة أخرى؛‬
‫ليعني هؤالء هؤالء‪ ،‬وهؤالء هؤالء‪ ،‬وأمْرُه تعاىل بالواليات والتولية أمْرٌ بها‬
‫ومبا ال تتم إال به؛ من الشروط واملكمالت‪.‬‬
‫فالوظائف الدينية والدنيوية‪ ،‬واألعمال الكلية‪ ،‬البد للناس منها‪ ،‬وال‬
‫تتم مصلحتهم إال بها‪ ،‬وهي ال تتم إال بأن يتوالها األكفاء واألمناء‪ ،‬وذلك‬
‫يستدعي السعي يف حتصيل هذه األوصاف‪ ،‬حبسب االستطاعة‪ ،‬قال اهلل‬

‫‪110‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫تعاىل‪ :‬ﭽﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [التغابن‪.)1(»]16:‬‬


‫قال القرطيب‪« :‬الذي يناسب التمثيل‪ :‬أن الرجل اجلواد الذي حيمل‬
‫أثقال الناس واحلماالت عنهم‪ ،‬ويكشف كربهم؛ عزيز الوجود‪ ،‬كالراحلة يف‬
‫اإلبل الكثرية»(‪.)2‬‬
‫ثم هاهنا وقفات عدة‪:‬‬
‫الوقفة األوىل‪ :‬أن على الدعاة واملربني االعتناء بالعناصر الفاعلة‬
‫املتميزة؛ إذ هم قليل يف الناس‪ ،‬عزيزٌ وجودهم‪ ،‬وأثر استجابتهم للدعوة ال‬
‫يقاس بأثر غريهم‪ ،‬ويشهد لذلك ما رواه الرتمذي مرفوعاً‪« :‬اللهم أعز‬
‫اإلسالم بأحب هذين الرجلني إليك‪ :‬بأبي جهل‪ ،‬أو بعمر بن اخلطاب»(‪.)3‬‬
‫وقد كان السلف يُعنَوْن بأمثال هؤالء؛ ومن صور هذه العناية‪ :‬ما‬
‫حكاه عبدالوهاب بن جندة احلوطي‪ ،‬قال‪ :‬مسعت إمساعيل بن عياش يقول‪:‬‬
‫كان ابن أبي حسني املكي يدنيين‪ ،‬فقال له أصحاب احلديث‪ :‬نراك تقدم هذا‬
‫الغالم الشامي وتُؤْثِرُه علينا؟ فقال‪ :‬إني أؤمِّله‪.‬‬
‫فسألوه يوماً عن حديث حدّث به عن شهر‪ :‬إذا مجع الطعامُ أربعاً فقد‬
‫َكمُل‪ ،‬فذكر ثالثاً ونسي الرابعة‪ ،‬فسألين عن ذلك‪ ،‬فقال لي‪ :‬كيف حدثتكم؟‬

‫«‬
‫»‬ ‫«‬ ‫»‬

‫‪111‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫فقلت‪ :‬حدثتنا عن شهر أنه إذا مجع الطعام أربعاً فقد كمل‪ :‬إذا كان أوله‬
‫حمِدَ اهلل حني‬
‫حالالً‪ ،‬وسُمِّيَ عليه اهلل حني يوضع‪ ،‬وكثُرت عليه األيدي‪ ،‬و ُ‬
‫يُرفَع‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فأقبل على القوم فقال‪ :‬كيف ترون؟‬
‫ومن ذلك‪ :‬عناية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب بابن عباس – رضي‬
‫اهلل عنهم مجيعاً – فقد كان يُحضِره جمالس الكبار؛ ليفيد من عقوهلم‪ ،‬ويسمع‬
‫منهم‪ ،‬حتى إنه نوقش يف ذلك‪ ،‬وكيف يدخله عمر مع البدريني! فعرض‬
‫عليهم سؤاالً يتعلق بتأويل سورة النصر يف القصة املشهورة‪.‬‬
‫وهذا ما يعرف اليوم بإعداد القادة واملؤثرين‪ ،‬وهذه سنة معروفة يف‬
‫سَير املربني والعلماء‪.‬‬
‫ِ‬
‫ويف هذا املقام تذكر القصة املشهورة اليت رواها ابن سعد‪ ،‬واحلاكم يف‬
‫املستدرك وغريهما؛ أن أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه قال ألصحابه‪ :‬متنوا!‬
‫فقال بعضهم‪ :‬أمتنى لو أن هذه الدار مملوءةً ذهباً أنفقه يف سبيل اهلل‪،‬‬
‫وأتصدق‪ ،‬وقال رجل‪ :‬أمتنى لو أنها مملوءة زبرجداً و جوهراً فأنفقه يف سبيل‬
‫اهلل وأتصدق‪ ،‬ثم قال عمر‪ :‬متنوا! فقالوا‪ :‬ما ندري يا أمري املؤمنني! فقال‬
‫عمر‪ :‬أمتنى لو أنها مملوءة رجاالً مثل أبي عبيدة بن اجلراح‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وسامل موىل أبي حذيفة‪ ،‬وحذيفة بن اليمان‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الوقفة الثانية‪ :‬حني يدرك الداعية واملربي هذا املعنى يدعوه ذلك ألن‬
‫يكون واقعياً فيما يطلبه من الناس وينتظره منهم؛ فالناس لن يكونوا كلهم‬
‫رواحل‪ ،‬وال يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس مجيعاً أن يصلوا‬
‫إليها‪.‬‬
‫الوقفة الثالثة‪ :‬حني نرى صورة واقعية من أحد من الناس؛ فال يسوغ‬
‫أن نتخذها منوذجاً نقارن اآلخرين به‪ ،‬وننتظر منهم أن يصلوا إىل ما يصل‬
‫إليه‪.‬‬
‫ومن الصور الشائعة يف ذلك‪ :‬ما يصنعه بعض اآلباء مع أبنائه‪ ،‬أو‬
‫بعض املعلمني مع طالبه‪ ،‬حني يعجب بأحدهم فينتظر من اآلخرين أن‬
‫يكونوا مثله‪ ،‬وأن يصلوا إىل ما وصل إليه‪.‬‬
‫الوقفة الرابعة‪ :‬ليس معيار االختالف بني الناس قاصراً على القدرات‬
‫العقلية والذهنية وحدها؛ فهم يتفاوتون يف حتملهم لألعباء‪ ،‬ويف جديتهم‪،‬‬
‫ويف تضخيمهم للمخاطر‪ ،‬ويف قدراتهم النفسية‪...‬إىل آخر هذه العوامل‪،‬‬
‫وهي كلها مما ال بد من أخذه يف االعتبار‪.‬‬
‫الوقفة اخلامسة‪ :‬إدراك هذا املعنى جيعل املسلم عالي اهلمة‪ ،‬متطلعاً‬
‫للمزيد‪ ،‬ينظر يف العلم والصالح إىل من هو فوقه‪ ،‬وال ينظر إىل من هو‬
‫(‪)1‬‬
‫دونه‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ما تكرهه يف غريك حاول أن تتجنبه‪.‬‬
‫ال تعش عامل املثاليات!‬
‫ال تكاد جتد فيها راحلة؛ فال تطلب املستحيل‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية السادسة عشرة‪:‬‬


‫الظلم ظلمات يوم القيامة‬
‫( ‪)1‬‬

‫ظلم العبد نفسه من الظلم؛ فإن للسيئة ظلمة‬


‫يف القلب‪ ،‬وسواداً يف الوجه‪ ،‬ووَ َهنا يف البدن‪،‬‬
‫ونقصاً يف الرزق‪ ،‬وبغضاً يف قلوب اخللق‪ .‬كما‬
‫روي عن ابن عباس‪[ .‬ابن تيمية]‬

‫يا له من ردع رهيب‪ ،‬وزجر خميف؛ عن هذه الشعبة املقيتة من شعب‬


‫الطغيان‪ :‬الظلم!‬
‫إنه الداء الذي أبدى القرآن فيه وأعاد‪ ،‬حتى كرره يف مئات املواضع‪،‬‬
‫وما ذاك إال لعظيم أثره‪ ،‬وقبيح عاقبته!‬
‫إن «وضع الشيء يف غري موضعه» هو املعنى اجلامع هلذا املعنى الذي‬
‫دلّت عليه هذه القاعدة النبوية‪ ،‬فيدخل حتت هذا املعنى ما شاء اهلل من‬
‫الصور واملعاني‪.‬‬
‫وهو معنى اتفقت الشرائع والفِطَر على مقته وخسّته‪ ،‬ال مع بين‬
‫اإلنسان فحسب بل حتى مع احليوان‪.‬‬
‫لنتأمل هذه القصة اليت حدّث بها النيب ×‪ ،‬ففي الصحيحني من‬

‫‪115‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي اهلل عنهما‪ ،‬أن رسول اهلل × قال‪:‬‬
‫«عُذّبت امرأةٌ يف هرة حبستها حتى ماتت جوعاً‪ ،‬فدخلت فيها النار» قال‪:‬‬
‫فقال واهلل أعلم‪« :‬ال أنتِ أطعمتِيها وال سقيتِيها حني حبستيها‪ ،‬وال أنتِ‬
‫(‪)1‬‬
‫أرسلتِيها فأكلتْ من خشاش األرض»!‬
‫أي عظمة هذه! امرأة مكلّفة تدخل النار احملرقة بسبب ظلم هرةٍ‬
‫صغرية؟! نعم! هذا هو الدين العظيم الذي كفل حقوق احليوانات‪ ،‬فضالً‬
‫عن اآلدمي‪.‬‬
‫وإن القارئ والسامع هلذا احلديث وأمثاله ليتساءل‪ :‬إذا كان هذا‬
‫الوعيد على من ظلَم حيواناً‪ ،‬فكيف سيكون الوعيد على من ظلم إنساناً‪،‬‬
‫وخاصةً إذا كان أخاه املسلم‪ ،‬أو من تربطه به عالقة خاصة!‬
‫إن املتابع والسامع‪ ،‬أو من يبتلى بأسئلة الناس؛ ليوقن عظيم غفلة كثريٍ‬
‫من الناس عن خطورة الظلم‪ ،‬وعن سوء عاقبة صاحبه يف الدنيا قبل اآلخرة‪.‬‬
‫كم من األيتام الذين أُكلتْ أمواهلُم ظلماً مع شدة الوعيد الوارد يف‬
‫حق أكل أمواهلم بغري حق‪ ،‬وكأن اآلكل الظامل مل يسمع بهذا الوعيد الذي‬
‫تهتز له اجلبال الصم‪ :‬ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎﮏﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [النساء‪!]10:‬‬
‫كم امتألتْ أدراجُ احملاكم مبعامالت تتعلق بالسطو على األراضي!‬
‫وكأن هؤالء مل يسمعوا قولَه × – كما يف الصحيحني من حديث سعيد بن‬

‫‪116‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫زيد رضي اهلل عنهما –‪« :‬من أخذ شرباً من األرض ظلماً؛ فإنه يطوقه يوم‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه عقوبة مَن أخذ شرباً فقط‪ ،‬فما الظن مبن‬ ‫القيامة من سبع أرضني»؟!‬
‫يسطو على ما هو أكثر من ذلك؟!‬
‫إن هذه القاعدة النبوية اجلليلة ال تستثين أحداً من الناس‪ ،‬ويعظم‬
‫الوعيد ويشتد على من استغل قوتَه أو مكانتَه أو سلطتَه يف ظلم العباد‪،‬‬
‫وانظر كيف كانت نهاية فرعون حني جترب وطغى ﭽﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﭼ [يونس‪.]39 :‬‬
‫وملّا ذكر اهللُ قصةَ مثود وما حلّ بهم قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [النمل‪:‬‬
‫‪ ،]52‬فظلم العباد من أسرع موجبات اهلالك واخلراب لألمم واجملتمعات‪،‬‬
‫ويف التاريخ عربة‪.‬‬
‫إن من الظلمة من يغرت بإمهال اهلل له‪ ،‬فيِأَكل أَمْوَال النَّاس‪ ،‬ويَأَخذهَا‬
‫الض َعفَاء‪،‬‬
‫ظلماً‪ ،‬أو يظلم النَّاس بِالضَّرْبِ والشتم والتعدي‪ ،‬واالستطالة على ُّ‬
‫ولكن ليعلم كل ظامل أن له يوماً ال يُخلف‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄﭼ [إبراهيم‪ ،]42 :‬وقال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬
‫ﯽﭼ [الشعراء‪ ،]227 :‬وقال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜﮝ ﮞﮟﮠﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﭼ‬
‫[هود‪.]113 :‬‬

‫‪117‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«والظلم يشتمل على معصيتني‪ :‬أخذُ مال الغري بغري حق‪ ،‬ومبارزةُ‬
‫الرب باملخالفة‪ ،‬واملعصية فيه أشد من غريها؛ ألنه ال يقع غالباً إال بالضعيف‬
‫الذي ال يقدر على االنتصار‪ ،‬وإمنا ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ ألنه لو‬
‫استنار بنور اهلدى العترب‪ ،‬فإذا سعى املتقون بنورهم الذي حصل هلم بسبب‬
‫التقوى؛ اكتنفت ظلماتُ الظلم الظاملَ‪ ،‬حيث ال يغين عنه ظلمُه شيئاً»(‪.)1‬‬
‫وأعظم الظلم الذي يقرتفه العبد‪ :‬ظلم نفسه بالشِّرْك‪« ،‬كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [لقمان‪ ]13 :‬فإنَّ املشركَ جعل املخلوقَ يف‬
‫منزلةِ اخلالق‪ ،‬فعبده وتألَّهه‪ ،‬فوضع األشياءَ يف غريِ موضعها‪ ،‬وأكثر ما ذُكِرَ يف‬
‫القرآن مِنْ وعيد الظاملني إنَّما أُريد به املشركون‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪:‬‬
‫ﭽﮟ ﮠ ﮡﭼ [البقرة‪ ،]254 :‬ثمَّ يليه املعاصي على اختالف‬
‫أجناسها – من كبائرَ وصغائرَ –‪.‬‬
‫ويلي هذه املنزلة يف الظلم‪ :‬ظلمُ العبدِ لغريه‪ ،‬وهو املذكورُ يف هذا‬
‫احلديث‪ ،‬وقد قال النيب × يف خطبته يف حجة الوداع‪« :‬إنَّ دماءكم وأموا َلكُم‬
‫ضكُم عليكُم حرامٌ‪ ،‬كحرمةِ يومكم هذا‪ ،‬يف شهركم هذا‪ ،‬يف بلدكم‬
‫وأعرا َ‬
‫هذا» (‪.)2‬‬
‫أال إن من أعظم ما يوعظ به الظالِمُ تذكريُه باهلل‪ ،‬وبعظيم قدرته عليه‪،‬‬
‫وهلذا يؤثر عن معاوية × أنه قال‪ :‬أخوف ما أخاف من رجل ال جيد له‬
‫ناصراً إال اهلل!!‬

‫‪118‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قال دهقان ألسد بن عبداهلل – وهو على خراسان‪ ،‬ومر به وهو يدهق‬
‫يف حبسه(‪ :– )1‬إن كنتَ تعطي لرتحم؛ فارحم من تظلم‪ ،‬إن السموات تنفرج‬
‫لدعوة املظلوم! فاحذر من ليس له ناصر إال اهلل‪ ،‬وال جنة له إال الثقة بنزول‬
‫التغري‪ ،‬وال سالح له إال االبتهال إىل من ال يعجزه شيء‪ ،‬يا أسد! إن البغي‬
‫يصرع أهلَه‪ ،‬والبغي مصرعه وخيم‪ ،‬فال تغرت بإبطاء الغياث مِن ناصرٍ متى‬
‫(‪)2‬‬
‫شاء أن يغيث أغاث‪ ،‬وقد أملى لقومٍ كي يزدادوا إمثاً‪.‬‬
‫ودخل رجلٌ على سليمان بن عبدامللك فقال‪ :‬اذكر يا أمري املؤمنني يوم‬
‫األذان! فقال‪ :‬وما يوم األذان؟ قال‪ :‬اليوم الذي قال اهلل تعاىل فيه‪ :‬ﭽ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭼ فبكى سليمان وأزال ظالمته‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫إن الظلم ال يكاد يسلم منه أحدٌ منا! فمِّنا املسرتسل معه‪ ،‬ومنا اجملاهد‬
‫نفسه على تركه؛ ذلك أن اهلل تعاىل وصف هذا اإلنسان بأنه‪ :‬ظلوم جهول‪،‬‬
‫لكن السؤال‪ :‬ما املوقف الشرعي الذي يقفه املسلم من أخيه الظامل؟ لقد‬
‫أجاب النيب ‪ ‬عن ذلك بأبلغ كالم وأوجز عبارة فقال‪« :‬انصر أخاك ظاملاً أو‬
‫مظلوماً!» فقال رجل‪ :‬يا رسول اهلل! أَنصُرُه إذا كان مظلوماً‪ ،‬أفرأيت إذا كان‬
‫ظاملاً كيف أنصره؟ قال‪« :‬حتجزه أو متنعه من الظلم‪ ،‬فإن ذلك نصره»(‪.)4‬‬

‫‪119‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«ومعناه‪ :‬أنه إذا نهاه ووعظه فقد نصره على شيطانه ونفسه اإلمارة‬
‫بالسوء‪ ،‬حتى غلب ذلك»(‪.)1‬‬
‫ومِن معانيه ما أشار له البيهقي فقال‪« :‬أن الظامل مظلوم يف نفسه‪،‬‬
‫فيدخل فيه ردع املرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى‪ ،‬فلو رأى إنساناً يريد أن‬
‫جبّ نفسَه لِظَنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثالً! منعه من ذلك وكان‬
‫يَ ُ‬
‫ذلك نصراً له»(‪.)2‬‬
‫ومما جيلي معنى هذا احلديث أكثر أن يقال‪ :‬إنك إذا «تركتَه على ظلمه‪،‬‬
‫ومل تكفّه عنه أذاه ذلك إىل أن يُقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه‬
‫القصاص نصرُه‪ ،‬وهذا يدل من باب احلكم للشيء وتسميته مبا يئول إليه‪،‬‬
‫وهو من عجيب الفصاحة‪ ،‬ووجيز البالغة»(‪.)3‬‬
‫ومن لطائف هذا احلديث أن فيه إشعاراً باحلث على حمافظة الصديق‬
‫(‪)4‬‬
‫واالهتمام بشأنه‪ ،‬ومِن ثَم قيل‪ :‬حافظ على الصديق ولو على احلريق‪.‬‬
‫«فال جيوز ترك مسلمٍ يكافح وحده يف معرتك‪ ،‬بل البد من الوقوف‬
‫جبانبه على أي حال؛ إلرشاده إن ضل‪ ،‬وحجزه إن تطاول‪ ،‬والدفاع عنه إن‬
‫هوجم‪ ،‬والقتال معه إذا استبيح‪ ،‬وذلك معنى التناصر الذي فرضه‬
‫اإلسالم»(‪.)5‬‬

‫‪120‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فإياك إياك – أخي – أن تظلم من ال جيد له نصرياً عليك إال اهلل؛ فإن‬
‫املظلوم إذا التجأ إىل ربه بصدق واضطرار انتصر له‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬
‫ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [النمل‪.]62 :‬‬
‫إن نور العدل مشس تضيء ألصحابها دروب احلياة‪ ،‬وال يفارقهم‬
‫نورُها حتى يبهر أبصارَهم نورُ اجلنة اليت إليها سيُساق العادلون!‬
‫العادلون يف أقواهلم‪ ،‬وأفعاهلم‪ ،‬وتفكريهم‪ ،‬وأحكامهم‪ ،‬ومعاملتهم مع‬
‫الكبري والصغري‪ ،‬والقريب والبعيد‪ ،‬املنصفون الناسَ حتى من أنفسهم‪ ،‬إنهم‬
‫– بعدهلم هذا – على نور ميشون به بني الناس‪.‬‬
‫وأما الظاملون فهم يف ظلمات ال يبصرون غري أنفسهم‪ ،‬وال حيسون إال‬
‫(‪)1‬‬
‫مبصاحلهم‪ ،‬وال يشعرون إال بذواتهم‪.‬‬
‫ومضة ذهيبة‪:‬‬
‫«يا راضياً باسم الظامل كم عليك من املظامل! السجن جهنم واحلق‬
‫احلاكم! وال حجة لك فيما ختاصم! القرب مهول‪ ،‬فتذكر حبسك‪ ،‬واحلساب‬
‫طويل فخلص نفسك‪ ،‬والعمر كيوم فبادر مشسك‪ ،‬تفرح مبالك والكسب‬
‫خبيث! ومترح بآمالك والسري حثيث! إن الظلم ال يُرتك منه قدر أمنلة‪ ،‬فإذا‬
‫رأيت ظاملاً قد سطا فنم له؛ فرمبا بات فأخَذَت جنبَه من الليل منلة – أي‬
‫قروح يف اجلسد»(‪.)2‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪121‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫اللهم أجرنا من الظلم والظاملني‪ ،‬واجعلنا بالعدل وعلى العدل‬


‫قائمني‪ ،‬وأنر لنا الطريق إىل جنات النعيم‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ظلمات الدنيا قد جتد هلا نوراً‪ ،‬لكن ما بال ظلمات‬
‫القيامة!‬
‫الظلم فاتورة باهظة الثمن‪ ،‬والعجيب أنها تسدد مرتني يف‬
‫الدنيا ويف اآلخرة!‬
‫إذا كان مصري ظامل احليوان النار‪ ،‬فما بالك بظامل اإلنسان!‬
‫معرفة احلقوق والواجبات حتجزك عن الظلم‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية السابعة عشرة‪:‬‬


‫وأتبع السيئة احلسنة متحها‬
‫( ‪)1‬‬

‫إن الطبيب متى تناول املريضُ شيئاً مضراً‬


‫أمره مبا يصلحه‪ ،‬وكذا العبد الكيّس مع‬
‫الذنب‪( .‬ابن تيمية)‪.‬‬

‫هذه قاعدة من قواعد تهذيب النفس‪ ،‬وتربيتها على اجملاهدة‪ ،‬والرقي‬


‫يف مدارج العبودية‪ ،‬وإنك لتتنسم الرمحة من بني أحرف هذه القاعدة النبوية‪،‬‬
‫فهي تصب شآبيب الرجاء والطمع يف رمحة اهلل الرحيم يف قلوب املذنبني‬
‫اخلطائني – وكلنا ذاك الرجل –‪.‬‬
‫إن هذه القاعدة إمنا هي أثرٌ من آثار سبْقِ رمحةِ اهلل لغضبه‪« :‬إن رمحيت‬
‫وأثرٌ من آثار سعة رمحته‪ :‬ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ‬ ‫( ‪)2‬‬
‫سبقت غضيب»‬
‫ﭨﭼ [األعراف‪ ،]156 :‬وهي يف الوقت ذاته بوابة أملٍ لكل من خيطئ أو‬
‫يذنب‪ ،‬ومن ذا الذي ليس كذلك؟!‬
‫إن هذه القاعدة النبوية‪ ،‬جاءت ضمن وصية من ثالث وصايا‪ ،‬أوصى‬

‫‪123‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بها النيب × صاحبَه اجلليل أبا ذر رضي اهلل عنه حني قال له‪« :‬اتق اهلل‬
‫حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة احلسنة متحها‪ ،‬وخالق الناس خبلق حسن»(‪.)1‬‬
‫وتأمل يف حكمةِ من أوتي جوامع الكلم – عليه الصالة والسالم –‬
‫كيف عقّب الوصية بالتقوى بقوله‪« :‬وأتبع السيئة احلسنة متحها»! ذلك أن‬
‫العبد ملا كان مأموراً بالتقوى يف السر والعلن‪ ،‬مع أنه البد أن يقع منه أحياناً‬
‫تفريط يف التقوى – إما برتك بعض املأمورات‪ ،‬أو بارتكاب بعض احملظورات‬
‫(‪)2‬‬
‫– أمره أن يفعل ما ميحو به هذه السيئة؛ وهو أن يتبعها باحلسنة‪.‬‬
‫ومن عجيب املوافقات‪ :‬أن هذا احلديث بوصاياه الثالث وقع معناه يف‬
‫ثالث آيات متتابعات؛ فتأملها أيها املسلم يف قول اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔ ﭕﭖ ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜ ﭝ ﭼ‬
‫فهذه توافق الوصية األوىل‪« :‬اتق اهلل حيثما كنت»‪ ،‬ثم قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ هذه أخالق! فهي توافق الوصية الثالثة‪« :‬وخالق‬
‫الناس خبلق حسن»‪ ،‬ثم قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ وهذه توافق الوصية الثانية – وهي‬
‫قاعدتنا اليت حنن بصدد احلديث عنها –‪« :‬وأتبع السيئة احلسنة متحها»!‬

‫‪124‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ومن املوافقات بني الوحيني – أيضاً – أن هذه القاعدة اجلليلة أتت‬


‫موافقة لقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ‪.‬‬
‫إذا تبني هذا؛ فحقٌّ على الناصح لنفسه أن حيرص – إذا أخطأ أو قصّر‬
‫– أن يبادر إىل حسنة متحو السيئة اليت قبلها‪ ،‬وأن يفتش – ما استطاع – يف‬
‫األعمال اليت متحو سيئاته؛ فإن احلديث عامٌ يف مجيع الذنوب – صغريها‬
‫وكبريها – ولقد علّم النيب × أمتَه ذلك يف مناذج تطبيقية‪ ،‬يستطيع املوفّق أن‬
‫يقيس عليها‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ما ثبت يف الصحيحني من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬أن النيب‬
‫× قال‪« :‬من حلف منكم فقال يف حلفه‪ :‬بالالت والعزى‪ ،‬فليقل‪:‬‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬ومن قال لصاحبه‪ :‬تعال أقامرك‪ ،‬فليتصدق»(‪.)1‬‬
‫وهذا يف احلقيقة خمرجٌ سديدٌ ملن اعتادت ألسنتهم أن يتلفظوا بألفاظ‬
‫بدعية أو شركية‪ ،‬وحيتاجون جماهدة للتخلص منها؛ كمن حيلف بغري اهلل‪،‬‬
‫كالذي يقول‪ :‬والنيب‪ ،‬أو‪ :‬وحياتك‪ ،‬وحنوها من األلفاظ الشركية؛ فليقل‬
‫بعدها مباشرة‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬ألن الشرك سيئةٌ ال ميحوها إال حسنة التوحيد‪.‬‬
‫ومثله من تعوّد الدعوة إىل القمار؛ فليتصدق ولو بشيءٍ يسري؛ لتعتاد‬
‫نفسه الطاعة‪ ،‬وتنفر عن املعصية(‪.)2‬‬
‫ومثل ذلك – أيضاً –‪ :‬من اعتاد لسانه اللعن‪ ،‬أو بذيء الكالم؛ فليقل‬

‫‪125‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بعده ما يضاده‪ ،‬فمن لعن أخاه‪ ،‬فليدْعُ له بالرمحة‪ ،‬وليستغفر؛ امتثاالً هلذه‬
‫القاعدة النبوية الشريفة‪« :‬وأتبع احلسنة السيئة ميحها»‪ ،‬وألن اهلل تعاىل يقول‪:‬‬
‫ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [هود‪.]114 :‬‬
‫ولعلنا هنا‪ ،‬نذكّر ببعض ما ورد يف النصوص الشرعية مما هو ماحٍ‬
‫ومكفّرٌ للذنوب اليت ال يكاد يسلم منها أحد‪ ،‬ولنبدأ بهذه القصة‪:‬‬
‫‪ -1‬ففي الصحيحني من حديث عبداهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫قال‪ :‬جاء رجل إىل النيب ×‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل! إني عاجلت‬
‫امرأة يف أقصى املدينة‪ ،‬وإني أصبت منها ما دون أن أمسها‪ ،‬فأنا‬
‫هذا‪ ،‬فاقض يف ما شئت! فقال له عمر‪ :‬لقد سرتك اهلل‪ ،‬لو سرتت‬
‫نفسك! قال‪ :‬فلم يرد النيب × شيئاً‪ ،‬فقام الرجل فانطلق‪ ،‬فأتبعه‬
‫النيب × رجالً دعاه‪ ،‬وتال عليه هذه اآلية‪ :‬ﭽﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﯚ ﭼ [هود‪ ]114 :‬فقال رجل من القوم‪ :‬يا نيب اهلل!‬
‫هذا له خاصة؟ قال‪« :‬بل للناس كافة»(‪.)1‬‬
‫إذن‪ :‬الصلوات اخلمس – ومن بينها اجلمعة – من أعظم احلسنات‬
‫املاحيات للذنوب – كما وردت بذلك اآلثار – السيما إن أقيمت بشروطها‬
‫وأركانها وواجباتها‪ ،‬وقد دلّت السنة على أن ذلك خمتص بالصغائر دون‬
‫الكبائر؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة‪ ،‬أن رسول اهلل × قال‪« :‬الصالة‬

‫‪126‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اخلمس‪ ،‬واجلمعة إىل اجلمعة‪ ،‬كفارة ملا بينهن‪ ،‬ما مل تغش الكبائر»(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬ومن احلسنات العظام اليت متحو الذنوب‪ :‬احلج املربور؛ ففي‬
‫الصحيحني من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل ×‪« :‬من حج هذا البيت‪ ،‬فلم يرفث‪ ،‬ومل يفسق رجع كيوم‬
‫ولدته أمه»(‪ ،)2‬وملا أراد عمرو بن العاص رضي اهلل عنه أن يُسْلم‪،‬‬
‫أراد أن يشرتط مغفرة ذنوبه‪ ،‬فبشره النيب × قائالً‪« :‬أما علمت‬
‫أن اإلسالم يهدم ما كان قبله؟ وأن اهلجرة تهدم ما كان قبلها؟‬
‫وأن احلج يهدم ما كان قبله؟»(‪.)3‬‬
‫‪ -3‬واحلسنة اجلامعة اليت متحو مجيع الذنوب‪ :‬هي التوبة؛ كما سبق يف‬
‫حديث عمرو بن العاص‪ ،‬وكما دلّت على ذلك نصوص كثرية‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﭽﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ‬
‫ﮱﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﭼ [مريم‪ ،]60 ،59 :‬ومنها‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ [الفرقان‪.]70 – 68 :‬‬

‫‪127‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫لكن ما حقيقة هذه التوبة؟‬


‫«إنها حمو أثر الرغبة يف الذنب من لوح القلب‪ ،‬والباعثُ عليها هو‪:‬‬
‫شعور التائب بعظمة من عصاه‪ ،‬وما له من السلطان عليه يف احلال‪ ،‬وكون‬
‫مصريه إليه يف املآل‪ ،‬ال جرم أن الشعور بهذا السلطان اإلهلي بعد مقارفة‬
‫الذنب يبعث يف قلب املؤمن اهليبة واخلشية‪ ،‬ويُحدِث يف روحه انفعاالً مما‬
‫فعل‪ ،‬وندماً على صدوره عنه‪ ،‬ويزيد هذا احلال يف النفس تذكّ ُر الوعيد على‬
‫ذلك الذنب‪ ،‬وما رتّبه اهللُ عليه من العقوبة يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬هذا أثر التوبة‬
‫يف النفس‪ ،‬وهذا األثر يزعج التائب إىل القيام بأعمالٍ تضاد ذلك الذنب‬
‫الذي تاب منه‪ ،‬ومتحو أثره السيئ ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ »(‪.)1‬‬
‫أيها املؤمن واملؤمنة‪ :‬إن توبتنا املستمرة الدائمة تعين يقيننا بقدرة اهلل‬
‫تعاىل علينا‪ ،‬وتوحيدنا له تعاىل‪ ،‬وذُلّنا وخضوعنا له سبحانه‪ ،‬وأنه ال أحد‬
‫ميلك حمو ذنوبنا سواه؛ كما جاء يف الصحيح عنه × أنه قال(‪« :)2‬إن عبداً‬
‫أصاب ذنباً؛ فقال‪ :‬رب أذنبتُ فاغفر لي‪ ،‬فقال ربه‪ :‬أعَلِم عبدي أن له رباً‬
‫يغفر الذنب ويأخذ به! غفرتُ لعبدي‪ ،‬ثم مكث ما شاء اهلل‪ ،‬ثم أصاب ذنباً؛‬
‫فقال‪ :‬رب أذنبت آخر فاغفره! فقال‪ :‬أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب‬
‫ويأخذ به! غفرتُ لعبدي‪ ،‬ثم مكث ما شاء اهلل ثم أذنب ذنباً؛ فقال‪ :‬أذنبت‬
‫آخر فاغفره لي‪ ،‬فقال‪ :‬أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به! غفرت‬
‫لعبدي‪ ،‬غفرت لعبدي‪ ،‬غفرت لعبدي – ثالثاً– فليعمل ما شاء»(‪.)3‬‬

‫‪128‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ومعنى هذا أنه إذا كان هذا دأبه – يذنب فيتوب ويستغفر – فليفعل ما‬
‫شاء؛ ألنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فال يضره؛ وليس‬
‫معنى هذا التجرئةُ على الذنوب! فال ميكن أن جترّئ الشريعة على الذنب‬
‫وهي حتذر منه! وليس هذا خماطباً به من يكذبون يف توبتهم‪ ،‬أو ال خيلصون‬
‫فيها‪.‬‬
‫إن يف هذه القاعدة إشارة واضحة إىل سرعة الرجوع واإلقالع عن‬
‫الذنب‪ ،‬وعقدِ العزم على عدم العودة‪ ،‬واملبادرة إىل إرجاع حقوق العباد‪،‬‬
‫وعدم التسويف أو التأخري؛ فإن (سوف) من جنود إبليس‪« ،‬ومن ترك‬
‫املبادرة إىل التوبة بالتسويف؛ كان بني خطرين عظيمني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ترتاكم الظلمة على قلبه من املعاصي؛ حتى يصري رَيناً‬
‫وطبعاً فال يقبل احملو‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يعاجله املرض أو املوت فال جيد مهلة لالشتغال باحملو؛‬
‫فيأتي اهللَ بقلبٍ غري سليم‪ ،‬وال ينجو إال مَن أتى اهلل بقلب سليم»(‪.)1‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫من رمحة اهلل بك‪..‬أن جعل لذنوبك ممحاة! فاشكره عليها‪.‬‬
‫قابل كل معصية مبا يضادها من الطاعات‪.‬‬
‫التائب معظّم للرب‪ ،‬واملصِرّ على ذنبه على شفى هلكة‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثامنة عشرة‪:‬‬


‫ما أعطي أح ٌد عطاءً خريًا وأوسع من الصرب‬

‫فاز الصابرون بعز الدارين؛ ألنهم نالوا‬


‫من اهلل معيّته؛ فإن اهلل مع الصابرين‪.‬‬
‫(أبو علي الدقاق)‪.‬‬

‫هذه قاعدة من قواعد تربية النفس على الفضائل‪ ،‬ودفع غوائل املكاره‪،‬‬
‫إنها قول النيب ×‪« :‬ما أُعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب»(‪ ،)1‬إن‬
‫احلياة مليئة باملنغصات واملكدرات‪:‬‬
‫صـــــــفواً مـــــــن األقـــــــذار واألكـــــــدار‬ ‫طبعـــــت علـــــت كـــــدر وأنـــــت تريـــــدها‬
‫واإلنسانُ فيها كما قال عنه خالقه‪ :‬ﭽ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ‬
‫[البلد‪.]4 :‬‬
‫إذن‪ :‬ما القوة اليت ميكنه أن يواجه بها مصاعب احلياة‪ ،‬وكبد الزمان‪،‬‬
‫ونوائب الدهر؟!‬
‫«إذا استحكمت األزمات‪ ،‬وتعقّدت حباهلُا‪ ،‬وترادفت الضوائق وطال‬
‫ليلُها؛ فالصرب وحده هو الذي يُشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط‪،‬‬
‫واهلداية الواقية من القنوط (‪.)2‬‬

‫‪130‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن الصرب عالج شرعي‪ ،‬تكرر احلديثُ عنه يف القرآن يف أكثر من‬
‫تسعني موضعاً‪ ،‬ومن احملزن أن يظن بعضُ الناس أن الوصية بالصرب – عند‬
‫انغالق األمور – وصي ُة عاجز!‬
‫عجباً! أو تكون الوصية بوصية اهلل ورسوله وصية عاجز؟! بل هي‬
‫وصية ناصح‪ ،‬خاصةً أن عدداً من املصائب واملشاكل‪ ،‬ال ميكن جتاوز أثرها‬
‫إال بالصرب‪ ،‬وإال فماذا يصنع من يُفجعُ بوفاة حبيب‪ ،‬هل مثة إال الصرب! أو‬
‫من يُبتلى بتلف مال‪ ،‬هل مثة إال الصرب!‬
‫وإذا ابتلي الوالدان بولد عاقٍّ‪ ،‬جرّبا معه مجيعَ الوسائل املمكنة يف‬
‫النصح واإلرشاد والتوجيه‪ ،‬لكنه مل ينتفع‪ ،‬بل استمر على عقوقه! فهل هناك‬
‫عالج غري الصرب؟!‬
‫وإذا قُدّر على اإلنسان أن أخفق يف صفقة‪ ،‬أو خسر يف جتارة‪ ،‬فهو إما‬
‫أن يصرب صرب الكرام‪ ،‬أو يسلو سلوّ البهائم – كما قال بعض السلف –‬
‫وبالصرب واالحتساب‪ :‬ختف وطأة البالء‪ ،‬بل ورمبا انتقل العبد منها إىل درجة‬
‫أخرى من درجات العبودية‪ ،‬وهي درجة‪ :‬الرضا عن اهلل‪ ،‬وقد يرتفع أكثر‬
‫لينتقل إىل عبودية الشكر على ما قضاه اهلل وقدره‪ ،‬وذلك فضل اهلل يؤتيه من‬
‫يشاء‪ ،‬واهلل ذو الفضل العظيم‪ ،‬ولعل هذا من أسرار قوله × – وهو يقرر‬
‫هذه القاعدة‪« :‬وما أعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب»‪.‬‬
‫إن الصرب يعتمد على حقيقتني خطريتني‪:‬‬
‫أما األوىل‪ :‬فتتعلق بطبيعة احلياة الدنيا؛ فإن اهلل مل جيعلها دار جزاء‬
‫وقرار‪ ،‬بل جعلها دار متحيص وامتحان‪ ،‬والفرتة اليت يقضيها املرء بها فرتة‬

‫‪131‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫جتارب متصلة احللقات‪ ،‬خيرج من امتحانٍ ليدخل فى امتحانٍ آخر‪ ،‬وقد‬


‫يُمتحن اإلنسان بالشيء وضده‪ ،‬وما دامت احلياة امتحاناً فلنكرس جهودنا‬
‫للنجاح فيه‪ ،‬وامتحان احلياة ليس كالماً يكتب‪ ،‬أو أقواالً توجّه‪ ،‬إنه اآلالم‬
‫اليت قد تقتحم النفسَ‪ ،‬وتفتح إليها طريقاً من الرعب واحلرج‪.‬‬
‫وأما احلقيقة األخرى فتتعلق بطبيعة اإلميان‪ :‬فاإلميان صلة بني اإلنسان‬
‫وبني اهلل عز وجل‪ ،‬وإذا كانت صِالت الصداقة بني الناس ال يُعتدّ بها‪ ،‬وال‬
‫يُنوّه بشأنها إال إذا أكدها مُرُّ األيام‪ ،‬وتقلبُ الليالي‪ ،‬واختالفُ احلوادث؛‬
‫فكذلك اإلميان‪ ،‬البد أن ختضع صلتُه لالبتالء الذي ميحصها‪ ،‬فإما كشفَ عن‬
‫طيبها‪ ،‬وإما كشفَ عن زيفها‪ :‬ﭽﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﭼ [العنكبوت ‪.)1( ]3 ، 2 :‬‬
‫وإذا تأملت – أيها املبارك – سِيَر األنبياء عموماً وجدتها شاهداً قوياً‬
‫على هذه املعاني‪ ،‬وأن اهلل تعاىل لو سلّم أحداً من البالء لسلّم منه خرية‬
‫األولياء‪ ،‬ولكنها متالزمةٌ قدرية‪ ،‬ليمحص اهلل الذين آمنوا‪ ،‬ويرفع درجاتهم‪،‬‬
‫ولتكون نفوسهم متهيأة حلمل رساالت اهلل تعاىل؛ فإنها ثقيلة ال يقوى على‬
‫محلها إال أقوياء اإلميان‪ ،‬صِالبُ الظهور‪ ،‬وإذا تأملتَ فيما قصّه اهلل تعاىل عن‬
‫نبيه يوسف عليه الصالة السالم؛ عرفتَ كيف يصنعُ البالءُ النفوسَ الكبار‪،‬‬
‫وكيف يربيها الصرب‪ ،‬وعندها ستدرك شيئاً من معاني هذه القاعدة‪« :‬وما‬
‫أعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب»‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫لقد ذاق يوسف عليه الصالة والسالم ما ذاق‪ ،‬وأصابه ما أصابه‪ ،‬ومع‬
‫ذلك قابله بالصرب والصفح والعفو‪« ،‬وذلك شأن أولي الفضل من الناس‪ ،‬ال‬
‫يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم‪ ،‬وال يهونون أمام أنفسهم لنكبة‬
‫حلت بهم» (‪.)1‬‬
‫ومن مواضع الصرب – اليت تلوح حاجة املؤمن إىل تذكري نفسه بها‪ :‬ما‬
‫دلّت عليه قصةُ ورود هذا احلديث‪ ،‬فعن أبي سعيد اخلدري أن ناساً‬
‫من األنصار سألوا رسول اهلل ×؛ فأعطاهم‪ ،‬ثم سألوه؛ فأعطاهم‪،‬‬
‫حتى نفد ما عنده! ثم قال‪« :‬ما يكون عندي من خريٍ فلن أدّخره‬
‫عنكم‪ ،‬ومن يستعفف يعفه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يُغنِه اهلل‪ ،‬ومن يتصرب‬
‫يصربه اهلل‪ ،‬وما أُعطي أحدٌ عطاء هو خري وأوسع من الصرب»‪.‬‬
‫إن املؤمن قد يُبتلى بضيق يف رزقه‪ ،‬أو َديْنٍ يرهقه‪ ،‬ولرمبا دعا ربَّه فلم‬
‫يتسع رزقه‪ ،‬أو مل يُقض مجيع دَينه‪ ،‬وقد ال جيد من يقرضه‪ ،‬أو يسدد دَينه‪،‬‬
‫فهنا ينبغي له أن يتدثر بالصرب‪ ،‬وأن جيعل هذه الوصية اليت أوصى بها النيب‬
‫× نُصبَ عينيه‪.‬‬
‫وهنا تتحامل النفوس الكرمية‪ ،‬وتصرب حتى ال تُريق ماء وجهها يف‬
‫سؤال اخلَلق‪ ،‬ولو كان يف شيء يسري‪ ،‬بل رمبا ارتقى به احلال‪ ،‬حتى يرتفع‬
‫عن السؤال يف أمرٍ يسري‪ ،‬كما وقع ذلك لطائفة من أصحاب النيب ×‪ ،‬أخرب‬
‫عنهم عوف بن مالك رضي اهلل عنه «أن النيب × بايعه يف طائفة‪ ،‬وأسرّ‬

‫‪133‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫إليهم كلمة خُفيةً‪ :‬أن ال تسألوا الناس شيئاً؛ فكان بعضُ أولئك النفر يسقط‬
‫السوط من يد أحدهم؛ وال يقول ألحد‪ :‬ناولين إياه»!(‪.)1‬‬
‫وهذا إمنا يوفّق له من قوي طمعه يف فضل اهلل ورمحته‪ ،‬ورجائه لقضاء‬
‫حاجته ودفع ضرورته؛ فإن قوة الطمع يف ذلك َتقْوى معها عبوديةُ اإلنسان‬
‫ملواله‪ ،‬وحريته مما سواه؛ «فكما أن طمعه يف املخلوق يوجب عبوديته له؛‬
‫فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه‪ ،‬كما قيل‪ :‬استغن عمن شئت تكن نظريه‪،‬‬
‫وأفضل على من شئت تكن أمريه‪ ،‬واحتج إىل من شئت تكن أسريه»(‪.)2‬‬
‫«وإمنا كان الصرب أعظم العطايا‪ :‬ألنه يتعلق جبميع أمور العبد‬
‫وكماالته‪ ،‬وكل حالة من أحواله حتتاج إىل صرب؛ فإنه حيتاج إىل الصرب على‬
‫طاعة اهلل‪ ،‬حتى يقوم بها ويؤديها‪ ،‬وصرب عن معصية اهلل حتى يرتكها هلل‪،‬‬
‫وصرب على أقدار اهلل املؤملة‪ ،‬فال يتسخطها‪ ،‬بل صرب على نعم اهلل وحمبوبات‬
‫النفس‪ ،‬فال يدع النفس مترح وتفرح الفرحَ املذموم‪ ،‬بل يشتغل بشكر اهلل‪،‬‬
‫فهو يف كل أحواله حيتاج إىل الصرب‪ ،‬وبالصرب ينال الفالح»(‪.)3‬‬
‫ويف هذا املعنى قال ابن اجلوزي‪ :‬وإمنا جُعل الصرب خري العطاء؛ ألنه‬
‫حبسُ النفسِ عن فعل ما حتبه وإلزامها بفعل ما تكره يف العاجل‪ ،‬مما لو فعله‬
‫(‪)4‬‬
‫أو تركه لتأذى به يف اآلجل‪.‬‬
‫أيها األخ املبتلَى! إن من أعظم ما يعني العبد على الصرب والتصرب‪ :‬أن‬

‫‪134‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يتفكر فيما أعدّه اهلل للصابرين من الثواب اجلزيل‪ ،‬وحسن العاقبة يف الدنيا‪،‬‬
‫ولو مل يكن للصابر حافز سوى قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ‬
‫ﰘ ﭼ [الزمر‪ ]10 :‬لكفاه بذلك حافزاً ومشجعاً! فكيف وقد وعد اهلل‬
‫الصابرين مبا هو أعظم وأجلّ!‬
‫فقد وعد اهلل الصابرين يف كتابه وعلى لسان رسوله أموراً عالية جليلة‪:‬‬
‫وعدهم باإلعانة يف كل أمورهم‪ ،‬وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد‪ ،‬وأنه‬
‫حيبهم ويثبّت قلوبهم وأقدامهم‪ ،‬ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة‪ ،‬ويسهّل‬
‫هلم الطاعات‪ ،‬وحيفظهم من املخالفات‪ ،‬ويتفضل عليهم بالصلوات والرمحة‪،‬‬
‫واهلداية عند املصيبات‪ ،‬وأنه يرفعهم إىل أعلى املقامات يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ووعدهم النصر‪ ،‬وأن ييسرهم لليسرى‪ ،‬وجينبهم العسرى‪ ،‬ووعدهم بالسعادة‬
‫والفالح والنجاح‪ ،‬وأن يوفيهم أجرهم بغري حساب‪ ،‬وأن خيلف عليهم يف‬
‫الدنيا أكثر مما أخذ منهم من حمبوباتهم وأحسن‪ ،‬وأن يعوِّضهم عن وقوع‬
‫املكروهات عِوضاً عاجالً يقابل أضعافَ أضعاف ما وقع عليهم من كريهة‬
‫ومصيبة‪ ،‬وهو يف ابتدائه صعبٌ شديد‪ ،‬ويف انتهائه سهلٌ محيد العواقب‪ ،‬كما‬
‫قيل‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫لكن عواقبه أحلى من العسل‬ ‫والصرب مثل امسـه مـر مذاقتـه‬
‫(‪)2‬‬
‫قال احلسن‪ :‬وجدتُ اخلري فى صرب ساعةٍ‪.‬‬
‫كأني بك – أيها املبارك – قد اشتقت إىل حتصيل هذه األعطيات‪ ،‬ونيل‬

‫‪135‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫هذه اهلبات؛ فتساءلت‪ :‬كيف لي أن أحلق بركب الصابرين؟‬


‫فيقال –زيادة على ما سبق–‪ :‬لقد بيّنه عليه الصالة والسالم يف نفس‬
‫احلديث الذي وردت فيه هذه القاعدة فقال‪« :‬ومن يتصرب يصربه اهلل» «أي‪:‬‬
‫يطلب توفيق الصربِ من اهلل؛ ألنه قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳﭼ [النحل‪ ،]127 :‬أو يأمر نفسَه بالصرب ويتكلف يف التحمل عن مشاقه‪،‬‬
‫فمن يفعل ذلك االجتهاد والطلب‪« :‬يُصبّره اهلل» أي‪ :‬يسهل عليه الصرب»(‪.)1‬‬
‫فال بد من بذل اجلهد واملشقة‪ ،‬مع سؤال اهلل تعاىل والتضرع له أن‬
‫يبلغك مدارج الصابرين؛ فالصرب إذاً حيتاج منا إىل صرب!‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫كل العبادات تفتقر إىل الصرب‪.‬‬
‫احلياة طبعت على كدر‪ ،‬ومن ال صرب له كيف يعيش؟!‬
‫إن مل تصرب فال يفوتنك التصرب‪.‬‬
‫الصرب رصيد مفتوح من الثواب بغري حساب‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية التاسعة عشرة‪:‬‬


‫من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه‬
‫من اشتغل مبا ال يعنيه فاته ما يعنيه‪ ،‬ومن مل‬
‫يستغن مبا يكفيه فليس يف الدنيا شيء‬
‫يغنيه‪( .‬بعض احلكماء)‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة‪ ،‬وردت فيما رواه الرتمذي‬


‫وابن ماجه وغريهما من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬أن النيب × قال‪:‬‬
‫«من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»(‪.)1‬‬
‫وهذا احلديث – من جهة الصناعة احلديثية – مرسلٌ من مراسيل علي‬
‫بن احلسني بن علي بن أبي طالب – املشهور بزين العابدين – كما قاله‬
‫األئمة‪ :‬أمحد‪ ،‬وابن معني‪ ،‬والبخاري‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬والدارقطين وغريهم من‬
‫احلفاظ‪ ،‬إال أنه مع هذا فهو كما قال ابن رجب‪« :‬أصلٌ عظيم من أصول‬
‫األدب»(‪.)2‬‬
‫وسبق لنا يف أول قاعدة من هذه القواعد كلمة اإلمام أبي داود – رمحه‬
‫اهلل – صاحب السنن أنه قال‪ :‬كتبت عن رسول اهلل × مخس مائة ألف‬
‫حديث‪ ،‬انتخبتُ منها ما ضمنْتُه هذا الكتاب – يعين‪ :‬كتاب السنن – مجعتُ‬

‫‪137‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫منه أربعة آالف ومثان مائة حديث‪ ،‬ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه‪،‬‬
‫ويكفي اإلنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث‪ ،...‬وذكر منها هذه القاعدة‪:‬‬
‫«من حسن إسالم املرء‪ ،‬تركه ما ال يعنيه»(‪.)1‬‬
‫وقد قال أبو حممد بن أبي زيد – إمام املالكية يف زمانه –‪ :‬مجاع آداب‬
‫اخلري وأزمّته تتفرع من أربعة أحاديث‪ ...‬وذكر منها هذا احلديث الذي ميثل‬
‫هذه القاعدة العظيمة‪« :‬من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»(‪.)2‬‬
‫ومعنى هذه القاعدة‪ :‬أن من حسن إسالم اإلنسان‪ ،‬وكمال دينه‪ :‬أن‬
‫ل وفعل‪ ،‬ومعنى يعنيه‪ :‬أنه تتعلق عنايتُه به‪،‬‬
‫يرتك اخلوض فيما ال يعنيه من قو ٍ‬
‫ويكون من مقصده ومطلوبهِ شرعًا أو قدَراً‪ ،‬فتحديد كون األمر يعين أو ال‬
‫يعين مردّه الشرع واحلاجة الكونية‪ ،‬ال اهلوى أو النفس‪.‬‬
‫واملقصود‪ :‬أنه إذا حسن إسالم املرء؛ تركَ ما ال يعنيه يف اإلسالم من‬
‫األقوال واألفعال؛ فإن اإلسالم يقتضي فعل الواجبات؛ كما بيّنه النيب × يف‬
‫( ‪)3‬‬
‫حديث جربيل املشهور‪ ،‬الذي سأل فيه النيب × عن اإلسالم فأخربه عنه‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل‪« :‬وقد مجع النيب × الورعَ كلَّه يف كلمة واحدة‬
‫فقال‪« :‬من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه» فهذا يعم الرتك ملا ال يعين من‬
‫الكالم‪ ،‬والنظر‪ ،‬واالستماع‪ ،‬والبطش‪ ،‬واملشي‪ ،‬والفكر‪ ،‬وسائر احلركات‬

‫‪138‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬فهذه الكلمة كافية شافية يف الورع»(‪.)1‬‬


‫إن اإلنسان وهو يقرأ يف كتب السري والرتاجم‪ ،‬أو يقرأ يف صفحات‬
‫خرْقٍ عجيبٍ وظاهرٍ هلذه القاعدة‪،‬‬
‫احلياة اليومية؛ ليجد أمثلة كثرية تدل على َ‬
‫اليت تكاثرت النصوص يف التأكيد على معناها‪ ،‬ومن تلك الصور اليت ال تكاد‬
‫ختطئها العني واألذن‪:‬‬
‫‪ -1‬الدخول يف علم الكالم واملباحث الكالمية اليت أضرّت بأصحابها‬
‫كثرياً؛ فزلزت اليقني الذي كان عندهم‪ ،‬وأدخلتهم يف دهاليز‬
‫الشكوك‪ ،‬فأصبح بعضهم حيارى يف عقائدهم‪ ،‬مرتددون يف بعض‬
‫ما كانوا يوقنون به من االعتقاد‪ ،‬بل بلغ ببعضهم أنه متنى أن‬
‫ميوت على دين العجائز الالتي ال يعرفن الشك وال الرتدد!‬
‫وعافاهن اهلل من هذه األمور‪.‬‬
‫قال الذهيب – رمحه اهلل – يف ترمجة أحد العلماء الكبار(‪« :)2‬أحد‬
‫األعالم‪ ،‬وفرد زمانه علماً ونقالً وذكاءً وتفنناً‪ ،‬إال أنه خالف السلف‪ ،‬ووافق‬
‫املعتزلة يف عدة بدع‪ ،‬نسأل اهلل العفو والسالمة فإن كثرة التبحر يف الكالم‬
‫رمبا أضر بصاحبه‪ ،‬ومن حسن إسالم املرء تركه ماال يعنيه»(‪.)3‬‬
‫وها حنن اليوم جند أمثال هذا اخلَرْق هلذه القاعدة يف فئام من الشباب‬
‫الذين أصبحوا ال يفرقون يف قراءاتهم‪ ،‬بل يقرأون لكل أحد‪ ،‬حبجة االطالع‬

‫‪139‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وا لثقافة! وقد يقرأون ألناس مشهورين بالفكر املنحرف‪ ،‬ثم ال يزال هذا‬
‫املسكني يُنقَل من شبهة إىل شبهة‪ ،‬ومن ضاللة إىل ضاللة‪ ،‬ثم يفزع بعدها –‬
‫إن بقي فيه بقية من وازع – إىل أهل العلم ليكشفوا له تلك الشبهات‬
‫العويصة‪ ،‬وقد ينجح أولئك العلماء وقد ال ينجحون؛ ألن الشُبَه عادةً ما‬
‫تكون خطّافةً‪ ،‬ختطف لب اإلنسان وعقلَه‪ ،‬ويكون كشفها وإزالةُ أثرها صعباً‪.‬‬
‫لقد حدّثين أحد أستاذة اجلامعات – وهو من العلماء الفضالء – أنه‬
‫عاش سنوات مع هذه الكتب الفكرية املنحرفة؛ وأنه تعب منها جداً‪ ،‬وطاف‬
‫به طائف من الشك والقلق‪ ،‬حتى أعانه اهلل على التخلص من آثارها‪ ،‬بسبب‬
‫تدبر القرآن‪ ،‬واإلفادة من كتب أئمة السنة‪ ،‬وعلى رأسهم ابن القيم رمحه اهلل‪.‬‬
‫مع العلم أنه بدأ يقرأ يف هذه الكتب‪ ،‬وهو حماضرٌ يف اجلامعة‬
‫ومتخصص يف الشريعة‪ ،‬فما الظن مبن يقرأها من الشباب الصغار يف علمهم‬
‫وحتصينهم العلمي؟ إنها ألكثر وأعظم تأثرياً‪.‬‬
‫وإنين – بهذه املناسبة – ألنصح أحبيت الشباب أال ُيقْدِموا على قراءة‬
‫هذا النوع من الكتب إال عند احلاجة‪ ،‬وبشرط مهم‪ :‬وهو التحصني العلمي‬
‫القوي الذي يدفع غوائل الشُبَه‪ ،‬فإن أغلى ما عند اإلنسان دينُه وعقيدتُه‪،‬‬
‫وليس من احلكمة وال من العقل يف شيء أن جيعلهما يف مهب الريح؛‬
‫تتخطفه شبهات الذين ال يوقنون!‬
‫‪ -2‬ومن صور خرق هذه القاعدة الشرعية‪« :‬من حسن إسالم املرء‬
‫تركه ما ال يعنيه»‪:‬‬
‫السؤال عما ال يعين اإلنسان من تفاصيل املسائل اليت أخفى اهلل‬

‫‪140‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ورسوله شأنهما‪ ،‬ويوضح هذا املعنى ما جاء يف ترمجة أحد تالميذ اإلمام‬
‫مالك – رمحهم اهلل – حني جاءه كتاب من بعض امللوك يسأله عن كفيت‬
‫امليزان‪ ،‬أمن ذهب هي أم من َورِق؟ فكتب يف اجلواب‪ :‬حدثنا مالك عن‬
‫الزهري أن رسول اهلل × قال‪ :‬من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه!‬
‫وهذا يقع كثرياً لبعض الطلبة – خاصة منهم املبتدئني – حني يسألون‬
‫عن تفاصيل ال أثر هلا‪ ،‬بل ال داعي هلا يف العلم‪ ،‬أو البحث فيما كان يسميه‬
‫العلماء‪ :‬األغلوطات‪ ،‬وهذا املسلك مما يَحرِم طالب العلم بركة ما يعلم‪،‬‬
‫ويقطعه عن حتصيل النافع املفيد‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬االشتغال باملسائل اليت ال يرتتب عليها عمل؛ مثل مسائل‬
‫املفاضلة بني بعض األعيان‪ ،‬وهلذا ملا أشار العالمة الشوكاني إىل مسألة‬
‫املفاضلة بني األنبياء واملالئكة قال‪« :‬وقد اشتغل بهذه املفاضلة قومٌ من أهل‬
‫العلم‪ ،‬وال يرتتب على ذلك فائدة دينية وال دنيوية‪ ،‬بل الكالم يف مثل هذا‬
‫من االشتغال مبا ال يعين‪ ،‬ومن حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»(‪.)1‬‬
‫‪ -3‬ومن صور خرق هذه القاعدة الشرعية – «من حسن إسالم املرء‬
‫تركه ما ال يعنيه» –‪:‬‬
‫ما يقع لبعض الناس من تتبع الصغرية والكبرية من خصوصيات‬
‫الناس‪ ،‬وهذا لو مل تأت به الشريعة لنبذته الفطرة السليمة‪ ،‬ولنفرت منه‬
‫النفوس املستقيمة‪ ،‬وهو مما يوجب العداوة والبغضاء‪ ،‬وحيمل على العدوان‬

