Professional Documents
Culture Documents
Kotobati - قواعد نبوية
Kotobati - قواعد نبوية
2
قــواعد نبـــوية
3
قـــواعــد نبويــــة
4
قــواعد نبـــوية
5
قـــواعــد نبويــــة
6
قــواعد نبـــوية
يلتبس حقه من باطله ،ولبان صدقه من كذبه ،هذا ومل يكن متعاطياً
للبالغة ،وال خمالطاً ألهلها من خطباءَ ،أو شعراء ،أو فصحاء ،و إمنا هو
من غرائز فطرته ،و بداية جبلته ،وما ذاك إال لغاية تراد ،وحادثة تشاد!»
وألجل هذا كلّه ،وملا جعل اهلل يف كالمه من خاصية التشريع –
كونه املبلّغ عن اهلل رساالته – فقد اعتنى العُلماء كثرياً بهذا النوع من
األحاديث ،فصنفوا فيه التصانيف ،ومن ذلك:
السنَن املأثورة» ألبي بكر ابن
« -1اإلجياز وجوامع الكلم مِنَ ُّ
السُّنِّيِّ – رمحه اهلل.
« -2الشهاب يف احلِكَم واآلداب» للقاضي أبي عبدِاهلل القُضاعي:
مجع فيه مِنْ جوامع الكلم الوجيزة ،وصنَّفَ على مِنوالِه قومٌ آخرون،
فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثريةً.
-3أَشارُ اخلطَّابيُّ – رمحه اهلل – يف أوَّل كتابه«غريب احلديث» إىل
مجلةٍ يسرية من األحاديث اجلامعة.
ن الصَّالحِ –
-3ومن ذلك :ما أماله اإلمامُ احلافظُ أبو عمرو ب ُ
رمحه اهلل – يف جملسٍ من جمالسه ،ومسَّاه«:األحاديث الكلّيَّة» مجع فيه
األحاديثَ اجلوامعَ اليت يُقال :إنَّ مدارَ الدِّين عليها ،وما كان يف معناها
ستةٍ وعشرين
ِمنَ الكلمات اجلامعةِ الوجيزةِ ،فاشتمل جملسهُ هذا على َّ
حديثاً.
-4ثمَّ جاء بعده اإلمام الفقيهُ الزَّاهِدُ القُدوةُ ،أبو زكريا حييى
7
قـــواعــد نبويــــة
النَّوويَّ – رمحةُ اهللِ عليهِ – فأخذَ هذه األحاديثَ – اليت أمالها ابنُ
الصَّالحِ – وزادَ عليها متامَ اثننيِ وأربعنيَ حديثاً ،ومسى كتابه
بـ«األربعني» ،وهي املعروفة باألربعني النووية ،اليت اشتهرت ،وكَثُرَ
سنِ قصدِه –
حفظُها ،ونفع اهلل بها ،ولعل ذلك بربكة نيَّة جامِعِها ،وحُ ْ
رمحه اهلل»(.)1
ويف عصرنا هذا وما قبله مست همة بعض العلماء إىل التصنيف
يف هذا الباب – أيضاً – ولعل من أشهر الكتب يف هذا ،كتابُ العالمة
عبدالرمحن بن ناصر السعدي « :بهجة قلوب األبرار ،وقرة عيون
األخيار ،يف شرح جوامع األخبار» ،فإنه انتقى من هذا الباب تسعةً
وتسعني حديثاً ،ومل يكتف بهذا بل شرحها شرحاً موجزاً ،سهل العبارة،
مليئ ًا بالفوائد والقواعد – كما هي عادته يف مصنفاته(.)2
ج -أو مبا اصطلحنا عليه ومل تكن العناية جبوامع كلمه
بـ«القواعد النبوية» -مقتصرةً على علماء الشريعة فحسب ،بل كان
لعل ماء اإلسالم قاطبةً اهتمامٌ ظاهر بهذا النوع من األحاديث؛ يظهر
ذلك جلياً يف كتب البالغة ،والبيان ،واألدب ،واليت ال يكاد خيلو كتاب
8
قــواعد نبـــوية
منها إال وينوّه مبا أوتيه نبينا ج من قدرة عظيمة على صياغة املعاني
الكثرية يف مجلٍ قصرية ،ويضمنون كتبهم مناذج من ذلك.
()1
يصدر كتابه «اإلعجاز فهذا أبو منصور الثعاليب (ت430 :هـ)
واإلجياز» -بعد أن ذكر مناذج من اآليات القرآنية اليت تشبه القواعد –
بذكر مناذج من الكالم النبوي املعجز يف بالغته وبيانه ،مع قصر ألفاظه
وتراكيبه؛ فعقد لذلك ثالثة فصول ،منها قوله يف الفصل الثالث« :فصل
يف سائر أم ثاله وروائع أقواله ،وأحاسني حكمه يف جوامع كلمه اليت
يلوح عليها نور النبوة ،وجتمع فوائد الدين والدنيا»( ،)2ثم ذكر أكثر من
ثالثني منوذجاً.
وتأتي هذه «القواعد النبوية» رغبةً يف االندراج يف مسالك هؤالء
العلماء ،والسري على طريقتهم ،وإن مل أبلغ منزلتهم يف البذل والعلم،
ولكن على حدّ قول األول:
إن التشبّه بالكرام فالح
اجتهدتُ يف انتقاء كلماتٍ جوامع من حديثه الشريف ،وحاولت
أن أربط هدايتها بواقعنا املعاصر ،إذْ لكل عصرٍ مستجداته وأحداثه اليت
9
قـــواعــد نبويــــة
حتتاج إىل معاجلة يف ضوء الوحيني :الكتاب والسنّة ،لتكون املعاجلة وِفْقَ
ذلك ب رهاناً عملياً على حيوية نصوص الوحيني ،وقدرتهما على مواكبة
أحوال الناس يف كل زمان ومكان ،ولتكون نرباساً نهتدي يف مسرينا إىل
اهلل ،فإمنا يراد من العلم العمل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك ،مقرّبا ملعاني سنة نبيك
ج ،وذخراً عندك أجده حني ألقاك ،واحلمد هلل رب العاملني.
عمر بن عبداهلل املقبل
تويرت @ :
10
قــواعد نبـــوية
القاعدة األوىل:
()1
إمنا األعمال بالنيات
كان كثري من أهل العلم يفضّلون البدء بهذا احلديث العظيم – الذي
ميثّل قاعدة من أعظم قواعد اإلسالم – يف مصنّفاتهم ،كما فعل البخاري
وغريه من األئمة؛ ألن النيب × جعله ميزاناً لألعمال الباطنة ،كما أنه أحد
شرطي قبول العمل :اإلخالص واملتابعة.
وليس من قبيل املبالغة أن يقال :إن هذه القاعدة العظيمة تعيش مع
اإلنسان يف حركاته وسكناته؛ لذا كان من فقه املؤمن أن يوليها عناية بالغة،
كما كان األئمة يفعلون ،ويعربون عن هذه احلفاوة البالغة بهذه القاعدة
بكلمات مشهورة ستأتي اإلشارة إىل بعضها.
وملا كان قبول العمل هو الغاية اليت مشّر هلا املشمرون ،وكان
اإلخالصُ أحد ركين قبول العمل؛ كانت العناية به من أهم املهمات ،واحلذر
من ذهابها أو ضعفها من أوجب الواجبات ،فال شيء أعلى وال أحلى من
اإلخالص ومثراته ،وال شيء أخوف على املؤمن من حبوط العمل إما كلياً
11
قـــواعــد نبويــــة
12
قــواعد نبـــوية
عنوا بالكالم على اإلخالص وتوابعه ،وهي اليت توجد كثرياً يف كالم السلف
املتقدمني رمحهم اهلل تعاىل.
وهي اليت يتكرر ذكرها يف كالم النيب × ،تارة بلفظ النية ،وتارة بلفظ
اإلرادة ،وتارة بلفظ مقارب لذلك ،وقد جاء ذكرها كثرياً يف كتاب اهلل عز
وجل بغري لفظ النية أيضاً من األلفاظ املقاربة هلا (.)1
إن احلديث عن هذه القاعدة يستحق أن يفرد مبجلدات! كيف وقد قال
بعض األئمة :إن هذا احلديث – يعين حديث النية – هو نصف الدين؟!
ذلك أن األعمال :إما ظاهرةٌ أو باطنة ،فاألعمال الظاهرة دليلها :حديث
«من عمل عمالً ،)2(»...ودليل األعمال الباطنة هو هذه القاعدة النبوية
احملكمة« :إمنا األعمال بالنية».
وقال اإلمام عبدالرمحن بن مهدي« :ينبغي أن جيعل هذا احلديث رأس
كل باب»(.)3
فحريٌّ بالعبد – بعد معرفة منزلة هذا احلديث العظيم والقاعدة النبوية
احملكمة – أن يستحضر هذا احلديث يف أعماله كلها؛ حبيث ينوي نية شاملة
ألموره كلها – ما يأتي منها وما يذر – فيجاهد نفسه على أن تكون هلل
وحده ،وطلباً ملرضاته ،واتقاء لسخطه.
وأن يروّض نفسه على عدم االلتفات للخلق ،وال يرجو نفعهم أو
13
قـــواعــد نبويــــة
مدحهم ،فإن حصل شيء من ذلك – دون قصد – مل يضره ،بل قد يكون
من عاجل بشرى املؤمن(.)1
وهذا كلّه حيتاج من املؤمن أن يتدبر النصوص من الوحيني – الكتاب
والسنة – الواردة يف فضل اإلخالص واملخلصني ،وأن يتأمل يف مثرات
اإلخالص يف الدنيا واآلخرة.
انظر كيف صرف اهلل الفاحشة عن نبيه يوسف عليه الصالة والسالم
بسبب إخالصه!
وتأمل كيف غفر اهلل المرأة بغيٍّ سقت كلباً( )2ال ترجو إال اهلل!
والعجيب أن احليوان املسقي من أخبث احليوانات! واألعجب أن النيب
× مل يذكر عنها أنها عابدة وال متصدقة ،بل مل يذكر عنها إال هذا الوصف
الذي هو أقبح ما تعاب به املرأة ..لكنه اإلخالص الذي نقل هذا العمل
اليسري إىل هذه املنزلة العالية من الثواب! ويف مقابل ذلك تأمل تلك األفعال
الكبرية ،ومنها :تطاير الرقاب عن أجسادها ،كيف تنقلب بسوء النية إىل عملٍ
يستحق صاحبه العقوبة عليه! ولذلك ملا سُئل النيب × عن الرجل يقاتل
شجاعة ،أو محية ،أو ليُرى مقامُه يف صف القتال «أيّ ذلك يف سبيل اهلل»؟
فقال« :من قاتل لتكون كلمة اهلل هي العليا فهو يف سبيل اهلل»(.)3
قال ابن رجب« :واألعمال إمنا تتفاضل ويعظم ثوابها حبسب ما يقوم
14
قــواعد نبـــوية
15
قـــواعــد نبويــــة
()1
صبْ.
حُسْنُ النِّيَّة ،وكفاك به خرياً وإنْ مل تَنْ َ
ال يوجد يف حياتنا عمل – مهما كانت منزلته – إال ويرتبط بهذه
القاعدة العظيمة« :إمنا األعمال بالنيات» ،ومن ذلك :اإلحسان إىل اخللق
باملال أو القول أو الفعل؛ فإن ذلك كله مجيل وعظيم ،وإذا اقرتنت به نية
صاحلة كان ثوابه أعظم ،تأمل جيداً قوله تعاىل :ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭼ [النساء:
،]114أي :فإنه خري ،ثم قال :ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ [ النساء ] 114 :فرتّب األجر العظيم على فعل
ذلك ابتغاء مرضاته ،ويف البخاري مرفوعاً« :من أخذ أموال الناس يريد
أداءها أدّاها اهلل عنه ،ومن أخذها يريد إتالفها أتلفه اهلل»( )2فانظر كيف جعل
النية الصاحلة سبباً قوياً للرزق وأداء اهلل عنه ،وجعل النية السيئة سبباً للتلف
واإلتالف!
وإذا كان هذا يف األمور املتعدية النفع؛ فإن قاعدتنا هذه «إمنا األعمال
بالنيات» جتري النية يف األمور املباحة ،واألمور الدنيوية:
«فمن قصدَ بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية االستعانةَ بذلك على
القيام حبق اهلل وقيامه بالواجبات واملستحبات ،واستصحَب هذه النية
الصاحلة يف أكله وشربه ،ونومه وراحته ومكاسبه؛ انقلبت عاداته عبادات،
16
قــواعد نبـــوية
وبارك اهلل للعبد يف أعماله ،وفتح له من أبواب اخلري والرزق أموراً ال
حيتسبها وال ختطر له على بال ،ومن فاتته هذه النية الصاحلة – جلهله أو
تهاونه – فقد فاته خري كثري جداً» (.)1
وبعد :فحقيق باملؤمن الذي يريد جناة نفسه ونفعها :أن يفهم معنى هذه
القاعدة ،وأن يكون العمل بها نُصب عينيه يف مجيع أحواله وأوقاته ،وليعلم
أن بلوغ مراتب الصادقني ليست مستحيلة ،ولكنها حتتاج إىل جهد وجماهدة،
ملاذا؟ جييب عن هذا سهلٌ بن عبداهلل التُّستَري –رمحه اهلل– إذ يقول« :ليس
ن اإلخالصِ؛ ألنَّه ليس هلا فيه نصيبٌ» (.)2
على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِ َ
خالصة القاعدة:
من َأخْلَصَ خُلّص يف الدنيا واآلخرة.
اإلخالص سببٌ لقبول العمل وبركته ،ونيل رضى اهلل
وجنته.
قَصْدُ وجهٍ واحد ـ وهو وجه اهلل تعاىل ـ أهون من مصانعة
ومُراءات وجوهٍ كثرية ،ال ينفعون وال يضرون!
» «
17
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة عظيمة جامعة ،وهي صنو القاعدة السابقة« :إمنا األعمال
بالنيات» وهلذا قال أبو عبيد القاسم بن سالم« :مجع النيب × مجيع أمر
اآلخرة يف كلمة واحدة« :من أحدث يف أمرنا ما ليس منه فهو رد» ومجع أمر
الدنيا كله يف كلمة واحدة« :إمنا األعمال بالنيات» يدخالن يف كل باب» (.)2
فهذا احلديث إذاً «قاعدة عظيمة من قواعد اإلسالم ،وهو من جوامع
()3
– أي يف الدين – كلمه ×؛ فإنه صريح يف رد كل البدع واملخرتعات»
وهو كامليزان لألعمال يف ظاهرها ،كما أنّ حديث« :األعمال بالنيَّات» – كما
تقدم –« :ميزان لألعمال يف باطِنها» (.)4
ولعظيم ما اشتملت عليه هذه القاعدة من معاني جعلها الشاطيبُّ أحد
األصول اليت بنى عليها كتابه املشهور «االعتصام».
18
قــواعد نبـــوية
وقوله« :فهو رد» :أي مردود عليه ،ومؤدى ذلك :البطالن ،وعدم
()1
االعتداد به.
وهذه القاعدة تدل مبنطوقها ومفهومها على معانٍ جليلة:
أما منطوقها :فإنها تدل على أن كل بدعة أُحدثت يف الدين ،ليس هلا
أصل يف الكتاب والسنة ،سواء كانت من البدع القولية الكالمية – كبدعة
الرفض واالعتزال وغريها – أو من البدع العملية – كالتعبد هلل بعبادات مل
يشرعها اهلل وال رسوله – فإن ذلك كله مردود على أصحابه ،وأهله
مذمومون حبسب بدعهم وبُعدها عن الدين ،فمن أخرب بغري ما أخرب اهلل به
ورسوله ،أو تعبد بشيء مل يأذن اهلل به ورسوله ومل يشرعه فهو مبتدع ،ومن
حرم املباحات ،أو تعبد بغري الشرعيات فهو مبتدع(.)2
وأما مفهوم هذه القاعدة :فإن من عمل عمالً عليه أمر اهلل ورسوله –
وهو التعبد هلل بالعقائد الصحيحة ،واألعمال الصاحلة :من واجب ومستحب
– فعمله مقبول ،وسعيه مشكور.
ويستدل بهذه القاعدة على أمور ،منها:
أوالً :كل عبادة فُعلت على وجهٍ منهي عنه فإنها فاسدة؛ ألنه ليس
«
»
19
قـــواعــد نبويــــة
عليها أمر الشارع ،وأن النهي يقتضي الفساد ،وكل معاملة نهى الشارع عنها
()1
فإنها الغية ال يعتد بها.
ثانياً :يدخل يف قوله« :ما ليس منه» قسمان :العبادات ،واملعامالت:
فأما العبادات :فما كان منها خارجاً عن حكم اهلل ورسوله بالكلية فهو
مردود على عامله ،وعامله يدخل حتت قوله :ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [الشورى.]21 :
فمن تقرَّب إىل اهلل بعمل مل جيعله اهلل ورسولُه قربة إىل اهلل؛ فعمله
باطلٌ مردودٌ عليه ،وهو شبيهٌ حبالِ الذين كانت صالتُهم عندَ البيت مُكاء
وتصدية ،وهذا كمن تقرَّب إىل اهلل تعاىل بسماع املالهي ،أو بالرَّقص ،وما
أشبه ذلك من احملدثات اليت مل يشرع اهلل ورسولُه التقرُّب بها بالكلية.
وكذلك :من تقرَّب بعبادة ُنهِيَ عنها خبصوصها ،كمن صامَ يومَ العيد،
أو صلَّى يف وقت النهي.
وأمَّا من عمل عمالً أصلُه مشروعٌ وقربةٌ ،ثم أدخلَ فيه ما ليس مبشروع ،أو
أخلَّ فيه مبشروع؛ فهذا خمالفٌ أيضاً للشريعة بقدر إخالله مبا أخلَّ به ،أو
إدخاله ما أدخلَ فيه ،وهل يكونُ عملُه من أصله مردوداً عليه أم ال؟ فهذا ال
يُطلق القولُ فيه بردٍّ وال قَبولٍ ،وفيه تفصيل ليس هذا موضعه.
وأمَّا املعامالت :كالعقود والفسوخ وحنوهما:
فما كان منها تغيرياً لألوضاع الشرعية ،كجعل حدِّ الزِّنى عقوبةً مالية،
20
قــواعد نبـــوية
وما أشبه ذلك؛ فإنَّه مردودٌ من أصله ،وما كان منها عقداً منهياً عنه يف
الشرع ،إما لكون املعقود عليه ليس حمالً للعقد ،أو لفوات شرطٍ فيه ،أو
صلُ به للمعقود معه أو عليه؛ ففي ذلك تفاصيل تطلب يف
لظلم حي ُ
مظانها(.)2())1
ثالثاً :عبّر عن «الدين» بـ«األمر» تنبيهاً على أن هذا الدين هو أمرنا الذي
نهتم له ونشتغل به ،حبيث ال خيلو عنه شيء من أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا(.)3
رابعاً :أن قوله« :يف أمرنا» دليل على أن احملدثات يف األمور الدنيوية
غري داخلةٍ يف حدّ البدعة ،بل هي من األمور املباحة يف أصلها ،وهلذا قبل
النيب × رأي سلمان الفارسي س يف حفر اخلندق ،وأحدث الفاروق س
ديوان اجلند الذي تسجل فيه أمساؤهم ،واتفق السلف على جواز كتابة
احلديث – بعد اختالف قديم ثم انقرض – من أجل حفظ السنة والشريعة
بعامة ،إىل غري ذلك من الوقائع اليت ال تكاد حتصر.
ومن تأمل يف اإلحداث يف الدين وجد أنه ينطوي على مفاسد كثرية،
منها:
«
»
21
قـــواعــد نبويــــة
« «
22
قــواعد نبـــوية
23
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
االبتداع إمنا هو يف أمور الدين ال يف الدنيا.
املبتدع يف حقيقته مستدرك على الشريعة اليت كمّلها اهلل.
إغالق باب البدع من مظاهر الرمحة باألمة حتى ال تشتت بني
آراء الرجال.
ظهور البدع مؤذن خبفاء السنن ،وظهور السنن خيفي البدع.
24
قــواعد نبـــوية
» «
25
قـــواعــد نبويــــة
تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة ،وهذا احلديث من األحاديث اليت
قيل فيها أنها أحد أرباع الدين ،قال النووي :بل هو وحده حمصل لغرض
الدين كله! ألنه منحصر يف األمور اليت ذكرها» (.)1
وبعد هذا البيان ملعنى هذه الكلمة العظيمة ،لننظر يف تطبيق ذلك على
اخلمسة اليت خصها النيب × بالذكر:
فالنصيحة هلل :االعرتاف بوحدانية اهلل ،وتفرده بصفات الكمال على
وجه ال يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه ،والقيام بعبوديته ظاهراً
وباطناً ،واإلنابة إليه كل وقت بالعبودية ،والطلب رغبة ورهبة مع التوبة
واالستغفار الدائم؛ ألن العبد ال بد له من التقصري يف شيء من واجبات اهلل،
أو التجرؤ على بعض احملرمات ،وبالتوبة املالزمة واالستغفار التام ينجرب
نقصه ،ويتم عمله وقوله(.)2
وأما النصيحة لكتاب اهلل :فبحفظه وتدبره ،وتعلم ألفاظه ومعانيه،
واالجتهاد يف العمل به يف نفسه ويف غريه.
وأما النصيحة للرسول :فهي اإلميان به وحمبته ،وتقدميه فيها على
النفس واملال والولد ،واتباعه يف أصول الدين وفروعه ،وتقديم قوله على
قول كل أحد ،واالجتهاد يف االهتداء بهديه ،والنصر لدينه.
وأما النصيحة ألئمة املسلمني – وهم والتهم ،من اإلمام األعظم إىل
األمراء والقضاة إىل مجيع من هلم والية عامة أو خاصة – :فباعتقاد واليتهم،
26
قــواعد نبـــوية
والسمع والطاعة هلم ،وحث الناس على ذلك ،وبذل ما يستطيعه من
إرشادهم ،وتنبيههم إىل كل ما ينفعهم وينفع الناس ،وإىل القيام بواجبهم.
وأما النصيحة لعامة املسلمني :فبأن حيب هلم ما حيب لنفسه ،ويكره هلم
ما يكره لنفسه ،ويسعى يف ذلك حبسب اإلمكان؛ فإن من أحبَّ شيئاً سعى له
()1
واجتهد يف حتقيقه وتكميله.
ومما يؤكد موقع هذه القاعدة يف قلب املؤمن أن النيب × كان إذا بايع
أحداً من أصحابه بايعه على أركان اإلسالم الكبار ،وعلى النصح لكل
مسلم ،كما يف حديث جرير س قال« :بايعت رسول اهلل × على إقام
الصالة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» (.)2
ويدخل يف معنى ما سبق ذكره :ما ذكره شيخ اإلسالم – رمحه اهلل –:
«نصح الرجل فيمن يعامله ،ومن يوكّله ويوصي إليه ،ومن يستشهده ،بل
ومن يتحاكم إليه ،وأمثال ذلك ،وإذا كان هذا يف مصلحة خاصة فكيف
بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم املسلمني :من األمراء واحلكام والشهود
والعمال – أهل الديوان وغريهم –! فال ريب أن النصح يف ذلك أعظم» (.)3
«
»
27
قـــواعــد نبويــــة
28
قــواعد نبـــوية
طالب مبتدئ يف العلم عن الكتب املناسبة له ،فال يصلح أن يكون اجلواب
ذاته يوجّه للمتوسط أو املتقدم يف طريق الطلب(.)1
ومثة معنىً دقيق يندرج حتت هذه القاعدة العظيمة «الدين النصيحة»
وهي :التثبيت على اخلري ،وحثّ صاحبه أن يزداد منه ،فإن كثرياً من الناس
ينحصر مفهوم النصيحة عنده يف التنبيه على اخلطأ! قال حامت األصم:
النصيحة للخلق :إذا رأيت إنساناً يف احلسنة أن حتثه عليها ،وإذا رأيته يف
معصية أن ترمحه(.)2
ومن املهم – لتكون النصيحة مؤثرة ونافعة – أن يستحضر الناصح
صدق النية ،ونفع املنصوح ،ال التشفي أو الفرح باخلطأ ،قال اإلمام
الشافعي :ما ناظرت أحداً إال على النصيحة.
إن من احملزن أن يرى املؤمن يف واقع كثريٍ من املسلمني خرقاً كثرياً
ملضمون هذه القاعدة! ومن ذلك:
)1يف البيوع ،وعموم املعامالت.
)2يف األمور االجتماعية ،وخاصة ما خيص الزواج ،فكم حصل
بسبب اإلخالل بهذا األصل العظيم «الدين النصيحة« من مآسٍ
وآالم جترعها أحد الطرفني ،بسبب اجملاملة اليت حتمل على كتم
العيوب ،وعدم النصح يف اخلاطب أو املخطوبة!
)3املوظفون يف الدوائر احلكومية ،فيقع من عدد غري قليل تقصري،
وعدم نصح يف أداء الوظيفة ،وهم الذين ائتمنوا عليها من قبل
29
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
النصيحة مبعناها الشامل هي الدين كله.
النصيحة ال تقتصر على بيان األخطاء ،بل تشمل التثبيت والتشجيع
على اخلري.
من املهم – عند النصح – مراعاة حال املنصوح ،والوقت والزمان!
30
قــواعد نبـــوية
هذه قاعدة نبوية حمكمة ،وردت يف ثنايا حديث النعمان بن بشري رضي
اهلل عنهما قال :مسعت رسول اهلل ج ،يقول – وأهوى النعمان بإصبعيه إىل
أذنيه –« :إن احلالل بني ،وإن احلرام بني ،وبينهما مشتبهات ال يعلمهن كثري
من الناس ،فمن اتقى الشبهات استربأ لدينه وعرضه ،ومن وقع يف الشبهات
وقع يف احلرام ،كالراعي يرعى حول احلمى يوشك أن يرتع فيه ،أال وإن
لكل مَ ِلك حِمى ،أال وإن حِمى اهلل حمارمُه ،أال وإن يف اجلسد مضغة ،إذا
صلحت صلح اجلسد كله ،وإذا فسدت فسد اجلسد كله ،أال وهي
القلب»(.)1
ما أمجل وقع هذه القاعدة على األذن!
فهي بديعة يف سبكها اللغوي ،وأكثر مجاالً يف سعة مدلوهلا الشرعي،
فهي«من أمجع القواعد للمعاني الكثرية؛ والشتماهلا على جل األحكام
31
قـــواعــد نبويــــة
الشرعية :فإن احلالل واحلرام إما أن يكون احلكم فيهما بيّناً ال خالف فيه بني
العلماء ،وإما أن يكون خافياً تتجاذبه وجوه التأويالت ،فكل منهم يذهب
فيه مذهباً» (.)1
«قال املهلب رمحه اهلل :الوسائط التى بني احلالل واحلرام حيتف بها
أصالن من كل الطرفني ،فأيهما قام الدليل عليه أضيفت الوسيطة إليه ،وقد
يقوم دليالن من الطرفني فيقع االشتباه ،ويعسر الرتجيح؛ فهذه الذي من
َّاتقَاها« :استربأ لدينه وعرضه» كما قال ×» (.)2
إن هلذه القاعدة النبوية احملكمة دالالت مهمة ،حنتاجها يف واقعنا
العلمي والعملي ،أذكر منها بإجياز:
أوالً :أن هذه القاعدة قسّمت – وبوضوح ال حيتاج معه إىل تفسري –
األحكامَ الشرعية املتعلقة باحلالل واحلرام – من حيث وضوحها وخفائها –
إىل قسمني ال ثالث هلما ،وهذا التقسيم ليس جمرد خرب علمي يتوقف عنده
املكلّف! وإمنا يراد أن يستفيد منه يف حياته العملية ،فاحلالل البيّن ال جيوز
التورع عنه ،وال مينع الناس عنه ،واحلرام البني ال جيوز اإلقدام عليه ،وتبقى
املنطقة املتوسطة بينهما – منطقة املشتبهات – هي اليت حتتاج إىل وقفة أخرى
كما سيأتي بعد قليل.
32
قــواعد نبـــوية
ثانياً :ما ضابط احلالل البيّن؟ وما ضابط احلرام البني؟ وما ضابط
املشتبه؟
33
قـــواعــد نبويــــة
بيان جلي يعرفه عامة الناس ،وخفي ال يعرفه إال اخلاص من العلماء،
والدليل على صحة هذا قوله عليه السالم« :ال يعلمها كثري من الناس» وقد
عُقل ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها ،وإن كانوا قليل العدد ،وإذا صار
()1
معلوماً عند بعضهم فليس مبشتبه يف نفسه».
رابعاً :قوله × – يف حق ترك املشتبهات –« :فقد استربأ لدينه
وعرضه» دليل بل أصلٌ كبري يف طلب الرباءة للدين والعِرض ،الذي قد
يلحقه طعنٌ فيهما بسبب تقحّمه ملوارد الشُبه!
تأمل ماذا صنع نبيك × حينما أراد أن يقلب زوجته ( )2صفية رضي
اهلل عنها – حني زارته يف معتكفه – ورآه رجالن فأسرعا؟ قال« :على
رسلكما إنها صفية»! مع أنه × معصوم ،لكنه علّل هذا للرجلني بقوله« :إن
الشيطان جيري من اإلنسان جمرى الدم ،وإني خشيت أن يقذف يف قلوبكما
شراً» أو قال« :شيئاً»( ،)3فهذا تطبيق عملي لالسترباء للعرض.
وأما االسترباء للدين فأمثلته ال حتصى ،أكتفي من ذلك مبوقفني:
-1تُحدثنا أمنا عائشة – رضي اهلل عنها – عن أبيها أبي بكر –
رضي اهلل عنه – فتقول« :كان ألبي بكر غالم يُخرج له اخلراج،
وكان أبو بكر يأكل من خراجه ،فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو
بكر ،فقال له الغالم :أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر :وما هو؟
قال :كنت تكهنت إلنسان يف اجلاهلية وما أُحسن الكهانة ،إال أني
34
قــواعد نبـــوية
خدعته! فلقيين فأعطاني بذلك ،فهذا الذي أكلتَ منه ،فأدخل أبو
بكر يده فقاء كل شيء يف بطنه!» (.)1
-2واشرتى اإلمامُ اجلليل حممد بن سريين – أحد أجالء التابعني
(ت – )110 :زيتاً كثرياً للتجارة ،فسقطت فيه فأرة ،فخشي أن
يكون سقوط هذه الفأرة قد أفسد بقية الزيت ،فأراقه كله،
س بسبب دَين ركبه من شراء هذا الزيت!
فحُِب َ
ومبثل هذه املواقف رفع اهلل منزلة هؤالء األئمة –رمحهم اهلل– ،فأين
هؤالء ممن يأكل احلرام الصريح من ربا أو رشوة أو ميسر وال يبالي؟! ثم
يتعجب بعد ذلك من قسوة قلبه ونزع الربكة من ماله!
رابعاً :من املهم جداً – وحنن نتحدث عن الورع – أن نذكر ضابطه؛
حتى ال خيتل امليزان ،ومن أحسن من وقفتُ على كالمٍ له يف هذا شيخ
اإلسالم ابن تيمية –رمحه اهلل– ،حيث يقول:
«الورع املشروع هو الورع عما قد ختاف عاقبته؛ وهو ما يُعلم حترميه،
وما يشك يف حترميه وليس يف تركه مفسدة أعظم من فعله –مثل حمرم معني–،
مثل :من يرتك أخذ الشبهة ورعاً مع حاجته إليها ،ويأخذ بدل ذلك حمرماً بيّناً
حترميه! أو يرتك واجباً تركه أعظم فساداً من فعله مع الشبهة ،كمن يكون
على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها ،وليس له وفاءٌ إال من مال فيه شبهة،
فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة!
» «
35
قـــواعــد نبويــــة
36
قــواعد نبـــوية
-1روي عن ابن عمر قال :إني ألحب أن أدع بيين وبني احلرام سرتة
من احلالل ال أخرقها.
-2وقال احلسن :مازالت التقوى باملتقني حتى تركوا كثرياً من
احلالل؛ خمافة احلرام.
–3وقال سفيان بن عيينة :ال يصيب عبد حقيقة اإلميان حتى جيعل
بينه وبني احلرام حاجزاً من احلالل ،وحتى يدع اإلثم وما تشابه منه(.)1
أال ما أحوج األمة إىل أئمة يف الورع مع تنامي وكثرة موارد الشبه؛
ليقتدي بهم الناس ،ولريوا مجيل أفعاهلم ،كما مسعوا اجلميل من أقواهلم.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ،وعمالً صاحلاً ،ورزقا طيباً ال شبهة فيه.
خالصة القاعدة:
األحكام يف الشريعة ال خترج عن هذه القسمة الثالثية :حالل بيّن ،وحرام
بيّن ،وأمور مشتبهة -وهي األقل.
وجود االشتباه هو نوع من االبتالء؛ لرتبية األمة على الورع.
ال ميكن أن تكون املسائل مشتبهة على كل علماء األمة ،بل هذا يقع
لبعض أهل العلم.
على العاقل أن يتجنب مواضع الشبهات ،وال يعتمد على ثقة الناس به.
» «
37
قـــواعــد نبويــــة
38
قــواعد نبـــوية
ومسوه بكتاب« :اإلفصاح»– وهو قطعة منه ،وهذا الكتاب صنفه يف واليته
الوزارة ،واعتنى به ومجع عليه أئمة املذاهب ،وأوفدهم من البلدان إليه
ألجله ،حبيث إنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار ،وثالثة عشر ألف دينار،
وحدث به ،واجتمع اخللق العظيم لسماعه عليه ،...واشتغل به الفقهاء يف
ذلك الزمان على اختالف مذاهبهم ،يدرسون منه يف املدارس واملساجد،
ويعيده املعيدون ،وحيفظ منه الفقهاء (.)1انتهى.
و من املعلوم أن الفِقه يف معناه اللغوي :هو ا ْلفَهم ،ويف عُرْفِ الفقهاء:
حكَامِ الشَّرْعِيَّة الفرعية ،مَن أدلتها التفصيلية باالستدالل.
العلم بِاأل ْ
وال شك أن معنى احلديث ههنا ،املراد به املعنى اللغوي؛ ليتناول فهم
كل علم من عُلُوم الدّين – كما سيأتي إن شاء اهلل.
إن داللة هذه القاعدة النبوية على فضل الفقه يف الدين بيّنة ظاهرة،
وماذا يرجو املؤمن إال أن يكون ممن أراد اهلل بهم خرياً! فتلك سعادة الدنيا
واآلخرة.
ومما دلّت عليه هذه القاعدة النبوية مبفهومها :أن من مل يتفقه يف الدين
مل يرد اهلل به خرياً ،ولكن مما ينبغي إيضاحه هنا أن الفقه يف الدين على
نوعني:
النوع األول :نوعٌ ال يعذر أحدٌ برتكه ،وهو الذي ال تصح عبادته وال
معاملته إال به ،فهذا من الفقه الواجب تعلمه على كل مسلم ،وال يعذر أحد
بالتقصري يف طلبه.
39
قـــواعــد نبويــــة
والنوع الثاني :وهو التفقه الذي يكون زائداً على هذا ،وهو فرض
كفاية ،ويدخل فيه :تعلُّم مجيع الوسائل املعينة على الفقه يف الدين كعلوم
العربية بأنواعها ،فمن أراد اهلل به خرياً فقهه يف هذه األمور ووفقه هلا ،ومن
وُفّق لذلك فقد وُفق خلري عظيم.
إن أوجه اخلريية اليت أشار إليها النيب × يف حديثه هذا كثرية ،منها ما
يلي:
-1نيله بركة هذا احلديث ،وأنه ممن أراد اهلل به خرياً.
-2أنه يعبد اهلل على بصرية يف كل ما يأتي ويذر.
-3نيله الثواب العظيم يف تعليم اخللق ،وتبصريهم بدينهم – إن هو
زكّى علمه بالتعليم والبالغ – فإن كل مَنْ يُعبَد اهلل على بصريةٍ
بسببه فهو شريك يف األجر ،كما أن له بركة ما جاء من األحاديث
واآلثار يف فضل معلم الناس اخلري.
-4أن املتفقه يف الدين وارث من ورثة النيب ×؛ فإن «ا ْلعُ َلمَاءَ َورَثَةُ
الْ َأنْبِيَاءِ ،وَإِنَّ الْ َأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا ِدرْ َهمًا وإمنا وَرَّثُوا ا ْلعِلْمَ،
َفمَنْ َأخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (.)1
-5أن قوله ׫ :خرياً» يف قوله« :من يرد اهلل به خرياً» جاءت نكرةً
يف سياق الشرط؛ ليشمل القليل والكثري ،ومن أغراض التنكري يف
اللغة :التعظيم؛ وهو كذلك ههنا.
40
قــواعد نبـــوية
كثريٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة النبوية احملكمة« :من يرد اهلل
به خرياً يفقهه يف الدين» يظن أن الفقه قاصرٌ على معرفة مسائل احلالل
واحلرام ،وهذا فهم مغلوط! فإن معرفة احلالل واحلرام جزءٌ من ذلك ،بل
احلديث يشمل ما هو أوسع من ذلك؛ ِمن الفقه يف دين اهلل بعموم أبوابه،
وأصل الفقه وأساسه :معرفة التوحيد وما يكمله ،والشرك وما يضاده أو
ينايف كماله ،ومعرفةُ معاني كالم اهلل عز وجل الذي أنزله يف كتابه على
رسول × ،ومعرفة معاني حديث رسول اهلل × ،وهلذا كان بعض العلماء
يسمي فهم ما خيتص بعلوم العقائد :الفقه األكرب ،وعلى هذا األساس جاءت
تسمية الكتاب املشهور عند أصحاب أبي حنيفة – رمحه اهلل– بـ«الفقه
األكرب».
وهلذا قال بعض املفسرين يف تفسري قوله تعاىل :ﭽﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ [التوبة ،]122 :قال:
«يعين الفرقة القاعدين ،يتعلمون القرآن والسنن والفرائض واألحكام» (.)1
فأنت ترى أنه أدخل يف الفقه يف الدين :تعلمَ معاني القرآن ،والسنن،
والفرائض ،واألحكام ،فجعل تعلم األحكام صورة من التفقه يف الدين
وليس الفقه كُلّه.
بل وتتسع دائرة الفقه عند السلف؛ لتشمل ما يتعلق بالعمل بالعلم،
41
قـــواعــد نبويــــة
وطبيعة النظرة إىل هذه احلياة ،كما قال ابن عمر« :إمنا الفقيه الزاهد يف الدنيا،
الراغب يف اآلخرة» (.)1
وقال احلسن البصري« :ال َفقِيه هوَ الزَّاهِد فِي الدنيَا ،الرَّاغِب فِي
اآلخِرَة ،والبصري بِأَمر دينه ،املداوم على عبادة ربه» (.)2
وقال مُجَاهِد« :إَِّنمَا ا ْل َفقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ» (.)3
وقال الشعيب – رمحه اهلل –« :إَِّنمَا ا ْل َفقِيهُ مَنْ َورِعَ عَنْ مَحَارِمِ اهللِ،
وَا ْلعَالِمُ مَنْ خَافَ اهللَ» (.)4
وقال الْحَارِثُ بْنُِ َي ْعقُوب« :إِنَّ ا ْل َفقِيهَ كُلَّ ا ْل َفقِيهِ مَنْ َفقِهَ فِي ا ْلقُرْآنِ
وَعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَانِ» (.)5
– ومثة صفةٌ أخرى نبّه السلف عليها خبصوص الفقيه التام فقهه،
وذلك فيما روي عن علي رضي اهلل عنه« :ا ْل َفقِيهُ مَنْ لَمْ يُوِئسِ النَّاسَ مِنْ
جلّ» (.)6
هلل عَزَّ َو َ
حمَةِ اهللِ َتعَالَى ،وَلَمْ يُرَخِّصْ َلهُمْ فِي َمعَاصِي ا ِ
َر ْ
وخالصة ما تقدم التعليق عليه يف هذه القاعدة العظيمة أمران:
– أن الفقه يف الدين أعم من أن خيص بالفقه يف األحكام اخلاصة
باحلالل واحلرام.
42
قــواعد نبـــوية
وهلذا ملا قال رجل للحسن البصري – رمحه اهلل – وقد راجعه يف
مسألة :يا أبا سعيد! ما مسعت أحداً من الفقهاء يقول هذا! قال« :وهل
رأيت فقيها بعينيك؟! إمنا الفقيه :الزاهد يف الدنيا ،البصري بدينه ،املداوم على
عبادة ربه» (.)1
ومع هذا الفضل العظيم الذي حوته هذه القاعدة النبوية« :من يرد اهلل
به خرياً يفقهه يف الدين» واخلريِ الوفري الذي أعده اهلل ألهل الفقه يف دينه
العاملني؛ إال إنك جتد انصرافاً عجيباً – من قبل كثري من أبناء املسلمني– عن
تعلم العلوم الشرعية والتفقه فيها!