‫‪141‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بني الناس‪ ،‬وهو يف احلقيقة أحد صور التجسس‪ ،‬وتتبع العورات‪ ،‬والفضول‬
‫من القول والعمل‪ ،‬وهي معانٍ جاءت بها نصوصٌ خاصة‪ ،‬كلها تدل على‬
‫سعة معنى هذه القاعدة‪« :‬من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعينه»‪.‬‬
‫‪ -4‬ومن صور خرق هذه القاعدة‪ ،‬االنشغال بعيوب الناس عن عيب‬
‫النفس‪ ،‬وقد قال بعض أهل العلم‪« :‬طوبى ملن شغله عيبه عن‬
‫عيوب الناس‪ ،‬وويلٌ ملن نسي عيبَه وتفرّغ لعيوب الناس‪ ،‬فاألَول‬
‫عالمة السعادة‪ ،‬والثاني عالمة الشقاوة»(‪.)1‬‬
‫‪ -5‬ومن صور خرق هذه القاعدة ما نبّه إليه أبو عبدالرمحن السلمي‬
‫– وهو يتحدث عن عيوب النفس – حيث يقول‪« :‬ومن عيوبها‪:‬‬
‫تضييع أوقاتها باالشتغال مبا ال يعين من أمور الدنيا‪ ،‬واخلوض‬
‫فيها مع أهلها‪ ،‬ومداواتُها‪ :‬أن يعلم أن وقته أعز األشياء فيشغله‬
‫بأعز األشياء‪ ،‬وهو ذكر اهلل‪ ،‬واملداومة على الطاعة‪ ،‬ومطالبة‬
‫اإلخالص من نفسه؛ فإنه روي عن النيب × أنه قال‪« :‬من حسن‬
‫إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»‪ ،‬وقال احلسن بن منصور‪ :‬عليك‬
‫بنفسك فإن مل تشغلها شغلتك»(‪.)2‬‬
‫وأختم هذه احللقة بهذه اللطيفة املتعلقة بهذه القاعدة‪ ،‬فقد جاء يف‬
‫ترمجة أمحد الغزالي – أخي أبي حامد الغزالي – أنه قال على رأس منربه‬

‫‪142‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ببغداد‪ ،‬يف شعبان سنة مخس عشرة ومخس مئة‪ :‬مسعت شيخي أبا بكر‪،‬‬
‫حكى عن الشيخ أبي القاسم الكركان قال‪ :‬يف بداءة أمري مسعت هذا‬
‫اخلرب‪« :‬من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه» فبقيت مثانني سنة أُفْيت‬
‫( ‪)1‬‬
‫مبقتضى هذا احلديث‪.‬‬
‫اللهم أشغل أوقاتنا بطاعتك‪ ،‬واجعل سكوننا وحركتنا فيما يعنينا‬
‫ويرضيك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ترك ما ال يعين يوفر عليك جهداً ووقتاً‪.‬‬
‫التكلم فيما ال يعين يفتح باباً من اخلالف ال يغلق‪.‬‬
‫اشتغال البعد مبا يعنيه‪ ،‬ال يدع له وقتاً يتكلم فيما ال يعنيه‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية العشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫احرص علت ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجز‬

‫قيل‪ :‬احذر جمالسة العاجز‪ ،‬فإنه من سكن إىل‬


‫عاجز أعداه من عجزه‪ ،‬وأمده من جزعه‪ ،‬وعوّده‬
‫قلة الصرب‪ ،‬ونسّاه ما يف العواقب‪ ،‬وليس للعجز‬
‫ضدّ إال احلزم‪( .‬اإلبشيهي)‬

‫هذه قاعدة نبوية حمكمة‪ ،‬جليلة الفائدة‪ ،‬عظيمة املعاني‪ ،‬انطوت على‬
‫«كالمٍ جامعٍ نافع‪ ،‬مُحتوٍ على سعادة الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫فاألمور النافعة قسمان‪ :‬أمور دينية‪ ،‬وأمور دنيوية‪ ،‬والعبد حمتاج إىل‬
‫الدنيوية كما أنه حمتاج إىل الدينية؛ فمدار سعادته وتوفيقه على احلرص‬
‫واالجتهاد يف األمور النافعة منهما‪ ،‬مع االستعانة باهلل تعاىل‪ ،‬فمتى حرص‬
‫العبد على األمور النافعة واجتهد فيها‪ ،‬وسلك أسبابها وطرقها‪ ،‬واستعان‬
‫بربه يف حصوهلا وتكميلها؛ كان ذلك كماله‪ ،‬وعنوان فالحه‪ ،‬ومتى فاته‬
‫واحد من هذه األمور الثالثة؛ فاته من اخلري حبسبها‪ ،‬فمن مل يكن حريصاً‬
‫على األمور النافعة‪ ،‬بل كان كسالناً؛ مل يدرك شيئاً‪ ،‬فالكسل هو أصل اخليبة‬
‫والفشل‪ ،‬فالكسالن ال يدرك خرياً‪ ،‬وال ينال مكرمة‪ ،‬وال حيظى بدين وال‬

‫‪144‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫دنيا‪ ،‬ومتى كان حريصاً‪ ،‬ولكن على غري األمور النافعة – إما على أمور‬
‫ضارة‪ ،‬أو مفوّتة للكمال – كان مثرة حرصه اخليبة‪ ،‬وفوات اخلري‪ ،‬وحصول‬
‫الشر والضرر‪ ،‬فكم من حريص على سلوك طرقٍ وأحوالٍ غريَ نافعة مل‬
‫يستفد مِن حرصه إال التعبَ والعنا َء والشقاءَ‪.‬‬
‫ثم إذا سلك العبد الطرقَ النافعة‪ ،‬وحرص عليها‪ ،‬واجتهد فيها؛ مل تتم‬
‫له إال بصدق اللجأ إىل اهلل‪ ،‬واالستعانة به على إدراكها وتكميلها‪ ،‬وأن ال‬
‫يتكل على نفسه وحَوْله وقوته‪ ،‬بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على‬
‫ربه؛ فبذلك تهون عليه املصاعب‪ ،‬وتتيسر له األحوال‪ ،‬وتتمّ له النتائج‬
‫والثمرات الطيّبة يف أمر الدين وأمر الدنيا‪ ،‬لكنّه يف هذه األحوال حمتاج – بل‬
‫مضطر غاية االضطرار – إىل معرفة األمور اليت ينبغي احلرص عليها‪ ،‬واجلد‬
‫يف طلبها‪.‬‬
‫فاألمور النافعة يف الدين ترجع إىل أمرين‪ :‬علم نافع‪ ،‬وعمل‬
‫صاحل»(‪.)1‬‬
‫لقد كانت هذه القاعدة اجلليلة‪« :‬احرص على ما ينفعك وال تعجز»‬
‫وصية أوصى بها النيب عليه الصالة والسالم أحد أصحابه رضي اهلل عنهم؛‬
‫يقول ابن القيم رمحه اهلل‪« :‬فأمره باحلرص على األسباب‪ ،‬واالستعانة‬
‫باملسبب‪ ،‬ونهاه عن العجز‪ ،‬وهو نوعان‪ :‬تقصري يف األسباب‪ ،‬وعدم احلرص‬
‫عليها‪ ،‬وتقصري يف االستعانة باهلل وترك جتريدها‪ ،‬فالدين كله – ظاهره‬

‫‪145‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وباطنه‪ ،‬شرائعه وحقائقه – حتت هذه الكلمات النبوية‪ ،‬واهلل أعلم»(‪.)1‬‬


‫وقال الشافعي – رمحه اهلل تعاىل–‪ :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬ودع كالم‬
‫الناس؛ فإنه ال سبيل إىل السالمة من ألسنة العامة‪.‬‬
‫ومثله قول مالك بن دينار‪ :‬من عرف نفسه مل يضره ما قال الناس‬
‫(‪)2‬‬
‫فيه‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية – رمحه اهلل‪« :‬ويف قوله ×‪« :‬احرص على ما ينفعك‪،‬‬
‫واستعن باهلل وال تعجز» أمرٌ بالتسبب املأمور به؛ وهو احلرص على املنافع‪،‬‬
‫وأمرٌ مع ذلك بالتوكل – وهو االستعانة باهلل – فمن اكتفى بأحدهما فقد‬
‫عصى أحد األمرين‪ ،‬ونهى عن العجز الذي هو ضد الكَيس‪ ،‬وكما يف األثر‪:‬‬
‫«الكيّس‪ :‬من دان نفسه وعمل ملا بعد املوت‪ ،‬والعاجز‪ :‬من أتبع نفسه هواها‬
‫ومتنى على اهلل» فالعاجز يف احلديث مقابل الكيّس‪ ،‬فمن فعل ما أمر به من‬
‫التزود؛ فاستعان به على طاعة اهلل وأحسن منه إىل من يكون حمتاجاً؛ كان‬
‫مطيعاً هلل يف هذين األمرين»(‪.)3‬‬
‫ويقول ابن رجب‪« :‬ومن ترَكَ االستعانة باهلل‪ ،‬واستعان بغريه؛ وكَ َله‬
‫اهلل إىل من استعان به فصار خمذوالً‪ ،‬وكتب احلسنُ إىل عمر بن عبدالعزيز‪ :‬ال‬
‫تستعن بغري اهلل فَيكِلُك اهلل إليه‪ ،‬ومن كالم بعض السلف‪ :‬يا رب! عجبتُ‬

‫‪146‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ملن يعرفك كيف يرجو غريك! وعجبت ملن يعرفك كيف يستعني بغريك!»(‪.)1‬‬
‫«وكل مَا يستعان بِهِ على الطَّاعَة َفهُوَ طَاعَة وَإِن كَانَ من جنس املُبَاح؛‬
‫قَالَ النيب × فِي احلَدِيث الصَّحِيح لسعد‪« :‬إِنَّك لن تنْفق َن َفقَة تبتغي بهَا‬
‫الل ْقمَة تضعها فِي فِي‬
‫وَجه اهلل إِلَّا ازددت بهَا َد َرجَة ورفعة‪ ،‬حَتَّى ُّ‬
‫امْرَأَتك»(‪.)2‬‬
‫لقد قيل‪ :‬إن أصدق كلمة قيلت بعد القرآن والسنة هي كلمة علي بن‬
‫أبي طالب رضي اهلل عنه‪« :‬قيمة كل امرء ما حيسنه«‪ ،‬وهذه الكلمة إمنا هي‬
‫تُجَلّي معنى العبارة األوىل من هذه القاعدة النبوية وهي‪« :‬احرص على ما‬
‫ينفعك» فاحرص على أن يكون هذا الذي حتسنه هو مما ينفعك يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬وإياك أن جتعل قيمتك تافهة ساقطة؛ فال جتعل قيمتك فيما ال‬
‫تطمع أن تراه يف صحيفة حسناتك من اللهو والعبث احملرم‪.‬‬
‫وكم هو مجيل! قبل أن تُقدم على تسنّمِ أمرٍ أن حترص على شيء مهمٍ‬
‫أرشدك إليه نبيك عليه الصالة والسالم يف هذه القاعدة؛ وهو‪« :‬ما ينفعك»‬
‫فسل نفسك‪ :‬هل هذا العمل ينفعين يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وليس فيه عليّ‬
‫ضرر؟ فإن كان كذلك فأقدِم‪ ،‬لكن هل تستطيع أن تُقدم عليه وحدك؟ قد‬
‫تسقط يف حفرة ما! قد يؤذيك قطاع الطرق! قد تعرض لك عوارض من‬
‫حيث ال حتتسب! فما احليلة؟ عليك بالشطر الثاني من هذه القاعدة النبوية‬

‫‪147‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫العظيمة‪« :‬واستعن باهلل وال تعجز» إنك إن استعنت باهلل فلن تعجز بإذن‬
‫اهلل‪ ،‬ومن توكل على اهلل فهو حسبه‪.‬‬
‫ومن أعظم ما يعني على اختيار النافع من األعمال واألقوال‬
‫واملشاريع‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم؛ فإنه يهدي إىل الفرقان بني األمور النافعة والضارة‪ ،‬وبني‬
‫النافع واألنفع‪ ،‬وأصل هذا العلم‪ :‬علم الشريعة‪ ،‬وما يعني عليه‬
‫من علوم دنيوية تتصل باألمر الذي سيقدم عليه اإلنسان‪ ،‬امتثاالً‬
‫لقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ‬
‫[األنبياء‪.]7 :‬‬
‫‪ -2‬االستشارة؛ فكم من رأي يبدو لإلنسان سدادُه‪ ،‬ثم بعد االستشارة‬
‫يتبني له خالف ذلك! وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن يأمر نبيه‬
‫× باالستشارة مع أنه نيب يوحى إليه! ليقتدي به من بعده من‬
‫األئمة فضالً عن عامة الناس‪ ،‬وقد قيل‪ :‬ما ندم من استشار‪ ،‬وال‬
‫خاب من استخار‪.‬‬
‫وتشتد احلاجة إىل االستشارة كلما عظم شأن األمر الذي يُقدم عليه‬
‫اإلنسان‪ ،‬كزواجٍ‪ ،‬أو مشروع علمي أو جتاري كبري‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يعلم العبد أن ما ينفع لفالنٍ من الناس فقد ال ينفع لك؛‬
‫فالنفوس ليست واحدة‪ ،‬واملواهب وامللكات ليست سواء بني‬
‫الناس‪ ،‬والقدرات واإلمكانات ليست على نسقٍ واحد‪ ،‬فرب‬
‫عملٍ يُنصح به زيد وال ينصح به عبيد‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن نوّع بني العبادات يف الشريعة؛ ألن‬
‫من الناس من ينشط للصالة وال ينشط للصيام‪ ،‬وآخر ينشط لقيام الليل ما ال‬
‫ينشط لكثرة قراءة القرآن‪ ،‬ويف هذا القصة املشهورة اليت وقعت لإلمام مالكٍ‬
‫– رمحه اهلل – حني كتب إليه عبداهلل العمري العابد حيضه على االنفراد‬
‫والعمل! فكتب إليه مالك‪ :‬إن اهلل قسم األعمال كما قسم األرزاق‪ ،‬فرب‬
‫رجلٍ فُتح له يف الصالة‪ ،‬ومل يُفتح له يف الصوم‪ ،‬وآخر فُتح له يف الصدقة ومل‬
‫يُفتح له يف الصوم‪ ،‬وآخر فُتح له يف اجلهاد‪ ،‬فنشر العلم من أفضل أعمال‬
‫الرب‪ ،‬وقد رضيتُ مبا فُتح لي فيه‪ ،‬وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنتَ فيه‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وأرجو أن يكون كالنا على خريٍ وبِرّ‪.‬‬

‫ويف باب طلب العلم‪ ،‬قد يُنصح إنسان بالتفرغ لطلب العلم‪ ،‬وآخر‬
‫يُنصح بأن يتفرغ لإلغاثة والعمل اخلريي؛ ألنه ليس من أحالس العلم‪،‬‬
‫وليس ممن خُلق له‪.‬‬

‫ويف أمور الدنيا؛ قد تصلح التجارة الفالنية لشخصٍ وال تصلح آلخر‬
‫وهكذا‪ ،‬أو يف التخصص العلمي الدقيق؛ فقد يناسب أن يدرس إنسانٌ‬
‫الطب‪ ،‬وآخر يكون علم احلاسب أنسب له‪ :‬ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﭼ‬

‫[البقرة‪.]60 :‬‬

‫‪149‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫باحلرص على ما ينفع‪ ،‬واالستعانة باهلل؛ تكتمل فصول احلياة‬
‫السعيدة‪.‬‬
‫منك احلرص على النفع وبذل السبب‪ ،‬ومن اهلل العون‬
‫والتوفيق‪.‬‬
‫ليس من املعقول أن تكون مواهب الناس واحدة‪ ،‬فالتنويع سنة‬
‫كونية وشرعية‪.‬‬
‫ال تقتل مواهبك يف تقمص شخصيات اآلخرين‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية احلادية والعشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من تشبه بقوم فهو منهم‬
‫«كنا يف وليمة‪ ،‬فجاء أمحد بن حنبل‪ ،‬فلما دخل نظر إىل‬
‫كرسي يف الدار عليه فضة‪ ،‬فخرج فلحقه صاحب الدار؛‬
‫فنفض يده يف وجهه وقال‪ :‬زي اجملوس! زي اجملوس»!‪.‬‬
‫(علي بن أبي صاحل السواق)‪.‬‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب االعتقاد والسلوك‪،‬‬


‫وهي قاعدة تربز عظمة هذا الدين الذي يريد من أهله أن يكونوا أعزّة يف كل‬
‫شيء‪ ،‬أليس مبدأهم أقوى؟ أليس منهجهم أمسى؟ أليس سندهم أعلى؟‬
‫ﭽﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]139‬فلم يتشبهون بغريهم من أممٍ غضب اهلل عليها ولعنها‪ ،‬وضلت‬
‫ضالالً مبيناً؟!‬
‫أال ما أحوج املسلمني اليوم – وقد انفتحت عليهم الدنيا‪ ،‬واتصلوا‬
‫بأمم األرض بواسطة وسائل التقنية – إىل فقه هذه القاعدة النبوية الشريفة‬

‫»‬ ‫«‬
‫«‬ ‫»‬ ‫«‬
‫»‬ ‫«‬

‫‪151‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«من تشبه بقوم فهو منهم» خصوصاً واإلنسان يرى أنواعاً كثرية من خرق‬
‫هذه القاعدة‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫لنرجع بالذاكرة إىل الوراء قليالً‪ ،‬إىل تلك السنني الزاهية من عصور‬
‫هذه األمة‪ ،‬حني دخل املسلمون بالد األندلس‪ ،‬فقد كانت هلم شخصيتهم‬
‫اإلسالمية املستقلة‪ ،‬اليت متيزوا بها عن غريهم من الشعوب واألمم‪ ،‬وقد‬
‫ظلوا خالل القرون الثالثة األوىل للوجود اإلسالمي هناك حمافظني على تلك‬
‫الشخصية اليت تأصلت فيها األخالق والقيم النبيلة‪ ،‬ولكن حينما اعرتى‬
‫وجودهم الضعف‪ ،‬وعصفت بهم الفنت‪ ،‬وخف الوازع الديين عند بعضهم؛‬
‫بدؤوا بالتخلي عن بعض تلك األخالق‪ ،‬والتأثر بأخالق وعادات غريبة‬
‫عليهم وعلى جمتمعهم‪ ،‬األمر الذي جعل شخصيتهم اإلسالمية تأخذ‬
‫باالضمحالل‪ ،‬ويسري فيها الضعف‪.‬‬
‫يعلق ابن خلدون رمحه اهلل على هذا فيقول‪( :‬إن املغلوب مولع‬
‫باالقتداء بالغالب يف شعاره وزيه وختلقه‪ ،‬وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب‬
‫يف ذلك‪ :‬أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه‪ ...‬حتى إذا‬
‫كانت أمة جتاور أخرى‪ ،‬وهلا الغلب عليها‪ ،‬فيسري إليهم من هذا التشبه‬
‫واالقتداء حظ كبري‪ ،‬كما هو يف األندلس هلذا العهد مع أمم اجلاللقة‪ ،‬فإنك‬
‫جتدهم يتشبهون بهم يف مالبسهم وشاراتهم‪ ،‬والكثري من عوائدهم‬
‫وأحواهلم‪ ،‬حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعني احلكمة أنه من عالمات‬
‫االستيالء واألمر هلل)(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫بل ذكر أحد املؤرخني أن جند مسلمي األندلس تشبهوا بالنصارى يف‬

‫‪152‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫زيهم وأسلحتهم‪ ،‬ومل يقتصر األمر على هذا‪ ،‬بل إن بعض مسلمي األندلس‬
‫قلّد النصارى يف االحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الدينية!(‪.)1‬‬
‫ومما ال شك فيه أن هذا االنهزام الذي مُينَ به املسلمون يف ذلك الوقت‬
‫– حينما تأثروا بالنصارى – قد متخض عنه كسر احلاجز النفسي الذي كان‬
‫موجوداً عند املسلمني إزاء العدو النصراني؛ األمر الذي جعل خمالطتهم أو‬
‫التأسي بهم أمراً مألوفاً عند بعض املسلمني هناك‪ ،‬وهلذا خرجوا إىل ميادين‬
‫اجلهاد وهم غري آبهني بالعدو وال مستعدين حلربه‪.‬‬
‫وهكذا زالت مهابة املسلمني عند النصارى؛ حينما ختلوا عن أصالتهم‬
‫وقَِيمهم اإلسالمية‪ ،‬حيث أصبحوا حقريين يف عني العدو‪ ،‬وأقل من أن يهتم‬
‫بهم‪ ،‬وقد بيَّن هذا األمر أحدُ ملوك النصارى حيث قال لرسول املعتمد بن‬
‫َعّباد ملا قدم إليه‪( :‬كيف أترك قوماً جمانني! تَسَمَّى كلُّ واحد منهم باسم‬
‫خلفائهم وملوكهم‪ ،‬وكل واحد منهم ال يُسِل يف الذب عن نفسه سيفاً‪،‬‬
‫وكيف حيل لبشر أن ُيقِر منهم على رعيته أحداً وأن يدعها بني أيديهم‬
‫سدى)(‪.)2‬‬
‫وكيف يرجو مسلمٌ من عدوّه أن حيرتمه‪ ،‬وعدّوه يراه يقلده يف أمورٍ‬
‫كثرية؛ ليصل إىل حماكاته؟! وهل صارت الصورة يوم ًا مبنزلة األصل؟‬
‫إن من احملزن ما يشاهده اإلنسان من تهافت شباب األمة من اجلنسني‬

‫‪153‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بالذات على التشبه بالكفار يف أمور كثرية‪ ،‬مع وضوح هذا احلكم الشرعي‪،‬‬
‫وتفاقمت هذه احملنة يف السنوات األخرية اليت صاحبت هذا االنفتاح‬
‫اإلعالمي والتقين‪ ،‬وهذا احلزنُ مبعثه أن كثرياً من هؤالء الشباب جيهلون‬
‫مصدر عزتهم الذي هو دينهم‪ ،‬وجيهلون أو يتجاهلون حقيقة مَنْ يتشبهون‬
‫بهم من أعداء اهلل تعاىل‪ ،‬حتى رأينا بأعيننا صدق حديث النيب ×‪« :‬حتى لو‬
‫دخلوا جحر ضب لدخلتموه»‪ ،‬فوصل احلد ببعض هؤالء إىل التشبه بالعدو‬
‫يف شيء من مناسكه وعبادته! – عياذاً باهلل تعاىل –‪.‬‬
‫ومع هذا االنهماك يف التشبه بأعداء؛ ترى أحدهم يستحي أن يتشبه‬
‫بالنيب × وصحابته الكرام! فما أعظم اخلري الذي حرمه هؤالء املتشبهني‬
‫بالكفار! وما أعظم األوزار اليت حيملونها بتشبههم ذلك‪ ،‬ومن أوزار من‬
‫يضلونهم بغري علم!‬
‫لو كان هؤالء املتشبهون بأعداء اهلل من اليهود والنصارى يتدبرون ما‬
‫يقرؤون؛ لفهموا أن سورة الفاحتة تنقض عليهم مجيع صور التشبه بأهل‬
‫الكتاب – فضالً عن غريهم من الكفّار –! فإن املصلي إذا قرأ الفاحتة‪ ،‬فإنه‬
‫يقول يف كلِّ مرة‪ :‬ﭽﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [الفاحتة‪ ]7 ،6 :‬فتأمل كيف طلبوا ربهم‬
‫أوالً أن يهديهم سبيل األنبياء والصديقني والشهداء والصاحلني – ألن من‬
‫عرف احلق؛ عرف أهله فتشبه بهم – ثم طلبوا ربهم – يف املقابل – أن يقيهم‬
‫التشبه مبن احنرفوا عن منهج اهلل – اليهود والنصارى – الذي حذّر النيب ×‬
‫من سلوك سبيلهم بقوله‪« :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم‪ ،‬شرباً شرباً‪ ،‬وذراعاً‬

‫‪154‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫بذراع‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬اليهود‬
‫والنصارى؟ قال‪« :‬فمن»؟(‪.)1‬‬
‫إن من املهم – وحنن نتحدث عن التشبه – أن حنرر املعنى الذي يدخل‬
‫يف التشبه بالكفار‪ ،‬فيقال‪ :‬هو مضاهاة الكفار فيما هو من خصائصهم‪ ،‬فدخل‬
‫يف هذا التشبه بهم يف األمور االعتقادية‪ ،‬واألمور الظاهرة‪ :‬من أقوال‪ ،‬أو‬
‫أفعال قد تكون عبادات‪ ،‬وقد تكون أيضاً عادات خاصةً بهم‪.‬‬
‫وهنا تساؤل مسعتُه من بعض الشباب‪ :‬وماذا يضر أن أتشبه بهم يف‬
‫أمورهم الظاهرة ما دام أني مؤمن يف الباطن؟! ماذا تضر قَصةُ شَعْرٍ‪ ،‬أو تقليدٌ‬
‫يف لباس‪ ،‬وحنو ذلك مما اختصوا به أو صار شعاراً هلم؟‬
‫فيقال‪ :‬إن مصدر هذه الكلمات هو اجلهل بارتباط الظاهر بالباطن‪،‬‬
‫واعتقاد أنه ال تأثري للظاهر على الباطن‪ ،‬وال للباطن على الظاهر! وإن أدلة‬
‫القرآن والسنة لتؤكد ارتباط الباطن بالظاهر‪ ،‬وتأثريِ كل واحدٍ منهما على‬
‫اآلخر؛ هلذا يقول ابن تيمية رمحه اهلل‪« :‬وهذه األمور الباطنة والظاهرة بينهما‬
‫ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور واحلال يوجب أموراً‬
‫ظاهرة‪ ،‬وما يقوم بالظاهر من سائر األعمال؛ يوجب للقلب شعوراً وأحواالً‪.‬‬
‫وقد بعث اهللُ حممداً × باحلكمة اليت هي سنته‪ ،‬وهي الشرعة واملنهاج‬
‫الذي شرعه له‪ ،‬فكان من هذه احلكمة‪ :‬أن شرع له من األعمال واألقوال ما‬
‫يباين سبيل املغضوب عليهم والضالني»(‪ )2‬ثم أخذ يبني شيئاً مِن حِكَم النهي‬
‫عن خمالفة الكافرين يف هذه األمور الظاهرة فقال‪:‬‬

‫‪155‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«منها‪ :‬أن املشاركة يف اهلدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكالً بني‬


‫املتشابهني‪ ،‬يقود إىل موافقة ما يف األخالق واألعمال‪ ،‬وهذا أمر حمسوس؛‬
‫فإن الالبس ثياب أهل العلم جيد من نفسه نوعَ انضمامٍ إليهم‪ ،‬والالبس‬
‫لثياب اجلند املقاتلة – مثالً – جيد من نفسه نوعَ ختلقٍ بأخالقهم‪ ،‬ويصري طبعه‬
‫متقاضياً لذلك‪ ،‬إال أن مينعه مانع‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن املخالفة يف اهلدي الظاهر توجب مباينةً ومفارقةً توجب‬
‫االنقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضالل‪ ،‬واالنعطاف على أهل‬
‫اهلدى والرضوان‪ ،‬وحتقق ما قطع اهلل من املواالة بني جنده املفلحني‪ ،‬وأعدائه‬
‫اخلاسرين‪.‬‬
‫وكلما كان القلب أمتّ حياة‪ ،‬وأعرف باإلسالم – الذي هو اإلسالم‪،‬‬
‫لست أعين جمرد التوسم به ظاهراً أو باطناً مبجرد االعتقادات من حيث‬
‫اجلملة – كان إحساسه مبفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أمت‪ ،‬وبُعده‬
‫عن أخالقهم املوجودة يف بعض املسلمني أشد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن مشاركتهم يف اهلدي الظاهر؛ توجب االختالط الظاهر‪،‬‬
‫حتى يرتفع التميز ظاهراً بني املهديني املرضيني‪ ،‬وبني املغضوب عليهم‬
‫والضالني‪ ،‬إىل غري ذلك من األسباب احلكمية‪.‬‬
‫هذا إذا مل يكن ذلك اهلدي الظاهر إال مباحاً حمضاً لو جترد عن‬
‫مشابهتهم‪ ،‬فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر‪،‬‬
‫فموافقتهم فيه موافقة يف نوع من أنواع معاصيهم‪ ،‬فهذا أصل ينبغي أن‬
‫يتفطن له»(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وحتى تتجلى الصورة أكثر؛ دعونا نربز هنا منوذجني عمليني يف النهي‬
‫عن التشبه بالكافرين‪:‬‬
‫النموذج األول‪:‬‬
‫ذكره اهلل تعاىل يف كتابه الكريم فقال‪ :‬ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [البقرة‪« ]104 :‬فنهى اهلل املؤمنني عن هذه‬
‫( ‪)1‬‬
‫أي‪ :‬باب التشبه باليهود ولو كان ذلك يف كلمة‬ ‫الكلمة سَدّاً هلذا الباب»‬
‫واحدة!‬
‫النموذج الثاني‪:‬‬
‫يتضح من قصة قدوم رسول اهلل ج املدينة‪ ،‬وكان هلم يومان يلعبون‬
‫فيهما‪ ،‬فقال‪« :‬ما هذان اليومان»؟ قالوا‪ :‬كنا نلعب فيهما يف اجلاهلية‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل ×‪« :‬إن اهلل قد أبدلكم بهما خرياً منهما‪ :‬يوم األضحى ويوم‬
‫الفطر»(‪.)2‬‬
‫قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪« :‬فوجه الداللة‪ :‬أن العيدين اجلاهليني مل‬
‫يقرهما رسول اهلل ×‪ ،‬وال تركهم يلعبون فيهما على العادة‪ ،‬بل قال‪« :‬إن‬
‫اهلل قد أبدلكم بهما يومني آخرين» واإلبدال من الشيء يقتضي ترك املبدل‬
‫منه ‪ ..‬ال سيما وقوله‪« :‬خرياً منهما» يقتضي االعتياض مبا شرع لنا‪ ،‬عما كان‬
‫يف اجلاهلية‪...‬وأيضاً فقوله هلم‪« :‬إن اهلل قد أبدلكم» ملا سأهلم عن اليومني‬

‫‪157‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫فأجابوه‪...‬دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي اإلسالم؛ إذ لو مل يقصد‬


‫النهي مل يكن ذِكر هذا اإلبدال مناسباً؛ إذ أصل شرع اليومني اإلسالميني‬
‫كانوا يعلمونه‪ ،‬ومل يكونوا ليرتكوه ألجل يومي اجلاهلية»(‪.)1‬‬
‫وتتسع هذه القاعدة لتشمل النهي عن التشبه بأهل الفسق والضالل؛‬
‫خشية أن يكون اإلنسان منهم‪ ،‬ومما يدخل حتت هذا املعنى‪ :‬سدّ الشريعة‬
‫لباب التشبه بني اجلنسني‪ ،‬حيث لعن النيب × املتشبهني من النساء بالرجال‪،‬‬
‫واملتشبهات من النساء بالرجال(‪.)2‬‬
‫كما يفهم من معنى هذه القاعدة أيضاً‪ :‬احلض على التشبه بأهل‬
‫الصالح والرب والتقوى؛ عسى اهلل أن يلحقه بهم‪:‬‬
‫إن التشـــبه بـــالكرام فـــالح‬ ‫فتشــبهوا إن مل تكونــوا مثلــهم‬

‫إذا تبيّن هذا املعنى؛ فلعلنا خنتم هذه اإلشارات العابرة عن هذا‬
‫املوضوع الكبري ببيان حُكم التشبه بالكفار؛ ألن النيب × قال يف الشطر‬
‫األخري من قاعدتنا هذه‪« :‬فهو منهم»‪ :‬أي يف اإلثم واخلري(‪.)3‬‬
‫يوضح ذلك احلكم اإلمامُ ابن تيمية – رضي اهلل عنه – فيقول‪« :‬وهذا‬
‫احلديث أقلّ أحواله أن يقتضي حتريم التشبه بهم‪ ،‬وإن كان ظاهره يقتضي‬
‫كفر املتشبِّه بهم؛ كما يف قوله‪ :‬ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ فقد يُحمل هذا‬
‫على التشبه املطلق؛ فإنه يوجب الكفر‪ ،‬ويقتضي حتريم أبعاض ذلك‪ ،‬وقد‬

‫‪158‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫حيمل على أنه منهم يف القدر املشرتك الذي شابههم فيه‪ ،‬فإن كان كفراً‪ ،‬أو‬
‫معصية‪ ،‬أو شعاراً هلم؛ كان حكمه كذلك»(‪.)1‬‬
‫ويقول ابن كثري رمحه اهلل عن هذه اجلملة «فهو منهم»‪« :‬ففيه داللة‬
‫على النهي الشديد والتهديد والوعيد‪ ،‬على التشبه بالكفار يف أقواهلم‬
‫وأفعاهلم‪ ،‬ولباسهم وأعيادهم‪ ،‬وعباداتهم‪ ،‬وغري ذلك من أمورهم اليت مل‬
‫تشرع لنا وال ُنقَرَّر عليها»(‪.)2‬‬
‫اللهم اجعلنا ممن يتأسون بنبيك وعبادك الصاحلني‪ ،‬وجنبنا التشبه‬
‫بأعداء الدين‪.‬‬
‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫التشبه باألفراد كالتشبه باألقوام‪ ،‬يستويان يف املدح والذم‪.‬‬
‫املسلم له دين يرسم عقيدته وسلوكه ومظهره‪ ،‬فلم التشبه‬
‫بالكافرين!‬
‫ما أقبح أن تنصهر شخصية املسلم يف شخصية الكافر‪.‬‬
‫كن قدوة يُتَشَبهُ بك يف كل خري ونفع‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثانية والعشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫ال يدلدغ املؤمن من جحر واحدٍ مرتني‬
‫إن املؤمن ال تراه إال قائماً على نفسه‪ :‬ما أردتُ‬
‫بكلمة كذا؟ ما أردتُ بأكلة كذا؟ ما أردت مبدخل‬
‫كذا وخمرج كذا؟‪...‬واهلل ال أعود إىل هذا‪( .‬ابن‬
‫القيم)‪.‬‬

‫هذه قاعدة نبوية حمكمة يف أبواب األدب واألخالق‪ ،‬اليت حتث املسلم‬
‫على أن يكون يقظاً نبيهاً‪ ،‬لقد ذكر أهل العلم يف ضبط كلمة (يلدغ) وجهني‬
‫حيسن التنبيه إليهما؛ ألثرهما يف فهم هذه القاعدة‪:‬‬
‫«الوجه األول‪ :‬ال يُلدغُ – بضم الغني – على أن (ال) نافية‪ ،‬فيكون‬
‫هذا على وجه اخلرب‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن املؤمن هو الكيّس احلازم‪ ،‬الذي ال يؤتى من‬
‫جهة الغفلة فيُخدع مرةً بعد أخرى وال يفطن‪ ،‬واملراد يف أمر الدين‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬ال يُلدغِ – بكسر الغني – على أن (ال) ناهية‪ ،‬فعلى هذا‬
‫يكون املعنى‪ :‬ال يُخْدَعن املؤمنُ‪ ،‬وال يُقربنّ من ناحية الغفلة‪ ،‬فيقع يف مكروهٍ‬
‫أو شرٍ وهو ال يشعر‪ ،‬وليكن فطناً حذراً‪ ،‬وهذا التأويل يصلح أن يكون ألمر‬
‫الدين والدنيا»(‪.)2‬‬

‫«‬
‫»‬

‫‪160‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن هذه القاعدة النبوية «أدبٌ شريف‪ ،‬أدّب به النيب × أمتَه‪ ،‬ونبههم‬
‫كيف حيذرون ما خيافون سوءَ عاقبته‪ ،‬وهذا الكالم مما مل يُسبق إليه النيب‬
‫(‪)1‬‬
‫أي يف التعبري عنه‪ ،‬وإال فمعناه مركوز يف الفطر‪ ،‬ومستقر لدى‬ ‫×»‬
‫العقالء – فضالً عن األنبياء عليهم الصالة والسالم – وهلذا ملا طلب إخوة‬
‫يوسف عليه الصالة السالم من أبيهم أن يبعث معهم أخاهم بنيامني‪ ،‬قال‬
‫هلم يعقوب عليه الصالة والسالم كلمة هي ترمجة حرفية هلذه القاعدة النبوية‪:‬‬
‫ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭼ [يوسف‪:‬‬
‫‪ ]64‬ويف خواتيم سورة التوبة؛ نعى اهلل على املنافقني عدم اعتبارهم‬
‫وادكارهم فقال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﭼ [التوبة‪.]126 :‬‬
‫وملا بوّب البخاري على هذا احلديث أعقبه بقول معاوية – رضي اهلل‬
‫عنه – ‪( :‬ال حكيم إال ذو جتربة)‪ ،‬أي‪ :‬ال حتصل احلِكمة حتى جيرِّب األمور‪،‬‬
‫ويعثر فيها؛ فيعترب بها‪ ،‬ويستبني مواضع اخلطأ وجيتنبها‪.‬‬
‫ويروى هذا احلرف بلفظ‪( :‬ال حليم إال ذو جتربة) واملعنى‪ :‬ال يكون‬
‫حليماً كامالً إال من وقع يف زلة وحصل منه خطأ؛ فحينئذ خيجل‪ ،‬فينبغي ملن‬
‫كان كذلك أن يسرت من رآه على عيب؛ فيعفو عنه (‪.)2‬‬
‫وكما أن هذا املعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة مطلوبٌ يف أمر‬

‫‪161‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الدنيا؛ فكذا يف أمر اآلخرة‪ ،‬فاملؤمن ميتنع من اقرتاف السيئات اليت تضره‬
‫مقارفتُها‪ ،‬ثم متى وقع يف شيءٍ منها؛ فإنه يف احلال يبادر إىل الندم والتوبة‬
‫واإلنابة‪ ،‬وهلذا ملا سئل اإلمام أَمحد بن حنبل – رمحه اهلل – عن معنى هذه‬
‫القاعدة النبوية‪« :‬ال يلدغ املؤمن من جحر واحد مرتني»‪ ،‬نبّه على معنى‬
‫شريف من أشرف معانيها‪ ،‬وقلّ من ينتبه له‪ :‬فقال‪ :‬إن وقع مرة يف ذنب فال‬
‫يعد فيه(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ومن متام االعتبار بهذه القاعدة يف هذا الباب‪ :‬أن حيذر غاية احلذر من‬
‫ذلك السبب الذي أوقعه يف الذنب‪ ،‬كحال من أدخل يده يف جُحرٍ فلدغته‬
‫حَيَّة؛ فإنه بعد ذلك ال يكاد يُدخِل يَده يف ذلك اجلُحر؛ ملا أصابه فيه أول‬
‫مرة‪.‬‬
‫ويف التنصيص على «املؤمن» يف هذا احلديث‪ ،‬إشارة إىل أن اإلميان كما‬
‫يَح ِملُ صاحبَه على فعل الطاعات‪ ،‬ويرغِّبه فيها‪ ،‬وحيزنه لفواتها؛ فكذلك‬
‫يزجره عن مقارفة السيئات‪ ،‬وإن وقعت بادر إىل النزوع عنها‪ ،‬ومل َيعُد إىل‬
‫مثل ما وقع فيه‪.‬‬
‫ومن دالالت هذه القاعدة النبوية‪:‬‬
‫– احلث على احلزم والكَيْس يف مجيع األمور‪ ،‬ومن لوازم ذلك‪ :‬تعرف‬
‫األسباب النافعة ليقوم بها‪ ،‬واألسباب الضارة ليتجنبها‪.‬‬
‫– واحلثّ على جتنب أسباب الرِّيب اليت خيشى من مقاربتها الوقوع يف‬
‫الشر‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫– وأن الذرائع معتربة‪ ،‬وقد حذّر اهللُ املؤمنني من العود إىل ما زيّنه‬
‫الشيطان من الوقوع يف املعاصي‪ ،‬فقال‪ :‬ﭽﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩﭼ [النور‪]17:‬؛ وهلذا فإن من ذاق‬
‫الشر من التائبني تكون كراهته له أعظم‪ ،‬وحتذيره وحذره عنه أبلغ؛‬
‫ألنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة»(‪.)1‬‬
‫وبعد‪ :‬فإن املؤمن إن لدغ من جهة توبته‪ ،‬ووقع مرةً أخرى يف الذنب‪،‬‬
‫فإن ذلك ال ينبغي أن حيمله على االستمرار؛ فإن الربّ تواب حيب التوابني‪،‬‬
‫ح له باباً من أبواب العبودية‪ ،‬والتواضع‪،‬‬
‫وليعلم أن هذا العودَ للذنب يفت ُ‬
‫واخلشوع والذل‪ ،‬والشعور بالضعف والقصور‪ ،‬ويف املقابل‪ :‬استشعار كمال‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وشدة افتقاره إىل ربه‪ ،‬وأن هذا العوْدَ ينبغي أن يورثه رغبةً يف كثرة‬
‫األعمال الصاحلة‪ ،‬ونفرةً قويةً عن السيئات؛ فإن النيب × قال‪« :‬ال يلدغ‬
‫املؤمن من جحر مرتني»(‪.)2‬‬
‫وهلذا جتد التائب الصادق أثبت على الطاعة‪ ،‬وأرغب فيها‪ ،‬وأشد‬
‫حذراً من الذنب‪ ،‬مِن كثري من الذين مل يبتلوا بذنب‪ ،‬كما يف الصحيحني من‬
‫حديث أسامة بن زيد‪ ،‬فإنه ملا قتل رجالً بعد أن قال‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬فقال‬
‫النيب ×‪« :‬أقتلته بعد أن قال‪ :‬ال إله إال اهلل»؟! أثّر هذا فيه جداً حتى متنى‬
‫أنه مل يسلم إال يومئذ! وبقي هذا األثر معه إىل أن وقعت الفتنة بني الصحابة‬

‫‪163‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫رضي اهلل عنهم‪ ،‬فامتنع أن يقتل أحداً يقول‪ :‬ال إله إال اهلل»(‪.)1‬‬
‫ومما سبق يتبني أن اإلميان ال يتفق مع الغفلة‪ ،‬بل يقتضي احلذر‬
‫واحليطة‪.‬‬
‫وينبغي للمؤمن أن يفرق بني سالمة القلب وبني البَ َله والغفلة‪،‬‬
‫« فسالمة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته‪ ،‬فيسلم قلبه من‬
‫إرادته وقصده ال من معرفته والعلم به‪ ،‬وهذا خبالف البله والغفلة؛ فإنها‬
‫جهل وقلة معرفة‪ ،‬وهذا ال يُحمد؛ إذ هو نقص‪ ،‬وإمنا يَحمَد الناسُ من هو‬
‫كذلك لسالمتهم منه‪ ،‬والكمال أن يكون القلب عارفاً بتفاصيل الشر‪ ،‬سليماً‬
‫خببٍ وال خيدعين‬
‫من إرادته‪ ،‬قال عمر بن اخلطاب –رضي اهلل عنه–‪« :‬لست ِ‬
‫اخلِب»‪ ،‬وكان عمر أعقل من أن يُخْدَع‪ ،‬وأورع من أن يَخْدع (‪.)2‬‬
‫ودلّت القاعدة‪ :‬على أن الذين ال يتعظون باملَثُالت‪ ،‬وال يستفيدون من‬
‫التجارب؛ مل يكمل اإلميان بعدُ يف نفوسهم‪ ،‬وإن كانوا يف أنفسهم صاحلني‪،‬‬
‫ولكثري من العبادات حمققني‪ ،‬فاملؤمن كيّس فطِن‪ ،‬شيمته االعتبار بالتجارب‪.‬‬
‫وتتسع دالالت هذه القاعدة النبوية لتشمل الدولة واألمة بأكملها‪ ،‬فإن‬
‫من عالمة توفيق اهلل للدول واألمة واألئمة واحلكام‪ :‬أن يعتربوا مبا مضى من‬
‫احلوادث والتجارب‪ ،‬اليت مرّت بهم أو مرّت بغريهم‪ ،‬وهلذا كان من لطيف‬
‫خطابات األنبياء – عليهم الصالة والسالم – ألممهم‪ :‬تذكريهم مبا جرى‬

‫‪164‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫لغريهم‪ ،‬فهذا هود يقول لقومه‪ :‬ﭽﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬


‫ﭫﭼ [األعراف‪ ،]69 :‬وهذا صاحل يذكر قومه‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭼ [األعراف‪ ،]74 :‬وتأمل قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙﮚ ﮛ ﮜﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﭼ‬
‫[آل عمران‪ ]137 :‬وما جاء يف معنى هذه اآلية الكرمية؛ فإنك جتد من أعظم‬
‫فوائده وعربه‪ :‬عدم تكرار األخطاء‪ ،‬واالعتبار بأسباب هالك األمم‪ ،‬وسقوط‬
‫الدول‪.‬‬
‫ومن دالالت هذه القاعدة‪ :‬اإلرشاد إىل االستشارة‪ ،‬سواء يف أمر الدين‬
‫أو الدنيا‪ ،‬وسواء على مستوى الفرد أو األمة؛ فإن األمور فيها العظيم وفيها‬
‫احلقري‪ ،‬وفيها اخلاص وفيها العام‪ ،‬واخلطأ يف بعضها ليس كاخلطأ يف اآلخر‪،‬‬
‫واالستشارة تقلل فرصة اخلطأ‪ ،‬وإن وقع مل يندم؛ ألنه بذل وسعه وطاقته‪.‬‬
‫وباجلملة‪ :‬فهذه القاعدة النبوية الشريفة شاملة ألمر الدين والدنيا‪،‬‬
‫وأمر الفرد واجلماعة‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫املؤمن ينبغي أن يتميز باحليطة واحلذر‪.‬‬
‫الناجح‪ :‬من يبين مستقبله بدروس املاضي واحلاضر‪ ،‬والفاشل‪:‬‬
‫من يهدم مستقبله بأخطاء املاضي واحلاضر‪.‬‬
‫للشيطان مصائد ‪ ..‬فما أدركت منها فاحذر أن تقع فيه مرة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثالثة والعشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من عادى لي ولي ًا فقد آذنته باحلرب‬
‫مِن احلب يف اهلل عز وجل حبُّ أولياء اهلل‪ ،‬وهو‬
‫حب األتقياء األولياء منهم‪ ،‬املعلّمون لدين اهلل‬
‫عز وجل العاملون به‪( .‬ابن عبد الرب)‬

‫هذه قاعدة جليلة‪ ،‬تفيض على قلوب املؤمنني أنهاراً من اليقني‬


‫واإلخالص لربٍ يدافع عن أحبابه‪ ،‬وحيمي أولياءه‪ ،‬إنها قاعدة يف احلب!‬
‫وأي حبٍ هذا؟ لو ذاقه امرئ القيس لتربأ من‪( :‬قفا نبكِ)‪ ،‬ولو عرفه جمنون‬
‫ليلى لشفي من جنونه وجنا‪ ،‬ولو عايشه عنرتة ملا ذكر عند التقاء الرماح غري‬
‫ربه العزيز األعلى‪.‬‬
‫تأمل هذه اجلملة املهيبة! «من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب» فقد‬
‫أخرب اهلل تعاىل – ولي املؤمنني – أن معاداة أوليائه معاداة له وحماربة له‪،‬‬
‫والويل ملن كان متصدياً لعداوة اهلل‪ ،‬وحماربة مالك امللك‪ ،‬فليبشر باخلذالن‪،‬‬
‫ويف املقابل‪ :‬فمن تكفل اهلل بالدفاع عنه فهو منصور وال بد‪« ،‬فهذه سنة اهلل‬
‫يف خلقه يف قديم الدهر وحديثه‪ :‬أنه ينصر عباده املؤمنني يف الدنيا‪ ،‬ويقر‬
‫أعينهم ممن آذاهم»(‪.)2‬‬

‫‪166‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فمن هو هذا الولي الذي تكفل اهلل بالدفاع عنه‪ ،‬وبأن ينتقم من‬
‫أعدائه؟‬

‫لقد بني صاحب الشأن سبحانه يف كتابه الكريم صفة أوليائه فقال‪:‬‬
‫ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ [يونس‪.]63 – 62 :‬‬

‫فاإلميان والتقوى هما شرطا والية احلق سبحانه‪ ،‬فمن آمن باهلل واتقاه؛‬
‫تواله اهلل‪.‬‬

‫«ودل قوله‪ :‬ﭽ ﭞ ﭟ ﭼ على أن التقوى مالزمة هلم؛‬


‫أخذاً من صيغة (كانوا)‪ ،‬وأنها متجددة منهم؛ أخذاً من صيغة املضارع يف‬
‫قوله‪( :‬يتقون) – قال ابن عاشور –‪ :‬وقد كنت أقول يف املذاكرات منذ سنني‬
‫خلت يف أيام الطلب‪ :‬أن هذه اآلية هي أقوى ما يعتمد عليه يف تفسري حقيقة‬
‫الولي شرعاً‪ ،‬وأن على حقيقتها حيمل معنى قوله يف احلديث القدسي‪« :‬قال‬
‫اهلل تعاىل‪ :‬من عادى لي ولياً فقد آذنته حبرب» (‪.)1‬‬

‫إن «الولي» يف اللغة مشتق من (الولْي) وهو‪ :‬القرب‪ ،‬كما أن العدو‬


‫من (العَدْو) وهو‪ :‬البعد‪ ،‬فولي اهلل من وااله باملوافقة له يف حمبوباته‬
‫ومرضياته‪ ،‬وتقرب إليه مبا أمر به من طاعاته(‪.)2‬‬

‫‪167‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫والولي ال يكون ولياً هلل إال مبتابعة الرسول باطناً وظاهراً‪ ،‬فعلى قدر‬
‫املتابعة للرسول يكون قدر الوالية هلل ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭼ [آل عمران‪.)1(]31 :‬‬
‫بهذا نعلم أن «والية اهلل سبحانه وتعاىل ال تأتي بالدعوى – كما يفعله‬
‫بعض الدجالني الذين ميوهون على العامة بأنهم أولياء هلل وهم أعداء والعياذ‬
‫باهلل – فتجد يف بعض البالد اإلسالمية أناساً ميوِّهون للعامة؛ يقولون‪ :‬حنن‬
‫أولياء! ثم يفعل من العبادات الظاهرة ما ميوِّه به على العامة وهو من أعداء‬
‫اهلل‪ ،‬لكنه يتخذ من هذه الدعوة وسيلة إىل مجع املال‪ ،‬وإىل إكرام الناس له‪،‬‬
‫وإىل تقربهم إليه وما أشبه ذلك»(‪.)2‬‬
‫فإن قلتَ‪ :‬هل من شرط الولي أن ال يقع يف ذنب؟‬
‫فاجلواب‪ :‬ال! فليس «من شرط أولياء اهلل املتقني أال يكونوا خمطئني يف‬
‫بعض األشياء خطأ مغفوراً هلم؛ بل وال من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً«(‪،)3‬‬
‫بل قد يقعون يف كبرية من الكبائر؛ فقد قال اهلل عن أوليائه املتقني‪:‬‬
‫ﭽﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﭼ‬
‫[آل عمران‪ ،]135 :‬إذا عرفت هذا؛ فما هي صور معاداة أولياء اهلل؟ حتى‬
‫يسعى املسلم الجتنابها‪ ،‬وينفض عنه ما علق به من غبارها‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن معاداة أولياء اهلل تقع من أربعة أوجه‪:‬‬


‫أحدها‪ :‬أن يعاديهم اإلنسان عصبية لغريهم‪ ،‬كما يعادي الرافضي أبا‬
‫بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪ ،‬وهؤالء من أخسر الناس حظاً يوم القيامة؛ كما‬
‫حتدثنا سورة األحزاب‪ :‬ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﭼ‬
‫[األحزاب‪ ،]68 ،67 :‬وتأمل ماذا جاء بعد هذا مباشرة؟ ﭽ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤﭼ [األحزاب‪ ]69 :‬دفاع عن وليٍّ من أولياء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬أن يعاديهم مبخالفة مذهبهم يف االعتقاد واإلميان‪ ،‬كما يعادي‬
‫أهلُ البدع أهلَ احلق‪ ،‬قال احلق سبحانه‪ :‬ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ‬
‫ﮂﮃﭼ [النساء‪ ]115 :‬فانظر كيف ذكرهم بعد ذكر من يشاقق‬
‫الرسول املعصوم!‬
‫ثالثها‪ :‬يعاديهم باحتقارهم والتنقص منهم؛ فيكون الفعل بهم فعل‬
‫األعداء‪ ،‬كما كان بعض اجلهال حيصب أويساً القرني‪ ،‬بل كما كان أبو هلب‬
‫وزوجته يضعان األذى يف طريق سيد األولياء ×‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬أنه قد يكون بني الولي وبني الناس معامالت وخصومات(‪)1‬؛‬
‫فيعاديه ألمور دنيوية‪ ،‬وهذه قد ال يسلم منها أحدٌ‪ ،‬وال هي جمال حديثنا هنا‪.‬‬
‫وقد نبه على هذا الوزير ابن هبرية فقال‪« :‬وال أرى املعنى إال من‬

‫‪169‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫عاداه ألجل والية اهلل‪ ،‬وأما إذا كانت ألحوال تقتضي نزاعاً بني وليني هلل –‬
‫حماكمة أو خصومة راجعة إىل استخراج حق غامض – فإن ذلك ال يدخل يف‬
‫هذا احلديث؛ فإنه قد جرى بني أبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما خصومة‪،‬‬
‫وبني العباس وعلي رضي اهلل عنهما‪ ،‬وبني كثري من الصحابة‪ ،‬وكلهم كانوا‬
‫أولياء هلل عز وجل»(‪.)1‬‬
‫إن التعدي على أولياء اهلل من املؤمنني ذنبٌ شنيع‪ ،‬ودَينٌ ثقيل حيمله‬
‫صاحبه على كاهله‪« ،‬وهلذا غضب اهلل جلربيل على من عاداه‪ ،‬فقال‪ :‬ﭽ ﮋ‬
‫(‪)2‬‬
‫ﮌ ﮍﮎ ﮏﮐ ﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗﮘ ﭼ »‬
‫وأين سيفر هذا املؤذي ألولياء اهلل – والساعي يف إذالهلم – من قول اهلل‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫«فقد آذنته باحلرب»؟!‬
‫فقد يصيبه اهلل ببلية‪ ،‬أو يرزؤه مبرض‪ ،‬أو يفجعه مبهانة وذلة بعد عز‪،‬‬
‫أو يسلط عليه عدواً‪ ،‬أو يعذبه حببيب‪ !...‬وما يعلم جنود ربك إال هو!‬
‫قال السدي‪ :‬مل يبعث اهلل رسوالً قط إىل قومٍ فيقتلونه‪ ،‬أو قوماً من‬
‫املؤمنني يدعون إىل احلق فيُقتلون‪ ،‬فيذهب ذلك القرن؛ حتى يبعث اهلل هلم‬
‫من ينصرهم‪ ،‬فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم يف الدنيا‪ ،‬قال‪ :‬فكانت‬
‫(‪)4‬‬
‫األنبياء واملؤمنون يُقتلون يف الدنيا‪ ،‬وهم منصورون فيها‪.‬‬

‫«‬

‫‪‬‬ ‫»‬

‫‪170‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وهلل در البقاعي – رمحه اهلل – حني أخذ العربة من قول احلق سبحانه‪:‬‬
‫ﭽ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﭼ [الفيل‪ ]2 :‬فقال‪« :‬وهذا مشري إىل أن كل‬
‫من تعرّض لشيء من حرمات اهلل – كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو‬
‫عامل من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصري – وقع يف َمكْرِه‪ ،‬وعاد‬
‫عليه وبالُ شرِّه «من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب» (‪.)1‬‬
‫إذا تبني هذا؛ فقد أخذ أهل العلم مبفهوم هذا احلديث فقالوا‪« :‬وإذا‬
‫ثبت هذا يف جانب املعاداة؛ ثبت يف جانب املواالة‪ :‬فمن واىل أولياء اهلل‬
‫أكرمه اهلل»(‪.)2‬‬
‫اللهم اجعلنا من أوليائك املتقني‪ ،‬ومن حزبك املفلحني‪ ،‬إنك مسيع‬
‫قريب‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫إميان ‪ +‬تقوى = والية‪.‬‬
‫ليس من لوازم الوالية ثوب ممزق‪ ،‬وجسد حنيل‪ ،‬لكن الوالية شيء يف‬
‫القلب يصدقه العمل‪.‬‬
‫حينما يعظم الغنم يعظم الغرم‪ ،‬فمن واىل أولياء اهلل حاز الفضل من اهلل‪،‬‬
‫كما أن من عادى أولياء اهلل حرَبه اهلل‪.‬‬
‫ولي اهلل منصور‪ ،‬وعدو اهلل خمذول‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الرابعة والعشرون‪:‬‬


‫من غشنا فليس منا‬

‫أول النصح أن ينصح اإلنسان نفسَه‪ ،‬فمن غشها‬


‫فقلما ينصح غريَه!‬
‫(الراغب األصفهانى)‬

‫هذه من القواعد النبوية احملكمة يف شيء من أدب التعامل مع اخللق‪،‬‬


‫وكان لورودها سبب‪ ،‬وهو أن النيب × مرَّ على صُربة طعام(‪ ،)1‬فأدخل يده‬
‫فيها؛ فنالت أصابعُه بلالً! فقال‪ :‬ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال‪ :‬أصابته‬
‫السماءُ يا رسول اهلل! قال‪ :‬أفال جعلتَه فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟! «من‬
‫غشنا فليس منا»(‪.)2‬‬
‫هكذا أطلق النيب عليه الصالة والسالم هذه القاعدة العظيمة‪ ،‬وأعلن‬
‫هذه العقوبة النفسية األليمة‪ ،‬ملن يغش الناس يف معاملته وأخالقه‪« ،‬فالذين‬
‫يَغشون يف البيع أو يف الشراء يرتكبون حمظورين‪:‬‬
‫احملظور األول‪ :‬العدوان على إخوانهم املسلمني؛ بأخذ أمواهلم بغري‬
‫حق‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫احملظور الثاني‪ :‬أنهم ينالون تربؤ النيب × منهم‪ ،‬وبئس البضاعة‬


‫بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالرباءة من رسول اهلل ×!‪« :‬من غشنا فليس‬
‫منا» (‪.)1‬‬
‫يا له من وعيد ترتعد له فرائص املؤمن الذي حيب النيب × وحيب‬
‫دينه! وسبحان من آتى نبيه ج جوامع الكلم! ذلك أن قوله‪« :‬من غشنا فليس‬
‫(‪)2‬‬
‫يف بيع أو شراء‪ ،‬أو علم أو تعليم‪ ،‬أو‬ ‫منا» كلمةٌ جامعة يف كل غاش»‬
‫حُكم‪ ،‬أو تربية‪ ،‬أو نصيحة‪ ،‬أو أي معاملة كانت؛ فيحرم فيها الغش‬
‫والتدليس(‪.)3‬‬
‫ومع هذا الوعيد الشديد‪ ،‬إال أنه من املؤمل أن يرى اإلنسان خرقاً ظاهراً‬
‫هلذه احلرمة يف صورٍ كثرية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الغشّ يف البيوع‪ ،‬واإلجارات‪ ،‬والديون‪ ،‬واألنكحة‪ ،‬والذبائح‪،‬‬
‫وغريها من املعامالت‪ ،‬والعقود‪ ،‬وعدم تبيينها وتوضيحها‪ ،‬أوترك العمل مبا‬
‫فيها‪ ،‬أو تغرير بعض الناس بعقود مزيفة‪ ،‬أو ضمانات كاذبة يأكل بها من‬
‫أموال املسلمني بغري حق‪.‬‬
‫‪ –2‬الغشّ يف النّصح‪ ،‬وإبداء احلقائق‪ ،‬والنقص يف النصيحة‪ ،‬أو‬

‫«‬

‫»‬

‫‪173‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الكذب فيها‪ ،‬أو خيفي عن املستنصح أموراً كان من الواجب إظهارها‪.‬‬


‫‪ –3‬الغشّ للرّعيّة الصغرى أو الكربى‪ ،‬وتأمل هذا احلديث الذي‬
‫يقشعر له بدن من يرجو اهلل واليوم اآلخر‪ ،‬ففي الصحيحني من حديث‬
‫سليمان بن يسار رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النيب ×‪« :‬ما من عبدٍ يسرتعيه اهلل‬
‫رعيةً‪ ،‬ميوت يوم ميوت وهو غاش لرعيته؛ إال حرّم اهلل عليه اجلنة»(‪ )1‬فدخل‬
‫يف هذا‪ :‬احلاكم الغاش لرعيته‪ ،‬واألب الغاش ألوالده وأهله‪ ،‬واألم الغاشة‬
‫لزوجها وأوالدها‪ ،‬وكل مسئول عن شأن من شئون املسلمني كـ‪ :‬املدراء‬
‫واملدرسني‪ ،‬واملفتشني‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وبقدر املسؤولية اليت يتلقدها املسؤول تعظم جريرة الغش‪ ،‬فمن يغش‬
‫أسرة مكونة من أفراد معدودين ليس كمن يغش قبيلة‪ ،‬ومن يغش الناس يف‬
‫دائرة حكومية وال ينصح هلم‪ ،‬ليس كمن يغش يف وزارة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فليتق اهلل‬
‫امرؤ يف نفسه‪ ،‬وليتذكر ساعة وقوفه بني يدي مواله‪ ،‬حيث ال ينجيه يومئذٍ‬
‫إال الصدق‪ ،‬وليس إال الصدق‪.‬‬
‫لقد حفل تارخينا وواقعنا بنماذج مشرقة من نصح الناصحني‪،‬‬
‫وحرصهم على البعد عن أدنى شيءٍ ميتُّ إىل الغش بصلة‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬روى مسلم يف صحيحه عن جرير رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬بايعت‬
‫النيب × على النصح لكل مسلم‪ ،‬ما استطعت‪.‬‬
‫وهذه البيعة ظهر أثرها يف حياة جرير رضي اهلل عنه‪ ،‬وإليكم موقفاً‬
‫جيلي ذلك‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فقد روى الطرباني يف «املعجم الكبري» من حديث إبراهيم بن جرير‬


‫البجلي‪ ،‬قال‪ :‬غدا أبي إىل الكناسة ليبتاع منها دابة‪ ،‬وغدا موىلً له فوقفَ يف‬
‫ناحية السوق‪ ،‬فجعلتْ الدواب متر عليه‪ ،‬فمر به فرس فأعجبه‪ ،‬فقال‪ :‬ملواله‬
‫انطلق فاشرت ذلك الفرس‪ ،‬فانطلق مواله‪ ،‬فأعطى صاحبه به ثالمثِائة درهم‪،‬‬
‫فأبى صاحبه أن يبيعه فماكسه‪ ،‬فأبى صاحبه أن يبيعه‪ ،‬فقال‪ :‬هل لك أن‬
‫تنطلق إىل صاحب لنا ناحية السوق؟ قال‪ :‬ال أُبالي! فانطلقا إليه‪ ،‬فقال له‬
‫مواله‪ :‬إني أعطيت هذا بفرسه ثالمثائة درهم فأبى‪ ،‬وذكر أنه خري من ذلك‪،‬‬
‫قال صاحب الفرس‪ :‬صدق أصلحك اهلل! فرتى ذلك مثناً؟ قال‪ :‬ال! فرسك‬
‫خري من ذلك‪ ،‬تبيعه خبمسمائة؟ حتى بلغ سبعمائة درهم أو مثامنائة‪ ،‬فلما أن‬
‫ذهب الرجل أقبل على مواله‪ ،‬فقال له‪ :‬وحيك انطلقت لتبتاع لي دابة‪،‬‬
‫فأعجبتين دابة رجل‪ ،‬فأرسلتك تشرتيها‪ ،‬فجئت برجل من املسلمني يقوده‬
‫وهو يقول‪ :‬ما ترى‪ ،‬ما ترى! وقد «بايعت رسول اهلل × على النصح لكل‬
‫مسلم»(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬وهذا موقف آخر جيلي صدق املعاملة‪ ،‬وحسن األداء‪ :‬فقد باع‬
‫ابنُ سريين شاةً له‪ ،‬فقال للمشرتي‪ :‬أبرأ إليك من عيب فيها!‬
‫قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬تقلب العلف برجلها!‬
‫‪ -3‬وهذا موقف ثالث‪ ،‬صاحبه احلسن بن صاحل رمحه اهلل‪ ،‬فقد باع‬
‫جاريةً‪ ،‬فقال للمشرتي‪ :‬إنها قد تنخمتْ مرةً عندنا دماً!‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪175‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫فهذا من دقائق اإلعالم والبيان ملا ال يعلمه املشرتي أو املستعمِل‪ ،‬وهو‬


‫من النصح والصدق‪ ،‬وذلك يكون عن التقوى والورع يف البيوع واإلجارات‬
‫وحنوها‪ ،‬ويكون الكسب عن ذلك أحلّ وأطيب‪ ،‬فليجتنب املسلم حمرَّمَ ذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫كله‪ ،‬وكلَّ مكروه‪ ،‬فهذه سرية السلف وطريقة صاحلي اخللف‪.‬‬
‫وبعدُ‪ :‬أال فليعلم كل من وقع يف غشِّ مسلمٍ يف أي نوع من أنواع‬
‫الغش – وهو يعلم –؛ أنه سيُسأل يوم يقوم الناس لرب العاملني‪ ،‬عن علمه‬
‫(‪)3‬‬
‫ذلك‪ :‬ماذا عملت به؟(‪ )2‬كما يُسأل من كان على علمٍ من الدين واإلميان‪.‬‬
‫فالغاش لن جيد يف طريقه إال كل عاقبة وخيمة‪ ،‬ولن يرجع من غشه‬
‫للناس إال برباءة حممد × منه‪ ،‬وخُ ْبثِ النفس ودناءتها‪ ،‬ونقص اإلميان‪،‬‬
‫وحرمان الربكة يف الرزق‪ ،‬وبغضةٌ يف قلوب اخللق – كما هو مشاهد «وقد‬
‫اطردت سنته الكونية سبحانه فى عباده‪ ،‬بأن من مكر بالباطل مكربه‪ ،‬ومن‬
‫احتال احتيل عليه‪ ،‬ومن خادع غريه خدع‪ .‬قال اهلل تعاىل‪ :‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﭼ [فاطر‪ ،]43 :‬فال جتد ما كراً إال وهو ممكور‬
‫به‪ ،‬وال خمادعا إال وهو خمدوع‪ ،‬وال حمتاال إال وهو حمتال عليه»(‪.)4‬‬
‫فلينج كل مسلم ومسلمة بنفسه‪ ،‬فمن غش مسلماً يف قولٍ أو فعلٍ‪ ،‬أو‬
‫مال‪ ،‬أو غري ذلك؛ فليتحلله اليوم‪ ،‬قبل أن ال يكون دره ٌم وال دينار‪،‬‬
‫وليطلب مساحمته ما استطاع إىل ذلك سبيالً‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وتأمل يف هذه القصة اليت رواها البخاري عن عائشة – رضي اهلل عنها‬
‫– قالت‪« :‬كان ألبي بكر غالم يُخرج له اخلراج‪ ،‬وكان أبو بكر يأكل من‬
‫خراجه‪ ،‬فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر‪ ،‬فقال له الغالم‪ :‬أتدري ما هذا؟‬
‫فقال أبو بكر وما هو؟ قال‪ :‬كنت تكهّنت إلنسان يف اجلاهليّة‪ ،‬وما أُحسن‬
‫الكهانة‪ ،‬إلّا أنّي خدعته فأعطاني بذلك! فهذا الّذي أكلتَ منه؛ فأدخل أبو‬
‫بكر يده فقاء كلّ شيء يف بطنه)!(‪ ،)1‬وما أحسن قول أبي العتاهية‪:‬‬
‫ـس الدين إال مكارم األخـالق‬ ‫لـــيس دنيـ ـاً إال بـــدين‪ ،‬وليــــ‬
‫هما مـن خصـال أهـل النفـاق‬ ‫إ منــا املكــر واخلديعــة يف النــار‬

‫وَأخرج ابن أبي الدنيَا عَن يزِيد العيص قال‪ :‬سَأَلت مُوسَى بن أعني‬
‫عن قوله عز وجل ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ قال‪ :‬تنزهوا عَن أشياء‬
‫(‪)2‬‬
‫من احلَلَال مَخَافَة أَن يقعوا فِي احلرَام؛ فسماهم اهلل متقني‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫(فليس منا) كيف يرضى بهذا الغاش!‬
‫ما ترتب على الغش كلُّه شر وممحوق الربكة‪.‬‬
‫بني الغش والصدق‪ :‬مراقبة اهلل‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة والعشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫إن اهلل كتس اإلحسان علت كل شيء‬

‫«كتَبَ اإلحسان على كلِّ شيء» ومل يقل‪ :‬إىل كل‬


‫شيء! أي‪ :‬أن اإلحسان ليس خاصاً بشيء معني‬
‫من احلياة‪ ،‬بل هو يف مجيع احلياة‪.‬‬
‫(‬
‫هذه لَبِنة من لبنات الكمال يف بناء هذا الدين العظيم‪ ،‬املبين على ا‬
‫كمال‬
‫ب‬
‫احلكمة‪ ،‬وكمال العلم‪ ،‬وكمال الرمحة‪.‬‬
‫ن‬
‫«إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء» هل تأملتَ هذا العموم «على‬

‫ع‬
‫كل شيء»؟‬
‫معنى‬
‫هذا عموم ال ينخرم منه شيءٌ! فلنلقِ نظرةً على بعض ما يشمله ث‬
‫مي‬ ‫هذه القاعدة اجلليلة‪:‬‬
‫‪ -1‬فاإلحسان يف عبادة اهلل‪ ،‬ويف العالقة مع اهلل‪ ،‬هو من أعظم ي‬
‫هذه‬
‫ن‬
‫املعاني اليت تشملها هذه القاعدة‪ ،‬وهو الذي فسّره النيب ×‬
‫)‬
‫بقوله‪« :‬أن تعبداهلل كأنّك تراه»‪ ،‬ومن وفّق لإلحسان فقد بلغ من‬
‫الكمال مبلغاً عظيماً من مقامات العبودية‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫‪ -2‬اإلحسان إىل اخللق من اآلدميني‪ ،‬يف التعامل معهم‪ ،‬وعلى رأسهم‬


‫الوالدان‪ ،‬ثم من له حق على اإلنسان – من قريب‪ ،‬وشيخٍ‪،‬‬
‫وجار‪ ،‬وصاحب – قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ [النساء‪ ]36 :‬فأمر باإلحسان إىل‬
‫مجيع هؤالء‪.‬‬
‫وسبحان اهلل! حتى يف حال القتل والذبح – إذا استحقه اإلنسان –‬
‫فيجب على القاتل أن حيسن القتل والذبح‪ ،‬وال جيوز له أن يقتله قتلة يتعذب‬
‫بها‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلحسان إىل اخللق من احليوانات‪ ،‬ومن الالفت للنظر أن النيب‬
‫× نص على هذا النوع من اإلحسان؛ ويف ذلك فائدتان‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬التنبيه على أن اإلحسان معنى عام ال يتخلف عنه آدمي وال‬
‫حيوان‪ ،‬وهلذا ملا أساءت املرأة يف حبسها لتلك اهلرة فلم تطعمها ومل ترتكها‬
‫تأكل من خشاش األرض؛ عذّبها اهلل يف النار‪ ،‬ويف مقابل ذلك‪ :‬غفر اهلل‬
‫لتلك املرأة البغيّ اليت أحسنت إىل ذلك الكلب!‬
‫الثانية‪ :‬التنبيه باألدنى على األعلى‪ ،‬فإذا كان هذا مطلوباً يف حق‬
‫احليوان‪ ،‬فكيف باإلنسان؟‬
‫فإن سألتَ – أيها القارئ الكريم – عن معنى اإلحسان الذي نتحدث‬
‫عنه؟ فيقال‪:‬‬

‫‪179‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫اإلحسان‪ :‬هو بذلُ مجيع املنافع من أي نوعٍ كان‪ ،‬ألي خملوق يكون‪،‬‬
‫ولكنه يتفاوت بتفاوت احملسَن إليهم‪ ،‬وحقهم ومقامهم‪ ،‬وحبسب اإلحسان‪،‬‬
‫وعظم موقعه‪ ،‬وعظيم نفعه‪ ،‬وحبسب إميان احملسن وإخالصه‪ ،‬والسبب‬
‫الداعي له إىل ذلك‪.‬‬
‫ومن أجَلِّ أنواع اإلحسان‪ :‬اإلحسان إىل من أساء إليك بقول أو فعل‪،‬‬
‫قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﭼ‬
‫[فصلت‪ ،]35–34:‬ومن كانت طريقته اإلحسان أحسن اهلل جزاءه‪ :‬ﭽ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [الرمحن‪ ،]60:‬ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕﭼ [يونس‪ ،]26:‬ﭽ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ‬
‫[الزمر‪ ،]10:‬ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [األعراف‪]56 :‬‬
‫أي‪ :‬احملسنني يف عبادة اهلل‪ ،‬احملسنني إىل عباد اهلل»(‪.)1‬‬
‫واعلم أن اإلحسان له ميادين عدة يتجلى فيها‪ ،‬ال حيصره ميدان‬
‫(‪)2‬‬
‫واحدة من حَلَبات هذه احلياة الدنيا‪ ،‬دعونا نتأمل‬ ‫واحد‪ ،‬وال تسعه حلْبة‬
‫يف أهم ميادين اإلحسان اليت نص عليها القرآن‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلحسان يف‪ :‬مواجهة امللمّات بالصّرب عليها‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [هود‪.]115 :‬‬

‫‪180‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫‪ –2‬يف‪ :‬أداء الدّية لوليّ القتيل‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬


‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ [البقرة‪.]178:‬‬
‫‪ –3‬يف‪ :‬معاملة املطلّقات أو من ينوي طالقهنّ‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﭼ [البقرة‪،]236:‬‬
‫وقال سبحانه‪ :‬ﭽ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﭼ‬
‫[البقرة‪.]229:‬‬
‫‪ –4‬يف‪ :‬احلرب واجلهاد‪ ،‬يقول سبحانه وتعاىل‪ :‬ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ [البقرة‪.]195:‬‬
‫وهنا يذكر القرآن الكريم معنى آخر لإلحسان‪ ،‬فاألمم ال ختدم رسالتها‬
‫بالبخل وكراهية اإلنفاق يف سبيل اهلل! واحلروب قدمياً وحديثاً تتطلّب ماالً‬
‫كثرياً ‪ ...‬والعرب واملسلمون مكلّفون مبعرفة هذه احلقيقة‪ ،‬ولن يَسلَم هلم‬
‫دينُهم وتبقى هلم بالدهم حرّة أبيّة إلّا إذا توسّعوا يف اإلنفاق احلربيّ‪،‬‬
‫وأحسنوا تهيئةَ كلّ شيءٍ لكسب املعركة‪ ،‬ويشهد لذلك ما جاء يف آيات‬
‫أخرى عن حقيقة اإلحسان‪ ،‬ودائرته الرّحبة‪ ،‬فهي تتطلّب الصّمود والبسالة‬
‫إىل الرّمق األخري‪ ،‬يقول املوىل عزّ وجلّ‪ :‬ﭽ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭﯮﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳﯴﯵﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭼ (آل‬
‫عمران‪.)1()148 –147 :‬‬

‫‪181‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪ –5‬وحنتاج إىل اإلحسان يف احلوار الفكريّ والتّواصل الثّقايفّ‪ ،‬وقد‬


‫جاء ذلك يف قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬
‫ﮊ ﭼ [اإلسراء‪.]53:‬‬
‫‪ –6‬وحنتاج إىل اإلحسان يف التّحاور بني املسلمني وأهل الكتاب‪ ،‬قال‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ [العنكبوت‪.]46:‬‬
‫‪ –7‬وحنتاجه يف معاملة اليتامى والضّعفاء‪ ،‬يقول سبحانه‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [األنعام‪.]152:‬‬
‫‪ –8‬وحنتاجه يف العالقات السّياسيّة واحلربيّة‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲﭳﭴﭵ ﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ‬
‫ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﭼ‬
‫[الكهف‪.]88 –86:‬‬
‫‪ –9‬وحنن مضطرون إليه يف العالقات االجتماعيّة – وخاصّة ما يتعلّق‬
‫بتبادل التّحيّة وردّ السّالم – يقول تعاىل‪ :‬ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﰅ ﰆ ﭼ [النساء‪.]86:‬‬
‫‪ –10‬وحنن حمتاجون إىل اإلحسان يف العالقات االقتصاديّة‪ ،‬يقول‬
‫املوىل عزّ وجلّ يف قصّة قارون‪ :‬ﭽ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭼ‬
‫[القصص‪ ،]77:‬ويقول اهلل سبحانه وتعاىل‪ :‬ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ [البقرة‪ ]195:‬لقد ّمت‬
‫الرّبط يف هذه اآلية الكرمية بني اإلنفاق – وهو املظهر االقتصاديّ لإلحسان‬
‫– وبني التّهلكة (خراب اجملتمع)‪ ،‬وسبب ذلك كما يقول بعض الباحثني‪ :‬إنّ‬

‫‪182‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اجملتمعات الّيت تقوم على االستغالل واالحتكار تفرز الطّبقيّة‪ ،‬وتبذر بذور‬
‫الصّراع االجتماعي يف الدّاخل‪ ،‬وتؤدّى إىل الصّراعات العامليّة يف اخلارج‪،‬‬
‫وينتج عن ذلك شقاء الفريقني مجيعاً‪ ،‬املستغِلّون واملستغَلّون‪.‬‬
‫إنّ متكّن هذه اآلفات االجتماعيّة يف كلتا الطّبقتني هو التّهلكة الّيت‬
‫تشري إليها اآلية الكرمية وحتذّر منها وتدعو إىل معاجلتها باإلحسان‬
‫واإلنفاق(‪.)1‬‬
‫وهكذا نرى اإلحسان يشمل الفرد واجملتمع‪ ،‬والدّولة واحلياة بأسرها‪،‬‬
‫وأنّه لن تقوم تربية راشدة إلّا إذا غرسنا معنى اإلحسان يف النّفوس على أنّه‬
‫من حمابّ اهلل تعاىل‪ ،‬وقد تضمّن اإلحسان كما رأينا‪ :‬النّوايا واملقاصد‬
‫والعبادات‪ ،‬كما تناول األقوال واألفعال‪ ،‬ليس هذا فحسب؛ وإنّما مشل‬
‫أيضاً اإلحسان إىل املخلوقات كافّة من حيوان ومجاد ونبات»(‪.)2‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ليكن لك يف كل ميدان من ميادين اإلحسان نصيب‪.‬‬
‫أحسن ثم ال يضرك مع من أحسنت؛ فاإلحسان كله خري‪.‬‬
‫اإلحسان طريق سالك إىل اجلنة‪.‬‬
‫كل أنواع اإلحسان ومتعلقاته تتوافق وال تتخالف‪ ،‬وتتكامل وال تتآكل‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة السادسة والعشرون‪:‬‬


‫ما أنزل اهلل دا ًء إال أنزل له شفاءً‬
‫احلق أن مَن وثِق باهلل وأيقن أن قضاءه عليه ماضٍ مل‬
‫يقدح يف توكله تعاطيه األسبابَ اتباعاً لسنته وسنة‬
‫رسوله؛ فقد ظاهر نيب اهلل بني درعني‪ ،‬ولبس على رأسه‬
‫املغفر‪( .‬الشوكاني)‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب العالج احلسي‬


‫واملعنوي‪ ،‬إنها قاعدة ترسم البسمة على شفيت كل مريض‪ ،‬وتبعث األمل يف‬
‫قلب كل مبتلى‪ ،‬ومتسح الدمعة عن خدِّ كل مصاب‪ ،‬وتفتح اآلفاق لكل من‬
‫يعاني مشكلة معنوية يف حياته اخلاصة والعامة‪.‬‬
‫قال القرطيب‪« :‬هذه الكلمة صادقة العموم؛ ألنها خرب عن الصادق‬
‫البشري عن اخلالق القدير ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ فالداء‬
‫والدواء خلقه‪ ،‬والشفاء واهلالك فعله‪ ،‬وربْطُ األسباب باملسببات حكمته‬
‫(‪)1‬‬
‫حكْمه‪ ،‬فكل ذلك بقدرٍ ال مَعدِل عنه»‪.‬‬
‫وُ‬
‫فإن قيل‪ :‬ما معنى اإلنزال املذكور يف هذه القاعدة‪« :‬ما أنزل اهلل داء‬
‫إال أنزل له شفاء»؟‬
‫جييب على ذلك احلافظ ابن حجر رمحه اهلل‪ ،‬بعد أن ذكر عدة أحاديث‬

‫‪184‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يف هذا الباب؛ فيقول‪« :‬ويف جمموع هذه األلفاظ ما يُعرف منه أن املراد‬
‫باإلنزال يف حديث الباب هو‪ :‬إنزال علم ذلك على لسان املَلَك للنيب ×‬
‫مثالً‪ ،‬أو عبَّر باإلنزال عن التقدير»(‪.)1‬‬
‫إن هذه القاعدة «أصلٌ عظيمٌ ثابت بالكتاب والسنة‪ ،‬ويؤيده العقلُ‬
‫والفطرة؛ فاملنافع الدينية والدنيوية واملضار كلها بقضاء اهلل وتقديره‪ ،‬قد‬
‫أحاط بها علماً‪ ،‬وجرى بها قلمُه‪ ،‬ونفذت بها مشيئتُه‪ ،‬ويسّر العبادَ لفعل‬
‫األسباب اليت توصلهم إىل املنافع واملضار‪ ،‬فكلٌ ميسّر ملا خلق له – مِن‬
‫مصاحل الدين والدنيا‪ ،‬ومضارهما – والسعيد من يسَّره اهللُ أليسر األمور‬
‫وأقربها إىل رضوان اهلل‪ ،‬وأصلحها لدينه ودنياه‪ ،‬والشقي من انعكس عليه‬
‫األمر‪.‬‬
‫وعموم هذا احلديث يقتضي‪ :‬أن مجيع األمراض الباطنة والظاهرة هلا‬
‫أدوية تقاومها‪ ،‬تدفع ما مل ينزل‪ ،‬وترفع ما نزل بالكلية‪ ،‬أو ختففه‪.‬‬
‫ويف هذا‪ :‬الرتغيب يف تعلّم طب األبدان(‪ ،)2‬كما يُتعلم طبُّ القلوب‪،‬‬
‫وأن ذلك من مجلة األسباب النافعة‪ ،‬ومجيعُ أصول الطب وتفاصيلُه‪ ،‬شرحٌ‬
‫هلذا احلديث؛ ألن الشارع أخربنا أن مجيع األدواء هلا أدوية‪ ،‬فينبغي لنا أن‬
‫نسعى إىل تعلمها‪ ،‬وبعد ذلك إىل العمل بها وتنفيذها‪.‬‬
‫وقد كان بعض األمراض يظن كثريٌ من الناس أنه ليس له دواء –‬
‫كالسِّل وحنوه – وعندما ارتقى علم الطب‪ ،‬ووصل الناس إىل ما وصلوا إليه‬

‫»‬

‫‪185‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫– إال‬ ‫من علمه؛ عرف الناسُ مصداق هذا احلديث‪ ،‬وأنه على عمومه‬
‫اهلرم واملوت فال شفاء هلما‪.‬‬
‫وأصول الطب‪ :‬تدبري الغذاء؛ بأن ال يأكل حتى تصدق الشهوةُ‪،‬‬
‫وينهضم الطعامُ السابق انهضاماً تاماً‪ ،‬ويتحرى األنفع من األغذية‪ ،‬وذلك‬
‫حبسب حالة األقطار واألشخاص واألحوال‪ ،‬وال ميتلئ من الطعام امتالء‬
‫يضره مزاولتُه‪ ،‬والسعيُ يف تهضيمه‪ ،‬بل امليزان قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭼ [األعراف‪.)2( ]31 :‬‬
‫ومن القصص اليت يَحسُن إيرادها يف هذا املقام‪ :‬أنه نُقل أن الرشيد‬
‫كان له طبيب نصراني حاذق‪ ،‬فقال لعلي بن احلسني بن واقد‪ :‬ليس يف‬
‫كتابكم من علم الطب شيء! فقال علي‪ :‬قد مجع اهلل تعاىل الطب يف نصف‬
‫آية من كتابنا! قال‪ :‬ما هي؟ قال‪ :‬قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ‬
‫قال النصراني‪ :‬وال يؤثَر عن نبيكم شيء من الطب! فقال‪ :‬قد مجع رسولُنا‬
‫علمَ الطب يف ألفاظ يسرية‪ ،‬قال‪ :‬وما هي؟ قال‪« :‬املعدة بيت الداء‪ ،‬واحلمية‬
‫(‪)3‬‬
‫فقال النصراني‪ :‬ما ترك كتابُكم‬ ‫رأس الدواء‪ ،‬وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد»‬
‫(‪)4‬‬
‫وال نبيُكم جلالينوس طباً!‬

‫«‬

‫«‬

‫«‬ ‫«‬

‫«‬

‫‪186‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وقبل أن يبحث اإلنسان عن العالج‪ ،‬فإن عليه أن «يستعمل احلمية عن‬


‫مجيع املؤذيات يف مقدارها‪ ،‬أو يف ذاتها‪ ،‬أو يف وقتها‪ ،‬ثم إن أمكن االستفراغ‪،‬‬
‫وحصل به املقصود من دون مباشرة األدوية؛ فهو األوىل واألنفع‪ ،‬فإن اضطر‬
‫إىل الدواء؛ استعمله مبقدار‪ ،‬وينبغي أن ال يتوىل ذلك إال عارفٌ وطبيبٌ‬
‫حاذق‪.‬‬
‫واعلم أن طيبَ اهلواء‪ ،‬ونظافةَ البدن والثياب‪ ،‬والبعدَ عن الروائح‬
‫اخلبيثة؛ خريُ عونٍ على الصحة‪ ،‬وكذلك الرياضة املتوسطة؛ فإنها تقوي‬
‫األعضاء واألعصاب واألوتار‪ ،‬وتزيل الفضالت‪ ،‬وتهضم األغذية الثقيلة‪،‬‬
‫وتفاصيل الطب معروفة عند األطباء‪ ،‬ولكن هذه األصول اليت ذكرنا حيتاج‬
‫إليها كل أحد» (‪.)1‬‬
‫ويف هذه القاعدة النبوية – «ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء» –‬
‫«إثبات األسباب(‪ ،)2‬وأن ذلك ال ينايف التوكل على اهلل ملن اعتقد أنها بإذن‬
‫اهلل ومشيئته‪ ،‬وأنها ال تنفع بذواتها‪ ،‬بل مبا قدره اهلل فيها‪ ،‬بل إن الدواء قد‬
‫ينقلب داءً إذا قدّر اهللُ ذلك‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله يف حديث جابر‪« – :‬لكل‬

‫«‬

‫«‬

‫‪187‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫داء دواء‪ ،‬فإذا أصيب دواءُ الداء بَرِأ بإذن اهلل عز وجل»(‪ – )1‬فمدار ذلك كله‬
‫على تقدير اهلل وإرادته‪ ،‬والتداوي ال ينايف التوكل‪ ،‬كما ال ينافيه دفعُ اجلوع‬
‫والعطش باألكل والشرب‪ ،‬وكذلك جتنب املهلكات‪ ،‬والدعاء بطلب العافية‪،‬‬
‫ودفع املضار‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ومما يدخل يف قوله ×‪« :‬وجهله مَنْ َ‬
‫جهِلَهُ» ما يقع لبعض املرضى‪،‬‬
‫أنه يتداوى من داءٍ بدواءٍ فيربأ‪ ،‬ثم يعرتيه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك‬
‫الدواء بعينه فال ينجع! والسبب يف ذلك‪ :‬اجلهل بصفةٍ من صفات الدواء؛‬
‫فرُب مَرَضني تشابها‪ ،‬ويكون أحدهما مركباً ال ينجع فيه ما ينجع يف الذي‬
‫ليس مركباً! فيقع اخلطأ من هنا‪ ،‬وقد يكون متّحداً لكن يريد اهلل أن ال ينجع‬
‫فال ينجع‪ ،‬ومن هنا ختضع رقاب األطباء!»(‪.)2‬‬
‫وهلذا قيل‪:‬‬
‫ما دام يف أجل اإلنسـانِ تـأخري‬ ‫إن الطبيب لـذو عقـل ومعرفـة‬
‫حار الطبيـبُ وخانتـه العقـاقري‬ ‫حتى إذا ما انقضـت أيـامُ مدتـه‬

‫إذا تبني هذا‪ ،‬فليعلم اجلميعُ أن النيب × قال يف هذا الباب‪« :‬إن اهلل مل‬
‫جيعل شفاءكم فيما حَرّم عليكم»(‪ ،)3‬فال جيوز ملريض أو ممرض أن يستعمل‬
‫شيئاً حرمه اهللُ تعاىل أو رسولُه؛ زاعماً أن فيه شفاؤه! وأنه داخل يف هذه‬
‫القاعدة «ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء»! كالسحر‪ ،‬أو اخلمر‪ ،‬أو املوسيقى‬

‫‪188‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫– خاصة عند أطباء املرضى النفسيني –‪...‬أو غري ذلك مما حرمه ديننا‬
‫احلنيف؛ فكالم رسول اهلل يفسِّر بعضُه بعضاً‪ ،‬وعمومُ هذه القاعدة خيصصها‬
‫قوله‪« :‬مل جيعل شفاءكم فيما حرم عليكم»‪.‬‬
‫إن «التمريض ضروري‪ ،‬واملهنة ال بد منها‪ ،‬لكن بشرط‪ :‬أن نبقى‬
‫متمسكني بأحكام ديننا‪ ،‬فال نُغضِب ربنا لنَشفي مريضَنا‪ ،‬والشفاء من اهلل‪،‬‬
‫واهلل ال يشفي مبعصيته‪ ،‬بل يشفي بطاعته‪ ،‬وإذا زال املرض عن اجلسد مؤقتاً‬
‫يف هذه احلياة الدنيا باملعصية؛ فإن احلياة احلقيقية الطويلة هي اآلخرة‪ ،‬فماذا‬
‫ينفعنا شفاءُ املرض هنا وأن نبتلى مبرض احلريق بنار جهنم؟!»(‪.)1‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫لِم تهتم وتغتم وأنت تعلم أن لكل داء دواء!‬
‫التداوي مطلب شرعي وعقلي‪.‬‬
‫الدين احلق يفتح لك أفق البحث العلمي‪.‬‬
‫إذا نزل الشفاء نفع الدواء‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية السابعة والعشرون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من ال يرحم ال يدرحم‬

‫أقرب الناس من رمحة اهلل أرمحهم خبلقه‪.‬‬


‫(حممد السفريي)‬

‫هذه قاعدة جليلة‪ ،‬ترسم للبشرية خطوطَ احلياة السعيدة؛ لينعم كلُّ‬
‫فردٍ مبا وهبه اهلل يف هذه الدنيا من ُعمُر‪ ،‬بل وجيد املسلم اللذتني‪ :‬يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫« فرمحة العبد للخلق من أكرب األسباب اليت تُنال بها رمحة اهلل‪ ،‬اليت من‬
‫آثارها خريات الدنيا‪ ،‬وخريات اآلخرة‪ ،‬وفقْدُها من أكرب القواطع واملوانع‬
‫لرمحة اهلل‪ ،‬فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها؛ فليعمل مجيع األسباب اليت‬
‫تنال بها رمحته‪ ،‬وجتتمع كلها يف قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢﭼ [األعراف‪ ،]56:‬وهم احملسنون يف عبادة اهلل‪ ،‬احملسنون إىل عباد‬
‫اهلل‪ ،‬واإلحسان إىل اخللق أثر من آثار رمحة العبد بهم‪.‬‬
‫والرمحة اليت يتصف بها العبد نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬رمحة غريزية‪ ،‬قد جبل اهللُ بعضَ العباد عليها‪ ،‬وجعل يف‬

‫‪190‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قلوبهم الرأفةَ والرمحةَ واحلنانَ على اخلَلْق؛ ففعلوا مبقتضى هذه الرمحة مجيعَ‬
‫ما يقدرون عليه من نفعهم حبسب استطاعتهم‪ ،‬فهم حممودون مثابون على ما‬
‫قاموا به‪ ،‬معذورون على ما عجزوا عنه‪ ،‬ورمبا كتب اهلل هلم بنياتهم الصادقة‬
‫ما عجزت عنه قواهم‪.‬‬
‫والنوع الثاني‪ :‬رمحة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة‪ ،‬جتعل‬
‫قلبَه على هذا الوصف‪ ،‬فيعلم العبدُ أن هذا الوصف مِن أجلِّ مكارم‬
‫األخالق وأكملها؛ فيجاهد نفسَه على االتصاف به‪ ،‬ويعلم ما رتَّب اهلل عليه‬
‫من الثواب‪ ،‬وما يف فواته من حرمان الثواب؛ فريغب يف فضل ربه‪ ،‬ويسعى‬
‫بالسبب الذي ينال به ذلك‪ ،‬فال يزال العبد يتعرّف األسبابَ اليت يدرك بها‬
‫هذا الوصف اجلليل‪ ،‬وجيتهد يف التحقق به؛ حتى ميتلئ قلبه من الرمحة‪،‬‬
‫واحلنان على اخللق‪ ،‬ويا حبذا هذا اخلُلق الفاضل‪ ،‬والوصف اجلليل الكامل‪.‬‬
‫وهذه الرمحة اليت يف القلوب‪ :‬تظهر آثارُها على اجلوارح واللسان‪ ،‬يف‬
‫السعي يف إيصال الرب واخلري واملنافع إىل الناس‪ ،‬وإزالة األضرار واملكاره‬
‫عنهم»(‪.)1‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف أعرف أن الرمحة موجودة يف قليب؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أن لذلك عالمة‪ ،‬وهي أن تكون حمباً لوصول اخلري لكل‬
‫اخللق‪ ،‬وللمؤمنني خصوصاً‪ ،‬ويف مقابل ذلك‪ :‬أن تكره حصول الشر‬
‫والضرر عليهم‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ومن صور الرمحة اليت قد ختتفي عند بعض الناس‪ :‬الرمحة باألطفال‬
‫الصغار والرقة عليهم‪ ،‬وإدخال السرور عليهم‪ ،‬وأما عدم املباالة بهم‪ ،‬وعدم‬
‫الرقة عليهم؛ فجفاء وغلظة‪ ،‬كما قال بعض جُفاة األعراب –حني رأى النيب‬
‫× وأصحابَه يقبِّلون أوالدَهم الصغار–‪ :‬إنّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت‬
‫واحداً منهم! فقال النيب ×‪ « :‬أو أملك لك شيئاً أن نزع اهلل من قلبك‬
‫الرمحة؟»(‪.)1‬‬
‫وتأمل معي كيف كان خلق الرمحة سبباً يف رمحة اهلل تعاىل المرأة مل‬
‫تعرف إال بأسوأ ما ميكن أن تُوصف به املرأة‪ ،‬إنها البغي من بين إسرائيل‪،‬‬
‫حني رمحت ذلك الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش؛ فسقته فغفر اهلل‬
‫هلا‪ ،‬بسبب تلك الرمحة!‬
‫ويف مقابل هذا‪ :‬تأمل كيف عذّب اهلل امرأةً بالنار‪ ،‬حني ربطت اهلرة‪،‬‬
‫ال هي أطعمتها وسقتها‪ ،‬وال هي تركتها تأكل من خشاش األرض(‪ ،)2‬حتى‬
‫ماتت‪ ،‬ويف هذا املعنى يقول العالمة السعدي – رمحه اهلل –‪« :‬ومن ذلك ما‬
‫هو مشاهد جمرب‪ :‬أن من أحسن إىل بهائمه باإلطعام والسقي واملالحظة‬
‫النافعة؛ أن اهلل يبارك له فيها‪ ،‬ومن أساء إليها‪ :‬عوقب يف الدنيا قبل‬
‫اآلخرة»ا‪.‬هـ(‪.)3‬‬
‫صفُورِ»(‪.)4‬‬
‫حمَةِ ا ْلعُ ْ‬
‫قال مُطَرِّفٍ بن عبداهللَ‪« :‬إِنَّ اللَّهَ لَيَ ْرحَمُ بِ َر ْ‬

‫‪192‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫هذا يف حيوان! فكيف مبن حينو ويرأف ويرفق بوالديه‪ ،‬وأرحامه‪،‬‬


‫وزوجته‪...‬؟!‬
‫لقد كانت هذه الرمحة حاضرةً يف حياة النيب × يف كل حني من‬
‫أحيانه‪ ،‬حتى إذا كان يف مقام الصالة الذي يستولي عليه مقام املناجاة لربه‬
‫تعاىل‪ ،‬يقول النيب ×‪« :‬إنّي ألقوم يف الصّالة أريد أن أطوّل فيها‪ ،‬فأمسع‬
‫بكاء الصّيبّ فأجتوّز يف صالتي كراهية أن أشقّ على أمّه»(‪.)1‬‬
‫وتأتي إليه حفيدته – ابنة ابنته – تزوره‪ ،‬فتتعلق به‪ ،‬فيأبى أن يكسر‬
‫خاطرها‪ ،‬فيخرج على أصحابه وأُمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلّى‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فإذا ركع وضعها‪ ،‬وإذا رفع رفعها‪.‬‬
‫إنها الرمحة النبوية! فصلوات اهلل وسالمه على من قال فيه ربه‪ :‬ﭽ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭼ [األنبياء‪.]107 :‬‬
‫تأمل أمثال هذه املواقف النبوية‪ ،‬وقارنها مبا رُوي يف بعض كتب‬
‫التاريخ أن حممد بن عبدامللك الزيات كان شديد الظلم‪ ،‬كثري املصادرة للناس‬
‫قل ما يرحم أحداً‪ ،‬وكان يقول‪ :‬الرمحة خَوَر يف الطبيعة!‬
‫وكان قد عمل يف آخر أيام الواثق تنّورَ حديدٍ مشبّك بقطعتني‪ ،‬وله‬
‫مسامري إىل داخل ليقعد فيه املصادرين؛ فاتفق قضاءُ اهلل تعاىل وق َدرُه أن كان‬
‫هو أول من أُقعد فيه! فلما دخلت املسامري يف حلمه قال‪ :‬آه! فقال له اخلادم‬
‫املوكّل بعذابه‪ :‬أما مسعت أن من حفر ألخيه املؤمن بئراً أوقعه اهلل فيها؟! أما‬
‫علمت أن من ال يَرحم ال يُرحم؟! فقال‪ :‬وأيّ شيء نفع الربامكة وقد فعلوا‬

‫‪193‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫من اخلريات ما فعلوا وكانت عاقبتهم مثل هذا؟ فقال له ذلك اخلادم‪ :‬يكفهم‬
‫ذكرك هلم بفعل اجلميل وأنت على مثل هذه احلال! وهل يبقى بعد اإلنسان‬
‫إال ذِكرٌ مجيل أو قبيح‪ ،‬وهل بعد املوت سوى منزلني‪ :‬إما اجلنّة أو النار!»(‪.)1‬‬
‫فعوِّد نفسك الرمحةَ أيها املؤمن؛ فإنك مضطرٌ إىل رمحة اهلل‪ ،‬ودرّب‬
‫نفسك وهذّبها على الرمحة وإذهاب القسوة‪ ،‬واحرص على خمالطة الرمحاء‬
‫عسى أن تُرحم‪ ،‬وأن تكون رحيماً‪ ،‬وتسلم من ضدها قال ×‪« :‬ال تنزع‬
‫الرمحة إال من شقي»(‪.)2‬‬
‫اللهم امأل قلوبنا رمحة ألنفسنا ولعبادك‪ ،‬واجعلنا من عبادك الرمحاء‪،‬‬
‫واهدنا يا ربنا ألحسن األخالق واألعمال‪ ،‬وجنبنا سيئها؛ ال ميلك ذلك إال‬
‫أنت‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫إن كمال الرمحة أن تتعامل مع اخللق مبا ميليه عليك دينُك‪.‬‬
‫اجلزاء من جنس العمل؛ فاطلب رمحة اهلل برمحة خلقه‪.‬‬
‫كاشف وجود الرمحة يف القلب هو إرادة اخلري للخلق‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثامنة والعشرون‪:‬‬


‫ليس الشديد بالصُّرعة‬
‫( ‪)1‬‬

‫أطفئوا نار الغضب بذِكر نار جهنم‪.‬‬


‫(بكر بن عبد اهلل)‬

‫هذه قاعدة من قواعد العالج النفسي يف السنة النبوية‪ ،‬وهي من قواعد‬


‫احلياة اليت تضبط تصرفات املرء مع غريه‪ ،‬وتعينه ليهنأ حبياته‪ ،‬ويطيب بعيشه‪،‬‬
‫ويرتقي بنفسه يف درج الكمال‪.‬‬
‫وقبل الدخول يف بيان شيء من هدايات هذه القاعدة؛ حيسن بنا أن‬
‫نعرف من هو الصُّرَعة؟‬
‫فيقال‪« :‬الصُّرَعة‪ :‬هو الذي يصرع الناسَ ويَكثُر منه ذلك‪ ،‬كما يقال‬
‫حفَظة‪ ،‬فأراد عليه الصالة والسالم أن‬
‫للكثري النوم‪ :‬نُوَمة‪ ،‬وللكثري احلفظ‪ُ :‬‬
‫الذي يقوى على مِلك نفسه عند الغضب‪ ،‬ويردها عنه هو القوي الشديد‬
‫والنهاية يف الشدة؛ لغلبته هواه املُرْدي‪ ،‬الذي زيَّنه له الشيطانُ املُغوي‪ ،‬فدل‬
‫هذا على أن جماهدة النفس أشد من جماهدة العدو؛ ألن النيب عليه الصالة‬

‫‪195‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫والسالم جعل للذي ميلك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس‬
‫للذي يغلب الناس ويصرعهم(‪ ،)1‬ومن هذا احلديث قال احلسن البصري‬
‫«حني سئل أي اجلهاد أفضل؟ فقال‪ :‬جهادك نفسك وهواك»(‪.)2‬‬
‫يقول ابن القيم رمحه اهلل‪« :‬مسعت شيخنا – يعين ابن تيمية – يقول‪:‬‬
‫جهاد النفس واهلوى أصل جهاد الكفار واملنافقني؛ فإنه ال يقدر على‬
‫جهادهم حتى جياهد نفسه وهواه أوالً حتى خيرج إليهم‪ ،‬فمن قهر هواه عز‬
‫(‪)3‬‬
‫وساد‪ ،‬ومن قهره هواه ذل وهان‪ ،‬وهلك وباد»‪.‬‬
‫ولعظيم أمر الغضب عطف اهللُ بذكره بعد ذكر كبائر الذنوب‬
‫والفواحش فقال سبحانه‪ :‬ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [الشورى‪.)4(]37 :‬‬
‫لقد جاء هذا االهتمام البالغ بأمر الغضب؛ ملا جينيه على صاحبه من‬
‫جنايات عظيمة إن مل يكظمه ويدافعه(‪.)5‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬الكفر يف أربعة أشياء‪ :‬يف الغضب‪ ،‬والشهوة‪،‬‬
‫والرغبة‪ ،‬والرهبة‪ ،‬ثم قال‪ :‬رأيت منهن اثنتني‪ :‬رجالً غضب فقتل أمّهُ‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ورجالً عشق فتنصّر‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فالغضب جممع شرور عظيمة‪« ،‬وينشأ عنه من األفعال احملرمة‪ :‬كالقتل‪،‬‬


‫والضرب‪ ،‬وأنواع الظلم والعدوان‪ ،‬وكثري من األقوال احملرمة‪ :‬كالقذف‪،‬‬
‫والسب‪ ،‬والفحش‪ ،‬ورمبا ارتقى إىل درجة الكفر! كما جرى جلبلة بن األيهم‪،‬‬
‫وكاألميان اليت ال جيوز التزامها شرعاً‪ ،‬وكطالق الزوجة الذي يعقب‬
‫الندم»(‪.)1‬‬
‫وهو – أيضاً – خيرج باإلنسان من اعتدال حاله‪ ،‬ويتكلم بالباطل‪،‬‬
‫ويرتكب املذموم‪ ،‬وينوي احلقد والبغضاء‪ ،‬وغري ذلك من القبائح احملرمة (‪،)2‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ضبُ ِمفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ‪.‬‬
‫قال جعفر بن حممد‪ :‬ا ْلغَ َ‬
‫قال حممد بن جحادة‪ :‬كان الشعيب من أولع الناس بهذا البيت‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫إمنا األحالم يف حال الغضب‬ ‫ليست األحالم يف حـني الرضـا‬

‫وهلذا اقتصر النيب × يف وصيته لذلك الرجل الذي استوصاه على‬


‫قوله‪«« :‬ال تغضب»؛ وهذا يتضمن أمرين عظيمني‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬األمر بفعل األسباب‪ ،‬والتمرن على حسن اخللق‪ ،‬واحللم‬
‫والصرب‪ ،‬وتوطني النفس على ما يصيب اإلنسان من اخلَلق‪ ،‬من األذى‬
‫القولي والفعلي‪ ،‬فإذا وُفِّق هلا العبد‪ ،‬وورد عليه واردُ الغضب؛ احتمله حبسن‬

‫‪‬‬
‫«‬

‫»‬

‫‪197‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خُلُقه‪ ،‬وتلقاه حبلمه وصربه‪ ،‬ومعرفته حبسن عواقبه؛ فإن األمر بالشيء أمرٌ به‬
‫ومبا ال يتم إال به‪ ،‬والنهيُ عن الشيء أمرٌ بضده وأمرٌ بفعل األسباب اليت‬
‫تعني العبد على اجتناب املنهي عنه‪ ،‬وهذا منه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬األمر – بعد الغضب – أن ال يُنفِذ غضبَه؛ فإن الغضب غالباً ال‬
‫يتمكن اإلنسانُ من دفعه ورَدِّه‪ ،‬ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه‪ ،‬فعليه إذا‬
‫غضب أن مينع نفسه من األقوال واألفعال احملرمة اليت يقتضيها الغضب‪.‬‬
‫فمتى منع نفسَه مِن فعل آثار الغضب الضارة؛ فكأنه يف احلقيقة مل‬
‫يغضب‪ ،‬وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية‪ ،‬والقوة القلبية؛ كما يف‬
‫قاعدتنا هذه‪« :‬إمنا الشديد الذي ميلك نفسه عند الغضب»‪.‬‬
‫فكمال قوة العبد‪ :‬أن ميتنع من أن تؤثر فيه قوة الشهوة وقوة الغضب‬
‫اآلثارَ السيئة‪ ،‬بل يصرف هاتني القوتني إىل تناول ما ينفع يف الدين والدنيا‪،‬‬
‫وإىل دفع ما يضر فيهما‪.‬‬
‫فخري الناس‪ :‬من كانت شهوته وهواه تبعاً ملا جاء به الرسول ×‪،‬‬
‫وغضبُه ومدافعتُه يف نصر احلق على الباطل‪.‬‬
‫وشر الناس‪ :‬من كان صريعَ شهوته وغضبه»(‪.)1‬‬
‫ومما ينصح به الغاضب أمور‪:‬‬
‫االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽﭽ‬ ‫‪.1‬‬

‫‪198‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊﮋ ﮌﮍﮎ ﮏﮐﮑ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕﭼ [األعراف‪ ،]201–200 :‬قال سعيد بن‬
‫جبري‪ :‬هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر اهلل تعاىل فيكظم‬
‫الغيظ»(‪« ،)1‬وقيل النزغ‪ :‬اإلزعاج‪ ،‬وأكثر ما يكون عند الغضب‪،‬‬
‫وأصله اإلزعاج باحلركة إىل الشر»(‪.)2‬‬
‫وقال سليمان بن صرد‪ :‬كنت جالساً مع النيب ×‪ ،‬ورجالن يستبان‪،‬‬
‫فأحدهما امحر وجهه‪ ،‬وانتفخت أوداجه‪ ،‬فقال النيب ×‪« :‬إني ألعلم كلمة‬
‫لو قاهلا ذهب عنه ما جيد! لو قال‪ :‬أعوذ باهلل من الشيطان‪ ،‬ذهب عنه ما‬
‫جيد»(‪.)3‬‬
‫‪ .2‬السكوت‪ :‬قال ميمون بن مهران‪ :‬جاء رجل إىل سلمان‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫أبا عبداهلل! أوصين‪ ،‬قال‪ :‬ال تغضب‪ ،‬قال أمرتين أن ال أغضب وإنه‬
‫ليغشاني ما ال أملك! قال‪ :‬فإن غضبت‪ ،‬فاملك لسانك ويدك (‪.)4‬‬
‫‪ .3‬أن جيلس إن كان قائماً‪ ،‬ففي كتب األخالق واآلداب‪« :‬الغضب‬
‫من الشيطان فإذا وجده أحدكم قائماً فليجلس‪ ،‬وإن وجده جالساً‬
‫فليضطجع»(‪.)5‬‬
‫‪ .4‬أن يتوضأ‪ ،‬فقد روي‪« :‬إن الغضب من الشيطان‪ ،‬وإن الشيطان‬

‫‪199‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خلق من النار‪ ،‬وإمنا تطفأ النار باملاء‪ ،‬فإذا غضب أحدكم‬


‫فليتوضأ»(‪ ،)1‬هذا املعنى واقع وصحيح‪.‬‬
‫‪ .5‬كظم الغضب‪ :‬فإذا كظم الغاضب غضبَه هلل ومل ينفذه؛ فليبشر‬
‫بفضل اهلل تعاىل وحسن نواله‪ ،‬فلما بني اهلل من صفات املتقني‬
‫ذكر منها‪ :‬ﭽﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ‬
‫وختمها بهذا التشريف فقال‪ :‬ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ [آل‬
‫عمران‪.]134 :‬‬
‫وأما احلديث الذي يروى عن النيب ×‪« :‬مَن كظم غيظاً – وهو‬
‫يستطيع أن يُنفِّذه – دعاه اهلل يوم القيامة على رؤوس اخلالئق‪ ،‬حتى خييِّرَه‬
‫من أي احلُور شاء»‪ ،‬ففيه ضعف(‪.)2‬‬
‫وههنا تنبيه ينبغي التفطن له‪ :‬وهو أن النيب × إمنا أراد أن ال يغضب‬
‫املسلمُ ألمور دنياه ومعاملته اليت ميكن استدراكها‪ ،‬وأما فيما يعود إىل القيام‬
‫باحلق؛ فالغضب فيه قد يكون واجباً‪ ،‬وهو الغضب على الكفار‪ ،‬واملبالغة‬
‫فيهم باجلهاد‪ ،‬وكذلك الغضب على أهل الباطل‪ ،‬وإنكاره عليهم مبا جيوز‪،‬‬
‫وهلذا بوّب البخاري – رمحه اهلل تعاىل – باباً فقال‪( :‬باب ما جيوز من الغضب‬
‫والشدة ألمر اهلل)(‪.)3‬‬
‫وقد يكون مندوباً إليه‪ :‬وهو الغضب على املخطئ إذا علمت أن يف‬
‫إبداء غضبك عليه ردعاً له وباعثاً على احلق‪.‬‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪200‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وقد روى زيد بن خالد اجلهين «أن رسول اهلل × ملا سأله رجلٌ عن‬
‫(‪)2( )1‬‬
‫ضالة اإلبل غضب حتى امحرت وجنتاه‪ ،‬أو امحر وجهه» ‪.‬‬
‫«وإمنا احملمود غضبٌ ينتظر إشارة العقل والدين‪ ،‬فينبعث حيث جتب‬
‫احلمية‪ ،‬وينطفئ حيث حيسن احللم‪ ،‬وحفظه على حدِّ االعتدال هو االستقامة‬
‫اليت كلف اهلل بها عبادَه‪ ،‬وهو الوسط الذي وصفه رسول اهلل ×»(‪.)3‬‬
‫اللهم أعنا على أنفسنا وأهوائنا والشيطان‪ ،‬وقنا شر الغضب‪ ،‬واجعل‬
‫أهواءنا تبعاً ملا جئتَ به‪ ،‬ال حول وال قوة إال بك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫جماهدة الغضب شاق كمجاهدة النفس‪..‬فاستعن باهلل عليهما‪.‬‬
‫مفتاح أبواب الشر البشري والشيطاني الغضب‪.‬‬
‫تصحيح املصطلحات مطلب شرعي‪.‬‬
‫الغضب داء ويف الشرع الدواء‪.‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪201‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية التاسعة والعشرون‪:‬‬


‫وليأتِ إىل الناس الذي حيس أن يؤتت إليه‬

‫لو أن الناس مشوا على هذه القاعدة يف التعامل‬


‫فيما بينهم؛ لنالوا خرياً كثرياً‪( .‬ابن عثيمني)‪.‬‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب املعاملة بني اخللق‪.‬‬


‫وأصل هذه القاعدة وردت ضمن حديث طويلٍ تضمن عدة وصايا‬
‫نبوية عظيمة‪ ،‬رواه اإلمام مسلم يف صحيحه من حديث عبداهلل بن عمرو‬
‫ب‪ ،‬وفيه‪« :‬فمن أحب أن يزحزح عن النار‪ ،‬ويدخل اجلنة‪ ،‬فلتأته منيته وهو‬
‫يؤمن باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬وليأت إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه»(‪.)1‬‬
‫هكذا خيتصر النيب × آالفاً من الكلمات والعبارات‪ ،‬واخلطب‬
‫واملقاالت – يف باب التعامل مع اخللق – يف هذه القاعدة اجلامعة‪ ،‬بل هي‬
‫قاعدة من قواعد السعادة‪ ،‬إنه ميزان عادل منصف ينصبه النيب × لكل من‬
‫يتعامل مع الناس‪ ،‬الذين يف تنوع أخالقهم‪ ،‬وتفاوت معامالتهم كما بني‬
‫السماء واألرض‪.‬‬
‫يقول النووي رمحه اهلل‪« :‬هذا من جوامع كلمه × وبديع ِ‬
‫حكَمه‪،‬‬

‫‪202‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وهذه قاعدة مهمة(‪)1‬؛ فينبغي االعتناء بها‪ ،‬وإن اإلنسان يلزم أن ال يفعل مع‬
‫الناس إال ما حيب أن يفعلوه معه»(‪.)2‬‬
‫ولعمر اهلل إن هذا هلو امليزان الصحيح لإلحسان وللنصح لعباد اهلل‪،‬‬
‫فكلما أشكل عليك شيء مما تعامل به الناس؛ فانظر هل حتب أن يعاملوك‬
‫بتلك املعاملة أم ال؟ فإن كنت حتب ذلك؛ كنت حمباً هلم ما حتب لنفسك‪،‬‬
‫وإن كنت ال حتب أن يعاملوك بتلك املعاملة؛ فقد ضيعت هذا الواجب‬
‫(‪)3‬‬
‫العظيم‪.‬‬

‫إن من يهتدي بهذه القاعدة يف معامالته االجتماعية تستقيم حالُه‪،‬‬


‫وجتمُل خصالُه‪ ،‬وترقى مع الناس أفعالُه «فال يؤذيهم؛ ألنه ال حيب أن‬
‫يؤذوه‪ ،‬وال يعتدي عليهم؛ ألنه ال حيب أن يعتدوا عليه‪ ،‬وال يشتمهم؛ ألنه ال‬
‫حيب أن يشتموه‪ ،‬وهلم جراً‪ :‬ال يغشهم يف البيع والشراء وغري ذلك‪ ،‬وال‬
‫يكذب عليهم؛ ألنه ال حيب أن يفعل به ذلك‪ ،‬وهذه قاعدة لو أن الناس‬
‫مشوا عليها يف التعامل فيما بينهم لنالوا خرياً كثرياً‪ ،‬ويشبه هذا قول الرسول‬
‫×‪« :‬ال يؤمن أحدكم حتى حيب ألخيه ما حيبه لنفسه» (‪.)4‬‬