إن اإلنسان ليدرك أنه ال يطلب من الناس ،بل وال من أكثرهم أن
يندرجوا يف التفقه مبعناه الدقيق ،إال أن احملزن أن هناك تقصرياً كبرياً يف التفقه
عند احلد الواجب ،ويتبني لك هذا عندما تسمع أسئلة كثري من الناس يف
برامج الفتوى اإلذاعية والفضائية ،واليت يقع السؤال فيها عن أمور أقدم فيها
أصحابها على أعمال كبار دون أن يكلفوا أنفسهم أن يسألوا! مع تهيؤ فرص
43
قـــواعــد نبويــــة
اللهم فقهنا يف الدين ،وعلمنا التأويل ،وزدنا علماً ،وانفعنا مبا علمتنا.
خالصة القاعدة:
إذا سلكتَ طريق التفقه يف الدين فقد أراد اهلل بك خرياً،
فلتهنك نعمة اهلل عليك.
ال يُطْلب من كل الناس أن يكونوا فقهاء وعلماء! لكن يطلب
منهم أن يتفقهوا فيما حيتاجون إليه يف عبادتهم ومعاملتهم اليت
تلزمهم.
الفقه يف الدين ال يقتصر على الفقه يف األحكام ،بل يشمل
الفقه يف عموم الشريعة.
44
قــواعد نبـــوية
يا هلذا البيان النبوي اآلسر! ولكأمنا تهجم هذه القاعدة النبوية على
القلب لتزيح عنه معنىً خيالف الصورة احلسية اليت يراها اإلنسان باحلساب
املادي ،لتقول له :إن الصدقة وإن نقصت مادياً فهي يف احلقيقة تعود على
املال بالنماء والربكة ،الذي جيعل القليل املبارك خرياً من مال كثريٍ منزوع
الربكة.
لقد جبلت النفوس على حب املال ،وللشيطان – عند إرادة اإلنفاق
والبذل – حضوره ،كما قال تعاىل :ﭽﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘﭼ [البقرة ،]268 :فتأتي نصوص الشريعة لتمأل القلب يقيناً
ورغبةً فيما عند اهلل ،كما يف هذه القاعدة النبوية ،وكما يف تتمة اآلية السابقة:
ﭽﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ.
45
قـــواعــد نبويــــة
إذاً ..ما حقيقة هذا النقص املنفي يف هذه القاعدة؟ وما الفضل الذي
سيعود على املتصدق – كما يف آية البقرة –؟
حقيقة ذلك ببساطة :أن الصدقة واإلنفاق يف وجوه اخلري عموماً ال
تنقص املال من كل وجه؛ ألنه لو فرض أنه نقص من جهة فقد زاد من
جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك املال وتنميه ،وتدفع عنه اآلفات ،وتفتح
للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تفتح على غريه ،فهل
يقابل ذلك النقصُ بعضَ هذه الثمرات اجلليلة؟!
إن الزيادة اليت حتصل ببذل الصدقة قد تكون كمية وقد تكون كيفية:
فالكمية :بأن يفتح اهلل لك باباً من أبواب الرزق مل ختطر يف بالك ،أو
خيفف اهلل عنك دَيناً بتسخري اهلل للدائن(.)1
وأما الكيفية :فبأن ينزل اهلل الربكة فيما بقي من مالك؛ فيحفظه،
ويكفيك لقضاء أمورك ،وال يسلط عليه ما يستنفقه.
وهلذا يقال :إن الصدقة هلل اليت يف حملها ال تُنفِد املال قطعاً ،وال تنقصه
بنص حديث النيب × ،وباملشاهدات والتجربات املعلومة ،هذا كله سوى ما
لصاحبها عند اهلل من الثواب اجلزيل ،واخلري والرفعة.
بل حتى من «الربكة فيه ،ودفع املفسدات عنه ،واإلخالف عليه مبا هو
» «
46
قــواعد نبـــوية
أجدى وأنفع ،وأكثر وأطيب ﴿وما أنفقتم من شيء فهو خيلفه﴾ ،أو يف اآلخرة
بإجزال األجر وتضعيفه ،أو فيهما! وذلك جابر ألصناف ذلك النقص ،بل
وقع لبعض ال ُكمّل أنه تصدق من ماله فلم جيد فيه نقصاً! قال الفاكهاني:
أخربني من أثق به ،أنه تصدق من عشرين درهماً بدرهمٍ ،فوزنها فلم
تنقص! قال :وأنا وقع لي ذلك(.)1
بل إن صدقتك قد تكون سبباً ألن يدفع اهلل عنك ألواناً من املصائب
واألدواء.
نقل الذهيب – رمحه اهلل – يف «السري» أن رجالً سأل ابن املبارك – رمحه
اهلل – عن قرحة خرجت يف ركبته منذ سبع سنني ،وقد عاجلها بأنواع
العالج ،وسأل األطباء فلم ينتفع!
فقال له :اذهب ،فاحفر بئراً يف مكان حيتاج الناس فيه إىل املاء؛ فإني
()2
أرجو أن ينبع هناك عني ،وميسك عنك الدم؛ ففعل الرجل فربأ.
وقصص السابقني والالحقني يف هذا ال تكاد حتصر.
أال وإن من أعظم مثرات الصدقة املعنوية :أنها تكفر اخلطيئات
والسيئات ،قال اهلل تعاىل :ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ (البقرة« ،)271 :أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن
47
قـــواعــد نبويــــة
عَبَّاس أَنه قَرَأَ﴿ :وتكفر عَ ْنكُم من سَيِّئَاتكُمْ﴾ فقَالَ :الصَّدَقَة هِيَ الَّتِي
تكفر»(.)1
بعد هذا أيها اإلخوة ،حيق للرازيّ أن يقول« :اعلم أن معاقد اخلري
على كثرتها حمصورة يف أمرين :صدق مع احلق ،وخُلُق مع اخلَلْق ،والذي
يتعلق مع اخلَلْق حمصور يف قسمني :إيصال نفع إليهم ،ودفع ضرر عنهم،
فقوله :ﭽﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ إشارة إىل إيصال النفع إليهم.
وقوله :ﭽ ﭧ ﭨ ﭼ إشارة إىل دفع الضرر عنهم؛ فدخل يف هاتني
الكلمتني مجيع أنواع اخلري وأعمال الرب» (.)2
وكما تتناول هذه القاعدة النبوية املال أصالةً؛ فالواقع يشهد بتناوهلا ملن
آتاه اهلل علماً فبلّغه الناس ،فهو – كما قال ابن القيم « :– :يتَنَاوَل َن َفقَة العلم
إما بِ َلفْظِهِ وإِمَّا بتنبيهه وإشارته وفحواه ،فالعامل كلما بذل علمه للناس وأنفق
منه؛ تفَجَّرَت ينابيعه فازداد كثرة وقوَّة وظهوراً ،فيكتسب بتعليمه حفظ مَا
علِمه ،وحيصل له بِه علم ما مل يكن عنده ،ورمبا تكون املسألة يف نفسه غري
مكشوفة ،وال خا ِرجَة من حيّز اإلشكال ،فَإِذا تكلم بها وعلّمها؛ اتضحت له
وأضاءت وانفتح له منها علوم أخر! وأيضاً :فإن اجلزَاء من جنس العمل؛
فكما علّم اخللق من جهالتهم جزاه اهلل بأن علّمه من جهالته» (.)3
وليُعلم أنه ال تقف الصدقة عند هذا ،فكما أن صدقة املال ال تُنقص
48
قــواعد نبـــوية
خالصة القاعدة:
-من فوائد الصدقة :أنها تنمي املال وتباركه وتدفع عنه اآلفات،
ويؤجر صاحبها.
-قد تبني بالتجربة واملشاهدة أن الصدقة تدفع وترفع أنواعاً من
البالء.
-الصدقة لفظ يعم كل إنفاق مما وهب اهلل اإلنسان؛ من مال أو علم أو
جاه أو أي منفعة صاحلة.
49
قـــواعــد نبويــــة
القاعدة السابعة:
األرواح جنود جمنّدة
50
قــواعد نبـــوية
جانِسه بالطبع،
التناسب والتآلف بني األشباه ،واجنذاب الشيء إىل مُوافِ ِقه ومُ َ
وهروبه من خمالفه ونفرته عنه بالطبع ،فسِ ّر التمازج واالتصال يف العامل
العلوي والسفلي إمنا هو التناسب والتشاكل والتوافق ،وسِ ّر التباين
واالنفصال إمنا هو بعدم التشاكل والتناسب ،وعلى ذلك قام اخللق واألمر،
فاملثل إىل مثله مائل وإليه صائر ،والضد عن ضده هارب وعنه نافر» (.)1
ودعنا – أيها القارئ – ننظر يف تطبيق عملي هلذه القاعدة صار سبباً يف
جتاوز حمنةٍ مرت بأهلها ،وفتنة أظلت أصحابها ،تلك هي :قصة أصحاب
الكهف.
فإن هؤالء الفتية – كما ذكر املؤرخون – ملا رأوا ما يصنع قومُهم بعني
بصريتهم؛ عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود ألصنامهم والذبح
كل واحد منهم
هلا؛ ال ينبغي إال هلل الذي خلق السموات واألرض! فجعل ُّ
يتخلص من قومه ،وينحاز منهم ويتربز عنهم ناحية ،فكان أول من جلس
منهم وحدَه أحدُهم ،جلس حتت ظل شجرة ،فجاء اآلخر فجلس عنده،
وجاء اآلخر فجلس إليهما ،وجاء اآلخر فجلس إليهم ،وجاء اآلخر ،وجاء
اآلخر ،وجاء اآلخر ،وال يعرف واحدٌ منهم اآلخر! وإمنا مجعهم هناك الذي
مجع قلوبهم على اإلميان ،قال ابن كثري –رمحه اهلل– معلقاً على هذا التقارب:
وهذا كما جاء يف احلديث« :األرواح جنود جمندة ،فما تعارف منها ائتلف،
وما تناكر منها اختلف» (.)2
51
قـــواعــد نبويــــة
أما اآليات الدالة على معنى هذه القاعدة النبوية فكثرية ،ومن أظهرها
وأوضحها:
ومبثل هذه اآلية والقاعدة النبوية اليت حنن بصدد احلديث عنها؛ يوقن
املؤمن أن اهلل تعاىل مل خيرت لنبيه × من زوجات وأصحاب إال الطبيات من
النساء ،والطيبني من الرجال؛ إذْ هو × سيد الطيبني املطيبني ،فمن زعم أن
يف زوجاته أو أصحابه من ليس كذلك فقد كذّب اهلل يف خربه ،وكذب
رسوله × أيضاً.
)2ومن دالالت القرآن الكريم على هذه القاعدة قوله تعاىل :ﭽ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ [التكوير ،]7 :وقوله تعاىل :ﭽ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﭼ [الصافات ]22 :أي أشباههم وأضرابهم ،يقول
الفاروق رضي اهلل عنه يف تفسري قوله تعاىل :ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬﭼ« :الضُرباء :كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله،
وذلك أن اهلل يقول :ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯔﯕ
52
قــواعد نبـــوية
روي عن مالك –رمحه اهلل– أنه قال« :الناس أشكال كأجناس الطري؛
احلمام مع احلمام ،والغراب مع الغراب ،والبط مع البط ،والصعو مع
()2
الصعو ،وكل إنسان مع شكله»ا.هـ.
وهذا هو منطق الواقع؛ فالطيّب ال يقبل إال طيباً ،من قول أو عمل ،أو
صديق أو شريك ،أو زوج ،واخلبيث ال يقبل إال اخلبيث كذلك.
وذلك« :أن األجساد اليت فيها األرواح تلتقي يف الدنيا فتأتلف وختتلف
على حسب ما جُعلت عليه من التشاكل أو التنافر يف بدء اخللقة؛ ولذلك
()3
ترى البَر اخليّر حيب شكله وحين إىل قربه وينفر عن ضده ،وكذلك الرَّهِق
الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده» (.)4
ومن مجيل ما روي عن بن مسعود رضي اهلل عنه أنه قال :ال تسل
()5
أحداً عن وُ ّده لك ،وانظر ما يف نفسك له؛ فإن يف نفسه مثل ذلك.
« «
53
قـــواعــد نبويــــة
وكتب أبو الدرداء إىل مسلمة بن خملد ،وهو أمري على مصر :أما بعد،
فإن العبد إذا عمل بطاعة اهلل أحبه اهلل ،فإذا أحبه اهلل حبّبه إىل خلقه ،وإذا
عمل مبعصية اهلل أبغضه اهلل ،وإذا أبغضه اهلل بغضه إىل خلقه.
قال ابن عبدالرب رمحه اهلل معلقاً« :هذا كالم خرج على العموم ،ومعناه
اخلصوص؛ أي :حبّب أهل الطاعة إىل أهل اإلميان ،وبغّض إليهم أهل النفاق
والعصيان؛ ودليل ذلك قوله × «القلوب أجناد جمندة ،ما تعارف منها
ائتلف ،وما تناكر منها اختلف» (.)1
أما إن سألت عن األثر العملي هلذه القاعدة يف حياتنا! فقد أجاب ابن
اجلوزي – رمحه اهلل تعاىل – عن هذا حيث يقول« :ويستفاد من هذا احلديث
أن اإلنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صالح؛ فينبغي أن
يبحث عن املقتضي لذلك ليسعى يف إزالته ،حتى يتخلص من الوصف
املذموم ،وكذلك القول يف عكسه» ()2ا.هـ.
«وعلماء الرتبية واألخالق يعدون الصحبة واملعاشرة ركناً من أركان
اقتباس كلٍّ من الصاحبَني من اآلخر؛ فيحثون على صحبة األخيار،
وحيذرون من صحبة األشرار ،كما قال الشاعر:
فكــل قــرين باملقــارن يقتــدي عن املرء ال تسأل وسل عن قرينه
وقال آخر:
فقلــتُ قــوالً فيــه إنصــاف وقائــــل كيــــف تفارقتمــــا
54
قــواعد نبـــوية
وقيل:
وإن مل يكونوا من قبيل وال بلد «وال يصحب اإلنسان إال نظريه
وَقيل :الْأَخ نسيب الْجِسْم ،وَالصديق نسيب الرّوح ،وَقيل :انْظُر من
تصاحب؛ فقلّ نواة طرحت َمعَ حَصَاة إلَا أشبهتها» (.)1
اللهم ارزقنا إخوة فيك يدلونا على اخلري ،ويوصوننا باحلق والصرب،
وجنبنا وأهلنا وأوالدنا رفقاء الشر والفساد.
خالصة القاعدة:
-من سنن اهلل تعاىل يف خلقه وعظيم قدرته :أن جعل كل خملوق
حينّ ويطمئن إىل ما يشاكله يف طباعه.
-ال ميكن أن خيتار رسول اهلل لصحبته األشرار وأشقياء الناس.
-إذا كنت تستحسن أعمال املفسدين واملاجنني الساقطني؛ فراجع
قلبك وتدينك!
-حب الصاحلني وأعمال الصالح مؤشر خري يف العبد.
55
قـــواعــد نبويــــة
القاعدة الثامنة:
إمنا الطاعة يف املعروف
56
قــواعد نبـــوية
57
قـــواعــد نبويــــة
من كان عدواً لإلسالم ،أما من كانت عداوته شخصية فقد أباحه وحلّله
رمحه اهلل.
يقول حنبل – وهو ابن عمه رمحه اهلل – :اجتمع فقهاء بغداد يف والية
الواثق إىل أبي عبداهلل وقالوا له :إن األمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار
القول خبلق القرآن وغري ذلك – وال نرضى بإمرته وال سلطانه ،فناظرهم يف
ذلك ،وقال عليكم باإلنكار بقلوبكم ،وال ختلعوا يداً من طاعة ،وال تشقوا
عصا املسلمني ،وال تسفكوا دماءكم ودماء املسلمني معكم ،وانظروا يف عاقبة
أمركم ،واصربوا حتى يسرتيح بر أو يسرتاح من فاجر ،وقال :ليس هذا
( )1
صواباً ،هذا خالف اآلثار.
ومن دالالت هذه القاعدة النبوية «إمنا الطاعة يف املعروف»:
أنه إذا تعارضت طاعة هؤالء الواجبة ،ونافلة من النوافل؛ فإن طاعتهم
تقدم؛ ألن ترك النفل ليس مبعصية ،فمثالً لو نهى زوجته عن صيام النفل
ملصلحته ،أو حج النفل ،أو أمر الوالي الشرعي بأمر من أمور السياسة وهذا
األمر يرتتب عليه ترك واجب؛ وجب تقديم طاعته ألنها واجبة ،وإن ترتب
عليه ترك املستحب.
وأَُأ ِّكد ههنا على أن ذلك يف حالة التعارض ،أما إذا مل يكن مثة
تعارض ،بل أمكن طاعتهم مع فعل النافلة فإنه ال طاعة هلم يف النهي عن
النفل ،وأضرب لذلك مثاالً يوضح املعنى :فلو أن أحد الوالدين طلب من
58
قــواعد نبـــوية
ولده أن يذهب به إىل السوق بعد الصالة مباشرةً ،وعامل الوقت يف هذا
مقصود ،والولد يريد أن يتنفل ،فهنا تعارض أمر الوالد ونافلة الولد ،فهنا
يقال :جيب على الولد أن يبادر خلدمة والده؛ ألن تأخره عن الذهاب يف ذلك
الوقت قد يضر به ،أو يفوّت عليه مصلحة من املصاحل ،لكن لو كان
الذهاب إىل السوق فيه سعة من الوقت ،ولكن الوالد قال :ال أريدك أن
تتنقل – من غري سبب – فهنا ال طاعة له؛ ألن النيب × قيّد الطاعة
باملعروف فقال« :إمنا الطاعة يف املعروف».
ومن املسائل اليت يبتلى بها بعض األزواج:
أن تأمره أمه بطالق زوجته لغري سبب شرعي ،قال شيخ اإلسالم ابن
تيمية – رمحه اهلل – فيمن تأمره أمه بطالق امرأته قال :ال حيل له أن يطلقها،
( )1
بل عليه أن يربها وليس تطليق امرأته من برها.
ومن املسائل اليت يبتلى بها بعض الناس :ما سئل عنه اإلمام أمحد –
رضي اهلل عنه – من قبل أحد طالب العلم ،حيث يقول :إني أطلب العلم،
وإن أمي متنعين من ذلك ،تريد حتى أشتغل يف التجارة ،قال لي :دارها
وأرضها ،وال تدع الطلب(.)2
وهذه األجوبة من هؤالء األئمة رمحهم اهلل – وغريها كثري – هي من
فقههم التطبيقي هلذه القاعدة النبوية العظيمة« :إمنا الطاعة يف املعروف».
59
قـــواعــد نبويــــة
ومن دالالت هذه القاعدة – وهي الداللة الثالثة يف حديثنا هذا – :
أن هذه الطاعة – كغريها من أوامر الشرع – منوطة باالستطاعة؛ فإنه
إذا كانت األوامر الواجبة بأصل الشرع معلقة بهذا القيد فكذلك طاعة
هؤالء ،الذين طاعتهم تبع لطاعة اهلل ،وقد جاءت نصوص تصرّح بهذا القيد
يف بعض هذه املواضع اخلطرية ،كما يف الصحيحني من حديث ابن عمر :كنا
إذا بايعنا رسول اهلل × على السمع والطاعة ،يقول لنا« :فيما استطعتم»(.)2
هذه منارات وإشارات يف بيان هذه القاعدة النبوية الشاملة ،وإال فإن
شرحها ميكن أن يفرد بأكثر من هذا؛ لعظيم ما اشتملت عليه من أحكام
جليلة ،ومعان كثرية.
60
قــواعد نبـــوية
خالصة القاعدة:
-الطاعة املطلقة ليست إال لصاحب التشريع احلكيم سبحانه.
-مهما وليت من أمور الناس فتبقى أنت وهم عبيد هلل سبحانه
مالك اجلميع.
-يا من وليت شيئاً من أمور املسلمني! كن من أهل املعروف
لتحافظ على واليتك.
61
قـــواعــد نبويــــة
قبل الولوج إىل بيان شيء من دالالت هذه القاعدة؛ حيسن أن أشري إىل
أن هذا احلديث الذي اشتملت عليه هذه القاعدة ال ختلو طريق من طرقه
اليت روي بها من مقال عند أئمة احلديث – رمحهم اهلل – إال أن له طرقاً
كثرية جعلت بعض احلفّاظ جيزم بقوته وثبوته.
قال احلافظ ابن رجب:
«وقد ذكر الشيخ رمحه اهلل – يعين النووي – أن بعض طرقه ُتقَوّى
ببعض ،وهو كما قال ،وقد استدل اإلمام أمحد بهذا احلديث ،وقال أبو عمرو
بن الصالح :هذا احلديث أسنده الدارقطين من وجوه ،وجمموعها يقوّي
احلديث وحيسّنه ،وقد تقبله مجاهري أهل العلم ،واحتجوا به ،وقول أبي داود:
إنه من األحاديث اليت يدور الفقه عليها؛ يُشعِر بكونه غري ضعيف ،واهلل
أعلم»()1ا.هـ.
62
قــواعد نبـــوية
63
قـــواعــد نبويــــة
وقيل :الضرر أن يضر مبن ال يضره – أي يقع الضرر منه ابتداءً –،
وأما الضرار :فبأن يضر مبن قد أضر به على وجه غري جائز.
( )1
وبكل حال فالنيب × إمنا نفى الضرر والضرار بغري حق.
وملا كانت هذه القاعدة باحملل الذي نوّه به األئمة – رمحهم اهلل – كان
على طالب العلم أن جيتهد يف فهم معناها جيداً ،والنظر يف بعض تطبيقاتها.
فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ حبق – إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ اهلل،
فيعا َقبُ بقدر جرميته ،أو كونه ظلمَ غريه ،فيطلب املظلومُ مقابلتَه بالعدلِ –
فهذا غري مرادٍ قطعاً ،وإمنا املرادُ :إحلاقُ الضرر بغريِ حقٍّ ،وهذا على نوعني:
64
قــواعد نبـــوية
أحدهما :أنْ ال يكونَ يف ذلك غرضٌ سوى الضرر بذلك الغري؛ فهذا
ال ريبَ يف قُبحه وحترميه.
والنوع الثاني :أن يكون له غرض آخر صحيح ،مثل أن يتصرف يف
ملكه مبا فيه مصلحة له ،فيتعدى ذلك إىل ضرر غريه ،أو مينع غريَه من
االنتفاع مبلكه توفرياً له ،فيتضرر املمنوع بذلك؛ ففي هذه الصورة تفاصيل
ليس هذا موضع ذكرها»(.)1
واحلاصل« :أن الضرار حمرم ،ال جيوز متكني صاحبه منه ،فعلى اإلنسان
أن يكون مقصودُه نفع اخللق ،واإلحسان إليهم مطلقاً ،وهذا هو الرمحة اليت
()2
بُعث بها حممد × يف قوله :ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ ».
ومن تأمل يف الواقع؛ فإنه سيجد صوراً من خرق هذه القاعدة «ال
ضرر وال ضرار» ،ولعلنا نذكر بعض هذه الصور ،ليتوقاها من وقع فيها،
وحيذر من الوقوع فيها من سلمه اهلل منها:
-1اإلضرار بالوصية :وهذه الصورة مما نص القرآن على النهي عنها،
قال اهلل تعاىل :ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ
ﮭ ﭼ [النساء ]12 :قال احلرب ابن عباس رضي اهلل عنهما :
اإلضرار يف الوصية من الكبائر ،ثم تال هذه اآلية.
65
قـــواعــد نبويــــة
66
قــواعد نبـــوية
-2ومن صور اإلضرار اليت يقع فيها بعض الناس :الرجعة يف
النكاح ،قال تعاىل :ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭼ [البقرة.]231 :
فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة املضارة ،فإنه آثم بذلك،
وهذا كما كانوا يف أول اإلسالم – قبل حصر الطالق يف ثالث – يطلق
الرجل امرأته ،ثم يرتكها حتى يقارب انقضاء عدتها ،ثم يراجعها ،ثم
يطلقها ،ويفعل ذلك أبداً بغري نهاية ،فيدع املرأة ال مطلقة وال ممسكة ،فأبطل
اهلل ذلك ،وحصر الطالق يف ثالث مرات»(.)1
وإنين أذكّر إخواني ممن قد يقع يف ذلك – بعد ختويفه بعقوبة اهلل – أن
يسأل نفسه :هل يرضى أن يقع هذا على موليته؟!
وخالصة ما سبق احلديث فيه عن هذه القاعدة النبوية «ال ضرر وال
ضرار« يُذكر يف اآلتي:
.1أنه متى ثبت الضرر وجب رفعه ،ومتى ثبت اإلضرار وجب رفعه
مع عقوبة قاصد اإلضرار مبا يليق به شرعاً.
.2أن الضرر يزال ،كالرد بالعيب ،وغريه مما يدخل حتت هذه القاعدة
املأخوذة من احلديث.
.3النهي عن اجملازاة بأكثر من املثل.
67
قـــواعــد نبويــــة
.4منع التصرف يف ملك اإلنسان مبا يتعدى ضرره إىل الغري على غري
الوجه املعتاد.
هذا ما تيسر إيراده من معاني هذه القاعدة النبوية العظيمة« :ال ضرر
وال ضرار».
نسأل اهلل تعاىل أن يرزقنا العدل يف أقوالنا وأفعالنا ،وأن جينبنا الظلم
دقيقه وجليلة.
خالصة القاعدة:
-شريعة اهلل تعاىل مبنية على جلب املصاحل للعباد ودفع املضار
عنهم.
-لومل يكن من مفاسد اإلضرار باآلخرين إال تأنيب الضمري لكفى
به رادعاً.
-يكون الضرر أشنع عندما توصله إىل من تربطك به عالقة قرابة:
كزوج أو أخ.
-التعساء يف هذه احلياة هم الذين ال يشعرون بالراحة إال على
دموع اآلخرين!
68
قــواعد نبـــوية
هذه القاعدة النبوية العظيمة جتلي صفاءَ خمبَر هذا الدين ومجالَ م ْظهَره؛
فهو حيبب ألتباعه مكارم األخالق ،وشريف األوصاف ،وُيكَرّه إليهم رذائل
األخالق ،ومساوئ األوصاف.
والكذب كما هو مشهور :هو اإلخبار بالشيء على ما ليس هو عليه
يف الواقع ،ولكن ينبغي أن يقيّد ذلك مبخالفته قدراً أو شرعاً.
وإمنا قيدناه بذلك؛ ألن اهلل تعاىل اشرتط يف الشهادة على الرمي بالزنا
أربعة شهود ،فلو جاء ثالثة وشهدوا بأنهم رأوا فالناً يزني – ومل يأتوا برابع
– فإنهم عند اهلل كاذبون ،ولو كانوا ثالثة ،وأخربوا مبا رأوا حقيقةً! كما قال
تعاىل :ﭽﯔ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﭼ [النور.]13 :
69
قـــواعــد نبويــــة
قال ابن حبان – رمحه اهلل –« :إن اللَّه جل وعال فضّل اللسانَ على
70
قــواعد نبـــوية
سائر اجلوارح ،ورفع درجته ،وأبان فضيلته ،بأن أنطقه من بني سائر اجلوارح
بتوحيده ،فال جيب للعاقل أن يُعوِّد آلةً خلقها اللَّه للنطق بتوحيده بالكذب!
بل جيب عليه املداومة برعايته بلزوم الصدق ،وما يعود عليه نفعُه يف دارَيه؛
ألن اللسان يقتضي مَا عُوّد ،إن صدقاً فصدقاً ،وإن كذباً فكذباً.
ولقد أحسن الذي يقول:
إن اللســان ملــا عــودت معتــاد عــوِّد لســانك قــولَ اخلــري حتــظ
فاخرت لنفسك وانظر كيف ترتاد موَكَّــل بتقاضــي مــا ســننت لــه
كان عبداهلل بن مسعود يقول :ال يزال العبدُ يكذب وتنكت يف قلبه
نكتةٌ سوداء ،حتى يَسوَدّ قلبُه؛ فيكتب عند اهلل من الكاذبني(.)1
ولقد كان الكذب من أقبح اخلالل اليت يُعيّر بها اإلنسان يف اجلاهلية،
ومل يزده اإلسالم إال تأكيداً على قبحه وخسته ،فصار من الكبائر املتفق
عليها.
ومن القصص العجيبة اليت تؤكد قبح الكذب عند أهل اجلاهلية :أن
أبا سفيان – ملا كان مشركاً – وسأله هرقل عدة أسئلة عن النيب × يف فرتة
ما بعد صلح احلديبية ،منها :فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما
قال؟ قلت :ال ،قال :فهل يغدر؟ قلت :ال ،وحنن منه يف مدة ال ندري ما هو
فاعل فيها ،قال أبو سفيان :ومل متكين كلمة أُدخِل فيها شيئاً غري هذه الكلمة!
71
قـــواعــد نبويــــة
( )1
وأيم اهلل لوال خمافة أن يؤثر عَليّ الكذب لكذبت!
فقارن بني هذا وبني جرأة بعض الناس على الكذب ورمبا بشكل
يومي ،من غري حياء من اهلل وال من خلقه!
ومن القصص اليت تدل على هذا املعنى يف صدر اإلسالم:
أن سليمان بن يسار أُدخل على هشام بن عبدامللك ،فقال هشام :يا
سليمان! من الذي توىل كربه منهم؟ قال :عبداهلل بن أُبي ابن سلول! قال:
كذبت! هو علي! فدخل ابنُ شهاب الزهري ،فسأله هشام ،فقال :هو عبداهلل
بن أُبي! قال :كذبت! هو علي! فقال :أنا أكذب ال أبا لك! فواهلل لو نادى
مناد من السماء :إن اهلل أحل الكذب ،ما كذبتُ! حدثين سعيد ،وعروة،
وعبيد ،وعلقمة بن وقاص ،عن عائشة :أن الذي توىل كربه عبداهلل بن أبي،
قال :فلم يزل القوم يغرون به ،فقال له هشام :ارحل ،فو اهلل ما كان ينبغي
()2
لنا أن حنمِل على مثلك!
إن َم ْقتَ الكذب مركوز يف الفطر السليمة ،وما زادته األدلة من
الكتاب والسنة إال رسوخاً ،وحسب املؤمن رادعاً له عن آفات اللسان كلها
– ومنها الكذب – أن يتدبر هذه اآلية :ﭽﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﭼ
[اإلسراء ،]36 :قال قتادة :أي ال تقل رأيتُ وأنت مل تره ،ومسعتُ ومل
تسمع ،وعلمتُ ومل تعلم(.)3
72
قــواعد نبـــوية
إن يف قوله ׫ :إن الكذب يهدي إىل الفجور» لداللةً على أن
الكاذب ال يزال يرتدّى يف دركات الفجور حتى تهوي به يف النار.
وإن أشد أنواع الكذب وأعظمها جرماً تلك اليت يُكذبُ فيها على اهلل
ورسوله ،ثم ما يتعلق بأكل حقوق الناس بالباطل ،فإن اقرتنت بها اليمني،
فتلك هي اليمني الغموس اليت تغمس صاحبها يف اإلثم ،ثم تغمسه يف النار
( )1
والعياذ باهلل! ولقد ثبت عن النيب × أنه قال« :من حلف على مينيِ صربٍ
يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي اهلل وهو عليه غضبان»(.)2
كما أن الكذب يتضاعف جرمُه حبسب ما يؤدي إليه؛ فالكذب يف
املعامالت أشد من الكذب يف جمرد اإلخبار اليت ال يتعدّى ضررها ،والكذب
يف باب األعراض ليس كالكذب يف باب األموال ،وحَسْب الكاذب يف بيعه
أن متحق بركة بيعه ،كما يف الصحيحني« :البيِّعان باخليار مامل يتفرقا ،فإن
صدقا وبيّنا بُورك هلما يف بيعهما ،وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»(.)3
وما ترتب على الكذب يف البيع والشراء؛ فإنه من أكل املال بالباطل.
وأحسن الصدق عند اهلل والناس ما أقبح الكـذب املـذموم قائلـه
73
قـــواعــد نبويــــة
صالة أقبل علينا بوجهه فقال« :من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال :فإن رأى
أحدٌ قصّها ،فيقول :ما شاء اهلل ،فسألَنا يوماً فقال« :هل رأى أحد منكم
رؤيا؟» قلنا :ال ،قال« :لكين رأيتُ الليلة رجلني أتياني فأخذا بيدي،
فأخرجاني إىل األرض املقدسة ،فإذا رجل جالس ،ورجل قائم ،بيده كَلُّوبٌ
من حديد فيدخل ذلك الكَلُّوب يف شدقه حتى يبلغ قفاه ،ثم يفعل بشدقه
اآلخر مثل ذلك ،ويلتئم شدقه هذا ،فيعود فيصنع مثله ،قلت :ما هذا؟»...
إىل أن قاال له« :أما الذي رأيتَه يُشَق شدقه؛ فكذاب! حيدث بالكذبة فتُحمل
عنه حتى تبلغ اآلفاق ،فيُصنع به إىل يوم القيامة.)1(»...
اللهم ارزقنا الصدق يف القول والعمل ،وباعد بيننا وبني الكذب كما
باعدت بني املشرق واملغرب.
74
قــواعد نبـــوية
خالصة القاعدة:
-الكذب ال يرتك صاحبه؛ فمن كذب اليوم بلسانه سيكذب غداً
يف معاملته وأخالقه.
-يف زمن سرعة انتقال املعلومات حيسن باملسلم أن حيذر من كل
كذبة حتدثه بها نفسه.
-أيها الناشرون لكل ما مسعتم أو قرأمت من أحاديث منسوبة
لرسول اهلل دون أن تتثبتوا من صحتها :الكذب عليه ليس
كالكذب على غريه! فتثبتوا.
75
قـــواعــد نبويــــة
( )1
يف صدر النهار ،يقبل على النيب × قومٌ حفاةٌ عراة ،جمتابي النِّمار
أو العباء ،متقلدي السيوف ،عامتهم من مضر ،بل كلهم من مضر؛ فت َمعَّر
وجهُ رسولِ اهلل × ملا رأى بهم من الفاقة ،فدخل ثم خرج ،فأمر بالالً فأذن
وأقام ،فصلى ثم خطب فقال :ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭼ [النساء ]1 :إىل آخر اآلية ،ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ [النساء]1 :
واآلية اليت يف احلشر :ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭼ
[احلشر« ]18 :تصدق رجل من ديناره ،من درهمه ،من ثوبه ،من صاع بره،
من صاع متره – حتى قال – ولو بشق مترة» قال :فجاء رجل من األنصار
بصُرة( )2كادت كفُّه تعجز عنها ،بل قد عجزت! قال :ثم تتابع الناس ،حتى
76
قــواعد نبـــوية
رأيت كومني من طعام وثياب ،حتى رأيت وجه رسول اهلل × يتهلل كأنه
مُذْهَبة ،فقال رسول اهلل ׫ :من سن يف اإلسالم سنة حسنة ،فله أجرها،
وأجر من عمل بها بعده ،من غري أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن سن يف
اإلسالم سنة سيئة ،كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ،من غري أن
ينقص من أوزارهم شيء»(.)1
إن جاللة هذا املوقف ،وعظمة هذا احلدث؛ جعلت النيب × يثبت
هذه القاعدة اجلليلة الرائعة ،وينقشها على صدور أصحابه الذين كانوا
شاهدين على ذلك املوقف.
تأمل يف ألفاظها وعباراتها« :من سن يف اإلسالم سنة حسنة» أي :أتى
بطريقة مرضية يشهد هلا أصل من أصول الدين «فاتُّبع عليها»( ،)2كما يف
سنن الرتمذي(.)3
لقد أوردنا قصة هذه القاعدة؛ لتعلم «أن السنة هاهنا مِثْل ما فعل ذلك
الصحابي ،وهو العمل مبا ثبت كونه سنة ،وأن احلديث مطابق لقوله يف
احلديث اآلخر« :من أحيا سنة من سنيت قد أميتت بعدي» احلديث إىل قوله:
«ومن ابتدع بدعة ضاللة» ،فجعل مقابل تلك السنة االبتداع ،فظهر أن السنة
احلسنة ليست مببتدعة»(.)4
77
قـــواعــد نبويــــة
ومن لطائف تفسري السلف املتعلق بهذا املعنى ،قول عبداهلل بن مسعود
يف آية :ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ قال﴿ :ما قدّمت﴾ من سنة
صاحلة يعمل بها من بعده؛ فله أجر من عمل بها من غري أن ينقص من
أجورهم شيئاً وما ﴿أخَّرَتْ﴾ من سنة سيئة يعمل بها بعده؛ فإن عليه مثل وزر
من عمل بها من غري أن ينقص من أوزارهم شيئاً»(.)1
إن هلذه القاعدة النبوية العظيمة آثاراً عملية ينبغي أن يُرى أثرها على
املؤمن حني يسمعها ،فمن ذلك:
-1أن هذا الكالم دعوة إىل التنافس يف اخلري ،والتسابق يف افتتاح
مشروعاته النافعة.
-2ومما يدخل يف طي هذه القاعدة :ما أشار إليه املنذري – رمحه اهلل
سخُ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو كتبه أو
– بقوله« :ونَ ْ
عمل به ما بقي خطه ،وناسخُ ما فيه إثم :عليه وزره ووزر ما
عمل به ما بقي خطه»(.)2
-3نستفيد كذلك من هذه القاعدة :فضل الصحابة رضوان اهلل
عليهم «ألنهم سنوا سنن اخلري ،وافتتحوا أبوابه ،والشك يف أنهم
الذين سنوا مجيع السنن ،وسابقوا إىل املكارم ،ولو عدت مكارِ ُمهُم
»
78
قــواعد نبـــوية
()1
وحصرت ملألت أسفارًا ،ولظلت األعنيُ مبطالعتها حيارى»
فرضي اهلل عنهم وأرضاهم.
-4التحذير من البدع يف الدين ،وهذا أصل متفق عليه بني علماء
امللة.
وإمنا قيّد التحذير من البدع يف الدين؛ ألن أمور الدنيا األمر فيها
واسع ،وباق على أصل اإلباحة ،وحكمه خيتلف حبسب مآالته :إن خرياً
فخري ،وإن شراً فشر.
وعلى هذا فجميع املخرتعات املعاصرة داخلة يف أصل اإلباحة،
كاألسلحة احلديثة ،وتقنيات االتصاالت ،ووسائل النقل املتنوعة.
وأنت إذا تأملتَ أيها املؤمن هذا ،وجدت أن سدّ باب االبتداع يف
الدين ،وإباحته يف أمر الدنيا من مظاهر عظمة هذه الشريعة ،وبيان ذلك :أنه
لو فُِتحَ الباب لكل من أراد أو لكل فرقة وطائفة أن تبتدع يف الدين ما ليس
منه لتمزقت األمة وتفرقت ،ولوقع نقيض مقصود الشريعة من االجتماع
واالعتصام بالوحي ،تأمل هذه اآلية ،يقول اهلل عزّ وجل :ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﭼ [األنعام.]159 :
أما وجه العظمة يف إباحة االبتداع واالخرتاع يف أمر الدنيا فإن اهلل
تعاىل حني استخلف أبانا آدم وذريته؛ كان من ضرورة هذا االستخالف سعي
79
قـــواعــد نبويــــة
هذا املخلوق يف عمارة األرض ،ولن يتم ذلك إال بفتح الباب على مصراعيه
يف هذه األمور ،اليت هي مشرتك إنساني ،وهلذا فإن من قرأ يف كتب
احلضارات وجد أثر هذا التالقح الفكري يف أمم األرض ،وحضارات
الشعوب ،فهذه أمة خترتع شيئاً ،فتطوره أمة أخرى ،وأمة تبدأ مبشروع
هندسي فتطوره أخرى ،وهكذا ،حتى أصبح شعوب األرض كلهم بال
استثناء يستفيد بعضهم من بعض يف هذا الباب.
وقد سبق تفصيل بعض هذا املعنى يف القاعدة الثانية « :من أحدث يف
أمرنا هذا».