‫«‬
‫«‬

‫‪203‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫لقد كانت حياة نبينا عليه الصالة والسالم ترمجة هلذه القاعدة العظيمة‪،‬‬
‫بل لقد استعملها النيب × دواءً تربوياً فكان من أجنع األدوية وأشفاها‪،‬‬
‫تابعوا معنا هذه القصة اليت رواها لنا الصحابي اجلليل أبو أمامة رضي اهلل‬
‫عنه فقال‪:‬‬
‫إن فتىً شاباً أتى النيب × فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ائذن لي بالزنا! فأقبل‬
‫القوم عليه فزجروه‪ ،‬وقالوا‪ :‬مه! مه! فقال‪« :‬ادنه»‪ ،‬فدنا منه قريباً‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فجلس قال‪« :‬أحتبه ألمك»؟ قال‪ :‬ال! واهلل جعلين اهلل فداءك! قال‪« :‬وال‬
‫الناس حيبونه ألمهاتهم»! قال‪« :‬أفتحبه البنتك؟» قال‪ :‬ال! واهلل‪ ،‬يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬جعلين اهلل فداءك! قال‪« :‬وال الناس حيبونه لبناتهم»! قال‪« :‬أفتحبه‬
‫ألختك»؟ قال‪ :‬ال! واهلل‪ ،‬جعلين اهلل فداءك! قال‪« :‬وال الناس حيبونه‬
‫ألخواتهم»! قال‪« :‬أفتحبه لعمتك»؟ قال‪ :‬ال! واهلل‪ ،‬جعلين اهلل فداءك! قال‪:‬‬
‫«وال الناس حيبونه لعماتهم»! قال‪« :‬أفتحبه خلالتك»؟ قال‪ :‬ال! واهلل جعلين‬
‫اهلل فداءك! قال‪« :‬وال الناس حيبونه خلاالتهم»! قال‪ :‬فوضع يده عليه وقال‪:‬‬
‫«اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه‪ ،‬وحصن فرجه» قال‪ :‬فلم يكن بعدُ ذلك الفتى‬
‫(‪)1‬‬
‫يلتفت إىل شيء‪.‬‬
‫إن هذه القاعدة اجلليلة هي نداء الفطرة السليمة اليت فطر اهلل تعاىل‬
‫الناس عليها‪ ،‬علم ذلك النيب × فنادى ذلك الشاب بهذا النداء؛ فما كان‬
‫إال االستجابة العاجلة هلذا النداء‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قيل لألحنف‪ :‬ممن تعلمت احللم؟ قال‪ :‬من نفسي! كنتُ إذا كرهتُ‬
‫شيئاً من غريي ال أفعل مثلَه بأحد(‪.)1‬‬
‫وكان حممد بن واسع يبيع محاراً له‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬أترضاه لي؟ قال‪:‬‬
‫لو رضيتُه مل أبعه!‬
‫قال ابن رجب‪« :‬وهذه إشارة منه إىل أنه ال يرضى ألخيه إال ما يرضى‬
‫لنفسه – حيث أجابه حبقيقة األمر دون تدليس أو خداع – وهذا كله من مجلة‬
‫النصيحة لعامة املسلمني اليت هي من مجلة الدين»(‪.)2‬‬
‫وعندما نتأمل يف القرآن الكريم جنده قد رسخ هذه القاعدة بأساليب‬
‫متنوعة‪:‬‬
‫وأقرب مثال على ذلك قول احلق سبحانه‪ :‬ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ ‪« ،‬الذم‬
‫إمنا حلقهم مبجموع أنهم يأخذون زائداً‪ ،‬ويدفعون ناقصاً‪ ...‬وعن قتادة‪:‬‬
‫«أوفِ يا ابن آدم الكيل كما حتب أن يُوفى لك‪ ،‬واعدل كما حتب أن يُعدَل‬
‫لك» وعن الفضيل‪ :‬خبس امليزان سواد الوجه يوم القيامة! وقال أعرابي‬
‫لعبدامللك بن مروان‪ :‬قد مسعت ما قال اهلل تعاىل يف املطففني! أراد بذلك أن‬
‫املطفف قد تَ َوجّه عليه الوعيد العظيم يف أخذ القليل(‪ ،)3‬فما ظنك بنفسك‬
‫وأنت تأخذ الكثري‪ ،‬وتأخذ أموال املسلمني بال كيل وال وزن»(‪.)4‬‬

‫‪205‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وهذا مثال آخر من القرآن يرسخ هذه القاعدة النبوية‪« :‬وليأتِ إىل‬
‫الناس الذي حيب أن يؤتى إليه»؛ وهو قوله تعاىل يف حق الزوجات‪ :‬ﭽ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﭼ [البقرة‪.)1(]228 :‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬أي‪ :‬وهلن على الرجال من احلق مثل ما للرجال عليهن‪،‬‬
‫فليؤد كلُّ واحد منهما إىل اآلخر ما جيب عليه باملعروف(‪ ،)2‬وهلذا قال ابن‬
‫(‪)3‬‬
‫عباس‪ :‬إني ألتزين المرأتي كما تتزين لي‪.‬‬

‫اهلل أكرب! ما أجلها من قاعدة! وما أحرى املسلم بتدبرها وتأملها‪ ،‬وأن‬
‫يبادر إىل تطبيقها يف نفسه ومَن حوله!‬

‫طبِّقها – أيها املؤمن – يف بيعك وشرائك‪ ،‬وأخذك وعطائك‪ ،‬يف البيت‬


‫والشارع والسوق‪ ،‬واملسجد واملدرسة‪ ،‬ويف وسائل النقل وساحات‬
‫االسرتاحات‪ ،‬وإن خالفتها فعاملتَ غريك مبا تكره أن تُعامَل به؛ فقد علمت‬
‫ما قال اهلل يف املطففني! وكنت من املتناقضني الذين ذمهم اهلل تعاىل بقوله‪:‬‬
‫ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ [الصف‪.]3 ،2 :‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪206‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يروى أن رجالً لبّاناً – كان بالبادية – خيلط اللفَ باملاء‪ ،‬فجاء السيل؛‬
‫فذهب بالغنم‪ ،‬فجعل يبكي ويقول‪ :‬اجتمعت تلك القطرات‪ ،‬فصارت سيالً!‬
‫ولسان اجلزاء يناديه‪ :‬ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕﭼ [احلج‪.)1(»]10 :‬‬
‫ليكن كل واحد منا حكماً على نفسه أمام هذه اجلملة‪« :‬وليأتِ إىل‬
‫الناس الذي حيب أن يؤتى إليه» وليضع نفسه دوماً يف مكان الطرف اآلخر‬
‫ولينظر! هل حيب أن تقدره زوجته؟ وهل حيب أن يقدره الناس؟ وهل حيب‬
‫أن حيرتم الناس مواعيده؟ أسئلة كثرية إجابتها معلومة عند كل عاقل‪ ،‬فإذا‬
‫كان كذلك‪ ،‬فليعلم أن الناس أيضاً كذلك‪.‬‬
‫وأيضاً ‪ ..‬إذا كان هذا األدب مطلوباً يف حق اخللق؛ فهو يف حق اخلالق‬
‫سبحانه وتعاىل من باب أوىل! كيف تطلب من ربك أن يعطيك ما حتب‪،‬‬
‫وينجيك مما تكره‪ ،‬وأنت مقيم على ما يكره‪ ،‬تارك ملا حيب؟ يقول ابن‬
‫اجلوزي رمحه اهلل‪« :‬وحيك! لو ابتالك يف مالك فقلَّ الستغثت‪ ،‬أو يف بدنك‬
‫ليلةً مبرضٍ لشكوت‪ ،‬فأنت تستويف مطلوباتك منه‪ ،‬وال تستويف حقه عليك!‬
‫ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ [املطففني‪ ،)2(»]1 :‬هلذا قال سلمان رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫الصالة مكيال‪ ،‬فمن وفى ويف له‪ ،‬ومن طفف فقد علمتم ما قال اهلل تعاىل يف‬
‫(‪)3‬‬
‫حق املطففني!‬

‫‪207‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫اللهم اهدنا ألحسن األخالق واألقوال واألعمال؛ ال يهدينا ألحسنها‬


‫إال أنت‪ ،‬وجنبنا عن أسوأ األخالق واألقوال واألعمال؛ ال جينبنا عن‬
‫أسوأها إال أنت‪ ،‬إياك نعبد وإياك نستعني‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫عامِل كما حتب أن تُعامَل‪..‬قمة اإلنصاف‪.‬‬
‫من طلب رمحة اهلل وهو مقيم على معاصيه فهو مغرور‪.‬‬
‫من وصل الناس مبا حيب‪ ،‬وصله اهلل مبا حيب‪.‬‬
‫إن أسأت إىل الناس فعاملوك باملثل فال تلمهم؛ فهذا ما اخرتته‬
‫لنفسك‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫كن يف الدنيا كأنك غريس‪ ،‬أو عابر سبيل‬

‫ﭽﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱﯲﯳﯴ ﭼ‬
‫هذه اآلية أصل يف بيان صفة الغرباء‪.‬‬

‫[مدارج السالكني]‪.‬‬
‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب الزهد‪ ،‬ومعرفة حقيقة‬
‫هذه احلياة الدنيا‪ ،‬وهي نص وصيةٍ جامعة خمتصرة أوصى بها النيبُّ × أحدَ‬
‫صحابته النجباء‪ ،‬إنه عبداهلل بن عمر – رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫ولقد صحبها من االهتمام النبوي أن أخذ مبنكب ابن عمر وهو‬
‫يوصيه بهذه الكلمات املختصرة؛ رغبة يف رسوخها‪ ،‬وهكذا كان‪ ،‬فلقد كانت‬
‫حياة ابن عمر برتمجة عملية هلذه الوصية‪ ،‬فهو الذي رأى اخلالفة تنتقل من‬
‫رجل إىل رجل – وهو ينظر وهو أحق بها من بعض من أدركهم من اخللفاء‬
‫– لكن مفعول هذه الوصية ما زال قوياً حتى لقي ربه زاهداً عابداً ورعاً‪،‬‬
‫راغباً فيما عند اهلل‪ ،‬معرضا عن هذه الدنيا إعراض القادر على نيلها‬
‫وحيازتها‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫لقد فقه ابن عمر – رضي اهلل عنه – هذا املعنى عملياً – كما تقدم –‬
‫وفقهه علميا؛ ولذا كان يقول بعد أن روى لتالميذه هذه الوصية‪« :‬إذا‬
‫أمسيت فال تنتظر الصباح‪ ،‬وإذا أصبحت فال تنتظر املساء‪ ،‬وخذ من صحتك‬
‫ملرضك‪ ،‬ومن حياتك ملوتك»‪ ،‬وممن خصهم بذلك تلميذه النجيب جماهد‬
‫رمحه اهلل‪ ،‬حيث قال له‪« :‬يا جماهد! إذا أصبحت فال حتدث نفسك باملساء‪،‬‬
‫وإذا أمسيت فال حتدث نفسك بالصباح‪ ،‬وخذ من صحتك قبل سقمك‪،‬‬
‫ومن حياتك قبل موتك‪ ،‬فإنك ال تدري ما امسك غدا؟»(‪.)1‬‬
‫لقد كانت وصيةُ ابن عمر جملاهد تفسرياً هلذه القاعدة اليت رواها عن‬
‫النيب ×‪ ،‬وهو تفسري يف غاية النفاسة واألهمية؛ حتى ال يتوهم متوهمٌ أن‬
‫معنى قوله‪« :‬كن يف الدنيا كأنك غريب‪ ،‬أو عابر سبيل» أن يتخلى عن كل‬
‫أسباب احلياة الكرمية‪ ،‬وأن ال يبين له داراً تؤويه وأهلَه؛ ألن عابر السبيل‬
‫كذلك! وال يتخذ له إخوة جيالسهم ويأنس بهم؛ ألن الغريب كذلك! فبيّن‬
‫راوي احلديث ابنُ عمر رضي اهلل عنه أن هذا ليس مراداً من قول املعصوم‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬كن يف الدنيا كأنك غريب‪ ،‬أو عابر سبيل»‪ ،‬وإمنا‬
‫مراده‪ :‬أن يبقى دائم التيقظ والرتقب ليوم الدين واحلساب‪ ،‬فمن كان كذلك‪:‬‬
‫النعَم على‬
‫أكثر ذكرَ املوت؛ فأحسن السري إليه‪ ،‬واستعان مبا وهبه اهلل من ِّ‬
‫حتسني وقوفه هناك بني يديه‪.‬‬
‫إن هذه القاعدة النبوية تُرشِّد مسري املرء يف احلياة‪ ،‬وحتد من شراهة‬
‫نفسه‪ ،‬وختلصه من مرض االنبهار الزائف للذات هذه احلياة الدنيا ومُتَعها؛‬
‫ليعرف قدرها‪ ،‬ويستعد لليت هي خري وأبقى‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قال بعض أهل العلم – مبيناً معنى هذه القاعدة‪ :‬ال تركن إىل الدنيا‪،‬‬
‫وال تتخذها وطناً‪ ،‬وال حتدث نفسك بطول البقاء فيها‪ ،‬وال باالعتناء بها‪ ،‬وال‬
‫تغرت بها؛ فإنها غرارة خداعة‪ ،‬وال تتعلق إال مبا يتعلق به الغريب يف غري‬
‫وطنه‪ ،‬وال تشتغل فيها إال مبا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إىل أهله‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وباهلل فاستعن‪.‬‬
‫ويقول ابن اجلوزي‪« :‬من الناس من يثبت الدليل‪ ،‬وال يفهم املقصود‬
‫الذي دل عليه الدليل! ومن هذا اجلنس قوم مسعوا ذم الدنيا فتزهدوا‪ ،‬وما‬
‫فهموا املقصود‪ ،‬فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها‪ ،‬وأن النفس جتب عداوتها‪،‬‬
‫فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق‪ ،‬وعذبوها بكل نوع‪ ،‬ومنعوها حظوظها‪،‬‬
‫جاهلني بقوله ×‪« :‬إن لنفسك عليك حقًّا»‪ ،‬وفيهم من أدته احلال إىل ترك‬
‫الفرائض‪ ،‬وحنول اجلسم‪ ،‬وضعف القوى! وكل ذلك لضعف الفهم‬
‫املقصود‪ ،‬والتلمح للمراد»(‪)2‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫إذاً ‪ ..‬ما الزهد الذي جاءت النصوص مبدحه والثناء على أهله؟‬
‫فيقال هو‪« :‬ترك الفضول الَّتِي ال يستعان بها على طَاعَة اهلل – من‬
‫مطعم وملبس وَمَال وَغري ذَلِك – كما قال اإلمام أمحد‪( :‬إمنا هو طعام دون‬
‫طعام‪ ،‬ولباس دون لباس‪ ،‬وصرب أيام قالئل) ومجاع ذلك‪ :‬خُلُق رَسُول اهلل‬
‫× َكمَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه كَانَ َيقُول‪« :‬خري احلديث كَتاب اهلل‪،‬‬

‫‪211‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫فقد‬ ‫وخري اهلدي هدي حممد‪ ،‬وشر األمور حمدثاتها‪ ،‬وكل بِدعة ضاللة»‬
‫كانت عادته يف ياملطعم‪ :‬أَنه ال يرد موجوداً‪ ،‬وال يتكلَّف مفقوداً‪ ،‬ويلبس من‬
‫اللباس ما تيسّر – من قطن وصوف وَغري ذَلِك – وكان القطن أحب إليه‪،‬‬
‫وكان إذا بلغه أَن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد فِي الزهد أو العبادة‬
‫على املشروع ويقول‪َ( :‬أيّنَا مثل رَسُول اهلل ×)؟! يغْضب لذلك! ويقول‪:‬‬
‫«واهلل إني ألخشاكم هلل‪ ،‬وأعلمكُم حبدود اهلل تعاىل» (‪.)2‬‬
‫وَقد أنزل اهلل َتعَالَى‪ :‬ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬
‫ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ [ا ْلمَائِدَة‪ ،]87 :‬وتأمل‬
‫العدل اإلهلي يف هذه اآلية العظيمة‪ :‬ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ‬
‫فحتى ال يُفهم من هذا التوسع يف لذائذِ الدنيا ومتاعها؛ عطف بقوله‪ :‬ﭽ ﮛ‬
‫ﮜﮝ ﭼ فكان عطفاً يف منتهى اللطافة ومتام احلكمة؛ فله احلمد سبحانه‪.‬‬
‫والعاقل هو من يعلم «أنه يف الدنيا ضيف‪ ،‬وما يف يده عارية‪ ،‬وأن‬
‫الضيف مرحتلٌ‪ ،‬والعارية مردودة(‪ ،)3‬والدنيا عرَضٌ حاضر‪ ،‬يأكل منها البَر‬
‫والفاجر‪ ،‬وهي مبغَّضَة ألولياء اهلل‪ ،‬حمبَّبة ألهلها‪ ،‬فمن شاركهم يف حمبوبهم‬
‫(‪)4‬‬
‫أبغضوه»‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إذاً ‪ ..‬فصاحب الغربة – يف هذه القاعدة – هو الصاحل يف زمانٍ فاسدٍ‬


‫بني قوم فاسدين‪ ،‬أو العامل بني قومٍ جاهلني‪ ،‬أو الصادق املخلص بني قومٍ‬
‫منافقني‪.‬‬
‫والغريب هنا كذلك‪ ،‬هو‪ :‬الغريب يف طلب احلق‪ ،‬يف زمان تأمَّر فيه‬
‫(‪)1‬‬
‫حكَم فيه التقليدُ‪ ،‬وطغى على أهله التعصب املذموم‪.‬‬
‫اهلوى‪ ،‬و َ‬
‫وتتجلى يف هذه القاعدة النبوية أهميةُ قِصَر األمل‪ ،‬وقد قيل‪ :‬مَن قَصُر‬
‫أملُه أكرمه اهلل تعاىل بأربع كرامات‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬أن يقويه على طاعته؛ ألن العبد إذا علم أنه ميوت عن قريب‬
‫ال يهتم مبا يستقبله من املكروه‪ ،‬وجيتهد يف الطاعات فيكثر عمله‪.‬‬
‫والثاني‪ُ :‬يقِل همومَه‪ ،‬وهذا بيّن‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬جيعله راضياً بالقليل؛ ألنه إذا علم أنه ميوت عن قريب فإنه‬
‫ال يطلب الكثرة‪ ،‬وإمنا يكون همه هم آخرته‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬أن ينوّر قلبَه؛ فمن رضي بالقليل‪ ،‬واجتهد يف العمل‬
‫وأخلص؛ استنار قلبه بإذن ربه(‪.)2‬‬
‫فإن قلت‪ :‬فما الذي يعني العبد حتى يقصُر أمله؟‬
‫يبني ذلك ابن القيم بأنه يكون يف ‪« :‬قوة رغبته يف املطلب األعلى‪،‬‬
‫الذي ليس شيء أعلى منه‪ ،‬ومعرفته خبسة ما يؤمِّل دونه‪ ،‬وسرعة ذهابه‪ ،‬وأنه‬

‫‪213‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫يف احلقيقة كخيال طيف‪ ،‬أو سحابة صيف‪ ،‬فهو ظل زائل‪ ،‬وجنم قد تدىل‬
‫للغروب؛ فهو عن قريب آفل‪.‬‬
‫قال عمر بن اخلطاب – رضي اهلل عنه –‪ :‬لو أن الدنيا من أوهلا إىل‬
‫آخرها أوتيها رجل‪ ،‬ثم جاءه املوت؛ لكان مبنزلة من رأى يف منامه ما يسرُّه‪،‬‬
‫ثم استيقظ فإذا ليس يف يده شيء!‬
‫ومن حدّق بعني بصريته يف الدنيا واآلخرة‪ :‬علم أن األمر كذلك‪.‬‬
‫فكيف يليق بصحيح العقل واملعرفة أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا‬
‫النعيم الدائم إىل نعيم معرفته وحمبته‪ ،‬واألنس به‪ ،‬والفرح بقربه؛ كنسبة نعيم‬
‫الدنيا إىل نعيم اجلنة؟ قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﭼ [التوبة‪ ]72 :‬فيسري من رضوانه – وال يقال له‬
‫يسري – أكرب من اجلنات وما فيها‪.‬‬
‫ويف حديث الرؤية‪« :‬فواهلل ما أعطاهم اهلل شيئاً أحب إليهم من النظر‬
‫( ‪)1‬‬
‫إىل ربهم عز وجل»‬
‫فمن قطعه عن هذا أملٌ؛ فقد فاز باحلرمان‪ ،‬ورضي لنفسه بغاية‬
‫اخلسران‪ ،‬واهلل املستعان!»(‪.)2‬‬
‫وخنتم بهذا املثل التطبيقي هلذه القاعدة النبوية من حياته عليه الصالة‬
‫والسالم‪:‬‬

‫‪214‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يقول عمر – رضي اهلل عنه‪ :‬دخلتُ على رسول اهلل × وهو‬
‫مضطجع على حصري‪ ،‬فجلست؛ فأدنى عليه إزاره وليس عليه غريه‪ ،‬وإذا‬
‫احلصري قد أثّر يف جنبه‪ ،‬فنظرتُ ببصري يف خزانة رسول اهلل ×؛ فإذا أنا‬
‫(‪)1‬‬
‫يف ناحية الغرفة‪ ،‬وإذا أَفِيقٌ‬ ‫بقبضة من شعري حنو الصاع‪ ،‬ومثلها قَرَظاً‬
‫مُعلَّق(‪ ،)2‬قال‪ :‬فابتدرتُ عيناي‪ ،‬قال‪« :‬ما يبكيكَ يا ابن اخلطاب»؟ قلت‪ :‬يا‬
‫نيب اهلل! وما لي ال أبكي وهذا احلصري قد أثّر يف جنبك‪ ،‬وهذه خزانتك ال‬
‫أرى فيها إال ما أرى؟! وذاك قيصر وكسرى يف الثمار واألنهار! وأنت رسول‬
‫اهلل وصفوته‪ ،‬وهذه خزانتك؟! فقال‪« :‬يا ابن اخلطاب! أال ترضى أن تكون‬
‫(‪)3‬‬
‫لنا اآلخرة وهلم الدنيا»؟‬
‫فلما فتح اهللُ عليه الفتوح‪ ،‬مل يستأثر مبا أعطاه اهلل‪ ،‬بل قام فقال ×‪:‬‬
‫«أنا أوىل باملؤمنني من أنفسهم‪ ،‬فمن تُويف من املؤمنني فرتك دَيناً فعليّ‬
‫قضاؤه‪ ،‬ومن ترك ماالً فلورثته»(‪.)4‬‬
‫اللهم ال جتعل الدنيا أكرب همنا‪ ،‬وال مبلغ علمنا‪ ،‬وال غاية رغبتنا‪،‬‬
‫واجعل احلياة زيادة يف كل خري‪ ،‬واملوت راحة لنا من كل شر‪ ،‬وجننا من‬
‫الفنت ما ظهر منها وما بطن‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ليس من لوازم الغربة الدينية أال يكون لك دار وزوجة وأوالد‬
‫وجتارة‪ ،‬لكن الذي يلزم هو أال تُعلق قلبك بها ‪.‬‬
‫من باع الباقي بالفاني فما شم رائحة الزهد ‪.‬‬
‫من أعظم النصائح حلياة القلوب‪ :‬بيان حقيقة الدنيا ‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية احلادية و الثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫إن اهلل طيس ال يقبل إال طيباً‬
‫ِمن أعظم ما حيصل به طيبة األعمال للمؤمن‬
‫طيب مطعمه‪ ،‬وأن يكون من حالل‪ ،‬فبذلك‬
‫يزكو عملُه‪( .‬ابن رجب)‪.‬‬

‫ما أطيب هذه القاعدة! اليت ترشد إىل شيء مما ينبغي أن تكون عليه‬
‫العالقة بني العبد وربه‪.‬‬
‫إن يف النفوس املؤمنة رغبةً يف التصدق والبذل‪ ،‬وميالً قوياً إلخراج‬
‫بعض ما رزقها اهلل من فضله الواسع‪ ،‬فتأتي هذه القاعدة لرتسم املنهج الذي‬
‫جيب أن يدركه كلُّ مؤمن‪ ،‬وأن مقياس القبول عند اهلل ليس بكثرةٍ وال عدد‪،‬‬
‫بل بصفة ذلك الذي خيرجه اإلنسان ويبذله‪.‬‬
‫ولئن كانت هذه القاعدة النبوية «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً» ظاهرةَ‬
‫االرتباط بالشأن املالي؛ فهي تتسع – أيضاً – لتشمل ما هو أوسع من ذلك‪،‬‬
‫فيدخل فيها كل األعمال واألقوال‪ ،‬بل حتى الذوات‪ ،‬تأمل معي – أيها‬
‫القارئ – هذه اآليات الكرمية‪:‬‬
‫قال تعاىل يف سياق غزوة أحد‪ :‬ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬

‫‪217‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ‬
‫[آل عمران‪ ]179 :‬فهذا ِذكر الطيب يف متييز القلوب الطيبة من ضدها‪.‬‬
‫وقال سبحانه يف سياق غزوة بدر‪ :‬ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭼ [األنفال‪ ]37 ،36 :‬إنه متحيص الطيب‬
‫من اخلبيث يف األموال‪ ،‬فتأمل كيف أن هذه األموال العظيمة اليت ينفقها‬
‫الكفار يف حرب اإلسالم جيمعها وصف واحد‪ :‬وهو اخلبث‪ ،‬وإن بلغت‬
‫املليارات!‬
‫ويف مقام طيب األعمال واألقوال والعقائد؛ يقول اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﭼ [فاطر‪.]10 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهذه القاعدة «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً» تتسع لتشمل هذه‬
‫املعاني كلها‪ ،‬فهي حِكمة نبوية تضع األساس حلياة طيبة‪ ،‬وآخرة سعيدة‪.‬‬
‫ولعظيم مدلول هذه القاعدة؛ قال اإلمام أبو داود السجستاني –‬
‫صاحب السنن –‪ :‬نظرتُ يف احلديث املسند؛ فإذا هو أربعة آالف حديث! ثم‬
‫نظرت؛ فإذا مدار أربعة آالف حديث على أربعة أحاديث‪ ،‬وذكر منها هذه‬

‫‪218‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً»‪ ،‬ثم قال‪ :‬فكل حديث من هذه ربع‬
‫العلم»(‪ !)1‬فقاعدتنا هذه – أيها األخ الكريم – هي رُبع العلم! ومن عرف‬
‫سعة العلم وتبحُّرَه بان له قدرُ هذه القاعدة العظيمة‪ ،‬ومعنى كونها ربع‬
‫العلم‪.‬‬
‫إن الطيب الذي عناه النيب × يف هذه القاعدة‪« :‬إن اهلل طيبٌ ال يقبل‬
‫إال طيباً» يعين‪ :‬الطاهر املنزّه عن النقائص‪ ،‬الذي ال يعرتيه اخلُبث بأي حالٍ‬
‫من األحوال(‪« ،)2‬وإذا ُوصِف به العبدُ مطلقاً أُريدَ به‪ :‬أنه املتعري عن رذائل‬
‫األخالق‪ ،‬وقبائح األعمال‪ ،‬واملتحلي بأضداد ذلك‪ ،‬وإذا وُصف به األموالُ‬
‫أريدَ به كونه حالالً من خيار األموال»(‪.)3‬‬
‫فهو يف حق اهلل تعاىل يعين أنه سبحانه وتعاىل طيّب يف ذاته‪ ،‬طيّب يف‬
‫أمسائه‪ ،‬طيب يف صفاته‪ ،‬طيب يف أفعاله‪ ،‬طيب يف أحكامه‪ ،‬ذاته هي الطاهرة‬
‫املقدسة‪ ،‬وأمساؤه هي احلسنى البالغة يف احلسن منتهاه‪ ،‬وصفاته هي العلية‬
‫البالغة يف العلو أقصاه‪ ،‬وأفعاله هي احلائزة من اخلري أزكاه‪ ،‬وأحكامه هي‬
‫العدل الذي لن جتد البشرية طريقاً إىل العدل سواه‪ :‬ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﭼ [األعلى‪.]1 :‬‬
‫وملا كان سبحانه وتعاىل طيب ًا مل يقبل أن يصعد إليه من العباد إال ما‬
‫كان طيباً «ال يقبل من األعمال إال ما كان طيباً طاهراً من املفسدات كلها –‬
‫كالرياء والعجب –وال من األموال إال ما كان طيباً حالالً؛ فإن الطيب‬

‫‪219‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫يوصَف به األعمال واألقوال واالعتقادات‪ ،‬فكل هذه تنقسم إىل طيِّبٍ‬


‫وخبيث‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إنه يدخل يف قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ [املائدة‪]100 :‬هذا كلُّه‪.‬‬
‫وقد قسّم اهللُ تعاىل الكالم إىل طيِّب وخبيث؛ فقال‪ :‬ﭽ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ [إبراهيم‪ ،]24 :‬ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢﭣﭼ [إبراهيم‪ ،]26 :‬وقال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﭼ‬
‫[فاطر‪ ،]10 :‬وَوُصف الرسولُ × بأنه يُحل الطيبات ويُحرِّم اخلبائث»(‪.)1‬‬
‫فانظر – أيها احملب هلل ورسوله – فيما تأتي وتذر‪ :‬أهو طيب فتكثر‬
‫منه؟ أم خبيث فتتجنبه؟‬
‫إنه ميزان جييب عن كثري من التساؤالت اليت قد يطرحها بعض‬
‫اجملادلني بغري حق‪ ،‬ولو أنهم طبقّوا هذه القاعدة السرتاحوا وأراحوا!‬
‫جتد بعض الناس املبتلني بالتدخني – مثالً – جيادلك يف حِلّه وحرمته‪،‬‬
‫ومن أقصر الطرق لذلك أن يُذكّر هذا املسلم مبثل هذه القاعدة‪« :‬إن اهلل‬
‫طيبٌ ال يقبل إال طيباً» فباهلل عليك‪ ،‬مع أي القسمني تضع هذا الشراب؟ مع‬
‫الطيب أم اخلبيث؟ فلن يرتدد عاقل بأنه خبيث‪ ،‬إذن‪ :‬فاهلل تعاىل ال يقبله وال‬
‫حيبه!‬
‫إذا تبني هذا‪ :‬فاعلم – أيها املوفق – أن هذا «الطيب» الذي ال يقبل‬

‫‪220‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اهلل سواه‪ ،‬ميتد زمانه إىل الدار اآلخرة‪ ،‬فلن يدخل اجلنة إال نفسٌ طيبة‪ ،‬وهي‬
‫النفس املؤمنة‪ ،‬فالنفوس اخلبيثة ال تصلح أن تكون يف اجلنة الطيبة اليت ليس‬
‫فيها من اخلبث شيء‪ ،‬بل إذا كان يف النفس خبثٌ – وصاحبُها من أهل‬
‫طهّرت وهُذّبت حتى تصلح لسكنى اجلنة‪ ،‬كما يف الصحيح من‬
‫التوحيد – ُ‬
‫حديث أبي سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪ ،‬عن النيب ×‪« :‬إن املؤمنني إذا‬
‫جنوا من النار – أي عربوا الصراط – وقفوا على قنطرة بني اجلنة والنار؛‬
‫فيقتص لبعضهم من بعض؛ مظاملَ كانت بينهم يف الدنيا‪ ،‬فإذا هُذّبوا وُنقّوا‪:‬‬
‫أُذن هلم يف دخول اجلنة»(‪.)2( )1‬‬
‫فليحرص كل مؤمن أن يكون «كلُّه طيّبا‪ :‬قلبُه ولسَانُه وجسَدُه؛ مبا‬
‫سكن يف قلبِه من اإلميان‪ ،‬وظهرَ على لسانه من الذِّكر‪ ،‬وعلى جوارحه من‬
‫األعمال الصاحلة‪ ،‬اليت هي مثرةُ اإلميان‪ ،‬وداخلةٌ يف امسه‪ ،‬فهذه الطيبات‬
‫كلها يقبلها اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ومن أعظم ما حيصل به طِيب األعمال للمؤمن‪ :‬طِيب مطعمه‪ ،‬وأن‬
‫يكون من حالل؛ فبذلك يزكو عملُه»(‪ ،)3‬وهذا – لعمر اهلل – من أهم‬
‫املطالب وأعالها عند أهل اإلميان‪ ،‬ولو كان أحدٌ يستغين عن الوصية بذلك‬
‫الستغنى الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬الذين خاطبهم اهلل بقوله‪ :‬ﭽﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﭼ [املؤمنون‪.]51 :‬‬
‫والطيبات – كما يقول الشنقيطي رمحه اهلل –‪« :‬هي احلالل الذي ال‬

‫‪221‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫شبهة فيه‪ ،‬وأن يعملوا العمل الصاحل‪ ،‬وذلك يدل على أن األكل من احلالل‬
‫له أثر يف العمل الصاحل‪ ،‬وهو كذلك» ثم قال‪« :‬وتأثري األكل من احلالل يف‬
‫األعمال معروف»(‪.)1‬‬
‫فإن قلتَ‪ :‬كيف منيز بني الطيب واخلبيث؟‬
‫فاجلواب عن ذلك‪ :‬أن مدار معرفة الطيب من اخلبيث وضابطه‪ :‬هو‬
‫شرعُ اهلل تعاىل‪ ،‬وال ميكن أن يُرَد هذا إىل عقول الناس؛ ألنه يفتح من الشر‬
‫واخلالف ما اهلل به عليم‪ ،‬فمن الناس مثالً من يستقذر ويستخبث بعض‬
‫املباحات‪ ،‬ومنهم – ممن انتكست فطرته – من يستطيب احملرمات!‬
‫اللهم اجعلنا طيبني مطيَّبني‪ ،‬يف اعتقادنا وأقوالنا وأفعالنا‪ ،‬واجعل‬
‫حياتنا طيبة‪ ،‬وقلوبنا سليمة‪ ،‬وال تكلنا إىل أنفسنا طرفة عني‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫كل طيب مقبول ولو قل‪ ،‬وكل خبيث مردود ولو عظم‪.‬‬
‫الطيب ما طيبه الشرع‪ ،‬واخلبيث ما استخبثه الشرع‪.‬‬
‫أطب عملك يطب أجرك‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثانية والثالثون‪:‬‬


‫مثل اجلليس الصاحل واجلليس السوء‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫كحامل املسك‪ ،‬ونافخ الكري‬

‫كونوا مع اهلل‪ ،‬فإن مل تقدروا أن تكونوا مع‬


‫اهلل فكونوا مع من يكون مع اهلل‪.‬‬
‫(بعض العارفني)‬

‫إنها قاعدة قصرية العبارات‪ ،‬كثرية العرب والعظات‪.‬‬


‫وهي من جهة البيان البالغي فيها‪ « :‬لفٌّ ونشرٌ مرتّب؛ فأصل‬
‫الكالم‪ :‬مثل اجلليس الصاحل كحامل املسك‪ ،‬ومثل اجلليس السوء كنافخ‬
‫الكري‪ ،‬واملعنى‪ :‬أن النيب × شبّه اجلليس الصاحل يف دينه وخُلقه مبن‬
‫حيمل معه مسكاً‪ ،‬وشبّه جليس السوء مبن ينفخ كرياً – وهو آلة من اجللد‬
‫ينفخ بها احلداد على النار»(‪.)2‬‬
‫إن داللة هذه القاعدة النبوية يف احلث على اختيار الصحبة الصاحلة‬
‫والتحذير من ضدهم بينّةٌ واضحة‪ ،‬وهذا املثل خيتصر عبارات كثرية لبيان‬
‫حال الصحبتني‪:‬‬

‫‪223‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أما اجلليس الصاحل – وهو املثل األول – فأنت معه يف غُنمٍ على كل‬
‫حال‪ ،‬كحامل املسك الذي تنتفع مبا معه من املسك‪ ،‬إما ببيع‪ ،‬أو هبة‪ ،‬وأقلُّ‬
‫أحواله أن جتد منه الرائحة الطيبة‪.‬‬
‫وهذه املغامن من صحبته‪ ،‬قد تكون دينية أو دنيوية‪ ،‬فلن تعدم منه إما‬
‫علماً‪ ،‬أو تنبيهاً على خطأ‪ ،‬أو داللة على خري يف دينك أو دنياك‪ ،‬أو حيذِّرك‬
‫مما يضرك‪ ،‬ويبصِّرك بعيوب نفسك‪ ،‬ويدعوك إىل مكارم األخالق بقماله‬
‫وفعاله ومسته وهديه‪ ،‬فإن اإلنسان – بطبعه – جمبول على التأثر بصاحبه‪،‬‬
‫واألرواح جنود جمندة‪ ،‬والناس – كما قيل – كأسراب القطا‪ ،‬يتبع بعضها‬
‫بعضا‪.‬‬
‫«وأقلُّ ما تستفيده من اجلليس الصاحل – وهي فائدة ال يُستهان بها –‪:‬‬
‫أن تكف بسببه عن السيئات واملعاصي؛ رعاية للصحبة‪ ،‬ومنافسة يف اخلري‪،‬‬
‫وترفعاً عن الشر‪ ،‬وأن حيفظك يف حضرتك ومغيبك‪ ،‬وأن تنفعك حمبتُه‬
‫ودعاؤه يف حال حياتك وبعد مماتك‪ ،‬وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك‪،‬‬
‫وحمبته لك‪ ،‬وفوائد األصحاب الصاحلني ال تُعد وال حتصى»(‪.)1‬‬
‫وأما املثل الثاني – وهو جليس السوء‪ ،‬فهو ضرر من مجيع الوجوه‪ ،‬ال‬
‫غُنم فيه‪ ،‬بل كله غُرم وخسارة عاجلة وآجلة! وهلل كم هلكت أديان أناس‬
‫وضاعت دنياهم بسبب جلساء السوء! وكم قادوا أصحابهم إىل املهالك‬
‫شعروا أم مل يشعروا! أمل يكن أصدقاء السوء سبباً من أسباب بقاء عم النيب‬
‫× على ملة الكفر؟ أمل يكونوا سبباً يف خواتيم سوء لعدد من أصدقائهم‪،‬‬

‫‪224‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫حني زيّنوا هلم حياة الفحش والبذاء‪ ،‬بعد أن كانوا أعفةً كرماء؟!‬
‫وهلذا فإن من أعظم نعم اهلل على العبد‪ :‬أن يوفقه لصحبة األخيار‪،‬‬
‫ومن أعظم صور العقوبات‪ :‬أن يبتليه بصحبة األشرار‪.‬‬
‫وما أمجل أن يتأمل املؤمن ويتدبر هذه اآلية املخيفة! ﭽ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚﮛﮜ ﮝﮞ ﮟﮠ ﮡﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الفرقان‪ ]29–27:‬لقد بلغ به الندم مبلغه‪ ،‬حبيث مل‬
‫يكتف بعض أصبع أو أصبعني أو ثالثة‪ ،‬بل عض كلتا يديه! لشدة ما يعانيه‬
‫من الندم الذي عبّر عنه بعض اليدين‪ ،‬وهي حركة معهودة يرمز بها إىل حالة‬
‫نفسية ظهرت آثارها على اجلسد! وهذا شيء يلحظه اإلنسان يف الدنيا‪،‬‬
‫حينما يعيش اإلنسان حلظات قلق‪ ،‬أو خوف‪ ،‬فاللهم ال توقفنا ذلك املوقف‪.‬‬
‫يَ ـزِينُ وَيُــزري بــالفتى قُرَنَــاؤُهُ‬ ‫وَصَاحِبْ إذا صَاحَبْتَ حُرّاً فإمنا‬

‫إن من أجلِّ ما ترشدك إليه هذه القاعدة اجلليلة‪:‬‬


‫التحذيرُ من جمالسة من يتأذى مبجالسته – كاملغتاب واخلائض يف‬
‫الباطل –‪ ،‬والندب إىل من ينال مبجالسته اخلري‪ :‬مِن ذكر اهلل‪ ،‬وتعلُّم العلم‪،‬‬
‫وأفعال الربِّ كلِّها‪ ،‬وقد قيل يف احلكمة‪« :‬مصاحبة األخيار تورث اخلري‪،‬‬
‫ومصاحبة األشرار تورث الشر‪ ،‬كالريح إذا هبّت على الطِيْب عبقت طيباً‪،‬‬
‫وإن مرت على النَّتَن محلت نتناً‪ ،‬وقيل‪ :‬إذا جالستَ احلمقى علِق بك من‬
‫محاقتهم ما ال يعلَق لك من العقل إذا جالست العقالء؛ ألن الفساد أسرع إىل‬
‫الناس وأشد اقتحاماً يف الطبائع»(‪.)1‬‬

‫‪225‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«وقالوا‪ :‬إياك وجمالسة األشرار؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت ال‬
‫تدري‪ ،‬وليس إعداء اجلليسِ جليسَه مبقالِه وفعالِه فقط‪ ،‬بل بالنظر إليه!‬
‫والنظرُ يف الصور يورث يف النفوس أخالقاً مناسبة خلُلُق املنظور إليه؛ فإن من‬
‫دامت رؤيتُه للمسرور سُرّ‪ ،‬أو للمحزون حزِن‪ ،‬وليس ذلك يف اإلنسان فقط؛‬
‫بل يف احليوان والنبات‪ ،‬فاجلمل الصعب يصري ذَلوالً مبقاربة اجلمل الذَّلول‪،‬‬
‫والذلول قد ينقلب صعباً مبقارنة الصعاب‪ ،‬والرحيانة الغضة تذبل مبجاورة‬
‫الذابلة‪ ،‬وهلذا يلتقط أهل الفالحة الرمم عن الزرع لئال تُفسدها‪ ،‬ومن‬
‫املُشاهد أن املاء واهلواء يفسدان مبجاورة اجليفة‪ ،‬فما الظن بالنفوس البشرية‬
‫اليت موضعها لقبول صور األشياء خريها وشرها؟ فقد قيل‪ :‬مسي اإلنس‬
‫ألنه يأنس مبا يراه خرياً أو شراً»(‪.)1‬‬
‫وأنشد بعضهم‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فـإن مل جتـد منـه حميصـاً فــداره‬ ‫جتنب قريب السوء واصرم حباله‬
‫تنل منه صفو الود مـا مل تُمـاره‬ ‫والزم حبيــب الصــدق واترمــراءه‬
‫جيــده وراء البحــر أو يف قــراره‬ ‫ومن يزرع املعروف مع غـري أهلـه‬
‫ولكنهــــا حمفوفــ ـ ٌة باملكــــاره‬ ‫وهلل يف عــرض الســماوات جنــةٌ‬

‫قال ابن حبان – رمحه اهلل‪« :‬وصحبة األشرار‪ :‬تورث سوءَ الظن‬
‫باألخيار‪ ،‬ومَن خا َدنَ األشرار مل يسلم من الدخول يف مجلتهم‪ ،‬فالواجب‬
‫الريَب لئال يكون مريباً‪.‬‬
‫على العاقل أن جيتنب أهل ِّ‬

‫‪226‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قليلٌ فصلهم دون من كنـت تصـحب‬ ‫عليــك بــإخوان الثقــات فــإنهم‬


‫( ‪)1‬‬
‫متى ما جتالس سفلة الناس تغضب‬ ‫ونفسك أكرمهـا وصُـنْها فإنهـا‬

‫واحلاصل‪ :‬أن الصحبة تؤثر وال بد؛ ولذا أمر اهلل الصحابة ومن‬
‫بعدهم – بعد قصة ختلف الثالثة عن غزوة تبوك – بأمرٍ ذي داللة بالغة ملن‬
‫عرف جممل القصة‪ ،‬فإن اهلل تعاىل قال‪ :‬ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭼ [التوبة‪ ،]119 :‬فإنك إذا تأملتَ – أيها‬
‫املؤمن – يف سبب جناة كعب وصاحبيه – مع شدة ما عانوا طيلة مخسني ليلة‬
‫– هو صدقهم وصحبتهم للصادقني‪ ،‬وما أهلك من هلك من املنافقني إال‬
‫كذبهم وصحبتهم ألمثاهلم من أهل النفاق‪.‬‬
‫مجيل – أيها املسلم – أن جتعل هذه القاعدة الشريفة دائمًا على بالك‬
‫وأنت ختالط الناس‪ ،‬سواءٌ كانوا أقارب أم أباعد‪ ،‬يف العمل أو التجارة‪ ،‬أو‬
‫غريها‪ ،‬وأن تعترب مبا مسعتَ من قصص يف الطرفني‪ ،‬يف حق من صحبوا‬
‫األشرار واألخيار‪ ،‬ومن الذي ينسى قصة موت أبي طالب عم النيب ×‬
‫على الشرك؟ لقد كان من أسبابها الواضحة‪ :‬حضور أبي جهل وعبداهلل بن‬
‫أبي أمية بن املغرية‪ ،‬وتذكريه بآهلة اآلباء واألجداد‪ ،‬ورددوا عليه تلك العبارة‬
‫اآلمثة‪ :‬أترغب عن ملة عبداملطلب! حتى مات على الكفر – والعياذ باهلل –‪.‬‬
‫ومن تتبع قصص املتورطني يف عامل املخدرات؛ فإنه سيجد إمجاعاً على‬
‫أن من أعظم أسباب السقوط يف هذا الوحل هم أصدقاء السوء‪ ،‬ومثل ذلك‬

‫(‪ )1‬روضة العقالء‪( :‬ص‪.)100‬‬

‫‪227‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ما يُسمع بني فينة وأخرى عن قصص مبكية من سوء اخلامتة ألناس عاشوا‬
‫بني أُسَر صاحلة؛ لكن أولئك تركوا تلك البيئة الطيبة واستبدلوها بسيئة‪،‬‬
‫وصحبوا أهل الشر حتى ختم هلم بسوء والعياذ باهلل‪.‬‬
‫ويف املقابل‪ :‬انظر إىل أثر صحبة األخيار كيف تؤثّر‪ ،‬فالغالم اليهودي‬
‫الذي كان خيدم النيب × – وهي جمرد خدمة – أثّرت يف نفسه تلك الصحبة‬
‫ت على اإلسالم‪ ،‬وجناة من النار‪.‬‬
‫واملعاملة الطيبة‪ ،‬فكانت خامتتها‪ :‬مو ٌ‬
‫وقصةُ أصحاب الكهف منوذج مشرق يف تقرير هذا املعنى‪ ،‬ومن‬
‫لطائف تعليقات أهل العلم على هذه القصة‪ :‬أنه ملا كان الكلب مصاحباً‬
‫هلؤالء األخيار نالته بركتهم – وهو كلب – فذكره اهلل يف القرآن أربع مرات‪،‬‬
‫قال ابن عطية – رمحه اهلل – يف تفسريه‪ :‬حدثين أبي‪ ،‬قال‪ :‬مسعت أبا الفضل‬
‫اجلوهري – يف جامع مصر – يقول على منرب وعظه‪« :‬إن من أحب أهل‬
‫اخلري نال من بركتهم‪ ،‬كلب أحب أهل فضل وصَحِبهم فذكره اهلل يف حمكم‬
‫تنزيله»(‪.)1‬‬
‫وما أعظم القرآن حني يقرر هذه احلقيقة العظيمة اليت دلت عليها هذه‬
‫القاعدة النبوية العظيمة‪« :‬مثل اجلليس الصاحل واجلليس السوء‪ :‬كحامل‬
‫املسك‪ ،‬ونافخ الكري» حيث يقول اهلل تبارك وتعاىل‪ :‬ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الفرقان‪ ]29 :‬فهل من مدكر؟‬

‫‪228‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اللهم ال تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‪ ،‬وهب لنا من لدنك رمحة إنك أنت‬
‫الوهاب‪ ،‬ووفقنا لصحبة األخيار‪ ،‬ومواالة األبرار‪ ،‬وقنا شر األشرار وكيد‬
‫الفجار‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ضرب األمثال أسلوب شرعي من أساليب التعليم‪.‬‬
‫ليست القضية أن يكون لك صاحب‪ ،‬لكن من تصاحب!‬
‫جليس اخلري كله منافع‪ ،‬وجليس الشر كله مضار‪.‬‬
‫مستواك واهتماماتك يؤثر فيها من يصحبك‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة الثالثة والثالثون‪:‬‬


‫ما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً‬
‫( ‪)1‬‬

‫من شهد مشهد العفو والصفح واحللم وفضله‬


‫شى يف‬
‫وحالوته وعزته؛ مل يعدل عنه إال لعَ ً‬
‫بصريته‪( .‬ابن القيم)‪.‬‬

‫يتوقف املؤمن – وهو يقرأ أو يستمع هلذه اجلملة – ليستحضر يف ذهنه‬


‫صوراً دامية من تاريخ العرب يف اجلاهلية الذين تقوم بينهم حروب من أجل‬
‫أمور تافهة‪ ،‬ويستحضر – أيضاً – األنفة اليت جبل عليها اآلدمي – والعربي‬
‫خصوصاً – من العفو عمن ظلمه‪ ،‬فتأتي هذه القاعدة لتضبط مسار فهمه‬
‫وفكره؛ ليقف على معنىٍ راقٍ‪ ،‬وهداية نبوية عظيمة‪ ،‬يف باب التعامل مع‬
‫أخطاء اآلخرين معنا‪.‬‬
‫يستعرض اإلنسان – وهو يقرأ هذه القاعدة – مناذج نبوية عملية‬
‫تطبيقية هلذه القاعدة اليت ال يسهل تطبيقها إال على عظماء الرجال‪.‬‬
‫فمن الذي ينسى موقفه × يف فتح مكة؟ حني صارت رقاب صناديد‬
‫الكفر حتت قدميه‪ ،‬وهم ينتظرون ماذا يصنع بهم‪ ،‬فإذا حديث العفو‪ ،‬وإذ‬
‫الرمحة النبوية تتجلى يف أبهى صورها‪ ،‬وإذ أحب الكلمات اليت حيب أن‬

‫‪230‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يسمعها املخطئ واملُ ْذنِبُ تالمس آذانهم‪ :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء! فصلوات اهلل‬
‫وسالمه على صاحب اخللق العظيم‪ ،‬الذي ما زال منذ نزلت عليه يف مكة‬
‫ويف أوائل البعثة‪ :‬ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ ما زال يرتقى يف مدارج‬
‫األخالق‪ ،‬حتى لقي ربه‪.‬‬
‫«ما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً» وكيف ينال العز بالعفو؟ واجلواب‪:‬‬
‫ألن العايف يف مقام الواهب واملتصدق؛ فيعز بذلك(‪.)1‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬ألنه إذا عرف بالعفو ساد‪ ،‬وعظم يف القلوب‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وزاد عزه‪.‬‬
‫ويوضح السعدي رمحه اهلل هذا العز يف العفو فيقول‪« :‬وأما العفو عن‬
‫جنايات املسيئني بأقواهلم وأفعاهلم‪ :‬فال يتوهم منه الذل‪ ،‬بل هذا عني العز‪،‬‬
‫فإن العز‪ :‬هو الرفعة عند اهلل وعند خلقه‪ ،‬مع القدرة على قهر اخلصوم‬
‫واألعداء‪.‬‬
‫ومعلوم ما حيصل للعايف من اخلري والثناء عند اخللق‪ ،‬وانقالب العدو‬
‫صديقاً‪ ،‬وانقالب الناس مع العايف‪ ،‬ونصرتهم له بالقول والفعل على‬
‫خصمه‪ ،‬ومعاملة اهلل له من جنس عمله؛ فإن من عفا عن عباد اهلل عفا اهلل‬
‫عنه»(‪.)3‬‬
‫ويف الرتمذي بسند فيه ضعف‪ :‬أن رجالً جاء إىل النيب × فقال‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬كم أعفو عن اخلادم؟ فصمت رسول اهلل × ثم قال‪ :‬يا رسول‬

‫‪231‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫اهلل‪ ،‬كم أعفو عن اخلادم؟ فقال‪« :‬كل يوم سبعني مرة»(‪.)1‬‬


‫وهلذا ورد يف األثر‪ :‬أن محلة العرش يسبحون اهلل‪ ،‬فيقول بعضهم‪:‬‬
‫«سبحانك على حلمك بعد علمك»‪ ،‬ويقول بعضهم‪« :‬سبحانك على عفوك‬
‫بعد قدرتك»(‪.)2‬‬
‫قال بعض املفسرين يف قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ [النساء‪« :]149 :‬اعلم أن معاقد‬
‫اخلريات – على كثرتها – حمصورة يف أمرين‪ :‬صدقٌ مع احلق‪ ،‬وخُلقٌ مع‬
‫اخلَلق‪.‬‬
‫والذي يتعلق باخلَلق حمصور يف قسمني‪ :‬إيصال نفعٍ إليهم‪ ،‬ودفع ضررٍ‬
‫عنهم‪ ،‬فقوله‪ :‬ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ إشارة إىل إيصال النفع إليهم‪،‬‬
‫وقوله‪ :‬ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ إشارة إىل دفع الضرر عنهم؛ فدخل يف هاتني‬
‫الكلمتني مجيعُ أنواعِ اخلري وأعمالِ الرب»(‪.)3‬‬
‫« إذا جنى عليك أحدٌ وظلمك يف مالك‪ ،‬أو يف بدنك‪ ،‬أو يف أهلك‪ ،‬أو‬
‫يف حقٍ من حقوقك؛ فإن النفس شحيحة تأبى إال أن تنتقم منه‪ ،‬وأن تأخذ‬
‫حبقك‪ ،‬وهذا لك‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﭼ [البقرة‪ ،]194 :‬وقال تعاىل‪ :‬ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧﯨ ﭼ [النحل‪ ،]126 :‬وال يالم اإلنسان على ذلك‪ ،‬لكن إذا همّ‬
‫بالعفو‪ ،‬وحدّث نفسه بالعفو؛ قالت له نفسه األمارة بالسوء‪ :‬إن هذا ذل‬
‫وضعف‪ ،‬كيف تعفو عن شخص جنى عليك أو اعتدى عليك؟!‬

‫‪232‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فيقول الرسول عليه الصالة والسالم‪« :‬وما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً»‬
‫والعز ضد الذل‪ ،‬والذي حتدثك به نفسك – أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام‬
‫من اعتدى عليك؛ فهذا – من خداع النفس األمارة بالسوء‪ ،‬ونهيها عن‬
‫اخلري! فإن اهلل تعاىل يثيبك على عفوك هذا‪ ،‬فاهلل ال يزيدك إال عزاً ورفعة يف‬
‫الدنيا واآلخرة»(‪.)1‬‬
‫وحينما نطالع كتب األخالق والرقاق جند سلفنا الصاحل قد ضربوا‬
‫أروع األمثلة قوالً وفعالً هلذا اخللُق الكريم‪.‬‬
‫قال علي رضي اهلل عنه‪ :‬إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه‬
‫شكراً للقدرة عليه‪.‬‬
‫وشتم رجلٌ الشعيبَ فجعل يقول‪ :‬أنت كذا وأنت كذا‪ ،‬فقال الشعيب‪:‬‬
‫إن كنت صادقاً فغفر اهلل لي‪ ،‬وإن كنت كاذباً فغفر اهلل لك‪.‬‬
‫وقيل للفضيل بن مروان‪ :‬إن فالناً يشتمك! فقال‪ :‬ألغيظن مَن أمره‪،‬‬
‫يغفر اهلل لنا وله‪ ،‬قيل له‪ :‬ومَن أمَرَه؟ قال‪ :‬الشيطان‪.‬‬
‫وقال احلسن‪« :‬كانوا يقولون‪ :‬أفضل أخالق املؤمنني العفو»(‪.)2‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ليس احلليم من ظُلم فحَلُم‪ ،‬حتّى إذا قدر انتقم‪ ،‬ولكنّ‬
‫(‪)3‬‬
‫احلليم من ظُلم فحَلُم‪ ،‬حتّى إذا قدر عفا‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وقال الشافعي رمحه اهلل‪:‬‬


‫أرحت نفسي من ظلم العداوات‬ ‫ملا عفوت ومل أحقـد علـى أحـد‬

‫ويف هذا املعنى يقول احلق سبحانه‪ :‬ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬


‫ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﭼ [النحل‪.]126 :‬‬
‫«ولو تأملنا حقيقة املثْلية يف رَدِّ اإلساءة لوجدناها صعبة يف تقديرها؛‬
‫فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة‪ ،‬أعندك القدرة اليت تردُّ بها هذه الضربة مبثلها متاماً‬
‫بنفس الطريقة‪ ،‬وبنفس القوة‪ ،‬وبنفس األمل‪ ،‬حبيث ال تكون أنت ُمعْتدياً؟ إنك‬
‫لو تأملتَ هذه املثلية لفضَّ ْلتَ العفو بدل الدخول يف متاهات أخرى»(‪.)1‬‬
‫قال جعفر بن حممد‪ :‬ألن أندم على العفو‪ ،‬أحب إلي من أن أندم على‬
‫(‪)2‬‬
‫العقوبة‪.‬‬
‫ولنختم بهذين املثالني العمليني‪:‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل‪« :‬ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي؛‬
‫فلينظر إىل سرية النيب × مع الناس جيدها هذه بعينها‪ ،‬ومل يكن كمال هذه‬
‫الدرجة ألحد سواه‪ ،‬ثم للورثة منها حبسب سهامهم من الرتكة‪.‬‬
‫وما رأيتُ أحداً قط أمجع هلذه اخلصال من شيخ اإلسالم ابن تيمية –‬
‫قدس اهلل روحه – وكان بعض أصحابه األكابر يقول‪ :‬وددت أني ألصحابي‬
‫مثله ألعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحد منهم قط‪ ،‬وكان يدعو‬
‫هلم‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وجئت يوماً مبشراً له مبوت أكرب أعدائه‪ ،‬وأشدهم عداوة وأذى له‪،‬‬
‫فنهرني وتنكر لي واسرتجع! ثم قام من فوره إىل بيت أهله فعزاهم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫إني لكم مكانه‪ ،‬وال يكون لكم أمرٌ حتتاجون فيه إىل مساعدة إال وساعدتكم‬
‫فيه – وحنو هذا من الكالم – فسُرُّوا به‪ ،‬ودعوا له‪ ،‬وعظّموا هذه احلال منه؛‬
‫فرمحه اهلل ورضي عنه»(‪.)1‬‬

‫واملثال اآلخر هو لإلمام أمحد رمحه اهلل‪:‬‬

‫يقول ابن كثري‪« :‬وملا رجع إىل منزله جاءه اجلراحيي فقطع حلماً ميتاً من‬
‫جسده‪ ،‬وجعل يداويه‪ ،‬والنائب يف كل وقتٍ يسأل عنه‪ ،‬وذلك أن املعتصم‬
‫ندم على ما كان منه إىل أمحد ندماً كثرياً‪ ،‬وجعل يسأل النائبَ عنه‪ ،‬والنائبُ‬
‫يستعلم خربَه‪ ،‬فلما عويف فرح املعتصمُ واملسلمون بذلك‪ ،‬وملا شفاه اهلل‬
‫بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما الربد‪ ،‬وجعل كل من آذاه يف حل إال أهل‬
‫البدعة‪ ،‬وكان يتلو يف ذلك قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [النور‪.]22 :‬‬

‫ويقول‪ :‬ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك املسلم بسببك؟! وقد قال تعاىل‪:‬‬
‫ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ [الشورى‪ ]40 :‬وينادي‬
‫املنادي يوم القيامة‪« :‬ليقم من أجره على اهلل‪ ،‬فال يقوم إال من عفا»(‪.)2‬‬

‫‪235‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫واعلم أخي أن يف الصفح والعفو واحللم‪ :‬من احلالوة والطمأنينة‬


‫والسكينة‪ ،‬وشرف النفس‪ ،‬وعزها‪ ،‬ورفعتها عن تشفيها باالنتقام‪ :‬ما ليس‬
‫شيء منه يف املقابلة واالنتقام(‪.)1‬‬
‫اللهم اعف عنا واجعلنا من العافني عن الناس‪ ،‬وارزقنا من األخالق‬
‫ما يقربنا إليك واجعلنا ممن هديتم ألحسن األخالق واألعمال واألقوال‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ليس من لوازم العز القتل والسلب والظلم‪.‬‬
‫من احلكمة وضع العفو يف موضعه‪.‬‬
‫العفو خلق عظيم‪ ،‬ال يستطيعه إال العظماء‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الرابعة والثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫نعمتان مغبو ٌن فيهما كثري من الناس‪ :‬الصحّة والفراغ‬

‫يا ابن آدم! إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم اهلل‬


‫عليك؛ فغمض عينيك‪( .‬بكر املزني)‬

‫هذه قاعدة نبوية جليلة يف فقه الوقت والعمر‪ ،‬ويف فقه الصحة والعافية‪،‬‬
‫فهي دعوة نبوية إىل التصرف األمثل‪ ،‬والتعامل األحسن مع نِعم اهلل تعاىل على‬
‫العبد يف الزمن والبدن‪.‬‬
‫وهي دعوة الغتنام الطاقات‪ ،‬واحلفاظ على اجلهود فيما يعود نفعُه على‬
‫الفرد واجملتمع‪ ،‬والرقي باحلياة إىل املستوى األفضل واألكمل‪ ،‬والبعد عن‬
‫استغالل الصحة والعافية يف إيذاء اآلخرين‪ ،‬أو السخرية من املعاقني‪ ،‬أو انتهاك‬
‫ما حرمة رب العاملني‪.‬‬
‫إن يف التعبري بالغف – وهو النقص والغلبة على الشيء – إلشارةً إىل‬
‫معنى شريف يف هذه القاعدة النبوية‪ ،‬فإن أكثر الناس قد يقاتل على الغف يف‬
‫ماله‪ ،‬أو وظيفته؛ لِتعلُّق ذلك بأمر معاشه‪ ،‬لكن قلّ منهم من يغتم ويهتمّ لضياع‬
‫وقته‪ ،‬أو اغتنام قوة بدنه فيما يفيده وينفعه‪ ،‬وهلذا يقع الغف يف ذلك‪ ،‬كما هو‬
‫مشاهد وواقع‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وال يتفطن هلذا الغف من الناس إال القلة – يف حال صحتهم وفراغهم –‬
‫أما التفطن لذلك عند وجود الشغل أو املرض فهذا قدر مشرتك بني الناس‪.‬‬
‫تأمل – مثالً – يف حال الطالب حني يقرتب وقت اختباراته؛ كيف حياصر‬
‫الوقت ليغتنم كلّ دقيقة!‬
‫وتأمل يف حال املريض حني يلجئه املرض إىل البقاء يف السرير أياماً أو‬
‫أشهراً ورمبا أكثر‪ ،‬ما الذي يتذكره حينها؟ إنهم غالباً ال يتذكرون إال حلظات‬
‫النشاط اليت كانوا يغدون فيها ويروحون‪ ،‬ويتمنون القوة ليفعلوا ويعملوا‪ ،‬لكن‬
‫بعد أن تبني الغف!‬
‫إن من الناس من ال يشعر بالغف يف وقته – وهذا نوع من العقوبة اخلفية‬
‫– وال يكتفي بهذا‪ ،‬بل تراه – لغفلته – ينقل غبنه ونقصه وتفريطه يف وقته إىل‬
‫اآلخرين من خالل السطو على أوقاتهم‪ ،‬وإشغاهلم عن أعماهلم بتافه القول‪،‬‬
‫ورديء احلديث‪ ،‬وهؤالء ممن عظمت منهم الشكوى من الغيورين على‬
‫أوقاتهم‪ ،‬والبن اجلوزي يف هذا آهات معروفة‪ ،‬منها قوله‪« :‬أعوذ باهلل من‬
‫صحبة البطالني! لقد رأيت خلقًا كثريًا جيرون معي فيما قد اعتاده الناس من‬
‫كثرة الزيارة‪ ،‬ويسمون ذلك الرتدد خدمة‪ ،‬ويطلبون اجللوس‪ ،‬وجيرون فيه‬
‫أحاديث الناس‪ ،‬وما ال يعين‪ ،‬وما يتخلله غيبة!‬
‫وهذا شيءٌ يفعله يف زماننا كثريٌ من الناس‪ ،‬ورمبا طلبه املَزُوْرُ‪ ،‬وتشوق‬
‫إليه! واستوحش من الوحدة‪ ،‬وخصوصًا يف أيام التهاني واألعياد‪ ،‬فرتاهم ميشي‬
‫بعضهم إىل بعض‪ ،‬وال يقتصرون على اهلناء والسالم‪ ،‬بل ميزجون ذلك مبا‬
‫ذكرتُه من تضييع الزمان‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فلما رأيتُ أن الزمان أشرف شيء‪ ،‬والواجب انتهابه بفعل اخلري؛ كرهت‬
‫ذلك‪ ،‬وبقيت معهم بني أمرين‪ :‬إن أنكرت عليهم وقعتْ وحشة؛ ملوضع قطع‬
‫املألوف! وإن تقبلته منهم؛ ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي‪ :‬فإذا‬
‫غُلبت؛ قصّرت يف الكالم ألتعجل الفراق»(‪.)1‬‬
‫هذا ما يدركه العاملون بقيمة الوقت يف هذه الدنيا‪ ،‬أما متى يعلم املغبونون‬
‫قيمة ما فرّطوا فيه من أوقات؟ فسيعلمونها حني ال ينفع العلم‪ ،‬سيعلمونها إذا‬
‫حضرههم أجلُهم‪ ،‬وسيعرفونها إذا كان يوم القيامة‪ ،‬تأمل هذه اآليات وتدبرها‪:‬‬
‫ﭽﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖﭼ [املؤمنون‪ ،]100 ،99 :‬ويقول سبحانه‪ :‬ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ [املنافقون‪ ،]11 – 9 :‬أمّا يف اآلخرة‬
‫فاحلسرات اليت سطرها القرآن على املفرطني‪ ،‬تأمل هذه اآلية‪ :‬ﭽ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الروم‪ ،]56 ،55 :‬ويقول تعاىل‪ :‬ﭽ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟﮠﮡ‬
‫ﮢ ﭼ [املؤمنون‪.]113 ،112 :‬‬

‫‪239‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫لقد جاء هذا التعبري النبوي العجيب‪« :‬نعمتان مغبونٌ فيهما كثريٌ من‬
‫الناس» لشحذ اهلمم‪ ،‬وليسعى كلٌ إىل ما جينِّبه عن ذلك الغف‪ ،‬وتلك اخلسارة‪.‬‬
‫واإلنسان قد يكون صحيحاً وال يكون متفرغاً للعبادة؛ الشتغاله بأسباب‬
‫املعاش‪ ،‬وقد يكون متفرغاً من األشغال وال يكون صحيحاً‪ ،‬فإذا اجتمعا للعبد‪،‬‬
‫ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل؛ فذاك الغف! كيف والدنيا سوق‬
‫(‪)1‬‬
‫الرباح‪ ،‬والعمر أقصر‪ ،‬والعوائق أكثر!‬
‫يقول الطييب – رمحه اهلل –‪« :‬ضرب النيب × للمكلف مثالً بالتاجر‬
‫الذي له رأس مال‪ ،‬فهو يبتغي الربح مع سالمة رأس املال‪ ،‬فطريقه يف ذلك‪ :‬أن‬
‫يتحرى فيمن يعامله‪ ،‬ويلزم الصدق واحلذق؛ لئال يُغف‪ ،‬فالصحة والفراغ رأس‬
‫املال‪ ،‬وينبغي له أن يعامل اهلل باإلميان‪ ،‬وجماهدة النفس وعدو الدين؛ لريبح‬
‫خريي الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقريب منه قول اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [الصف‪ ]10 :‬اآليات‪ ،‬وعليه أن جيتنب‬
‫مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان؛ لئال يضيع رأس ماله مع الربح‪ ،‬وقوله يف‬
‫احلديث‪« :‬مغبون فيهما كثري من الناس» كقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﭼ [سبأ‪ ]13 :‬فالكثري يف احلديث يف مقابلة القليل يف اآلية(‪)2‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫«وحنن نستعيذ باهلل من أن نُغف بفضل نعمته علينا‪ ،‬وجنهل نفع إحسانه‬
‫إلينا‪ ،‬وقد قيل يف منثور احلكم‪ :‬من الفراغ تكون الصبوة‪ ،‬وقال بعض البلغاء‪:‬‬

‫‪240‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫مَن أمضى يومه يف غري حقٍ قضاه‪ ،‬أو فرضٍ أداه‪ ،‬أو جمدٍ أثّله أو محدٍ حصّله‪ ،‬أو‬
‫خريٍ أسَّسه‪ ،‬أو علمٍ اقتبسه؛ فقد عقّ يومه‪ ،‬وظلم نفسه‪ ،‬وقال بعض الشعراء‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وأسباب البالء من الفـراغ»‬ ‫لقد أهاج الفراغُ عليك شـغالً‬

‫ويف هذه القاعدة النبوية‪« :‬دليل على أن نعم اهلل تتفاوت‪ ،‬وأن بعضها‬
‫أكثر من بعض‪ ،‬وأكرب نعمة ينعم اهلل تعاىل بها على العبد‪ :‬نعمة اإلسالم»(‪.)2‬‬
‫ومن احلكمة يف الربط بني الغف يف املال والصحة‪ :‬ما أشار إليه بعض‬
‫أهل العلم؛ من أن اإلنسان قد يستغين بالعافية كما يستغين باملال‪ ،‬وكلٌ فيه فتنة‪،‬‬
‫والعصمة يف حال العافية نعمة ثانية‪ ،‬كالعصمة يف الغنى نعمة النعمة‪ ،‬وهذا أحد‬
‫الوجوه يف قوله عزّ وجلّ‪ :‬ﭽﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭼ [األحقاف‪.)3(]20 :‬‬
‫قال الفضيل بن عياض‪ :‬عليكم مبداومة الشكر على النّعم؛ فقلّ نعمة‬
‫زالت عن قوم فعادت إليهم(‪.)4‬‬
‫وكان احلسن يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ‪« :‬املبادرة املبادرة! فإمنا هي األنفاس‪ ،‬لو‬
‫حبست انقطعت عنكم أعمالكم اليت تتقربون بها إىل اهلل عز وجل‪ ،‬رحم اهللُ‬
‫امرأً نظر إىل نفسه‪ ،‬وبكى على عدد ذنوبه‪ ،‬ثم قرأ هذه اآلية‪ :‬ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﭼ يعين‪ :‬األنفاس‪ ،‬آخِرُ العدد خروج نفسك‪ ،‬آخر العدد فراق أهلك‪،‬‬
‫آخر العدد دخولك يف قربك» (‪.)5‬‬

‫‪241‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«ومما يستعان به على دفع الغف يف الوقت والبدن‪:‬‬


‫أن يعلم العبد أن اهلل تعاىل خلق اخللق من غري ضرورة إليهم‪ ،‬وبدأهم‬
‫بالنعم اجلليلة من غري استحقاق منهم هلا‪ ،‬فمنّ عليهم بصحة األجسام‪ ،‬وسالمة‬
‫العقول‪ ،‬وتضمّن أرزاقهم‪ ،‬وضاعف هلم احلسنات‪ ،‬ومل يضاعف عليهم‬
‫السيئات‪ ،‬وأمرهم أن يعبدوه ويعتربوا مبا ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫ويشكروه عليها بأحرفٍ يسرية‪ ،‬وجعل مدة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء‬
‫أعمارهم‪ ،‬وجعل جزاءهم على ذلك خلوداً دائماً فى جنات ال انقضاء هلا‪ ،‬مع‬
‫ما ذخر ملن أطاعه مما ال عني رأت‪ ،‬وال أذن مسعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر!‬
‫فمن أنعم النظر يف هذا كان حرياً أال يذهب عنه وقتٌ من صحته وفراغه إال‬
‫وينفقه فى طاعة ربه‪ ،‬ويشكره على عظيم مواهبه‪ ،‬واالعرتاف بالتقصري عن‬
‫بلوغ كنه تأدية ذلك‪ ،‬فمن مل يكن هكذا‪ ،‬وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا‪،‬‬
‫ومرت أيامه عنه فى سهوٍ وهلوٍ وعجزٍ عن القيام مبا لزمه لربه تعاىل؛ فقد غف‬
‫أيامه‪ ،‬وسوف يندم حيث ال ينفعه الندم(‪.)1‬‬
‫وأيضاً‪ :‬فإن العبد إذا تذكر حلظات مرضٍ مرّت به يف سالف الدهر‪ ،‬نظر‪:‬‬
‫ما الذي كان حيب أن يفعله يف حال صحته‪ ،‬وليكن له بني الفينة واألخرى زيارة‬
‫إىل املرضى يف املستشفيات أو يف دورهم؛ ليعلم قدر ما هو فيه من نعمة‪ ،‬وكيف‬
‫حاَلَ املرضُ بني أهله وبني أكثر ما يريدون من العمل واإلجناز!‬

‫‪242‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اللهم اجعلنا ممن يرحبون صحتهم وفراغهم أعظم الربح‪ ،‬وجنبنا اخلسار‬
‫يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬واجعلنا على مرضاتك من العاملني‪ ،‬وبالفردوس األعلى‬
‫من اجلنة من الفائزين‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫صحة ‪ +‬وقت ‪ +‬استغالل = إنتاج وتقدم وحضارة‪.‬‬
‫أصحاب القبور يتمنون سجدة‪..‬فاستغل فراغك‪.‬‬
‫كثري هم البشر الذين ال يعلمون قيمة النعم إال بعد سلبها‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة والثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫املسلم من سلِم املسلمون من لسانه ويده‬

‫الناس رجالن مؤمن فال تؤذه‪ ،‬وجاهل فال‬


‫جتاهله‪( .‬الربيع ابن خيثم)‬

‫هذه قاعدة نبوية جتلِّي للعالَم احلقيقةَ اليت جيب أن يكون عليها املسلم –‬
‫ذكراً وأنثى – يف باب املعاملة مع إخوانه املسلمني‪ ،‬فاملسلم حني يتصف بهذا‬
‫الوصف العظيم؛ فهو يعلن استسالمه للذي فطر السماوات واألرض‪،‬‬
‫وألوامره ونواهيه‪ ،‬فهو بهذا يكون كاملَ اإلسالم‪ ،‬وجامعاً خلصاله‪ ،‬ما مل يؤذ‬
‫مسلماً بقولٍ وال فعل‪.‬‬
‫واملعنى أن أفضل املسلمني من مجع إىل أداء حقوق اهلل تعاىل أداء حقوق‬
‫الناس‪ ،‬والكف عن أعراضهم (‪ ،)2‬واألذى الذي يقع من اإلنسان نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬ظاهر باجلوارح‪ :‬كأخذ املال بنحو سرقة أو نهب‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬باطن‪ :‬كاحلسد والغل‪ ،‬والبغض واحلقد‪ ،‬والكرب‪ ،‬وسوء الظن‪،‬‬
‫والقسوة‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬فكله مضر باملسلم‪ ،‬مؤذٍ له‪ ،‬وقد أمر الشرع بكف النوعني‬
‫من اإليذاء‪ ،‬وهلك بذلك خلقٌ كثري(‪.)3‬‬

‫‪244‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ويف هذا احلديث أنواع من البيان النبوي الباهر‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬


‫‪ -1‬تقديم ذكر اللسان قبل اليد يف هذا احلديث حكمة؛ ذلك أن اللسان‬
‫(‪)1‬‬
‫ميكنه القول يف املاضني واملوجودين واحلادثني بعد‪ ،‬خبالف اليد‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه عبّر باللسان ومل يقل‪( :‬من قوله)‪ ،‬ولعل السبب يف ذلك أنه أعمُّ‬
‫من جهة املعنى؛ ألن التعبري باللسان يدخل فيه‪ :‬من أخرج لسانه‬
‫على سبيل االستهزاء‪ ،‬ويف ذِكر اليد دون غريها من اجلوارح نكتة‪:‬‬
‫فيدخل فيها اليد املعنوية كاالستيالء على حق الغري بغري حق(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬ختصيصه × اليدَ واللسانَ – يف األمر بكف األذى – أرفع احلِكم‪،‬‬
‫وأشرف املقاصد؛ ألن أغلب ما يُؤذَى به الناس باليد أو اللسان‪ ،‬أو‬
‫منهما معاً‪ ،‬أو بسببهما‪ ،‬أو بسبب أحدهما‪ ،‬واللسان – بال شك –‬
‫أدهى وأمرّ‪ ،‬ولعل هذا سبب تقدميه × هلا على اليد هنا‪.‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪245‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫فالسب والشتم‪ ،‬واللعن‪ ،‬والقذف‪ ،‬والغيبة‪ ،‬والنميمة‪ ،‬وقول الزور‪،‬‬


‫وشهادة الزور‪ ،‬والكذب‪ ،‬والسخرية‪ ،‬والقول على اهلل بال علم‪ ،‬ونقل‬
‫اإلشاعات الكاذبة ‪ ..‬وغريها من املوبقات؛ إمنا هي من اللسان‪ ،‬واليد بعد ذلك‬
‫– يف بعضها – يصدِّقها أو يكذبها؛ ككتابة تلك الشهادة املزورة‪ ،‬أو تلك‬
‫اإلشاعة الكاذبة‪.‬‬
‫ومن تأمل وقْع ما حيدثه القلم – الذي حتركه اليد – وأثَرَ ذلك يف العامل؛‬
‫أدرك شيئاً من مواقع هذه القاعدة العظيمة‪ ،‬رغم أن كثرياً من هؤالء قد يكونوا‬
‫ماتوا قبل قرون! فكم يف الكتب من أسطرٍ شهدت على أصحابها باألذى الذي‬
‫تنوَّع يف آثاره! فلله كم من ملحد أو منحرف الفكر سطّر بقلمه ما ضلّ بسببه‬
‫املاليني! وكم من راوٍ سطر رواية خبيثة احملتوى‪ ،‬سيئة املضمون‪ ،‬غوى بسببها‬
‫ماليني! ويقال مثل هذا يف كُتاب املقاالت الورقية واإللكرتونية‪ ،‬وأصحاب‬
‫املدونات‪ ،‬واملواقع‪ ،‬واملنتديات‪ ،‬ومواقع الفيديو‪ ،‬وغريها من وسائل التواصل‬
‫مع اخللق‪.‬‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل تأمل أثر اليد فيما توقع عليه من شهادات الزور‬
‫عند األئمة والقضاة‪ ،‬وما يرتتب على ذلك من أحكام قد تصل إىل قطع‬
‫الرقاب‪ ،‬وإزهاق األنفس‪ ،‬أو أخذ األموال!!‬
‫وبهذه املناسبة أُذكِّر نفسي وإخواني املسلمني أن يتقوا اهلل فيما يقولون‬
‫ويكتبون‪ ،‬وما عليه يوقعون؛ فإن األمر عظيم‪ ،‬ومن غفل عن هذا فليذكر نفسه‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ‬
‫[النور‪.]24 :‬‬
‫ويتأكدُ االحتياطُ يف عصرنا هذا الذي مل يَعُد اإلنسان متحكماً يف طريقة‬

‫‪246‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫النشر اليت يريدها‪ ،‬فوسائل االتصال املعاصر تفرض علينا مزيداً من االحتياط‬
‫والرتوي والتثبت‪ ،‬وإذا كان ما على الورق ال يُمحى‪ ،‬فإن ما على الشبكة‬
‫العاملية ال ميحى أيضاً‪ ،‬وإن حَذَفه ناشره‪ ،‬فاألعني واأليدي باملرصاد‪ ،‬حتفظ‬
‫وختزّن املعلومات والصور‪ ،‬وحتفظ صورة ما كتب‪ ،‬وكم من صحيفة إلكرتونية‬
‫حاولت أن حتذف شيئاً نشر فيها فما أفلحت‪.‬‬
‫وإن من اخلذالن الذي يقع لبعض املسلمني هداهم اهلل؛ أنهم يستغلون‬
‫أمثال هذه الوسائل املعاصرة – من إنرتنت وجوال وغريها – لنشر ما وقعوا فيه‬
‫من فجور وخنا‪ ،‬أو نشر ما حرّم اهلل من الصور الفاتنة‪ ،‬واملقاطع اليت تؤجج‬
‫الغرائز‪ ،‬أو حتميل األغاني‪ ،‬يُحمّلها املسكني يف دقائق على موقعه بلمسة من‬
‫يده؛ ليشاهدها املاليني‪ ،‬ورصيد سيئاته يتضخم يف اليوم والليلة!! ﭽ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨﯩ ﯪﯫﯬﯭ ﯮﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ‬
‫[املطففني‪]6 – 4 :‬؟! وهل نسي هؤالء يوم تنشر الصحف؛ لريوا حصيلة‬
‫أذيتهم لعباد اهلل بأيديهم وألسنتهم؟!‬
‫لقد منّ اهلل على بعض هؤالء اإلخوة فتاب مما كان يؤذي به عباد اهلل‪،‬‬
‫ووضع على صفحة موقعه رجاءً بعدم النقل وال إعادة ما مت حتميله من ذلك‬
‫املوقع‪ ،‬إىل غري ذلك من أنواع التوسالت – وهي مما يشكر عليه ومن متام توبته‬
‫– ولكن قد كان اهلل أغناه عن ذلك بعدم فعلها أصالً‪ ،‬ولكن تائب نادم خري من‬
‫سادر يف غيّه‪.‬‬
‫وجممل القول يف هذه القاعدة النبوية «املسلم من سلم املسلمون من لسانه‬
‫ويده»‪:‬‬

‫‪247‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«احلث على ترك أذى املسلمني بكل ما يؤذي‪ ،‬وسِرّ األمر يف ذلك‪:‬‬
‫حسن التخلق مع العالَم‪ ،‬كما قال احلسن البصري يف تفسري األبرار‪ :‬هم الذين‬
‫ال يؤذون الذر‪ ،‬وال يَرضون الشر»(‪.)1‬‬
‫ومن أراد أن يربي نفسه على ترك أذى املسلمني بلسانه ويده؛ فليتأمل‬
‫األمرين اآلتيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬هذا احلديث القدسي الذي يرويه نبينا الكريم‪ ،‬عليه الصالة‬
‫والسالم عن رب العاملني‪« :‬ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افرتضت‬
‫عليه‪ ،‬وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته‪ :‬كنت مسعه‬
‫الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده اليت يبطش بها‪ ،‬ورجله اليت ميشي‬
‫بها‪ ،‬وإن سألين ألعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني ألعيذنه»(‪.)2‬‬
‫قال اخلطابي يف معناه‪ :‬توفيقُ اهلل لعبده يف األعمال اليت يباشرها بهذه‬
‫األعضاء‪ ،‬وتيسري احملبة له فيها‪ ،‬بأن حيفظ جوارحه عليه‪ ،‬ويعصمه عن مواقعة ما‬
‫يكره اهلل‪ :‬من اإلصغاء إىل اللهو بسمعه‪ ،‬ومن النظر إىل ما نهى اهلل عنه ببصره‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ومن البطش فيما ال حيل له بيده‪ ،‬ومن السعي إىل الباطل برجله‪.‬‬
‫فاحملافظة على الفرائض‪ ،‬واإلكثار من النوافل؛ طريقك أيها املسلم ألن‬
‫يوفقك ربُك لضبط لسانك ويدك‪ ،‬ومجيع جوارحك‪.‬‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪248‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫والثاني‪ :‬أن تتذكر – أيها املسلم – حلظة وقوفك بني يدي اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وحني تعرض عليك صحيفتك! لو كانت الصحيفة مليئة بذنوب بينك وبني‬
‫اهلل! فإن املوقف يبعث على احلياء واخلجل‪ ،‬وإنها لعلى رجاء رمحة أرحم‬
‫الرامحني‪ ،‬ولكن كيف تصنع إذا كانت ذنوبك بسبب أذيتك لعباد اهلل بلسانك‬
‫ويدك؟ ذنوب كتبتها ونسيتها‪:‬‬
‫ال بـــد حيصـــى مـــا جنيـــت‬ ‫واذكــر مناقشــة احلســاب فإنــه‬
‫بــل أثبتــاه وأنــت الهٍ تلعــب‬ ‫مل ينســه امللكــان حــني نســيته‬

‫املوقف واهلل حينها موقفٌ عظيم‪ ،‬يفر املرء فيه مِن أحب الناس إليه‪،‬‬
‫الذين سيكونون أول من يطلب منه حقه إن وجد إىل ذلك سبيالً! فكيف تصنع‬
‫بأذية أناس بلغهم أذاك وأنت يف قربك بسبب ما سطرته يدك‪ ،‬أو أحدثه لسانك؟‬
‫إن املؤمن الذي يرجو لقاء اهلل ليخاف من ذنوبه وحده‪ ،‬فكيف سيتحمل ذنوباً‬
‫تسبب فيها؟ إن هذا هلو اإلفالس احلقيقي الذي أراد نبينا × أن يغرسه يف‬
‫نفوس أصحابه حني سأهلم‪« :‬أتدرون ما املفلس»؟ قالوا‪ :‬املفلس فينا من ال‬
‫درهم له وال متاع! فقال‪« :‬إن املفلس من أميت يأتي يوم القيامة بصالة وصيام‬
‫وزكاة‪ ،‬ويأتى قد شتم هذا‪ ،‬وقذف هذا‪ ،‬وأكل مال هذا‪ ،‬وسفك دم هذا‪،‬‬
‫وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته‪ ،‬وهذا من حسناته‪ ،‬فإن فنيت حسناتُه قبل‬
‫(‪)1‬‬
‫أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار»!‬

‫‪249‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب اآلخرة‪ ،‬واجعلنا ممن أسلم لك حقاً‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫اجلوارح جوارح فكن منها على حذر‪.‬‬
‫أذية املسلمني تسلبك حسنات أحوج ما تكون إليها‪.‬‬
‫من مل يرض األذية لنفسه‪ ،‬فكيف يرضاها لغريه!‬

‫‪250‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية السادسة والثالثون‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫كلكم راع‪ ،‬وكلكم مسئو ٌل عن رعيته‬
‫ليس ِمن حِلمٍ أحب إىل اهلل وال أعم نفعاً من‬
‫حلمِ إمام ورفقِه‪( .‬عمر بن اخلطاب)‬
‫ِ‬

‫هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب العالقات البشرية‪.‬‬


‫إنها قاعدة جامعة‪ ،‬بديعة التشبيه‪ ،‬بليغة املوعظة‪ ،‬إنها رسالة تقول‪:‬‬
‫كلكم راعٍ يف هذه الدنيا‪ ،‬وكلكم مسئول عن رعيته يف اآلخرة‪« ،‬وهو متثيل‬
‫ليس يف الباب ألطف وال أمجع وال أبلغ منه»(‪.)2‬‬
‫والرعي هو‪ :‬حفظ الشيء‪ ،‬وحسن التعهد له‪ ،‬والراعي‪ :‬هو احلافظ‬
‫املؤمتن‪ ،‬امللتزم صالحَ ما قام عليه وما هو حتت نظره‪ ،‬فكلّ من كان حتت‬
‫نظره شيءٌ فهو مطلوب بالعدل فيه‪ ،‬والقيام مبصاحله يف دينه ودنياه‬
‫ومتعلقاته‪ ،‬فإن وفّى ما عليه من الرعاية؛ حصل له احلظ األوفر‪ ،‬واجلزاء‬
‫(‪)3‬‬
‫األكرب‪ ،‬وإن كان غري ذلك طالَبَه كلُّ أحدٍ من رعيته حبقِّه‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ثم فصّل عليه الصالة والسالم فقال‪ :‬اإلمام راع ومسئول عن رعيته‪،‬‬
‫والرجل راع يف أهله وهو مسئول عن رعيته‪ ،‬واملرأة راعية يف بيت زوجها‬
‫ومسئولة عن رعيتها‪ ،‬واخلادم راعٍ يف مال سيده ومسئول عن رعيته» قال ابن‬
‫عمر‪ – :‬وحسبت أن قد قال –‪« :‬والرجل راع يف مال أبيه ومسئول عن‬
‫رعيته»(‪.)1‬‬
‫«هذه كلها أمانات تلزم من استُرْعِيَها أداءُ النصيحة فيها هلل‪ ،‬وملن‬
‫اسرتعاه عليها‪ ،‬ولكل واحدٍ منهم أن يأخذ مما استُرعي أمرَه ما حيتاج إليه‬
‫باملعروف – مِن نفقة ومؤنة»(‪.)2‬‬
‫«فقد استوى هؤالء يف االسم ولكن معانيهم خمتلفة‪:‬‬
‫أما رعاية اإلمام والية أمور الرعية‪ :‬فاحلياطة من ورائهم‪ ،‬وإقامة‬
‫احلدود واألحكام فيهم‪.‬‬
‫ورعاية الرجل أهله‪ :‬فالقيام عليهم باحلق يف النفقة‪ ،‬وحسن العشرة‪.‬‬
‫ورعاية املرأة يف بيت زوجها‪ :‬فحسن التدبري يف أمر بيته‪ ،‬والتعهد‬
‫خبدمة أضيافه‪.‬‬
‫ورعاية اخلادم‪ :‬فحفظ ما يف يده من مال سيده والقيام بشغله»(‪.)3‬‬
‫ولو أردنا أن نقلّب النظر يف واقع كثريٍ من املسلمني مع هذا احلديث؛‬

‫‪252‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫لوجدنا خرقاً واضحاً هلذه الوصية النبوية ولألسف‪ ،‬ولن يتعب الناظر يف‬
‫مجع الشواهد‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬التقصري البيّن يف تربية األبناء والبنات‪.‬‬
‫ولئن عذر اإلنسان بعدم قدرته على بعض الوسائل الرتبوية‪ ،‬فبماذا‬
‫يُفسّر إحضار أجهزة اللهو احملرم‪ ،‬وإدراج القنوات الفاسدة يف طبق البيت‬
‫الفضائي؟! ليخربوا بيوتهم بأيدهم‪ ،‬ويساهمون يف هدم بقايا الفطرة املوجودة‬
‫يف نفوس األبناء والبنات‪ ،‬فرأينا آثار ذلك يف أخالق وسلوكيات جيلٍ ظهر‬
‫على هذه األطباق‪ ،‬اليت قتلت املروءة‪ ،‬وأغرت بالتشبه بالكفار‪ ،‬والتعلق‬
‫بالتافهني‪.‬‬
‫ويف مقابل هذا‪ ،‬فإنين أعلم – يقيناً – أن يف البيوت نساء فاضالت‬
‫حيرصن على ترميم ما تفسده هذه األطباق اليت يصر بعض اآلباء – هداهم‬
‫اهلل – على جعلها يف متناول البنني والبنات‪ ،‬دون متييز أو متحيص‪ ،‬ولكن آلة‬
‫اهلدم أقوى من آلة البناء‪ ،‬ويف النفوس ميل إىل الشهوات‪ ،‬فكيف يكون احلال‬
‫إذا جيء مبا يؤججها؟ وماذا يقال عمن يطفئ النار بالزيت؟!‬
‫هذا يف باب املنهيات‪ ،‬وأما التقصري يف باب األوامر‪ ،‬فإن من اآلباء من‬
‫ال يأمر أوالده بالصالة وال حيضهم على ذلك‪ ،‬وهو يف املقابل لو قصّر ابنه‬
‫يف دراسته أو شأن دنياه لدارت محاليق عينيه! سبحان اهلل! أليس هلؤالء قدوة‬
‫مبن أمرنا باالقتداء بهم من أنبياء اهلل ورسله؟ فهذا إمساعيل عليه الصالة‬
‫والسالم يثين عليه ربه بقوله‪ :‬ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭼ [مريم‪ ،]55 :‬بل يقول اهلل تعاىل لنبيه ×‪ :‬ﭽ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [طه‪ ]132 :‬وتأمل يف قوله‪( :‬واصطرب)! ففيها داللة‬

‫‪253‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫واضحة على أن هذا األمر فيه مشقة وحيتاج إىل صرب خاص؛ ألن العاقبة‬
‫محيدة أو خطرية‪.‬‬
‫وإنين أُ َذكّر إخواني املسلمني – الذين يتهاونون يف مثل هذه األمور –‬
‫بقول اهلل عز وجل‪ :‬ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬﯭﯮ ﯯﯰ‬
‫ﯱ ﭼ [التحريم‪ ،]6 :‬وليحذر أن يكون أوالده وزوجته هم أول خصومه‬
‫يوم القيامة‪ :‬ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭼ [عبس‪.]37 – 34 :‬‬
‫‪ -2‬ومن صور خرق هذه القاعدة النبوية يف واقعنا‪:‬‬
‫ما يقع من تقصري بعض من أوكل إليه من قِبَل وليّ األمر إدارة أو‬
‫رئاسة أو أي وظيفة من وظائف الدولة‪ ،‬فرمبا وقع التقصري يف حضور‬
‫الدوام‪ ،‬أو إجناز ما جيب إجنازه‪ ،‬أو تأخري ما ال حيل تأخريه‪ ،‬وتعطيل مصاحل‬
‫الناس بال عذر‪ ،‬وأشدّ من هذا أخذ الرشوة مقابل سرعة اإلجناز‪ ،‬وهذا كلّه‬
‫خيانة ألئمة املسلمني وعامتهم‪ ،‬وسيسأل اهلل كلّ مقصرٍ عما اسرتعاه اهلل‪،‬‬
‫فإن فرّ يف الدنيا من احلساب‪ ،‬فأين املفر يوم القيامة؟ ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭼ‬
‫[القيامة‪.]11 :‬‬
‫‪ -3‬ومن صور التقصري املالحظة يف الواقع يف حتقيق ما دلّت عليه هذه‬
‫القاعدة النبوية «كلكم راعٍ‪ ،‬وكلكم مسئولٌ عن رعيته»‪ :‬ما يقع يف‬
‫ميدان التعليم‪ ،‬من تقصري بعض املعلمني يف النصح لتالميذهم‪،‬‬
‫ومن صور ذلك‪:‬‬
‫عدم التحضري اجليد للمادة العلمية؛ فبعض األساتذة – هداهم اهلل –‬

‫‪254‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يكرر ما عنده‪ ،‬ويردد مقوله الذي كان يقوله قبل سنوات‪ ،‬خاصة‬
‫وأن بعض املواد متجددة‪ ،‬ويقع فيها اكتشافات‪ ،‬ونوازل‪.‬‬
‫التقصري يف نصح املخطئ من الطالب‪ ،‬ذلك أن بعض الطالب توجد‬
‫منهم سلوكيات أو مظاهر غري جيدة‪ ،‬فيدخل الطالب املدرسة أو‬
‫اجلامعة ومل يسمع من أساتذته من ينبهه على خطئه‪ ،‬ولرمبا ظن أن‬
‫ما هو فيه صحيح‪ ،‬فإذا بهذا الطالب ينتقل بعد سنوات إىل ميدان‬
‫التعليم‪ ،‬فيصبح قدوة غري حسنة للطالب‪ ،‬والسبب تقصري األساتذة‬
‫يف تنبيهه‪.‬‬
‫ومن صور التقصري املشاهدة‪:‬‬ ‫‪-4‬‬
‫تقصري بعض األئمة واملؤذنني يف أداء وظيفتهم اليت أنيطوا بها‪.‬‬
‫ولعل شأن اخلطيب يف خطبة اجلمعة أشدّ وآكد‪ ،‬ومن احملزن أنك جتد‬
‫بعض اخلطباء ال يُقدّر قيمة املنرب الذي يعتليه‪ ،‬فالتحضري غري جيّد‪ ،‬واملتابعة‬
‫للمستجدات ضعيفة‪ ،‬وتطوير اخلطيب لنفسه يف األداء واألسلوب ال خيطر له‬
‫على بال‪ ،‬وهذا كلّه خمالف ملا اسرتعاه اهلل عليه من أمانة هذا املنرب‪ ،‬ولو أن‬
‫اخلطيب استشعر أنه يقوم مقام النيب × لكان األمر خمتلفاً‪.‬‬
‫أقول هذا وأنا أعلم أن كثرياً من اخلطباء – وهلل احلمد – على قدر‬
‫جيّد من رعاية هذه األمانة‪ ،‬لكن ال ينكر وجود أعداد غري قليلة يقع منها‬
‫التقصري يف هذا الباب‪.‬‬
‫وما يقال يف حق اخلطيب يقال يف حق اإلمام واملؤذن؛ فالواجب على‬
‫اجلميع رعاية هذه القاعدة النبوية‪« :‬كلكم راعٍ‪ ،‬وكلكم مسئولٌ عن رعيته»‪.‬‬
‫وتَعظُم األمانة وتكرب التبعة كلما كان املتعلقون بهذه الوظيفة أكرب‪،‬‬
‫وألجل هذا احلديث وأمثاله كان الفاروق رضي اهلل عنه يقول‪ :‬لو عثرت‬

‫‪255‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بغلة يف العراق يف الطريق خلفت أن يسألين اهلل عن ذلك‪ ،‬ملاذا مل تسوِّ هلا‬
‫الطريق يا عمر؟! فهذا خوفه رضي اهلل عنه من التقصري يف حقّ بهيمة‪،‬‬
‫فكيف باإلنسان! أم كيف باملسلم!!‬
‫ومثله قول عمر بن عبدالعزيز‪ :‬ضع احلَب على رؤوس اجلبال؛ حتى‬
‫ال يقال‪ :‬جاع الطري يف بالد املسلمني‪.‬‬
‫إن هذه القاعدة النبوية العظيمة منهجٌ عظيم يف العالقات بني اخللق‪،‬‬
‫وهو مما يربي يف املؤمن – الذي يرجو اهلل واليومَ اآلخر – اخلوف من اهلل‬
‫واستشعار األمانة‪ ،‬وأن اهلل تعاىل سائله عما اسرتعاه‪.‬‬
‫أال وإن من أعظم الزواجر اليت تزجر املؤمن عن تضييع ما اسرتعاه‬
‫اهلل – دقّت مسؤوليته أم جلّت – قوله × يف احلديث املتفق عليه‪« :‬ما من‬
‫عبد يسرتعيه اهلل رعية‪ ،‬ميوت يوم ميوت وهو غاش لرعيته‪ ،‬إال حرم اهلل عليه‬
‫(‪)1‬‬
‫ويف لفظ للبخاري‪« :‬ما من عبد اسرتعاه اهلل رعية‪ ،‬فلم حيطها‬ ‫اجلنة»‬
‫بنصيحة؛ إال مل جيد رائحة اجلنة»(‪ ،)2‬فأي مصيبة أعظم من حرمان اجلنة!‬
‫نعوذ باهلل من هذه العقوبة‪.‬‬
‫إذا تبني هذا‪ ،‬فإن من واجب من والّه اهلل تعاىل أمراً من األمور أن‬
‫جيتهد يف تولية األكفاء الناصحني الذين تربأ بهم الذمة‪ ،‬وترتفع بهم التبعة‪،‬‬
‫مع السؤال واملتابعة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ‬
‫[القصص‪.]26 :‬‬

‫‪256‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قال ابن بطّال – رمحه اهلل – يف هذا املعنى‪« :‬فينبغي هلم تولية أهل‬
‫الدين واألمانة للنظر فى أمر األمة‪ ،‬فإذا قلّدوا غريَ أهل الدين‪ ،‬واستعملوا‬
‫مَن يعينهم على اجلور والظلم؛ فقد ضيعوا األمانة التى فرض اهلل عليهم»(‪.)1‬‬
‫اللهم اجعلنا رعاة خريٍ وصدق ألنفسنا وملن وليتنا عليه‪ ،‬وأعنا إلعطاء‬
‫كل ذي حقٍ حقه‪ ،‬وأجرنا من الظلم خفيه وجليه‪ ،‬دقيقه وجليله‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ختتلف الرعاية باختالف املرعي‪.‬‬
‫بناء الثقة وحتمل املسؤلية مطلب شرعي وعقلي‪.‬‬
‫صالح اجملتمع واألمة حبسن رعاية كل فرد ملن حتت يديه‪.‬‬
‫الرعية أمانة فيجب حسن اختيار الراعي هلا‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية السابعة والثالثون‪:‬‬


‫فاظفر بذات الدين‬

‫إن كان العقد رغبةً يف الدين فهو أوثق العقود‬


‫حاالً‪ ،‬وأدومها ألفة‪ ،‬وأمحدها بدءاً وعاقبة‪.‬‬
‫(املاوردي)‬

‫ورَ َدت هذه القاعدة الشريفة ضمن حديثٍ عدّه مجعٌ مِن أهل العلم مِن‬
‫جوامع كَلِمه ×(‪ ،)1‬نذكره لنعرِّج على بعض معانيه اليت خنلص منها إىل‬
‫إشباع قاعدتنا هذه مبا تيسر مِن البيان والتوضيح‪ ،‬وذلكم احلديث هو ما رواه‬
‫عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل × قال‪« :‬تُنكح املرأةُ‬
‫ألربع‪ :‬ملاهلا‪ ،‬وحلسبها‪ ،‬ومجاهلا‪ ،‬ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تَ ِرَبتْ يداك»(‪.)2‬‬
‫فهذا احلديث الذي يتحدث عن اختيارات الناس يف هذا الباب‪:‬‬
‫فمن الناس مَن يرغب يف الزواج من املرأة الغنية؛ لتعينه على مطالب‬
‫احلياة‪ ،‬أو تُوفِّر عليه بعضَ مطالبها اخلاصة‪ ،‬أو يتمتع يف ماهلا وينعم به‪.‬‬
‫سبِ والشرف واملكانة‪ ،‬لريتفع بذلك‬
‫ومنهم مَن يرغب يف ذات احل َ‬
‫شأنه‪ ،‬فيعتز بهم من قلة‪ ،‬ويتقوى بهم من ضعف‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ومنهم من يرغب يف ذات اجلمال ؛ ليمتع نفسه بذلك‪.‬‬


‫ومنهم من يرغب يف ذات الدّين واحلَصَان‪ ،‬يأمن بدينها أن يُثلَم شَرَفُه‪،‬‬
‫أو تزِل قدمُها يف مَهواة املعاصي والشرور‪ ،‬إن غاب حفظتْ غيبه‪ ،‬وإن حَضَر‬
‫مل تقع عينُه منها على ما يكره‪.‬‬
‫وال يسرتيب إنسان أن الشرع ال مينع من تلمّس هذه املقاصد‪ ،‬بشرط‬
‫عدم إهمال املعيار األهم‪ ،‬الذي ال يصح أن يغيب عن ذهن الباحث عن‬
‫الزوجة؛ أال وهو معيار التدين‪.‬‬
‫فإن ذات الدين إذا وُجدتْ ال ينبغي العدول عنها؛ ألنها ضجيعة‬
‫الرجل وأم أوالده‪ ،‬وأمينتُه على ماله وسِره وشرَفه‪ ،‬فدينُها جيعل الرجل‬
‫مطمئناً‪ ،‬يفضي إليها بذات نفسه‪ ،‬ويُطلِعها على مكنون أمره‪ ،‬وتكونُ احلفيظةَ‬
‫على ماله ومنزله‪ ،‬املربّيةَ ألوالده على التقوى والصالح؛ فهو بها سعيد‪،‬‬
‫وهي به سعيدة‪ :‬ﭽﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ‬
‫[النساء ‪.]34 :‬‬
‫أما ذاتُ املال اليت مل تَعتصم بالدّين‪ :‬ومل تَتَحَلّ بالتقوى؛ فقلّما يدوم له‬
‫صفاؤها‪ ،‬ويُساس قِيادُها‪ ،‬وقلما تَرعى حقوقَه‪ ،‬وتكونُ له البارة املطيعة‪ ،‬وإمنا‬
‫تعتز عليه مباهلا‪ ،‬وتفخر بثرائها‪ ،‬ترى أن هلا مِن غناها ما جيعلها النافذة‬
‫الكلمة‪ ،‬املطاعة األمر‪ ،‬ذات احلرية املطلقة! وتسيّره كما تُحب وتهوى!‬
‫فينقلب األمرُ‪ ،‬وتعظم املصيبة – كما هو مشاهد بني ظهرانينا‪ ،‬مما تئن منه‬
‫احلياة الزوجية‪ ،‬ويَهدِم يف كيان األسر – وينشئ األبناءُ على أسوأ املُثُل‪،‬‬
‫وأدنى الصفات‪ ،‬ويُجعل املنزل مباءةَ مقتٍ وكُره‪ ،‬ومثابةَ شرورٍ وآالم‪ ،‬ونزاعٍ‬
‫وخصام‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وأما ذاتُ احلسَب‪ :‬فإنها تُدِل على زوجها حبَسَبها؛ وتفخر عليه‬
‫بعديدها‪ ،‬وخباصة إذا كان أقل منها عددا؛ فال يشعر معها بهناءة وال سعادة‪،‬‬
‫أو يُطأطىء هلا رأسَه‪ ،‬ويُذل نفسَه‪.‬‬
‫وأما ذاتُ اجلمال العارية من التدين‪ :‬فقد تكون مب َعثَ ظِنةٍ‪ ،‬وجملبةَ‬
‫ريبة‪.‬‬
‫ومما يُؤكَّد عليه‪ ،‬أن هذا الكالم ال يراد منه أن يُعرِض املرءُ عن ذات‬
‫املال واحلسَب واجلمال‪ ،‬ويُقبِل على املُعدمة الوضيعة الدميمة‪ ،‬بل املراد‪ :‬أال‬
‫جيعل اإلنسانُ نُصب عينه – يف اختيار الزوجة وتفضيلها – املالَ أو احلسبَ‬
‫أو اجلمالَ فقط‪ ،‬غري آبهٍ مبا عساه يكونُ هلا مِن صفاتٍ أخرى‪ ،‬وال ينقِّب عما‬
‫تتحلى به من خاللٍ قد تَفضُل ما نظر إليه منها‪ ،‬بل ليبدأ بذات الدّين‬
‫ضمّت إىل ذلك خلةٌ من اخلِالل املرغوبة كان خرياً وأفضل‪.‬‬
‫والتقوى‪ ،‬فإذا ُ‬
‫ومن مجيل ما يذكر من القصص يف هذا املعنى الذي دلّت عليه هذه‬
‫القاعدة «فاظفر بذات الدين تربت يداك»؛ ما رواه حييى بن حييى النيسابوري‬
‫قال‪:‬‬
‫كنت عند سفيان بن عيينة إذ جاءه رجل فقال‪ :‬يا أبا حممد! أشكو‬
‫إليك من فالنة – يعين‪ :‬امرأته – أنا أذلُّ األشياء عندها واحقرها! فأطرق‬
‫سفيان ملياً ثم رفع رأسه فقال‪ :‬لعلك رغبتَ إليها لتزداد بذلك عزاً؟ فقال‪:‬‬
‫نعم يا أبا حممد! فقال‪ :‬من ذهب إىل العز ابتلي بالذل‪ ،‬ومن ذهب إىل املال‬
‫ابتلي بالفقر‪ ،‬ومن ذهب إىل الدين جيمع اهلل له العز واملال مع الدين‪ ،‬ثم أنشأ‬
‫حيدثه فقال‪ :‬كنا إخوة أربعة‪ :‬حممد وعمران وإبراهيم وأنا‪ ،‬فمحمد أكربنا‬
‫وعمران أصغرنا وكنت أوسطهم‪ ،‬فلما أراد حممد أن يتزوج رغب يف‬

‫‪260‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫احلسب‪ ،‬فتزوج من هي أكرب منه حسباً فابتاله اهلل بالذل‪ ،‬وعمران رغب يف‬
‫املال فتزوج من هي أكرب ماالً منه؛ فابتاله اهلل بالفقر‪ ،‬أخذوا ما يف يديه ومل‬
‫يعطوه شيئاً‪ ،‬فنقّبتُ يف أمرهما‪ ،‬فقدم علينا معمر بن راشد‪ ،‬فشاورته‬
‫وقصصت عليه قصة أخَويّ‪ ،‬فذكّرني حديث حييى بن جعدة‪ ،‬وحديث‬
‫عائشة‪:‬‬
‫فأما حديث حييى بن جعدة قال النيب ×‪« :‬تنكح املرأة على أربع‪:‬‬
‫دينها وحسبها وماهلا ومجاهلا‪ ،‬فعليك بذات الدين تربت يداك»‪ ،‬وحديث‬
‫عائشة أن النيب × قال‪« :‬أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة»‪ ،‬فاخرتت لنفسي‬
‫الدين‪ ،‬وختفيف الظهر؛ اقتداء بسنة رسول اهلل × فجمع اهلل لي العز واملال‬
‫مع الدين»(‪.)2( )1‬‬
‫إن املشاهد واملعروف يف الواقع‪ :‬أن مجال الوجه‪ ،‬وحسن القوام يذبل‬
‫مع تقادم العهد وطول الزمن‪ ،‬ويفقد نضرته مع األيام‪ ،‬أما مجال الروح‪،‬‬
‫وروعة التدين فال تزيدها األيام إال جِدّة‪ ،‬وحالوة‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن اإلنسان أن لن جيد املرأة الكاملة اليت ال نقص فيها وال‬
‫عيب! فالكمال هلل‪ ،‬وطبع البشر هو النقص والعيب‪ ،‬ومتى كمُل هو أصالً‬

‫«‬

‫‪261‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫مِن كل نقصٍ حتى يطلب امرأةً كاملة؟! وإمنا عليه أن يسدد ويقارب‪،‬‬
‫ويتحرى ال َظفَر بذات الدِّين‪ ،‬ويسأل ربَّه التوفيق‪.‬‬
‫ويف قوله عليه الصالة والسالم – يف هذه القاعدة –‪« :‬فاظفر» إشارة‬
‫إىل سرعة املبادرة والسبق إليها‪ ،‬وعدم التباطؤ أو التأخر‪.‬‬
‫وأما قوله ×‪« :‬ترِبت يداك» فإن النيب × «مل يُرد الدعاء عليه‬
‫بالفقر‪ ،‬وإمنا أراد به االستحثاث‪ ،‬كما يقول الرجل‪ :‬أِنخْ ثكلتك أمُّك! إذا‬
‫استعجلتَه‪ ،‬وأنتَ ال تريد أن تثكله أمه‪ ،‬وقال ابن قتيبة‪ :‬وهذا من باب الدعاء‬
‫الذي ال يُراد به الوقوع»(‪.)1‬‬

‫وما قيل يف اختيار املرأة يُقال يف اختيار الرجل؛ وكما قيل للرجل‪:‬‬
‫«فاظفر بذات الدين» يقال للمرأة‪« :‬فاظفري بصاحب الدِّين»‪ ،‬وجيب على‬
‫وليِّ املرأةِ أن خيتارَ هلا الرجلَ الدَيِّن‪ ،‬صاحبَ اخلُلُق واملروءة‪ ،‬وأن يظفر به‪،‬‬
‫وال يعضُلها ومينعها من الزواج‪ ،‬أو يؤخرها كثرياً طمعاً يف ماهلا! فيكون ظاملاً‬
‫هلا‪ ،‬وال يُكرِهها على الزواج ممن تَكرهه وال تُحبه‪ ،‬بل يَعرض عليها مَن يرى‬
‫خللُق ممن تقدم خلطبتها‪ ،‬ثم يرتك اخليار هلا‪،‬‬
‫فيه مكافئته هلا مِن ذوي الدين وا ُ‬
‫فقد قال النيب ×‪« :‬ال تُنكح األيّم حتى تُستَأمر‪ ،‬وال تُنكح البِكر حتى‬
‫تُستأذن» قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وكيف إذنها؟ قال‪« :‬أن تسكت»(‪ ،)2‬وقد بوّب‬

‫‪262‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫البخاري هلذا احلديث بقوله‪« :‬باب ال ينكِح األبُ وغريُه البكرَ والثيبَ إال‬
‫برضاها»‪ ،‬ويروى أن رجالً خطب مِن عبداهلل بن عباس – رضي اهلل عنهما‬
‫– يتيمةً كانت عنده؛ فقال‪ :‬ال أرضاها لك! قال‪ :‬ومل ويف دارِك نشأتْ؟ قال‪:‬‬
‫إنها تتشرّف‪ ،‬قال‪ :‬ال أبالي! فقال‪ :‬اآلن ال أرضاك هلا! – كأنه رأى أنه ال‬
‫يبالي بأن يُهان؛ فلم يرضه هلا‪.‬‬
‫ويف معنى هذا قولُ بعضِ العلماء‪ :‬مَن رضي بصحبةِ مَن ال خري فيه مل‬
‫يرضَ بصحبته مَن فيه خري(‪.)1‬‬
‫لقد تأمل علماءُ الشريعة هذه القاعدةَ اجلليلة‪ ،‬واحلديثَ الذي وردت‬
‫فيه؛ فاستلهموا بذلك التأمل شيئاً مِن املسائل الشرعية واألخالقية‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫‪« -1‬أن الالئق بذي الدِّين واملروءة أن يكون الدِّين مطمحَ نَظَره يف‬
‫كل شيء‪ ،‬ال سيما فيما تطولُ صحبتُه»(‪ )2‬كالزوج والزوجة‪.‬‬
‫‪ -2‬وأن يف هذا‪« :‬احلث على مصاحبة أهل الدين يف كل شيء؛ ألنَّ‬
‫صاحبَهم يستفيدُ من أخالقهم وبركتهم‪ ،‬وحسنِ طرائقهم‪ ،‬ويأمَن‬
‫املفسدةَ مِن جِهتهم»(‪.)3‬‬
‫ويف صحيح مسلم يقول ×‪« :‬الدنيا كلُّها متاع‪ ،‬وخريُ متاعِ الدنيا‬

‫‪263‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫أي‪ :‬أن الدنيا إمنا هي شيءٌ يُتمتع به‪ ،‬كما يَتمتع املسافرُ‬ ‫املرأةُ الصاحلة»‬
‫بزادِه ثم ينتهي‪ ،‬وخريُ متاعها املرأةُ الصاحلة؛ إذا وُفق اإلنسان المرأةٍ صاحلة‬
‫يف دينها وعقلها فهذا خريُ متاع الدنيا؛ ألنها حتفظه يف سِره‪ ،‬وماله‪ ،‬وولده(‪.)2‬‬
‫تطيب بها هـذي احليـاة وتعـذب‬ ‫ومن سعد حظ املرء وجدان زوجـة‬

‫اللهم وفقنا يف مجيع شؤوننا ملا حتب وترضى‪ ،‬وارزق أبناءنا زوجاتٍ‬
‫صاحلات‪ ،‬وبناتنا أزواجاً صاحلني‪ ،‬وأصلح شباب وشابات املسلمني‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫أذواق الناس ختتلف وطبائعهم تتنوع‪ ،‬فمن كان هواه تبعاً‬
‫للشرع فقد سلم وفاز‪.‬‬
‫ذات الدين مع بقية الصفات‪ ،‬نور على نور‪.‬‬
‫ذات الدين حيجزها عن احملارم دينها‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثامنة والثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫ال يأتي علت الناس زما ٌن إال والذي بعده شرٌ منه‬

‫«ما بكيتُ من زمانٍ إال بكيتُ عليه»!‬


‫(الشعيب)‬

‫هذه قاعدة نبوية تبيّن سنةً من سنن اهلل يف األمم واجملتمعات‪.‬‬


‫وحاشا نيبَ اهلل تعاىل أن يدعو أمتَه إىل اليأس والقنوط! أو يسوقَهم إىل‬
‫اإلحباط والركود! كيف وهو سيد املتفائلني‪ ،‬وإمام الصابرين‪ ،‬عليه صلوات‬
‫وسالم رب العاملني!‬
‫لكن كالمه عليه الصالة والسالم يفسِّر بعضُه بعضاً‪ ،‬ويأخذ بعضه‬
‫بأعناق بعض‪ ،‬مع بقاء العربة والفائدة لكل حديث يف زمنه الذي خرج فيه‪،‬‬
‫وحاله اليت تكلم به النيب × فيها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهل يقول املسلم – حينما يقرأ هذه القاعدة –‪ :‬فلم العمل إذن؟‬
‫ما دام أن الشر يزيد‪ ،‬واخلري ينقص‪ ،‬وقد قُدِّر هذا! فلم األمر باملعروف‪،‬‬
‫والنهي عن املنكر‪ ،‬والدعوة إىل اخلري؟!‬

‫‪265‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫لن جييب عن هذا التساؤل اخلطري غري من يوحَى إليه من رب العاملني‪،‬‬


‫فتأمل أخي ما رواه لنا علي رضي اهلل عنه حني قال‪ :‬كنا مع النيب × يف‬
‫بقيع الغرقد يف جنازة‪ ،‬فقال‪« :‬ما منكم من أحد إال وقد كُتب مقعدُه من‬
‫اجلنة‪ ،‬ومقعدُه من النار» فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل! أفال نتَّكل؟(‪ )1‬فقال‪« :‬اعملوا؛‬
‫فكلٌ ميسَّر» ثم قرأ‪ :‬ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [الليل‪–5 :‬‬
‫‪ ]6‬إىل قوله‪﴿ :‬لِ ْلعُسْرَى﴾[الليل‪.)2(]10 :‬‬
‫وهذا الشر الذي أشار إليه النيب × ليس شراً مطلقاً عاماً‪ ،‬بل قد‬
‫يكون شراً يف بعض املواضع‪ ،‬ويكون خرياً يف مواضع أخرى‪ ،‬ويكون يف‬
‫بقعة دون بقعة‪.‬‬
‫يقول ابن حجر – رمحه اهلل –‪« :‬وقد استُشكل هذا اإلطالق! مع أن‬
‫بعض األزمنة تكون يف الشر دون اليت قبلها‪ ،‬ولو مل يكن يف ذلك إال زمن‬
‫عمر بن عبدالعزيز – وهو بعد زمن احلجاج بيسري – وقد اشتهر اخلربُ الذي‬
‫كان يف زمن عمر بن عبدالعزيز‪ ،‬بل لو قيل‪ :‬إن الشر اضمحل يف زمانه ملا‬
‫كان بعيداً فضالً عن أن يكون شراً من الزمن الذي قبله»(‪.)3‬‬
‫لكن هذا اإلشكال حلّه العلماء مبا يلي‪:‬‬
‫محله احلسن البصري على األكثر األغلب‪ ،‬وملا سُئل عن وجود‬
‫عمر بن عبدالعزيز بعد احلجاج؟ فقال‪ :‬ال بد للناس من تنفيس‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وأجاب بعضهم‪ :‬أن املراد بالتفضيل تفضيل جمموع العصر على‬