-5ومن دالالت هذه القاعدة النبوية اجلليلة :أن الوسائل هلا أحكام
املقاصد ،سواء كان ذلك يف الشأن الديين أو الدنيوي ،ولنضرب
على ذلك بعض األمثلة اليت توضح املراد:
فمن أمثلة الوسائل الدينية:
مجع الصحابة املصاحف على مصحف واحد؛ كان وسيلة إىل غاية
من أعظم الغايات ،وهي حفظ القرآن الكريم ،ومنع التفرق بني
املسلمني ،وتضليل بعضهم بعضاً ،وقصة بدء اجلمع اليت ذكرها
البخاري عن حذيفة رضي اهلل عنه تدل على هذا.
فالقرآن يف ذاته حمفوظ ،لكن وسيلة اجلمع مل يقم سببها إال بعد وفاة
النيب × حني خشي الصحابة رضي اهلل عنهم تفرق الناس باختالف
األحرف اليت يقرأون بها ،فكان مجعه رمحة من اهلل ،وغاية احلكمة من
الصحابة رضي اهلل عنهم.
وقل مثل ذلك يف مجع السنة وتبويبها وترتيبها؛ فهذه سنة حسنة
يتوصل بها إىل حفظ السنة.
80
قــواعد نبـــوية
ومن أمثلة الوسائل الدنيوية :ما فعله أمري املؤمنني عمر – رضي اهلل
عنه – يف وضع ديوان اجلند ،وبعض الرتاتيب اإلدارية اليت اقتضتها مصلحة
الدولة آنذاك.
خالصة القاعدة:
أبدِع يف الدنيا وال تبتدع يف الدين.
إن عجز مالُك عن اخلري فال يعجز لسانُك.
الذِّكر احلسن عمرك الثاني..فأحسن إليه.
السعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته.
81
قـــواعــد نبويــــة
82
قــواعد نبـــوية
83
قـــواعــد نبويــــة
» «
» «
84
قــواعد نبـــوية
G B http://ara.reuters.com/article/internetNews/idARACAE
85
قـــواعــد نبويــــة
86
قــواعد نبـــوية
يف هذه املعضلة الكبرية ،وصارت من أعقد املشكالت اليت جيأر منها الغرب،
ويبحث عن حل لكن دون جدوى! فهذا السيناتور األمريكي وليم فولربايت
يقول عن مشكلة اخلمر« :لقد وصلنا إىل القمر ،ولكن أقدامنا مازالت
منغمسة يف الوحل ،إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الواليات املتحدة فيها
أكثر من 11مليون مدمن مخر وأكثر من 44مليون شارب مخر!».
أما املشاكل االجتماعية للخمر فحدِّث وال حرج ،ففي دراسة
اجتماعية حديثة عن اجملتمع األمريكي ظهر أن الطالق بني الزوجني الذي
يعاني أحدهما من شرب اخلمر يزيد 3أضعاف احتماالت الطالق العادي.
وتظهر مشاكل كبرية بني أفراد األسر اليت تشرب اخلمر؛ لضعف
االتصال فيما بينهم ،ولضعف قدرتهم على حل واستيعاب املشاكل ،كما أنه
جل تعرضهم لسوء املعاملة أو اإلهمال يأتي %81ضحايا
من مليون طفل سُ ّ
بسبب اخلمر ،وأوضحت الدراسة أن الكحول هو مفتاح لـ %86 :من القتل
غري العمد %54 ،من القتل املتعمد والشروع فيه %62 ،من حوادث
االغتصاب %48 ،من وقائع اللصوصية %44 ،من السطو على املنازل،
( )1
و %66من املدمنني يستخدمون املخدرات األخرى.
وأما حياة املدمن فتتغري رأسًا على عقب! من خالفات ال تنتهي مع
العائلة واألصدقاء ،إىل عالقات متوترة مع رؤساء العمل بسبب اإلهمال،
وفقدانِ القدرة على اإلجناز ،وهو ما يؤدي عادة إىل البطالة ،كما يصبح
شخصًا منبوذًا مسببًا لألضرار ومتصفًا بالعنف.
« «
87
قـــواعــد نبويــــة
وباجلملة ،فلو مل يكن يف اخلمر إال ذهاب العقل لكفى سبباً للتحريم!
فكيف يشرب ما يزيل عقله! فيكون أضحوكةً للصبيان ،ويتصرف تصرف
اجملانني؟! لكن كثرياً من الناس ال يعقلون! فتجدهم يتهافتون عليها،
فيُذْهِبُونَ بها عقوهلم ،وأديانهم ،ويهتكون بسببها أعراضهم ،ويتلفون أمواهلم
وصحتهم ،نعوذ باهلل من احلرمان.
وبعد :فإن من أشد اآلثار اليت جتعل املؤمن خياف من شربها يف الدنيا
أن يُ حرم من التلذذ بها يف اآلخرة ،ففي سياق هذه القاعدة النبوية اليت حنن
بصدد احلديث عنها ،خيتم النيب × هذه القاعدة حمذرا ومنذراً من يفكر يف
شربها فيقول – كما يف الصحيحني« :ومن شرب اخلمر يف الدنيا فمات وهو
يدمنها مل يتب؛ مل يشربها يف اآلخرة»(.)1
88
قــواعد نبـــوية
قُلها بثقة يف عون ربك ،وابذل السبب واجلهد يف اجتنابها ،وقل لرفقاء السوء
ممن يزينها لك :هذا فراق بيين وبينكم ،وعجلت إليك ربي لرتضى ،وأبشر
بالفرج العاجل ،يغشاك من بني يديك ومن خلفك؛ فإن ربك يقول:
ﭽﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ
[العنكبوت.]69:
خالصة القاعدة:
أطع ربك واحفظ عقلك.
اجملتمع األطوع هلل بعيد عن املهلكات.
حياة اإلدمان ال تليق بك أيها املسلم.
89
قـــواعــد نبويــــة
90
قــواعد نبـــوية
قريش ،وكون ذوي القربى هلم اخلمس ،وحتريم الصدقة على آل حممد ×
وحنو ذلك؛ ألن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غريهم»(.)1
ولقد قرّر النيب × أن كل امرءٍ سيحاسب على عمله ال على نسبه
بوسائل عدّة ،ورسّخه بعِدة رسائل أرسلها يف أوقاتٍ متفاوتة ،وبأساليب
متنوعة ،من ذلك:
-1أنه أول ما أُنزِلَ عليه :ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭼ قال:
«يا معشر قريش! اشرتُوا أنفسَكم من اهللِ؛ ال أُغين عنكم من اهللِ
شيئاً ،يا بين عبداملطلب! ال أغين عنكم من اهلل شيئاً ،يا عباس بن
عبداملطلب! ال أُغين عنك من اهلل شيئاً ،يا صفية عمّة رسول اهلل!
ال أغين عنك من اهلل شيئاً ،يا فاطمة بنت حممد! سليين ما شئتِ،
من مالي ال أغين عنكِ من اهلل شيئاً»(.)2
-2يف فتح مكة ،أمر النيب × بالالً أن يصعد فوق الكعبة لريفع
األذان ،يف مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش لريى هذا
العبد احلبشي يقف كهذا املوقف! ولكنه اإلسالم ،واهلدي النبوي
الذي يربي بالفعل والقول.
وليس هذا فحسب ،بل إنه يف نفس اليوم يدخل × الكعبةَ ويصلي
فيها ،وال يدخل معه سوى أسامة بن زيد – مواله ابن مواله – وبالل
91
قـــواعــد نبويــــة
()1
احلبشي ،وعثمان بن طلحة املسئول عن مفتاح الكعبة!
إنها رسالة أبلغ من مائة خطبة ،إنها رسالة عملية ليعرف الناس يف هذا
اليوم العظيم ما هي موازين حممد × يف تقييم الناس ،ومعرفة منازهلم!
-3وهو موقف وقع يف أعظم مشهد عرفتْه الدنيا يف ذلك الوقت!
إنه مشهد حجة الوداع ،ففي بعض مشاهد تلك احلجة ،وبينما الناس
مستعدون للنفري من عرفة ،وإذا باألبصار ترمق الدابة اليت كان النيب ×
يركبها ،ويتساءلون :من الذي سيحظى بشرف إال الذي سيحظى بشرف
االرتداف مع النيب ×؟ فلم يَرُعْهم إال وأسامة – الغالم األسود :مواله
وابن مواله – يركب خلف النيب ×!
فعل هذا × وهو الذي خطب يف ذلك اليوم خطبته العظيمة اليت قرّر
فيها أصول التوحيد واإلسالم ،وهدم فيها أصول الشرك واجلاهلية ،وقال
ي هاتني موضوع».
كلمته املشهورة« :إن كل شيء من أمر اجلاهلية حتت قدمَ ّ
إنها الرتمجة العملية لقوله ׫ :أال إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد،
ال فضل لعربي على أعجمي ،وال لعجمي على عربي ،وال ألمحر على
أسود ،وال ألسود على أمحر إال بالتقوى»(.)2
وإذا تأملتَ القرآن وجدتَه يصدّق هذه القاعدة النبوية اجلليلة« :من
بطأ به عمله مل يسرع به نسبه» ،ففي القرآن سورة كاملة يف ذمِّ عمّ النيب ×
92
قــواعد نبـــوية
أبي هلب تتلى إىل يوم القيامة ،ويقرأها الصبيان يف أول حمفوظاتهم ،ويف
مقابل ذلك ،فالصحابي الوحيد الذي ذكر امسه يف القرآن هو زيد بن
حارثة ،مواله وحِبه ،فأي برهان أعظم من ذلك على تقرير هذه القاعدة!
يقول ابن تيمية« :وهلذا ليس يف كتاب اهلل آية واحدة ميدح فيها أحداً
بنسبه ،وال يذم أحداً بنسبه؛ وإمنا ميدح باإلميان والتقوى،ويذم بالكفر
والفسوق والعصيان»(.)1
وقال أيضاً« :والفضل إمنا هو باألمساء احملمودة يف الكتاب والسنة
مثل :اإلسالم ،واإلميان ،والرب ،والتقوى ،والعلم ،والعمل الصاحل،
واإلحسان ،وحنو ذلك ،ال مبجرد كون اإلنسان عربياً ،أو عجمياً ،أو أسود،
أو أبيض ،وال بكونه قرويا ،أو بدوياً»(.)2
ومن األشياء الالفتة للناظر يف تراجم األئمة الكبار – الذين جاءوا بعد
طبقة الصحابة رضوان اهلل عليهم – أن كثرياً منهم من املوالي ،وكم نفع اهلل
بهم من أمم! وال زال نفعهم ولن يزال إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها،
فظهر بذلك مصداق قوله ׫ :إن اهلل يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به
آخرين»(.)3
يقول الزهري – رمحه اهلل – :قدمت على عبدامللك بن مروان فقال:
من أين قدمت يا زهري؟ قلت :من مكة! قال :فمن خلّفت بها يسود أهلها؟
93
قـــواعــد نبويــــة
قلت :عطاء بن أبي رباح ،قال :فمن العرب أم من املوالي؟ قلت :من
املوالي .قال :ومب سادهم؟ قلت :بالديانة والرواية! قال :إن أهل الديانة
والرواية لينبغي أن يسودوا .قال :فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت :طاوس
بن كيسان ،قال :فمن العرب أم من املوالي؟ قلت :من املوالي ،قال :ومب
سادهم؟ قلت :مبا سادهم به عطاء! قال :إنه لينبغي ،قال :فمن يسود أهل
مصر؟ قلت :يزيد بن أبي حبيب ،قال :فمن العرب أم من املوالي؟ قلت:
من املوالي .قال :فمن يسود أهل الشام؟ قلت :مكحول ،قال :فمن العرب
أم من املوالي؟ قلت :من املوالي ،عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل! قال:
فمن يسود أهل اجلزيرة؟ قلت :ميمون بن مهران ،قال :فمن العرب أم من
املوالي؟ قلت :من املوالي! قال :فمن يسود أهل خراسان؟ قلت :الضحاك
بن مزاحم ،قال :فمن العرب أم املوالي؟ قلت :من املوالي .قال :فمن يسود
أهل البصرة؟ قلت :احلسن بن أبي احلسن ،قال :فمن العرب أم من املوالي؟
قلت :من املوالي .قال :فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت :إبراهيم النخعي،
قال :فمن العرب أم املوالي؟ قلت :من العرب.
قال :ويلك يا زهري! فرّجت عين! واهلل ليسودن املوالي على العرب
حتى خيطب هلا على املنابر والعرب حتتها! قلت :يا أمري املؤمنني! هو أمر اهلل
ودينه ،من حفظه ساد ،ومن ضيّعه سقط»(.)1
وهذا أبو صاحل السَّ ّمان ،احملدث الثقة ،ابن ذكوان ،كان موىل من
94
قــواعد نبـــوية
املوالي ،لكن امسع شهادة أبي هريرة له :ما يضر هذا أن ال يكون من بين
عبد مناف!
ويقول األعمش – تلميذه – :كان أبو صاحل مؤذناً ،فأبطأ اإلمام؛
()1
فأمّنا ،فكان ال يكاد جييزها من الرقة والبكاء!
روي أن عمر – رضي اهلل عنه – قال« :إن العرب شرُ َفت برسول اهلل،
ولعل بعضها يلقاه إىل آباء كثرية ،وما بيننا وبني أن نلقاه إىل نسبه ثم ال نفارقه
إىل آدم إال آباء يسرية ،وواهلل لئن جاءت األعاجم باألعمال ،وجئنا بغري
عمل؛ فهم أوىل مبحمد منا يوم القيامة! فال ينظر رجل إىل قرابة! وليعمل ملا
عند اهلل؛ فإن من قصّر به عملُه مل يسرع به نسبُه»(.)2
ومثَّة نوع من األنساب يقع فيه التفاخر من بعض الناس ،وهو النسب
املعنوي ،فمِن الناس مَن قد يفاخر بأن أباه كان عاملاً ،أو وزيراً ،أو أمرياً ،أو
حاكماً ،وهو قليل احلظ من الديانة واألخالق ،وماذا يغين عنه ذلك؟!
واألجدر بهذا املتفاخر أن يكون عصامياً ال عظامياً ،أي :جيتهد أن يكون
كعصام الذي سوّد نفسه بنفسه ،بسبب علو همته – بعد توفيق اهلل – وال
يكون عظامياً يفاخر بآباء ماتوا ،وعظام بالية:
تضــايق عنــه مــا بنتــه جــدوده إذا املـرء مل يــف افتخــاراً لنفســه
95
قـــواعــد نبويــــة
وهلل در القائل:
فال ترتك التقوى اتكاالً علـى النسـب لعمـــر اهلل مـــا ا إلنســـان إال بدينـــه
وقد وضـع الشـرك الشـقيَّ أبـا هلـب لقــد رفــع اإلســالم ســلمان فــارسٍ
حملتســـــب إال بـــــآخر مكتســـــب فمـــا احلســـب املـــوروث إن در دره
من املثمرات اعتده الناس يف احلَطَـب إذا الغصــن مل يثمــر وإن كــان شــعبة
ولسائل أن يقول« :فإن مل يبطئ به العمل ،وسارع إىل اخلري وسبق إليه،
فهل يسرع به النسب؟
فيقال :ال شك أن النسب الشريف من نعم اهلل على العبد إذا تزين
بالتقوى ،وإال فال أثر له ،وال ينفع صاحبه عند اهلل – كما سبق – ،ويف
الصحيح« :إن اهلل اصطفى كنانة من ولد إمساعيل ،واصطفى قريشا من
كنانة ،واصطفى من قريش بين هاشم ،واصطفاني من بين هاشم»( ،)1وقال:
«خياركم يف اإلسالم خياركم يف اجلاهلية إذا فقهوا»(.)3(»)2
يقول ابن تيمية – رمحه اهلل – موضحاً هذا املعنى:
«وأما نفس القرابة فلم يعلّق بها ثواباً وال عقاباً ،وال مدح أحداً مبجرد
ذلك ،وهذا ال ينايف ما ذكرناه من أن بعض األجناس والقبائل أفضل من
بعض ،فإن هذا التفضيل معناه كما قال النيب ׫ :الناس مَ َعادن كمعادن
الذهب والفضة؛ خيارهم يف اجلاهلية خيارهم يف اإلسالم إذا فقهوا»(،)4
96
قــواعد نبـــوية
فاألرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة ،كان معدن الذهب خرياً؛
ألنه مظنة وجود أفضل األمرين فيه ،فإن قدر أنه تعطل ومل خيرج ذهبا ،كان
ما خيرج الفضة أفضل منه.
فالعرب يف األجناس وقريش فيهم ثم هاشم يف قريش مظنة أن يكون
فيهم من اخلري أعظم مما يوجد يف غريهم؛ وهلذا كان يف بين هاشم النيب ×،
الذي ال مياثله أحد يف قريش ،فضالً عن وجوده يف سائر العرب وغري
العرب ،وكان يف قريش اخللفاء الراشدون وسائر العشرة وغريهم ممن ال
يوجد له نظري يف العرب وغري العرب ،وكان يف العرب من السابقني األولني
من ال يوجد له نظري يف سائر األجناس.
97
قـــواعــد نبويــــة
يفضل به ألنه سبب وعالمة ،وألن اجلملة أفضل من مجلة تساويها يف العدد.
خالصة القاعدة:
نسب بال عمل كشجرة بال مثر.
(تََّبتْ) عُوتب بها نسيب ،وبالل أذن فوق الكعبة ،حقاً إنه
العمل.
إن ساعدك النسب والعمل فهي نعمة إىل نعمة.
انتبه :فالسؤال هناك :ما العمل؟ ال ما النسب!
98
قــواعد نبـــوية
هذه القاعدة العظيمة ،من القواعد اليت مجعت اخلري فأوعت؛ فسبحان
من أهلم نبيه جوامع الكلم هذه!
فما الرب؟!
أصل البِر ،هو« :التوسع يف فعل اخلري ،يقال :بَرَّ العبدُ ربَّه ،أي :توسّع
يف طاعته ،فالرب من اللّه :الثواب ،ومن العبد :الطاعة ،وقد يستعمل يف
الصدق وحسن اخللق؛ ألنهما من اخلري املتوسع فيه»(.)2
والذي يلفت النظر يف هذه القاعدة العظيمة :كيف جيمع النيب ذاك
الرب الواسع األطراف يف حسن اخللق؟ والذي يظهر ألول وهلة أنه إمنا هو
شعبة من شعب الرب؟
ولكن عند التأمل :نرى أن حسن اخللق هنا يعم أمرين اثنني جيمعان
الدين كله! وهما:
.1حُسْنُ اخلُلق مع اهلل تعاىل ،وال يتحقق حسن اخللق معه سبحانه إال
بتحقيق أركان اإلسالم واإلميان.
99
قـــواعــد نبويــــة
.2ثم حُسْنُ اخلُلق مع خَلق اهلل تعاىل ،يدخل يف هذا كل خملوقات اهلل
تعاىل ،من إنس وجن وحيوان ومجاد – كبيوت اهلل تعاىل – .
بهذا نعلم السر الذي جعل النيب جيمع الرب الواسع يف حسن اخللق،
وألن اخلُلق إمنا مسي خُلقاً؛ ألنه يصري كاخلِلقة يف صاحبه»(.)1
وبهذا يزول عنك – أيها املبارك – ما قد يقع من إشكال يف تنوّع
عبارات السلف يف تفسري حسن اخللق:
يقول عليّ– رضي اهلل عنه–« :حسن اخللق يف ثالث خصال :اجتناب
احملارم ،وطلب احلالل ،والتّوسعة على العيال»(.)2
ويقول احلسن البصري« :حسن اخللق :الكرم والبذلة واالحتمال»(،)3
وقال مرةً« :حسن اخللق :بسط الوجه ،وبذل النّدى ،وكفّ األذى»(.)4
ويقول اإلمام أمحد« :حسن اخلُلق أن ال تغضب وال حتتد»( ،)5وقال
مرةً« :حسن اخللق :أن حتتمل ما يكون من الناس»( ،)6وقال إسحاق بن
راهويه :هو بسط الوجه ،وأن ال تغضب»(.)7
100
قــواعد نبـــوية
وقال ابن املبارك« :حسن اخللق :طالقة الوجه ،وبذل املعروف ،وكف
األذى»(.)1
وقال ابن رجب« :إنّ حسن اخللق قد يراد به التّخلّق بأخالق الشّريعة
والتّأدّب بآداب اهلل الّيت أدّب بها عباده يف كتابه كما قال لرسوله ×:
ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ »(.)2
إن حسن اخللق إذا كان مطلوباً من مجيع املسلمني؛ فهو من الدعاة إىل
اهلل تعاىل والعلماء أكثر إحلاحاً؛ فهم أصحاب رسالة ودعاة هدى ،والفِطَرُ
جمبولة على التأثر بالفعل أكثر من القول ،وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن
يكون النيب من قومه ،ويبعث بعد عدة عقود من الزمان؛ ليظهر للناس خُلُقه
قبل النبوة ،فكيف به بعدها!
أمل يكن الصدق واألمانة اللتان عُرف بهما نبينا × قبل البعثة من
أعظم الدواعي لقبول دعوته عند عقالء الناس؟! بل إن هرقل ملا سأل أبا
سفيان تلك األسئلة املشهورة ،ومنها :هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن
يقول ما قال؟ فذكر أبو سفيان أنه مل يكن كذلك ،فقال هرقل مباشرةً :أعرف
«
»
101
قـــواعــد نبويــــة
( )1
أنه مل يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اهلل!
وهلذا فإن الداعية والعامل حينما ينزل إىل امليدان ال ميثل نفسه يف
احلقيقة ،وإمنا ميثل العلم الذي حيمله ،فليتق اهلل يف ذلك ،وليجاهد نفسه على
ما فيه من كزازة ،أو خُلق غري حسن ،أو سرعة غضب ،أو تعالٍ ،أو غريها
من األخالق اليت تنفر عنها الفطر السوية ،وينبغي على الداعي واحملتسب يف
األمر والنهي أن يعلم أن الغرية ،أو كونه يدعو إىل حق ،ال تسوّغ له
الفضاضة ،وال القسوة ،فقد قال اهلل خلري نيب معه خري أصحاب :ﭽ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ [آل عمران ]159 :فمن الناس بعدهم؟
يقول ابن عقيل معلقاً على اآلية السابقة« :شهد احلق له ،لوال ختلُّقه
للخُلُق اجلميل النفضوا عنك ،ومل يقنع باملعجز يف حتصيلهم ،فال تقنع أنت
بالعلوم ،وتظن أنها كافية يف حوش الناس إىل الدين ،بل حسن ذلك وجله
( )2
باألخالق اجلميلة».
وإذا تأملت يف حياة النيب × وجدتها كلها جتسيداً عملياً حلسن اخللق
يف مجيع أحواله :حرباً وسلماً ،فرح ًا وحزناً ،غنى وفقراً.
وأحدُ األسرار يف هذا األمر :أن النيب × نفسه ربط كمال اإلميان
حبسن اخللق فقال« :أكمل املؤمنني إميانا أحسنهم خلقاً»( ،)3وقال – حينما
سئل × عن أكثر ما يدخل الناس اجلنة –« :تقوى اهلل وحسن اخللق»()4؛
102
قــواعد نبـــوية
وما ذاك إال «ألَن تقوى اهلل يصلح مَا َبني العَبْد َوبَني ربه ،وَحسن اخلُلق
يصلح مَا بَينه وبَني خلقه ،فتقوى اهلل توجب لَهُ حمبَّة اهلل ،وحسن اخللق يَدعو
الناس إىل حمبّته»(.)1
أما ما يقطفه صاحب اخللق احلسن – مع اهلل ومع الناس – من
مثرات فال تسَلْ:
فلقد «ثبت عنه أنه قال« :أكمل املؤمنني إمياناً أحسنهم خلقاً»،
ومن املعلوم أن أحب خَلْقه إليه املؤمنون ،فإذا كان أكملهم إمياناً أحسنهم
خلقاً؛ كان أعظمهم حمبة له أحسنهم خلقاً ،واخلُلُق :الدين؛ كما قال اهلل
تعاىل :ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﭼ قال ابن عباس :على دين عظيم،
()2
وبذلك فسّره سفيانُ بن عيينة وأمح ُد بن حنبل وغريُهما».
إن حبسن اخللُق يدرك املؤمن درجة الصائم والقائم ،وصاحبه أحب
الناس إىل اهلل ،وأقربهم من النبيني جملساً ،وحسن اخللق هو أثقل ما يوضع
يف امليزان.
رُئي بعض السلف يف املنام؛ فسئل عن بعض إخوانه الصاحلني ،فقال:
()3
وأين ذلك!! رُفع يف اجلنة حبُسن خلقه.
يقول املاوردي« :إذا حسنت أخالق اإلنسان كثر مصافوه ،وقلّ
103
قـــواعــد نبويــــة
104
قــواعد نبـــوية
إن كان من أهل البحث – أو يسمع من أهل العلم فيها خالفاً ،ثم ال تطمئن
نفسه لقولٍ من تلك األقوال ،بينما تنشرح نفسه للقول اآلخر ،فهنا يقال له
ما أرشد إليه النيب × يف قوله« :واإلثم ما حاك يف نفسك ،وكرهت أن يطّلع
عليه الناس» ،فانظر :هل يف صدرك حرجٌ من ذلك؟ أو أنك حني تفعله تكره
أن يطلع الناس عليه ،إذن فدعه واسرتح ،فإن دِينَك غالٍ وعزيز ،واعلم أن
«عذاب الوجدان ،أو وخز الضمري وتأنيبه؛ هو الذكرى اليت تعِضُ القلب
وال تفارقه ليل نهار»(.)1
وأختم حديثي يف هذه القاعدة النبوية :بأن أنبه إىل أن من أهل الفسق
والفجور من أصبحت «اآلثام ال حتيك بنفوسهم ،وال يكرهون أن يطلع
عليها الناس ،بل بعضهم يتبجح! ويُخرب مبا يصنع من الفجور والفسق!
فالتوجيه يف هذا احلديث ال يتوجه إىل مثل هؤالء! ولكن الكالم مع الرجل
املستقيم؛ فإنه إذا همّ بسيئة حاك ذلك يف نفسه ،وكره أن يطّلع الناس على
ذلك ،وهذا امليزان الذي ذكره النيب عليه الصالة والسالم إمنا يكون مع أهل
اخلري والصالح»(.)2
اللهم اهدنا ألحسن األخالق ال يهدي ألحسنها إال أنت ،واصرف
عنا سيئها ال يصرف عنا سيئها إال أنت ،واجعل هوانا تبعاً ملا جاء به نبيك
×.
105
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
حسِّن خُلقك تكن من أبر الناس.
حُسن اخللق سرت سابغ ملن ال سرت له.
من اعتاد اآلثام انتكست فطرته.
106
قــواعد نبـــوية
هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة اليت دلّ عليها قول النيب ×:
(.)1
«إمنا الناس كاإلبل املائة ،ال تكاد جتد فيها راحلة»
واملعنى :أن املتميز ومن يصلح للقيادة والتأثري نادر يف الناس مع كثرة
عددهم ،ومع كثرة من يدعي ذلك أيضاً ،وهذا كحال اإلبل يف كثرتها ،ومع
ذلك فالنجائب والرواحل فيهن قالئل.
وأنت تلحظ هذه البالغة العجيبة ،واالختصار املذهل هلذا املعنى
العظيم ،يف هذه العبارات القليلة ،وال غرو! فهو × أفصح من تكلم
بالضاد.
ومن وجوه اإلعجاز البالغي يف هذه القاعدة :أنها ربطت املعنى بأمرٍ
خفي؛ ألن انتقال الذهن من معنى اإلبل إىل الناس إمنا يكون باعتبار املعنى
املشهور يف اإلبل ،وهو :كثرة األكل ،وقلة الفهم ،مع كِبَر األعضاء وطوهلا،
107
قـــواعــد نبويــــة
أو هو الصرب واجلَلَد على العمل ،أما عزة وجود الكامل ،مع كثرة أفراد
جنسه فهو معنى بعيدٌ عن اخلاطر؛ مما يستدعي تأمالً ونظراً يف هذا املعنى
العميق ،وهو – أيضاً – مما تعرفه العرب من حياتها العامة ،إذ كانت اإلبل
()1
أكثر وسائل التنقل استعماالً يف ذلك الوقت ،وإىل وقت قريب.
ومن تأمل القرآن الكريم؛ وجد آيات عديدة تؤكد هذا املعنى العام،
ففي عشرات اآليات جند احلديث عن أكثرية الضالني ،وأكثرية الذين ال
ُي ْعمِلون عقوهلم فيما ينفعهم ،وقلة الشاكرين ،فتأمل هذه اآليات :ﭽ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖﯗﭼ [البقرة ،]243 :وقوله تعاىل :ﭽﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﭼ [األنعام ،]116 :ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ
[هود ،]17 :ﭽ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ [يوسف:
،]103ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [سبأ.]13 :
ومن تأمل قصة طالوت مع قومه؛ ظهر له هذا املعنى الذي دلّت عليه
هذه القاعدة النبوية« :الناس كإبل مائة» ،ووجه الداللة من قصة طالوت
ظاهرة :فإن اهلل تعاىل ملا بعثه ملِكاً على أولئك املأل من بين إسرائيل ،حصل
منهم ما حصل يف أحقيته بامللك – مع أنهم هم الذين طلبوا من نبيهم أن
يبعث هلم ملكاً ليقاتلوا يف سبيل اهلل – فلما استقر األمر لطالوت ،قال هلم –
يف أول اختبار يفحص به حال قومه ،فتأمل كيف بدأ التخاذل املبكر منهم –:
ﭽﭑﭒﭓﭔ ﭕﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚﭛ
108
قــواعد نبـــوية
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ
[البقرة ،]249 :مع أنهم قبل ذلك كانوا قد رسبوا يف اختبارٍ قبله ،وهو الذي
قصّه اهلل علينا بقوله :ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ [البقرة ،]246 :وهكذا تتفق شواهد
الوحي على هذه القاعد النبوية احملكمة« :الناس كإبل مائة ال تكاد جتد فيها
راحلة».
وهذه القاعدة النبوية الكرمية مشتملة على :خرب صادق ،وإرشاد نافع.
«أما اخلرب :فإنه × أخرب ،أن النقص شامل ألكثر الناس ،وأن الكامل
–أو مقارب الكمال– فيهم قليل ،كاإلبل املائة ،تستكثرها ،فإذا أردت منها
راحلة تصلح للحمل والركوب ،والذهاب واإلياب؛ مل تكد جتدها! وهكذا:
الناس كثري ،فإذا أردتَ أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو
اإلمامة ،أو الواليات الكبار أو الصغار ،أو للوظائف املهمة؛ مل تكد جتد من
يقوم بتلك الوظيفة قياماً صاحلاً ،وهذا هو الواقع؛ فإن اإلنسان ظلوم جهول،
109
قـــواعــد نبويــــة
110
قــواعد نبـــوية
«
» « »
111
قـــواعــد نبويــــة
فقلت :حدثتنا عن شهر أنه إذا مجع الطعام أربعاً فقد كمل :إذا كان أوله
حمِدَ اهلل حني
حالالً ،وسُمِّيَ عليه اهلل حني يوضع ،وكثُرت عليه األيدي ،و ُ
يُرفَع.
()1
فأقبل على القوم فقال :كيف ترون؟
ومن ذلك :عناية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب بابن عباس – رضي
اهلل عنهم مجيعاً – فقد كان يُحضِره جمالس الكبار؛ ليفيد من عقوهلم ،ويسمع
منهم ،حتى إنه نوقش يف ذلك ،وكيف يدخله عمر مع البدريني! فعرض
عليهم سؤاالً يتعلق بتأويل سورة النصر يف القصة املشهورة.
وهذا ما يعرف اليوم بإعداد القادة واملؤثرين ،وهذه سنة معروفة يف
سَير املربني والعلماء.
ِ
ويف هذا املقام تذكر القصة املشهورة اليت رواها ابن سعد ،واحلاكم يف
املستدرك وغريهما؛ أن أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه قال ألصحابه :متنوا!
فقال بعضهم :أمتنى لو أن هذه الدار مملوءةً ذهباً أنفقه يف سبيل اهلل،
وأتصدق ،وقال رجل :أمتنى لو أنها مملوءة زبرجداً و جوهراً فأنفقه يف سبيل
اهلل وأتصدق ،ثم قال عمر :متنوا! فقالوا :ما ندري يا أمري املؤمنني! فقال
عمر :أمتنى لو أنها مملوءة رجاالً مثل أبي عبيدة بن اجلراح ،ومعاذ بن جبل،
()2
وسامل موىل أبي حذيفة ،وحذيفة بن اليمان.
112
قــواعد نبـــوية
الوقفة الثانية :حني يدرك الداعية واملربي هذا املعنى يدعوه ذلك ألن
يكون واقعياً فيما يطلبه من الناس وينتظره منهم؛ فالناس لن يكونوا كلهم
رواحل ،وال يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس مجيعاً أن يصلوا
إليها.
الوقفة الثالثة :حني نرى صورة واقعية من أحد من الناس؛ فال يسوغ
أن نتخذها منوذجاً نقارن اآلخرين به ،وننتظر منهم أن يصلوا إىل ما يصل
إليه.
ومن الصور الشائعة يف ذلك :ما يصنعه بعض اآلباء مع أبنائه ،أو
بعض املعلمني مع طالبه ،حني يعجب بأحدهم فينتظر من اآلخرين أن
يكونوا مثله ،وأن يصلوا إىل ما وصل إليه.
الوقفة الرابعة :ليس معيار االختالف بني الناس قاصراً على القدرات
العقلية والذهنية وحدها؛ فهم يتفاوتون يف حتملهم لألعباء ،ويف جديتهم،
ويف تضخيمهم للمخاطر ،ويف قدراتهم النفسية...إىل آخر هذه العوامل،
وهي كلها مما ال بد من أخذه يف االعتبار.
الوقفة اخلامسة :إدراك هذا املعنى جيعل املسلم عالي اهلمة ،متطلعاً
للمزيد ،ينظر يف العلم والصالح إىل من هو فوقه ،وال ينظر إىل من هو
()1
دونه.
113
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
ما تكرهه يف غريك حاول أن تتجنبه.
ال تعش عامل املثاليات!
ال تكاد جتد فيها راحلة؛ فال تطلب املستحيل.
114
قــواعد نبـــوية
115
قـــواعــد نبويــــة
حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي اهلل عنهما ،أن رسول اهلل × قال:
«عُذّبت امرأةٌ يف هرة حبستها حتى ماتت جوعاً ،فدخلت فيها النار» قال:
فقال واهلل أعلم« :ال أنتِ أطعمتِيها وال سقيتِيها حني حبستيها ،وال أنتِ
()1
أرسلتِيها فأكلتْ من خشاش األرض»!
أي عظمة هذه! امرأة مكلّفة تدخل النار احملرقة بسبب ظلم هرةٍ
صغرية؟! نعم! هذا هو الدين العظيم الذي كفل حقوق احليوانات ،فضالً
عن اآلدمي.
وإن القارئ والسامع هلذا احلديث وأمثاله ليتساءل :إذا كان هذا
الوعيد على من ظلَم حيواناً ،فكيف سيكون الوعيد على من ظلم إنساناً،
وخاصةً إذا كان أخاه املسلم ،أو من تربطه به عالقة خاصة!
إن املتابع والسامع ،أو من يبتلى بأسئلة الناس؛ ليوقن عظيم غفلة كثريٍ
من الناس عن خطورة الظلم ،وعن سوء عاقبة صاحبه يف الدنيا قبل اآلخرة.
كم من األيتام الذين أُكلتْ أمواهلُم ظلماً مع شدة الوعيد الوارد يف
حق أكل أمواهلم بغري حق ،وكأن اآلكل الظامل مل يسمع بهذا الوعيد الذي
تهتز له اجلبال الصم :ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎﮏﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [النساء!]10:
كم امتألتْ أدراجُ احملاكم مبعامالت تتعلق بالسطو على األراضي!
وكأن هؤالء مل يسمعوا قولَه × – كما يف الصحيحني من حديث سعيد بن
116
قــواعد نبـــوية
زيد رضي اهلل عنهما –« :من أخذ شرباً من األرض ظلماً؛ فإنه يطوقه يوم
()1
هذه عقوبة مَن أخذ شرباً فقط ،فما الظن مبن القيامة من سبع أرضني»؟!
يسطو على ما هو أكثر من ذلك؟!
إن هذه القاعدة النبوية اجلليلة ال تستثين أحداً من الناس ،ويعظم
الوعيد ويشتد على من استغل قوتَه أو مكانتَه أو سلطتَه يف ظلم العباد،
وانظر كيف كانت نهاية فرعون حني جترب وطغى ﭽﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﭼ [يونس.]39 :
وملّا ذكر اهللُ قصةَ مثود وما حلّ بهم قال تعاىل :ﭽ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [النمل:
،]52فظلم العباد من أسرع موجبات اهلالك واخلراب لألمم واجملتمعات،
ويف التاريخ عربة.
إن من الظلمة من يغرت بإمهال اهلل له ،فيِأَكل أَمْوَال النَّاس ،ويَأَخذهَا
الض َعفَاء،
ظلماً ،أو يظلم النَّاس بِالضَّرْبِ والشتم والتعدي ،واالستطالة على ُّ
ولكن ليعلم كل ظامل أن له يوماً ال يُخلف ،قال تعاىل :ﭽ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄﭼ [إبراهيم ،]42 :وقال تعاىل :ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽﭼ [الشعراء ،]227 :وقال تعاىل :ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜﮝ ﮞﮟﮠﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﭼ
[هود.]113 :
117
قـــواعــد نبويــــة
«والظلم يشتمل على معصيتني :أخذُ مال الغري بغري حق ،ومبارزةُ
الرب باملخالفة ،واملعصية فيه أشد من غريها؛ ألنه ال يقع غالباً إال بالضعيف
الذي ال يقدر على االنتصار ،وإمنا ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ ألنه لو
استنار بنور اهلدى العترب ،فإذا سعى املتقون بنورهم الذي حصل هلم بسبب
التقوى؛ اكتنفت ظلماتُ الظلم الظاملَ ،حيث ال يغين عنه ظلمُه شيئاً»(.)1
وأعظم الظلم الذي يقرتفه العبد :ظلم نفسه بالشِّرْك« ،كما قال تعاىل:
ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [لقمان ]13 :فإنَّ املشركَ جعل املخلوقَ يف
منزلةِ اخلالق ،فعبده وتألَّهه ،فوضع األشياءَ يف غريِ موضعها ،وأكثر ما ذُكِرَ يف
القرآن مِنْ وعيد الظاملني إنَّما أُريد به املشركون ،كما قال اهلل عز وجل:
ﭽﮟ ﮠ ﮡﭼ [البقرة ،]254 :ثمَّ يليه املعاصي على اختالف
أجناسها – من كبائرَ وصغائرَ –.
ويلي هذه املنزلة يف الظلم :ظلمُ العبدِ لغريه ،وهو املذكورُ يف هذا
احلديث ،وقد قال النيب × يف خطبته يف حجة الوداع« :إنَّ دماءكم وأموا َلكُم
ضكُم عليكُم حرامٌ ،كحرمةِ يومكم هذا ،يف شهركم هذا ،يف بلدكم
وأعرا َ
هذا» (.)2
أال إن من أعظم ما يوعظ به الظالِمُ تذكريُه باهلل ،وبعظيم قدرته عليه،
وهلذا يؤثر عن معاوية × أنه قال :أخوف ما أخاف من رجل ال جيد له
ناصراً إال اهلل!!
118
قــواعد نبـــوية
قال دهقان ألسد بن عبداهلل – وهو على خراسان ،ومر به وهو يدهق
يف حبسه( :– )1إن كنتَ تعطي لرتحم؛ فارحم من تظلم ،إن السموات تنفرج
لدعوة املظلوم! فاحذر من ليس له ناصر إال اهلل ،وال جنة له إال الثقة بنزول
التغري ،وال سالح له إال االبتهال إىل من ال يعجزه شيء ،يا أسد! إن البغي
يصرع أهلَه ،والبغي مصرعه وخيم ،فال تغرت بإبطاء الغياث مِن ناصرٍ متى
()2
شاء أن يغيث أغاث ،وقد أملى لقومٍ كي يزدادوا إمثاً.
ودخل رجلٌ على سليمان بن عبدامللك فقال :اذكر يا أمري املؤمنني يوم
األذان! فقال :وما يوم األذان؟ قال :اليوم الذي قال اهلل تعاىل فيه :ﭽ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭼ فبكى سليمان وأزال ظالمته.