‫جمموع العصر‪ ،‬فإن عصر احلجاج كان فيه كثري من الصحابة يف‬
‫األحياء ويف عصر عمر بن عبدالعزيز انقرضوا‪ ،‬والزمان الذي فيه‬
‫الصحابة خري من الزمان الذي بعده؛ لقوله ×‪( :‬خري القرون‬
‫قرني‪.)...‬‬
‫وقال عبداهلل بن مسعود‪( :‬ال يأتي عليكم يوم إال وهو شر من‬
‫اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة‪ ،‬لست أعين رخاء من‬
‫العيش يصيبه‪ ،‬وال ماالً يُفيده‪ ،‬ولكن ال يأتي عليكم يوم إال وهو‬
‫أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله‪ ،‬فإذا ذهب العلماء استوى‬
‫الناس؛ فال يأمرون باملعروف وال ينهون عن املنكر‪ ،‬فعند ذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫يهلكون‪ .‬قال ابن حجر‪ :‬وهو أوىل باالتباع‪.‬‬
‫ومما يؤخذ من هذه القاعدة العظيمة – «ال يأتي عليكم زمان إال الذي‬
‫بعده شر منه»‪:‬‬
‫‪ -1‬أن فيها‪ :‬احلث على اقتباس العلوم الدينية قبل هجوم تلك األيام‬
‫الرديئة(‪« ،)2‬فينبغي لإلنسان أن يبادر لصاحل األعمال‪ ،‬وإن حلقته املتاعبُ‬
‫واملشاقُ واألتعابُ‪ ،‬وال يرتقب اخللوّ عن ذلك‪ ،‬فما يأتي بعدُ أشد يف ذلك‬
‫مما يف الزمان الذي كان فيه؛ ألن الزمان ال يزال يف البعد عن مكشاة النبوّة‪،‬‬
‫والقرب من البدع والفنت‪ ،‬فال ميضي زمنٌ فيه نقص لشيء من السنن‪ ،‬أو‬

‫‪267‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ابتالء بشيء من احملن «إال والذي بعده أشد منه» ويستمر تواردُ األهوال‪،‬‬
‫وتعاقب األحوال عليكم «حتى تلقوا ربكم» فال راحة للمؤمن دون لقاء‬
‫ربه»(‪.)1‬‬
‫‪ –2‬إن هذه القاعدة النبوية العظيمة‪ ،‬تقودنا ألمر من أعظم األمور؛‬
‫إنه‪ :‬تعظيم قدر السلف من الصحابة والتابعني؛ ألنهم كانوا يف تلك القرون‬
‫املفضلة‪.‬‬
‫قال شيخُ اإلسالم ابنُ تيمية‪:‬‬
‫(ومن املعلوم بالضرورة ملن تدبر الكتابَ والسنةَ‪ ،‬وما اتفق عليه أهلُ‬
‫السنةِ واجلماعةِ من مجيعِ الطوائف؛ أنّ خريَ قرونِ هذه األمة يف األعمالِ‬
‫واألقوالِ واالعتقادِ وغريهِا من كل فضيلةٍ أنّ خريها القرنُ األولُ‪ ،‬ثم الذين‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬كما ثََبتَ ذلكَ عن النيب × من غريِ وجهٍ‪ ،‬وأنهم‬
‫أفضلُ من اخلَلَفِ يف كل فضيلةٍ – من علمٍ وعملٍ وإميانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ‬
‫وعبادةٍ – وأنهم أوىل بالبيانِ لكل مُشْكلٍ‪ ،‬هذا ال يدفعُه إالّ من كابرَ املعلوم‬
‫بالضرورة من دين اإلسالم‪ ،‬وأضله اهلل على علمٍ‪ ،‬كما قال عبدُاهلل بن‬
‫مسعود – رضي اهلل عنه –‪« :‬مَنْ كانَ منكم مستناً فليسنت مبن قد مات؛ فإن‬
‫احلي ال تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئكَ أصحابُ حممد‪ ،‬أبرّ هذه األمة قلوباً‪،‬‬
‫وأعمقها علماً‪ ،‬وأقلها تكلفاً‪ ،‬قومٌ اختارهم اهللُ لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه؛‬
‫فاعرفوا هلم حقهم‪ ،‬ومتسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على اهلدى املستقيم»‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وقال غريه‪ :‬عليكم بآثارِ مَنْ سَلَفَ؛ فإنهم جاءوا مبا يكفي وما يشفي‪،‬‬
‫ومل حيدث بعدهم خريٌ كامِنٌ مل يعلموه‪ ،‬هذا وقد قال ×‪« :‬ال يأتي زمانٌ إال‬
‫والذي بعده شرٌ منه‪ ،‬حتى تلقوا ربكم» فكيف حيدث لنا زما ٌن يف اخلري يف‬
‫أعظم املعلومات – وهو معرفة اهلل تعاىل –؟! هذا ال يكون أبداً!‬

‫وما أحسن ما قال الشافعي رمحه اهلل يف رسالته‪« :‬هم فوقنا يف كل علمٍ‬
‫وعقلٍ ودينٍ وفضل‪ ،‬وكل سببٍ ينال به علم‪ ،‬أو يدرك به هدى‪ ،‬ورأيهم لنا‬
‫خريٌ من رأينا ألنفسنا»)(‪.)1‬‬
‫وقال ابن رجب‪« :‬وقد ابتلينا جبهلة من الناس! يعتقدون يف بعض من‬
‫توسع يف القول من املتأخرين أنه أعلم ممن تقدم! فمنهم من يظن يف شخص‬
‫أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله!‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬هو أعلم من الفقهاء املشهورين املتبوعني!‪ ...‬وهذا تنقص‬
‫عظيم بالسلف الصاحل وإساءة ظن بهم‪ ،‬ونسبته هلم إىل اجلهل وقصور‬
‫العلم‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل»(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬من دالالت هذه القاعدة‪ :‬أن املؤمن إذا عاش يف آخر األزمان‪ ،‬أو‬
‫يف بيئة غلب فيها الشر‪ ،‬أو علت فيها راية املنكر؛ فعليه أن يعقد‬
‫العزم على أن يكون من املصلحني‪ ،‬والداعني إىل اهلدى‪ ،‬املخففني‬
‫لوطأة الشر وأهله‪ ،‬اآلمرين باملعروف والناهني عن املنكر حسب‬

‫‪269‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الوسع والطاقة‪ ،‬فإنه ال يوجد زمان خيلو من قائمٍ هلل باحلجة على‬
‫العباد‪ ،‬وال خيلو زمان إال ويوجد فيه دعاة للخري‪ ،‬وهداة للحق‪،‬‬
‫يبصّرون الناس من العمى‪ ،‬ويهدون من ضلّ إىل احلق‪ ،‬فكن –‬
‫ياعبداهلل – وكوني – يا أمَةَ اهلل – من هؤالء؛ فإنهم خيار اخللق‪،‬‬
‫وأحبّهم إىل اهلل‪.‬‬
‫‪ -4‬لقد مسع الصحابة بهذا احلديث‪ ،‬بل إن سبب إيراده من أنس –‬
‫رضي اهلل عنه – وهو ما لقيه التابعون من اضطهاد احلجاج وغريه‬
‫من حكام السوء – يوضّح أنهم فقهوا معناه جيداً‪ ،‬وهو فهمهم‬
‫هلذه السنة اإلهلية اليت نقلتهم إىل التعامل األمثل معها‪ ،‬وهو‬
‫يتلخص يف أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬الصرب على ما ميرّ بهم حتى يسرتيح بَرٌّ‪ ،‬ويسرتاح من فاجر‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬العمل هلذا الدين‪ ،‬ونشر تعامليه‪ ،‬وعدم انتظارهم جملدد أو‬
‫مُصلح خيرج ليصلح األحوال! كال ‪ ..‬بل كانوا غايةً يف الفقه والفهم للسنن‪.‬‬

‫لقدّ مرّ باألمة زمانٌ – ال أعاده اهلل – تصدّر فيه متكلمون ال يفقهون‬
‫السنن‪ ،‬وال يعون معانيها‪ ،‬وكانوا حيدّثون عامة الناس بأمثال هذه األحاديث‬
‫ال ليفقهوها‪ ،‬بل لينفثوا سُمَّ اجلرب واخلنوع‪ ،‬والرضى بالدعة والكسل باسم‬
‫القضاء والقدر! والتكسيل عن العمل حبجة الزهد والتوكل‪ ،‬والتجرئة على‬
‫املعاصي واإلغراء مبكفرات الذنوب‪ ،‬وشفاعة الصاحلني يف اآلخرة‪ ،‬والتأييس‬
‫من قوة األمة وترقّيها‪ ،‬مبا يزعمون من أن سعادة األمة وعزتها ال يكونان إال‬

‫‪270‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫على يد املهدي املنتظر!! وأن هذا الشقاء الذي وقعت فيه ال مفر منه؛ ألنه‬
‫عالمة على قرب الساعة وانتهاء الزمان‪ ،‬وحنو ذلك من التعاليم الغامضة‬
‫(‪)1‬‬
‫والفاسدة املنتشرة‪.‬‬
‫اللهم ارزقنا الفقه يف الدين والبصرية فيه‪ ،‬واجعلنا من دعاة احلق‪،‬‬
‫وهداة اخللق‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ما تستطيعه اليوم قد ال تستطيعه غدا‪..‬فبادر بالعمل‪.‬‬
‫طريقة السلف أسلم وأحكم‪.‬‬
‫كن ممن يُصلح اهلل بهم الزمن‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة التاسعة والثالثون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫واعلم أن النصر مع الصرب‬

‫قيل للشعيب يف نائبة‪ :‬كيف أصبحت؟ قال‪ :‬بني‬


‫نعمتني‪ :‬خري منشور‪ ،‬وشر مستور‪( .‬املاوردي)‪.‬‬

‫هذه القاعدة قطعة من ذلك احلديث العظيم – حديث ابن عباس –‬


‫رضي اهلل عنه‪« :‬احفظ اهلل حيفظك‪ »...‬احلديث وفيه‪« :‬واعلم أن النصر مع‬
‫الصرب وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا»‪.‬‬
‫لقد احتوى هذا احلديث على مجلةٍ من الوصايا العالية جعلت العالمة‬
‫األلوسي – رمحه اهلل – يقول‪« :‬ينبغي لكل مؤمن أن جيعل هذا احلديث مرآة‬
‫قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم‬
‫يف الدنيا واآلخرة وجيد العزة برمحة اهلل عز وجل»(‪.)2‬‬
‫هكذا يرسخ عليه الصالة والسالم يف قلوب أتباعه هذه القاعدة‬

‫«‬

‫«‬ ‫«‬ ‫«‬

‫‪272‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫اجلليلة‪ ،‬اليت تكتسح جحافل اليأس‪ ،‬وختوض بك غمار احلياة بروح وثابة‬
‫وعزم متجدد‪ ،‬إنها قاعدة تكسو احلياة فأالً وقوة‪ ،‬وترسم بسمة التفاؤل على‬
‫شفاه البائسني‪.‬‬
‫إن اإلنسان يف الدنيا معرَّض للمصائب والتحوالت اليت تأتي على‬
‫خالف املراد؛ كما قال اهلل عز وجل‪ :‬ﭽﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ [البقرة‪ ]157 ،155 :‬فالصرب هو أول باب‬
‫يؤمر العبداملصاب بطرقه‪ ،‬ثم بعد ذلك يبحث عن األسباب املشروعة اليت‬
‫ختفف املصاب‪.‬‬
‫قال عمر – رضي اهلل عنه – ألشياخ من بين عبس‪ :‬مب قاتلتم الناس؟‬
‫قالوا‪ :‬بالصرب‪ ،‬مل نلق قوماً إال صربنا هلم كما صربوا لنا‪.‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬كلنا يكره املوت وأمل اجلراح‪ ،‬ولكن نتفاضل‬
‫بالصرب‪.‬‬
‫وهذا يف جهاد العدو الظاهر – وهو جهاد الكفار – وكذلك جهاد‬
‫العدو الباطن – هو جهاد النفس واهلوى – فإن جهادهما من أعظم اجلهاد‪،‬‬
‫كما قال النيب ×‪« :‬اجملاهد من جاهد نفسه يف اهلل»(‪.)1‬‬
‫وقال عبداهلل بن عمر ملن سأله عن اجلهاد‪ :‬ابدأ بنفسك فجاهدها‪،‬‬
‫وابدأ بنفسك فاغزُها‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو‪ :‬قد جئتم من‬
‫اجلهاد األصغر‪ ،‬فما فعلتم يف اجلهاد األكرب؟ قالوا‪ :‬وما اجلهاد األكرب؟ قال‪:‬‬
‫جهاد القلب‪.‬‬
‫فهذا اجلهاد حيتاج أيضاً إىل صرب‪ ،‬فمن صرب على جماهدة نفسه وهواه‬
‫وشيطانه؛ غلبه‪ ،‬وحصل له النصر والظفر‪ ،‬وملك نفسَه؛ فصار عزيزاً ملكاً‪،‬‬
‫ومن جزع ومل يصرب على جماهدة ذلك؛ غُلب وقُهر وأُسر‪ ،‬وصار عبداً ذليالً‬
‫أسرياً يف يدي شيطانه وهواه‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫مبنزلــة فيهــا العزيــز ذليــل‬ ‫إذا املرء مل يغلـب هـواه أقامـه‬

‫قال ابن املبارك‪ :‬من صرب فما أقل ما يصرب! ومن جزع فما أقل ما‬
‫يتمتع!‬
‫فقوله ×‪« :‬أن النصر مع الصرب» يشمل النصر يف اجلهادين‪ :‬جهاد‬
‫ظفِر بعدوه‪،‬‬
‫العدو الظاهر‪ ،‬وجهاد العدو الباطن‪ ،‬فمن صرب فيهما‪ ،‬نُصر و َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ومن مل يصرب فيهما وجزع؛ قُهر وصار أسرياً لعدوه أو قتيالً له‪.‬‬
‫والصرب إذا أطلق فإنه يشمل‪ :‬الصرب على طاعة اهلل‪ ،‬وعن معصيته‪،‬‬
‫وعلى أقداره املؤملة؛ ألن العدو يصيب اإلنسانَ من كل جهة‪ ،‬فقد يشعر‬
‫اإلنسان أنه لن يطيق عدوه؛ فيتحسر ويدع اجلهاد‪ ،‬وقد يشرع يف اجلهاد‬
‫ولكن إذا أصابه األذى استحسر وتوقف‪ ،‬وقد يستمر ولكنه يصيبه األمل من‬
‫عدوه‪ ،‬فهذا أيضاً جيب أن يصرب‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬

‫‪274‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﭼ [آل عمران‪ ،]140 :‬وقال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮫ‬


‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [النساء‪]104 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فإذا صرب اإلنسان وصابر ورابط؛ فإن اهلل سبحانه ينصره‪.‬‬
‫ثبت يف صحيح مسلم من حديث أبي مالك األشعري‪ ،‬أن رسول اهلل‬
‫× قال‪« :‬الصالة نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصرب ضياء»(‪.)2‬‬
‫ونسبة الضياء إىل الصرب كنسبة الضياء إىل الشمس‪ ،‬فلما كان يف‬
‫الشمس حرارة حسية معلومة‪ ،‬نُسب الضياء إىل الصرب‪ ،‬ملا فيه من حرارة‬
‫معنوية‪ ،‬تنتج عن حبس النفس عن املعصية‪ ،‬أو التضجر من أقدار اهلل املؤملة‪،‬‬
‫أو محل النفس على الطاعة وإن كان فيها مشقة‪ ،‬لكن عاقبها حلوة يف الدنيا‬
‫قبل اآلخرة‪.‬‬
‫ومن تأمل عموم األوامر والنواهي يف الشريعة؛ وجد أنه ال حيركها‬
‫شيء كالصرب‪ ،‬وما يرجوه الصادبر بعد ذلك من حسن العاقبة يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪ :‬ﭽ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﭼ [الزمر‪.]10 :‬‬
‫ضه لبارقة السيوف‪،‬‬
‫وإال فما الذي حيمل اجملاهد على فراق بلده‪ ،‬وتَعرُّ ِ‬
‫وقصف الطائرات؟‬
‫وما الذي جيعل اجليوش اجلرارة تسري من بلد إىل بلد‪ ،‬وترابط يف‬
‫الثغور األيام والشهور؟!‬

‫‪275‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وما الذي جيعل املؤمن يف الليلة الشاتية يتوضأ باملاء البارد؟‬


‫وما الذي جيعله يتلقى مصائب النقص يف املال والولد؟‬
‫وما الذي يدفعه لرتك شهوة حمرّمة قدر عليها‪ ،‬ومتكّن منها؟‬
‫إنه الصرب! وصدق عليّ – رضي اهلل عنه – حني قال‪« :‬فالصرب من‬
‫اإلميان كالرأس من اجلسد»(‪ ،)1‬فما ظنك برأس يفصل عن جسده!‬
‫يقول ميمون بن مهران‪ :‬ما نال أحدٌ شيئاً من مجيع اخلري – نيب فمن‬
‫فوقه – إال بالصرب(‪.)2‬‬
‫يكـــون وراءه فـــرجٌ قريـــب‬ ‫عسى الكرب الذي أمسيت فيـه‬
‫ويــأتي أهلــه النــائي الغريــب‬ ‫فيـــأمن خـــائفٌ ويُفـــك عـــان‬

‫وتأمل قصة هذا الرجل‪ :‬الذي كان صاحب مال وثروة وصحة وعافية‬
‫وولد‪ ،‬ثم كيف سلبها اهلل منه يف حلظة واحدة؛ فلعلها تُعزّي أصحابَ‬
‫النكبات واألحزان‪ ،‬كما عزّتْ عبدامللك بن مروان‪:‬‬
‫«قال سليمان بن أبي شيخ‪ :‬حدثين نابل بن جنيح قال‪ :‬كان باليمامة‬
‫رجالن ابنا عم‪ ،‬فكثر ماهلما‪ ،‬فوقع بينهما ما يقع بني الناس‪ ،‬فرحل أحدُهما‬
‫عن صاحبه‪ ،‬قال‪ :‬فإني ليلةً قد ضجرت برغاء اإلبل والغنم والكثرة‪ ،‬إذ‬
‫ل فجعل مالي‬
‫أخذتُ بيد صيبٍ لي وعلوت يف اجلبل‪ ،‬فأنا كذلك إذ أقبل السي ُ‬
‫مير بني يدي وال أملك منه شيئاً! حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامُها‬

‫‪276‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫بشجرة‪ ،‬فقلت‪ :‬لو نزلتُ إىل هذه فأخذتها لعلي أجنو عليها أنا وبين هذا‪،‬‬
‫فنزلت فأخذت اخلطامَ‪ ،‬فجذبها السيل ورجع عليّ غصنُ الشجرة فذهب‬
‫ماءُ إحدى عيين‪ ،‬وأفلت اخلطام من يدي فذهبت الناقة! ورجعتُ إىل الصيب‬
‫فوجدته قد أكله الذئب!‬
‫فأصبحت ال أملك شيئاً!! فقلت‪ :‬لو ذهبتُ إىل بن عمي لعله يعطيين‬
‫شيئاً‪ ،‬فمضيت إليه فقال لي‪ :‬قد بلغين ما أصابك‪ ،‬واهلل ما أحببت أنه قد‬
‫أخطأك!! فكان ذلك أشد مما أصابين‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬أمضي إىل الشام فأطلب!! فلما دخلت إىل دمشق؛ إذا الناس‬
‫يتحدثون أن عبدامللك بن مروان أصيب بابن له؛ فاشتد حزنُه عليه‪ ،‬فأتيت‬
‫احلاجبَ فقلت‪ :‬إني أُحدّث أمريَ املؤمنني حبديث يعزيه عن مصيبته هذه‪،‬‬
‫فأذكرْ ذلك له‪ ،‬وذكرَه؛ فقال‪ :‬أدخله‪ ،‬فأدخلين‪ ،‬فحدثته مبصيبيت؛ فقال‪ :‬قد‬
‫(‪)1‬‬
‫عزيتين مبصيبتك عن مصيبيت! وأمر لي مبال‪ ،‬فعدت وتراجعتْ حالي‪.‬‬
‫اللهم اجعل الصرب لنا شعاراً ودثاراً‪ ،‬واجعلنا من الصابرين عند‬
‫البالء‪ ،‬الشاكرين عند النعماء‪ ،‬اللهم إنا نعوذ بك من حتول عافيتك‪ ،‬وزوال‬
‫نعمتك‪ ،‬وفجأة نقمتك‪ ،‬ومجيع سخطك‪ ،‬اللهم وال جتعل مصيبتنا يف ديننا‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ستجد يف الصرب بعض الشدة لكن عاقبته محيدة‪.‬‬
‫الصرب دليل على كمال العقل ورجاحته‪.‬‬
‫علم صغريك الصرب قبل أن تدهمه نكبات الزمان فيحتار‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية األربعون‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫القرآن حجة لك أو عليك‬

‫إن هذا القرآن كائنٌ لكم أجراً‪ ،‬وكائنٌ عليكم وزراً‪،‬‬


‫فاتبعوا القرآن‪ ،‬وال يتبعكم القرآن‪.‬‬
‫(أبو موسى األشعري)‪.‬‬

‫وردت هذه القاعدة النبوية اجلليلة ضمن حديث عدّه بعض العلماء‬
‫من أصول الدين‪ ،‬وبهذا يتبني عظيم قدر هذه القاعدة النبوية‪ ،‬وذلكم‬
‫احلديث هو قوله ×‪« :‬الطهور شطر اإلميان‪ ،‬واحلمد هلل متأل امليزان‪،‬‬
‫وسبحان اهلل واحلمد هلل متآلن أو متأل ما بني السماوات واألرض‪ ،‬والصالة‬
‫نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصرب ضياء‪ ،‬والقرآن حجة لك أو عليك‪ ،‬كل‬
‫الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»(‪.)2‬‬
‫قال النووي رمحه اهلل‪« :‬هذا حديث عظيم‪ ،‬أصلٌ من أصول اإلسالم‪،‬‬
‫قد اشتمل على مهماتٍ من قواعد اإلسالم»(‪.)3‬‬

‫«‬

‫«‬ ‫«‬ ‫«‬

‫‪279‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وقال املناوي عليه رمحة اهلل‪« :‬وهذا احلديث أصلٌ من أصول اإلسالم؛‬
‫الشتماله على مهمات قواعد الدين؛ فكن له من املتدبرين»(‪.)1‬‬
‫إن املقصود باحلجة يف هذه القاعدة‪« :‬والقرآن حجة لك أو عليك»‪ :‬الربهانُ‬
‫الشاهد بصحة الدعوى‪.‬‬
‫قال القرطيب – رمحه اهلل –‪« :‬أال وإن احلجة على مَن ع ِلمَه فأغفله‬
‫أوكدُ منها على من قصر عنه وجهله‪ ،‬ومن أوتي علم القرآن فلم ينتفع‪،‬‬
‫وزجرته نواهيه فلم يرتدع‪ ،‬وارتكب من املآثم قبيحاً‪ ،‬ومن اجلرائم فضوحاً؛‬
‫كان القرآن حجة عليه‪ ،‬وخصماً لديه‪ ،‬قال رسول اهلل ×‪« :‬القرآن حجة لك‬
‫أو عليك»‪ ،‬فالواجب على من خصّه اهلل حبفظ كتابه أن يتلوه حق تالوته‪،‬‬
‫ويتدبر حقائق عبارته‪ ،‬ويتفهم عجائبه‪ ،‬ويتبني غرائبه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [ص‪ ،]29 :‬وقال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ﭽﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [حممد‪.)2(»]24 :‬‬
‫ولنضرب مثالً عملياً يوضح لنا ما سبق من كالم األئمة يف توضيح‬
‫هذه القاعدة النبوية‪:‬‬
‫اسَت َمعَ شخصان لقول اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ‬
‫[البقرة‪ ]43 :‬فأقام أحدهما الصالة ومل يقمها اآلخر‪ ،‬فالقرآن حجة لألول‪،‬‬
‫وحجة على الثاني‪ ،‬وقل مثل يف الزكاة‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫مثال آخر‪ :‬استمعت امرأة لقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬


‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﭼ [األحزاب‪ ،]59 :‬ولقوله تعاىل‪:‬‬
‫ﭽﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨﭼ [النور‪ .]31 :‬فمن حتجّبت احلجاب الشرعي فالقرآن يف‬
‫هذه اآليات حجةٌ هلا‪ ،‬ومن خالفت صار حجةً عليها‪.‬‬
‫لقد أسرتين عبارة اإلمام اآلجُ ّري وهو يوضّح – بالتفصيل – كيف‬
‫يصل اإلنسان إىل هذه الغاية – أعين أن يكون القرآن حجة للعبد ال عليه –‬
‫فنقلتها باختصار على طوهلا‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫«يتصفح القرآن؛ ليؤدب به نفسه‪ ،‬ال يرضى من نفسه أن يؤدي ما‬
‫فرض اهلل جبهل‪ ،‬قد جعل العلمَ والفقهَ دليلَه إىل كل خري‪ ،‬إذا درس القرآنَ‬
‫فبحضور فَهم وعَقل‪ ،‬همَّته إيقا ُع الفهم ملا ألزمه اهلل‪ :‬مِن اتباع ما أمر‪،‬‬
‫واالنتهاء عما نهى‪ ،‬ليس همّته متى أختم السورة! همّته‪ :‬متى أستغين باهلل‬
‫عن غريه؟ متى أكون من املتقني؟ متى أكون من احملسنني؟ متى أكون من‬
‫املتوكلني؟ متى أكون من اخلاشعني؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من‬
‫الصادقني؟ متى أكون من اخلائفني؟ متى أكون من الراجني؟ متى أزهد يف‬
‫الدنيا؟ متى أرغب يف اآلخرة؟ متى أتوب من الذنوب؟ متى أعرف النعم‬
‫املتواترة؟ متى أشكره عليها؟ متى أعقل عن اهلل اخلطاب؟‬
‫متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على ما تهوى؟ متى أجاهد يف اهلل‬
‫حق اجلهاد؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طريف؟ متى أحفظ فرجي؟ متى‬

‫‪281‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أستحي من اهلل حق احلياء؟ متى أشتغل بعييب؟ متى أصلح ما فسد من‬
‫أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون عن اهلل‬
‫راضياً؟ متى أكون باهلل واثقاً؟ متى أكون بزجر القرآن متعظاً؟ متى أكون‬
‫بذكره عن ذكر غريه مشتغالً؟ متى أُحب ما أَحب؟ متى أُبغض ما أَبغض؟‬
‫متى أنصح هلل؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهب ليوم‬
‫موتي وقد غُيّب عين أجلي؟ متى أعمر قربي؟ متى أفكر يف املوقف وشدته؟‬
‫متى أفكر يف خلوتي مع ربي؟ متى أفكر يف املنقلَب؟ متى أحذر مما حذرني‬
‫منه ربي من نارٍ حرها شديد‪ ،‬وقعرها بعيد‪ ،‬وعمقها طويل‪ ،‬ال ميوت أهلها‬
‫فيسرتحيوا‪ ،‬وال تقال عثرتهم‪ ،‬وال ترحم عَربتهم؟‪...‬‬
‫فاملؤمن العاقل إذا تال القرآن استعرض القرآن؛ فكان كاملرآة‪ ،‬يرى بها‬
‫ما حَسُن من فعله‪ ،‬وما قبح منه‪ ،‬فما حذرّه مواله حذِره‪ ،‬وما خوّفه به من‬
‫عقابه خافه‪ ،‬وما رغّبه فيه مواله رغب فيه ورجاه‪ ،‬فمن كانت هذه صفته‪ ،‬أو‬
‫ما قارب هذه الصفة‪ ،‬فقد تاله حق تالوته‪ ،‬ورعاه حق رعايته‪ ،‬وكان له‬
‫القرآن شاهداً وشفيعاً وأنيساً وحرزاً‪ ،‬ومن كان هذا وصفه؛ نفع نفسَه ونفع‬
‫أهلَه‪ ،‬وعاد على والديه وعلى ولده كل خري يف الدنيا ويف اآلخرة»(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ثم انتقل اإلمام اآلجري يف عبارة أخرى مؤثرة‪ ،‬وهو حيكي حال من‬
‫صار القرآن حجةً عليهم – والعياذ باهلل – فيقول‪:‬‬
‫«فأما مَن قرأ القرآن للدنيا وألبناء الدنيا؛ فإن من أخالقه‪ :‬أن يكون‬

‫‪282‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫حافظاً حلروف القرآن مضيعاً حلدوده‪ ،‬متعظماً يف نفسه‪ ،‬متكرباً على غريه‪،‬‬
‫قد اختذ القرآن بضاعة‪ ،‬يتآكل به األغنياء‪ ،‬ويستقضي به احلوائج‪ ،‬يعظّم أبناء‬
‫الدنيا وحيقر الفقراء‪ ،‬إن علّم الغينَّ رفق به طمعاً يف دنياه‪ ،‬وإن علّم الفقريَ‬
‫زجره وعنّفه؛ ألنه ال دنيا له يطمع فيها‪ ،‬يستخدم به الفقراء‪ ،‬ويتيه به على‬
‫األغنياء‪ ،‬إن كان حسن الصوت أحب أن يقرأ للملوك! ويصلي بهم؛ طمعاً‬
‫يف دنياهم‪ ،‬وإن سأله الفقراء الصالة بهم ثقل ذلك عليه؛ لقلة الدنيا يف‬
‫أيديهم‪ ،‬إمنا طلَبُه الدنيا؛ حيث كانت رََبض عندها!‬
‫يفخر على الناس بالقرآن‪ ،‬وحيتج على من دونه يف احلفظ بفضل ما‬
‫معه من القراءات‪ ،‬وزيادة املعرفة بالغريب من القراءات‪ ،‬اليت لو عَ َقل لعلِم‬
‫أنه جيب عليه أن ال يقرأ بها! فرتاه تائهاً متكرباً‪ ،‬كثري الكالم بغري متييز‪ ،‬يعيب‬
‫كلَّ َمن مل حيفظ كحفظه‪ ،‬ومن علم أنه حيفظ كحفظه طلب عيبَه! متكرباً يف‬
‫جلسته‪ ،‬متعاظماً يف تعليمه لغريه‪ ،‬ليس للخشوع يف قلبه موضع‪ ،‬ال خيشع‬
‫عند استماع القرآن وال يبكي وال حيزن‪ ،‬وال يأخذ نفسه بالفكر فيما يُتلى‬
‫عليه وقد نُدب إىل ذلك! راغب يف الدنيا وما قرب منها‪ ،‬هلا يغضب‬
‫ويرضى!!‬
‫ال يبالي من أين اكتسب – من حرام أو من حالل – قد عظُمت الدنيا‬
‫يف قلبه‪ ،‬إن فاته منها شيء ال حيل له أخْذُه حزنَ على فَوته‪ ،‬ال يتأدب بأدب‬
‫القرآن‪ ،‬وال يزجر نفسَه عن الوعد والوعيد‪ ،‬الهٍ غافل عما يتلو أو يُتلى‬
‫عليه‪ ،‬همّته حفظُ احلروف‪ ،‬إن أخطأ يف حرف ساءه ذلك؛ لئال ينقص جاهه‬
‫عند املخلوقني؛ فتنقص رتبتُه عندهم‪ ،‬فرتاه حمزوناً مغموماً بذلك‪ ،‬وما قد‬
‫ضيعه فيما بينه وبني اهلل مما أَمَر به القرآن أو نهى عنه؛ غري مكرتث به!‬

‫‪283‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أخالقه يف كثري من أموره أخالق اجلهال الذين ال يعلمون‪ ،‬ال يأخذ نفسه‬
‫بالعمل مبا أوجب عليه القرآن‪ ،‬قليل النظر يف العلم الذي هو واجب عليه‬
‫فيما بينه وبني اهلل عز وجل‪ ،‬كثري النظر يف العلم الذي يتزين به عند أهل‬
‫الدنيا ليكرموه بذلك‪ ،‬قليل املعرفة باحلالل واحلرام الذي ندبه اهلل إليه ثم‬
‫رسوله؛ ليأخذ احلالل بعلم ويرتك احلرام بعلم‪ ،‬تالوته للقرآن تدل على كِربٍ‬
‫يف نفسه‪ ،‬وتزينٍ عند السامعني منه‪ ،‬ليس له خشوع فيظهر على جوارحه‪.‬‬
‫إذا درّس القرآن أو َدرَسَه عليه غريُه همته متى يقطع! ليس همته متى‬
‫يفهم! ال يتفكر عند التالوة بضروب أمثال القرآن‪ ،‬وال يقف عند الوعد‬
‫والوعيد‪ ،‬يأخذ نفسه برضا املخلوقني‪ ،‬وال يبالي بسخط رب العاملني‪ ،‬حيب‬
‫أن يُعرف بكثرة الدرس‪ ،‬ويُظهِر ختمَه للقرآن ليحظى عندهم‪ ،‬قد فتنه حسنُ‬
‫ثناء من جَهِله‪ ،‬يفرح مبدح الباطل‪ ،‬وأعماله أعمال أهل اجلهل‪ ،‬يتبع هواه‬
‫فيما حتب نفسه‪ ،‬غري متصفح ملا ذكره القرآن عنه‪ ،‬إن كان ممن يُقرِئ غضب‬
‫على من قرأ على غريه‪ ،‬إن ذُكر عنده رجلٌ من أهل القرآن بالصالح كره‬
‫ذلك‪ ،‬وإن ذُكر عنده مبكروه سرّه ذلك‪ ،‬يسخر مبن دونه‪ ،‬ويهمز مبن فوقه‪،‬‬
‫يتتبع عيوب أهل القرآن؛ ليضع منهم‪ ،‬ويرفع من نفسه‪ ،‬يتمنى أن خيطئ غريُه‬
‫(‪)1‬‬
‫ويكون هو املصيب‪ » ...‬إخل كالمه رمحه اهلل‪.‬‬
‫ومن مجيل ما قاله ابن مسعود يف هذا املعنى‪« :‬القرآن شافعٌ مشفَّع‪،‬‬
‫حلٌ مصدَّق(‪ ،)2‬فمن جعله أمامَه قاده إىل اجلنة‪ ،‬ومن جعله خلف ظهره‬
‫وما ِ‬

‫‪284‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قاده إىل النار‪ ،‬وعنه قال‪ :‬جييء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحِبِه‪ ،‬فيكون‬
‫قائداً إىل اجلنة‪ ،‬أو يشهد عليه‪ ،‬فيكون سائقاً إىل النار»(‪.)1‬‬
‫وللحسن البصري كلمة قيّمة‪ ،‬يقول فيها‪« :‬العلم عِلْمان‪ِ :‬علم على‬
‫اللسان؛ فذاك حجة اهلل على ابن آدم‪ ،‬وعِلم يف القلب؛ فذاك العلم النافع‪،‬‬
‫والعلم الذي على اللسان هو حجة اهلل كما يف احلديث‪« :‬القرآن حجة لك‬
‫أو عليك» (‪.)2‬‬
‫اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا‪ ،‬ونور صدورنا‪ ،‬وجالء‬
‫أحزاننا‪ ،‬وذهاب همومنا وغمومنا‪ ،‬واجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده‪،‬‬
‫واجعله قائدنا إىل جنات النعيم‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫ينبغي حماسبة النفس كل حني على تقصريها يف كالم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ينبغي أن يكون حال اإلنسان مع القرآن حال اخلائف الراجي‪.‬‬
‫تدبر القرآن من أعظم ما يدعوك للعمل به‪.‬‬
‫استعن بربك دوماً‪ :‬اللهم اجعل القرآن حجةلي ال علي‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية احلادية واألربعون‪:‬‬


‫كل الناس يغدو فبائع نفسه‪ :‬فمعتقها أو موبقها‬
‫مر بعض الزهاد برجل قد اجتمع عليه الناس فقال‪ :‬ما‬
‫هذا؟ قالوا‪ :‬مسكني سرق منه رجلٌ جبة‪ ،‬ومر به آخر‬

‫فأعطاه جبة! فقال‪ :‬صدق اهلل ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ!‬


‫(املاوردي)‬

‫لقد وردت هذه القاعدة النبوية اجلليلة يف حديث‪« :‬الطهور شطر‬


‫اإلميان‪ )1(»...‬الذي قال عنه املناوي رمحه اهلل‪« :‬وهذا احلديث أصلٌ من‬
‫أصول اإلسالم؛ الشتماله على مهمات قواعد الدين؛ فكن له من‬
‫املتدبرين»(‪.)2‬‬
‫إنها قاعدة نبوية تلتقط ألهل األرض صورةً من السماء الدنيا؛ لتُجلّي‬
‫هلم حقيقة هذه احلياة اليت يعيشون فيها! إنهم مجيعاً ميشون ال يقف منهم‬
‫أحد‪ ،‬فمنهم من يتقدم‪ ،‬ومنهم من يتأخر‪ ،‬إنهم ميشون مجيعاً؛ لكنهم كما قال‬
‫اهلل‪ :‬ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ ‪ ،‬فهذا معنى قوله‪« :‬كلُّ الناس يغدو»‪.‬‬
‫ثم قال عليه الصالة والسالم‪« :‬فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها»‪ ،‬هذه‬
‫هي حقيقة املكان الذي ميشون فيه؛ إنه سُوْق هذه الدنيا الكبري‪ ،‬وهذا هو‬
‫حقيقة الدنيا‪ :‬سوقٌ يربح فيه الراحبون‪ ،‬وخيسر فيه اخلاسرون‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وليتجلى لك – أيها القارئ الكريم – شيءٌ من معاني هذه القاعدة‬


‫النبوية املباركة‪ ،‬فتخيل نفسك ذاهب ًا إىل سوق من األسواق العامرة‪ ،‬هذا يبيع‪،‬‬
‫وذاك يشرتي‪ ،‬هذا يربح وذاك خيسر! إنها حركة معتادة‪ ،‬وأمرٌ مألوف‪،‬‬
‫فالرابح اليوم قد خيسر غداً‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬لكن الغف حقاً حينما تكون‬
‫السلعة اليت تباع وتشرتى هي أنتَ أيها اإلنسان! «فبائع نفسَه‪ ،‬فمعتقها أو‬
‫موبقها»! اهلل أكرب! ما أمجله من تعبري!‬
‫والسؤال‪ :‬ما الذي جيعل هذه النفس تعتق أو توبق؟!‬
‫تأمل معي هذه اآليات العظيمة‪ ،‬اليت تبيّن حقيقة العتق واإلباق‪،‬‬
‫وحقيقة الربح واخلسارة‪ :‬ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [الصف‪.]12 – 10 :‬‬
‫وتأمل هذه الصفقة العجيبة‪ :‬ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﭼ [التوبة‪.]111 :‬‬
‫قال ابن القيم‪« :‬فأخرب سبحانه أنه‪ :‬ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﭼ وأعاضهم عليها اجلنة‪ ،‬وأن هذا العقد والوعد قد أودعه‬
‫أفضل كتبه املنزلة من السماء‪ ،‬وهي التوراة واإلجنيل والقرآن‪ ،‬ثم أكد ذلك‬
‫بإعالمهم أنه ال أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعاىل‪ ،‬ثم أكد ذلك بأن أمرهم‬

‫‪287‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه‪ ،‬ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز‬
‫العظيم‪.‬‬
‫فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع‪ ،‬ما أعظم خطره وأجله! فإن‬
‫اهلل عز وجل هو املشرتي‪ ،‬والثمن جنات النعيم والفوز برضاه‪ ،‬والتمتع‬
‫برؤيته هناك‪ ،‬والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه‬
‫من املالئكة والبشر‪ ،‬وإن سلعةً هذا شأنها لقد هيئت ألمر عظيم‪ ،‬وخطب‬
‫جسيم‪:‬‬
‫فاربأ بنفسك أن ترعى مع اهلمل‬ ‫قد هيئوك ألمـر لـو فطنـت لـه‬

‫مهرُ احملبة واجلنة بذل النفس واملال ملالكهما الذي اشرتاهما من‬
‫املؤمنني‪ ،‬فما للجبان املعرِض املف ِلس وسَومَ هذه السلعة! باهلل ما هزلت‬
‫فيستامها املفلسون‪ ،‬وال كسدت فيبيعها بالنسيئة املعسرون‪ ،‬لقد أقيمت‬
‫للعرض يف سوق من يريد‪ ،‬فلم يرض ربها هلا بثمن دون بذل النفوس‪،‬‬
‫فتأخر البطالون‪ ،‬وقام احملبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن‪،‬‬
‫فدارت السلعة بينهم ووقعت يف يد ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ‬
‫[املائدة‪)1( ]54 :‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ويف معنى هذه القاعدة النبوية‪« :‬كل الناس يغدو‪ ...‬نقرأ قوله تعاىل‪:‬‬
‫ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﭼ [البقرة‪.]207 :‬‬

‫‪288‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ولقد بلّغ النيب × هذا يف أوائل بعثته‪ ،‬فحني أنزل اهلل عليه ﭽ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁﮂﭼ قام خطيباً فقال‪« :‬يا بين عبد مناف اشرتوا أنفسكم‬
‫من اهلل‪ ،‬يا بين عبداملطلب اشرتوا أنفسكم من اهلل‪ ،‬يا أم الزبري بن العوام‬
‫عمة رسول اهلل‪ ،‬يا فاطمة بنت حممد اشرتيا أنفسكما من اهلل؛ ال أملك لكما‬
‫من اهلل شيئاً‪.)1(»...‬‬
‫يقول ابن رجبٍ – رمحه اهلل –‪« :‬وقد اشرتى مجاعةٌ من السلف‬
‫أنفسَهم من اهلل عز وجل بأمواهلم‪ ،‬فمنهم من تصدق مباله كله‪ :‬كحبيب أبي‬
‫حممد‪ ،‬ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثالث مرات أو أربعاً‪ :‬كخالد‬
‫الطحاوي‪ ،‬ومنهم من كان جيتهد يف األعمال الصاحلة ويقول‪ :‬إمنا أنا أسري‬
‫أسعى يف فكاك رقبيت‪ :‬منهم عمرو بن عتبة‪.‬‬
‫قال احلسن البصري – رمحه اهلل –‪ :‬املؤمن يف الدنيا كاألسري يسعى يف‬
‫فكاك رقبته‪ ،‬ال يأمن شيئاً حتى يلقى اهلل عز وجل‪ ،‬وقال‪ :‬ابن آدم! إنك‬
‫تغدو وتروح يف طلب األرباح‪ ،‬فليكن همُّك نفسَك؛ فإنك لن تربح مثلها‬
‫أبداً‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن عياش‪ :‬قال لي رجل مرة وأنا شاب‪ :‬خلِّص رقبتك‬
‫ما استطعت يف الدنيا من رِق اآلخرة؛ فإن أسري اآلخرة غري مفكوك أبداً‪،‬‬
‫قال‪ :‬فواهلل ما نسيتها بعد!‬
‫وكان بعض السلف يبكي ويقول‪ :‬ليس لي نفسان‪ ،‬إمنا لي نفس‬
‫واحدة‪ ،‬إذا ذهبت مل أجد أخرى! وأما حممد ابن احلنفية فيقول‪ :‬إن اهلل عز‬

‫‪289‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وجل جعل اجلنة مثناً ألنفسكم‪ ،‬فال تبيعوها بغريها» (‪.)1‬‬


‫وبهذا كلّه يتبني أن الدنيا سوق‪ ،‬وأن اإلنسان هو السلعة فيها‪،‬‬
‫واملعاملة فيه إمنا هي مع اهلل تعاىل‪ ،‬وإال فثمة اإلباق واخلسران املبني‪.‬‬
‫إن الغُدُ ّو الذي ذكره النيب × يف هذه القاعدة‪« :‬كل الناس يغدو» إمنا‬
‫هو إشارة إىل العمر والزمان الذي حيياه الواحد منا‪ ،‬فهو السوق اليت يغدو‬
‫فيها اإلنسان ويروح‪ ،‬وهلذا فمن أعظم الغف الذي يقع ويالحظ يف حياة‬
‫أكثر اخللق؛ هو تضييعهم للزمان بغري طائل‪ ،‬وإهدارهم الساعات واأليام‬
‫فيما ال يعود بالنفع اآلجل والعاجل؛ ولعظيم هذا الزمن كان حديث القرآن‬
‫والسنة عنهما عجباً من العجب‪ ،‬وحسبك أن تتدبر هذه اآلية اليت تشري إىل‬
‫عظيم الغف الذي وقع فيه أهل النار‪ ،‬وكيف ُربِطَ هذا مبسألة الزمن‪ ،‬قال‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [فاطر‪.]37 :‬‬
‫وتأمل – أيضاً – كيف ركّز القرآن على قضية ضياع الزمن – الذي‬
‫هو سوق النجاة يف هذه احلياة – وهو يذكر حسرات أهل النار على تضييع‬
‫أوقاتهم فيما عاد عليهم باخليبة واخلسران‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ [األعراف‪ ،]53 :‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫ﭽﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ‬

‫‪290‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [املؤمنون‪:‬‬
‫‪ ،]100 ،99‬وقال سبحانه‪ :‬ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﭼ [املؤمنون‪ ،]114 – 112 :‬وقال جل وعال‪ :‬ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﭼ [طه‪:‬‬
‫‪ ]104 – 102‬واآليات يف هذا املعنى كثرية‪ ،‬وهي تؤكد على أن معقد الربح‬
‫واخلسارة يف اغتنام هذا الوقت‪ ،‬فإن الناس كما أخربت عنهم هذه القاعدة‬
‫النبوية احملكمة‪« :‬كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»‪.‬‬
‫ولــيس هلــا يف اخللــق كلِّهــم مثــن‬ ‫أُثــامن بــالنفس النفيســة ربَّهــا‬
‫بشيءٍ من الدنيا؛ فذاك هـو الغـف‬ ‫بها متلك األخرى فإن أنا بعتها‬
‫لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن‬ ‫لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها‬

‫اللهم اجعلنا ممن غدا فأعتق نفسه بطاعتك‪ ،‬وجنبنا موارد اخليبة‬
‫واخلسران‪ ،‬واجعلنا من السعاة إليك‪ ،‬الفائزين برضاك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫االستعداد لآلخرة يكون بالسعي املشكور والعمل املربور‪.‬‬
‫قراءة سري السلف الصاحل مما يشحذ همتك لفكاك رقبتك‪.‬‬
‫اغد يف طاعة ربك‪..‬يغدُ إليك خريه وتوفيقه‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثانية واألربعون‪:‬‬


‫إن الدِّين يدسرٌ‬

‫إن اهلل تعاىل إمنا أوجب وظائفَ من الطاعات‬


‫يف وقت دون وقت تيسرياً ورمحة‪.‬‬
‫(بدر الدين العينى)‬

‫وردت هذه القاعدة يف البخاري تبويباً وخترجياً‪« :‬إن الدِّين يُسرٌ»‪،‬‬


‫وتتمة هذا احلديث‪« :‬ولن يُشادَّ الدين أحد إال غلبه»(‪.)1‬‬
‫هذا هو دين اهلل تعاىل! خيتصره النيب عليه الصالة والسالم يف هذه‬
‫القاعدة اجلليلة‪ ،‬اليت تبني حقيقة اإلسالم‪ ،‬وأنه دين يُسْرٍ وسهولة‪ ،‬يف كل‬
‫شؤونه وتعاليمه كما يأتي بيانه‪.‬‬
‫لقد رسّخ النيب × هذا األصل الكبري وهو‪« :‬إن الدين يسر»‪ ،‬وجعله‬
‫حُكماً عاماً ال يستثين شيئاً‪ ،‬فهو سهلٌ وميسّر يف عقائده وأخالقه وأعماله‪،‬‬
‫بل وفيما يُطلب تركه‪.‬‬
‫لنتأمل – أخي القارئ – مثالً يف اليسر الذي صاحب فَ ْرضِيّةَ‬
‫الصلوات اخلمس؛ فبدءاً من ختفيفها من مخسني صالة إىل مخس صلوات‪ ،‬ثم‬

‫‪292‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يف توزيع أوقاتها‪ ،‬ويف ختفيفها حال السفر‪ ،‬والرتخيص يف اجلمع عند وجود‬
‫املشقة‪ ،‬ويف كونها تسقط عن احلائض‪ ،‬ويف صالة النوافل من أنواع التيسري‬
‫والتسهيل ما هو ظاهر بيّن‪ ،‬فيجوز للمتنفل الصالة جالساً وإن مل يكن له‬
‫عذر‪ ،‬وكذلك يف شأن استقبال القبلة عند تعذر ذلك‪ ،‬وغريها من صور‬
‫التيسري‪.‬‬
‫وأما الزكاة‪ :‬فمن أوجه اليسر الظاهرة أنها ال جتب إال على من ملك‬
‫نصاباً‪ ،‬وال جتب إال يف العام مرةً واحدة‪ ،‬وال جتب يف مجيع األموال‪ ،‬بل يف‬
‫أنواع منها معروفة‪ ،‬وجعل النصاب قليالً جداً‪ :‬اثنني ونصف باملائة ‪%2.5‬‬
‫فقط مع كثرة ما بسط اهلل هلم من املال والرزق ‪ ،‬مع ما جعل اهلل فيها من‬
‫آثار نافعةٍ حسيةٍ ومعنوية‪ ،‬فبها تُدفع اآلفات عنهم وعن أمواهلم‪ ،‬وتَطهر‬
‫نفوسهم من شحها‪ ،‬وبها مواساةُ حملاوجيهم‪ ،‬وقيامٌ ملصاحلهم الكلية‪.‬‬
‫وأما الصيام‪ :‬فمن تأمل أول مشروعيّة الصيام‪ ،‬ثم ما حلقه بعد ذلك‬
‫من ختفيف أدرك شيئاً من معاني اليسر يف هذه الفريضة العظيمة‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫أن املفروض منه شهرٌ واحدٌ كل عام‪ ،‬والصيام ال جيب إال يف النهار فقط‪ ،‬بل‬
‫نهت السنة عن الوصال! وأباح اهلل الفطر ألهل األعذار كاملسافرين‬
‫واملرضى‪ ،‬ووسّع يف وقت القضاء فجعل أمده ما بني الرمضانني‪ ،‬وخبصوص‬
‫هذا الركن ختمت آيات الصيام بقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [البقرة‪.]185:‬‬
‫وأما احلج‪ :‬فإن اهلل مل يفرضه إال على املستطيع‪ ،‬ويف العمر مرة واحدة‬
‫فقط‪ ،‬ونوّع على عباده األنساك فوسّع عليهم يف ذلك‪ ،‬وجعل فيه من املنافع‬
‫الدينية والدنيوية ما ال ميكن حصره‪ ،‬كما قال تعاىل‪ :‬ﭽﮖ ﮗ ﮘ ﭼ‬
‫[احلجّ‪.]28:‬‬

‫‪293‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ويف أبواب املعامالت‪ :‬يظهر اليسر جلّياً‪ ،‬حيث إن األصل هو احلل‬


‫حتى يأتي دليل املنع‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭼ [البقرة‪:‬‬
‫‪.]275‬‬
‫ويف أبواب األنكحة‪ :‬مل حيرم اهلل على العبد من النساء إال عدداً حمدوداً‬
‫ملصلحةٍ عظيمة‪ ،‬وأباح ما سوى ذلك‪ ،‬وأطلق هذا الدينُ يف طريقة التعامل‬
‫بني األزواج‪ ،‬فلم يقيدها بشيء حمدد‪ ،‬بل ضبطها بضابط ينطبق على كل‬
‫أتباع هذا الدين‪ ،‬يف أي زمان ومكان‪ ،‬فقال سبحانه‪ :‬ﭽ ﯢ‬
‫ﯣﯤ ﭼ [النساء‪ ]19 :‬ما مل يكن هذا العرف خمالفاً للشرع‪.‬‬
‫والنموذج احملتذى يف فهم حقيقة اليسر والتشديد هو رسول اهلل ×‬
‫وسريته العملية!‬
‫بل إنين أقول وبكل وضوح وثقة‪ :‬إنك قد جتد يف سري بعض األئمة‬
‫األعالم ما ال تستطيع االقتداء به؛ ألن هذا اإلمام أو ذاك قد يكون اختار‬
‫لنفسه طريقة معيّنة يف التعبد أو التزهد أو الورع الدقيق لريبّي بها نفسه‪ ،‬وال‬
‫يراها تشريعاً للناس‪ ،‬أما رسول اهلل × فإنك لن جتد يف سريته وحياته شيئاً‬
‫يشقُّ االقتداء به‪ ،‬وهذا من أسرار كماله‪ ،‬ومن أسرار قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲﯳﯴﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺﯻﯼ ﯽﯾﯿ‬
‫ﰀ ﭼ [األحزاب ‪ ،]21 :‬فمن أراد أن يقتدي به سهل عليه ذلك‪ ،‬ورآه غريَ‬
‫شاقٍ عليه‪« ،‬بل يتمكن معه من أداء احلقوق كلها‪ :‬حقّ اهلل‪ ،‬وحقّ النفس‪،‬‬
‫وحقّ األهل واألصحاب‪ ،‬وحقّ كلّ من له حقّ على اإلنسان برفق وسهولة‪،‬‬
‫وأما مَن شدّد على نفسه‪ ،‬فلم يكتف مبا اكتفى به ×‪ ،‬وال مبا علَّمه لألمة‬
‫وأرشدهم إليه – بل غال‪ ،‬وأوغل يف العبادات – فإن الدِّين يغلبه‪ ،‬وآخِرُ أمرِه‬

‫‪294‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫العجزُ واالنقطاع‪ ،‬وهلذا قال‪« :‬ولن يُشَادّ الدينَ أحدٌ إال غلبه» أي‪« :‬ال‬
‫يتعمق أحدكم يف الدين – فيرتك الرفق – إال غلب الدينُ عليه‪ ،‬وعجز ذلك‬
‫املتعمق‪ ،‬وانقطع عن عمله كلِّه أو بعضه»(‪.)1‬‬
‫وهلذا نهى النيب × من أراد أن يشدِّد على نفسه يف العبادة من‬
‫أصحابه‪ ،‬كما يف قصة الرهط الثالثة الذين جاءوا إىل بيوت أزواج النيب ×‪،‬‬
‫يسألون عن عبادة النيب ×‪ ،‬فلما أُخربوا كأنهم تقالّوها! ثم قالوا‪ :‬وأين حنن‬
‫من النيب ×! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬قال أحدهم‪ :‬أما أنا‬
‫فإني أصلي الليل أبداً! وقال آخر‪ :‬أنا أصوم الدهر وال أفطر! وقال آخر‪ :‬أنا‬
‫أعتزل النساء فال أتزوج أبداً! فجاء رسول اهلل × إليهم‪ ،‬فقال‪« :‬أنتم الذين‬
‫قلتم كذا وكذا؟ أما واهلل إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له‪ ،‬لكين أصوم وأفطر‪،‬‬
‫وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنيت فليس مين!»(‪)2‬؛ وهلذا‬
‫أمر × بالقصد‪ ،‬وحثّ عليه فقال‪« :‬والقصدَ القصدَ تبلغوا» أي‪ :‬الزموا‬
‫القصد – وهو العدل – يف طاعة اهلل تعاىل‪ ،‬فإن فعلتم ذلك «تبلغوا» أي‪:‬‬
‫تبلغون مقصودكم‪ ،‬كما أن املسافر احلاذق املقتصد يف سفره يصل مقصوده‬
‫بغري تعب‪.‬‬
‫قال العالمة السعدي – رمحه اهلل –‪« :‬ويؤخذ من هذا أصلٌ نافعٌ‪ ،‬دلّ‬
‫عليه أيضاً قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [التغابن‪ ،]16:‬وقوله ×‪:‬‬
‫«إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم»‪ ،‬واملسائل املبنية على هذا األصل ال‬

‫‪295‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫تنحصر‪ ،‬ويف حديث آخر‪« :‬يسِّرا وال ُتعَسرا‪ ،‬وبَشِّرا وال تُنفرا(‪.»)1‬‬
‫فعلمتَ بهذا‪ :‬أنه يؤخذ من هذا احلديث العظيم عدة قواعد منها‪:‬‬
‫القاعدة األوىل‪ :‬التيسري الشامل للشريعة على وجه العموم‪.‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬املشقة جتلب التيسري وقت حصوهلا‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‪ :‬إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم‪.‬‬
‫فصلوات اهلل وسالمه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها»(‪.)2‬‬
‫واعلم أنه «ما أمرَ اهللُ بأمرٍ إال وللشيطان فيه نزعتان‪ :‬إما إىل تفريطٍ‬
‫وإضاعة‪ ،‬وإما إىل إفراطٍ وغلو‪ ،‬ودينُ اهلل وسطٌ بني اجلايف عنه والغالي فيه‪،‬‬
‫كالوادي بني جبلني‪ ،‬واهلدى بني ضاللتني‪ ،‬والوسط بني طرفني ذميمني‪،‬‬
‫فكما أن اجلايف عن األمر مضيِّع له؛ فالغالي فيه مضيع له‪ ،‬هذا بتقصريه عن‬
‫احلد‪ ،‬وهذا بتجاوزه احلد»(‪.)3‬‬
‫وقبل اخلتام ال بد من التعريج على مسألة مهمة جداً كثر اخلوض فيها‬
‫يف هذا العصر‪ ،‬وأصبح يرددها كلُّ من أراد التملص والتخفف من األحكام‬
‫الشرعية – من مفتني أو أتباع مفتني –؛ فصار يردد هذه القاعدة‪ ،‬ويوردها يف‬
‫غري حملها ويقول‪« :‬إن الدين يسر»؛ ليربر املفيت فتواه‪ ،‬واملقلد تقاعسه عن‬
‫االنقياد‪ ،‬أو األخذ مبا دلّ عليه الدليل؛ حبجة أنه يوجد من قال بهذا القول أو‬
‫ذاك من العلماء! وجواباً عن هذه الشبهة بإجياز يقال‪:‬‬

‫‪296‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ينبغي أن يعلم أن كلّ ما شرعه اهلل يسريٌ‪ ،‬فعلى من تصدر للفتيا أو‬
‫طلب جواباً أن يستحضر هذا املعنى جيداً‪ ،‬فدور املفيت التماس احلكم‬
‫بدليله‪ ،‬سواء وافق ما يهواه الناس أم ال‪ ،‬وليس من الدين يف شيء تتبُّع‬
‫رخص العلماء‪ ،‬وال زالتهم‪ ،‬وأن يعلم الباحث عن التيسري يف غري موضعه‬
‫أن هذا اتباع للهوى ال للهدى! وقد قال اهلل عز وجل‪ :‬ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ [القصص‪ ]50 :‬فال يوجد خيار ثالث‪ :‬إما‬
‫(‪)1‬‬
‫الشرع أو اهلوى‪.‬‬
‫اللهم أهلمنا الرشد يف القول والعمل‪ ،‬وأرنا احلق حقاً وارزقنا اتباعه‪،‬‬
‫والباطل باطالً وارزقنا اجتنابه‪ ،‬وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫لو اتبع الناس الدين الذي شرعه اهلل لزالت املشقة والعنت‪.‬‬
‫التيسري الشرعي ضابطه النقل ال العقل‪.‬‬
‫كلما كانت الفطرة سليمة ملست يسر الشريعة‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثالثة واألربعون‪:‬‬


‫من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلْيقل خرياً أو ليصمت‬
‫( ‪)1‬‬

‫لو كانت الصُّحُف من عندنا ألقللنا الكالم!‬


‫(مَالك بن دِينَار)‪.‬‬

‫هذه قاعدة حمكمة من قواعد السلوك‪ ،‬تدعو إىل ضبطُ عضوٍ من أخطر‬
‫أعضاء اإلنسان‪.‬‬
‫وهي قاعدة نوّه مجع من األئمة مبنزلتها العظيمة‪ ،‬فهذا اإلمام اجلليل‬
‫أبو حممد عبداهلل بن أبي زيد إمام املالكية باملغرب يف زمنه يقول‪ :‬جِماع آداب‬
‫اخلري يتفرع من أربعة أحاديث‪ :‬قول النيب ×‪« :‬من كان يؤمن باهلل واليوم‬
‫اآلخر فليقل خرياً أو ليصمت»‪ ،‬وقوله ×‪« :‬من حسن إسالم املرء تركه‬
‫ماال يعنيه»‪ ،‬وقوله × للذي اختصر له الوصية‪« :‬ال تغضب» وقوله ×‪:‬‬
‫«ال يؤمن أحدكم حتى حيب ألخيه ما حيب لنفسه» (‪.)2‬‬
‫لقد مهّد النيب عليه الصالة والسالم هلذه القاعدة بقوله‪« :‬من كان‬
‫يؤمن باهلل واليوم اآلخر» حّثاً وترغيباً يف ضبط هذه اجلارحة اليت ال يضبطها‪،‬‬
‫ويكفُّ شرها مثل مراقبة اهلل‪ ،‬وتذكر يوم القدوم عليه يف اآلخرة‪ ،‬فمن‬
‫استشعر هذا األمر «فلْيقل خرياً أو ليصمت»‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫قال اإلمام الشافعي – رمحه اهلل – مبيناً معنى هذه اجلملة‪« :‬إذا أراد أن‬
‫يتكلم فليفكِّر؛ فإن ظهر له أنه ال ضرر عليه تكلَّم‪ ،‬وإن ظهر له فيه ضرر‬
‫أوشَكَّ فيه أمسك»(‪.)1‬‬
‫ومن هنا أطبق السلف – رضي اهلل عنهم ورمحهم – على هذا املعنى‪،‬‬
‫وإليك شيئاً من خربهم‪:‬‬
‫يقول الفاروق رضي اهلل عنه‪« :‬من كثر كالمه كثر سقطه»(‪.)2‬‬
‫ويقول عليٌّ رضي اهلل عنه‪« :‬اللّسان قوام البدن‪ ،‬فإذا استقام اللّسان‬
‫استقامت اجلوارح‪ ،‬وإذا اضطرب اللّسان مل تقم له جارحة»(‪.)3‬‬
‫وقال عبداهلل بن مسعود – رضي اهلل عنه–‪« :‬إِن كَانَ السمُوم فِي شَيْء‬
‫َففِي اللِّسَان‪ ،‬وَوَاللَّه مَا على وَجه األَرض شيء أَحق بطول سجن من‬
‫اللِّسان»(‪.)4‬‬
‫ومن مجيل ما يؤثر عن عبداهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما قوله‪« :‬دع ما‬
‫لست منه يف شيء‪ ،‬وال تنطق فيما ال يعنيك‪ ،‬واخزن لسانك كما ختزن‬
‫َورِقك»(‪.)5‬‬
‫وهذا عبداهلل بن طاوس– رمحه اهلل– حيكي عن أبيه فيقول‪ :‬كان‬

‫‪299‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫طاوس– رمحه اهلل– يتعذّر من طول السّكوت ويقول‪« :‬إنّي جرّبت لساني‬
‫( ‪)1‬‬
‫فوجدته لئيماً»‪ ،‬وقال طاوس– رمحه اهلل–‪« :‬لساني سَُبعٌ إن أرسلته أكلين»‪.‬‬

‫وهذا يعلى بن عبيد– رمحه اهلل– يقول‪« :‬دخلنا على حممّد بن سوقة‬
‫فقال‪« :‬أحدّثكم حبديث لعلّه ينفعكم فإنّه قد نفعين! قال لنا عطاء بن أبي‬
‫رباح‪ :‬يا بين أخي‪ ،‬إنّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكالم‪ ،‬وكانوا‬
‫يعدّون فضول الكالم ما عدا كتاب اهلل أن تقرأه‪ ،‬أو تأمر مبعروف‪ ،‬أو تنهى‬
‫عن منكر‪ ،‬أو تنطق حباجتك يف معيشتك الّيت ال بدّ لك منها‪ ،‬أتنكرون‪:‬‬
‫ﭽﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ [االنفطار‪ ]11 –10 :‬ﭽ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ [ق‪–17 :‬‬
‫‪ ،]18‬أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته الّيت أملى صدر نهاره‪،‬‬
‫كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه وال دنياه؟!»(‪.)2‬‬

‫ويقول يونس بن عبيد‪« :‬ما من النّاس أحد يكون لسانه منه على بال‬
‫إلّا رأيت صالح ذلك يف سائر عمله»(‪.)3‬‬
‫حفَظةً موكلني به‪ ،‬يُحصُون عليه سقطَ‬
‫«ما أحق مَن علِم أن عليه َ‬
‫كالمه‪ ،‬وعثراتِ لسانه؛ أن خيزنه‪ ،‬وَيقِل كالمُه فيما ال يعنيه‪ ،‬وما أحراه‬
‫بالسعي يف أن ال يرتفع عنه ما يطول عليه ندَمُه‪ :‬مِن قول الزور‪ ،‬واخلوض‬

‫‪300‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فى الباطل‪ ،‬وأن جياهد نفسَه يف ذلك‪ ،‬ويستعني باهلل‪ ،‬ويستعيذ مِن شر‬
‫لسانه»(‪.)1‬‬
‫ومن األحاديث الواردة يف هذا املعنى‪ ،‬وهي بشارة ألهله قوله × –‬
‫كما يف البخاري–‪« :‬من يضمن لي ما بني حلييه» يعنى‪ :‬لسانه‪ ،‬فلم يتكلم مبا‬
‫يكتبه عليه صاحب الشمال‪« ،‬وما بني رجليه» يعنى‪ :‬فرجه‪ ،‬فلم يستعمله‬
‫فيما ال حيل له‪« :‬أضمن له اجلنة»(‪.)2‬‬
‫وهذا يدلُّ على أن أعظم البالء على العبد يف الدنيا‪ :‬اللسان‪ ،‬والفرج‪،‬‬
‫فمن وقي شرَّهما فقد وقي أعظمَ الشر‪.‬‬
‫«قال عمار الكليب‪:‬‬
‫فإنــه مــن لــزم الصــمت س ـلِم‬ ‫وقـــل اخلـــري وإال فاصـــمنت‬

‫وقال آخر‪:‬‬
‫وكلُّ امرئ ما بني فكَّيـه مقتـل‬ ‫لسان الفتى حتفُ الفتى حني جيهلُ‬

‫فمن كانت هذه حاله هو املأمور بالصمت‪ ،‬ال قائل اخلري وذاكر‬
‫اهلل»(‪.)3‬‬

‫ومن األحاديث اليت تؤكد معنى هذه القاعدة النبوية‪« :‬فليقل خرياً أو‬
‫ليصمت» قوله × يف احلديث اآلخر املتفق عليه‪« :‬إن اهلل كره لكم ثالثاً‪:‬‬

‫‪301‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫قيل وقال‪ ،‬وإضاعة املال‪ ،‬وكثرة السؤال»(‪ ،)1‬فاهلل يكره منا احلديث مبا ال‬
‫معنى له‪ ،‬وال فائدة فيه‪ ،‬مِن أحاديث الناس اليت أكثرها غِيبة وَلغَط وكذب‪،‬‬
‫ومَن أكثر مِن القيل والقال مع العامة مل يَسلَم من اخلوض يف الباطل‪ ،‬وال مِن‬
‫االغتياب‪ ،‬وال من الكذب»(‪.)2‬‬

‫ويف هذه القاعدة النبوية‪« :‬دليلٌ على حُسن الصمت ومدحِه‪ ،‬واملراد به‬
‫عن فضول الكالم‪ ،‬وقد وردت عدة أحاديث دالة على مدح الصمت‪،‬‬
‫ومدحه العقالء والشعراء‪.‬‬
‫واعلم أن فضول الكالم ال تنحصر‪ ،‬بل املهم حمصورٌ يف كتاب اهلل‬
‫تعاىل حيث قال‪ :‬ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭼ [النساء‪ ،]114 :‬وآفاته ال تنحصر فعُدَّ‬
‫منها‪:‬‬
‫اخلوض يف الباطل‪ :‬وهو احلكاية للمعاصي؛ من خمالطة النساء وجمالس‬
‫اخلمر ومواقف الفساد وتنعم األغنياء وجتبّر امللوك وموامسهم املذمومة‪،‬‬
‫وأحواهلم املكروهة؛ فإن كل ذلك مما ال حيل اخلوض فيه‪ ،‬فهذا حرام‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الغيبة والنميمة‪ ،‬وكفى بها هالكاً يف الدين‪ ،‬ومنها‪ :‬املراء‪،‬‬
‫واجملادلة‪ ،‬واملزاح‪ ،‬ومنها‪ :‬اخلصومة والسب‪ ،‬والفحش وبذاءة اللسان‪،‬‬
‫واالستهزاء بالناس والسخرية‪ ،‬والكذب‪ ،‬وقد عد الغزالي يف اإلحياء عشرين‬

‫‪302‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫آفة‪ ،‬وذكر يف كل آفة كالم ًا بسيطاً حسناً‪ ،‬وذكر عالج هذه اآلفات»(‪.)1‬‬
‫قال الغزالي‪« :‬ففي اخلوض خطر‪ ،‬ويف الصمت سالمة؛ فلذلك‬
‫عظمت فضيلته‪ ،‬هذا مع ما فيه – أي الصمت – من مجع اهلم‪ ،‬ودوام الوقار‪،‬‬
‫والفراغ للفكر والذكر والعبادة‪ ،‬والسالمة من تبعات القول يف الدنيا ومن‬
‫حسابه يف اآلخرة؛ فقد قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ‬
‫[ق‪.)2(»]18 :‬‬
‫ولنتذكر جيداً أن اللسان سالح ذو حدين‪ ،‬فتأمل قوله × يف هذه‬
‫القاعدة‪« :‬فليقل خرياً أو ليصمت» أي‪ :‬عن شر‪ ،‬وكما أن أبواب الشر‬
‫الصادرة عن اللسان كثرية؛ فكذلك أبواب اخلري الصادرة من اللسان كثرية‬
‫ميسرة – ملن وفقه اهلل –‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫تالوة كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وهو أعظم ما استُخدمت فيه اللسان‪ ،‬وذكر اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬والنصيحة احلسنة‪ ،‬وتبليغ دين اهلل تعاىل‪ ،‬والذب عن عرض مسلم‪،‬‬
‫والشفاعة يف حق‪ ،‬واجلدال باليت هي أحسن؛ إلحقاق حق أو إبطال باطل‪،‬‬
‫والدعاء‪ ،‬وإدخال السرور على مسلم‪ ،‬وإزاحة همٍّ عن آخر‪...‬إىل أبواب‬
‫أخرى يسرح فيها اللسان راحباً بإذن اهلل غري خاسر‪.‬‬

‫«‬

‫»‬

‫‪303‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ختاماً‪ :‬لقد ألف اإلمام ابن أبي الدنيا كتاباً حافالً يف هذا الباب مسّاه‪:‬‬
‫(الصمت) وهو جدير باملطالعة‪ ،‬واإلفادة منه؛ إال ما خيص األحاديث‬
‫املرفوعة‪ ،‬فالغالب عليها الضعف! وإمنا أعين هنا النظر يف آثار الصحابة‬
‫والتابعني – رضي اهلل عنهم – فسريى املطالع ما يوضح له خوف السلف‬
‫من ألسنتهم‪ ،‬وعظيم حرصهم على تطبيق هذه القاعدة النبوية‪« :‬فليقل خرياً‬
‫أو ليصمت»‪.‬‬

‫اللهم وفقنا حلفظ ألسنتنا ومجيع جوارحنا عن حمارمك‪ ،‬واستعملنا ربنا‬


‫يف طاعتك‪ ،‬وحبب إلينا اإلميان وزينه يف قلوبنا‪ ،‬وكرِّه إلينا الكفر والفسوق‬
‫والعصيان‪ ،‬واجعلنا من الراشدين‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫إذا وُقيت شر لسانك فقد وُقيت شراً كثرياً‪.‬‬
‫ما كل صمت حممود‪ ،‬وال كل كالم مذموم؛ فدر مع الشرع‬
‫حيث دار‪.‬‬
‫احلرب أوهلا كالم‪..‬فال تكثر اجلدل العقيم‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الرابعة واألربعون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليدكرم جاره‬

‫إذا محِد الرجلَ جارُه وذو قرابته ورفيقُه؛ فال‬


‫تشكُّوا يف صالحه‪( .‬عمر بن اخلطاب)‬

‫إن هذه القاعدة لبنة من لبنات ذلكم القصر الكبري‪ :‬قصر مكارم األخالق‬
‫الذي بناه ديننا العظيم‪.‬‬
‫وتأمل كيف صدّر هذه القاعدة العظيمة بهذا الشرط العظيم فقال‪« :‬من‬
‫كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر» أي‪ :‬إمياناً كامالً تاماً‪ ،‬نقياً صافياً؛ فإن إميانه باهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬الذي يأمره باإلحسان للخلق‪ ،‬وإميانه باليوم اآلخر وما فيه من أهوال؛‬
‫يدعوه حلفظ حق اجلار‪.‬‬
‫وقوله‪« :‬فليكرم جاره» ومل حيدد نبينا × صورةً معينة من صور الكرم؛‬
‫فيدخل يف ذلك كل ما ميكن أن يُكرم به‪ :‬من البِشْر‪ ،‬وطالقة الوجه‪ ،‬وبذل‬
‫الندى‪ ،‬وكف األذى‪ ،‬وحتمّل ما فرط منه‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬ومل يقل مثالً‪( :‬فليكرمه‬
‫بإعطاء الدراهم‪ ،‬أو الصدقة‪ ،‬أو اللباس)‪ ،‬أو ما أشبه هذا‪ ،‬وكل شيء يأتي‬
‫مطلقاً يف الشريعة فإنه يرجع فيه إىل العُرف‪ ،‬كما قال الناظم‪:‬‬

‫‪305‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بالشـــرع كـــاحلِرز فبـــالعُرف‬ ‫وكـــلُّ مــــا أتــــى ومل حيــــدد‬

‫فاإلكرام إذاً ليس مُعيَّناً‪ ،‬بل ما عدّه الناسُ إكراماً‪ ،‬وخيتلف من جار إىل‬
‫آخر‪ ،‬فجارك الفقري رمبا يكون إكرامه برغيف خبز‪ ،‬وجارك الغين ال يكفي هذا‬
‫يف إكرامه‪ ،‬وجارك الوضيع رمبا يكتفي بأدنى شيء يف إكرامه‪ ،‬وجارك الشريف‬
‫(‪)1‬‬
‫حيتاج إىل أكثر‪.‬‬
‫وقد جاء يف بعض طرق هذا احلديث عند اإلمام مسلم‪« :‬فليحسن إىل‬
‫جاره»(‪ ،)2‬ويقال يف هذا اللفظ ما قيل يف سابقه‪ :‬إن النيب × مل حيدد صورةً‬
‫معينة من صور اإلحسان؛ فيدخل يف ذلك كل ما ميكن أن يُحسن به إىل اجلار‪:‬‬
‫من بذل املعروف‪ ،‬وقضاء الدين‪ ،‬وإعانته يف ضوائقه‪ ،‬والوقوف معه يف مصائبه‪،‬‬
‫وتفقد حوائجه‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫وتأمل – أيها املؤمن املوفق – هذا احلديث العظيم الذي يؤكد هذا املعنى‬
‫الشرعي الكبري‪ ،‬ففي الصحيحني من حديث عائشة قالت‪ :‬قال رسول اهلل ×‪:‬‬
‫«ما زال جربيلُ يوصيين باجلارِ حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه»(‪.)3‬‬
‫ومن املعلوم أن جربيلَ عليه السالم إمنا فعل ذلك بأمرٍ من اهلل تعاىل‪ ،‬وقد‬
‫وقع التكرار بالوصية إىل احلدّ الذي توقع النيب × أن يكون للجار نصيبٌ من‬
‫إرث جاره!‬
‫قارن هذا بأحوال بعض اجلريان اليوم؛ جتد ما يؤسَف عليه‪ :‬مِن بُعد عن‬
‫احلفاوة بهذه الوصية النبوية الكرمية!‬

‫‪306‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إن قوله × يف هذه القاعدة‪« :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم‬
‫جاره» يدل على أن هذا من خصال اإلميان‪ ،‬واألعمال اليت تقوي اإلميان‪.‬‬
‫وأعمال اإلميان تارة تتعلق حبقوق اهلل‪ :‬كأداء الواجبات وترك احملرمات‪،‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬قول اخلري‪ ،‬والصمت عن غريه‪ ،‬وتارة تتعلق حبقوق عباده‪ :‬كإكرام‬
‫(‪)1‬‬
‫الضيف‪ ،‬وإكرام اجلار‪ ،‬والكف عن أذاه‪.‬‬
‫وتأمل قوله × يف هذه القاعدة‪« :‬فليُكرم جارَه»؛ وهذا طلب شيءٍ زائد‬
‫عن كفّ األذى‪ ،‬وحفظ أسرار اجلار‪ ،‬وحب اخلري له! يتبني لك بذلك كلّه‬
‫حرص اإلسالم على حفظ حق اجلوار‪.‬‬
‫يقول بعض أهل العلم‪ :‬ومجلة حق اجلار على اجلار‪ :‬إن استقرضَك‬
‫أقرضتَه‪ ،‬وإن استعانك أعنتَه‪ ،‬وإن مرض عدتَه‪ ،‬وإن احتاج أعطيتَه‪ ،‬وإن افتقر‬
‫عدتَ عليه‪ ،‬وإن أصابه خري هنيّته‪ ،‬وإن أصابته مصيبةٌ عزَّيته‪ ،‬وإذا مات اتبعتَ‬
‫جنازته‪ ،‬وال تستطل عليه بالبناء فتَحجُب عنه الريحَ إال بإذنه‪ ،‬وال تؤذه بريح‬
‫قِدرك إال أن تغرف له‪ ،‬وإن اشرتيتَ فاكهة فأَهدِ له‪ ،‬وإن مل تفعل فأدخلها سراً‬
‫وال تُخرج بها ولدَك ليغيظ بها ولدَه(‪ ،)2‬وتهَنِّئَه يف الفرحِ‪ ،‬وتُظهِر الشَّرِكَةَ فِي‬
‫السرور معه‪ ،‬وتصفح عن زالته‪ ،‬وال تطلع مِنَ السَّطح إىل عَورَاتِهِ‪ ،‬وال تضايقه‬
‫فِي مصب املاء يف ميزابه‪ ،‬وال يف مطرح الرتاب يف فنائه‪ ،‬وال تضيق طرقه إىل‬
‫الدَّار‪ ،‬وال تُتْبِعه النَّظَرَ فِيمَا يَحْمله إىل داره‪ ،‬وتسْتُر ما يَنْكَشِف له من عَوْرَاتِهِ‪،‬‬

‫‪307‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫(‪)1‬‬
‫وتقف معه إِذَا نابَتْه نَائِبَةٌ‪ ،‬وَلَا تغْفل عن تفقد حاجة أهله عند غَيْبَتِهِ‪.‬‬
‫شكا بعضُهم كثرة الفأر يف داره! فقيل له‪ :‬لو اقتنيت هراً؟ فقال‪ :‬أخشى‬
‫أن يسمع الفأرُ صوتَ اهلر فيهرب إىل دور اجلريان؛ فأكون قد أحببتُ هلم ما ال‬
‫(‪)2‬‬
‫أحب لنفسي!‬

‫وإذا كان حسن اجلوار يدعو إليه ويتخلق به نفرٌ من أهل اجلاهلية؛ فألن‬
‫يدعو إليه ويتخلق به املسلم بربه أحق وأوىل‪ ،‬هذا قائل اجلاهلية يقول‪:‬‬
‫وإليـــه قبلـــي ينـــزل القِـــدرُ‬ ‫نـــاري ونـــارُ اجلـــار واحـــدةٌ‬
‫أن ال يكــــون لبابــــه ســــرت‬ ‫مــا ضــر جــاري إذا أجــاوره‬

‫وقال آخر‪:‬‬
‫حتــى يــواري جــارتي مأواهــا‬ ‫وأغــض طــريف إن بــدت لــي‬
‫ونالحظ من نصوص الشريعة وإطالقاتها‪ ،‬ومن تطبيقات النيب ×‬
‫وأصحابه رضوان اهلل عليهم أن هذا احلق يشمل املسلمَ والكافرَ‪ ،‬والعابدَ‬
‫والفاسقَ‪ ،‬والصديقَ والعدوَ‪ ،‬والغريبَ والبلديَ‪ ،‬والنافعَ والضارَ‪ ،‬والقريبَ‬
‫واألجنيبَ‪ ،‬واألقربَ داراً واألبعدَ‪ ،‬وله مراتبُ أعلى من بعض‪ ،‬فأعالها‪ :‬من‬
‫اجتمعت فيه الصفات األُ َول كلها‪ ،‬ثم أكثرها‪ ،‬وهلم جراً إىل الواحد‪ ،‬وعكسه‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫من اجتمعت فيه الصفات األخرى‪ ،‬فيُعطى كلٌ حقه حبسب حاله‪.‬‬
‫فإن قلتَ‪ :‬ما حدّ اجلريان الذين جيب هلم هذا احلق الذي عظّمه الشرع؟‬

‫‪308‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫واجلواب‪ :‬أن يف ذلك اختالفاً بني أهل العلم‪ ،‬وأصح األقوال يف هذه‬
‫املسألة‪ :‬أن ذلك يرجع إىل العرف‪ ،‬فما تعارف عليه الناس أنه من اجلريان فهو‬
‫كذلك إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا اختيار ابن قدامة – رمحه اهلل (‪.)1‬‬
‫قالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬يا رسول اهلل! إن لي جارين‪ ،‬فإىل أيهما‬
‫أُهدي؟ قال‪« :‬إىل أقربهما منك باباً»(‪ ،)2‬أي‪ :‬أشدهما قرباً‪ ،‬قيل‪ :‬احلكمة فيه أن‬
‫األقرب يرى ما يدخل بيتَ جاره من هدية وغريها؛ فيتشوف هلا‪ ،‬خبالف‬
‫األبعد‪ ،‬وأن األقرب أسرع إجابة ملا يقع جلاره من املهمات‪ ،‬وال سيما يف أوقات‬
‫(‪)3‬‬
‫الغفلة‪.‬‬
‫ويف مقابل ما سبق لنتأمل هذا الوعيد الذي يؤكد خطورة أذية اجلريان‪:‬‬
‫يقول × – كما يف البخاري من حديث أبي شريح – رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫«واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن!» قيل‪ :‬ومن يا رسول اهلل؟! قال‪:‬‬
‫«الذي ال يأمن جارُه بوائقَه»(‪.)4‬‬
‫ففي هذا دليل على حتريم العدوان على اجلار؛ سواء كان ذلك بالقول أو‬
‫بالفعل‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أما بالقول‪ :‬فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه‪ ،‬كالذين يفتحون الراديو أو‬
‫التلفزيون أو غريهما مما يُسمَع فيزعِج اجلريان‪ ،‬فإن هذا ال حيل له‪ ،‬حتى لو‬
‫فتحه على كتاب اهلل! وهو مما يزعج اجلريان بصوته فإنه معتدٍ عليهم‪ ،‬وال حيل‬
‫له أن يفعل ذلك!‬

‫وأما بالفعل‪ :‬فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه‪ ،‬والتضييق عليه عند مداخل‬
‫بابه‪ ،‬أو بالدق‪ ،‬أو ما أشبه ذلك مما يضره‪ ،‬ومن هذا أيضاً‪ :‬إذا كان له خنلة أو‬
‫شجرة حول جدار جاره فكان يسقيها حتى يؤذي جاره بهذا السقي‪ ،‬فإن ذلك‬
‫من بوائق اجلار فال حيل له‪.‬‬

‫إذن‪ :‬حيرم على اجلار أن يؤذي جاره بأي شيء‪ ،‬فإن فعل فإنه ليس‬
‫مبؤمن؛ واملعنى أنه ليس متصفاً بصفات املؤمنني يف هذه املسألة اليت خالف بها‬
‫(‪)1‬‬
‫احلق‪.‬‬

‫«قال بعض احلكماء‪ :‬عجباً من املسيء اجلوار! املؤذي جلاره‪ ،‬وهو مطلع‬
‫على أخباره! وعامل بأسراره‪ ،‬جيعله عدواً؛ إن علم خرياً أخفاه‪ ،‬وإن توهم شراً‬
‫أفشاه‪ ،‬فهو قذاةٌ يف عينه ال يَطرَف عنها‪ ،‬وشجىً يف حلقه ما يتسوغ معه‪ ،‬فليتَه‬
‫إذ مل يكرم مثواه‪ ،‬كفَّ عنه أذاه‪ ،‬فإمنا دارُ املرء دنياه! أو مل يسمع قول الشاعر‪:‬‬
‫كأن جلارنا فضالً علينا؟‬ ‫ونُكرِم جارَنا حتى ترانا‬

‫‪310‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ختاماً ‪ ..‬يقول احلسن البصري – رمحه اهلل –‪ :‬ليس حُسن اجلوار كفّ‬
‫(‪)1‬‬
‫األذى عن اجلار‪ ،‬ولكن حسن اجلوار‪ :‬الصرب على األذى من اجلار»‪.‬‬
‫اللهم اجعلنا من احلافظني حلقوق جريانهم‪ ،‬املتخلقني مبا أمرتهم‪ ،‬املنتهني‬
‫عما نهيتهم‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫اخرت جارك قبل دارك‪.‬‬
‫التقصري يف حقوق اجلريان مؤشر خطري على تفكك اجملتمع‪.‬‬
‫أحسن جلارك وإن جار عليك‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة واألربعون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫اعملوا فك ٌل ميسّر ملا خدلق له‬

‫وكل امرئ يصبو إىل ما يناسـبه‬ ‫وكل امرئ يهفو علـى مـا حيبـه‬

‫وهذه القاعدة جاءت ضمن حديث أخرجه الشيخان‪ ،‬وله قصة‪ ،‬حدثنا‬
‫بها أبو احلسن علي بن أبي طالب – رضي اهلل عنه – يقول‪ :‬كان رسول اهلل‬
‫× لثاني عالمة يف جنازة ذات يوم جالساً ويف يده عود ينكت به‪ ،‬فرفع‬
‫رأسه فقال‪ « :‬ما منكم من نفس إال وقد علم منزهلا من اجلنة والنار» قالوا‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل! فلم نعمل؟ أفال نتكل؟ قال‪« :‬ال! اعملوا‪ ،‬فكل ميسر ملا خلق‬
‫له» ثم قرأ‪ :‬ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [الليل‪ ]6 :‬إىل‬
‫قوله‪ :‬ﭽﯛ ﯜ ﯝ ﭼ [الليل‪.)2( ]10 :‬‬
‫إنها قاعدة نبوية ختاطب وجدان كل مسلم‪ ،‬وتقول له‪ :‬ال توقُّفَ يف‬
‫احلياة‪ ،‬ليس هناك يف عامل الزمن حمطات وقوف؛ ألن قطار األعمار ليس يف‬
‫يد أحد من البشر!‬
‫فالعملَ العملَ‪ ،‬واجلدَّ اجلدَّ؛ فالطريق الذي يوصل إىل اآلخرة ال جتد‬
‫فيه متوقفاً‪ ،‬بل ال ترى فيه إال متقدماً سابقاً‪ ،‬أو متأخراً متعثراً‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪:‬‬

‫‪312‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭼ [املدثر‪.]37 :‬‬
‫إنها قاعدة عظيمة تتضمن أصالً كبرياً من أصول اإلميان الستة‪ ،‬وهو‬
‫اإلميان بالقدر خريه وشره‪ ،‬حلوه ومُرّه‪ ،‬أوله وآخره‪ ،‬وهذا ال يتم إال بأن‬
‫يعرتف العبدُ أن علم اهلل حميط بكل شيء‪ ،‬وأنه عَلِم أعمال العباد خريها‬
‫وشرها‪ ،‬وعلم مجيع أمورهم وأحواهلم‪ ،‬وكتب ذلك يف اللوح احملفوظ‪ ،‬كما‬
‫قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [احلجّ‪ ،]7:‬وأن اهلل تعاىل ينفذ هذه األقدار يف‬
‫أوقاتها حبسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته‪ ،‬الشاملتان لكل ما كان وما يكون‪،‬‬
‫احمليطتان باخللق واألمر‪ ،‬وأنه أعطى العبادَ قدرةً وإرادةً تقع بها أفعاهلم‬
‫حبسب اختيارهم‪ ،‬مل جيربهم عليها‪ ،‬ويقع عليها احلساب واجلزاء‪.‬‬
‫فإن قلتَ‪ :‬كيف أفهم ما تقرره يف قضية الق َدر‪ ،‬وهذه القاعدةُ تقرر أن‬
‫كالً منا ميسّر ملا خُلق له؟!‬
‫واجلواب‪ :‬أن أفعالنا وأقوالنا تقع بقدرتنا ومشيئتنا اللتني سيحاسبنا اهلل‬
‫عليهما‪ ،‬وأعطانا – سبحانه – قدرات ومواهب‪ ،‬نقضي بها ما قُدّر لنا‬
‫قضاؤه‪ ،‬فعلينا الكشف عن هذه القدرات والطاقات‪ ،‬وأال نتكلّف ما ال‬
‫يناسبنا فـ‪«:‬كلٌ ميسّر ملا خُلق له»‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ :‬فإن هذه القاعدة النبوية احملكمة تشري إىل معنى آخر؛‬
‫وهو أن من وَجَّه وجهه وقصده لربه حبَّب إليه اإلميان وزينه يف قلبه‪ ،‬وكرّه‬
‫إليه الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬وجعله من الراشدين؛ فتمت عليه نعمُ اهلل‬
‫من كل وجه‪.‬‬
‫ومن وجّه وجهه لغري اهلل‪ ،‬وتوىل عدوه الشيطان؛ مل ييسره هلذه األمور‪،‬‬

‫‪313‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫بل وَالَّه اهلل ما توىل‪ ،‬وخذله‪ ،‬ووكله إىل نفسه‪ ،‬وليس له على ربه حجة؛ فإن‬
‫اهلل أعطاه مجيع األسباب اليت يقدر بها على اهلداية‪ ،‬ولكنه اختار الضاللة‬
‫على اهلدى فال يلومن إال نفسه‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﭼ [الكهف‪ ،]29 :‬وقال عز‬
‫وجل‪:‬ﭽﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌ ﮍ‬
‫ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕﮖ‬
‫ﮗ ﭼ [املائدة‪ ،]16:‬وهذا القَدَر يأتي على مجيع أحوال العبد وأفعاله‬
‫وصفاته‪ ،‬حتى العجز والكَيْس‪ ،‬كما يف احلديث‪« :‬كل شيء بقَدَر حتى العجز‬
‫(‪)1‬‬
‫وهما الوصفان املتضادان الذي ينال باألول منهما‪ :‬اخليبة‬ ‫والكيس»‬
‫واخلسران‪ ،‬وبالثاني‪ :‬اجلد يف طاعة الرمحن‪ ،‬واملراد هنا‪ :‬العجز الذي يالم‬
‫عليه العبد؛ وهو عدم اإلرادة‪ ،‬والكسل‪ ،‬ال العجز الذي هو عدم القدرة‪.‬‬
‫سهم وتوفيقهم‬
‫أما أهل السعادة‪ :‬فييسرون لعمل السعادة‪ ،‬وذلك بكَيْ ِ‬
‫ولطف اهلل بهم‪.‬‬
‫ومن ثم قال العلماء‪« :‬إذا كانت اهلداية مصروفة‪ ،‬واالستقامة على‬
‫مشيئته موقوفة‪ ،‬والعاقبة مغيّبة‪ ،‬واإلرادة غري معلومة وال مغالَبَة؛ فال تعجب‬
‫بإميانك‪ ،‬وصالتك‪ ،‬ومجيع قُرَبك؛ فإنها من حمض فضل ربك وجوده‪ ،‬فرمبا‬
‫سلبها عنك فوق ْعتَ يف هُوّة الندم حيث ال ينفع الندم»(‪.)2‬‬
‫واألصل يف هذا حديث سهل بن سعد – رضي اهلل عنه – عند‬

‫‪314‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫البخاري‪ ،‬قال ×‪« :‬إن الرجل ليعمل بعمل أهل اجلنة – فيما يبدو للناس –‬
‫وإنه ملن أهل النار‪ ،‬ويعمل بعمل أهل النار – فيما يبدو للناس – وهو من‬
‫أهل اجلنة»(‪ ،)1‬فالرياء هو اخلطر املهلك‪.‬‬
‫إن هذه القاعدة النبوية اجلليلة‪« :‬اعملوا فكلٌ ميسّر ملا خُلق له» تُلفت‬
‫انتباه اآلباء واملربني ألمر هو يف غاية األهمية‪ ،‬عليهم مراعاته إلجناح عملية‬
‫تربيتهم‪ ،‬هذا األمر هو‪ :‬حماولة الكشف عن ميول املرتبي‪ ،‬ومعرفة جوانب‬
‫اإلبداع عنده‪ ،‬فإذا عرفها املربي سعى يف تطويرها له‪ ،‬وصرف هلا الوقت‬
‫األكرب؛ واالهتمام األبلغ‪ ،‬وال بد أن لكل إنسان خلقه اهلل تعاىل نفعٌ يف جمال‬
‫من جماالت احلياة‪ ،‬فما خلق اهلل شيئاً عبثاً‪ ،‬والسعيد من اكتشف جمال إبداعه‬
‫وختصصه يف وقت مبكر من العمر؛ ثم سعى يف تنميته وإذكائه‪.‬‬
‫وهذا هو ما طبّقه النيب × عملياً مع أصحابه رضوان اهلل عليهم‪،‬‬
‫فجعل للخطابة ثابت بن قيس‪ ،‬وملنرب الشعر حسان‪ ،‬وللمعارك سيف اهلل‬
‫خالد‪ ،‬ويف الرتمذي وصححه من حديث أنس – رضي اهلل عنه – قال‪ :‬قال‬
‫×‪« :‬أرحم أميت بأميت أبو بكر‪ ،‬وأشدهم يف أمر اهلل عمر‪ ،‬وأصدقهم حياء‬
‫عثمان‪ ،‬وأقرؤهم لكتاب اهلل أُبي بن كعب‪ ،‬وأفرضهم زيد بن ثابت‪،‬‬
‫وأعلمهم باحلالل واحلرام معاذ بن جبل‪ ،‬أال وإن لكل أمة أمينا وإن أمني‬
‫هذه األمة أبو عبيدة بن اجلراح»(‪.)2‬‬

‫»‬ ‫«‬

‫‪315‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫يقال إن « أفالطون سأل بعضَ تالمذته عن مسألة مل تكن تليق حباله‪،‬‬


‫فقال‪ :‬لستُ من أهلها؛ فلكل تربة غرس‪ ،‬ولكل بناء أُس‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬تصفح طالبَ علمِك كما تتصفح خُطّاب حُرَمِك‪.‬‬
‫وكان يونسُ بن حبيب خيتلف إىل اخلليل؛ يتعلم منه العَروض‪ ،‬فصعُب‬
‫عليه تعلُّمه‪ ،‬فقال له اخلليل يوماً‪ :‬من أي حب ٍر قول الشاعر‪:‬‬
‫وجــــاوزه إىل مــــا تســــتطيع‬ ‫إذا مل تســــتطع شــــيئاً فدعــــه‬

‫ففطن يونسُ ملا عناه اخلليل! فرتك العَروض‪.‬‬


‫وقيل‪ :‬اخرت كلَّ إنسانٍ للفنّ الذي يستطيبه؛ فبقدر شهوته يكون نفاذه‬
‫فيه‪.‬‬
‫ويروى عن عيسى عليه الصالة والسالم‪ :‬ال تضعوا احلكمة يف غري‬
‫أهلها فتظلموها‪ ،‬وال متنعوها أهلها فتظلموهم‪ ،‬وكن كالطبيب احلاذق يضع‬
‫دواءه حيث يعلم أنه ينتفع به»(‪.)1‬‬
‫ومن النصوص القرآنية اليت تلتقي يف معناها مع هذه القاعدة‪ ،‬قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﭼ [البقرة‪ ]60 :‬واملعنى‪ :‬أن كل‬
‫واحدٍ يعمل على طريقته اليت تُشاكِل أخالقَه؛ فالكافر يعمل ما يشبه طريقتَه‪:‬‬
‫من اإلِعراض عند النِّعم‪ ،‬واليأس عند الشدة‪ ،‬واملؤمن يعمل ما يشبه طريقتَه‪:‬‬

‫‪316‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫(‪)1‬‬
‫مِن الشكر عند الرخاء‪ ،‬والصرب عند البالء‪ ،‬واهلل جيازي الفريقني‪.‬‬
‫مــا يفعــل املــرء فهــو أهلــه‬ ‫كــــلُّ امــــرءٍ يشــــبهه فعلــــه‬

‫فيا أيها املوفق! إذا قرأت قول نبيك ×‪« :‬اعملوا فكلٌ ميسر ملا خلق‬
‫له» اعمل وال تيأس‪ ،‬وال تقل‪ :‬أنا مكتوب يف األشقياء فلمَ العمل! فهل‬
‫جاءك مرسوم إهلي أنك يف األشقياء؟ هل اطلعت على امسك يف اللوح‬
‫احملفوظ فإذا هو يف زمرة األشقياء؟ هل مسعت وأنت يف بطن أمك املَلَكَ‬
‫املوكّل بنفخ الروح فيك يُؤمر بأن تُكتَب شقياً؟!‬

‫إذن‪ :‬كن متفائالً بالنجاح‪ ،‬حمسناً الظن بربك‪ ،‬وتقدم إليه مبا تستطيع‬
‫من الطاعات‪ ،‬وجاهد نفسك على ترك احملرمات؛ فال مُكرِه لك عليها سوى‬
‫نفسك والشيطان‪ ،‬فاستعن باهلل عليهما وعلى كل عدوٍ وال تعجز‪ ،‬فإن اهلل‬
‫تعاىل قال‪ :‬ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﭼ [مريم‪ ،]76 :‬بل‪:‬‬
‫ﭽﯵ ﯶ ﭼ [حممد‪.]17 :‬‬

‫اللهم آت نفوسنا تقواها‪ ،‬وزكها أنت خري من زكاها‪ ،‬أنت وليها‬


‫وموالها‪ ،‬اللهم يسرنا لليسرى‪ ،‬وجنبنا العسرى‪ ،‬وال تزغ قلوبنا بعد إذ‬
‫هد يتنا‪ ،‬وهب لنا من لدنك رمحة إنك أنت الوهاب‪ ،‬ال حول وال قوة إال‬
‫بك‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫الطريق إىل اهلل تعاىل هكذا‪ِ ﴿ :‬لمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ َأنْ يََتقَدَّمَ أَوْ‬
‫يَتَ َأخَّرَ﴾‪..‬فال تتوقف‪.‬‬
‫حني تُقبل على الطاعة بيسر وحمبة وشوق فأبشر‪.‬‬
‫قنوطك من رمحة اهلل‪..‬من أعظم أهداف إبليس‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية السادسة واألربعون‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫خريدكم؛ خريدكم ألهله‬

‫إذا أراد اهلل بأهل بيت خرياً أدخل عليهم‬


‫الرفق‪( .‬حديث نبوي)‬

‫هذه قاعدة نبوية عظيمة‪ ،‬تتفقد بيوت املسلمني ودُورَهم؛ لتضع عليها‬
‫بصمات السعادة‪ ،‬وتنفخ فيها روح احلياة الطيبة‪ ،‬جاءت هذه القاعدة اجلليلة‬
‫يتصدرها املدح والتشويق للمجهول! «خريكم»! ومن هذا الذي ال يسعى‬
‫ألن يكون من خريِ الناس! إن كنت تسعى لتلك اخلريية فكيف أنت مع‬
‫أهلك؟(‪.)2‬‬
‫واملراد أن حسن العشرة مع األهل من مجلة األشياء املطلوبة يف الدين‪،‬‬
‫فاملتصف به من مجلة اخليار من هذه اجلهة‪ ،‬وقد يُوفّق بسبب هذه اخلصلة‬
‫(‪)3‬‬
‫لسائر الصاحلات حتى يصري خرياً على اإلطالق‪.‬‬
‫وللعالمة الشوكاني تعليقٌ قيّم على هذا يقول فيه‪:‬‬

‫‪319‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫«يف ذلك تنبيه على أن أعلى الناس رتبة يف اخلري‪ ،‬وأحقهم باالتصاف‬
‫به‪ :‬هو من كان خري الناس ألهله؛ فإن األهل هم األحقاء بالبِشر وحسن‬
‫اخللق‪ ،‬واإلحسان‪ ،‬وجلب النفع ودفع الضر‪ ،‬فإذا كان الرجل كذلك فهو‬
‫خري الناس‪ ،‬وإن كان على العكس من ذلك فهو يف اجلانب اآلخر من الشر!‬
‫وكثرياً ما يقع الناس يف هذه الورطة؛ فرتى الرجل إذا لقي أهلَه كان أسوأ‬
‫الناس أخالقاً‪ ،‬وأشجعهم نفساً‪ ،‬وأقلهم خرياً! وإذا لقي غري األهل من‬
‫األجانب النت عريكتُه‪ ،‬وانبسطت أخالقُه‪ ،‬وجادت نفسُه‪ ،‬وكثر خريُه‪ ،‬وال‬
‫شك أن من كان كذلك فهو حمروم التوفيق! زائغٌ عن سواء الطريق! نسأل‬
‫اهلل السالمة»(‪.)1‬‬
‫إن أهلَ الرجلِ أحقُّ بإحسان اخلُلُق؛ ألنهم هم الذين معك ليالً‬
‫ونهاراً‪ ،‬سراً وعالنية‪ ،‬إن أصابك شيءٌ أصيبوا معك‪ ،‬وإن سررت سروا‬
‫معك‪ ،‬وإن حزنت حزنوا معك‪ ،‬فلتكن معاملتك معهم خرياً من معاملتك‬
‫(‪)2‬‬
‫مع األجانب‪.‬‬
‫وقد كان لقمان احلكيم يقول‪ :‬العاقل يف بيته ومع أهله كالصيب‪ ،‬فإذا‬
‫(‪)3‬‬
‫كان يف القوم ُوجِد رجالً‪.‬‬
‫وقد كان حممد بن احلنفية يقول‪ :‬ليس حبكيم من مل يعاشر باملعروف َمن‬

‫‪320‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫(‪)1‬‬
‫ال جيد مِن معاشرته بُدّاً‪ ،‬حتى جيعل اهلل له منه فرجًا وخمرجًا‪.‬‬
‫وإن من املؤمل ما يُقرأ ويُسمع من أخبار أتباع حممد × يف الزمن‬
‫املتأخر؛ الذين ما رعوا هذه القاعدة حق رعايتها‪« :‬خريكم؛ خريكم ألهله»‬
‫بل خالفوا مقصودها ومعناها‪ ،‬فكم مسع الناس من قصص يندى هلا جبني‬
‫املروءة! وتبكي هلا األخالق الفاضلة! من أناس ال خيافون اهلل يف نسائهم‪،‬‬
‫فيضربونهن بغري حق‪ ،‬وإن زعموا أن مثة حقاً أباح الضرب مل يقتصروا على‬
‫الضرب املربّح‪ ،‬بل إىل الضرب الذي يُشعِر بأن القصد اإلهانة واإلذالل‬
‫واالنتقام! حتى استقبلتْ بعضُ املستشفيات حاالتٍ يشك معها اإلنسان أن‬
‫الضارب يف وعيه!‬
‫لقد حرم اهلل أذية املؤمنني واملؤمنات بغري ما اكتسبوا‪ ،‬فكذلك ضربهم‬
‫بغري ما اكتسبوا حرام‪ ،‬يقول تعاىل‪ :‬ﭽﮐ ﮑ ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﭼ‬
‫[األحزاب‪ ،]58 :‬وسواء كان املضروب امرأةً وضا ِربُها زوجُها‪ ،‬أو صغرياً‬
‫وضارِبه والدُه‪ ،‬أو وصياً ألبيه عليه؛ ألن اهلل أباح هلؤالء ضربَ من سبق‬
‫(‪)2‬‬
‫ذكرهم باملعروف؛ بغية اإلصالح ال اإلتالف‪.‬‬
‫أال يكفي هؤالء قولُ املصطفى عليه الصالة والسالم‪« :‬أال واستوصوا‬
‫بالنساء خرياً؛ فإمنا هن عَوانٍ عندكم(‪ ،)3‬ليس متلكون منهن شيئاً غريَ ذلك‪،‬‬

‫‪321‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫إال أن يأتني بفاحشة مبينة؛ فإن فعلن فاهجروهن يف املضاجع‪ ،‬واضربوهن‬


‫ضرباً غري مربِّح‪ ،‬فإن أطعنكم فال تبغوا عليهن سبيالً‪ ،‬أال إن لكم على‬
‫نسائكم حقاً‪ ،‬ولنسائكم عليكم حقاً‪ ،‬فأما حقكم على نسائكم‪ :‬أال يوطِئن‬
‫فُرُشَكم من تكرهون‪ ،‬وال يأذنَّ يف بيوتكم ملن تكرهون‪ ،‬أال وحقهن عليكم‪:‬‬
‫أن حتسنوا إليهن يف كسوتهن وطعامهن»(‪.)1‬‬
‫ولقد قال تعاىل يف أمر النساء‪ :‬ﭽ ﯢ ﯣ ﭼ [النساء‪:‬‬
‫‪ ]19‬ثم أمجل يف النساء ما فرّقه من حق الزوج يف كلمة واحدة فقال‪ :‬ﭽﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝﭼ [البقرة‪ ،]228 :‬وقال يف عظيم حقهن‪:‬‬
‫ﭽﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭼ [النساء‪ ،]21 :‬وقد قيل يف تفسري‬
‫(‪)2‬‬
‫قوله تعاىل‪ :‬ﭽﮩ ﮪ ﭼ [النساء‪ ]36 :‬قيل‪ :‬هي املرأة‪.‬‬
‫فإن كانت بذيئة اللسان‪ ،‬قليلة القبول‪ ،‬عظيمة اجلهل‪ ،‬كثرية األذى؛‬
‫فطالقها أسلم لدينهما‪ ،‬وأروح لقلوبهما يف عاجل دنياهما وآجل آخرتهما‪،‬‬
‫وأحفظ ملروءة كلٍّ منهما‪.‬‬
‫إن النيب × حينما قرر هذه القاعدة النبوية العظيمة‪« :‬خريكم؛ خريكم‬
‫ألهله» أتبعها بقوله‪« :‬وأنا خريكم ألهلي»‪ ،‬وصدق بأبي هو وأمي × وبرّ‪،‬‬
‫فتعالوا بنا نطل على شيءٍ من أخالقه عليه الصالة والسالم مع أهله رضوان‬
‫اهلل عليهم‪ ،‬يف هذا النقل الذي أبدع يف اختصاره اإلمام ابن القيم – رمحه اهلل‬
‫– يف (زاد املعاد) فقال‪:‬‬

‫‪322‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫«وكانت سريته مع أزواجه‪ :‬حُسْن املعاشرة‪ ،‬وحُسْن اخلُلُق‪.‬‬


‫(‪)1‬‬
‫إىل عائشة بناتَ األنصار يلعف معها‪ ،‬وكان إذا هويتْ‬ ‫س ِّرب‬
‫وكان يُ َ‬
‫شيئاً ال حمذور فيه تابعها عليه‪ ،‬وكانت إذا شربت من اإلناء أخذه فوضع فمَه‬
‫يف موضع فمها وشرب‪ ،‬وكان إذا تعرّقت عَرْقاً – أي أكلت العَظْم الذي‬
‫عليه حلم – أخذه فوضع فمه موضع فمها‪ ،‬وكان يتكئ يف حِجرها ويقرأ‬
‫القرآن ورأسه يف حجرها – ورمبا كانت حائضاً –‪ ،‬وكان يأمرها وهي حائض‬
‫فتتزر ثم يباشرها‪ ،‬وكان يقبلها وهو صائم‪ ،‬وكان من لطفه وحسن خلقه مع‬
‫أهله‪ :‬أنه ميكنها من اللعب‪ ،‬ويريها احلبشة وهم يلعبون يف مسجده وهي‬
‫متكئة على منكبيه تنظر‪ ،‬وسابَقها يف السفر على األقدام مرتني‪ ،‬وتدافعا يف‬
‫خروجهما من املنزل مرة‪.‬‬
‫وكان إذا أراد سفراً أقرع بني نسائه‪ ،‬فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها‬
‫معه»(‪ )2‬انتهى‪.‬‬
‫وملا سُئلت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬ماذا كان النيب × يصنع يف بيته؟‬
‫قالت‪( :‬كان يف مهنة أهله) أي يساعدهم على مهمات البيت‪ ،‬حتى أنه ج‬
‫كان حيلب الشاة ألهله‪ ،‬وخيصف نعله‪ ،‬ويرقع ثوبه‪ ،‬وهكذا ينبغي لإلنسان‬
‫مع أهله أن يكون من خري األصحاب هلم»(‪.)3‬‬
‫أيها الزوج الكريم‪ :‬كيف تكون من خري الناس مع أهلك؟‬

‫‪323‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫هنا أمور نسردها سرداً؛ لعل من راعاها يف عشرته مع أهله أن يكون‬


‫من خري الناس‪:‬‬
‫املعاشرة باملعروف‪ ،‬أي‪ :‬حبسب األعراف اليت ال ختالف شرعاً‪.‬‬
‫التغاضي والتغافل يف كثري من األحيان‪ ،‬وعدم تعقب األمور صغريها‬
‫وكبريها‪.‬‬
‫أن تغار عليهم يف دينهم وعرضهم غرية خالية من سوء الظن‪،‬‬
‫وأالعيب الشك‪.‬‬
‫– أن تُعلِّمهم ما تَعلَم من أمور دينهم‪ ،‬وتستفيت العلماء يف أسألتهم‬
‫عن حيضهم – مثالً – وصالتهم‪ ،‬وغري ذلك من أمور الدين‪.‬‬
‫– أن ال تكلفهم فوق طاقتهم‪ ،‬خاصة يف أيام احلمل‪ ،‬فال ترهقهم من‬
‫أمرهم عُسراً‪ ،‬وال تطلب منهم ما ال يستطيعونه‪ ،‬وال تهضم جهودهم وتزد‬
‫يف أوامرك مستغالً ضعفهم وعجزهم بني يديك!‬
‫– التوسيع بالنفقة عليهم‪ ،‬مبا ال إسراف فيه وال عبث‪.‬‬
‫– أن تتزين لزوجك وتتطيب كما حتب ذلك منها‪ ،‬ولقد كان رسول‬
‫اهلل يبدأ بيته بالسواك‪.‬‬
‫وال يغب عن بالك أيها الزوج املوفق‪ :‬أن الكمال البشري عزيز ونادر‪،‬‬
‫ومتى كملتَ أنت أيها الرجل من كل وجه‪ ،‬وخلُصت من كل عيب‪،‬‬
‫وحتررت من كل نقص؛ فعند ذلك طالب زوجتك بالكمال!‬

‫‪324‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫إذن‪ :‬فاستمتع بها على ما فيها من عِوَج‪ ،‬و«ال يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن‬
‫كره منها خُلُقاً رضي منها آخر»(‪.)1‬‬
‫اللهم أصلح أحوالنا وأحوال املسلمني‪ ،‬واجعلنا مع أهلنا كما حتب‬
‫وترضا‪ ،‬واهدنا ألحسن األخالق واألعمال‪ ،‬وجنبنا سيئها؛ إنك مسيع‬
‫الدعاء‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫أهلك هم أحق الناس خبريك وابتسامتك ولطافتك‪.‬‬
‫تأسيك بأخالق نبيك عليه الصالة والسالم مع أهله؛ جتعلك‬
‫أسعد زوج‪.‬‬
‫اعلم أن حُسن تعاملك مع أهلك عبادة وقربة لك عند ربك‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية السابعة واألربعون‪:‬‬


‫( ‪)1‬‬
‫ال حتقرنّ من املعروف شيئاً‬

‫بلغنا أن عمر بن الْخطاب أتاه مسكني ويف‬


‫يده عنقود من عنَب فناوله منه حبَّة وقال‪ :‬فيه‬
‫مَثاقيل ذَر كثرية‪( .‬جعفر بن برْقان)‬

‫هذه قاعدة نبوية من قواعد بناء اخلري ونشر املعروف‪ ،‬قاعدة تدعو ألن‬
‫يبقى املسلمُ عضواً فاعالً للخري‪ ،‬متحركاً إىل اإلحسان‪ ،‬مبادراً إىل الطاعة‪،‬‬
‫سباقاً إىل الفضائل‪ ،‬وأن ال يزهد عن خريٍ مهما صغر يف عينه‪ ،‬ولو كان‬
‫بابتسامة يف وجه أخيه‪ ،‬أو يلقى أخاه بوجهٍ طَلْق‪ ،‬فإن عجز عن هذه وتلك‪،‬‬
‫فليكف شره عن الناس! فتلك صدقة‪ ،‬وكل معروف صدقة‪.‬‬
‫واملعروف‪ :‬اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اهلل تعاىل واإلحسان إىل‬
‫الناس‪ ،‬وهو من الصفات الغالبة أي‪ :‬أمرٌ معروف بني الناس‪ ،‬إذا رأوه مل‬
‫(‪)2‬‬
‫ينكروه‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫بل قال بعضُ أهل العلم‪« :‬املعروف عند العرب ما يعرفه كل ذي‬
‫عقل‪ ،‬وال ينكره أهل الفضل»(‪.)1‬‬
‫إن مِن كرم اهلل تعاىل أنه يُنيل اإلنسانَ الفوزَ باجلنة والنجاة من النار‬
‫بالعمل اليسري‪ ،‬واملتأمل يف السنة النبوية جيد أن النيب × قد فتح للمؤمنني‬
‫آفاقاً رحبة لفعل املعروف‪ ،‬الذي مثرته جنةٌ عرضها السماوات واألرض‪،‬‬
‫فلنقرأ شيئاً من هذه األعمال اليسرية‪ ،‬ذات األجور العظيمة‪:‬‬
‫‪ -1‬ثبت يف الصحيح عنه × أنه قال‪« :‬بينما رجل ميشي بطريق؛‬
‫وجد غصن شوك على الطريق فأخّره فشكر اهلل له فغفر له»(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬ويف الصحيح أيضاً عنه × يف قصة البغي اليت سقت كلباً أخرب‬
‫أن اهلل غفر هلا ذلك‪ ،‬وأدخلها اجلنة‪ ،‬ويف عموم اإلحسان إىل‬
‫البهائم‪ ،‬يقول عليه الصالة والسالم‪« :‬يف كل كبد رطبة أجر»(‪.)3‬‬
‫‪ -3‬ومن ذلك ما ثبت يف الصحيحني أنه × قال‪« :‬اتقوا النار ولو‬
‫بشق مترة‪ ،‬فمن مل جيد فبكلمة طيبة»(‪ )4‬فيا من عجز أو تكاسل عن‬
‫الصدقة جبزء من التمرة! هل تعجز عن كلمة طيبة تدخل بها‬
‫السرور على أخيك‪ ،‬أو تدفع عنه بها حزنه‪ ،‬أو تأمر مبعروف‪ ،‬أو‬
‫تنهى عن منكر؟!‬
‫‪ -4‬ومن النماذج التطبيقية هلذه القاعدة‪« :‬ال حتقرن من املعروف‬

‫‪327‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫شيئاً»؛ قوله × – كما يف الصحيحني –‪« :‬يا نساء املسلمات ال‬


‫حتقرن جارةٌ جلارتها‪ ،‬ولو فِرسنَ شاة»(‪ )1‬ففي هذا احلديث احلض‬
‫على مهاداة اجلار وصلته‪ ،‬وإمنا أشار النيب عليه السالم بفِِرسِن‬
‫الشاة إىل القليل من اهلدية‪ ،‬ال إىل إعطاء الفِرسِن! ألنه ال فائدة‬
‫فيه(‪ ،)2‬فيكون الغرض األمسى يف هذا هو‪ :‬بقاء حبل املودة‬
‫والتواصل بني اجلار وجاره‪ ،‬ولقد أحسن القائل‪:‬‬
‫كــان قلــيالً فلــن تُطيــق بكُلّــه‬ ‫افعــل اخلــري مــا اســتطعت وإن‬
‫إذا كنــــت تاركــ ـاً ألقلــــه؟!‬ ‫ومتى تفعـل القليـل مـن اخلـري‬
‫وقد فقهتْ أُمّنا عائشةُ رضي اهلل عنها هذا املعنى؛ فتصدقت حببيت‬
‫عنبٍ! وقالت‪ :‬كم فيها من مثقال ذرة! قال اهلل تعاىل‪ :‬ﭽ ﮇ ﮈ‬
‫(‪)3‬‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ [الزلزلة‪.]7 :‬‬
‫‪ -5‬ومن أبواب املعروف اليسرية اليت ال يصح احتقارها‪ :‬كف األذى‬
‫عن الناس باليد واللسان‪ ،‬كما يف «الصحيحني« عن أبي ذر‬
‫«قلت‪ :‬يا رسول اهلل! أي األعمال أفضل؟ قال‪ :‬اإلميان باهلل‪،‬‬
‫واجلهاد يف سبيله‪ ،‬قلت‪ :‬فإن مل أفعل؟ قال‪ :‬تعني صانعاً‪ ،‬أو تصنع‬
‫ألخرق‪ ،‬قلت‪ :‬أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال‪ :‬تكف‬
‫شرك عن الناس‪ ،‬فإنها صدقة»(‪.)4‬‬
‫بل قد روي عن احلسن‪ ،‬وابن سريين‪ :‬أن فعل املعروف يؤجر عليه‪،‬‬