()3
إن الظلم ال يكاد يسلم منه أحدٌ منا! فمِّنا املسرتسل معه ،ومنا اجملاهد
نفسه على تركه؛ ذلك أن اهلل تعاىل وصف هذا اإلنسان بأنه :ظلوم جهول،
لكن السؤال :ما املوقف الشرعي الذي يقفه املسلم من أخيه الظامل؟ لقد
أجاب النيب عن ذلك بأبلغ كالم وأوجز عبارة فقال« :انصر أخاك ظاملاً أو
مظلوماً!» فقال رجل :يا رسول اهلل! أَنصُرُه إذا كان مظلوماً ،أفرأيت إذا كان
ظاملاً كيف أنصره؟ قال« :حتجزه أو متنعه من الظلم ،فإن ذلك نصره»(.)4
119
قـــواعــد نبويــــة
«ومعناه :أنه إذا نهاه ووعظه فقد نصره على شيطانه ونفسه اإلمارة
بالسوء ،حتى غلب ذلك»(.)1
ومِن معانيه ما أشار له البيهقي فقال« :أن الظامل مظلوم يف نفسه،
فيدخل فيه ردع املرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى ،فلو رأى إنساناً يريد أن
جبّ نفسَه لِظَنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثالً! منعه من ذلك وكان
يَ ُ
ذلك نصراً له»(.)2
ومما جيلي معنى هذا احلديث أكثر أن يقال :إنك إذا «تركتَه على ظلمه،
ومل تكفّه عنه أذاه ذلك إىل أن يُقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه
القصاص نصرُه ،وهذا يدل من باب احلكم للشيء وتسميته مبا يئول إليه،
وهو من عجيب الفصاحة ،ووجيز البالغة»(.)3
ومن لطائف هذا احلديث أن فيه إشعاراً باحلث على حمافظة الصديق
()4
واالهتمام بشأنه ،ومِن ثَم قيل :حافظ على الصديق ولو على احلريق.
«فال جيوز ترك مسلمٍ يكافح وحده يف معرتك ،بل البد من الوقوف
جبانبه على أي حال؛ إلرشاده إن ضل ،وحجزه إن تطاول ،والدفاع عنه إن
هوجم ،والقتال معه إذا استبيح ،وذلك معنى التناصر الذي فرضه
اإلسالم»(.)5
120
قــواعد نبـــوية
فإياك إياك – أخي – أن تظلم من ال جيد له نصرياً عليك إال اهلل؛ فإن
املظلوم إذا التجأ إىل ربه بصدق واضطرار انتصر له ،كما قال سبحانه:
ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [النمل.]62 :
إن نور العدل مشس تضيء ألصحابها دروب احلياة ،وال يفارقهم
نورُها حتى يبهر أبصارَهم نورُ اجلنة اليت إليها سيُساق العادلون!
العادلون يف أقواهلم ،وأفعاهلم ،وتفكريهم ،وأحكامهم ،ومعاملتهم مع
الكبري والصغري ،والقريب والبعيد ،املنصفون الناسَ حتى من أنفسهم ،إنهم
– بعدهلم هذا – على نور ميشون به بني الناس.
وأما الظاملون فهم يف ظلمات ال يبصرون غري أنفسهم ،وال حيسون إال
()1
مبصاحلهم ،وال يشعرون إال بذواتهم.
ومضة ذهيبة:
«يا راضياً باسم الظامل كم عليك من املظامل! السجن جهنم واحلق
احلاكم! وال حجة لك فيما ختاصم! القرب مهول ،فتذكر حبسك ،واحلساب
طويل فخلص نفسك ،والعمر كيوم فبادر مشسك ،تفرح مبالك والكسب
خبيث! ومترح بآمالك والسري حثيث! إن الظلم ال يُرتك منه قدر أمنلة ،فإذا
رأيت ظاملاً قد سطا فنم له؛ فرمبا بات فأخَذَت جنبَه من الليل منلة – أي
قروح يف اجلسد»(.)2
«
»
121
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
ظلمات الدنيا قد جتد هلا نوراً ،لكن ما بال ظلمات
القيامة!
الظلم فاتورة باهظة الثمن ،والعجيب أنها تسدد مرتني يف
الدنيا ويف اآلخرة!
إذا كان مصري ظامل احليوان النار ،فما بالك بظامل اإلنسان!
معرفة احلقوق والواجبات حتجزك عن الظلم.
122
قــواعد نبـــوية
123
قـــواعــد نبويــــة
بها النيب × صاحبَه اجلليل أبا ذر رضي اهلل عنه حني قال له« :اتق اهلل
حيثما كنت ،وأتبع السيئة احلسنة متحها ،وخالق الناس خبلق حسن»(.)1
وتأمل يف حكمةِ من أوتي جوامع الكلم – عليه الصالة والسالم –
كيف عقّب الوصية بالتقوى بقوله« :وأتبع السيئة احلسنة متحها»! ذلك أن
العبد ملا كان مأموراً بالتقوى يف السر والعلن ،مع أنه البد أن يقع منه أحياناً
تفريط يف التقوى – إما برتك بعض املأمورات ،أو بارتكاب بعض احملظورات
()2
– أمره أن يفعل ما ميحو به هذه السيئة؛ وهو أن يتبعها باحلسنة.
ومن عجيب املوافقات :أن هذا احلديث بوصاياه الثالث وقع معناه يف
ثالث آيات متتابعات؛ فتأملها أيها املسلم يف قول اهلل تعاىل :ﭽ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕﭖ ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜ ﭝ ﭼ
فهذه توافق الوصية األوىل« :اتق اهلل حيثما كنت» ،ثم قال تعاىل :ﭽ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ هذه أخالق! فهي توافق الوصية الثالثة« :وخالق
الناس خبلق حسن» ،ثم قال تعاىل :ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ وهذه توافق الوصية الثانية – وهي
قاعدتنا اليت حنن بصدد احلديث عنها –« :وأتبع السيئة احلسنة متحها»!
124
قــواعد نبـــوية
125
قـــواعــد نبويــــة
بعده ما يضاده ،فمن لعن أخاه ،فليدْعُ له بالرمحة ،وليستغفر؛ امتثاالً هلذه
القاعدة النبوية الشريفة« :وأتبع احلسنة السيئة ميحها» ،وألن اهلل تعاىل يقول:
ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [هود.]114 :
ولعلنا هنا ،نذكّر ببعض ما ورد يف النصوص الشرعية مما هو ماحٍ
ومكفّرٌ للذنوب اليت ال يكاد يسلم منها أحد ،ولنبدأ بهذه القصة:
-1ففي الصحيحني من حديث عبداهلل بن مسعود رضي اهلل عنه،
قال :جاء رجل إىل النيب × ،فقال :يا رسول اهلل! إني عاجلت
امرأة يف أقصى املدينة ،وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ،فأنا
هذا ،فاقض يف ما شئت! فقال له عمر :لقد سرتك اهلل ،لو سرتت
نفسك! قال :فلم يرد النيب × شيئاً ،فقام الرجل فانطلق ،فأتبعه
النيب × رجالً دعاه ،وتال عليه هذه اآلية :ﭽﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﭼ [هود ]114 :فقال رجل من القوم :يا نيب اهلل!
هذا له خاصة؟ قال« :بل للناس كافة»(.)1
إذن :الصلوات اخلمس – ومن بينها اجلمعة – من أعظم احلسنات
املاحيات للذنوب – كما وردت بذلك اآلثار – السيما إن أقيمت بشروطها
وأركانها وواجباتها ،وقد دلّت السنة على أن ذلك خمتص بالصغائر دون
الكبائر؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ،أن رسول اهلل × قال« :الصالة
126
قــواعد نبـــوية
اخلمس ،واجلمعة إىل اجلمعة ،كفارة ملا بينهن ،ما مل تغش الكبائر»(.)1
-2ومن احلسنات العظام اليت متحو الذنوب :احلج املربور؛ ففي
الصحيحني من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول
اهلل ׫ :من حج هذا البيت ،فلم يرفث ،ومل يفسق رجع كيوم
ولدته أمه»( ،)2وملا أراد عمرو بن العاص رضي اهلل عنه أن يُسْلم،
أراد أن يشرتط مغفرة ذنوبه ،فبشره النيب × قائالً« :أما علمت
أن اإلسالم يهدم ما كان قبله؟ وأن اهلجرة تهدم ما كان قبلها؟
وأن احلج يهدم ما كان قبله؟»(.)3
-3واحلسنة اجلامعة اليت متحو مجيع الذنوب :هي التوبة؛ كما سبق يف
حديث عمرو بن العاص ،وكما دلّت على ذلك نصوص كثرية،
منها:
قوله تعاىل :ﭽﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ
ﮱﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﭼ [مريم ،]60 ،59 :ومنها :ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ [الفرقان.]70 – 68 :
127
قـــواعــد نبويــــة
128
قــواعد نبـــوية
ومعنى هذا أنه إذا كان هذا دأبه – يذنب فيتوب ويستغفر – فليفعل ما
شاء؛ ألنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فال يضره؛ وليس
معنى هذا التجرئةُ على الذنوب! فال ميكن أن جترّئ الشريعة على الذنب
وهي حتذر منه! وليس هذا خماطباً به من يكذبون يف توبتهم ،أو ال خيلصون
فيها.
إن يف هذه القاعدة إشارة واضحة إىل سرعة الرجوع واإلقالع عن
الذنب ،وعقدِ العزم على عدم العودة ،واملبادرة إىل إرجاع حقوق العباد،
وعدم التسويف أو التأخري؛ فإن (سوف) من جنود إبليس« ،ومن ترك
املبادرة إىل التوبة بالتسويف؛ كان بني خطرين عظيمني:
أحدهما :أن ترتاكم الظلمة على قلبه من املعاصي؛ حتى يصري رَيناً
وطبعاً فال يقبل احملو.
الثاني :أن يعاجله املرض أو املوت فال جيد مهلة لالشتغال باحملو؛
فيأتي اهللَ بقلبٍ غري سليم ،وال ينجو إال مَن أتى اهلل بقلب سليم»(.)1
خالصة القاعدة:
من رمحة اهلل بك..أن جعل لذنوبك ممحاة! فاشكره عليها.
قابل كل معصية مبا يضادها من الطاعات.
التائب معظّم للرب ،واملصِرّ على ذنبه على شفى هلكة.
129
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة من قواعد تربية النفس على الفضائل ،ودفع غوائل املكاره،
إنها قول النيب ׫ :ما أُعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب»( ،)1إن
احلياة مليئة باملنغصات واملكدرات:
صـــــــفواً مـــــــن األقـــــــذار واألكـــــــدار طبعـــــت علـــــت كـــــدر وأنـــــت تريـــــدها
واإلنسانُ فيها كما قال عنه خالقه :ﭽ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ
[البلد.]4 :
إذن :ما القوة اليت ميكنه أن يواجه بها مصاعب احلياة ،وكبد الزمان،
ونوائب الدهر؟!
«إذا استحكمت األزمات ،وتعقّدت حباهلُا ،وترادفت الضوائق وطال
ليلُها؛ فالصرب وحده هو الذي يُشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط،
واهلداية الواقية من القنوط (.)2
130
قــواعد نبـــوية
إن الصرب عالج شرعي ،تكرر احلديثُ عنه يف القرآن يف أكثر من
تسعني موضعاً ،ومن احملزن أن يظن بعضُ الناس أن الوصية بالصرب – عند
انغالق األمور – وصي ُة عاجز!
عجباً! أو تكون الوصية بوصية اهلل ورسوله وصية عاجز؟! بل هي
وصية ناصح ،خاصةً أن عدداً من املصائب واملشاكل ،ال ميكن جتاوز أثرها
إال بالصرب ،وإال فماذا يصنع من يُفجعُ بوفاة حبيب ،هل مثة إال الصرب! أو
من يُبتلى بتلف مال ،هل مثة إال الصرب!
وإذا ابتلي الوالدان بولد عاقٍّ ،جرّبا معه مجيعَ الوسائل املمكنة يف
النصح واإلرشاد والتوجيه ،لكنه مل ينتفع ،بل استمر على عقوقه! فهل هناك
عالج غري الصرب؟!
وإذا قُدّر على اإلنسان أن أخفق يف صفقة ،أو خسر يف جتارة ،فهو إما
أن يصرب صرب الكرام ،أو يسلو سلوّ البهائم – كما قال بعض السلف –
وبالصرب واالحتساب :ختف وطأة البالء ،بل ورمبا انتقل العبد منها إىل درجة
أخرى من درجات العبودية ،وهي درجة :الرضا عن اهلل ،وقد يرتفع أكثر
لينتقل إىل عبودية الشكر على ما قضاه اهلل وقدره ،وذلك فضل اهلل يؤتيه من
يشاء ،واهلل ذو الفضل العظيم ،ولعل هذا من أسرار قوله × – وهو يقرر
هذه القاعدة« :وما أعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب».
إن الصرب يعتمد على حقيقتني خطريتني:
أما األوىل :فتتعلق بطبيعة احلياة الدنيا؛ فإن اهلل مل جيعلها دار جزاء
وقرار ،بل جعلها دار متحيص وامتحان ،والفرتة اليت يقضيها املرء بها فرتة
131
قـــواعــد نبويــــة
132
قــواعد نبـــوية
لقد ذاق يوسف عليه الصالة والسالم ما ذاق ،وأصابه ما أصابه ،ومع
ذلك قابله بالصرب والصفح والعفو« ،وذلك شأن أولي الفضل من الناس ،ال
يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم ،وال يهونون أمام أنفسهم لنكبة
حلت بهم» (.)1
ومن مواضع الصرب – اليت تلوح حاجة املؤمن إىل تذكري نفسه بها :ما
دلّت عليه قصةُ ورود هذا احلديث ،فعن أبي سعيد اخلدري أن ناساً
من األنصار سألوا رسول اهلل ×؛ فأعطاهم ،ثم سألوه؛ فأعطاهم،
حتى نفد ما عنده! ثم قال« :ما يكون عندي من خريٍ فلن أدّخره
عنكم ،ومن يستعفف يعفه اهلل ،ومن يستغن يُغنِه اهلل ،ومن يتصرب
يصربه اهلل ،وما أُعطي أحدٌ عطاء هو خري وأوسع من الصرب».
إن املؤمن قد يُبتلى بضيق يف رزقه ،أو َديْنٍ يرهقه ،ولرمبا دعا ربَّه فلم
يتسع رزقه ،أو مل يُقض مجيع دَينه ،وقد ال جيد من يقرضه ،أو يسدد دَينه،
فهنا ينبغي له أن يتدثر بالصرب ،وأن جيعل هذه الوصية اليت أوصى بها النيب
× نُصبَ عينيه.
وهنا تتحامل النفوس الكرمية ،وتصرب حتى ال تُريق ماء وجهها يف
سؤال اخلَلق ،ولو كان يف شيء يسري ،بل رمبا ارتقى به احلال ،حتى يرتفع
عن السؤال يف أمرٍ يسري ،كما وقع ذلك لطائفة من أصحاب النيب × ،أخرب
عنهم عوف بن مالك رضي اهلل عنه «أن النيب × بايعه يف طائفة ،وأسرّ
133
قـــواعــد نبويــــة
إليهم كلمة خُفيةً :أن ال تسألوا الناس شيئاً؛ فكان بعضُ أولئك النفر يسقط
السوط من يد أحدهم؛ وال يقول ألحد :ناولين إياه»!(.)1
وهذا إمنا يوفّق له من قوي طمعه يف فضل اهلل ورمحته ،ورجائه لقضاء
حاجته ودفع ضرورته؛ فإن قوة الطمع يف ذلك َتقْوى معها عبوديةُ اإلنسان
ملواله ،وحريته مما سواه؛ «فكما أن طمعه يف املخلوق يوجب عبوديته له؛
فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه ،كما قيل :استغن عمن شئت تكن نظريه،
وأفضل على من شئت تكن أمريه ،واحتج إىل من شئت تكن أسريه»(.)2
«وإمنا كان الصرب أعظم العطايا :ألنه يتعلق جبميع أمور العبد
وكماالته ،وكل حالة من أحواله حتتاج إىل صرب؛ فإنه حيتاج إىل الصرب على
طاعة اهلل ،حتى يقوم بها ويؤديها ،وصرب عن معصية اهلل حتى يرتكها هلل،
وصرب على أقدار اهلل املؤملة ،فال يتسخطها ،بل صرب على نعم اهلل وحمبوبات
النفس ،فال يدع النفس مترح وتفرح الفرحَ املذموم ،بل يشتغل بشكر اهلل،
فهو يف كل أحواله حيتاج إىل الصرب ،وبالصرب ينال الفالح»(.)3
ويف هذا املعنى قال ابن اجلوزي :وإمنا جُعل الصرب خري العطاء؛ ألنه
حبسُ النفسِ عن فعل ما حتبه وإلزامها بفعل ما تكره يف العاجل ،مما لو فعله
()4
أو تركه لتأذى به يف اآلجل.
أيها األخ املبتلَى! إن من أعظم ما يعني العبد على الصرب والتصرب :أن
134
قــواعد نبـــوية
يتفكر فيما أعدّه اهلل للصابرين من الثواب اجلزيل ،وحسن العاقبة يف الدنيا،
ولو مل يكن للصابر حافز سوى قوله تعاىل :ﭽ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ
ﰘ ﭼ [الزمر ]10 :لكفاه بذلك حافزاً ومشجعاً! فكيف وقد وعد اهلل
الصابرين مبا هو أعظم وأجلّ!
فقد وعد اهلل الصابرين يف كتابه وعلى لسان رسوله أموراً عالية جليلة:
وعدهم باإلعانة يف كل أمورهم ،وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد ،وأنه
حيبهم ويثبّت قلوبهم وأقدامهم ،ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة ،ويسهّل
هلم الطاعات ،وحيفظهم من املخالفات ،ويتفضل عليهم بالصلوات والرمحة،
واهلداية عند املصيبات ،وأنه يرفعهم إىل أعلى املقامات يف الدنيا واآلخرة،
ووعدهم النصر ،وأن ييسرهم لليسرى ،وجينبهم العسرى ،ووعدهم بالسعادة
والفالح والنجاح ،وأن يوفيهم أجرهم بغري حساب ،وأن خيلف عليهم يف
الدنيا أكثر مما أخذ منهم من حمبوباتهم وأحسن ،وأن يعوِّضهم عن وقوع
املكروهات عِوضاً عاجالً يقابل أضعافَ أضعاف ما وقع عليهم من كريهة
ومصيبة ،وهو يف ابتدائه صعبٌ شديد ،ويف انتهائه سهلٌ محيد العواقب ،كما
قيل:
()1
لكن عواقبه أحلى من العسل والصرب مثل امسـه مـر مذاقتـه
()2
قال احلسن :وجدتُ اخلري فى صرب ساعةٍ.
كأني بك – أيها املبارك – قد اشتقت إىل حتصيل هذه األعطيات ،ونيل
135
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
كل العبادات تفتقر إىل الصرب.
احلياة طبعت على كدر ،ومن ال صرب له كيف يعيش؟!
إن مل تصرب فال يفوتنك التصرب.
الصرب رصيد مفتوح من الثواب بغري حساب.
136
قــواعد نبـــوية
137
قـــواعــد نبويــــة
منه أربعة آالف ومثان مائة حديث ،ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه،
ويكفي اإلنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث ،...وذكر منها هذه القاعدة:
«من حسن إسالم املرء ،تركه ما ال يعنيه»(.)1
وقد قال أبو حممد بن أبي زيد – إمام املالكية يف زمانه – :مجاع آداب
اخلري وأزمّته تتفرع من أربعة أحاديث ...وذكر منها هذا احلديث الذي ميثل
هذه القاعدة العظيمة« :من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»(.)2
ومعنى هذه القاعدة :أن من حسن إسالم اإلنسان ،وكمال دينه :أن
ل وفعل ،ومعنى يعنيه :أنه تتعلق عنايتُه به،
يرتك اخلوض فيما ال يعنيه من قو ٍ
ويكون من مقصده ومطلوبهِ شرعًا أو قدَراً ،فتحديد كون األمر يعين أو ال
يعين مردّه الشرع واحلاجة الكونية ،ال اهلوى أو النفس.
واملقصود :أنه إذا حسن إسالم املرء؛ تركَ ما ال يعنيه يف اإلسالم من
األقوال واألفعال؛ فإن اإلسالم يقتضي فعل الواجبات؛ كما بيّنه النيب × يف
( )3
حديث جربيل املشهور ،الذي سأل فيه النيب × عن اإلسالم فأخربه عنه.
قال ابن القيم رمحه اهلل« :وقد مجع النيب × الورعَ كلَّه يف كلمة واحدة
فقال« :من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه» فهذا يعم الرتك ملا ال يعين من
الكالم ،والنظر ،واالستماع ،والبطش ،واملشي ،والفكر ،وسائر احلركات
138
قــواعد نبـــوية
139
قـــواعــد نبويــــة
وا لثقافة! وقد يقرأون ألناس مشهورين بالفكر املنحرف ،ثم ال يزال هذا
املسكني يُنقَل من شبهة إىل شبهة ،ومن ضاللة إىل ضاللة ،ثم يفزع بعدها –
إن بقي فيه بقية من وازع – إىل أهل العلم ليكشفوا له تلك الشبهات
العويصة ،وقد ينجح أولئك العلماء وقد ال ينجحون؛ ألن الشُبَه عادةً ما
تكون خطّافةً ،ختطف لب اإلنسان وعقلَه ،ويكون كشفها وإزالةُ أثرها صعباً.
لقد حدّثين أحد أستاذة اجلامعات – وهو من العلماء الفضالء – أنه
عاش سنوات مع هذه الكتب الفكرية املنحرفة؛ وأنه تعب منها جداً ،وطاف
به طائف من الشك والقلق ،حتى أعانه اهلل على التخلص من آثارها ،بسبب
تدبر القرآن ،واإلفادة من كتب أئمة السنة ،وعلى رأسهم ابن القيم رمحه اهلل.
مع العلم أنه بدأ يقرأ يف هذه الكتب ،وهو حماضرٌ يف اجلامعة
ومتخصص يف الشريعة ،فما الظن مبن يقرأها من الشباب الصغار يف علمهم
وحتصينهم العلمي؟ إنها ألكثر وأعظم تأثرياً.
وإنين – بهذه املناسبة – ألنصح أحبيت الشباب أال ُيقْدِموا على قراءة
هذا النوع من الكتب إال عند احلاجة ،وبشرط مهم :وهو التحصني العلمي
القوي الذي يدفع غوائل الشُبَه ،فإن أغلى ما عند اإلنسان دينُه وعقيدتُه،
وليس من احلكمة وال من العقل يف شيء أن جيعلهما يف مهب الريح؛
تتخطفه شبهات الذين ال يوقنون!
-2ومن صور خرق هذه القاعدة الشرعية« :من حسن إسالم املرء
تركه ما ال يعنيه»:
السؤال عما ال يعين اإلنسان من تفاصيل املسائل اليت أخفى اهلل
140
قــواعد نبـــوية
ورسوله شأنهما ،ويوضح هذا املعنى ما جاء يف ترمجة أحد تالميذ اإلمام
مالك – رمحهم اهلل – حني جاءه كتاب من بعض امللوك يسأله عن كفيت
امليزان ،أمن ذهب هي أم من َورِق؟ فكتب يف اجلواب :حدثنا مالك عن
الزهري أن رسول اهلل × قال :من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه!
وهذا يقع كثرياً لبعض الطلبة – خاصة منهم املبتدئني – حني يسألون
عن تفاصيل ال أثر هلا ،بل ال داعي هلا يف العلم ،أو البحث فيما كان يسميه
العلماء :األغلوطات ،وهذا املسلك مما يَحرِم طالب العلم بركة ما يعلم،
ويقطعه عن حتصيل النافع املفيد.
ومن ذلك :االشتغال باملسائل اليت ال يرتتب عليها عمل؛ مثل مسائل
املفاضلة بني بعض األعيان ،وهلذا ملا أشار العالمة الشوكاني إىل مسألة
املفاضلة بني األنبياء واملالئكة قال« :وقد اشتغل بهذه املفاضلة قومٌ من أهل
العلم ،وال يرتتب على ذلك فائدة دينية وال دنيوية ،بل الكالم يف مثل هذا
من االشتغال مبا ال يعين ،ومن حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه»(.)1
-3ومن صور خرق هذه القاعدة الشرعية – «من حسن إسالم املرء
تركه ما ال يعنيه» –:
ما يقع لبعض الناس من تتبع الصغرية والكبرية من خصوصيات
الناس ،وهذا لو مل تأت به الشريعة لنبذته الفطرة السليمة ،ولنفرت منه
النفوس املستقيمة ،وهو مما يوجب العداوة والبغضاء ،وحيمل على العدوان
141
قـــواعــد نبويــــة
بني الناس ،وهو يف احلقيقة أحد صور التجسس ،وتتبع العورات ،والفضول
من القول والعمل ،وهي معانٍ جاءت بها نصوصٌ خاصة ،كلها تدل على
سعة معنى هذه القاعدة« :من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعينه».
-4ومن صور خرق هذه القاعدة ،االنشغال بعيوب الناس عن عيب
النفس ،وقد قال بعض أهل العلم« :طوبى ملن شغله عيبه عن
عيوب الناس ،وويلٌ ملن نسي عيبَه وتفرّغ لعيوب الناس ،فاألَول
عالمة السعادة ،والثاني عالمة الشقاوة»(.)1
-5ومن صور خرق هذه القاعدة ما نبّه إليه أبو عبدالرمحن السلمي
– وهو يتحدث عن عيوب النفس – حيث يقول« :ومن عيوبها:
تضييع أوقاتها باالشتغال مبا ال يعين من أمور الدنيا ،واخلوض
فيها مع أهلها ،ومداواتُها :أن يعلم أن وقته أعز األشياء فيشغله
بأعز األشياء ،وهو ذكر اهلل ،واملداومة على الطاعة ،ومطالبة
اإلخالص من نفسه؛ فإنه روي عن النيب × أنه قال« :من حسن
إسالم املرء تركه ما ال يعنيه» ،وقال احلسن بن منصور :عليك
بنفسك فإن مل تشغلها شغلتك»(.)2
وأختم هذه احللقة بهذه اللطيفة املتعلقة بهذه القاعدة ،فقد جاء يف
ترمجة أمحد الغزالي – أخي أبي حامد الغزالي – أنه قال على رأس منربه
142
قــواعد نبـــوية
ببغداد ،يف شعبان سنة مخس عشرة ومخس مئة :مسعت شيخي أبا بكر،
حكى عن الشيخ أبي القاسم الكركان قال :يف بداءة أمري مسعت هذا
اخلرب« :من حسن إسالم املرء تركه ما ال يعنيه» فبقيت مثانني سنة أُفْيت
( )1
مبقتضى هذا احلديث.
اللهم أشغل أوقاتنا بطاعتك ،واجعل سكوننا وحركتنا فيما يعنينا
ويرضيك.
خالصة القاعدة:
ترك ما ال يعين يوفر عليك جهداً ووقتاً.
التكلم فيما ال يعين يفتح باباً من اخلالف ال يغلق.
اشتغال البعد مبا يعنيه ،ال يدع له وقتاً يتكلم فيما ال يعنيه.
143
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة نبوية حمكمة ،جليلة الفائدة ،عظيمة املعاني ،انطوت على
«كالمٍ جامعٍ نافع ،مُحتوٍ على سعادة الدنيا واآلخرة.
فاألمور النافعة قسمان :أمور دينية ،وأمور دنيوية ،والعبد حمتاج إىل
الدنيوية كما أنه حمتاج إىل الدينية؛ فمدار سعادته وتوفيقه على احلرص
واالجتهاد يف األمور النافعة منهما ،مع االستعانة باهلل تعاىل ،فمتى حرص
العبد على األمور النافعة واجتهد فيها ،وسلك أسبابها وطرقها ،واستعان
بربه يف حصوهلا وتكميلها؛ كان ذلك كماله ،وعنوان فالحه ،ومتى فاته
واحد من هذه األمور الثالثة؛ فاته من اخلري حبسبها ،فمن مل يكن حريصاً
على األمور النافعة ،بل كان كسالناً؛ مل يدرك شيئاً ،فالكسل هو أصل اخليبة
والفشل ،فالكسالن ال يدرك خرياً ،وال ينال مكرمة ،وال حيظى بدين وال
144
قــواعد نبـــوية
دنيا ،ومتى كان حريصاً ،ولكن على غري األمور النافعة – إما على أمور
ضارة ،أو مفوّتة للكمال – كان مثرة حرصه اخليبة ،وفوات اخلري ،وحصول
الشر والضرر ،فكم من حريص على سلوك طرقٍ وأحوالٍ غريَ نافعة مل
يستفد مِن حرصه إال التعبَ والعنا َء والشقاءَ.
ثم إذا سلك العبد الطرقَ النافعة ،وحرص عليها ،واجتهد فيها؛ مل تتم
له إال بصدق اللجأ إىل اهلل ،واالستعانة به على إدراكها وتكميلها ،وأن ال
يتكل على نفسه وحَوْله وقوته ،بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على
ربه؛ فبذلك تهون عليه املصاعب ،وتتيسر له األحوال ،وتتمّ له النتائج
والثمرات الطيّبة يف أمر الدين وأمر الدنيا ،لكنّه يف هذه األحوال حمتاج – بل
مضطر غاية االضطرار – إىل معرفة األمور اليت ينبغي احلرص عليها ،واجلد
يف طلبها.
فاألمور النافعة يف الدين ترجع إىل أمرين :علم نافع ،وعمل
صاحل»(.)1
لقد كانت هذه القاعدة اجلليلة« :احرص على ما ينفعك وال تعجز»
وصية أوصى بها النيب عليه الصالة والسالم أحد أصحابه رضي اهلل عنهم؛
يقول ابن القيم رمحه اهلل« :فأمره باحلرص على األسباب ،واالستعانة
باملسبب ،ونهاه عن العجز ،وهو نوعان :تقصري يف األسباب ،وعدم احلرص
عليها ،وتقصري يف االستعانة باهلل وترك جتريدها ،فالدين كله – ظاهره
145
قـــواعــد نبويــــة
146
قــواعد نبـــوية
ملن يعرفك كيف يرجو غريك! وعجبت ملن يعرفك كيف يستعني بغريك!»(.)1
«وكل مَا يستعان بِهِ على الطَّاعَة َفهُوَ طَاعَة وَإِن كَانَ من جنس املُبَاح؛
قَالَ النيب × فِي احلَدِيث الصَّحِيح لسعد« :إِنَّك لن تنْفق َن َفقَة تبتغي بهَا
الل ْقمَة تضعها فِي فِي
وَجه اهلل إِلَّا ازددت بهَا َد َرجَة ورفعة ،حَتَّى ُّ
امْرَأَتك»(.)2
لقد قيل :إن أصدق كلمة قيلت بعد القرآن والسنة هي كلمة علي بن
أبي طالب رضي اهلل عنه« :قيمة كل امرء ما حيسنه« ،وهذه الكلمة إمنا هي
تُجَلّي معنى العبارة األوىل من هذه القاعدة النبوية وهي« :احرص على ما
ينفعك» فاحرص على أن يكون هذا الذي حتسنه هو مما ينفعك يف الدنيا
واآلخرة ،وإياك أن جتعل قيمتك تافهة ساقطة؛ فال جتعل قيمتك فيما ال
تطمع أن تراه يف صحيفة حسناتك من اللهو والعبث احملرم.
وكم هو مجيل! قبل أن تُقدم على تسنّمِ أمرٍ أن حترص على شيء مهمٍ
أرشدك إليه نبيك عليه الصالة والسالم يف هذه القاعدة؛ وهو« :ما ينفعك»
فسل نفسك :هل هذا العمل ينفعين يف الدنيا واآلخرة ،وليس فيه عليّ
ضرر؟ فإن كان كذلك فأقدِم ،لكن هل تستطيع أن تُقدم عليه وحدك؟ قد
تسقط يف حفرة ما! قد يؤذيك قطاع الطرق! قد تعرض لك عوارض من
حيث ال حتتسب! فما احليلة؟ عليك بالشطر الثاني من هذه القاعدة النبوية
147
قـــواعــد نبويــــة
العظيمة« :واستعن باهلل وال تعجز» إنك إن استعنت باهلل فلن تعجز بإذن
اهلل ،ومن توكل على اهلل فهو حسبه.
ومن أعظم ما يعني على اختيار النافع من األعمال واألقوال
واملشاريع:
-1العلم؛ فإنه يهدي إىل الفرقان بني األمور النافعة والضارة ،وبني
النافع واألنفع ،وأصل هذا العلم :علم الشريعة ،وما يعني عليه
من علوم دنيوية تتصل باألمر الذي سيقدم عليه اإلنسان ،امتثاالً
لقوله تعاىل :ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ
[األنبياء.]7 :
-2االستشارة؛ فكم من رأي يبدو لإلنسان سدادُه ،ثم بعد االستشارة
يتبني له خالف ذلك! وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن يأمر نبيه
× باالستشارة مع أنه نيب يوحى إليه! ليقتدي به من بعده من
األئمة فضالً عن عامة الناس ،وقد قيل :ما ندم من استشار ،وال
خاب من استخار.
وتشتد احلاجة إىل االستشارة كلما عظم شأن األمر الذي يُقدم عليه
اإلنسان ،كزواجٍ ،أو مشروع علمي أو جتاري كبري.
-3أن يعلم العبد أن ما ينفع لفالنٍ من الناس فقد ال ينفع لك؛
فالنفوس ليست واحدة ،واملواهب وامللكات ليست سواء بني
الناس ،والقدرات واإلمكانات ليست على نسقٍ واحد ،فرب
عملٍ يُنصح به زيد وال ينصح به عبيد ،والعكس صحيح.
148
قــواعد نبـــوية
وهلذا كان من حكمة اهلل تعاىل أن نوّع بني العبادات يف الشريعة؛ ألن
من الناس من ينشط للصالة وال ينشط للصيام ،وآخر ينشط لقيام الليل ما ال
ينشط لكثرة قراءة القرآن ،ويف هذا القصة املشهورة اليت وقعت لإلمام مالكٍ
– رمحه اهلل – حني كتب إليه عبداهلل العمري العابد حيضه على االنفراد
والعمل! فكتب إليه مالك :إن اهلل قسم األعمال كما قسم األرزاق ،فرب
رجلٍ فُتح له يف الصالة ،ومل يُفتح له يف الصوم ،وآخر فُتح له يف الصدقة ومل
يُفتح له يف الصوم ،وآخر فُتح له يف اجلهاد ،فنشر العلم من أفضل أعمال
الرب ،وقد رضيتُ مبا فُتح لي فيه ،وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنتَ فيه،
( )1
وأرجو أن يكون كالنا على خريٍ وبِرّ.
ويف باب طلب العلم ،قد يُنصح إنسان بالتفرغ لطلب العلم ،وآخر
يُنصح بأن يتفرغ لإلغاثة والعمل اخلريي؛ ألنه ليس من أحالس العلم،
وليس ممن خُلق له.
ويف أمور الدنيا؛ قد تصلح التجارة الفالنية لشخصٍ وال تصلح آلخر
وهكذا ،أو يف التخصص العلمي الدقيق؛ فقد يناسب أن يدرس إنسانٌ
الطب ،وآخر يكون علم احلاسب أنسب له :ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﭼ
[البقرة.]60 :
149
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
باحلرص على ما ينفع ،واالستعانة باهلل؛ تكتمل فصول احلياة
السعيدة.
منك احلرص على النفع وبذل السبب ،ومن اهلل العون
والتوفيق.
ليس من املعقول أن تكون مواهب الناس واحدة ،فالتنويع سنة
كونية وشرعية.
ال تقتل مواهبك يف تقمص شخصيات اآلخرين.
150
قــواعد نبـــوية
» «
« » «
» «
151
قـــواعــد نبويــــة
«من تشبه بقوم فهو منهم» خصوصاً واإلنسان يرى أنواعاً كثرية من خرق
هذه القاعدة ،وال حول وال قوة إال باهلل.
لنرجع بالذاكرة إىل الوراء قليالً ،إىل تلك السنني الزاهية من عصور
هذه األمة ،حني دخل املسلمون بالد األندلس ،فقد كانت هلم شخصيتهم
اإلسالمية املستقلة ،اليت متيزوا بها عن غريهم من الشعوب واألمم ،وقد
ظلوا خالل القرون الثالثة األوىل للوجود اإلسالمي هناك حمافظني على تلك
الشخصية اليت تأصلت فيها األخالق والقيم النبيلة ،ولكن حينما اعرتى
وجودهم الضعف ،وعصفت بهم الفنت ،وخف الوازع الديين عند بعضهم؛
بدؤوا بالتخلي عن بعض تلك األخالق ،والتأثر بأخالق وعادات غريبة
عليهم وعلى جمتمعهم ،األمر الذي جعل شخصيتهم اإلسالمية تأخذ
باالضمحالل ،ويسري فيها الضعف.
يعلق ابن خلدون رمحه اهلل على هذا فيقول( :إن املغلوب مولع
باالقتداء بالغالب يف شعاره وزيه وختلقه ،وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب
يف ذلك :أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه ...حتى إذا
كانت أمة جتاور أخرى ،وهلا الغلب عليها ،فيسري إليهم من هذا التشبه
واالقتداء حظ كبري ،كما هو يف األندلس هلذا العهد مع أمم اجلاللقة ،فإنك
جتدهم يتشبهون بهم يف مالبسهم وشاراتهم ،والكثري من عوائدهم
وأحواهلم ،حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعني احلكمة أنه من عالمات
االستيالء واألمر هلل)()1ا.هـ.
بل ذكر أحد املؤرخني أن جند مسلمي األندلس تشبهوا بالنصارى يف
152
قــواعد نبـــوية
زيهم وأسلحتهم ،ومل يقتصر األمر على هذا ،بل إن بعض مسلمي األندلس
قلّد النصارى يف االحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الدينية!(.)1
ومما ال شك فيه أن هذا االنهزام الذي مُينَ به املسلمون يف ذلك الوقت
– حينما تأثروا بالنصارى – قد متخض عنه كسر احلاجز النفسي الذي كان
موجوداً عند املسلمني إزاء العدو النصراني؛ األمر الذي جعل خمالطتهم أو
التأسي بهم أمراً مألوفاً عند بعض املسلمني هناك ،وهلذا خرجوا إىل ميادين
اجلهاد وهم غري آبهني بالعدو وال مستعدين حلربه.
وهكذا زالت مهابة املسلمني عند النصارى؛ حينما ختلوا عن أصالتهم
وقَِيمهم اإلسالمية ،حيث أصبحوا حقريين يف عني العدو ،وأقل من أن يهتم
بهم ،وقد بيَّن هذا األمر أحدُ ملوك النصارى حيث قال لرسول املعتمد بن
َعّباد ملا قدم إليه( :كيف أترك قوماً جمانني! تَسَمَّى كلُّ واحد منهم باسم
خلفائهم وملوكهم ،وكل واحد منهم ال يُسِل يف الذب عن نفسه سيفاً،
وكيف حيل لبشر أن ُيقِر منهم على رعيته أحداً وأن يدعها بني أيديهم
سدى)(.)2
وكيف يرجو مسلمٌ من عدوّه أن حيرتمه ،وعدّوه يراه يقلده يف أمورٍ
كثرية؛ ليصل إىل حماكاته؟! وهل صارت الصورة يوم ًا مبنزلة األصل؟
إن من احملزن ما يشاهده اإلنسان من تهافت شباب األمة من اجلنسني
153
قـــواعــد نبويــــة
بالذات على التشبه بالكفار يف أمور كثرية ،مع وضوح هذا احلكم الشرعي،
وتفاقمت هذه احملنة يف السنوات األخرية اليت صاحبت هذا االنفتاح
اإلعالمي والتقين ،وهذا احلزنُ مبعثه أن كثرياً من هؤالء الشباب جيهلون
مصدر عزتهم الذي هو دينهم ،وجيهلون أو يتجاهلون حقيقة مَنْ يتشبهون
بهم من أعداء اهلل تعاىل ،حتى رأينا بأعيننا صدق حديث النيب ׫ :حتى لو
دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ،فوصل احلد ببعض هؤالء إىل التشبه بالعدو
يف شيء من مناسكه وعبادته! – عياذاً باهلل تعاىل –.
ومع هذا االنهماك يف التشبه بأعداء؛ ترى أحدهم يستحي أن يتشبه
بالنيب × وصحابته الكرام! فما أعظم اخلري الذي حرمه هؤالء املتشبهني
بالكفار! وما أعظم األوزار اليت حيملونها بتشبههم ذلك ،ومن أوزار من
يضلونهم بغري علم!