‫‪328‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وإن مل يكن له فيه نية‪ ،‬سئل احلسن عن الرجل يسأله آخرُ حاجة وهو‬
‫يبغضه؛ فيعطيه حياء‪ :‬هل له فيه أجر؟ فقال‪ :‬إن ذلك ملن املعروف‪ ،‬وإن يف‬
‫(‪)1‬‬
‫املعروف ألجراً‪.‬‬
‫‪ -6‬ومن أبواب املعروف‪ :‬أداء حقوق املسلم على املسلم‪ ،‬كـ‪ :‬رد‬
‫السالم‪ ،‬وعيادة املريض‪ ،‬واتباع اجلنائز‪ ،‬وإجابة الدعوة‪ ،‬وتشميت‬
‫العاطس‪ ،‬وإذا استنصحك فانصح له‪ ،‬وإبرار القسم‪ ،‬ونصر‬
‫املظلوم‪ ،‬وإفشاء السالم‪ ،‬وإرشاد الضال‪ ،‬واملشي حبقوق اآلدميني‬
‫الواجبة إليهم‪ ،‬وإنظار املعسر‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬واإلحسان إىل‬
‫الزوجة‪ ،‬وحسن تربية األوالد‪ ،‬وبذل النصيحة‪ ،‬وتعليم اجلاهل‪،‬‬
‫وقيادة األعمى‪ ،‬وبذل الشفاعة احلسنة‪ ،‬والدعاء للمسلمني‪.‬‬
‫‪ -7‬ومن األحاديث العظيمة اليت تدل على سعة مدلول هذه القاعدة‬
‫– «ال حتقرن من املعروف شيئاً» – ما جاء يف احلديث الصحيح‪:‬‬
‫«أربعون خصلة أعالهن منيحة العنز(‪ ،)2‬ما من عامل يعمل‬
‫خبصلة منها رجاء ثوابها‪ ،‬وتصديق موعودها؛ إال أدخله اهلل بها‬
‫اجلنة»(‪ ،)3‬فتأمل – أيها املسلم املبارك – هذا الرتغيب العجيب‪،‬‬
‫فإذا كانت أعلى هذه اخلصال األربعني هي منيحة العنز‪ ،‬فما‬
‫ظنك مبا دونها؟! فمن حقق الشرط املذكور‪« :‬ما من عامل يعمل‬
‫خبصلة منها رجاء ثوابها‪ ،‬وتصديق موعودها؛ إال أدخله اهلل بها‬
‫اجلنة» فقد وُفّق خلري عظيم‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫فإن قلتَ‪ :‬فلماذا مل يعينها النيب ×؟‬


‫فاجلواب عن ذلك‪ ،‬ما ذكره ابن بطال – رمحه اهلل – حيث يقول‪« :‬ومل‬
‫يذكر األربعني خصلة فى احلديث – ومعلوم أنه كان عاملاً بها كلها ال حمالة –‬
‫إال ملعنى هو أنفع لنا من ذكرها‪ ،‬وذلك – واهلل أعلم –‪ :‬خشية أن يكون‬
‫التعيني هلا والرتغيب فيها زهداً يف غريها من أبواب املعروف وسبل اخلري‪،‬‬
‫وقد جاء عنه عليه الصالة والسالم مِن احلض على أبواب من أبواب اخلري‬
‫والرب ما ال حيصى كثرة»(‪)1‬ا‪.‬هـ‪ ،‬وما أمجل قول األول‪:‬‬
‫من الفضل إال حُسنُهُ يف املسامع‬ ‫عليك بفعل اخلري‪ ،‬لو مل يكن له‬
‫وما سبق كلّه إمنا هو مناذجُ للمعروف املتعدي نفعُه لآلخرين مِن إنس‬
‫أو حيوان‪ ،‬أما املعروف القاصر على فاعله؛ فأبوابه ال حتصر‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -8‬أنواع الذكر‪ :‬من التسبيح‪ ،‬والتحميد‪ ،‬والتهليل‪ ،‬واالستغفار‪،‬‬
‫والصالة على النيب ×‪ ،‬وكذلك تالوة القرآن‪ ،‬واملشي إىل‬
‫املساجد‪ ،‬واجللوس فيها النتظار الصالة‪ ،‬أو الستماع الذكر‪.‬‬
‫‪ -9‬ومن ذلك‪ :‬التواضع يف اللباس‪ ،‬واملشي‪ ،‬واهلدي‪ ،‬واكتساب‬
‫احلالل‪ ،‬والتحري فيه‪.‬‬
‫‪ -10‬حماسبة النفس على ما سلف من أعماهلا‪ ،‬والندم والتوبة من‬
‫الذنوب السالفة‪ ،‬واحلزن عليها‪ ،‬واحتقار النفس‪ ،‬واالزدراء‬
‫عليها‪ ،‬ومقتها يف اهلل عز وجل‪ ،‬والبكاء من خشية اهلل تعاىل‪،‬‬
‫والتفكر يف ملكوت السماوات واألرض‪ ،‬ويف أمور اآلخرة‪ ،‬وما‬
‫فيها من الوعد والوعيد‪ ،‬وحنو ذلك مما يزيد اإلميان يف القلب‪،‬‬

‫‪330‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫وينشأ عنه كثريٌ من أعمال القلوب‪ :‬كاخلشية‪ ،‬واحملبة‪ ،‬والرجاء‪،‬‬


‫والتوكل‪ ،‬وغري ذلك(‪.)1‬‬
‫فكل هذا معروفٌ وخريٌ وصدقةٌ عظيمة تقدمها لآلخرين‪ ،‬وأوالً‪:‬‬
‫لنفسك اليت بني جنبيك؛ فاألقربون أوىل باملعروف‪ ،‬فيا أيها املسلم‪« :‬ال حتقرن‬
‫من املعروف شيئاً»‪.‬‬
‫فهـــو الـــذخر إذا اهلل حشـــر‬ ‫فافعـــل اخلـــري وأمـــل غبـــهُ‬

‫اللهم اجعلنا من أهل املعروف يف الدينا‪ ،‬الذين هم أهل املعروف يف‬


‫اآلخرة‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين‪ ،‬مفاتيح للخري مغاليق للشر‪ ،‬وتقبل منا إنك‬
‫أنت السميع العليم‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫عطايا الكريم سبحانه ال حدّ هلا؛ فله احلمد‪.‬‬
‫أهل املعروف يف الدنيا هم أهل عطاء اهلل يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫حتى حني تكف أذاك وشرك عن الناس؛ فهي صدقة تتصدق‬
‫بها على نفسك‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية الثامنة واألربعون‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫من يستعفف ديعِفَّه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يدغنِه اهلل‬

‫كان يقال‪ :‬الشكر زينة الغنى‪ ،‬والعفاف زينة‬


‫الفقر‪( .‬ابن مفلح)‬

‫هذه قاعدة نبوية جليلة القدر‪ ،‬عظيمة النفع‪ ،‬تدعو املسلم إىل أن يكون‬
‫– أبداً – عزيز النفس‪ ،‬مرتفع القدر‪ ،‬قوي الثقة بربه‪ ،‬دائم االتصال به‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫ولقد اشتملت هذه القاعدة العظيمة على مجلتني جامعتني للخري‪،‬‬
‫نافعتني للخلق‪:‬‬
‫«إحداهما‪ :‬قوله‪« :‬من يستعفف يعفه اهلل»‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬قوله‪« :‬ومن يستغن يغنه اهلل»‪.‬‬
‫وهاتان اجلملتان متالزمتان‪ ،‬فإن كمال العبد يف إخالصه هلل رغبة‬
‫ورهبة‪ ،‬وتعلقاً به دون املخلوقني‪ ،‬فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال‪،‬‬
‫ويعمل كل سبب يوصله إىل ذلك‪ ،‬حتى يكون عبداً هلل حقاً‪ ،‬حُرّاً من رِق‬
‫املخلوقني‪ ،‬وذلك بأن جياهد نفسَه عن أمرين‪ :‬انصرافها عن التعلق‬

‫‪332‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫باملخلوقني؛ باالستعفاف عما يف أيديهم‪ ،‬فال يطلبه مبقاله وال بلسان حاله‪،‬‬
‫وهلذا قال × لعمر‪« :‬ما أتاك من هذا املال وأنت غري مشرفٍ وال سائلٍ‬
‫(‪)1‬‬
‫فقَ ْطعُ اإلشراف يف القلب والسؤال‬ ‫فخذه‪ ،‬وما ال فال تُتْبِعه نفسَك»‬
‫باللسان؛ تعففاً وترفعاً عن مِنن اخللق‪ ،‬وعن تعلق القلب بهم؛ سببٌ قويٌ‬
‫حلصول العفة‪.‬‬
‫ومتام ذلك‪ :‬أن جياهد نفسَه على األمر الثاني‪ ،‬وهو‪ :‬االستغناء باهلل‪،‬‬
‫والثقة بكفايته؛ فإنه من يتوكل على اهلل فهو حسبه‪ ،‬وهذا هو املقصود‪،‬‬
‫واألول وسيلة إىل هذا؛ فإن من استعف عما يف أيدي الناس‪ ،‬وعما يناله‬
‫منهم؛ أوجب له ذلك أن يقوى تعلُّقه باهلل‪ ،‬ورجاؤه وطمعُه يف فضل اهلل‬
‫وإحسانه‪ ،‬ويَحسُن ظنُّه وثقتُه بربه‪ ،‬واهلل تعاىل عند حسن ظن عبده به‪ :‬إن‬
‫ظن خرياً فله‪ ،‬وإن ظن غريَه فله‪ ،‬وكل واحد من األمرين ميُِد اآلخرَ فيقوِّيه‪،‬‬
‫فكلما قوي تعلُّقه باهلل ضعف تعلُّقه باملخلوقني‪ ،‬وبالعكس‪.‬‬
‫ومِِن دعاء النيب ×‪« :‬اللَّهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ا ْلهُدَى وَالتُّقَى‪ ،‬وَا ْل َعفَافَ وَا ْلغِنَى»‪،‬‬
‫فجمع اخلريَ كلَّه يف هذا الدعاء‪.‬‬
‫فاهلدى‪ :‬هو العلم النافع‪ ،‬والتقى‪ :‬العمل الصاحل‪ ،‬وترك احملرمات‬
‫كلها‪ ،‬وهذا صالح الدين‪ ،‬ومتام ذلك‪ :‬بصالح القلب‪ ،‬وطمأنينته بالعفاف‬
‫عن اخللق‪ ،‬والغنى باهلل‪ ،‬ومن كان غنياً باهلل فهو الغين حقاً‪ ،‬وإن ق ّلتْ‬
‫حواصِله‪ ،‬فـ«ليس الغنى عن كثرة العَرَض‪ ،‬إمنا الغنى غنى القلب»(‪،)2‬‬

‫‪333‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وبالعفاف والغنى يتم للعبداحلياة الطيبة‪ ،‬والنعيم الدنيوي‪ ،‬والقناعة مبا آتاه‬
‫اهلل»(‪.)1‬‬
‫واعلم أن مستعمِل العفاف داخلٌ يف زمرة املعاملني هلل عز وجل؛ فإن‬
‫التعفف يوجب سرت احلال عن اخللق‪ ،‬وإظهار الغنى هلم؛ فيصري معامالً يف‬
‫الباطن‪ ،‬ويقع له من الربح على قدر صربه وصدقه(‪.)2‬‬
‫ومعنى قوله‪« :‬يعفه اهلل» أي‪ :‬جيعله عفيفاً (مِن اإلعفاف)‪ ،‬وهو‪ :‬إعطاء‬
‫العفة‪ ،‬وهي احلفظ عن املناهي‪ ،‬يعين‪ :‬من قنع بأدنى قوت‪ ،‬وترك السؤال؛‬
‫سهّل عليه القناعة‪ ،‬وهي كنز ال يفنى(‪.)3‬‬
‫تُ َ‬
‫تأمل معي – أيها القارئ – يف هذه اجلملة اليت صدّرها نبيك ×‬
‫بالقسم تنويهاً بشأنها‪« :‬والذي نفسي بيده! ألن يأخذ أحدُكم حبله فيحتطب‬
‫(‪)4‬‬
‫فأقْسَم مبن‬ ‫على ظهره‪ ،‬خريٌ له من أن يأتي رجالً فيسأله أعطاه أو منعه»‬
‫روحه بيده؛ على أن العمل مهما يكن نوعه فهو أفضل من سؤال الناس‪،‬‬
‫وإراقة ماء الوجه هلم‪ ،‬وأنه مهما يكن شا ّقاً عنيفاً فهو أرحم من مذلّة‬
‫السؤال‪.‬‬
‫أي‪ :‬ألن يذهب إىل الغابة فيقتطع احلطب من أشجاره‪ ،‬وجيمعه وحيمله‬
‫على ظهره حتى يأتي السوق فيبيعه فيه «خري له» أي‪ :‬أشرف وأكرم‪ ،‬وأرحم‬

‫‪334‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫له من أن ميد يده لغريه‪ ،‬سواء أعطاه أو منعه‪ ،‬فإن منعه فقد كسر نفسه‪ ،‬وإن‬
‫أعطاه فقد منّ عليه‪ ،‬وقد قال الشاعر‪:‬‬
‫ن الرجــال‬
‫أحــبُّ إلــيَّ مِ ـنْ مِ ـنَ ِ‬ ‫ل‬
‫لَحَمْل الصَخْرِ مِنْ قِمَـمِ اجلِبَـا ِ‬

‫فدل هذا احلديث على‪ :‬الرتغيب يف السعي والعمل وطرق األسباب‬


‫املشروعة لكسب الرزق بشرف وكرامة وعزّة نفسٍ‪ ،‬كما أن احلديث يشري إىل‬
‫حماربة التسول والبطالة‪ ،‬ولذا أوجب السعيَ والعملَ‪ ،‬واحلركة‪ ،‬ولو كان‬
‫شاقاً «كاالحتطاب» مثالً‪.‬‬
‫كما أن العفة ال تقتصر على التعفف يف اجلانب املالي! بل هي أوسع‪،‬‬
‫وداللة كلمة(العفة) يف اللغة أرحب‪ ،‬فالعفة‪ :‬الكف عما ال حيل له؛ كالزنا‪،‬‬
‫والظلم‪ ،‬وسؤال الناس أمواهلم‪ ،‬وغريها من صور العفة(‪.)1‬‬
‫ويف القرآن الكريم تنبيه على بعض تطبيقات هذه القاعدة العظيمة يف‬
‫هذا املعنى‪ ،‬كقوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮﭯ ﭼ [النور‪ ،]33 :‬فالعفة هنا‪ :‬عفة الفرج عما حرم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وتدبر أخي قوله تعاىل‪« :‬ﭽﭥﭼ [النور‪ ]33 :‬ومل ي ُقلْ‪:‬‬
‫سعَ إليه؛ بأن مينع املهيِّج‬
‫(وليعف)‪ ،‬فاملعنى‪ :‬ليسلك سبيل اإلعفاف لنفسه ولي ْ‬
‫بالنظر‪ ،‬ويُهدِّئ شراسةَ الغريزة بالصوم أو بالعمل؛ فيشغل وقتَه‪ ،‬ويعود آخرَ‬
‫النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم يف الصباح لعمله نشيطاً‪ ،‬وهكذا ال جيد فرصة‬
‫لشيء مما يغضب اهلل‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ثم قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ [النور‪ ]33 :‬وهذا يدل‬


‫على أن االستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ ألن االستعفاف إمنا نشأ من‬
‫إرادة التقوى‪ ،‬وقد قال تعاىل يف قضية قرآنية‪ :‬ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﭼ [الطالق‪ ]3 – 2 :‬فمن هذا الباب يأتيه‬
‫غِنَى اهلل«(‪ ،)1‬فـ«من يستعفف يعفه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يغنه اهلل»‪.‬‬
‫واإلنسان الذي يُتبع نفسَه هواها – فيما يتعلق بالعفة – فإنه يَهلك‬
‫والعياذ باهلل؛ ألنه إذا أتبع نفسه هواها؛ صار يتتبع النساء؛ فيقع فيما حرم اهلل‬
‫فيهلك‪ ،‬فالعني تزني‪ ،‬واألذن تزني‪ ،‬واليد تزني‪ ،‬والرجل تزني‪ ،‬ثم الفرج‬
‫يصدّق ذلك أو يكذبه‪ ،‬وهو الفاحشة والعياذ باهلل‪.‬‬
‫فإذا استعف اإلنسان عن هذا احملرم‪ ،‬فصرف بصره‪ ،‬وأشغل نفسه‬
‫وجوارحه مبا يعود عليه نفعه‪ ،‬وملئ فراغ وقته باخلري والرب؛ أعفه اهلل – عز‬
‫وجل– ومحاه ومحى أهلَه أيضاً(‪ )2‬قال تعاىل‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭼ [األعراف‪.]196 :‬‬
‫– ومن القصص املشهورة يف آثار العفة وبركتها على صاحبها يف الدنيا‬
‫قبل اآلخرة‪:‬‬
‫قصة الرجل – وهو أحد الثالثة الذين انطبقت عليهم الصخرة يف غار‬
‫من األغوار – فقال – متوسالً إىل اهلل بعفته –‪« :‬اللهم إنه كانت لي ابنة عم‬
‫أحببتها كأشد ما حيب الرجال النساء‪ ،‬وطلبت إليها نفسها‪ ،‬فأبت حتى آتيها‬

‫‪336‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫مبائة دينار‪ ،‬فتعبت حتى مجعت مائة دينار‪ ،‬فجئتها بها‪ ،‬فلما وقعت بني‬
‫رجليها‪ ،‬قالت‪ :‬يا عبداهلل اتق اهلل‪ ،‬وال تفتح اخلامت إال حبقه‪ ،‬فقمت عنها‪ ،‬فإن‬
‫كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك‪ ،‬فافرج لنا منها فرجة‪ ،‬ففرج‬
‫هلم»(‪.)1‬‬
‫– ومن قصص العفة املؤثرة اليت ذكرها ابن قدامة – رمحه اهلل – يف‬
‫كتابه التوابني‪ :‬أنه كان بالكوفة فتى مجيل الوجه‪ ،‬شديد التعبد واالجتهاد‪،‬‬
‫وكان أحدَ الزهاد‪ ،‬فنزل يف جوار قوم من النخع(‪ ،)2‬فنظر إىل جارية منهم‬
‫مجيلة؛ فهويها وهام بها عقله‪ ،‬ونزل بها مثل الذي نزل به‪ ،‬فأرسل خيطبها من‬
‫أبيها‪ ،‬فأخربه أبوها أنها مسماة البن عم هلا‪ ،‬واشتد عليهما ما يقاسيان من أمل‬
‫اهلوى! فأرسلت إليه اجلارية‪ :‬قد بلغين شدة حمبتك لي وقد اشتد بالئي بك‬
‫لذلك مع وجدي بك‪ ،‬فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيين إىل‬
‫منزلي‪ ،‬فقال للرسول‪ :‬ال واحدة من هاتني اخلصلتني ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ [الزمر‪ !]13 :‬أخاف ناراً ال خيبو سعريها‪ ،‬وال‬
‫خيمد هلبها! فلما انصرف الرسول إليها فأبلغها ما قال؛ قالت‪ :‬وأراه مع هذا‬
‫زاهداً خياف اهلل تعاىل‪ ،‬واهللِ ما أحدٌ أحق بهذا من أحد‪ ،‬وإن العباد فيه‬
‫ملشرتكون‪ ،‬ثم اخنلعت من الدنيا وألقت عالئقها خلف ظهرها‪ ،‬وجعلت‬
‫تعبد‪ ،‬وهي مع ذلك تذوب وتنحل حباً للفتى وأسفاً عليه حتى ماتت شوقاً‬
‫إليه‪ ،‬ثم حلقها بعد سبع ليال رمحهما اهلل»(‪.)3‬‬

‫‪337‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫قال ابن القيم رمحه اهلل – تعليقاً على قول بعضهم‪( :‬واهلل للذة العفة‬
‫أعظم من لذة الذنب)‪« :‬وال ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك‬
‫فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة اهلوى مبا ال نسبة بينهما‪ ،‬وهاهنا‬
‫ميتاز العقل من اهلوى»(‪.)1‬‬
‫فيا كل من أساء وأذنب واقرتف؛ عجل بالتوبة‪ ،‬وأسرع باإلقالع‬
‫والندم؛ واستعفف يعفك اهلل‪ ،‬واستغن مبا آتاك اهلل يغنك اهلل‪ ،‬لعله يكتب‬
‫لك اخلري قبل أن يفجأك املوت‪ ،‬وتدركك املنية‪.‬‬
‫اللهم إنا نسألك اهلدى والتقى‪ ،‬والعفاف والغنى‪ ،‬اللهم أغننا حباللك‬
‫عن حرامك‪ ،‬وبك عمن سواك‪ ،‬وقنا وأهلينا واملسلمني الفنت ما ظهر منها‬
‫وما بطن‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫من جاهد نفسه على خلق طيب‪..‬فهو معان من اهلل‪.‬‬
‫استغن باهلل حيبك اهلل‪ ،‬واستغن عن ما يف أيدي الناس حيبك‬
‫الناس‪.‬‬
‫العفة والقناعة كنزان ال يُقدران بثمن‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية التاسعة واألربعون‪:‬‬


‫انظروا إىل من هو أسفل منكم‬

‫جمالسة الفقراء أُنس من وحشة الفقر‪.‬‬


‫(أبو على الثقفي)‬

‫هذه قاعدة نبوية قيمة من القواعد اليت يربي املسلم عليها نفسه وهو‬
‫حيث اخلطى يف مسالك احلياة‪ ،‬اليت يالقي فيها من هو أفضل منه يف شأن‬
‫الدنيا‪ ،‬كما يالقي فيها من هو أقل‪.‬‬
‫وقد جاءت هذه القاعدة ضمن قول النيب ‪« :‬انظروا إىل من أسفل‬
‫منكم وال تنظروا إىل من هو فوقكم»‪ ،‬ثم علّل ذلك فقال‪« :‬فهو أجدر أن ال‬
‫تزدروا نعمة اهلل عليكم»(‪.)1‬‬
‫يا هلا من وصية نافعة! وكلمة شافية وافية! تدعو إىل شكر املنعم‬
‫املتفضل‪ ،‬وتدعو إىل االعرتاف بنعمه‪ ،‬والتحدث بها‪ ،‬واالستعانة بها على‬
‫طاعته‪ ،‬وفعل مجيع األسباب املعينة على الشكر‪.‬‬
‫وقد أرشد النيب × إىل هذا الدواء العجيب‪ ،‬والسبب القوي لشكر‬

‫‪339‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫ِنعَم اهلل‪ ،‬وهو‪ :‬أن يلحظ العبدُ يف كل وقتٍ من هو دونه يف العقل والنسب‬
‫واملال‪ ،‬وأصناف النعم‪ ،‬فمتى استدام هذا النظر اضطره إىل كثرة شكر ربه‬
‫والثناء عليه؛ فإنه ال يزال يرى خلقاً كثرياً دونه بدرجات يف هذه األوصاف‪،‬‬
‫ويتمنى كثريٌ منهم أن يصل إىل قريبٍ مما أوتيه من عافيةٍ ومالٍ ورزق‪ ،‬وخَلْق‬
‫وخُلُق؛ فيحمد اهللَ على ذلك محداً كثرياً‪.‬‬
‫ينظر إىل خلقٍ كثريٍ ممن سُلِبوا عقوهلَم‪ ،‬فيحمد ربه على كمال العقل‪،‬‬
‫ويشاهد عاملاً كثرياً ليس هلم قوت مدّخر‪ ،‬وال مساكن يأوون إليها‪ ،‬وهو‬
‫مطمئن يف مسكنه‪ ،‬مَوسّع عليه رزقه‪.‬‬
‫ويرى خلقاً كثرياً قد ابتُلُوا بأنواع األمراض‪ ،‬وأصناف األسقام‪ ،‬وهو‬
‫مُعافى من ذلك‪ ،‬مُسَرْبل بالعافية‪ ،‬ويشاهد خلقاً كثرياً قد ابتُلوا ببالء أفظع‬
‫من ذلك‪ :‬باحنراف الدين! والوقوع يف قاذورات املعاصي! واهلل قد حفظه‬
‫منها أو من كثريٍ منها‪.‬‬
‫ويتأمل أناساً كثريين قد استوىل عليهم اهلم‪ ،‬وملكهم احلزن‬
‫والوساوس‪ ،‬وضيق الصدر‪ ،‬ثم ينظر إىل عافيته من هذا الداء‪ ،‬ومِنّةَ اهلل عليه‬
‫براحة القلب‪ ،‬حتى رمبا كان فقرياً يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة‬
‫القلب – كثرياً من األغنياء‪.‬‬
‫ثم مَن ابتلي بشيء من هذه األمور جيد عاملاً كثرياً أعظم منه وأشد‬
‫مصيبة؛ فيحمد اهلل على وجود العافية‪ ،‬وعلى ختفيف البالء؛ فإنه ما من‬
‫مكروه إال ويوجد مكروه أعظم منه‪.‬‬
‫فمن وُفِّق لالهتداء بهذا اهلدي الذي أرشد إليه النيب ×؛ مل يزل شكرُه‬

‫‪340‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫يف قوة ومنو‪ ،‬ومل تزل نعمُ اهلل عليه ترتى وتتواىل‪ ،‬ومن عكس القضية! فارتفع‬
‫نظرُه‪ ،‬وصار ينظر إىل من هو فوقه يف العافية واملال والرزق وتوابع ذلك؛‬
‫فإنه ال بد أن يزدري نعمة اهلل‪ ،‬ويفقد شكرَه‪ ،‬ومتى فقد الشكر ترحَّلت عنه‬
‫النعم‪ ،‬وتسابقت إليه النقم‪ ،‬وامتُحن بالغم املالزم‪ ،‬واحلزن الدائم‪ ،‬والتسخط‬
‫ملا هو فيه من اخلري‪ ،‬وعدم الرضى باهلل رباً ومدبراً‪ ،‬وذلك ضررٌ يف الدين‬
‫والدنيا‪ ،‬وخسرانٌ مبني‪.‬‬
‫واعلم أن من تفكَّر يف كثرة نعم اهلل‪ ،‬وتفطن آلالء اهلل الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬وأنه ال وسيلة إليها إال حمض فضل اهلل وإحسانه‪ ،‬وأن جنساً من‬
‫نعم اهلل ال يقدر العبدُ على إحصائه وتعداده – فضالً عن مجيع األجناس‪،‬‬
‫فضالً عن شكرها – فإنه يضطر إىل االعرتاف التام بالنعم‪ ،‬وكثرة الثناء على‬
‫اهلل‪ ،‬ويستحي من ربه أن يستعني بشيء من نعمه على ما ال حيبه ويرضاه‪،‬‬
‫شعَب اإلميان؛ فاستحيى من‬
‫وأوجب له احلياء من ربه الذي هو من أفضل ُ‬
‫ربه أن يراه حيث نهاه‪ ،‬أو يفقده حيث أمره‪ ،‬ولقد اعرتف أعظمُ الشاكرين‬
‫بالعجز عن شكر نعم اهلل؛ فقال ×‪« :‬ال أحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت‬
‫على نفسك»(‪.)2(»)1‬‬
‫يقول الغزالي – رمحه اهلل –‪ :‬وعجباً للمرء كيف ال يساوي دنياه‬
‫بدينه! فهو ينظر أبداً يف الدين إىل من هو دونه ال ملن فوقه! أفال يكون يف‬
‫الدنيا كذلك؟!‬

‫‪341‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وقال احلكيم‪ :‬ال يزال اإلنسان يرتقى يف درجات النظر علواً علواً‪،‬‬
‫كلما نال درجة مسا به حرصُه إىل النظر إىل ما فوقها‪ ،‬فإذا نظر إىل من دونه‬
‫يف درجات الدين اعرتاه العُجْب فأعجب بنفسه؛ فطال بتلك الدرجة على‬
‫اخللق واستطال! فرُمي به من ذلك العلو فال يبقى منه عضوٌ إال انكسر‬
‫وتبدد!(‪.)1‬‬
‫قال عون بن عبداهلل‪ :‬كنت أجالس األغنياء؛ فلم أزل مغموماً! كنت‬
‫أرى ثوباً أحسن من ثوبي! ودابة أفره من دابيت! فجالست الفقراء‬
‫فاسرتحت‪.‬‬
‫وحكي أن املزني‪ :‬خرج من باب جامع الفسطاط(‪ ،)2‬وقد أقبل ابنُ‬
‫عبداحلكم يف موكبه‪ ،‬فبهره ما رأى مِن حسن حاله وحسن هيئته! فتال قوله‬
‫تعاىل‪ :‬ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴﭼ ثم قال‪« :‬بلى‬
‫أصرب وأرضى» وكان فقرياً ُم ِقالً‪ ،‬فالذي هو يف بيته ال يُبتلى مبثل هذه الفنت‪.‬‬
‫ومن شاهد زينة الدنيا‪ :‬فإما أن يقوى دينُه ويقينُه؛ فيصرب اىل أن يتجرع‬
‫مرارة الصرب – وهو أمَرّ من الصَّبِر –‪ ،‬أو تنبعث رغبتُه فيحتال يف طلب‬
‫الدنيا؛ فيهلك هالكاً مؤبداً‪ ،‬أما يف الدنيا‪ :‬فبالطمع الذي خييب يف أكثر‬
‫األوقات؛ فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له‪ ،‬وأما يف اآلخرة فإيثاره متاعَ‬
‫الدنيا على ذكر اهلل تعاىل والتقرب إليه‪.‬‬
‫ولذلك قال ابن اإلعرابي‪:‬‬
‫مسوت إىل العلياء من جانب الفقر‬ ‫إذا كان باب الذل من جانب الغنى‬

‫‪342‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫أشار إىل أن الطمع يوجب يف احلال ذالً (‪.)1‬‬


‫واعلم – أيها املوفق – أن جمالسة املساكني توجب رضى من جيالسهم‬
‫برزق اهلل عز وجل‪ ،‬وتعظم عنده نعمة اهلل عز وجل عليه بنظره يف الدنيا إىل‬
‫من دونه‪ ،‬وجمالسة األغنياء توجب السخط بالرزق‪ ،‬ومد العني إىل زينتهم وما‬
‫هم فيه‪ ،‬وقد نهى اهلل عز وجل نبيَّه عن ذلك فقال تعاىل‪ :‬ﭽﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯ ﭼ [طه‪.)2(]131 :‬‬
‫وملا اجتمع الزهري وأبو حازم الزاهد باملدينة عند بعض بين أمية ملا‬
‫حجّ‪ ،‬ومسع الزهري كالم أبي حازم وحكمتَه أعجبه ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬هو جاري‬
‫منذ كذا وكذا! وما جالسْتُه وما عرفت أن هذا عنده! فقال له أبو حازم‪:‬‬
‫أجل! إني من املساكني! ولو كنتُ من األغنياء لعرفتين! فوخبه بذلك(‪.)3‬‬
‫ولقد كان من دعاء املصطفى عليه الصالة والسالم‪« :‬اللهم إني أسألك‬
‫فعل اخلريات وترك املنكرات وحب املساكني‪.)4(»...‬‬
‫والسؤال هنا‪ :‬كيف يُحبُّ اإلنسان املساكني وهو ال يعرفهم أصالً؟‬
‫وال ينظر إليهم‪ ،‬وال جيلس معهم؟!‬

‫‪343‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫خذ مين هذه احلادثة اليت وقفت عليها‪ :‬رجلٌ زرتُه يف أحد املناطق يف‬
‫السعودية‪ ،‬وقد أقعده حادث سيارة بسبب شلل رباعي‪ ،‬أقعده يف املستشفى‬
‫عشرة أشهر‪ ،‬وبقي يف بيته حنواً من مخس سنوات أو تزيد‪ ،‬دخلتُ عليه‪ ،‬وهو‬
‫ال يفرت عن ذكر اهلل‪ ،‬ومحده وشكره‪ ،‬ويردد‪ :‬أنا أحسن من غريي‪ ،‬اللهم لك‬
‫احلمد‪ ،‬وأخذ حيدثنا عن السعادة القلبية اليت جيدها‪ ،‬وأنه ميارس الدعوة إىل‬
‫اهلل مع األطباء واملمرضني الذين يرتددون عليه!‬
‫لقد رأيت يف هذا الرجل – الذي أسأل اهلل له شفاءً من عنده – تطبيقاً‬
‫عملياً هلذه القاعدة‪« :‬انظروا إىل من هو أسفل منكم»‪.‬‬
‫اللهم قنعنا مبا رزقتنا‪ ،‬وزدنا من فضلك‪ ،‬وارزقنا شكر نعمك‪ ،‬وحسن‬
‫عبادتك‪ ،‬اللهم ال جتعل الدنيا أكرب همنا‪ ،‬وال مبلغ علمنا‪ ،‬وال غاية رغبتنا‪،‬‬
‫واجعل اللهم اجلنة دارنا ومأوانا‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫هكذا الشرع يدلك على ما فيه راحة بالك وطمأنينة نفسك‪.‬‬
‫لن تنزل بك مصيبة إال وقد نزل بغريك ما هو أفظع منها‪.‬‬
‫لو جلست تعد نعم اهلل عليك‪..‬فلن تتفرغ لرؤية ما حُرمت‬
‫من متاع الدنيا‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية اخلمسون‪:‬‬


‫إذا مات اإلنسان انقطع عمله إال من ثالث‬
‫قال إبراهيم احلربي لرجل‪ :‬هؤالء أوالدك؟ قال‪:‬‬
‫نعم! قال‪ :‬احذر ال يرونك حيث نهاك اهلل‬
‫فتسقط من أعينهم!‬

‫عطايا املنان ال تنتهي‪ ،‬وهباته لعباده املؤمنني ال تنفد‪ ،‬وما يف هذه‬


‫القاعدة النبوية اجلليلة إمنا هو قطرة من فيض فضل اهلل الكريم جل وعال‪،‬‬
‫وهو القائل‪ :‬ﭽﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﭼ [الرمحن‪.]60 :‬‬
‫فلكرم املؤمن على ربه‪ ،‬مل ُيغْلقْ عنه أبواب احلسنات حتى وهو ميت حتت‬
‫أطباق الثرى!‬
‫ومتام هذه القاعدة النبوية هي قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬إذا مات‬
‫اإلنسان انقطع عملُه إال من ثالث‪ :‬صدقةٌ جارية‪ ،‬وعلمٌ ينتفع به‪ ،‬وولدٌ‬
‫صاحل يدعو له»(‪.)1‬‬
‫الدنيا دار العمل‪ ،‬وقد جعلها تعاىل مزرعة لآلخرة‪ ،‬فمن زرع هنا‬
‫حصد هناك‪.‬‬
‫من زرع خرياً حصد أضعافه‪ ،‬ومن زرع شراً فال ينتظر أن حيصد غري‬
‫ما زرع‪ ،‬وما ربك بظالم للعبيد‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫واملؤمن حني يسمع ويقرأ هذا احلديث العظيم‪ ،‬وهو أصلُ كبري‪،‬‬
‫وقاعدة عظيمة يف باب األعمال‪ ،‬فإنه ينبغي له أن يبحث عن أكرب نصيبٍ له‬
‫من هذه األسهم الثالث‪ :‬الصدقة والعلم والذرية الصاحلة‪ ،‬اليت منّ الكريم‬
‫الوهّاب ببقاء أثرها بعد فراق هذه احلياة‪.‬‬
‫واملالحظ أن هذه األسهم بتنوعها؛ تكشف عن جانب عظيم يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬وهو الشمول والتنوع‪:‬‬
‫ففي ذكر «الصدقة اجلارية» دعوة الكتساب املال من طرقه املباحة‪،‬‬
‫وثناء على الباذلني‪ ،‬ال كما يفهم بعض الناس مسألة الزهد بطريقة منكوسة!‬
‫ويف التعبري بـ«اجلارية» إشارة إىل أهمية العناية باملال الذي يتعدى نفعه‪،‬‬
‫ولعل األوقاف من أظهر هذه الصور‪ ،‬سواءُ بوقف العقارات اليت هلا مصرفٌ‬
‫وغلّة ثابتة‪ ،‬أو بوقف السالح لنفع اجملاهدين يف سبيل اهلل‪ ،‬أو وقف األجهزة‬
‫الطبية لعالج املرضى الذين قد ال يطيقون تكلفة العالج‪ ،‬أو وقف الكتب –‬
‫وأشرفها كتاب اهلل – اليت ينتفع باستعماهلا واالنتفاع بها‪ ،‬أو بناء املساجد‬
‫واملدارس‪ ،‬وغريها من صور الوقف اليت تعددت يف عصرنا احلاضر‪ ،‬وقامت‬
‫احلاجة إليها‪.‬‬
‫فمن وفّق لذلك‪ ،‬فأجرُها جارٍ على العبد ما دام ينتفع بشيء منها‪.‬‬
‫ويف ذكر «العلم» وتقييده بالنافع‪ ،‬حثٌ على طلب العلم الذي ينفع‬
‫العباد يف دينهم ودنياهم‪ ،‬سواءٌ كان يف علم الشريعة – وهو أشرف العلوم –‬
‫أم يف علوم أخرى حيتاجها الناس‪ ،‬كالطب واهلندسة وحنوها‪.‬‬
‫ومما يدخل حتت العلم النافع الذي يرتكه اإلنسان بعده‪ :‬ختريج طلبة‬

‫‪346‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫العلم‪ ،‬الذين يهيأون ليكونوا علماء املستقبل‪ ،‬فإن لكل من ساهم يف بنائهم‬
‫العلمي أجراً‪ ،‬وهو مشمول بهذه الغنيمة العظيمة‪« :‬أو علم ينتفع به»‪.‬‬
‫وكم عاملٍ من علماء األمة الكبار‪ ،‬إذا نظرتَ يف سريته‪ ،‬وجدت أن من‬
‫شيوخه فالناً وفالناً من غري املشهورين‪ ،‬لكنهم ساهموا يف بنائه وهو صغري‪،‬‬
‫فنفع اهلل به‪ ،‬فال حتتقر – أخي طالب العلم – أي معلومة أو منتٍ توضّحه‪ ،‬أو‬
‫داللة لطالب علمٍ مبتدئ على عامل يتعلم منه‪ ،‬فإنك ال تدري ما الذي خيبئه‬
‫الغيب هلذا الشاب الصغري‪.‬‬
‫وواهلل إني ال أغبط أحداً يف هذه احلياة‪ ،‬ال ملكاً مللكه‪ ،‬وال تاجراً‬
‫لتجارته‪ ،‬وال وجيهاً لوجاهته‪ ،‬كما أغبط عاملاً ينتفع الناس بعلمه وهو يف‬
‫قربه منذ مئات السنني! فيا هلل! كم جرى هلم وعلى أيديهم من اخلري؟ ذلك‬
‫فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪ ،‬واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫ويف هذه اجلملة‪« :‬أو علم ينتفع به» تنبيه على البعد عن االشتغال‬
‫بالعلوم اليت ال تنفع ال يف الدنيا وال يف اآلخرة‪ ،‬بل هي مضيع ُة وقت‪ ،‬ورمبا‬
‫عادت عليه بالضرر‪ ،‬وما أخبار العلماء الذين دخلوا يف علم الكالم‬
‫والفلسفة‪ ،‬ثم ندمهم يف أواخر حياتهم‪ ،‬إال منوذج لذلك‪.‬‬
‫ويف عصرنا احلاضر‪ ،‬انفتحت على الشباب نوافذ فكرية كثرية‪،‬‬
‫وتنوعت عليهم مصادر املعرفة‪ ،‬فصار بعضهم ال مييز‪ ،‬فيقرأ كلّ ما وقعت‬
‫عليه يده‪ ،‬فأثّر هذا يف إميانهم‪ ،‬وتزعزع اليقني عند بعضهم يف عقائدهم اليت‬
‫رضعوها صافية نقيةً صفاء املاء النازل من السماء‪ ،‬فتكررت مشاهد احلرية‬
‫اليت عانى منها العلماء الذين أشرتُ إليهم آنفاً‪ ،‬فهل من معترب؟!‬

‫‪347‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫وثالث هذه األسهم النبوية «الولد الصاحل»‪:‬‬


‫وهنا مل يعيّن‪ ،‬هل هو ولد الصلب؟ أم احلفيد من جهة األبناء أو‬
‫البنات‪ ،‬وهل هو ذكر أو أنثى؟ بل قال‪( :‬أو ولد)‪.‬‬
‫وأشار احلديث إىل أعظم املنافع اليت تُرجى من الولد‪ ،‬وهي‪ :‬الدعاء‪.‬‬
‫هلذا‪ ،‬إذا رأيت الولد – ابناً أو بنت ًا – يكثر من الدعاء لوالديه‪ ،‬فهذه‬
‫عالمةٌ على صالحه‪.‬‬
‫لكن مب يدعو الولد لوالديه؟‬
‫واجلواب‪ :‬أن احلديث مل يعيّن شيئاً من ذلك‪ ،‬بل أطلق‪ ،‬فيدعو خبريي‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬فيدعو لوالديه بالتوفيق والتسديد – وهم أحياء – ويدعو هلم‬
‫باملغفرة والرمحة‪ ،‬ورفع الدرجات‪ ،‬وحصول املثوبات – بعد وفاتهم‪.‬‬
‫ويف احلديث‪ :‬تنبيه على احلث على النكاح‪ ،‬فهو الوسيلة الشرعية‬
‫لطلب الولد‪.‬‬
‫أال وإن من أعظم الربح للعبد‪ ،‬أن يوفقّه اهلل هلذه الثالث كلها‪ ،‬اليت‬
‫«هي مضمون قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥ ﭼ [يس‪ ]12:‬فـ﴿ما قدموا﴾‪ :‬هو ما باشروه من األعمال احلسنة أو‬
‫السيئة‪ ،‬و﴿آثارهم﴾‪ :‬ما ترتب على أعماهلم‪ ،‬مما عمله غريُهم‪ ،‬أو انتفع به‬
‫غريُهم‪.‬‬
‫ومجيع ما يصل إىل العبد من آثار عمله ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬أمورٌ َعمِل بها الغريُ بسببه‪ ،‬وبدعايته وتوجيهه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أمورٌ انتفع بها الغري أيَّ نفع كان‪ ،‬على حسب ذلك النفع‬
‫باقتدائه به يف اخلري‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أمورٌ عملها الغريُ وأهداها إليه‪ ،‬أو صدقة تصدق بها عنه‪ ،‬أو‬
‫دعا له‪ ،‬سواء أكان من أوالده احلسيني‪ ،‬أو من أوالده الروحيني الذين‬

‫‪348‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫خترجوا بتعليمه‪ ،‬وهدايته وإرشاده‪ ،‬أو من أقاربه وأصحابه احملبني‪ ،‬أو من‬
‫عموم املسلمني‪ ،‬حبسب مقاماته يف الدين‪ ،‬وحبسب ما أوصل إىل العباد من‬
‫اخلري‪ ،‬أو تسبب به‪ ،‬وحبسب ما جعل اهللُ له يف قلوب العباد من الود الذي ال‬
‫بد أن ترتتب عليه آثارُه الكثرية‪ ،‬اليت منها‪ :‬دعاؤهم‪ ،‬واستغفارهم له‪ ،‬وكلها‬
‫تدخل يف هذا احلديث الشريف‪.‬‬
‫وقد جيتمع للعبد يف شيء واحد عدةُ منافع‪ :‬كالولد الصاحل العامل‪،‬‬
‫الذي سعى أبوه يف تعليمه‪ ،‬وكالكُتُب اليت يقفها‪ ،‬أو يهبها ملن ينتفع بها‪.‬‬
‫ويُستدل بهذا احلديث على‪ :‬الرتغيب يف التزوج‪ ،‬الذي من مثراته‬
‫حصول األوالد الصاحلني‪ ،‬وغريها من املصاحل‪ ،‬كصالح الزوجة وتعليمها‬
‫ما تنتفع به‪ ،‬وتنفع غريها»(‪.)1‬‬
‫وههنا رسالة عظيمة! يرسلها ابن حجر اهليتمي – رمحه اهلل – لكل‬
‫كاتب وناسخ فيقول ـ عن حديث «من سنّ سنة حسنة‪ ،‬أو سنّ سنة سيئة»‪:‬‬
‫«بشرى عظيمة ملن نسخ علماً نافعاً‪ ،‬وهي أنه يكون له أجرُه وأجرُ من‬
‫قرأه أو نسخه‪ ،‬أو عملَ به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به‪ ،‬وإنذارٌ عظيم‬
‫ملن نسخ علماً فيه إثمٌ؛ وهو أن عليه وزرُه ووزرُ من قرأه أو نسخه أو عملَ‬
‫به بعدَه ما بقي خطُّه والعملُ به»(‪.)2‬‬
‫وحنن اآلن يف عصر اجلوال واإلنرتنت والفيسبوك وتويرت – وغريها‬
‫من مواقع التواصل االجتماعي – فقبل أن تكتب شيئاً لتنشره يف الناس‬
‫تأمل‪ :‬هل فيه خريٌ وحق وصواب أو داللة إليه؟ أم فيه شرٌ وتضليلٌ وإفسادٌ‬

‫‪349‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫أو داللةٌ إليه؟ فإن كان األول؛ فأصلِح النية واعلم أن لك أجرُه وأجر من‬
‫قرأه أو نسخه أو عمل به‪ ،‬وإن كان الثاني – عياذاً باهلل – فاعلم أن عليك‬
‫وزره ووزر من عمل به أو نسخه أو دعا إليه‪ ،‬جيلي هذا املعنى حديث‬
‫املصطفى عليه الصالة والسالم‪« :‬ال تُقتل نفسٌ ظلماً إال كان على ابن آدم‬
‫األول كفلٌ من دمها؛ ألنه كان أول من سنَّ القتل»(‪.)1‬‬
‫كِتابتــــهُ وإن فنيــــت يــــداه‬ ‫ومــا مــن كاتــب إال ســتبقى‬
‫يســـرك يف القيامـــة أن تـــراه‬ ‫فــال تكتــب بكفــك غــري شــيء‬

‫اللهم اجعلنا مفاتيح للخري‪ ،‬مغاليق للشر‪ ،‬وبارك لنا يف أوقاتنا‬


‫وأعمارنا‪ ،‬واجعل أعمالنا وأقوالنا يف مرضاتك‪ ،‬ومتدنا بعد موتنا بطيب‬
‫رمحاتك‪.‬‬

‫خالصة القاعدة‪:‬‬
‫حتى بعد موتك أيها املؤمن‪..‬وعطايا الرب ال تنساك!‬
‫عود نفسك على الصدقة ولو بالقليل‪.‬‬
‫بلّغ من العلم ولو آية أو حديثاً‪.‬‬
‫إن حُرمت من العلم الشرعي فاغتنم الفرصة يف ولدك‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الفهرس األلف بائي للقواعد‬


‫الصفحة‬ ‫القاعدة‬ ‫م‬
‫‪140‬‬ ‫احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجز‬ ‫‪1‬‬
‫‪336‬‬ ‫إذا مات اإلنسان انقطع عملُه إال من ثالث‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪304‬‬ ‫اعملوا فكلٌ ميسّر ملا خُلق له‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪50‬‬ ‫األرواح جنود جمندة‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪97‬‬ ‫الرب حسن اخللق‬ ‫‪5‬‬
‫‪25‬‬ ‫الدين النصيحة‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪111‬‬ ‫الظلم ظلمات يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪272‬‬ ‫القرآن حجة لك أو عليك‪.‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪68‬‬ ‫الكذب يهدي إىل الفجور‪.‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪239‬‬ ‫املسلم من سلم املسلمون من لسانه ويده‪.‬‬ ‫‪10‬‬
‫‪330‬‬ ‫انظروا إىل من هو أسفل منكم‪.‬‬ ‫‪11‬‬
‫‪31‬‬ ‫إن احلالل بني‪ ،‬وإن احلرام بني‪.‬‬ ‫‪12‬‬
‫‪285‬‬ ‫إن الدِّين يُسرٌ‬ ‫‪13‬‬
‫‪212‬‬ ‫إن اهلل طيب ال يقبل إال طيباً‪.‬‬ ‫‪14‬‬
‫‪174‬‬ ‫إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء‬ ‫‪15‬‬
‫‪11‬‬ ‫إمنا األعمال بالنيات‪.‬‬ ‫‪16‬‬
‫‪56‬‬ ‫إمنا الطاعة يف املعروف‪.‬‬ ‫‪17‬‬
‫‪104‬‬ ‫إمنا الناس كاإلبل املائة‪.‬‬ ‫‪18‬‬
‫‪310‬‬ ‫خريُكم؛ خريُكم ألهله‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪351‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الصفحة‬ ‫القاعدة‬ ‫م‬


‫‪252‬‬ ‫فاظفر بذات الدين‪.‬‬ ‫‪20‬‬
‫‪279‬‬ ‫كل الناس يغدو‪.‬‬ ‫‪21‬‬
‫‪245‬‬ ‫كلكم راعٍ‪ ،‬وكلكم مسؤولٌ عن رعيته‪.‬‬ ‫‪22‬‬
‫‪80‬‬ ‫كل مسكر مخر‪ ،‬وكل مخر حرام‪.‬‬ ‫‪23‬‬
‫‪205‬‬ ‫كن يف الدنيا كأنك غريب‪ ،‬أو عابر سبيل‪.‬‬ ‫‪24‬‬
‫‪191‬‬ ‫ليس الشديد بالصُّرَعة‪.‬‬ ‫‪25‬‬
‫‪126‬‬ ‫ما أعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب‬ ‫‪26‬‬
‫‪180‬‬ ‫ما أنزل اهلل داءً إال أنزل له شفاءً‪.‬‬ ‫‪27‬‬
‫‪225‬‬ ‫ما زاد اهللُ عبداً بعفو إال عزاً‪.‬‬ ‫‪28‬‬
‫‪45‬‬ ‫ما نقصت صدقةٌ مِن مال‪.‬‬ ‫‪29‬‬
‫‪218‬‬ ‫مثل اجليس الصاحل واجلليس السوء‪.‬‬ ‫‪30‬‬
‫‪18‬‬ ‫من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‪.‬‬ ‫‪31‬‬
‫‪88‬‬ ‫مَن بطأ به عملُه مل يسرع به نَسبَه‪.‬‬ ‫‪32‬‬
‫‪147‬‬ ‫من تشبه بقومٍ فهو منهم‪.‬‬ ‫‪33‬‬
‫‪133‬‬ ‫من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه‪.‬‬ ‫‪34‬‬
‫‪74‬‬ ‫من سن يف اإلسالم سنة حسنة‪.‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪162‬‬ ‫من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب‪.‬‬ ‫‪36‬‬
‫‪168‬‬ ‫من غشنا فليس منا‪.‬‬ ‫‪37‬‬
‫‪191‬‬ ‫من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خرياً أو ليصمت‪.‬‬ ‫‪38‬‬
‫‪298‬‬ ‫من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليُكرم جارهَ‪.‬‬ ‫‪39‬‬
‫‪186‬‬ ‫من ال يَرْحم ال يُرْحم‪.‬‬ ‫‪40‬‬
‫‪38‬‬ ‫من يرد اهلل به خرياً يفقه يف الدين‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫‪352‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الصفحة‬ ‫القاعدة‬ ‫م‬


‫‪323‬‬ ‫من يستعفف ُيعِفَّه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يُغنِه اهلل‪.‬‬ ‫‪42‬‬
‫‪232‬‬ ‫نعمتان مغبونٌ فيهما كثري من الناس‪ :‬الصحّة والفراغ‪.‬‬ ‫‪43‬‬
‫‪119‬‬ ‫وأتبع السيئة احلسنة متحها‪.‬‬ ‫‪44‬‬
‫‪266‬‬ ‫واعلم أن النصر مع الصرب‪.‬‬ ‫‪45‬‬
‫‪198‬‬ ‫ت إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه‪.‬‬
‫وليأ ِ‬ ‫‪46‬‬
‫‪317‬‬ ‫ال حتقرن من املعروف شيئاً‪.‬‬ ‫‪47‬‬
‫‪61‬‬ ‫ال ضرر وال ضرار‪.‬‬ ‫‪48‬‬
‫‪259‬‬ ‫ال يأتي على الناس زمانٌ إال والذي بعده شرٌ منه‪.‬‬ ‫‪49‬‬
‫‪156‬‬ ‫ال يُلدغ املؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتني‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫‪353‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪354‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فهرس الفوائد‬
‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪355‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪356‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪357‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪358‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪359‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪360‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪361‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪362‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫الصفحة‬ ‫الفائدة‬ ‫م‬

‫‪363‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫‪364‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫فهرس املوضوعات‬

‫مقدمة الطبعة الثانية ‪5 ...........................................................................‬‬

‫القاعدة األوىل‪ :‬إمنا األعمال بالنيات ‪11........................................................‬‬

‫القاعدة النبوية الثانية‪ :‬من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ‪18..........................‬‬

‫القاعدة النبوية الثالثة‪ :‬الدين النصيحة ‪25......................................................‬‬

‫القاعدة النبوية الرابعة‪ :‬احلالل بيّن واحلرام بيّن ‪31.............................................‬‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة‪ :‬من يرد اهلل به خرياً يفقهه يف الدين‪38.................................‬‬

‫القاعدة النبوية السادسة‪ :‬ما نقصت صدقةٌ مِن مال‪45..........................................‬‬

‫القاعدة السابعة‪ :‬األرواح جنود جمنّدة ‪50.......................................................‬‬

‫القاعدة الثامنة‪ :‬إمنا الطاعة يف املعروف ‪56......................................................‬‬

‫القاعدة النبوية التاسعة‪ :‬ال ضرر وال ضرار ‪62.................................................‬‬

‫القاعدة النبوية العاشرة‪ :‬الكذب يهدي إىل الفجور ‪69..........................................‬‬

‫القاعدة النبوية احلادية عشرة‪ :‬من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها‬

‫بعده ‪76.........................................................................................‬‬

‫القاعدة الثانية عشرة‪ :‬كل مسكر مخر‪ ،‬وكل مخر حرام ‪82.......................................‬‬

‫سبُه ‪90...............................‬‬
‫القاعدة النبوية الثالثة عشرة‪ :‬مَن بطّأ به عملُه مل يسرع به َن َ‬

‫القاعدة النبوية الرابعة عشرة‪ :‬البِّر حسن اخللق ‪99.............................................‬‬

‫‪365‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة عشرة‪ :‬إمنا الناس كاإلبل املائة ‪107 ....................................‬‬

‫القاعدة النبوية السادسة عشرة‪ :‬الظلم ظلمات يوم القيامة ‪115 ................................‬‬

‫القاعدة النبوية السابعة عشرة‪ :‬وأتبع السيئة احلسنة متحها ‪123 .................................‬‬

‫القاعدة النبوية الثامنة عشرة‪ :‬ما أُعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب‪130 .................‬‬

‫القاعدة النبوية التاسعة عشرة‪ :‬من حسن إسالم املرء ترْكُه ما ال يعنيه ‪137 .....................‬‬

‫القاعدة النبوية العشرون‪ :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجز ‪144 ...............‬‬

‫القاعدة النبوية احلادية والعشرون‪ :‬من تشبه بقومٍ فهو منهم ‪151 ..............................‬‬

‫القاعدة النبوية الثانية والعشرون‪ :‬ال يُلدغ املؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتني ‪160 ..................‬‬

‫القاعدة النبوية الثالثة والعشرون‪ :‬من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب ‪166 ...................‬‬

‫القاعدة النبوية الرابعة والعشرون‪ :‬من غشنا فليس منا ‪172 ....................................‬‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة والعشرون‪ :‬إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء ‪178 .................‬‬

‫القاعدة السادسة والعشرون‪ :‬ما أنزل اهلل داءً إال أنزل له شفاءً ‪184 ............................‬‬

‫القاعدة النبوية السابعة والعشرون‪ :‬من ال َيرْحم ال ُيرْحم ‪190 ................................‬‬

‫بالصرَعة ‪195 ..................................‬‬


‫القاعدة النبوية الثامنة والعشرون‪ :‬ليس الشديد ُّ‬

‫القاعدة النبوية التاسعة والعشرون‪ :‬وليأتِ إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه ‪202 .............‬‬

‫القاعدة النبوية الثالثون‪ :‬كن يف الدنيا كأنك غريب‪ ،‬أو عابر سبيل ‪209 .......................‬‬

‫القاعدة النبوية احلادية و الثالثون‪ :‬إن اهلل طيب ال يقبل إال طيباً ‪217 .........................‬‬

‫‪366‬‬
‫قــواعد نبـــوية‬

‫القاعدة النبوية الثانية والثالثون‪ :‬مثل اجلليس الصاحل واجلليس السوء‪ :‬كحامل املسك‪ ،‬ونافخ‬

‫الكري ‪223 ......................................................................................‬‬

‫القاعدة الثالثة والثالثون‪ :‬ما زاد اهللُ عبداً بعفو إال عزاً ‪230 ....................................‬‬

‫القاعدة النبوية الرابعة والثالثون‪ :‬نعمتان مغبونٌ فيهما كثري من الناس‪ :‬الصحّة والفراغ ‪237 ..‬‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة والثالثون‪ :‬املسلم من سلِم املسلمون من لسانه ويده ‪244 .............‬‬

‫القاعدة النبوية السادسة والثالثون‪ :‬كلكم راعٍ‪ ،‬وكلكم مسئولٌ عن رعيته () ‪251 ...............‬‬

‫القاعدة النبوية السابعة والثالثون‪ :‬فاظفر بذات الدين ‪258 .....................................‬‬

‫القاعدة النبوية الثامنة والثالثون‪ :‬ال يأتي على الناس زمانٌ إال والذي بعده شرٌ منه ‪265 ......‬‬

‫القاعدة التاسعة والثالثون‪ :‬واعلم أن النصر مع الصرب ‪272 ...................................‬‬

‫القاعدة النبوية احلادية واألربعون‪ :‬كل الناس يغدو فبائع نفسه‪ :‬فمعتقها أو موبقها‪286 ........‬‬

‫القاعدة النبوية الثانية واألربعون‪ :‬إن الدِّين يُسرٌ ‪292 ...........................................‬‬

‫القاعدة النبوية الثالثة واألربعون‪ :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلْيقل خرياً أو ليصمت ‪298‬‬

‫القاعدة النبوية الرابعة واألربعون‪ :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليُكرم جارَه ‪305 ........‬‬

‫القاعدة النبوية اخلامسة واألربعون‪ :‬اعملوا فكلٌ ميسّر ملا خُلق له ‪312 ........................‬‬

‫القاعدة النبوية السادسة واألربعون‪ :‬خريُكم؛ خريُكم ألهله ‪319 ...............................‬‬

‫القاعدة النبوية السابعة واألربعون‪ :‬ال حتقرنّ من املعروف شيئاً ‪326 ...........................‬‬

‫القاعدة النبوية الثامنة واألربعون‪ :‬من يستعفف يُعِفَّه اهلل‪ ،‬ومن يستغن يُغنِه اهلل ‪332 ...........‬‬

‫‪367‬‬
‫قـــواعــد نبويــــة‬

‫القاعدة النبوية التاسعة واألربعون‪ :‬انظروا إىل من هو أسفل منكم ‪339 ........................‬‬

‫القاعدة النبوية اخلمسون‪ :‬إذا مات اإلنسان انقطع عملُه إال من ثالث‪345 .....................‬‬

‫الفهرس األلف بائي للقواعد ‪351 ..............................................................‬‬

‫فهرس الفوائد ‪355 .............................................................................‬‬

‫فهرس املوضوعات ‪365 ........................................................................‬‬

‫‪368‬‬

You might also like