لو كان هؤالء املتشبهون بأعداء اهلل من اليهود والنصارى يتدبرون ما
يقرؤون؛ لفهموا أن سورة الفاحتة تنقض عليهم مجيع صور التشبه بأهل
الكتاب – فضالً عن غريهم من الكفّار –! فإن املصلي إذا قرأ الفاحتة ،فإنه
يقول يف كلِّ مرة :ﭽﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [الفاحتة ]7 ،6 :فتأمل كيف طلبوا ربهم
أوالً أن يهديهم سبيل األنبياء والصديقني والشهداء والصاحلني – ألن من
عرف احلق؛ عرف أهله فتشبه بهم – ثم طلبوا ربهم – يف املقابل – أن يقيهم
التشبه مبن احنرفوا عن منهج اهلل – اليهود والنصارى – الذي حذّر النيب ×
من سلوك سبيلهم بقوله« :لتتبعن سنن من كان قبلكم ،شرباً شرباً ،وذراعاً
154
قــواعد نبـــوية
بذراع ،حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا :يا رسول اهلل ،اليهود
والنصارى؟ قال« :فمن»؟(.)1
إن من املهم – وحنن نتحدث عن التشبه – أن حنرر املعنى الذي يدخل
يف التشبه بالكفار ،فيقال :هو مضاهاة الكفار فيما هو من خصائصهم ،فدخل
يف هذا التشبه بهم يف األمور االعتقادية ،واألمور الظاهرة :من أقوال ،أو
أفعال قد تكون عبادات ،وقد تكون أيضاً عادات خاصةً بهم.
وهنا تساؤل مسعتُه من بعض الشباب :وماذا يضر أن أتشبه بهم يف
أمورهم الظاهرة ما دام أني مؤمن يف الباطن؟! ماذا تضر قَصةُ شَعْرٍ ،أو تقليدٌ
يف لباس ،وحنو ذلك مما اختصوا به أو صار شعاراً هلم؟
فيقال :إن مصدر هذه الكلمات هو اجلهل بارتباط الظاهر بالباطن،
واعتقاد أنه ال تأثري للظاهر على الباطن ،وال للباطن على الظاهر! وإن أدلة
القرآن والسنة لتؤكد ارتباط الباطن بالظاهر ،وتأثريِ كل واحدٍ منهما على
اآلخر؛ هلذا يقول ابن تيمية رمحه اهلل« :وهذه األمور الباطنة والظاهرة بينهما
ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور واحلال يوجب أموراً
ظاهرة ،وما يقوم بالظاهر من سائر األعمال؛ يوجب للقلب شعوراً وأحواالً.
وقد بعث اهللُ حممداً × باحلكمة اليت هي سنته ،وهي الشرعة واملنهاج
الذي شرعه له ،فكان من هذه احلكمة :أن شرع له من األعمال واألقوال ما
يباين سبيل املغضوب عليهم والضالني»( )2ثم أخذ يبني شيئاً مِن حِكَم النهي
عن خمالفة الكافرين يف هذه األمور الظاهرة فقال:
155
قـــواعــد نبويــــة
156
قــواعد نبـــوية
وحتى تتجلى الصورة أكثر؛ دعونا نربز هنا منوذجني عمليني يف النهي
عن التشبه بالكافرين:
النموذج األول:
ذكره اهلل تعاىل يف كتابه الكريم فقال :ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [البقرة« ]104 :فنهى اهلل املؤمنني عن هذه
( )1
أي :باب التشبه باليهود ولو كان ذلك يف كلمة الكلمة سَدّاً هلذا الباب»
واحدة!
النموذج الثاني:
يتضح من قصة قدوم رسول اهلل ج املدينة ،وكان هلم يومان يلعبون
فيهما ،فقال« :ما هذان اليومان»؟ قالوا :كنا نلعب فيهما يف اجلاهلية ،فقال
رسول اهلل ׫ :إن اهلل قد أبدلكم بهما خرياً منهما :يوم األضحى ويوم
الفطر»(.)2
قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل« :فوجه الداللة :أن العيدين اجلاهليني مل
يقرهما رسول اهلل × ،وال تركهم يلعبون فيهما على العادة ،بل قال« :إن
اهلل قد أبدلكم بهما يومني آخرين» واإلبدال من الشيء يقتضي ترك املبدل
منه ..ال سيما وقوله« :خرياً منهما» يقتضي االعتياض مبا شرع لنا ،عما كان
يف اجلاهلية...وأيضاً فقوله هلم« :إن اهلل قد أبدلكم» ملا سأهلم عن اليومني
157
قـــواعــد نبويــــة
إذا تبيّن هذا املعنى؛ فلعلنا خنتم هذه اإلشارات العابرة عن هذا
املوضوع الكبري ببيان حُكم التشبه بالكفار؛ ألن النيب × قال يف الشطر
األخري من قاعدتنا هذه« :فهو منهم» :أي يف اإلثم واخلري(.)3
يوضح ذلك احلكم اإلمامُ ابن تيمية – رضي اهلل عنه – فيقول« :وهذا
احلديث أقلّ أحواله أن يقتضي حتريم التشبه بهم ،وإن كان ظاهره يقتضي
كفر املتشبِّه بهم؛ كما يف قوله :ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ فقد يُحمل هذا
على التشبه املطلق؛ فإنه يوجب الكفر ،ويقتضي حتريم أبعاض ذلك ،وقد
158
قــواعد نبـــوية
حيمل على أنه منهم يف القدر املشرتك الذي شابههم فيه ،فإن كان كفراً ،أو
معصية ،أو شعاراً هلم؛ كان حكمه كذلك»(.)1
ويقول ابن كثري رمحه اهلل عن هذه اجلملة «فهو منهم»« :ففيه داللة
على النهي الشديد والتهديد والوعيد ،على التشبه بالكفار يف أقواهلم
وأفعاهلم ،ولباسهم وأعيادهم ،وعباداتهم ،وغري ذلك من أمورهم اليت مل
تشرع لنا وال ُنقَرَّر عليها»(.)2
اللهم اجعلنا ممن يتأسون بنبيك وعبادك الصاحلني ،وجنبنا التشبه
بأعداء الدين.
خالصة القاعدة:
التشبه باألفراد كالتشبه باألقوام ،يستويان يف املدح والذم.
املسلم له دين يرسم عقيدته وسلوكه ومظهره ،فلم التشبه
بالكافرين!
ما أقبح أن تنصهر شخصية املسلم يف شخصية الكافر.
كن قدوة يُتَشَبهُ بك يف كل خري ونفع.
159
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة نبوية حمكمة يف أبواب األدب واألخالق ،اليت حتث املسلم
على أن يكون يقظاً نبيهاً ،لقد ذكر أهل العلم يف ضبط كلمة (يلدغ) وجهني
حيسن التنبيه إليهما؛ ألثرهما يف فهم هذه القاعدة:
«الوجه األول :ال يُلدغُ – بضم الغني – على أن (ال) نافية ،فيكون
هذا على وجه اخلرب ،ومعناه :أن املؤمن هو الكيّس احلازم ،الذي ال يؤتى من
جهة الغفلة فيُخدع مرةً بعد أخرى وال يفطن ،واملراد يف أمر الدين.
الوجه الثاني :ال يُلدغِ – بكسر الغني – على أن (ال) ناهية ،فعلى هذا
يكون املعنى :ال يُخْدَعن املؤمنُ ،وال يُقربنّ من ناحية الغفلة ،فيقع يف مكروهٍ
أو شرٍ وهو ال يشعر ،وليكن فطناً حذراً ،وهذا التأويل يصلح أن يكون ألمر
الدين والدنيا»(.)2
«
»
160
قــواعد نبـــوية
إن هذه القاعدة النبوية «أدبٌ شريف ،أدّب به النيب × أمتَه ،ونبههم
كيف حيذرون ما خيافون سوءَ عاقبته ،وهذا الكالم مما مل يُسبق إليه النيب
()1
أي يف التعبري عنه ،وإال فمعناه مركوز يف الفطر ،ومستقر لدى ×»
العقالء – فضالً عن األنبياء عليهم الصالة والسالم – وهلذا ملا طلب إخوة
يوسف عليه الصالة السالم من أبيهم أن يبعث معهم أخاهم بنيامني ،قال
هلم يعقوب عليه الصالة والسالم كلمة هي ترمجة حرفية هلذه القاعدة النبوية:
ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭼ [يوسف:
]64ويف خواتيم سورة التوبة؛ نعى اهلل على املنافقني عدم اعتبارهم
وادكارهم فقال تعاىل :ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﭼ [التوبة.]126 :
وملا بوّب البخاري على هذا احلديث أعقبه بقول معاوية – رضي اهلل
عنه – ( :ال حكيم إال ذو جتربة) ،أي :ال حتصل احلِكمة حتى جيرِّب األمور،
ويعثر فيها؛ فيعترب بها ،ويستبني مواضع اخلطأ وجيتنبها.
ويروى هذا احلرف بلفظ( :ال حليم إال ذو جتربة) واملعنى :ال يكون
حليماً كامالً إال من وقع يف زلة وحصل منه خطأ؛ فحينئذ خيجل ،فينبغي ملن
كان كذلك أن يسرت من رآه على عيب؛ فيعفو عنه (.)2
وكما أن هذا املعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة مطلوبٌ يف أمر
161
قـــواعــد نبويــــة
الدنيا؛ فكذا يف أمر اآلخرة ،فاملؤمن ميتنع من اقرتاف السيئات اليت تضره
مقارفتُها ،ثم متى وقع يف شيءٍ منها؛ فإنه يف احلال يبادر إىل الندم والتوبة
واإلنابة ،وهلذا ملا سئل اإلمام أَمحد بن حنبل – رمحه اهلل – عن معنى هذه
القاعدة النبوية« :ال يلدغ املؤمن من جحر واحد مرتني» ،نبّه على معنى
شريف من أشرف معانيها ،وقلّ من ينتبه له :فقال :إن وقع مرة يف ذنب فال
يعد فيه()1ا.هـ.
ومن متام االعتبار بهذه القاعدة يف هذا الباب :أن حيذر غاية احلذر من
ذلك السبب الذي أوقعه يف الذنب ،كحال من أدخل يده يف جُحرٍ فلدغته
حَيَّة؛ فإنه بعد ذلك ال يكاد يُدخِل يَده يف ذلك اجلُحر؛ ملا أصابه فيه أول
مرة.
ويف التنصيص على «املؤمن» يف هذا احلديث ،إشارة إىل أن اإلميان كما
يَح ِملُ صاحبَه على فعل الطاعات ،ويرغِّبه فيها ،وحيزنه لفواتها؛ فكذلك
يزجره عن مقارفة السيئات ،وإن وقعت بادر إىل النزوع عنها ،ومل َيعُد إىل
مثل ما وقع فيه.
ومن دالالت هذه القاعدة النبوية:
– احلث على احلزم والكَيْس يف مجيع األمور ،ومن لوازم ذلك :تعرف
األسباب النافعة ليقوم بها ،واألسباب الضارة ليتجنبها.
– واحلثّ على جتنب أسباب الرِّيب اليت خيشى من مقاربتها الوقوع يف
الشر.
162
قــواعد نبـــوية
– وأن الذرائع معتربة ،وقد حذّر اهللُ املؤمنني من العود إىل ما زيّنه
الشيطان من الوقوع يف املعاصي ،فقال :ﭽﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩﭼ [النور]17:؛ وهلذا فإن من ذاق
الشر من التائبني تكون كراهته له أعظم ،وحتذيره وحذره عنه أبلغ؛
ألنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة»(.)1
وبعد :فإن املؤمن إن لدغ من جهة توبته ،ووقع مرةً أخرى يف الذنب،
فإن ذلك ال ينبغي أن حيمله على االستمرار؛ فإن الربّ تواب حيب التوابني،
ح له باباً من أبواب العبودية ،والتواضع،
وليعلم أن هذا العودَ للذنب يفت ُ
واخلشوع والذل ،والشعور بالضعف والقصور ،ويف املقابل :استشعار كمال
اهلل تعاىل ،وشدة افتقاره إىل ربه ،وأن هذا العوْدَ ينبغي أن يورثه رغبةً يف كثرة
األعمال الصاحلة ،ونفرةً قويةً عن السيئات؛ فإن النيب × قال« :ال يلدغ
املؤمن من جحر مرتني»(.)2
وهلذا جتد التائب الصادق أثبت على الطاعة ،وأرغب فيها ،وأشد
حذراً من الذنب ،مِن كثري من الذين مل يبتلوا بذنب ،كما يف الصحيحني من
حديث أسامة بن زيد ،فإنه ملا قتل رجالً بعد أن قال :ال إله إال اهلل ،فقال
النيب ׫ :أقتلته بعد أن قال :ال إله إال اهلل»؟! أثّر هذا فيه جداً حتى متنى
أنه مل يسلم إال يومئذ! وبقي هذا األثر معه إىل أن وقعت الفتنة بني الصحابة
163
قـــواعــد نبويــــة
رضي اهلل عنهم ،فامتنع أن يقتل أحداً يقول :ال إله إال اهلل»(.)1
ومما سبق يتبني أن اإلميان ال يتفق مع الغفلة ،بل يقتضي احلذر
واحليطة.
وينبغي للمؤمن أن يفرق بني سالمة القلب وبني البَ َله والغفلة،
« فسالمة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته ،فيسلم قلبه من
إرادته وقصده ال من معرفته والعلم به ،وهذا خبالف البله والغفلة؛ فإنها
جهل وقلة معرفة ،وهذا ال يُحمد؛ إذ هو نقص ،وإمنا يَحمَد الناسُ من هو
كذلك لسالمتهم منه ،والكمال أن يكون القلب عارفاً بتفاصيل الشر ،سليماً
خببٍ وال خيدعين
من إرادته ،قال عمر بن اخلطاب –رضي اهلل عنه–« :لست ِ
اخلِب» ،وكان عمر أعقل من أن يُخْدَع ،وأورع من أن يَخْدع (.)2
ودلّت القاعدة :على أن الذين ال يتعظون باملَثُالت ،وال يستفيدون من
التجارب؛ مل يكمل اإلميان بعدُ يف نفوسهم ،وإن كانوا يف أنفسهم صاحلني،
ولكثري من العبادات حمققني ،فاملؤمن كيّس فطِن ،شيمته االعتبار بالتجارب.
وتتسع دالالت هذه القاعدة النبوية لتشمل الدولة واألمة بأكملها ،فإن
من عالمة توفيق اهلل للدول واألمة واألئمة واحلكام :أن يعتربوا مبا مضى من
احلوادث والتجارب ،اليت مرّت بهم أو مرّت بغريهم ،وهلذا كان من لطيف
خطابات األنبياء – عليهم الصالة والسالم – ألممهم :تذكريهم مبا جرى
164
قــواعد نبـــوية
خالصة القاعدة:
املؤمن ينبغي أن يتميز باحليطة واحلذر.
الناجح :من يبين مستقبله بدروس املاضي واحلاضر ،والفاشل:
من يهدم مستقبله بأخطاء املاضي واحلاضر.
للشيطان مصائد ..فما أدركت منها فاحذر أن تقع فيه مرة
أخرى.
165
قـــواعــد نبويــــة
166
قــواعد نبـــوية
فمن هو هذا الولي الذي تكفل اهلل بالدفاع عنه ،وبأن ينتقم من
أعدائه؟
لقد بني صاحب الشأن سبحانه يف كتابه الكريم صفة أوليائه فقال:
ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ [يونس.]63 – 62 :
فاإلميان والتقوى هما شرطا والية احلق سبحانه ،فمن آمن باهلل واتقاه؛
تواله اهلل.
167
قـــواعــد نبويــــة
والولي ال يكون ولياً هلل إال مبتابعة الرسول باطناً وظاهراً ،فعلى قدر
املتابعة للرسول يكون قدر الوالية هلل ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭼ [آل عمران.)1(]31 :
بهذا نعلم أن «والية اهلل سبحانه وتعاىل ال تأتي بالدعوى – كما يفعله
بعض الدجالني الذين ميوهون على العامة بأنهم أولياء هلل وهم أعداء والعياذ
باهلل – فتجد يف بعض البالد اإلسالمية أناساً ميوِّهون للعامة؛ يقولون :حنن
أولياء! ثم يفعل من العبادات الظاهرة ما ميوِّه به على العامة وهو من أعداء
اهلل ،لكنه يتخذ من هذه الدعوة وسيلة إىل مجع املال ،وإىل إكرام الناس له،
وإىل تقربهم إليه وما أشبه ذلك»(.)2
فإن قلتَ :هل من شرط الولي أن ال يقع يف ذنب؟
فاجلواب :ال! فليس «من شرط أولياء اهلل املتقني أال يكونوا خمطئني يف
بعض األشياء خطأ مغفوراً هلم؛ بل وال من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً«(،)3
بل قد يقعون يف كبرية من الكبائر؛ فقد قال اهلل عن أوليائه املتقني:
ﭽﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﭼ
[آل عمران ،]135 :إذا عرفت هذا؛ فما هي صور معاداة أولياء اهلل؟ حتى
يسعى املسلم الجتنابها ،وينفض عنه ما علق به من غبارها.
168
قــواعد نبـــوية
169
قـــواعــد نبويــــة
عاداه ألجل والية اهلل ،وأما إذا كانت ألحوال تقتضي نزاعاً بني وليني هلل –
حماكمة أو خصومة راجعة إىل استخراج حق غامض – فإن ذلك ال يدخل يف
هذا احلديث؛ فإنه قد جرى بني أبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما خصومة،
وبني العباس وعلي رضي اهلل عنهما ،وبني كثري من الصحابة ،وكلهم كانوا
أولياء هلل عز وجل»(.)1
إن التعدي على أولياء اهلل من املؤمنني ذنبٌ شنيع ،ودَينٌ ثقيل حيمله
صاحبه على كاهله« ،وهلذا غضب اهلل جلربيل على من عاداه ،فقال :ﭽ ﮋ
()2
ﮌ ﮍﮎ ﮏﮐ ﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗﮘ ﭼ »
وأين سيفر هذا املؤذي ألولياء اهلل – والساعي يف إذالهلم – من قول اهلل:
()3
«فقد آذنته باحلرب»؟!
فقد يصيبه اهلل ببلية ،أو يرزؤه مبرض ،أو يفجعه مبهانة وذلة بعد عز،
أو يسلط عليه عدواً ،أو يعذبه حببيب !...وما يعلم جنود ربك إال هو!
قال السدي :مل يبعث اهلل رسوالً قط إىل قومٍ فيقتلونه ،أو قوماً من
املؤمنني يدعون إىل احلق فيُقتلون ،فيذهب ذلك القرن؛ حتى يبعث اهلل هلم
من ينصرهم ،فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم يف الدنيا ،قال :فكانت
()4
األنبياء واملؤمنون يُقتلون يف الدنيا ،وهم منصورون فيها.
«
»
170
قــواعد نبـــوية
وهلل در البقاعي – رمحه اهلل – حني أخذ العربة من قول احلق سبحانه:
ﭽ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﭼ [الفيل ]2 :فقال« :وهذا مشري إىل أن كل
من تعرّض لشيء من حرمات اهلل – كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو
عامل من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصري – وقع يف َمكْرِه ،وعاد
عليه وبالُ شرِّه «من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب» (.)1
إذا تبني هذا؛ فقد أخذ أهل العلم مبفهوم هذا احلديث فقالوا« :وإذا
ثبت هذا يف جانب املعاداة؛ ثبت يف جانب املواالة :فمن واىل أولياء اهلل
أكرمه اهلل»(.)2
اللهم اجعلنا من أوليائك املتقني ،ومن حزبك املفلحني ،إنك مسيع
قريب.
خالصة القاعدة:
إميان +تقوى = والية.
ليس من لوازم الوالية ثوب ممزق ،وجسد حنيل ،لكن الوالية شيء يف
القلب يصدقه العمل.
حينما يعظم الغنم يعظم الغرم ،فمن واىل أولياء اهلل حاز الفضل من اهلل،
كما أن من عادى أولياء اهلل حرَبه اهلل.
ولي اهلل منصور ،وعدو اهلل خمذول.
171
قـــواعــد نبويــــة
172
قــواعد نبـــوية
«
»
173
قـــواعــد نبويــــة
174
قــواعد نبـــوية
» «
175
قـــواعــد نبويــــة
176
قــواعد نبـــوية
وتأمل يف هذه القصة اليت رواها البخاري عن عائشة – رضي اهلل عنها
– قالت« :كان ألبي بكر غالم يُخرج له اخلراج ،وكان أبو بكر يأكل من
خراجه ،فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ،فقال له الغالم :أتدري ما هذا؟
فقال أبو بكر وما هو؟ قال :كنت تكهّنت إلنسان يف اجلاهليّة ،وما أُحسن
الكهانة ،إلّا أنّي خدعته فأعطاني بذلك! فهذا الّذي أكلتَ منه؛ فأدخل أبو
بكر يده فقاء كلّ شيء يف بطنه)!( ،)1وما أحسن قول أبي العتاهية:
ـس الدين إال مكارم األخـالق لـــيس دنيـ ـاً إال بـــدين ،وليــــ
هما مـن خصـال أهـل النفـاق إ منــا املكــر واخلديعــة يف النــار
وَأخرج ابن أبي الدنيَا عَن يزِيد العيص قال :سَأَلت مُوسَى بن أعني
عن قوله عز وجل ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ قال :تنزهوا عَن أشياء
()2
من احلَلَال مَخَافَة أَن يقعوا فِي احلرَام؛ فسماهم اهلل متقني.
خالصة القاعدة:
(فليس منا) كيف يرضى بهذا الغاش!
ما ترتب على الغش كلُّه شر وممحوق الربكة.
بني الغش والصدق :مراقبة اهلل.
177
قـــواعــد نبويــــة
ع
كل شيء»؟
معنى
هذا عموم ال ينخرم منه شيءٌ! فلنلقِ نظرةً على بعض ما يشمله ث
مي هذه القاعدة اجلليلة:
-1فاإلحسان يف عبادة اهلل ،ويف العالقة مع اهلل ،هو من أعظم ي
هذه
ن
املعاني اليت تشملها هذه القاعدة ،وهو الذي فسّره النيب ×
)
بقوله« :أن تعبداهلل كأنّك تراه» ،ومن وفّق لإلحسان فقد بلغ من
الكمال مبلغاً عظيماً من مقامات العبودية.
178
قــواعد نبـــوية
179
قـــواعــد نبويــــة
اإلحسان :هو بذلُ مجيع املنافع من أي نوعٍ كان ،ألي خملوق يكون،
ولكنه يتفاوت بتفاوت احملسَن إليهم ،وحقهم ومقامهم ،وحبسب اإلحسان،
وعظم موقعه ،وعظيم نفعه ،وحبسب إميان احملسن وإخالصه ،والسبب
الداعي له إىل ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع اإلحسان :اإلحسان إىل من أساء إليك بقول أو فعل،
قال تعاىل :ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﭼ
[فصلت ،]35–34:ومن كانت طريقته اإلحسان أحسن اهلل جزاءه :ﭽ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [الرمحن ،]60:ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕﭼ [يونس ،]26:ﭽ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ
[الزمر ،]10:ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [األعراف]56 :
أي :احملسنني يف عبادة اهلل ،احملسنني إىل عباد اهلل»(.)1
واعلم أن اإلحسان له ميادين عدة يتجلى فيها ،ال حيصره ميدان
()2
واحدة من حَلَبات هذه احلياة الدنيا ،دعونا نتأمل واحد ،وال تسعه حلْبة
يف أهم ميادين اإلحسان اليت نص عليها القرآن:
-1اإلحسان يف :مواجهة امللمّات بالصّرب عليها ،قال تعاىل :ﭽ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [هود.]115 :
180
قــواعد نبـــوية
181
قـــواعــد نبويــــة
182
قــواعد نبـــوية
اجملتمعات الّيت تقوم على االستغالل واالحتكار تفرز الطّبقيّة ،وتبذر بذور
الصّراع االجتماعي يف الدّاخل ،وتؤدّى إىل الصّراعات العامليّة يف اخلارج،
وينتج عن ذلك شقاء الفريقني مجيعاً ،املستغِلّون واملستغَلّون.
إنّ متكّن هذه اآلفات االجتماعيّة يف كلتا الطّبقتني هو التّهلكة الّيت
تشري إليها اآلية الكرمية وحتذّر منها وتدعو إىل معاجلتها باإلحسان
واإلنفاق(.)1
وهكذا نرى اإلحسان يشمل الفرد واجملتمع ،والدّولة واحلياة بأسرها،
وأنّه لن تقوم تربية راشدة إلّا إذا غرسنا معنى اإلحسان يف النّفوس على أنّه
من حمابّ اهلل تعاىل ،وقد تضمّن اإلحسان كما رأينا :النّوايا واملقاصد
والعبادات ،كما تناول األقوال واألفعال ،ليس هذا فحسب؛ وإنّما مشل
أيضاً اإلحسان إىل املخلوقات كافّة من حيوان ومجاد ونبات»(.)2
خالصة القاعدة:
ليكن لك يف كل ميدان من ميادين اإلحسان نصيب.
أحسن ثم ال يضرك مع من أحسنت؛ فاإلحسان كله خري.
اإلحسان طريق سالك إىل اجلنة.
كل أنواع اإلحسان ومتعلقاته تتوافق وال تتخالف ،وتتكامل وال تتآكل.
.
183
قـــواعــد نبويــــة
184
قــواعد نبـــوية
يف هذا الباب؛ فيقول« :ويف جمموع هذه األلفاظ ما يُعرف منه أن املراد
باإلنزال يف حديث الباب هو :إنزال علم ذلك على لسان املَلَك للنيب ×
مثالً ،أو عبَّر باإلنزال عن التقدير»(.)1
إن هذه القاعدة «أصلٌ عظيمٌ ثابت بالكتاب والسنة ،ويؤيده العقلُ
والفطرة؛ فاملنافع الدينية والدنيوية واملضار كلها بقضاء اهلل وتقديره ،قد
أحاط بها علماً ،وجرى بها قلمُه ،ونفذت بها مشيئتُه ،ويسّر العبادَ لفعل
األسباب اليت توصلهم إىل املنافع واملضار ،فكلٌ ميسّر ملا خلق له – مِن
مصاحل الدين والدنيا ،ومضارهما – والسعيد من يسَّره اهللُ أليسر األمور
وأقربها إىل رضوان اهلل ،وأصلحها لدينه ودنياه ،والشقي من انعكس عليه
األمر.
وعموم هذا احلديث يقتضي :أن مجيع األمراض الباطنة والظاهرة هلا
أدوية تقاومها ،تدفع ما مل ينزل ،وترفع ما نزل بالكلية ،أو ختففه.
ويف هذا :الرتغيب يف تعلّم طب األبدان( ،)2كما يُتعلم طبُّ القلوب،
وأن ذلك من مجلة األسباب النافعة ،ومجيعُ أصول الطب وتفاصيلُه ،شرحٌ
هلذا احلديث؛ ألن الشارع أخربنا أن مجيع األدواء هلا أدوية ،فينبغي لنا أن
نسعى إىل تعلمها ،وبعد ذلك إىل العمل بها وتنفيذها.
وقد كان بعض األمراض يظن كثريٌ من الناس أنه ليس له دواء –
كالسِّل وحنوه – وعندما ارتقى علم الطب ،ووصل الناس إىل ما وصلوا إليه
»
185
قـــواعــد نبويــــة
()1
– إال من علمه؛ عرف الناسُ مصداق هذا احلديث ،وأنه على عمومه
اهلرم واملوت فال شفاء هلما.
وأصول الطب :تدبري الغذاء؛ بأن ال يأكل حتى تصدق الشهوةُ،
وينهضم الطعامُ السابق انهضاماً تاماً ،ويتحرى األنفع من األغذية ،وذلك
حبسب حالة األقطار واألشخاص واألحوال ،وال ميتلئ من الطعام امتالء
يضره مزاولتُه ،والسعيُ يف تهضيمه ،بل امليزان قوله تعاىل :ﭽ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭼ [األعراف.)2( ]31 :
ومن القصص اليت يَحسُن إيرادها يف هذا املقام :أنه نُقل أن الرشيد
كان له طبيب نصراني حاذق ،فقال لعلي بن احلسني بن واقد :ليس يف
كتابكم من علم الطب شيء! فقال علي :قد مجع اهلل تعاىل الطب يف نصف
آية من كتابنا! قال :ما هي؟ قال :قوله تعاىل :ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ
قال النصراني :وال يؤثَر عن نبيكم شيء من الطب! فقال :قد مجع رسولُنا
علمَ الطب يف ألفاظ يسرية ،قال :وما هي؟ قال« :املعدة بيت الداء ،واحلمية
()3
فقال النصراني :ما ترك كتابُكم رأس الدواء ،وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد»
()4
وال نبيُكم جلالينوس طباً!
«
«
« «
«
186
قــواعد نبـــوية
«
«
187
قـــواعــد نبويــــة
داء دواء ،فإذا أصيب دواءُ الداء بَرِأ بإذن اهلل عز وجل»( – )1فمدار ذلك كله
على تقدير اهلل وإرادته ،والتداوي ال ينايف التوكل ،كما ال ينافيه دفعُ اجلوع
والعطش باألكل والشرب ،وكذلك جتنب املهلكات ،والدعاء بطلب العافية،
ودفع املضار ،وغري ذلك.
ومما يدخل يف قوله ׫ :وجهله مَنْ َ
جهِلَهُ» ما يقع لبعض املرضى،
أنه يتداوى من داءٍ بدواءٍ فيربأ ،ثم يعرتيه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك
الدواء بعينه فال ينجع! والسبب يف ذلك :اجلهل بصفةٍ من صفات الدواء؛
فرُب مَرَضني تشابها ،ويكون أحدهما مركباً ال ينجع فيه ما ينجع يف الذي
ليس مركباً! فيقع اخلطأ من هنا ،وقد يكون متّحداً لكن يريد اهلل أن ال ينجع
فال ينجع ،ومن هنا ختضع رقاب األطباء!»(.)2
وهلذا قيل:
ما دام يف أجل اإلنسـانِ تـأخري إن الطبيب لـذو عقـل ومعرفـة
حار الطبيـبُ وخانتـه العقـاقري حتى إذا ما انقضـت أيـامُ مدتـه
إذا تبني هذا ،فليعلم اجلميعُ أن النيب × قال يف هذا الباب« :إن اهلل مل
جيعل شفاءكم فيما حَرّم عليكم»( ،)3فال جيوز ملريض أو ممرض أن يستعمل
شيئاً حرمه اهللُ تعاىل أو رسولُه؛ زاعماً أن فيه شفاؤه! وأنه داخل يف هذه
القاعدة «ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء»! كالسحر ،أو اخلمر ،أو املوسيقى
188
قــواعد نبـــوية
– خاصة عند أطباء املرضى النفسيني –...أو غري ذلك مما حرمه ديننا
احلنيف؛ فكالم رسول اهلل يفسِّر بعضُه بعضاً ،وعمومُ هذه القاعدة خيصصها
قوله« :مل جيعل شفاءكم فيما حرم عليكم».
إن «التمريض ضروري ،واملهنة ال بد منها ،لكن بشرط :أن نبقى
متمسكني بأحكام ديننا ،فال نُغضِب ربنا لنَشفي مريضَنا ،والشفاء من اهلل،
واهلل ال يشفي مبعصيته ،بل يشفي بطاعته ،وإذا زال املرض عن اجلسد مؤقتاً
يف هذه احلياة الدنيا باملعصية؛ فإن احلياة احلقيقية الطويلة هي اآلخرة ،فماذا
ينفعنا شفاءُ املرض هنا وأن نبتلى مبرض احلريق بنار جهنم؟!»(.)1
خالصة القاعدة:
لِم تهتم وتغتم وأنت تعلم أن لكل داء دواء!
التداوي مطلب شرعي وعقلي.
الدين احلق يفتح لك أفق البحث العلمي.
إذا نزل الشفاء نفع الدواء.
189
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة جليلة ،ترسم للبشرية خطوطَ احلياة السعيدة؛ لينعم كلُّ
فردٍ مبا وهبه اهلل يف هذه الدنيا من ُعمُر ،بل وجيد املسلم اللذتني :يف الدنيا
واآلخرة.
« فرمحة العبد للخلق من أكرب األسباب اليت تُنال بها رمحة اهلل ،اليت من
آثارها خريات الدنيا ،وخريات اآلخرة ،وفقْدُها من أكرب القواطع واملوانع
لرمحة اهلل ،فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها؛ فليعمل مجيع األسباب اليت
تنال بها رمحته ،وجتتمع كلها يف قوله تعاىل :ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢﭼ [األعراف ،]56:وهم احملسنون يف عبادة اهلل ،احملسنون إىل عباد
اهلل ،واإلحسان إىل اخللق أثر من آثار رمحة العبد بهم.
والرمحة اليت يتصف بها العبد نوعان:
النوع األول :رمحة غريزية ،قد جبل اهللُ بعضَ العباد عليها ،وجعل يف
190
قــواعد نبـــوية
قلوبهم الرأفةَ والرمحةَ واحلنانَ على اخلَلْق؛ ففعلوا مبقتضى هذه الرمحة مجيعَ
ما يقدرون عليه من نفعهم حبسب استطاعتهم ،فهم حممودون مثابون على ما
قاموا به ،معذورون على ما عجزوا عنه ،ورمبا كتب اهلل هلم بنياتهم الصادقة
ما عجزت عنه قواهم.
والنوع الثاني :رمحة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة ،جتعل
قلبَه على هذا الوصف ،فيعلم العبدُ أن هذا الوصف مِن أجلِّ مكارم
األخالق وأكملها؛ فيجاهد نفسَه على االتصاف به ،ويعلم ما رتَّب اهلل عليه
من الثواب ،وما يف فواته من حرمان الثواب؛ فريغب يف فضل ربه ،ويسعى
بالسبب الذي ينال به ذلك ،فال يزال العبد يتعرّف األسبابَ اليت يدرك بها
هذا الوصف اجلليل ،وجيتهد يف التحقق به؛ حتى ميتلئ قلبه من الرمحة،
واحلنان على اخللق ،ويا حبذا هذا اخلُلق الفاضل ،والوصف اجلليل الكامل.
وهذه الرمحة اليت يف القلوب :تظهر آثارُها على اجلوارح واللسان ،يف
السعي يف إيصال الرب واخلري واملنافع إىل الناس ،وإزالة األضرار واملكاره
عنهم»(.)1
فإن قلت :كيف أعرف أن الرمحة موجودة يف قليب؟
فاجلواب :أن لذلك عالمة ،وهي أن تكون حمباً لوصول اخلري لكل
اخللق ،وللمؤمنني خصوصاً ،ويف مقابل ذلك :أن تكره حصول الشر
والضرر عليهم.
191
قـــواعــد نبويــــة
ومن صور الرمحة اليت قد ختتفي عند بعض الناس :الرمحة باألطفال
الصغار والرقة عليهم ،وإدخال السرور عليهم ،وأما عدم املباالة بهم ،وعدم
الرقة عليهم؛ فجفاء وغلظة ،كما قال بعض جُفاة األعراب –حني رأى النيب
× وأصحابَه يقبِّلون أوالدَهم الصغار– :إنّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت
واحداً منهم! فقال النيب × « :أو أملك لك شيئاً أن نزع اهلل من قلبك
الرمحة؟»(.)1
وتأمل معي كيف كان خلق الرمحة سبباً يف رمحة اهلل تعاىل المرأة مل
تعرف إال بأسوأ ما ميكن أن تُوصف به املرأة ،إنها البغي من بين إسرائيل،
حني رمحت ذلك الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش؛ فسقته فغفر اهلل
هلا ،بسبب تلك الرمحة!
ويف مقابل هذا :تأمل كيف عذّب اهلل امرأةً بالنار ،حني ربطت اهلرة،
ال هي أطعمتها وسقتها ،وال هي تركتها تأكل من خشاش األرض( ،)2حتى
ماتت ،ويف هذا املعنى يقول العالمة السعدي – رمحه اهلل –« :ومن ذلك ما
هو مشاهد جمرب :أن من أحسن إىل بهائمه باإلطعام والسقي واملالحظة
النافعة؛ أن اهلل يبارك له فيها ،ومن أساء إليها :عوقب يف الدنيا قبل
اآلخرة»ا.هـ(.)3
صفُورِ»(.)4
حمَةِ ا ْلعُ ْ
قال مُطَرِّفٍ بن عبداهللَ« :إِنَّ اللَّهَ لَيَ ْرحَمُ بِ َر ْ
192
قــواعد نبـــوية
193
قـــواعــد نبويــــة
من اخلريات ما فعلوا وكانت عاقبتهم مثل هذا؟ فقال له ذلك اخلادم :يكفهم
ذكرك هلم بفعل اجلميل وأنت على مثل هذه احلال! وهل يبقى بعد اإلنسان
إال ذِكرٌ مجيل أو قبيح ،وهل بعد املوت سوى منزلني :إما اجلنّة أو النار!»(.)1
فعوِّد نفسك الرمحةَ أيها املؤمن؛ فإنك مضطرٌ إىل رمحة اهلل ،ودرّب
نفسك وهذّبها على الرمحة وإذهاب القسوة ،واحرص على خمالطة الرمحاء
عسى أن تُرحم ،وأن تكون رحيماً ،وتسلم من ضدها قال ׫ :ال تنزع
الرمحة إال من شقي»(.)2
اللهم امأل قلوبنا رمحة ألنفسنا ولعبادك ،واجعلنا من عبادك الرمحاء،
واهدنا يا ربنا ألحسن األخالق واألعمال ،وجنبنا سيئها؛ ال ميلك ذلك إال
أنت.
خالصة القاعدة:
إن كمال الرمحة أن تتعامل مع اخللق مبا ميليه عليك دينُك.
اجلزاء من جنس العمل؛ فاطلب رمحة اهلل برمحة خلقه.
كاشف وجود الرمحة يف القلب هو إرادة اخلري للخلق.
194
قــواعد نبـــوية
195
قـــواعــد نبويــــة
والسالم جعل للذي ميلك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس
للذي يغلب الناس ويصرعهم( ،)1ومن هذا احلديث قال احلسن البصري
«حني سئل أي اجلهاد أفضل؟ فقال :جهادك نفسك وهواك»(.)2
يقول ابن القيم رمحه اهلل« :مسعت شيخنا – يعين ابن تيمية – يقول:
جهاد النفس واهلوى أصل جهاد الكفار واملنافقني؛ فإنه ال يقدر على
جهادهم حتى جياهد نفسه وهواه أوالً حتى خيرج إليهم ،فمن قهر هواه عز
()3
وساد ،ومن قهره هواه ذل وهان ،وهلك وباد».
ولعظيم أمر الغضب عطف اهللُ بذكره بعد ذكر كبائر الذنوب
والفواحش فقال سبحانه :ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [الشورى.)4(]37 :
لقد جاء هذا االهتمام البالغ بأمر الغضب؛ ملا جينيه على صاحبه من
جنايات عظيمة إن مل يكظمه ويدافعه(.)5
وقال بعض العلماء :الكفر يف أربعة أشياء :يف الغضب ،والشهوة،
والرغبة ،والرهبة ،ثم قال :رأيت منهن اثنتني :رجالً غضب فقتل أمّهُ،
()6
ورجالً عشق فتنصّر.
196
قــواعد نبـــوية
«
»
197
قـــواعــد نبويــــة
خُلُقه ،وتلقاه حبلمه وصربه ،ومعرفته حبسن عواقبه؛ فإن األمر بالشيء أمرٌ به
ومبا ال يتم إال به ،والنهيُ عن الشيء أمرٌ بضده وأمرٌ بفعل األسباب اليت
تعني العبد على اجتناب املنهي عنه ،وهذا منه.
الثاني :األمر – بعد الغضب – أن ال يُنفِذ غضبَه؛ فإن الغضب غالباً ال
يتمكن اإلنسانُ من دفعه ورَدِّه ،ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه ،فعليه إذا
غضب أن مينع نفسه من األقوال واألفعال احملرمة اليت يقتضيها الغضب.
فمتى منع نفسَه مِن فعل آثار الغضب الضارة؛ فكأنه يف احلقيقة مل
يغضب ،وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية ،والقوة القلبية؛ كما يف
قاعدتنا هذه« :إمنا الشديد الذي ميلك نفسه عند الغضب».
فكمال قوة العبد :أن ميتنع من أن تؤثر فيه قوة الشهوة وقوة الغضب
اآلثارَ السيئة ،بل يصرف هاتني القوتني إىل تناول ما ينفع يف الدين والدنيا،
وإىل دفع ما يضر فيهما.
فخري الناس :من كانت شهوته وهواه تبعاً ملا جاء به الرسول ×،
وغضبُه ومدافعتُه يف نصر احلق على الباطل.
وشر الناس :من كان صريعَ شهوته وغضبه»(.)1
ومما ينصح به الغاضب أمور:
االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم ،قال تعاىل :ﭽﭽ .1
198
قــواعد نبـــوية
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊﮋ ﮌﮍﮎ ﮏﮐﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕﭼ [األعراف ،]201–200 :قال سعيد بن
جبري :هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر اهلل تعاىل فيكظم
الغيظ»(« ،)1وقيل النزغ :اإلزعاج ،وأكثر ما يكون عند الغضب،
وأصله اإلزعاج باحلركة إىل الشر»(.)2
وقال سليمان بن صرد :كنت جالساً مع النيب × ،ورجالن يستبان،
فأحدهما امحر وجهه ،وانتفخت أوداجه ،فقال النيب ׫ :إني ألعلم كلمة
لو قاهلا ذهب عنه ما جيد! لو قال :أعوذ باهلل من الشيطان ،ذهب عنه ما
جيد»(.)3
.2السكوت :قال ميمون بن مهران :جاء رجل إىل سلمان ،فقال :يا
أبا عبداهلل! أوصين ،قال :ال تغضب ،قال أمرتين أن ال أغضب وإنه
ليغشاني ما ال أملك! قال :فإن غضبت ،فاملك لسانك ويدك (.)4
.3أن جيلس إن كان قائماً ،ففي كتب األخالق واآلداب« :الغضب
من الشيطان فإذا وجده أحدكم قائماً فليجلس ،وإن وجده جالساً
فليضطجع»(.)5
.4أن يتوضأ ،فقد روي« :إن الغضب من الشيطان ،وإن الشيطان
199
قـــواعــد نبويــــة
» «
200
قــواعد نبـــوية
وقد روى زيد بن خالد اجلهين «أن رسول اهلل × ملا سأله رجلٌ عن
()2( )1
ضالة اإلبل غضب حتى امحرت وجنتاه ،أو امحر وجهه» .
«وإمنا احملمود غضبٌ ينتظر إشارة العقل والدين ،فينبعث حيث جتب
احلمية ،وينطفئ حيث حيسن احللم ،وحفظه على حدِّ االعتدال هو االستقامة
اليت كلف اهلل بها عبادَه ،وهو الوسط الذي وصفه رسول اهلل ×»(.)3
اللهم أعنا على أنفسنا وأهوائنا والشيطان ،وقنا شر الغضب ،واجعل
أهواءنا تبعاً ملا جئتَ به ،ال حول وال قوة إال بك.
خالصة القاعدة:
جماهدة الغضب شاق كمجاهدة النفس..فاستعن باهلل عليهما.
مفتاح أبواب الشر البشري والشيطاني الغضب.
تصحيح املصطلحات مطلب شرعي.
الغضب داء ويف الشرع الدواء.
«
»
201
قـــواعــد نبويــــة
202
قــواعد نبـــوية
وهذه قاعدة مهمة()1؛ فينبغي االعتناء بها ،وإن اإلنسان يلزم أن ال يفعل مع
الناس إال ما حيب أن يفعلوه معه»(.)2
ولعمر اهلل إن هذا هلو امليزان الصحيح لإلحسان وللنصح لعباد اهلل،
فكلما أشكل عليك شيء مما تعامل به الناس؛ فانظر هل حتب أن يعاملوك
بتلك املعاملة أم ال؟ فإن كنت حتب ذلك؛ كنت حمباً هلم ما حتب لنفسك،
وإن كنت ال حتب أن يعاملوك بتلك املعاملة؛ فقد ضيعت هذا الواجب
()3
العظيم.
«
«
203
قـــواعــد نبويــــة
لقد كانت حياة نبينا عليه الصالة والسالم ترمجة هلذه القاعدة العظيمة،
بل لقد استعملها النيب × دواءً تربوياً فكان من أجنع األدوية وأشفاها،
تابعوا معنا هذه القصة اليت رواها لنا الصحابي اجلليل أبو أمامة رضي اهلل
عنه فقال:
إن فتىً شاباً أتى النيب × فقال :يا رسول اهلل ،ائذن لي بالزنا! فأقبل
القوم عليه فزجروه ،وقالوا :مه! مه! فقال« :ادنه» ،فدنا منه قريباً ،قال:
فجلس قال« :أحتبه ألمك»؟ قال :ال! واهلل جعلين اهلل فداءك! قال« :وال
الناس حيبونه ألمهاتهم»! قال« :أفتحبه البنتك؟» قال :ال! واهلل ،يا رسول
اهلل ،جعلين اهلل فداءك! قال« :وال الناس حيبونه لبناتهم»! قال« :أفتحبه
ألختك»؟ قال :ال! واهلل ،جعلين اهلل فداءك! قال« :وال الناس حيبونه
ألخواتهم»! قال« :أفتحبه لعمتك»؟ قال :ال! واهلل ،جعلين اهلل فداءك! قال:
«وال الناس حيبونه لعماتهم»! قال« :أفتحبه خلالتك»؟ قال :ال! واهلل جعلين
اهلل فداءك! قال« :وال الناس حيبونه خلاالتهم»! قال :فوضع يده عليه وقال:
«اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه ،وحصن فرجه» قال :فلم يكن بعدُ ذلك الفتى
()1
يلتفت إىل شيء.
إن هذه القاعدة اجلليلة هي نداء الفطرة السليمة اليت فطر اهلل تعاىل
الناس عليها ،علم ذلك النيب × فنادى ذلك الشاب بهذا النداء؛ فما كان
إال االستجابة العاجلة هلذا النداء.
204
قــواعد نبـــوية
قيل لألحنف :ممن تعلمت احللم؟ قال :من نفسي! كنتُ إذا كرهتُ
شيئاً من غريي ال أفعل مثلَه بأحد(.)1
وكان حممد بن واسع يبيع محاراً له ،فقال له رجل :أترضاه لي؟ قال:
لو رضيتُه مل أبعه!
قال ابن رجب« :وهذه إشارة منه إىل أنه ال يرضى ألخيه إال ما يرضى
لنفسه – حيث أجابه حبقيقة األمر دون تدليس أو خداع – وهذا كله من مجلة
النصيحة لعامة املسلمني اليت هي من مجلة الدين»(.)2
وعندما نتأمل يف القرآن الكريم جنده قد رسخ هذه القاعدة بأساليب
متنوعة:
وأقرب مثال على ذلك قول احلق سبحانه :ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ « ،الذم
إمنا حلقهم مبجموع أنهم يأخذون زائداً ،ويدفعون ناقصاً ...وعن قتادة:
«أوفِ يا ابن آدم الكيل كما حتب أن يُوفى لك ،واعدل كما حتب أن يُعدَل
لك» وعن الفضيل :خبس امليزان سواد الوجه يوم القيامة! وقال أعرابي
لعبدامللك بن مروان :قد مسعت ما قال اهلل تعاىل يف املطففني! أراد بذلك أن
املطفف قد تَ َوجّه عليه الوعيد العظيم يف أخذ القليل( ،)3فما ظنك بنفسك
وأنت تأخذ الكثري ،وتأخذ أموال املسلمني بال كيل وال وزن»(.)4
205
قـــواعــد نبويــــة
وهذا مثال آخر من القرآن يرسخ هذه القاعدة النبوية« :وليأتِ إىل
الناس الذي حيب أن يؤتى إليه»؛ وهو قوله تعاىل يف حق الزوجات :ﭽ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﭼ [البقرة.)1(]228 :
قال ابن كثري :أي :وهلن على الرجال من احلق مثل ما للرجال عليهن،
فليؤد كلُّ واحد منهما إىل اآلخر ما جيب عليه باملعروف( ،)2وهلذا قال ابن
()3
عباس :إني ألتزين المرأتي كما تتزين لي.
اهلل أكرب! ما أجلها من قاعدة! وما أحرى املسلم بتدبرها وتأملها ،وأن
يبادر إىل تطبيقها يف نفسه ومَن حوله!
«
»
206
قــواعد نبـــوية
يروى أن رجالً لبّاناً – كان بالبادية – خيلط اللفَ باملاء ،فجاء السيل؛
فذهب بالغنم ،فجعل يبكي ويقول :اجتمعت تلك القطرات ،فصارت سيالً!
ولسان اجلزاء يناديه :ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕﭼ [احلج.)1(»]10 :
ليكن كل واحد منا حكماً على نفسه أمام هذه اجلملة« :وليأتِ إىل
الناس الذي حيب أن يؤتى إليه» وليضع نفسه دوماً يف مكان الطرف اآلخر
ولينظر! هل حيب أن تقدره زوجته؟ وهل حيب أن يقدره الناس؟ وهل حيب
أن حيرتم الناس مواعيده؟ أسئلة كثرية إجابتها معلومة عند كل عاقل ،فإذا
كان كذلك ،فليعلم أن الناس أيضاً كذلك.
وأيضاً ..إذا كان هذا األدب مطلوباً يف حق اخللق؛ فهو يف حق اخلالق
سبحانه وتعاىل من باب أوىل! كيف تطلب من ربك أن يعطيك ما حتب،
وينجيك مما تكره ،وأنت مقيم على ما يكره ،تارك ملا حيب؟ يقول ابن
اجلوزي رمحه اهلل« :وحيك! لو ابتالك يف مالك فقلَّ الستغثت ،أو يف بدنك
ليلةً مبرضٍ لشكوت ،فأنت تستويف مطلوباتك منه ،وال تستويف حقه عليك!
ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ [املطففني ،)2(»]1 :هلذا قال سلمان رضي اهلل عنه:
الصالة مكيال ،فمن وفى ويف له ،ومن طفف فقد علمتم ما قال اهلل تعاىل يف
()3
حق املطففني!
207
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
عامِل كما حتب أن تُعامَل..قمة اإلنصاف.
من طلب رمحة اهلل وهو مقيم على معاصيه فهو مغرور.
من وصل الناس مبا حيب ،وصله اهلل مبا حيب.
إن أسأت إىل الناس فعاملوك باملثل فال تلمهم؛ فهذا ما اخرتته
لنفسك.
208
قــواعد نبـــوية
ﭽﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱﯲﯳﯴ ﭼ
هذه اآلية أصل يف بيان صفة الغرباء.
[مدارج السالكني].
هذه قاعدة من القواعد النبوية احملكمة يف أبواب الزهد ،ومعرفة حقيقة
هذه احلياة الدنيا ،وهي نص وصيةٍ جامعة خمتصرة أوصى بها النيبُّ × أحدَ
صحابته النجباء ،إنه عبداهلل بن عمر – رضي اهلل عنهما.
ولقد صحبها من االهتمام النبوي أن أخذ مبنكب ابن عمر وهو
يوصيه بهذه الكلمات املختصرة؛ رغبة يف رسوخها ،وهكذا كان ،فلقد كانت
حياة ابن عمر برتمجة عملية هلذه الوصية ،فهو الذي رأى اخلالفة تنتقل من
رجل إىل رجل – وهو ينظر وهو أحق بها من بعض من أدركهم من اخللفاء
– لكن مفعول هذه الوصية ما زال قوياً حتى لقي ربه زاهداً عابداً ورعاً،
راغباً فيما عند اهلل ،معرضا عن هذه الدنيا إعراض القادر على نيلها
وحيازتها.
209
قـــواعــد نبويــــة
لقد فقه ابن عمر – رضي اهلل عنه – هذا املعنى عملياً – كما تقدم –
وفقهه علميا؛ ولذا كان يقول بعد أن روى لتالميذه هذه الوصية« :إذا
أمسيت فال تنتظر الصباح ،وإذا أصبحت فال تنتظر املساء ،وخذ من صحتك
ملرضك ،ومن حياتك ملوتك» ،وممن خصهم بذلك تلميذه النجيب جماهد
رمحه اهلل ،حيث قال له« :يا جماهد! إذا أصبحت فال حتدث نفسك باملساء،
وإذا أمسيت فال حتدث نفسك بالصباح ،وخذ من صحتك قبل سقمك،
ومن حياتك قبل موتك ،فإنك ال تدري ما امسك غدا؟»(.)1
لقد كانت وصيةُ ابن عمر جملاهد تفسرياً هلذه القاعدة اليت رواها عن
النيب × ،وهو تفسري يف غاية النفاسة واألهمية؛ حتى ال يتوهم متوهمٌ أن
معنى قوله« :كن يف الدنيا كأنك غريب ،أو عابر سبيل» أن يتخلى عن كل
أسباب احلياة الكرمية ،وأن ال يبين له داراً تؤويه وأهلَه؛ ألن عابر السبيل
كذلك! وال يتخذ له إخوة جيالسهم ويأنس بهم؛ ألن الغريب كذلك! فبيّن
راوي احلديث ابنُ عمر رضي اهلل عنه أن هذا ليس مراداً من قول املعصوم
عليه الصالة والسالم« :كن يف الدنيا كأنك غريب ،أو عابر سبيل» ،وإمنا
مراده :أن يبقى دائم التيقظ والرتقب ليوم الدين واحلساب ،فمن كان كذلك:
النعَم على
أكثر ذكرَ املوت؛ فأحسن السري إليه ،واستعان مبا وهبه اهلل من ِّ
حتسني وقوفه هناك بني يديه.
إن هذه القاعدة النبوية تُرشِّد مسري املرء يف احلياة ،وحتد من شراهة
نفسه ،وختلصه من مرض االنبهار الزائف للذات هذه احلياة الدنيا ومُتَعها؛
ليعرف قدرها ،ويستعد لليت هي خري وأبقى.
210
قــواعد نبـــوية
قال بعض أهل العلم – مبيناً معنى هذه القاعدة :ال تركن إىل الدنيا،
وال تتخذها وطناً ،وال حتدث نفسك بطول البقاء فيها ،وال باالعتناء بها ،وال
تغرت بها؛ فإنها غرارة خداعة ،وال تتعلق إال مبا يتعلق به الغريب يف غري
وطنه ،وال تشتغل فيها إال مبا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إىل أهله،
()1
وباهلل فاستعن.
ويقول ابن اجلوزي« :من الناس من يثبت الدليل ،وال يفهم املقصود
الذي دل عليه الدليل! ومن هذا اجلنس قوم مسعوا ذم الدنيا فتزهدوا ،وما
فهموا املقصود ،فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها ،وأن النفس جتب عداوتها،
فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق ،وعذبوها بكل نوع ،ومنعوها حظوظها،
جاهلني بقوله ׫ :إن لنفسك عليك حقًّا» ،وفيهم من أدته احلال إىل ترك
الفرائض ،وحنول اجلسم ،وضعف القوى! وكل ذلك لضعف الفهم
املقصود ،والتلمح للمراد»()2ا.هـ.
إذاً ..ما الزهد الذي جاءت النصوص مبدحه والثناء على أهله؟
فيقال هو« :ترك الفضول الَّتِي ال يستعان بها على طَاعَة اهلل – من
مطعم وملبس وَمَال وَغري ذَلِك – كما قال اإلمام أمحد( :إمنا هو طعام دون
طعام ،ولباس دون لباس ،وصرب أيام قالئل) ومجاع ذلك :خُلُق رَسُول اهلل
× َكمَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه كَانَ َيقُول« :خري احلديث كَتاب اهلل،
211
قـــواعــد نبويــــة
()1
فقد وخري اهلدي هدي حممد ،وشر األمور حمدثاتها ،وكل بِدعة ضاللة»
كانت عادته يف ياملطعم :أَنه ال يرد موجوداً ،وال يتكلَّف مفقوداً ،ويلبس من
اللباس ما تيسّر – من قطن وصوف وَغري ذَلِك – وكان القطن أحب إليه،
وكان إذا بلغه أَن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد فِي الزهد أو العبادة
على املشروع ويقولَ( :أيّنَا مثل رَسُول اهلل ×)؟! يغْضب لذلك! ويقول:
«واهلل إني ألخشاكم هلل ،وأعلمكُم حبدود اهلل تعاىل» (.)2
وَقد أنزل اهلل َتعَالَى :ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ [ا ْلمَائِدَة ،]87 :وتأمل
العدل اإلهلي يف هذه اآلية العظيمة :ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ
فحتى ال يُفهم من هذا التوسع يف لذائذِ الدنيا ومتاعها؛ عطف بقوله :ﭽ ﮛ
ﮜﮝ ﭼ فكان عطفاً يف منتهى اللطافة ومتام احلكمة؛ فله احلمد سبحانه.
والعاقل هو من يعلم «أنه يف الدنيا ضيف ،وما يف يده عارية ،وأن
الضيف مرحتلٌ ،والعارية مردودة( ،)3والدنيا عرَضٌ حاضر ،يأكل منها البَر
والفاجر ،وهي مبغَّضَة ألولياء اهلل ،حمبَّبة ألهلها ،فمن شاركهم يف حمبوبهم
()4
أبغضوه».
212
قــواعد نبـــوية
213
قـــواعــد نبويــــة
يف احلقيقة كخيال طيف ،أو سحابة صيف ،فهو ظل زائل ،وجنم قد تدىل
للغروب؛ فهو عن قريب آفل.
قال عمر بن اخلطاب – رضي اهلل عنه – :لو أن الدنيا من أوهلا إىل
آخرها أوتيها رجل ،ثم جاءه املوت؛ لكان مبنزلة من رأى يف منامه ما يسرُّه،
ثم استيقظ فإذا ليس يف يده شيء!
ومن حدّق بعني بصريته يف الدنيا واآلخرة :علم أن األمر كذلك.
فكيف يليق بصحيح العقل واملعرفة أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا
النعيم الدائم إىل نعيم معرفته وحمبته ،واألنس به ،والفرح بقربه؛ كنسبة نعيم
الدنيا إىل نعيم اجلنة؟ قال اهلل تعاىل :ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﭼ [التوبة ]72 :فيسري من رضوانه – وال يقال له
يسري – أكرب من اجلنات وما فيها.
ويف حديث الرؤية« :فواهلل ما أعطاهم اهلل شيئاً أحب إليهم من النظر
( )1
إىل ربهم عز وجل»
فمن قطعه عن هذا أملٌ؛ فقد فاز باحلرمان ،ورضي لنفسه بغاية
اخلسران ،واهلل املستعان!»(.)2
وخنتم بهذا املثل التطبيقي هلذه القاعدة النبوية من حياته عليه الصالة
والسالم:
214
قــواعد نبـــوية
يقول عمر – رضي اهلل عنه :دخلتُ على رسول اهلل × وهو
مضطجع على حصري ،فجلست؛ فأدنى عليه إزاره وليس عليه غريه ،وإذا
احلصري قد أثّر يف جنبه ،فنظرتُ ببصري يف خزانة رسول اهلل ×؛ فإذا أنا
()1
يف ناحية الغرفة ،وإذا أَفِيقٌ بقبضة من شعري حنو الصاع ،ومثلها قَرَظاً
مُعلَّق( ،)2قال :فابتدرتُ عيناي ،قال« :ما يبكيكَ يا ابن اخلطاب»؟ قلت :يا
نيب اهلل! وما لي ال أبكي وهذا احلصري قد أثّر يف جنبك ،وهذه خزانتك ال
أرى فيها إال ما أرى؟! وذاك قيصر وكسرى يف الثمار واألنهار! وأنت رسول
اهلل وصفوته ،وهذه خزانتك؟! فقال« :يا ابن اخلطاب! أال ترضى أن تكون
()3
لنا اآلخرة وهلم الدنيا»؟
فلما فتح اهللُ عليه الفتوح ،مل يستأثر مبا أعطاه اهلل ،بل قام فقال ×:
«أنا أوىل باملؤمنني من أنفسهم ،فمن تُويف من املؤمنني فرتك دَيناً فعليّ
قضاؤه ،ومن ترك ماالً فلورثته»(.)4
اللهم ال جتعل الدنيا أكرب همنا ،وال مبلغ علمنا ،وال غاية رغبتنا،
واجعل احلياة زيادة يف كل خري ،واملوت راحة لنا من كل شر ،وجننا من
الفنت ما ظهر منها وما بطن.
215
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
ليس من لوازم الغربة الدينية أال يكون لك دار وزوجة وأوالد
وجتارة ،لكن الذي يلزم هو أال تُعلق قلبك بها .
من باع الباقي بالفاني فما شم رائحة الزهد .
من أعظم النصائح حلياة القلوب :بيان حقيقة الدنيا .
216
قــواعد نبـــوية
ما أطيب هذه القاعدة! اليت ترشد إىل شيء مما ينبغي أن تكون عليه
العالقة بني العبد وربه.
إن يف النفوس املؤمنة رغبةً يف التصدق والبذل ،وميالً قوياً إلخراج
بعض ما رزقها اهلل من فضله الواسع ،فتأتي هذه القاعدة لرتسم املنهج الذي
جيب أن يدركه كلُّ مؤمن ،وأن مقياس القبول عند اهلل ليس بكثرةٍ وال عدد،
بل بصفة ذلك الذي خيرجه اإلنسان ويبذله.
ولئن كانت هذه القاعدة النبوية «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً» ظاهرةَ
االرتباط بالشأن املالي؛ فهي تتسع – أيضاً – لتشمل ما هو أوسع من ذلك،
فيدخل فيها كل األعمال واألقوال ،بل حتى الذوات ،تأمل معي – أيها
القارئ – هذه اآليات الكرمية:
قال تعاىل يف سياق غزوة أحد :ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
217
قـــواعــد نبويــــة
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ
[آل عمران ]179 :فهذا ِذكر الطيب يف متييز القلوب الطيبة من ضدها.
وقال سبحانه يف سياق غزوة بدر :ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭼ [األنفال ]37 ،36 :إنه متحيص الطيب
من اخلبيث يف األموال ،فتأمل كيف أن هذه األموال العظيمة اليت ينفقها
الكفار يف حرب اإلسالم جيمعها وصف واحد :وهو اخلبث ،وإن بلغت
املليارات!
ويف مقام طيب األعمال واألقوال والعقائد؛ يقول اهلل تعاىل :ﭽ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﭼ [فاطر.]10 :
إذن :فهذه القاعدة «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً» تتسع لتشمل هذه
املعاني كلها ،فهي حِكمة نبوية تضع األساس حلياة طيبة ،وآخرة سعيدة.
ولعظيم مدلول هذه القاعدة؛ قال اإلمام أبو داود السجستاني –
صاحب السنن – :نظرتُ يف احلديث املسند؛ فإذا هو أربعة آالف حديث! ثم
نظرت؛ فإذا مدار أربعة آالف حديث على أربعة أحاديث ،وذكر منها هذه
218
قــواعد نبـــوية
القاعدة «إن اهلل طيبٌ ال يقبل إال طيباً» ،ثم قال :فكل حديث من هذه ربع
العلم»( !)1فقاعدتنا هذه – أيها األخ الكريم – هي رُبع العلم! ومن عرف
سعة العلم وتبحُّرَه بان له قدرُ هذه القاعدة العظيمة ،ومعنى كونها ربع
العلم.
إن الطيب الذي عناه النيب × يف هذه القاعدة« :إن اهلل طيبٌ ال يقبل
إال طيباً» يعين :الطاهر املنزّه عن النقائص ،الذي ال يعرتيه اخلُبث بأي حالٍ
من األحوال(« ،)2وإذا ُوصِف به العبدُ مطلقاً أُريدَ به :أنه املتعري عن رذائل
األخالق ،وقبائح األعمال ،واملتحلي بأضداد ذلك ،وإذا وُصف به األموالُ
أريدَ به كونه حالالً من خيار األموال»(.)3
فهو يف حق اهلل تعاىل يعين أنه سبحانه وتعاىل طيّب يف ذاته ،طيّب يف
أمسائه ،طيب يف صفاته ،طيب يف أفعاله ،طيب يف أحكامه ،ذاته هي الطاهرة
املقدسة ،وأمساؤه هي احلسنى البالغة يف احلسن منتهاه ،وصفاته هي العلية
البالغة يف العلو أقصاه ،وأفعاله هي احلائزة من اخلري أزكاه ،وأحكامه هي
العدل الذي لن جتد البشرية طريقاً إىل العدل سواه :ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﭼ [األعلى.]1 :
وملا كان سبحانه وتعاىل طيب ًا مل يقبل أن يصعد إليه من العباد إال ما
كان طيباً «ال يقبل من األعمال إال ما كان طيباً طاهراً من املفسدات كلها –
كالرياء والعجب –وال من األموال إال ما كان طيباً حالالً؛ فإن الطيب
219
قـــواعــد نبويــــة
220
قــواعد نبـــوية
اهلل سواه ،ميتد زمانه إىل الدار اآلخرة ،فلن يدخل اجلنة إال نفسٌ طيبة ،وهي
النفس املؤمنة ،فالنفوس اخلبيثة ال تصلح أن تكون يف اجلنة الطيبة اليت ليس
فيها من اخلبث شيء ،بل إذا كان يف النفس خبثٌ – وصاحبُها من أهل
طهّرت وهُذّبت حتى تصلح لسكنى اجلنة ،كما يف الصحيح من
التوحيد – ُ
حديث أبي سعيد اخلدري رضي اهلل عنه ،عن النيب ׫ :إن املؤمنني إذا
جنوا من النار – أي عربوا الصراط – وقفوا على قنطرة بني اجلنة والنار؛
فيقتص لبعضهم من بعض؛ مظاملَ كانت بينهم يف الدنيا ،فإذا هُذّبوا وُنقّوا:
أُذن هلم يف دخول اجلنة»(.)2( )1
فليحرص كل مؤمن أن يكون «كلُّه طيّبا :قلبُه ولسَانُه وجسَدُه؛ مبا
سكن يف قلبِه من اإلميان ،وظهرَ على لسانه من الذِّكر ،وعلى جوارحه من
األعمال الصاحلة ،اليت هي مثرةُ اإلميان ،وداخلةٌ يف امسه ،فهذه الطيبات
كلها يقبلها اهلل عز وجل.
ومن أعظم ما حيصل به طِيب األعمال للمؤمن :طِيب مطعمه ،وأن
يكون من حالل؛ فبذلك يزكو عملُه»( ،)3وهذا – لعمر اهلل – من أهم
املطالب وأعالها عند أهل اإلميان ،ولو كان أحدٌ يستغين عن الوصية بذلك
الستغنى الرسل عليهم الصالة والسالم ،الذين خاطبهم اهلل بقوله :ﭽﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﭼ [املؤمنون.]51 :
والطيبات – كما يقول الشنقيطي رمحه اهلل –« :هي احلالل الذي ال
221
قـــواعــد نبويــــة
شبهة فيه ،وأن يعملوا العمل الصاحل ،وذلك يدل على أن األكل من احلالل
له أثر يف العمل الصاحل ،وهو كذلك» ثم قال« :وتأثري األكل من احلالل يف
األعمال معروف»(.)1
فإن قلتَ :كيف منيز بني الطيب واخلبيث؟
فاجلواب عن ذلك :أن مدار معرفة الطيب من اخلبيث وضابطه :هو
شرعُ اهلل تعاىل ،وال ميكن أن يُرَد هذا إىل عقول الناس؛ ألنه يفتح من الشر
واخلالف ما اهلل به عليم ،فمن الناس مثالً من يستقذر ويستخبث بعض
املباحات ،ومنهم – ممن انتكست فطرته – من يستطيب احملرمات!
اللهم اجعلنا طيبني مطيَّبني ،يف اعتقادنا وأقوالنا وأفعالنا ،واجعل
حياتنا طيبة ،وقلوبنا سليمة ،وال تكلنا إىل أنفسنا طرفة عني.
خالصة القاعدة:
كل طيب مقبول ولو قل ،وكل خبيث مردود ولو عظم.
الطيب ما طيبه الشرع ،واخلبيث ما استخبثه الشرع.
أطب عملك يطب أجرك.
222
قــواعد نبـــوية
223
قـــواعــد نبويــــة
أما اجلليس الصاحل – وهو املثل األول – فأنت معه يف غُنمٍ على كل
حال ،كحامل املسك الذي تنتفع مبا معه من املسك ،إما ببيع ،أو هبة ،وأقلُّ
أحواله أن جتد منه الرائحة الطيبة.
وهذه املغامن من صحبته ،قد تكون دينية أو دنيوية ،فلن تعدم منه إما
علماً ،أو تنبيهاً على خطأ ،أو داللة على خري يف دينك أو دنياك ،أو حيذِّرك
مما يضرك ،ويبصِّرك بعيوب نفسك ،ويدعوك إىل مكارم األخالق بقماله
وفعاله ومسته وهديه ،فإن اإلنسان – بطبعه – جمبول على التأثر بصاحبه،
واألرواح جنود جمندة ،والناس – كما قيل – كأسراب القطا ،يتبع بعضها
بعضا.
«وأقلُّ ما تستفيده من اجلليس الصاحل – وهي فائدة ال يُستهان بها –:
أن تكف بسببه عن السيئات واملعاصي؛ رعاية للصحبة ،ومنافسة يف اخلري،
وترفعاً عن الشر ،وأن حيفظك يف حضرتك ومغيبك ،وأن تنفعك حمبتُه
ودعاؤه يف حال حياتك وبعد مماتك ،وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك،
وحمبته لك ،وفوائد األصحاب الصاحلني ال تُعد وال حتصى»(.)1
وأما املثل الثاني – وهو جليس السوء ،فهو ضرر من مجيع الوجوه ،ال
غُنم فيه ،بل كله غُرم وخسارة عاجلة وآجلة! وهلل كم هلكت أديان أناس
وضاعت دنياهم بسبب جلساء السوء! وكم قادوا أصحابهم إىل املهالك
شعروا أم مل يشعروا! أمل يكن أصدقاء السوء سبباً من أسباب بقاء عم النيب
× على ملة الكفر؟ أمل يكونوا سبباً يف خواتيم سوء لعدد من أصدقائهم،
224
قــواعد نبـــوية
حني زيّنوا هلم حياة الفحش والبذاء ،بعد أن كانوا أعفةً كرماء؟!
وهلذا فإن من أعظم نعم اهلل على العبد :أن يوفقه لصحبة األخيار،
ومن أعظم صور العقوبات :أن يبتليه بصحبة األشرار.
وما أمجل أن يتأمل املؤمن ويتدبر هذه اآلية املخيفة! ﭽ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚﮛﮜ ﮝﮞ ﮟﮠ ﮡﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الفرقان ]29–27:لقد بلغ به الندم مبلغه ،حبيث مل
يكتف بعض أصبع أو أصبعني أو ثالثة ،بل عض كلتا يديه! لشدة ما يعانيه
من الندم الذي عبّر عنه بعض اليدين ،وهي حركة معهودة يرمز بها إىل حالة
نفسية ظهرت آثارها على اجلسد! وهذا شيء يلحظه اإلنسان يف الدنيا،
حينما يعيش اإلنسان حلظات قلق ،أو خوف ،فاللهم ال توقفنا ذلك املوقف.
يَ ـزِينُ وَيُــزري بــالفتى قُرَنَــاؤُهُ وَصَاحِبْ إذا صَاحَبْتَ حُرّاً فإمنا
225
قـــواعــد نبويــــة
«وقالوا :إياك وجمالسة األشرار؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت ال
تدري ،وليس إعداء اجلليسِ جليسَه مبقالِه وفعالِه فقط ،بل بالنظر إليه!
والنظرُ يف الصور يورث يف النفوس أخالقاً مناسبة خلُلُق املنظور إليه؛ فإن من
دامت رؤيتُه للمسرور سُرّ ،أو للمحزون حزِن ،وليس ذلك يف اإلنسان فقط؛
بل يف احليوان والنبات ،فاجلمل الصعب يصري ذَلوالً مبقاربة اجلمل الذَّلول،
والذلول قد ينقلب صعباً مبقارنة الصعاب ،والرحيانة الغضة تذبل مبجاورة
الذابلة ،وهلذا يلتقط أهل الفالحة الرمم عن الزرع لئال تُفسدها ،ومن
املُشاهد أن املاء واهلواء يفسدان مبجاورة اجليفة ،فما الظن بالنفوس البشرية
اليت موضعها لقبول صور األشياء خريها وشرها؟ فقد قيل :مسي اإلنس
ألنه يأنس مبا يراه خرياً أو شراً»(.)1
وأنشد بعضهم:
()2
فـإن مل جتـد منـه حميصـاً فــداره جتنب قريب السوء واصرم حباله
تنل منه صفو الود مـا مل تُمـاره والزم حبيــب الصــدق واترمــراءه
جيــده وراء البحــر أو يف قــراره ومن يزرع املعروف مع غـري أهلـه
ولكنهــــا حمفوفــ ـ ٌة باملكــــاره وهلل يف عــرض الســماوات جنــةٌ
قال ابن حبان – رمحه اهلل« :وصحبة األشرار :تورث سوءَ الظن
باألخيار ،ومَن خا َدنَ األشرار مل يسلم من الدخول يف مجلتهم ،فالواجب
الريَب لئال يكون مريباً.
على العاقل أن جيتنب أهل ِّ
226
قــواعد نبـــوية
واحلاصل :أن الصحبة تؤثر وال بد؛ ولذا أمر اهلل الصحابة ومن
بعدهم – بعد قصة ختلف الثالثة عن غزوة تبوك – بأمرٍ ذي داللة بالغة ملن
عرف جممل القصة ،فإن اهلل تعاىل قال :ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭼ [التوبة ،]119 :فإنك إذا تأملتَ – أيها
املؤمن – يف سبب جناة كعب وصاحبيه – مع شدة ما عانوا طيلة مخسني ليلة
– هو صدقهم وصحبتهم للصادقني ،وما أهلك من هلك من املنافقني إال
كذبهم وصحبتهم ألمثاهلم من أهل النفاق.
مجيل – أيها املسلم – أن جتعل هذه القاعدة الشريفة دائمًا على بالك
وأنت ختالط الناس ،سواءٌ كانوا أقارب أم أباعد ،يف العمل أو التجارة ،أو
غريها ،وأن تعترب مبا مسعتَ من قصص يف الطرفني ،يف حق من صحبوا
األشرار واألخيار ،ومن الذي ينسى قصة موت أبي طالب عم النيب ×
على الشرك؟ لقد كان من أسبابها الواضحة :حضور أبي جهل وعبداهلل بن
أبي أمية بن املغرية ،وتذكريه بآهلة اآلباء واألجداد ،ورددوا عليه تلك العبارة
اآلمثة :أترغب عن ملة عبداملطلب! حتى مات على الكفر – والعياذ باهلل –.
ومن تتبع قصص املتورطني يف عامل املخدرات؛ فإنه سيجد إمجاعاً على
أن من أعظم أسباب السقوط يف هذا الوحل هم أصدقاء السوء ،ومثل ذلك
227
قـــواعــد نبويــــة
ما يُسمع بني فينة وأخرى عن قصص مبكية من سوء اخلامتة ألناس عاشوا
بني أُسَر صاحلة؛ لكن أولئك تركوا تلك البيئة الطيبة واستبدلوها بسيئة،
وصحبوا أهل الشر حتى ختم هلم بسوء والعياذ باهلل.
ويف املقابل :انظر إىل أثر صحبة األخيار كيف تؤثّر ،فالغالم اليهودي
الذي كان خيدم النيب × – وهي جمرد خدمة – أثّرت يف نفسه تلك الصحبة
ت على اإلسالم ،وجناة من النار.
واملعاملة الطيبة ،فكانت خامتتها :مو ٌ
وقصةُ أصحاب الكهف منوذج مشرق يف تقرير هذا املعنى ،ومن
لطائف تعليقات أهل العلم على هذه القصة :أنه ملا كان الكلب مصاحباً
هلؤالء األخيار نالته بركتهم – وهو كلب – فذكره اهلل يف القرآن أربع مرات،
قال ابن عطية – رمحه اهلل – يف تفسريه :حدثين أبي ،قال :مسعت أبا الفضل
اجلوهري – يف جامع مصر – يقول على منرب وعظه« :إن من أحب أهل
اخلري نال من بركتهم ،كلب أحب أهل فضل وصَحِبهم فذكره اهلل يف حمكم
تنزيله»(.)1
وما أعظم القرآن حني يقرر هذه احلقيقة العظيمة اليت دلت عليها هذه
القاعدة النبوية العظيمة« :مثل اجلليس الصاحل واجلليس السوء :كحامل
املسك ،ونافخ الكري» حيث يقول اهلل تبارك وتعاىل :ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الفرقان ]29 :فهل من مدكر؟
228
قــواعد نبـــوية
اللهم ال تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ،وهب لنا من لدنك رمحة إنك أنت
الوهاب ،ووفقنا لصحبة األخيار ،ومواالة األبرار ،وقنا شر األشرار وكيد
الفجار.
خالصة القاعدة:
ضرب األمثال أسلوب شرعي من أساليب التعليم.
ليست القضية أن يكون لك صاحب ،لكن من تصاحب!
جليس اخلري كله منافع ،وجليس الشر كله مضار.
مستواك واهتماماتك يؤثر فيها من يصحبك.
229
قـــواعــد نبويــــة
230
قــواعد نبـــوية
يسمعها املخطئ واملُ ْذنِبُ تالمس آذانهم :اذهبوا فأنتم الطلقاء! فصلوات اهلل
وسالمه على صاحب اخللق العظيم ،الذي ما زال منذ نزلت عليه يف مكة
ويف أوائل البعثة :ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ ما زال يرتقى يف مدارج
األخالق ،حتى لقي ربه.
«ما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً» وكيف ينال العز بالعفو؟ واجلواب:
ألن العايف يف مقام الواهب واملتصدق؛ فيعز بذلك(.)1
وقال بعض العلماء :ألنه إذا عرف بالعفو ساد ،وعظم يف القلوب،
()2
وزاد عزه.
ويوضح السعدي رمحه اهلل هذا العز يف العفو فيقول« :وأما العفو عن
جنايات املسيئني بأقواهلم وأفعاهلم :فال يتوهم منه الذل ،بل هذا عني العز،
فإن العز :هو الرفعة عند اهلل وعند خلقه ،مع القدرة على قهر اخلصوم
واألعداء.
ومعلوم ما حيصل للعايف من اخلري والثناء عند اخللق ،وانقالب العدو
صديقاً ،وانقالب الناس مع العايف ،ونصرتهم له بالقول والفعل على
خصمه ،ومعاملة اهلل له من جنس عمله؛ فإن من عفا عن عباد اهلل عفا اهلل
عنه»(.)3
ويف الرتمذي بسند فيه ضعف :أن رجالً جاء إىل النيب × فقال :يا
رسول اهلل ،كم أعفو عن اخلادم؟ فصمت رسول اهلل × ثم قال :يا رسول
231
قـــواعــد نبويــــة
232
قــواعد نبـــوية
فيقول الرسول عليه الصالة والسالم« :وما زاد اهلل عبداً بعفو إال عزاً»
والعز ضد الذل ،والذي حتدثك به نفسك – أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام
من اعتدى عليك؛ فهذا – من خداع النفس األمارة بالسوء ،ونهيها عن
اخلري! فإن اهلل تعاىل يثيبك على عفوك هذا ،فاهلل ال يزيدك إال عزاً ورفعة يف
الدنيا واآلخرة»(.)1
وحينما نطالع كتب األخالق والرقاق جند سلفنا الصاحل قد ضربوا
أروع األمثلة قوالً وفعالً هلذا اخللُق الكريم.
قال علي رضي اهلل عنه :إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه
شكراً للقدرة عليه.
وشتم رجلٌ الشعيبَ فجعل يقول :أنت كذا وأنت كذا ،فقال الشعيب:
إن كنت صادقاً فغفر اهلل لي ،وإن كنت كاذباً فغفر اهلل لك.
وقيل للفضيل بن مروان :إن فالناً يشتمك! فقال :ألغيظن مَن أمره،
يغفر اهلل لنا وله ،قيل له :ومَن أمَرَه؟ قال :الشيطان.
وقال احلسن« :كانوا يقولون :أفضل أخالق املؤمنني العفو»(.)2
وقال بعضهم :ليس احلليم من ظُلم فحَلُم ،حتّى إذا قدر انتقم ،ولكنّ
()3
احلليم من ظُلم فحَلُم ،حتّى إذا قدر عفا.
233
قـــواعــد نبويــــة
234
قــواعد نبـــوية
وجئت يوماً مبشراً له مبوت أكرب أعدائه ،وأشدهم عداوة وأذى له،
فنهرني وتنكر لي واسرتجع! ثم قام من فوره إىل بيت أهله فعزاهم ،وقال:
إني لكم مكانه ،وال يكون لكم أمرٌ حتتاجون فيه إىل مساعدة إال وساعدتكم
فيه – وحنو هذا من الكالم – فسُرُّوا به ،ودعوا له ،وعظّموا هذه احلال منه؛
فرمحه اهلل ورضي عنه»(.)1
يقول ابن كثري« :وملا رجع إىل منزله جاءه اجلراحيي فقطع حلماً ميتاً من
جسده ،وجعل يداويه ،والنائب يف كل وقتٍ يسأل عنه ،وذلك أن املعتصم
ندم على ما كان منه إىل أمحد ندماً كثرياً ،وجعل يسأل النائبَ عنه ،والنائبُ
يستعلم خربَه ،فلما عويف فرح املعتصمُ واملسلمون بذلك ،وملا شفاه اهلل
بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما الربد ،وجعل كل من آذاه يف حل إال أهل
البدعة ،وكان يتلو يف ذلك قوله تعاىل :ﭽ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [النور.]22 :
ويقول :ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك املسلم بسببك؟! وقد قال تعاىل:
ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ [الشورى ]40 :وينادي
املنادي يوم القيامة« :ليقم من أجره على اهلل ،فال يقوم إال من عفا»(.)2
235
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
ليس من لوازم العز القتل والسلب والظلم.
من احلكمة وضع العفو يف موضعه.
العفو خلق عظيم ،ال يستطيعه إال العظماء.
236
قــواعد نبـــوية
هذه قاعدة نبوية جليلة يف فقه الوقت والعمر ،ويف فقه الصحة والعافية،
فهي دعوة نبوية إىل التصرف األمثل ،والتعامل األحسن مع نِعم اهلل تعاىل على
العبد يف الزمن والبدن.
وهي دعوة الغتنام الطاقات ،واحلفاظ على اجلهود فيما يعود نفعُه على
الفرد واجملتمع ،والرقي باحلياة إىل املستوى األفضل واألكمل ،والبعد عن
استغالل الصحة والعافية يف إيذاء اآلخرين ،أو السخرية من املعاقني ،أو انتهاك
ما حرمة رب العاملني.
إن يف التعبري بالغف – وهو النقص والغلبة على الشيء – إلشارةً إىل
معنى شريف يف هذه القاعدة النبوية ،فإن أكثر الناس قد يقاتل على الغف يف
ماله ،أو وظيفته؛ لِتعلُّق ذلك بأمر معاشه ،لكن قلّ منهم من يغتم ويهتمّ لضياع
وقته ،أو اغتنام قوة بدنه فيما يفيده وينفعه ،وهلذا يقع الغف يف ذلك ،كما هو
مشاهد وواقع.
237
قـــواعــد نبويــــة
وال يتفطن هلذا الغف من الناس إال القلة – يف حال صحتهم وفراغهم –
أما التفطن لذلك عند وجود الشغل أو املرض فهذا قدر مشرتك بني الناس.
تأمل – مثالً – يف حال الطالب حني يقرتب وقت اختباراته؛ كيف حياصر
الوقت ليغتنم كلّ دقيقة!
وتأمل يف حال املريض حني يلجئه املرض إىل البقاء يف السرير أياماً أو
أشهراً ورمبا أكثر ،ما الذي يتذكره حينها؟ إنهم غالباً ال يتذكرون إال حلظات
النشاط اليت كانوا يغدون فيها ويروحون ،ويتمنون القوة ليفعلوا ويعملوا ،لكن
بعد أن تبني الغف!
إن من الناس من ال يشعر بالغف يف وقته – وهذا نوع من العقوبة اخلفية
– وال يكتفي بهذا ،بل تراه – لغفلته – ينقل غبنه ونقصه وتفريطه يف وقته إىل
اآلخرين من خالل السطو على أوقاتهم ،وإشغاهلم عن أعماهلم بتافه القول،
ورديء احلديث ،وهؤالء ممن عظمت منهم الشكوى من الغيورين على
أوقاتهم ،والبن اجلوزي يف هذا آهات معروفة ،منها قوله« :أعوذ باهلل من
صحبة البطالني! لقد رأيت خلقًا كثريًا جيرون معي فيما قد اعتاده الناس من
كثرة الزيارة ،ويسمون ذلك الرتدد خدمة ،ويطلبون اجللوس ،وجيرون فيه
أحاديث الناس ،وما ال يعين ،وما يتخلله غيبة!
وهذا شيءٌ يفعله يف زماننا كثريٌ من الناس ،ورمبا طلبه املَزُوْرُ ،وتشوق
إليه! واستوحش من الوحدة ،وخصوصًا يف أيام التهاني واألعياد ،فرتاهم ميشي
بعضهم إىل بعض ،وال يقتصرون على اهلناء والسالم ،بل ميزجون ذلك مبا
ذكرتُه من تضييع الزمان.
238
قــواعد نبـــوية
فلما رأيتُ أن الزمان أشرف شيء ،والواجب انتهابه بفعل اخلري؛ كرهت
ذلك ،وبقيت معهم بني أمرين :إن أنكرت عليهم وقعتْ وحشة؛ ملوضع قطع
املألوف! وإن تقبلته منهم؛ ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي :فإذا
غُلبت؛ قصّرت يف الكالم ألتعجل الفراق»(.)1
هذا ما يدركه العاملون بقيمة الوقت يف هذه الدنيا ،أما متى يعلم املغبونون
قيمة ما فرّطوا فيه من أوقات؟ فسيعلمونها حني ال ينفع العلم ،سيعلمونها إذا
حضرههم أجلُهم ،وسيعرفونها إذا كان يوم القيامة ،تأمل هذه اآليات وتدبرها:
ﭽﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖﭼ [املؤمنون ،]100 ،99 :ويقول سبحانه :ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ [املنافقون ،]11 – 9 :أمّا يف اآلخرة
فاحلسرات اليت سطرها القرآن على املفرطني ،تأمل هذه اآلية :ﭽ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الروم ،]56 ،55 :ويقول تعاىل :ﭽ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕﮖﮗﮘ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟﮠﮡ
ﮢ ﭼ [املؤمنون.]113 ،112 :
239
قـــواعــد نبويــــة
لقد جاء هذا التعبري النبوي العجيب« :نعمتان مغبونٌ فيهما كثريٌ من
الناس» لشحذ اهلمم ،وليسعى كلٌ إىل ما جينِّبه عن ذلك الغف ،وتلك اخلسارة.
واإلنسان قد يكون صحيحاً وال يكون متفرغاً للعبادة؛ الشتغاله بأسباب
املعاش ،وقد يكون متفرغاً من األشغال وال يكون صحيحاً ،فإذا اجتمعا للعبد،
ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل؛ فذاك الغف! كيف والدنيا سوق
()1
الرباح ،والعمر أقصر ،والعوائق أكثر!
يقول الطييب – رمحه اهلل –« :ضرب النيب × للمكلف مثالً بالتاجر
الذي له رأس مال ،فهو يبتغي الربح مع سالمة رأس املال ،فطريقه يف ذلك :أن
يتحرى فيمن يعامله ،ويلزم الصدق واحلذق؛ لئال يُغف ،فالصحة والفراغ رأس
املال ،وينبغي له أن يعامل اهلل باإلميان ،وجماهدة النفس وعدو الدين؛ لريبح
خريي الدنيا واآلخرة ،وقريب منه قول اهلل تعاىل :ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [الصف ]10 :اآليات ،وعليه أن جيتنب
مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان؛ لئال يضيع رأس ماله مع الربح ،وقوله يف
احلديث« :مغبون فيهما كثري من الناس» كقوله تعاىل :ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﭼ [سبأ ]13 :فالكثري يف احلديث يف مقابلة القليل يف اآلية()2ا.هـ.
«وحنن نستعيذ باهلل من أن نُغف بفضل نعمته علينا ،وجنهل نفع إحسانه
إلينا ،وقد قيل يف منثور احلكم :من الفراغ تكون الصبوة ،وقال بعض البلغاء:
240
قــواعد نبـــوية
مَن أمضى يومه يف غري حقٍ قضاه ،أو فرضٍ أداه ،أو جمدٍ أثّله أو محدٍ حصّله ،أو
خريٍ أسَّسه ،أو علمٍ اقتبسه؛ فقد عقّ يومه ،وظلم نفسه ،وقال بعض الشعراء:
()1
وأسباب البالء من الفـراغ» لقد أهاج الفراغُ عليك شـغالً
ويف هذه القاعدة النبوية« :دليل على أن نعم اهلل تتفاوت ،وأن بعضها
أكثر من بعض ،وأكرب نعمة ينعم اهلل تعاىل بها على العبد :نعمة اإلسالم»(.)2
ومن احلكمة يف الربط بني الغف يف املال والصحة :ما أشار إليه بعض
أهل العلم؛ من أن اإلنسان قد يستغين بالعافية كما يستغين باملال ،وكلٌ فيه فتنة،
والعصمة يف حال العافية نعمة ثانية ،كالعصمة يف الغنى نعمة النعمة ،وهذا أحد
الوجوه يف قوله عزّ وجلّ :ﭽﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭼ [األحقاف.)3(]20 :
قال الفضيل بن عياض :عليكم مبداومة الشكر على النّعم؛ فقلّ نعمة
زالت عن قوم فعادت إليهم(.)4
وكان احلسن يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ« :املبادرة املبادرة! فإمنا هي األنفاس ،لو
حبست انقطعت عنكم أعمالكم اليت تتقربون بها إىل اهلل عز وجل ،رحم اهللُ
امرأً نظر إىل نفسه ،وبكى على عدد ذنوبه ،ثم قرأ هذه اآلية :ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﭼ يعين :األنفاس ،آخِرُ العدد خروج نفسك ،آخر العدد فراق أهلك،
آخر العدد دخولك يف قربك» (.)5
241
قـــواعــد نبويــــة
242
قــواعد نبـــوية
اللهم اجعلنا ممن يرحبون صحتهم وفراغهم أعظم الربح ،وجنبنا اخلسار
يف الدنيا واآلخرة ،واجعلنا على مرضاتك من العاملني ،وبالفردوس األعلى
من اجلنة من الفائزين.
خالصة القاعدة:
صحة +وقت +استغالل = إنتاج وتقدم وحضارة.
أصحاب القبور يتمنون سجدة..فاستغل فراغك.
كثري هم البشر الذين ال يعلمون قيمة النعم إال بعد سلبها.
243
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة نبوية جتلِّي للعالَم احلقيقةَ اليت جيب أن يكون عليها املسلم –
ذكراً وأنثى – يف باب املعاملة مع إخوانه املسلمني ،فاملسلم حني يتصف بهذا
الوصف العظيم؛ فهو يعلن استسالمه للذي فطر السماوات واألرض،
وألوامره ونواهيه ،فهو بهذا يكون كاملَ اإلسالم ،وجامعاً خلصاله ،ما مل يؤذ
مسلماً بقولٍ وال فعل.
واملعنى أن أفضل املسلمني من مجع إىل أداء حقوق اهلل تعاىل أداء حقوق
الناس ،والكف عن أعراضهم ( ،)2واألذى الذي يقع من اإلنسان نوعان:
أحدهما :ظاهر باجلوارح :كأخذ املال بنحو سرقة أو نهب.
والثاني :باطن :كاحلسد والغل ،والبغض واحلقد ،والكرب ،وسوء الظن،
والقسوة ،وحنو ذلك ،فكله مضر باملسلم ،مؤذٍ له ،وقد أمر الشرع بكف النوعني
من اإليذاء ،وهلك بذلك خلقٌ كثري(.)3
244
قــواعد نبـــوية
«
»
245
قـــواعــد نبويــــة
246
قــواعد نبـــوية
النشر اليت يريدها ،فوسائل االتصال املعاصر تفرض علينا مزيداً من االحتياط
والرتوي والتثبت ،وإذا كان ما على الورق ال يُمحى ،فإن ما على الشبكة
العاملية ال ميحى أيضاً ،وإن حَذَفه ناشره ،فاألعني واأليدي باملرصاد ،حتفظ
وختزّن املعلومات والصور ،وحتفظ صورة ما كتب ،وكم من صحيفة إلكرتونية
حاولت أن حتذف شيئاً نشر فيها فما أفلحت.
وإن من اخلذالن الذي يقع لبعض املسلمني هداهم اهلل؛ أنهم يستغلون
أمثال هذه الوسائل املعاصرة – من إنرتنت وجوال وغريها – لنشر ما وقعوا فيه
من فجور وخنا ،أو نشر ما حرّم اهلل من الصور الفاتنة ،واملقاطع اليت تؤجج
الغرائز ،أو حتميل األغاني ،يُحمّلها املسكني يف دقائق على موقعه بلمسة من
يده؛ ليشاهدها املاليني ،ورصيد سيئاته يتضخم يف اليوم والليلة!! ﭽ ﯦ ﯧ
ﯨﯩ ﯪﯫﯬﯭ ﯮﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ
[املطففني]6 – 4 :؟! وهل نسي هؤالء يوم تنشر الصحف؛ لريوا حصيلة
أذيتهم لعباد اهلل بأيديهم وألسنتهم؟!
لقد منّ اهلل على بعض هؤالء اإلخوة فتاب مما كان يؤذي به عباد اهلل،
ووضع على صفحة موقعه رجاءً بعدم النقل وال إعادة ما مت حتميله من ذلك
املوقع ،إىل غري ذلك من أنواع التوسالت – وهي مما يشكر عليه ومن متام توبته
– ولكن قد كان اهلل أغناه عن ذلك بعدم فعلها أصالً ،ولكن تائب نادم خري من
سادر يف غيّه.
وجممل القول يف هذه القاعدة النبوية «املسلم من سلم املسلمون من لسانه
ويده»:
247
قـــواعــد نبويــــة
«احلث على ترك أذى املسلمني بكل ما يؤذي ،وسِرّ األمر يف ذلك:
حسن التخلق مع العالَم ،كما قال احلسن البصري يف تفسري األبرار :هم الذين
ال يؤذون الذر ،وال يَرضون الشر»(.)1
ومن أراد أن يربي نفسه على ترك أذى املسلمني بلسانه ويده؛ فليتأمل
األمرين اآلتيني:
األول :هذا احلديث القدسي الذي يرويه نبينا الكريم ،عليه الصالة
والسالم عن رب العاملني« :ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افرتضت
عليه ،وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته :كنت مسعه
الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده اليت يبطش بها ،ورجله اليت ميشي
بها ،وإن سألين ألعطينه ،ولئن استعاذني ألعيذنه»(.)2
قال اخلطابي يف معناه :توفيقُ اهلل لعبده يف األعمال اليت يباشرها بهذه
األعضاء ،وتيسري احملبة له فيها ،بأن حيفظ جوارحه عليه ،ويعصمه عن مواقعة ما
يكره اهلل :من اإلصغاء إىل اللهو بسمعه ،ومن النظر إىل ما نهى اهلل عنه ببصره،
()3
ومن البطش فيما ال حيل له بيده ،ومن السعي إىل الباطل برجله.
فاحملافظة على الفرائض ،واإلكثار من النوافل؛ طريقك أيها املسلم ألن
يوفقك ربُك لضبط لسانك ويدك ،ومجيع جوارحك.
» «
248
قــواعد نبـــوية
والثاني :أن تتذكر – أيها املسلم – حلظة وقوفك بني يدي اهلل تعاىل،
وحني تعرض عليك صحيفتك! لو كانت الصحيفة مليئة بذنوب بينك وبني
اهلل! فإن املوقف يبعث على احلياء واخلجل ،وإنها لعلى رجاء رمحة أرحم
الرامحني ،ولكن كيف تصنع إذا كانت ذنوبك بسبب أذيتك لعباد اهلل بلسانك
ويدك؟ ذنوب كتبتها ونسيتها:
ال بـــد حيصـــى مـــا جنيـــت واذكــر مناقشــة احلســاب فإنــه
بــل أثبتــاه وأنــت الهٍ تلعــب مل ينســه امللكــان حــني نســيته
املوقف واهلل حينها موقفٌ عظيم ،يفر املرء فيه مِن أحب الناس إليه،
الذين سيكونون أول من يطلب منه حقه إن وجد إىل ذلك سبيالً! فكيف تصنع
بأذية أناس بلغهم أذاك وأنت يف قربك بسبب ما سطرته يدك ،أو أحدثه لسانك؟
إن املؤمن الذي يرجو لقاء اهلل ليخاف من ذنوبه وحده ،فكيف سيتحمل ذنوباً
تسبب فيها؟ إن هذا هلو اإلفالس احلقيقي الذي أراد نبينا × أن يغرسه يف
نفوس أصحابه حني سأهلم« :أتدرون ما املفلس»؟ قالوا :املفلس فينا من ال
درهم له وال متاع! فقال« :إن املفلس من أميت يأتي يوم القيامة بصالة وصيام
وزكاة ،ويأتى قد شتم هذا ،وقذف هذا ،وأكل مال هذا ،وسفك دم هذا،
وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته ،وهذا من حسناته ،فإن فنيت حسناتُه قبل
()1
أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار»!
249
قـــواعــد نبويــــة
اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب اآلخرة ،واجعلنا ممن أسلم لك حقاً.
خالصة القاعدة:
اجلوارح جوارح فكن منها على حذر.
أذية املسلمني تسلبك حسنات أحوج ما تكون إليها.
من مل يرض األذية لنفسه ،فكيف يرضاها لغريه!
250
قــواعد نبـــوية
251
قـــواعــد نبويــــة
ثم فصّل عليه الصالة والسالم فقال :اإلمام راع ومسئول عن رعيته،
والرجل راع يف أهله وهو مسئول عن رعيته ،واملرأة راعية يف بيت زوجها
ومسئولة عن رعيتها ،واخلادم راعٍ يف مال سيده ومسئول عن رعيته» قال ابن
عمر – :وحسبت أن قد قال –« :والرجل راع يف مال أبيه ومسئول عن
رعيته»(.)1
«هذه كلها أمانات تلزم من استُرْعِيَها أداءُ النصيحة فيها هلل ،وملن
اسرتعاه عليها ،ولكل واحدٍ منهم أن يأخذ مما استُرعي أمرَه ما حيتاج إليه
باملعروف – مِن نفقة ومؤنة»(.)2
«فقد استوى هؤالء يف االسم ولكن معانيهم خمتلفة:
أما رعاية اإلمام والية أمور الرعية :فاحلياطة من ورائهم ،وإقامة
احلدود واألحكام فيهم.
ورعاية الرجل أهله :فالقيام عليهم باحلق يف النفقة ،وحسن العشرة.
ورعاية املرأة يف بيت زوجها :فحسن التدبري يف أمر بيته ،والتعهد
خبدمة أضيافه.
ورعاية اخلادم :فحفظ ما يف يده من مال سيده والقيام بشغله»(.)3
ولو أردنا أن نقلّب النظر يف واقع كثريٍ من املسلمني مع هذا احلديث؛
252
قــواعد نبـــوية
لوجدنا خرقاً واضحاً هلذه الوصية النبوية ولألسف ،ولن يتعب الناظر يف
مجع الشواهد ،ومن ذلك:
-1التقصري البيّن يف تربية األبناء والبنات.
ولئن عذر اإلنسان بعدم قدرته على بعض الوسائل الرتبوية ،فبماذا
يُفسّر إحضار أجهزة اللهو احملرم ،وإدراج القنوات الفاسدة يف طبق البيت
الفضائي؟! ليخربوا بيوتهم بأيدهم ،ويساهمون يف هدم بقايا الفطرة املوجودة
يف نفوس األبناء والبنات ،فرأينا آثار ذلك يف أخالق وسلوكيات جيلٍ ظهر
على هذه األطباق ،اليت قتلت املروءة ،وأغرت بالتشبه بالكفار ،والتعلق
بالتافهني.
ويف مقابل هذا ،فإنين أعلم – يقيناً – أن يف البيوت نساء فاضالت
حيرصن على ترميم ما تفسده هذه األطباق اليت يصر بعض اآلباء – هداهم
اهلل – على جعلها يف متناول البنني والبنات ،دون متييز أو متحيص ،ولكن آلة
اهلدم أقوى من آلة البناء ،ويف النفوس ميل إىل الشهوات ،فكيف يكون احلال
إذا جيء مبا يؤججها؟ وماذا يقال عمن يطفئ النار بالزيت؟!
هذا يف باب املنهيات ،وأما التقصري يف باب األوامر ،فإن من اآلباء من
ال يأمر أوالده بالصالة وال حيضهم على ذلك ،وهو يف املقابل لو قصّر ابنه
يف دراسته أو شأن دنياه لدارت محاليق عينيه! سبحان اهلل! أليس هلؤالء قدوة
مبن أمرنا باالقتداء بهم من أنبياء اهلل ورسله؟ فهذا إمساعيل عليه الصالة
والسالم يثين عليه ربه بقوله :ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭼ [مريم ،]55 :بل يقول اهلل تعاىل لنبيه × :ﭽ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [طه ]132 :وتأمل يف قوله( :واصطرب)! ففيها داللة
253
قـــواعــد نبويــــة
واضحة على أن هذا األمر فيه مشقة وحيتاج إىل صرب خاص؛ ألن العاقبة
محيدة أو خطرية.
وإنين أُ َذكّر إخواني املسلمني – الذين يتهاونون يف مثل هذه األمور –
بقول اهلل عز وجل :ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬﯭﯮ ﯯﯰ
ﯱ ﭼ [التحريم ،]6 :وليحذر أن يكون أوالده وزوجته هم أول خصومه
يوم القيامة :ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭼ [عبس.]37 – 34 :
-2ومن صور خرق هذه القاعدة النبوية يف واقعنا:
ما يقع من تقصري بعض من أوكل إليه من قِبَل وليّ األمر إدارة أو
رئاسة أو أي وظيفة من وظائف الدولة ،فرمبا وقع التقصري يف حضور
الدوام ،أو إجناز ما جيب إجنازه ،أو تأخري ما ال حيل تأخريه ،وتعطيل مصاحل
الناس بال عذر ،وأشدّ من هذا أخذ الرشوة مقابل سرعة اإلجناز ،وهذا كلّه
خيانة ألئمة املسلمني وعامتهم ،وسيسأل اهلل كلّ مقصرٍ عما اسرتعاه اهلل،
فإن فرّ يف الدنيا من احلساب ،فأين املفر يوم القيامة؟ ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭼ
[القيامة.]11 :
-3ومن صور التقصري املالحظة يف الواقع يف حتقيق ما دلّت عليه هذه
القاعدة النبوية «كلكم راعٍ ،وكلكم مسئولٌ عن رعيته» :ما يقع يف
ميدان التعليم ،من تقصري بعض املعلمني يف النصح لتالميذهم،
ومن صور ذلك:
عدم التحضري اجليد للمادة العلمية؛ فبعض األساتذة – هداهم اهلل –
254
قــواعد نبـــوية
يكرر ما عنده ،ويردد مقوله الذي كان يقوله قبل سنوات ،خاصة
وأن بعض املواد متجددة ،ويقع فيها اكتشافات ،ونوازل.
التقصري يف نصح املخطئ من الطالب ،ذلك أن بعض الطالب توجد
منهم سلوكيات أو مظاهر غري جيدة ،فيدخل الطالب املدرسة أو
اجلامعة ومل يسمع من أساتذته من ينبهه على خطئه ،ولرمبا ظن أن
ما هو فيه صحيح ،فإذا بهذا الطالب ينتقل بعد سنوات إىل ميدان
التعليم ،فيصبح قدوة غري حسنة للطالب ،والسبب تقصري األساتذة
يف تنبيهه.
ومن صور التقصري املشاهدة: -4
تقصري بعض األئمة واملؤذنني يف أداء وظيفتهم اليت أنيطوا بها.
ولعل شأن اخلطيب يف خطبة اجلمعة أشدّ وآكد ،ومن احملزن أنك جتد
بعض اخلطباء ال يُقدّر قيمة املنرب الذي يعتليه ،فالتحضري غري جيّد ،واملتابعة
للمستجدات ضعيفة ،وتطوير اخلطيب لنفسه يف األداء واألسلوب ال خيطر له
على بال ،وهذا كلّه خمالف ملا اسرتعاه اهلل عليه من أمانة هذا املنرب ،ولو أن
اخلطيب استشعر أنه يقوم مقام النيب × لكان األمر خمتلفاً.
أقول هذا وأنا أعلم أن كثرياً من اخلطباء – وهلل احلمد – على قدر
جيّد من رعاية هذه األمانة ،لكن ال ينكر وجود أعداد غري قليلة يقع منها
التقصري يف هذا الباب.
وما يقال يف حق اخلطيب يقال يف حق اإلمام واملؤذن؛ فالواجب على
اجلميع رعاية هذه القاعدة النبوية« :كلكم راعٍ ،وكلكم مسئولٌ عن رعيته».
وتَعظُم األمانة وتكرب التبعة كلما كان املتعلقون بهذه الوظيفة أكرب،
وألجل هذا احلديث وأمثاله كان الفاروق رضي اهلل عنه يقول :لو عثرت
255
قـــواعــد نبويــــة
بغلة يف العراق يف الطريق خلفت أن يسألين اهلل عن ذلك ،ملاذا مل تسوِّ هلا
الطريق يا عمر؟! فهذا خوفه رضي اهلل عنه من التقصري يف حقّ بهيمة،
فكيف باإلنسان! أم كيف باملسلم!!
ومثله قول عمر بن عبدالعزيز :ضع احلَب على رؤوس اجلبال؛ حتى
ال يقال :جاع الطري يف بالد املسلمني.
إن هذه القاعدة النبوية العظيمة منهجٌ عظيم يف العالقات بني اخللق،
وهو مما يربي يف املؤمن – الذي يرجو اهلل واليومَ اآلخر – اخلوف من اهلل
واستشعار األمانة ،وأن اهلل تعاىل سائله عما اسرتعاه.
أال وإن من أعظم الزواجر اليت تزجر املؤمن عن تضييع ما اسرتعاه
اهلل – دقّت مسؤوليته أم جلّت – قوله × يف احلديث املتفق عليه« :ما من
عبد يسرتعيه اهلل رعية ،ميوت يوم ميوت وهو غاش لرعيته ،إال حرم اهلل عليه
()1
ويف لفظ للبخاري« :ما من عبد اسرتعاه اهلل رعية ،فلم حيطها اجلنة»
بنصيحة؛ إال مل جيد رائحة اجلنة»( ،)2فأي مصيبة أعظم من حرمان اجلنة!
نعوذ باهلل من هذه العقوبة.
إذا تبني هذا ،فإن من واجب من والّه اهلل تعاىل أمراً من األمور أن
جيتهد يف تولية األكفاء الناصحني الذين تربأ بهم الذمة ،وترتفع بهم التبعة،
مع السؤال واملتابعة ،قال اهلل تعاىل :ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ
[القصص.]26 :
256
قــواعد نبـــوية
قال ابن بطّال – رمحه اهلل – يف هذا املعنى« :فينبغي هلم تولية أهل
الدين واألمانة للنظر فى أمر األمة ،فإذا قلّدوا غريَ أهل الدين ،واستعملوا
مَن يعينهم على اجلور والظلم؛ فقد ضيعوا األمانة التى فرض اهلل عليهم»(.)1
اللهم اجعلنا رعاة خريٍ وصدق ألنفسنا وملن وليتنا عليه ،وأعنا إلعطاء
كل ذي حقٍ حقه ،وأجرنا من الظلم خفيه وجليه ،دقيقه وجليله.
خالصة القاعدة:
ختتلف الرعاية باختالف املرعي.
بناء الثقة وحتمل املسؤلية مطلب شرعي وعقلي.
صالح اجملتمع واألمة حبسن رعاية كل فرد ملن حتت يديه.
الرعية أمانة فيجب حسن اختيار الراعي هلا.
257
قـــواعــد نبويــــة
ورَ َدت هذه القاعدة الشريفة ضمن حديثٍ عدّه مجعٌ مِن أهل العلم مِن
جوامع كَلِمه ×( ،)1نذكره لنعرِّج على بعض معانيه اليت خنلص منها إىل
إشباع قاعدتنا هذه مبا تيسر مِن البيان والتوضيح ،وذلكم احلديث هو ما رواه
عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل × قال« :تُنكح املرأةُ
ألربع :ملاهلا ،وحلسبها ،ومجاهلا ،ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تَ ِرَبتْ يداك»(.)2
فهذا احلديث الذي يتحدث عن اختيارات الناس يف هذا الباب:
فمن الناس مَن يرغب يف الزواج من املرأة الغنية؛ لتعينه على مطالب
احلياة ،أو تُوفِّر عليه بعضَ مطالبها اخلاصة ،أو يتمتع يف ماهلا وينعم به.
سبِ والشرف واملكانة ،لريتفع بذلك
ومنهم مَن يرغب يف ذات احل َ
شأنه ،فيعتز بهم من قلة ،ويتقوى بهم من ضعف.
258
قــواعد نبـــوية
259
قـــواعــد نبويــــة
وأما ذاتُ احلسَب :فإنها تُدِل على زوجها حبَسَبها؛ وتفخر عليه
بعديدها ،وخباصة إذا كان أقل منها عددا؛ فال يشعر معها بهناءة وال سعادة،
أو يُطأطىء هلا رأسَه ،ويُذل نفسَه.
وأما ذاتُ اجلمال العارية من التدين :فقد تكون مب َعثَ ظِنةٍ ،وجملبةَ
ريبة.
ومما يُؤكَّد عليه ،أن هذا الكالم ال يراد منه أن يُعرِض املرءُ عن ذات
املال واحلسَب واجلمال ،ويُقبِل على املُعدمة الوضيعة الدميمة ،بل املراد :أال
جيعل اإلنسانُ نُصب عينه – يف اختيار الزوجة وتفضيلها – املالَ أو احلسبَ
أو اجلمالَ فقط ،غري آبهٍ مبا عساه يكونُ هلا مِن صفاتٍ أخرى ،وال ينقِّب عما
تتحلى به من خاللٍ قد تَفضُل ما نظر إليه منها ،بل ليبدأ بذات الدّين
ضمّت إىل ذلك خلةٌ من اخلِالل املرغوبة كان خرياً وأفضل.
والتقوى ،فإذا ُ
ومن مجيل ما يذكر من القصص يف هذا املعنى الذي دلّت عليه هذه
القاعدة «فاظفر بذات الدين تربت يداك»؛ ما رواه حييى بن حييى النيسابوري
قال:
كنت عند سفيان بن عيينة إذ جاءه رجل فقال :يا أبا حممد! أشكو
إليك من فالنة – يعين :امرأته – أنا أذلُّ األشياء عندها واحقرها! فأطرق
سفيان ملياً ثم رفع رأسه فقال :لعلك رغبتَ إليها لتزداد بذلك عزاً؟ فقال:
نعم يا أبا حممد! فقال :من ذهب إىل العز ابتلي بالذل ،ومن ذهب إىل املال
ابتلي بالفقر ،ومن ذهب إىل الدين جيمع اهلل له العز واملال مع الدين ،ثم أنشأ
حيدثه فقال :كنا إخوة أربعة :حممد وعمران وإبراهيم وأنا ،فمحمد أكربنا
وعمران أصغرنا وكنت أوسطهم ،فلما أراد حممد أن يتزوج رغب يف
260
قــواعد نبـــوية
احلسب ،فتزوج من هي أكرب منه حسباً فابتاله اهلل بالذل ،وعمران رغب يف
املال فتزوج من هي أكرب ماالً منه؛ فابتاله اهلل بالفقر ،أخذوا ما يف يديه ومل
يعطوه شيئاً ،فنقّبتُ يف أمرهما ،فقدم علينا معمر بن راشد ،فشاورته
وقصصت عليه قصة أخَويّ ،فذكّرني حديث حييى بن جعدة ،وحديث
عائشة:
فأما حديث حييى بن جعدة قال النيب ׫ :تنكح املرأة على أربع:
دينها وحسبها وماهلا ومجاهلا ،فعليك بذات الدين تربت يداك» ،وحديث
عائشة أن النيب × قال« :أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة» ،فاخرتت لنفسي
الدين ،وختفيف الظهر؛ اقتداء بسنة رسول اهلل × فجمع اهلل لي العز واملال
مع الدين»(.)2( )1
إن املشاهد واملعروف يف الواقع :أن مجال الوجه ،وحسن القوام يذبل
مع تقادم العهد وطول الزمن ،ويفقد نضرته مع األيام ،أما مجال الروح،
وروعة التدين فال تزيدها األيام إال جِدّة ،وحالوة.
ومن املعلوم أن اإلنسان أن لن جيد املرأة الكاملة اليت ال نقص فيها وال
عيب! فالكمال هلل ،وطبع البشر هو النقص والعيب ،ومتى كمُل هو أصالً
«
261
قـــواعــد نبويــــة
مِن كل نقصٍ حتى يطلب امرأةً كاملة؟! وإمنا عليه أن يسدد ويقارب،
ويتحرى ال َظفَر بذات الدِّين ،ويسأل ربَّه التوفيق.
ويف قوله عليه الصالة والسالم – يف هذه القاعدة –« :فاظفر» إشارة
إىل سرعة املبادرة والسبق إليها ،وعدم التباطؤ أو التأخر.
وأما قوله ׫ :ترِبت يداك» فإن النيب × «مل يُرد الدعاء عليه
بالفقر ،وإمنا أراد به االستحثاث ،كما يقول الرجل :أِنخْ ثكلتك أمُّك! إذا
استعجلتَه ،وأنتَ ال تريد أن تثكله أمه ،وقال ابن قتيبة :وهذا من باب الدعاء
الذي ال يُراد به الوقوع»(.)1
وما قيل يف اختيار املرأة يُقال يف اختيار الرجل؛ وكما قيل للرجل:
«فاظفر بذات الدين» يقال للمرأة« :فاظفري بصاحب الدِّين» ،وجيب على
وليِّ املرأةِ أن خيتارَ هلا الرجلَ الدَيِّن ،صاحبَ اخلُلُق واملروءة ،وأن يظفر به،
وال يعضُلها ومينعها من الزواج ،أو يؤخرها كثرياً طمعاً يف ماهلا! فيكون ظاملاً
هلا ،وال يُكرِهها على الزواج ممن تَكرهه وال تُحبه ،بل يَعرض عليها مَن يرى
خللُق ممن تقدم خلطبتها ،ثم يرتك اخليار هلا،
فيه مكافئته هلا مِن ذوي الدين وا ُ
فقد قال النيب ׫ :ال تُنكح األيّم حتى تُستَأمر ،وال تُنكح البِكر حتى
تُستأذن» قالوا :يا رسول اهلل ،وكيف إذنها؟ قال« :أن تسكت»( ،)2وقد بوّب
262
قــواعد نبـــوية
البخاري هلذا احلديث بقوله« :باب ال ينكِح األبُ وغريُه البكرَ والثيبَ إال
برضاها» ،ويروى أن رجالً خطب مِن عبداهلل بن عباس – رضي اهلل عنهما
– يتيمةً كانت عنده؛ فقال :ال أرضاها لك! قال :ومل ويف دارِك نشأتْ؟ قال:
إنها تتشرّف ،قال :ال أبالي! فقال :اآلن ال أرضاك هلا! – كأنه رأى أنه ال
يبالي بأن يُهان؛ فلم يرضه هلا.
ويف معنى هذا قولُ بعضِ العلماء :مَن رضي بصحبةِ مَن ال خري فيه مل
يرضَ بصحبته مَن فيه خري(.)1
لقد تأمل علماءُ الشريعة هذه القاعدةَ اجلليلة ،واحلديثَ الذي وردت
فيه؛ فاستلهموا بذلك التأمل شيئاً مِن املسائل الشرعية واألخالقية ،من ذلك:
« -1أن الالئق بذي الدِّين واملروءة أن يكون الدِّين مطمحَ نَظَره يف
كل شيء ،ال سيما فيما تطولُ صحبتُه»( )2كالزوج والزوجة.
-2وأن يف هذا« :احلث على مصاحبة أهل الدين يف كل شيء؛ ألنَّ
صاحبَهم يستفيدُ من أخالقهم وبركتهم ،وحسنِ طرائقهم ،ويأمَن
املفسدةَ مِن جِهتهم»(.)3
ويف صحيح مسلم يقول ׫ :الدنيا كلُّها متاع ،وخريُ متاعِ الدنيا
263
قـــواعــد نبويــــة
()1
أي :أن الدنيا إمنا هي شيءٌ يُتمتع به ،كما يَتمتع املسافرُ املرأةُ الصاحلة»
بزادِه ثم ينتهي ،وخريُ متاعها املرأةُ الصاحلة؛ إذا وُفق اإلنسان المرأةٍ صاحلة
يف دينها وعقلها فهذا خريُ متاع الدنيا؛ ألنها حتفظه يف سِره ،وماله ،وولده(.)2
تطيب بها هـذي احليـاة وتعـذب ومن سعد حظ املرء وجدان زوجـة
اللهم وفقنا يف مجيع شؤوننا ملا حتب وترضى ،وارزق أبناءنا زوجاتٍ
صاحلات ،وبناتنا أزواجاً صاحلني ،وأصلح شباب وشابات املسلمني.
خالصة القاعدة:
أذواق الناس ختتلف وطبائعهم تتنوع ،فمن كان هواه تبعاً
للشرع فقد سلم وفاز.
ذات الدين مع بقية الصفات ،نور على نور.
ذات الدين حيجزها عن احملارم دينها.
264
قــواعد نبـــوية
265
قـــواعــد نبويــــة
266
قــواعد نبـــوية
267
قـــواعــد نبويــــة
ابتالء بشيء من احملن «إال والذي بعده أشد منه» ويستمر تواردُ األهوال،
وتعاقب األحوال عليكم «حتى تلقوا ربكم» فال راحة للمؤمن دون لقاء
ربه»(.)1
–2إن هذه القاعدة النبوية العظيمة ،تقودنا ألمر من أعظم األمور؛
إنه :تعظيم قدر السلف من الصحابة والتابعني؛ ألنهم كانوا يف تلك القرون
املفضلة.
قال شيخُ اإلسالم ابنُ تيمية:
(ومن املعلوم بالضرورة ملن تدبر الكتابَ والسنةَ ،وما اتفق عليه أهلُ
السنةِ واجلماعةِ من مجيعِ الطوائف؛ أنّ خريَ قرونِ هذه األمة يف األعمالِ
واألقوالِ واالعتقادِ وغريهِا من كل فضيلةٍ أنّ خريها القرنُ األولُ ،ثم الذين
يلونهم ،ثم الذين يلونهم ،كما ثََبتَ ذلكَ عن النيب × من غريِ وجهٍ ،وأنهم
أفضلُ من اخلَلَفِ يف كل فضيلةٍ – من علمٍ وعملٍ وإميانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ
وعبادةٍ – وأنهم أوىل بالبيانِ لكل مُشْكلٍ ،هذا ال يدفعُه إالّ من كابرَ املعلوم
بالضرورة من دين اإلسالم ،وأضله اهلل على علمٍ ،كما قال عبدُاهلل بن
مسعود – رضي اهلل عنه –« :مَنْ كانَ منكم مستناً فليسنت مبن قد مات؛ فإن
احلي ال تؤمن عليه الفتنة ،أولئكَ أصحابُ حممد ،أبرّ هذه األمة قلوباً،
وأعمقها علماً ،وأقلها تكلفاً ،قومٌ اختارهم اهللُ لصحبة نبيه ،وإقامة دينه؛
فاعرفوا هلم حقهم ،ومتسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على اهلدى املستقيم».
268
قــواعد نبـــوية
وقال غريه :عليكم بآثارِ مَنْ سَلَفَ؛ فإنهم جاءوا مبا يكفي وما يشفي،
ومل حيدث بعدهم خريٌ كامِنٌ مل يعلموه ،هذا وقد قال ׫ :ال يأتي زمانٌ إال
والذي بعده شرٌ منه ،حتى تلقوا ربكم» فكيف حيدث لنا زما ٌن يف اخلري يف
أعظم املعلومات – وهو معرفة اهلل تعاىل –؟! هذا ال يكون أبداً!
وما أحسن ما قال الشافعي رمحه اهلل يف رسالته« :هم فوقنا يف كل علمٍ
وعقلٍ ودينٍ وفضل ،وكل سببٍ ينال به علم ،أو يدرك به هدى ،ورأيهم لنا
خريٌ من رأينا ألنفسنا»)(.)1
وقال ابن رجب« :وقد ابتلينا جبهلة من الناس! يعتقدون يف بعض من
توسع يف القول من املتأخرين أنه أعلم ممن تقدم! فمنهم من يظن يف شخص
أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله!
ومنهم من يقول :هو أعلم من الفقهاء املشهورين املتبوعني! ...وهذا تنقص
عظيم بالسلف الصاحل وإساءة ظن بهم ،ونسبته هلم إىل اجلهل وقصور
العلم ،وال حول وال قوة إال باهلل»(.)2
-3من دالالت هذه القاعدة :أن املؤمن إذا عاش يف آخر األزمان ،أو
يف بيئة غلب فيها الشر ،أو علت فيها راية املنكر؛ فعليه أن يعقد
العزم على أن يكون من املصلحني ،والداعني إىل اهلدى ،املخففني
لوطأة الشر وأهله ،اآلمرين باملعروف والناهني عن املنكر حسب
269
قـــواعــد نبويــــة
الوسع والطاقة ،فإنه ال يوجد زمان خيلو من قائمٍ هلل باحلجة على
العباد ،وال خيلو زمان إال ويوجد فيه دعاة للخري ،وهداة للحق،
يبصّرون الناس من العمى ،ويهدون من ضلّ إىل احلق ،فكن –
ياعبداهلل – وكوني – يا أمَةَ اهلل – من هؤالء؛ فإنهم خيار اخللق،
وأحبّهم إىل اهلل.
-4لقد مسع الصحابة بهذا احلديث ،بل إن سبب إيراده من أنس –
رضي اهلل عنه – وهو ما لقيه التابعون من اضطهاد احلجاج وغريه
من حكام السوء – يوضّح أنهم فقهوا معناه جيداً ،وهو فهمهم
هلذه السنة اإلهلية اليت نقلتهم إىل التعامل األمثل معها ،وهو
يتلخص يف أمرين:
األول :الصرب على ما ميرّ بهم حتى يسرتيح بَرٌّ ،ويسرتاح من فاجر.
الثاني :العمل هلذا الدين ،ونشر تعامليه ،وعدم انتظارهم جملدد أو
مُصلح خيرج ليصلح األحوال! كال ..بل كانوا غايةً يف الفقه والفهم للسنن.
لقدّ مرّ باألمة زمانٌ – ال أعاده اهلل – تصدّر فيه متكلمون ال يفقهون
السنن ،وال يعون معانيها ،وكانوا حيدّثون عامة الناس بأمثال هذه األحاديث
ال ليفقهوها ،بل لينفثوا سُمَّ اجلرب واخلنوع ،والرضى بالدعة والكسل باسم
القضاء والقدر! والتكسيل عن العمل حبجة الزهد والتوكل ،والتجرئة على
املعاصي واإلغراء مبكفرات الذنوب ،وشفاعة الصاحلني يف اآلخرة ،والتأييس
من قوة األمة وترقّيها ،مبا يزعمون من أن سعادة األمة وعزتها ال يكونان إال
270
قــواعد نبـــوية
على يد املهدي املنتظر!! وأن هذا الشقاء الذي وقعت فيه ال مفر منه؛ ألنه
عالمة على قرب الساعة وانتهاء الزمان ،وحنو ذلك من التعاليم الغامضة
()1
والفاسدة املنتشرة.
اللهم ارزقنا الفقه يف الدين والبصرية فيه ،واجعلنا من دعاة احلق،
وهداة اخللق.
خالصة القاعدة:
ما تستطيعه اليوم قد ال تستطيعه غدا..فبادر بالعمل.
طريقة السلف أسلم وأحكم.
كن ممن يُصلح اهلل بهم الزمن.
271
قـــواعــد نبويــــة
«
272
قــواعد نبـــوية
اجلليلة ،اليت تكتسح جحافل اليأس ،وختوض بك غمار احلياة بروح وثابة
وعزم متجدد ،إنها قاعدة تكسو احلياة فأالً وقوة ،وترسم بسمة التفاؤل على
شفاه البائسني.
إن اإلنسان يف الدنيا معرَّض للمصائب والتحوالت اليت تأتي على
خالف املراد؛ كما قال اهلل عز وجل :ﭽﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ [البقرة ]157 ،155 :فالصرب هو أول باب
يؤمر العبداملصاب بطرقه ،ثم بعد ذلك يبحث عن األسباب املشروعة اليت
ختفف املصاب.
قال عمر – رضي اهلل عنه – ألشياخ من بين عبس :مب قاتلتم الناس؟
قالوا :بالصرب ،مل نلق قوماً إال صربنا هلم كما صربوا لنا.
وقال بعض السلف :كلنا يكره املوت وأمل اجلراح ،ولكن نتفاضل
بالصرب.
وهذا يف جهاد العدو الظاهر – وهو جهاد الكفار – وكذلك جهاد
العدو الباطن – هو جهاد النفس واهلوى – فإن جهادهما من أعظم اجلهاد،
كما قال النيب ׫ :اجملاهد من جاهد نفسه يف اهلل»(.)1
وقال عبداهلل بن عمر ملن سأله عن اجلهاد :ابدأ بنفسك فجاهدها،
وابدأ بنفسك فاغزُها.
273
قـــواعــد نبويــــة
وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو :قد جئتم من
اجلهاد األصغر ،فما فعلتم يف اجلهاد األكرب؟ قالوا :وما اجلهاد األكرب؟ قال:
جهاد القلب.
فهذا اجلهاد حيتاج أيضاً إىل صرب ،فمن صرب على جماهدة نفسه وهواه
وشيطانه؛ غلبه ،وحصل له النصر والظفر ،وملك نفسَه؛ فصار عزيزاً ملكاً،
ومن جزع ومل يصرب على جماهدة ذلك؛ غُلب وقُهر وأُسر ،وصار عبداً ذليالً
أسرياً يف يدي شيطانه وهواه ،كما قيل:
مبنزلــة فيهــا العزيــز ذليــل إذا املرء مل يغلـب هـواه أقامـه
قال ابن املبارك :من صرب فما أقل ما يصرب! ومن جزع فما أقل ما
يتمتع!
فقوله ׫ :أن النصر مع الصرب» يشمل النصر يف اجلهادين :جهاد
ظفِر بعدوه،
العدو الظاهر ،وجهاد العدو الباطن ،فمن صرب فيهما ،نُصر و َ
()1
ومن مل يصرب فيهما وجزع؛ قُهر وصار أسرياً لعدوه أو قتيالً له.
والصرب إذا أطلق فإنه يشمل :الصرب على طاعة اهلل ،وعن معصيته،
وعلى أقداره املؤملة؛ ألن العدو يصيب اإلنسانَ من كل جهة ،فقد يشعر
اإلنسان أنه لن يطيق عدوه؛ فيتحسر ويدع اجلهاد ،وقد يشرع يف اجلهاد
ولكن إذا أصابه األذى استحسر وتوقف ،وقد يستمر ولكنه يصيبه األمل من
عدوه ،فهذا أيضاً جيب أن يصرب ،قال اهلل تعاىل :ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
274
قــواعد نبـــوية
275
قـــواعــد نبويــــة
وتأمل قصة هذا الرجل :الذي كان صاحب مال وثروة وصحة وعافية
وولد ،ثم كيف سلبها اهلل منه يف حلظة واحدة؛ فلعلها تُعزّي أصحابَ
النكبات واألحزان ،كما عزّتْ عبدامللك بن مروان:
«قال سليمان بن أبي شيخ :حدثين نابل بن جنيح قال :كان باليمامة
رجالن ابنا عم ،فكثر ماهلما ،فوقع بينهما ما يقع بني الناس ،فرحل أحدُهما
عن صاحبه ،قال :فإني ليلةً قد ضجرت برغاء اإلبل والغنم والكثرة ،إذ
ل فجعل مالي
أخذتُ بيد صيبٍ لي وعلوت يف اجلبل ،فأنا كذلك إذ أقبل السي ُ
مير بني يدي وال أملك منه شيئاً! حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامُها
276
قــواعد نبـــوية
بشجرة ،فقلت :لو نزلتُ إىل هذه فأخذتها لعلي أجنو عليها أنا وبين هذا،
فنزلت فأخذت اخلطامَ ،فجذبها السيل ورجع عليّ غصنُ الشجرة فذهب
ماءُ إحدى عيين ،وأفلت اخلطام من يدي فذهبت الناقة! ورجعتُ إىل الصيب
فوجدته قد أكله الذئب!
فأصبحت ال أملك شيئاً!! فقلت :لو ذهبتُ إىل بن عمي لعله يعطيين
شيئاً ،فمضيت إليه فقال لي :قد بلغين ما أصابك ،واهلل ما أحببت أنه قد
أخطأك!! فكان ذلك أشد مما أصابين.
فقلت :أمضي إىل الشام فأطلب!! فلما دخلت إىل دمشق؛ إذا الناس
يتحدثون أن عبدامللك بن مروان أصيب بابن له؛ فاشتد حزنُه عليه ،فأتيت
احلاجبَ فقلت :إني أُحدّث أمريَ املؤمنني حبديث يعزيه عن مصيبته هذه،
فأذكرْ ذلك له ،وذكرَه؛ فقال :أدخله ،فأدخلين ،فحدثته مبصيبيت؛ فقال :قد
()1
عزيتين مبصيبتك عن مصيبيت! وأمر لي مبال ،فعدت وتراجعتْ حالي.
اللهم اجعل الصرب لنا شعاراً ودثاراً ،واجعلنا من الصابرين عند
البالء ،الشاكرين عند النعماء ،اللهم إنا نعوذ بك من حتول عافيتك ،وزوال
نعمتك ،وفجأة نقمتك ،ومجيع سخطك ،اللهم وال جتعل مصيبتنا يف ديننا.
277
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
ستجد يف الصرب بعض الشدة لكن عاقبته محيدة.
الصرب دليل على كمال العقل ورجاحته.
علم صغريك الصرب قبل أن تدهمه نكبات الزمان فيحتار.
278
قــواعد نبـــوية
وردت هذه القاعدة النبوية اجلليلة ضمن حديث عدّه بعض العلماء
من أصول الدين ،وبهذا يتبني عظيم قدر هذه القاعدة النبوية ،وذلكم
احلديث هو قوله ׫ :الطهور شطر اإلميان ،واحلمد هلل متأل امليزان،
وسبحان اهلل واحلمد هلل متآلن أو متأل ما بني السماوات واألرض ،والصالة
نور ،والصدقة برهان ،والصرب ضياء ،والقرآن حجة لك أو عليك ،كل
الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»(.)2
قال النووي رمحه اهلل« :هذا حديث عظيم ،أصلٌ من أصول اإلسالم،
قد اشتمل على مهماتٍ من قواعد اإلسالم»(.)3
«
279
قـــواعــد نبويــــة
وقال املناوي عليه رمحة اهلل« :وهذا احلديث أصلٌ من أصول اإلسالم؛
الشتماله على مهمات قواعد الدين؛ فكن له من املتدبرين»(.)1
إن املقصود باحلجة يف هذه القاعدة« :والقرآن حجة لك أو عليك» :الربهانُ
الشاهد بصحة الدعوى.
قال القرطيب – رمحه اهلل –« :أال وإن احلجة على مَن ع ِلمَه فأغفله
أوكدُ منها على من قصر عنه وجهله ،ومن أوتي علم القرآن فلم ينتفع،
وزجرته نواهيه فلم يرتدع ،وارتكب من املآثم قبيحاً ،ومن اجلرائم فضوحاً؛
كان القرآن حجة عليه ،وخصماً لديه ،قال رسول اهلل ׫ :القرآن حجة لك
أو عليك» ،فالواجب على من خصّه اهلل حبفظ كتابه أن يتلوه حق تالوته،
ويتدبر حقائق عبارته ،ويتفهم عجائبه ،ويتبني غرائبه ،قال اهلل تعاىل:
ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [ص ،]29 :وقال اهلل تعاىل:
ﭽﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [حممد.)2(»]24 :
ولنضرب مثالً عملياً يوضح لنا ما سبق من كالم األئمة يف توضيح
هذه القاعدة النبوية:
اسَت َمعَ شخصان لقول اهلل تعاىل :ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ
[البقرة ]43 :فأقام أحدهما الصالة ومل يقمها اآلخر ،فالقرآن حجة لألول،
وحجة على الثاني ،وقل مثل يف الزكاة.
280
قــواعد نبـــوية
281
قـــواعــد نبويــــة
أستحي من اهلل حق احلياء؟ متى أشتغل بعييب؟ متى أصلح ما فسد من
أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون عن اهلل
راضياً؟ متى أكون باهلل واثقاً؟ متى أكون بزجر القرآن متعظاً؟ متى أكون
بذكره عن ذكر غريه مشتغالً؟ متى أُحب ما أَحب؟ متى أُبغض ما أَبغض؟
متى أنصح هلل؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهب ليوم
موتي وقد غُيّب عين أجلي؟ متى أعمر قربي؟ متى أفكر يف املوقف وشدته؟
متى أفكر يف خلوتي مع ربي؟ متى أفكر يف املنقلَب؟ متى أحذر مما حذرني
منه ربي من نارٍ حرها شديد ،وقعرها بعيد ،وعمقها طويل ،ال ميوت أهلها
فيسرتحيوا ،وال تقال عثرتهم ،وال ترحم عَربتهم؟...
فاملؤمن العاقل إذا تال القرآن استعرض القرآن؛ فكان كاملرآة ،يرى بها
ما حَسُن من فعله ،وما قبح منه ،فما حذرّه مواله حذِره ،وما خوّفه به من
عقابه خافه ،وما رغّبه فيه مواله رغب فيه ورجاه ،فمن كانت هذه صفته ،أو
ما قارب هذه الصفة ،فقد تاله حق تالوته ،ورعاه حق رعايته ،وكان له
القرآن شاهداً وشفيعاً وأنيساً وحرزاً ،ومن كان هذا وصفه؛ نفع نفسَه ونفع
أهلَه ،وعاد على والديه وعلى ولده كل خري يف الدنيا ويف اآلخرة»()1ا.هـ.
ثم انتقل اإلمام اآلجري يف عبارة أخرى مؤثرة ،وهو حيكي حال من
صار القرآن حجةً عليهم – والعياذ باهلل – فيقول:
«فأما مَن قرأ القرآن للدنيا وألبناء الدنيا؛ فإن من أخالقه :أن يكون
282
قــواعد نبـــوية
حافظاً حلروف القرآن مضيعاً حلدوده ،متعظماً يف نفسه ،متكرباً على غريه،
قد اختذ القرآن بضاعة ،يتآكل به األغنياء ،ويستقضي به احلوائج ،يعظّم أبناء
الدنيا وحيقر الفقراء ،إن علّم الغينَّ رفق به طمعاً يف دنياه ،وإن علّم الفقريَ
زجره وعنّفه؛ ألنه ال دنيا له يطمع فيها ،يستخدم به الفقراء ،ويتيه به على
األغنياء ،إن كان حسن الصوت أحب أن يقرأ للملوك! ويصلي بهم؛ طمعاً
يف دنياهم ،وإن سأله الفقراء الصالة بهم ثقل ذلك عليه؛ لقلة الدنيا يف
أيديهم ،إمنا طلَبُه الدنيا؛ حيث كانت رََبض عندها!
يفخر على الناس بالقرآن ،وحيتج على من دونه يف احلفظ بفضل ما
معه من القراءات ،وزيادة املعرفة بالغريب من القراءات ،اليت لو عَ َقل لعلِم
أنه جيب عليه أن ال يقرأ بها! فرتاه تائهاً متكرباً ،كثري الكالم بغري متييز ،يعيب
كلَّ َمن مل حيفظ كحفظه ،ومن علم أنه حيفظ كحفظه طلب عيبَه! متكرباً يف
جلسته ،متعاظماً يف تعليمه لغريه ،ليس للخشوع يف قلبه موضع ،ال خيشع
عند استماع القرآن وال يبكي وال حيزن ،وال يأخذ نفسه بالفكر فيما يُتلى
عليه وقد نُدب إىل ذلك! راغب يف الدنيا وما قرب منها ،هلا يغضب
ويرضى!!
ال يبالي من أين اكتسب – من حرام أو من حالل – قد عظُمت الدنيا
يف قلبه ،إن فاته منها شيء ال حيل له أخْذُه حزنَ على فَوته ،ال يتأدب بأدب
القرآن ،وال يزجر نفسَه عن الوعد والوعيد ،الهٍ غافل عما يتلو أو يُتلى
عليه ،همّته حفظُ احلروف ،إن أخطأ يف حرف ساءه ذلك؛ لئال ينقص جاهه
عند املخلوقني؛ فتنقص رتبتُه عندهم ،فرتاه حمزوناً مغموماً بذلك ،وما قد
ضيعه فيما بينه وبني اهلل مما أَمَر به القرآن أو نهى عنه؛ غري مكرتث به!
283
قـــواعــد نبويــــة
أخالقه يف كثري من أموره أخالق اجلهال الذين ال يعلمون ،ال يأخذ نفسه
بالعمل مبا أوجب عليه القرآن ،قليل النظر يف العلم الذي هو واجب عليه
فيما بينه وبني اهلل عز وجل ،كثري النظر يف العلم الذي يتزين به عند أهل
الدنيا ليكرموه بذلك ،قليل املعرفة باحلالل واحلرام الذي ندبه اهلل إليه ثم
رسوله؛ ليأخذ احلالل بعلم ويرتك احلرام بعلم ،تالوته للقرآن تدل على كِربٍ
يف نفسه ،وتزينٍ عند السامعني منه ،ليس له خشوع فيظهر على جوارحه.
إذا درّس القرآن أو َدرَسَه عليه غريُه همته متى يقطع! ليس همته متى
يفهم! ال يتفكر عند التالوة بضروب أمثال القرآن ،وال يقف عند الوعد
والوعيد ،يأخذ نفسه برضا املخلوقني ،وال يبالي بسخط رب العاملني ،حيب
أن يُعرف بكثرة الدرس ،ويُظهِر ختمَه للقرآن ليحظى عندهم ،قد فتنه حسنُ
ثناء من جَهِله ،يفرح مبدح الباطل ،وأعماله أعمال أهل اجلهل ،يتبع هواه
فيما حتب نفسه ،غري متصفح ملا ذكره القرآن عنه ،إن كان ممن يُقرِئ غضب
على من قرأ على غريه ،إن ذُكر عنده رجلٌ من أهل القرآن بالصالح كره
ذلك ،وإن ذُكر عنده مبكروه سرّه ذلك ،يسخر مبن دونه ،ويهمز مبن فوقه،
يتتبع عيوب أهل القرآن؛ ليضع منهم ،ويرفع من نفسه ،يتمنى أن خيطئ غريُه
()1
ويكون هو املصيب » ...إخل كالمه رمحه اهلل.
ومن مجيل ما قاله ابن مسعود يف هذا املعنى« :القرآن شافعٌ مشفَّع،
حلٌ مصدَّق( ،)2فمن جعله أمامَه قاده إىل اجلنة ،ومن جعله خلف ظهره
وما ِ
284
قــواعد نبـــوية
قاده إىل النار ،وعنه قال :جييء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحِبِه ،فيكون
قائداً إىل اجلنة ،أو يشهد عليه ،فيكون سائقاً إىل النار»(.)1
وللحسن البصري كلمة قيّمة ،يقول فيها« :العلم عِلْمانِ :علم على
اللسان؛ فذاك حجة اهلل على ابن آدم ،وعِلم يف القلب؛ فذاك العلم النافع،
والعلم الذي على اللسان هو حجة اهلل كما يف احلديث« :القرآن حجة لك
أو عليك» (.)2
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ،ونور صدورنا ،وجالء
أحزاننا ،وذهاب همومنا وغمومنا ،واجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده،
واجعله قائدنا إىل جنات النعيم.
خالصة القاعدة:
ينبغي حماسبة النفس كل حني على تقصريها يف كالم اهلل تعاىل.
ينبغي أن يكون حال اإلنسان مع القرآن حال اخلائف الراجي.
تدبر القرآن من أعظم ما يدعوك للعمل به.
استعن بربك دوماً :اللهم اجعل القرآن حجةلي ال علي.
285
قـــواعــد نبويــــة
286
قــواعد نبـــوية
287
قـــواعــد نبويــــة
بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ،ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز
العظيم.
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ،ما أعظم خطره وأجله! فإن
اهلل عز وجل هو املشرتي ،والثمن جنات النعيم والفوز برضاه ،والتمتع
برؤيته هناك ،والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه
من املالئكة والبشر ،وإن سلعةً هذا شأنها لقد هيئت ألمر عظيم ،وخطب
جسيم:
فاربأ بنفسك أن ترعى مع اهلمل قد هيئوك ألمـر لـو فطنـت لـه
مهرُ احملبة واجلنة بذل النفس واملال ملالكهما الذي اشرتاهما من
املؤمنني ،فما للجبان املعرِض املف ِلس وسَومَ هذه السلعة! باهلل ما هزلت
فيستامها املفلسون ،وال كسدت فيبيعها بالنسيئة املعسرون ،لقد أقيمت
للعرض يف سوق من يريد ،فلم يرض ربها هلا بثمن دون بذل النفوس،
فتأخر البطالون ،وقام احملبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن،
فدارت السلعة بينهم ووقعت يف يد ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ
[املائدة)1( ]54 :ا.هـ.
ويف معنى هذه القاعدة النبوية« :كل الناس يغدو ...نقرأ قوله تعاىل:
ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﭼ [البقرة.]207 :
288
قــواعد نبـــوية
ولقد بلّغ النيب × هذا يف أوائل بعثته ،فحني أنزل اهلل عليه ﭽ ﭿ
ﮀ ﮁﮂﭼ قام خطيباً فقال« :يا بين عبد مناف اشرتوا أنفسكم
من اهلل ،يا بين عبداملطلب اشرتوا أنفسكم من اهلل ،يا أم الزبري بن العوام
عمة رسول اهلل ،يا فاطمة بنت حممد اشرتيا أنفسكما من اهلل؛ ال أملك لكما
من اهلل شيئاً.)1(»...
يقول ابن رجبٍ – رمحه اهلل –« :وقد اشرتى مجاعةٌ من السلف
أنفسَهم من اهلل عز وجل بأمواهلم ،فمنهم من تصدق مباله كله :كحبيب أبي
حممد ،ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثالث مرات أو أربعاً :كخالد
الطحاوي ،ومنهم من كان جيتهد يف األعمال الصاحلة ويقول :إمنا أنا أسري
أسعى يف فكاك رقبيت :منهم عمرو بن عتبة.
قال احلسن البصري – رمحه اهلل – :املؤمن يف الدنيا كاألسري يسعى يف
فكاك رقبته ،ال يأمن شيئاً حتى يلقى اهلل عز وجل ،وقال :ابن آدم! إنك
تغدو وتروح يف طلب األرباح ،فليكن همُّك نفسَك؛ فإنك لن تربح مثلها
أبداً.
وقال أبو بكر بن عياش :قال لي رجل مرة وأنا شاب :خلِّص رقبتك
ما استطعت يف الدنيا من رِق اآلخرة؛ فإن أسري اآلخرة غري مفكوك أبداً،
قال :فواهلل ما نسيتها بعد!
وكان بعض السلف يبكي ويقول :ليس لي نفسان ،إمنا لي نفس
واحدة ،إذا ذهبت مل أجد أخرى! وأما حممد ابن احلنفية فيقول :إن اهلل عز
289
قـــواعــد نبويــــة
290
قــواعد نبـــوية
ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [املؤمنون:
،]100 ،99وقال سبحانه :ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﭼ [املؤمنون ،]114 – 112 :وقال جل وعال :ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﭼ [طه:
]104 – 102واآليات يف هذا املعنى كثرية ،وهي تؤكد على أن معقد الربح
واخلسارة يف اغتنام هذا الوقت ،فإن الناس كما أخربت عنهم هذه القاعدة
النبوية احملكمة« :كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها».
ولــيس هلــا يف اخللــق كلِّهــم مثــن أُثــامن بــالنفس النفيســة ربَّهــا
بشيءٍ من الدنيا؛ فذاك هـو الغـف بها متلك األخرى فإن أنا بعتها
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها
اللهم اجعلنا ممن غدا فأعتق نفسه بطاعتك ،وجنبنا موارد اخليبة
واخلسران ،واجعلنا من السعاة إليك ،الفائزين برضاك.
خالصة القاعدة:
االستعداد لآلخرة يكون بالسعي املشكور والعمل املربور.
قراءة سري السلف الصاحل مما يشحذ همتك لفكاك رقبتك.
اغد يف طاعة ربك..يغدُ إليك خريه وتوفيقه.
291
قـــواعــد نبويــــة
292
قــواعد نبـــوية
يف توزيع أوقاتها ،ويف ختفيفها حال السفر ،والرتخيص يف اجلمع عند وجود
املشقة ،ويف كونها تسقط عن احلائض ،ويف صالة النوافل من أنواع التيسري
والتسهيل ما هو ظاهر بيّن ،فيجوز للمتنفل الصالة جالساً وإن مل يكن له
عذر ،وكذلك يف شأن استقبال القبلة عند تعذر ذلك ،وغريها من صور
التيسري.
وأما الزكاة :فمن أوجه اليسر الظاهرة أنها ال جتب إال على من ملك
نصاباً ،وال جتب إال يف العام مرةً واحدة ،وال جتب يف مجيع األموال ،بل يف
أنواع منها معروفة ،وجعل النصاب قليالً جداً :اثنني ونصف باملائة %2.5
فقط مع كثرة ما بسط اهلل هلم من املال والرزق ،مع ما جعل اهلل فيها من
آثار نافعةٍ حسيةٍ ومعنوية ،فبها تُدفع اآلفات عنهم وعن أمواهلم ،وتَطهر
نفوسهم من شحها ،وبها مواساةُ حملاوجيهم ،وقيامٌ ملصاحلهم الكلية.
وأما الصيام :فمن تأمل أول مشروعيّة الصيام ،ثم ما حلقه بعد ذلك
من ختفيف أدرك شيئاً من معاني اليسر يف هذه الفريضة العظيمة ،ومن ذلك:
أن املفروض منه شهرٌ واحدٌ كل عام ،والصيام ال جيب إال يف النهار فقط ،بل
نهت السنة عن الوصال! وأباح اهلل الفطر ألهل األعذار كاملسافرين
واملرضى ،ووسّع يف وقت القضاء فجعل أمده ما بني الرمضانني ،وخبصوص
هذا الركن ختمت آيات الصيام بقوله تعاىل :ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [البقرة.]185:
وأما احلج :فإن اهلل مل يفرضه إال على املستطيع ،ويف العمر مرة واحدة
فقط ،ونوّع على عباده األنساك فوسّع عليهم يف ذلك ،وجعل فيه من املنافع
الدينية والدنيوية ما ال ميكن حصره ،كما قال تعاىل :ﭽﮖ ﮗ ﮘ ﭼ
[احلجّ.]28:
293
قـــواعــد نبويــــة
294
قــواعد نبـــوية
العجزُ واالنقطاع ،وهلذا قال« :ولن يُشَادّ الدينَ أحدٌ إال غلبه» أي« :ال
يتعمق أحدكم يف الدين – فيرتك الرفق – إال غلب الدينُ عليه ،وعجز ذلك
املتعمق ،وانقطع عن عمله كلِّه أو بعضه»(.)1
وهلذا نهى النيب × من أراد أن يشدِّد على نفسه يف العبادة من
أصحابه ،كما يف قصة الرهط الثالثة الذين جاءوا إىل بيوت أزواج النيب ×،
يسألون عن عبادة النيب × ،فلما أُخربوا كأنهم تقالّوها! ثم قالوا :وأين حنن
من النيب ×! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،قال أحدهم :أما أنا
فإني أصلي الليل أبداً! وقال آخر :أنا أصوم الدهر وال أفطر! وقال آخر :أنا
أعتزل النساء فال أتزوج أبداً! فجاء رسول اهلل × إليهم ،فقال« :أنتم الذين
قلتم كذا وكذا؟ أما واهلل إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له ،لكين أصوم وأفطر،
وأصلي وأرقد ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنيت فليس مين!»()2؛ وهلذا
أمر × بالقصد ،وحثّ عليه فقال« :والقصدَ القصدَ تبلغوا» أي :الزموا
القصد – وهو العدل – يف طاعة اهلل تعاىل ،فإن فعلتم ذلك «تبلغوا» أي:
تبلغون مقصودكم ،كما أن املسافر احلاذق املقتصد يف سفره يصل مقصوده
بغري تعب.
قال العالمة السعدي – رمحه اهلل –« :ويؤخذ من هذا أصلٌ نافعٌ ،دلّ
عليه أيضاً قوله تعاىل :ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [التغابن ،]16:وقوله ×:
«إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم» ،واملسائل املبنية على هذا األصل ال
295
قـــواعــد نبويــــة
تنحصر ،ويف حديث آخر« :يسِّرا وال ُتعَسرا ،وبَشِّرا وال تُنفرا(.»)1
فعلمتَ بهذا :أنه يؤخذ من هذا احلديث العظيم عدة قواعد منها:
القاعدة األوىل :التيسري الشامل للشريعة على وجه العموم.
القاعدة الثانية :املشقة جتلب التيسري وقت حصوهلا.
القاعدة الثالثة :إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
فصلوات اهلل وسالمه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها»(.)2
واعلم أنه «ما أمرَ اهللُ بأمرٍ إال وللشيطان فيه نزعتان :إما إىل تفريطٍ
وإضاعة ،وإما إىل إفراطٍ وغلو ،ودينُ اهلل وسطٌ بني اجلايف عنه والغالي فيه،
كالوادي بني جبلني ،واهلدى بني ضاللتني ،والوسط بني طرفني ذميمني،
فكما أن اجلايف عن األمر مضيِّع له؛ فالغالي فيه مضيع له ،هذا بتقصريه عن
احلد ،وهذا بتجاوزه احلد»(.)3
وقبل اخلتام ال بد من التعريج على مسألة مهمة جداً كثر اخلوض فيها
يف هذا العصر ،وأصبح يرددها كلُّ من أراد التملص والتخفف من األحكام
الشرعية – من مفتني أو أتباع مفتني –؛ فصار يردد هذه القاعدة ،ويوردها يف
غري حملها ويقول« :إن الدين يسر»؛ ليربر املفيت فتواه ،واملقلد تقاعسه عن
االنقياد ،أو األخذ مبا دلّ عليه الدليل؛ حبجة أنه يوجد من قال بهذا القول أو
ذاك من العلماء! وجواباً عن هذه الشبهة بإجياز يقال:
296
قــواعد نبـــوية
ينبغي أن يعلم أن كلّ ما شرعه اهلل يسريٌ ،فعلى من تصدر للفتيا أو
طلب جواباً أن يستحضر هذا املعنى جيداً ،فدور املفيت التماس احلكم
بدليله ،سواء وافق ما يهواه الناس أم ال ،وليس من الدين يف شيء تتبُّع
رخص العلماء ،وال زالتهم ،وأن يعلم الباحث عن التيسري يف غري موضعه
أن هذا اتباع للهوى ال للهدى! وقد قال اهلل عز وجل :ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ [القصص ]50 :فال يوجد خيار ثالث :إما
()1
الشرع أو اهلوى.
اللهم أهلمنا الرشد يف القول والعمل ،وأرنا احلق حقاً وارزقنا اتباعه،
والباطل باطالً وارزقنا اجتنابه ،وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
خالصة القاعدة:
لو اتبع الناس الدين الذي شرعه اهلل لزالت املشقة والعنت.
التيسري الشرعي ضابطه النقل ال العقل.
كلما كانت الفطرة سليمة ملست يسر الشريعة.
297
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة حمكمة من قواعد السلوك ،تدعو إىل ضبطُ عضوٍ من أخطر
أعضاء اإلنسان.
وهي قاعدة نوّه مجع من األئمة مبنزلتها العظيمة ،فهذا اإلمام اجلليل
أبو حممد عبداهلل بن أبي زيد إمام املالكية باملغرب يف زمنه يقول :جِماع آداب
اخلري يتفرع من أربعة أحاديث :قول النيب ׫ :من كان يؤمن باهلل واليوم
اآلخر فليقل خرياً أو ليصمت» ،وقوله ׫ :من حسن إسالم املرء تركه
ماال يعنيه» ،وقوله × للذي اختصر له الوصية« :ال تغضب» وقوله ×:
«ال يؤمن أحدكم حتى حيب ألخيه ما حيب لنفسه» (.)2
لقد مهّد النيب عليه الصالة والسالم هلذه القاعدة بقوله« :من كان
يؤمن باهلل واليوم اآلخر» حّثاً وترغيباً يف ضبط هذه اجلارحة اليت ال يضبطها،
ويكفُّ شرها مثل مراقبة اهلل ،وتذكر يوم القدوم عليه يف اآلخرة ،فمن
استشعر هذا األمر «فلْيقل خرياً أو ليصمت».
298
قــواعد نبـــوية
قال اإلمام الشافعي – رمحه اهلل – مبيناً معنى هذه اجلملة« :إذا أراد أن
يتكلم فليفكِّر؛ فإن ظهر له أنه ال ضرر عليه تكلَّم ،وإن ظهر له فيه ضرر
أوشَكَّ فيه أمسك»(.)1
ومن هنا أطبق السلف – رضي اهلل عنهم ورمحهم – على هذا املعنى،
وإليك شيئاً من خربهم:
يقول الفاروق رضي اهلل عنه« :من كثر كالمه كثر سقطه»(.)2
ويقول عليٌّ رضي اهلل عنه« :اللّسان قوام البدن ،فإذا استقام اللّسان
استقامت اجلوارح ،وإذا اضطرب اللّسان مل تقم له جارحة»(.)3
وقال عبداهلل بن مسعود – رضي اهلل عنه–« :إِن كَانَ السمُوم فِي شَيْء
َففِي اللِّسَان ،وَوَاللَّه مَا على وَجه األَرض شيء أَحق بطول سجن من
اللِّسان»(.)4
ومن مجيل ما يؤثر عن عبداهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما قوله« :دع ما
لست منه يف شيء ،وال تنطق فيما ال يعنيك ،واخزن لسانك كما ختزن
َورِقك»(.)5
وهذا عبداهلل بن طاوس– رمحه اهلل– حيكي عن أبيه فيقول :كان
299
قـــواعــد نبويــــة
طاوس– رمحه اهلل– يتعذّر من طول السّكوت ويقول« :إنّي جرّبت لساني
( )1
فوجدته لئيماً» ،وقال طاوس– رمحه اهلل–« :لساني سَُبعٌ إن أرسلته أكلين».
وهذا يعلى بن عبيد– رمحه اهلل– يقول« :دخلنا على حممّد بن سوقة
فقال« :أحدّثكم حبديث لعلّه ينفعكم فإنّه قد نفعين! قال لنا عطاء بن أبي
رباح :يا بين أخي ،إنّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكالم ،وكانوا
يعدّون فضول الكالم ما عدا كتاب اهلل أن تقرأه ،أو تأمر مبعروف ،أو تنهى
عن منكر ،أو تنطق حباجتك يف معيشتك الّيت ال بدّ لك منها ،أتنكرون:
ﭽﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ [االنفطار ]11 –10 :ﭽ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ [ق–17 :
،]18أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته الّيت أملى صدر نهاره،
كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه وال دنياه؟!»(.)2
ويقول يونس بن عبيد« :ما من النّاس أحد يكون لسانه منه على بال
إلّا رأيت صالح ذلك يف سائر عمله»(.)3
حفَظةً موكلني به ،يُحصُون عليه سقطَ
«ما أحق مَن علِم أن عليه َ
كالمه ،وعثراتِ لسانه؛ أن خيزنه ،وَيقِل كالمُه فيما ال يعنيه ،وما أحراه
بالسعي يف أن ال يرتفع عنه ما يطول عليه ندَمُه :مِن قول الزور ،واخلوض
300
قــواعد نبـــوية
فى الباطل ،وأن جياهد نفسَه يف ذلك ،ويستعني باهلل ،ويستعيذ مِن شر
لسانه»(.)1
ومن األحاديث الواردة يف هذا املعنى ،وهي بشارة ألهله قوله × –
كما يف البخاري–« :من يضمن لي ما بني حلييه» يعنى :لسانه ،فلم يتكلم مبا
يكتبه عليه صاحب الشمال« ،وما بني رجليه» يعنى :فرجه ،فلم يستعمله
فيما ال حيل له« :أضمن له اجلنة»(.)2
وهذا يدلُّ على أن أعظم البالء على العبد يف الدنيا :اللسان ،والفرج،
فمن وقي شرَّهما فقد وقي أعظمَ الشر.
«قال عمار الكليب:
فإنــه مــن لــزم الصــمت س ـلِم وقـــل اخلـــري وإال فاصـــمنت
وقال آخر:
وكلُّ امرئ ما بني فكَّيـه مقتـل لسان الفتى حتفُ الفتى حني جيهلُ
فمن كانت هذه حاله هو املأمور بالصمت ،ال قائل اخلري وذاكر
اهلل»(.)3
ومن األحاديث اليت تؤكد معنى هذه القاعدة النبوية« :فليقل خرياً أو
ليصمت» قوله × يف احلديث اآلخر املتفق عليه« :إن اهلل كره لكم ثالثاً:
301
قـــواعــد نبويــــة
قيل وقال ،وإضاعة املال ،وكثرة السؤال»( ،)1فاهلل يكره منا احلديث مبا ال
معنى له ،وال فائدة فيه ،مِن أحاديث الناس اليت أكثرها غِيبة وَلغَط وكذب،
ومَن أكثر مِن القيل والقال مع العامة مل يَسلَم من اخلوض يف الباطل ،وال مِن
االغتياب ،وال من الكذب»(.)2
ويف هذه القاعدة النبوية« :دليلٌ على حُسن الصمت ومدحِه ،واملراد به
عن فضول الكالم ،وقد وردت عدة أحاديث دالة على مدح الصمت،
ومدحه العقالء والشعراء.
واعلم أن فضول الكالم ال تنحصر ،بل املهم حمصورٌ يف كتاب اهلل
تعاىل حيث قال :ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭼ [النساء ،]114 :وآفاته ال تنحصر فعُدَّ
منها:
اخلوض يف الباطل :وهو احلكاية للمعاصي؛ من خمالطة النساء وجمالس
اخلمر ومواقف الفساد وتنعم األغنياء وجتبّر امللوك وموامسهم املذمومة،
وأحواهلم املكروهة؛ فإن كل ذلك مما ال حيل اخلوض فيه ،فهذا حرام.
ومنها :الغيبة والنميمة ،وكفى بها هالكاً يف الدين ،ومنها :املراء،
واجملادلة ،واملزاح ،ومنها :اخلصومة والسب ،والفحش وبذاءة اللسان،
واالستهزاء بالناس والسخرية ،والكذب ،وقد عد الغزالي يف اإلحياء عشرين
302
قــواعد نبـــوية
آفة ،وذكر يف كل آفة كالم ًا بسيطاً حسناً ،وذكر عالج هذه اآلفات»(.)1
قال الغزالي« :ففي اخلوض خطر ،ويف الصمت سالمة؛ فلذلك
عظمت فضيلته ،هذا مع ما فيه – أي الصمت – من مجع اهلم ،ودوام الوقار،
والفراغ للفكر والذكر والعبادة ،والسالمة من تبعات القول يف الدنيا ومن
حسابه يف اآلخرة؛ فقد قال اهلل تعاىل :ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ
[ق.)2(»]18 :
ولنتذكر جيداً أن اللسان سالح ذو حدين ،فتأمل قوله × يف هذه
القاعدة« :فليقل خرياً أو ليصمت» أي :عن شر ،وكما أن أبواب الشر
الصادرة عن اللسان كثرية؛ فكذلك أبواب اخلري الصادرة من اللسان كثرية
ميسرة – ملن وفقه اهلل – ،من ذلك:
تالوة كتاب اهلل تعاىل ،وهو أعظم ما استُخدمت فيه اللسان ،وذكر اهلل
تعاىل ،والنصيحة احلسنة ،وتبليغ دين اهلل تعاىل ،والذب عن عرض مسلم،
والشفاعة يف حق ،واجلدال باليت هي أحسن؛ إلحقاق حق أو إبطال باطل،
والدعاء ،وإدخال السرور على مسلم ،وإزاحة همٍّ عن آخر...إىل أبواب
أخرى يسرح فيها اللسان راحباً بإذن اهلل غري خاسر.
«
»
303
قـــواعــد نبويــــة
ختاماً :لقد ألف اإلمام ابن أبي الدنيا كتاباً حافالً يف هذا الباب مسّاه:
(الصمت) وهو جدير باملطالعة ،واإلفادة منه؛ إال ما خيص األحاديث
املرفوعة ،فالغالب عليها الضعف! وإمنا أعين هنا النظر يف آثار الصحابة
والتابعني – رضي اهلل عنهم – فسريى املطالع ما يوضح له خوف السلف
من ألسنتهم ،وعظيم حرصهم على تطبيق هذه القاعدة النبوية« :فليقل خرياً
أو ليصمت».
خالصة القاعدة:
إذا وُقيت شر لسانك فقد وُقيت شراً كثرياً.
ما كل صمت حممود ،وال كل كالم مذموم؛ فدر مع الشرع
حيث دار.
احلرب أوهلا كالم..فال تكثر اجلدل العقيم.
304
قــواعد نبـــوية
إن هذه القاعدة لبنة من لبنات ذلكم القصر الكبري :قصر مكارم األخالق
الذي بناه ديننا العظيم.
وتأمل كيف صدّر هذه القاعدة العظيمة بهذا الشرط العظيم فقال« :من
كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر» أي :إمياناً كامالً تاماً ،نقياً صافياً؛ فإن إميانه باهلل
تعاىل ،الذي يأمره باإلحسان للخلق ،وإميانه باليوم اآلخر وما فيه من أهوال؛
يدعوه حلفظ حق اجلار.
وقوله« :فليكرم جاره» ومل حيدد نبينا × صورةً معينة من صور الكرم؛
فيدخل يف ذلك كل ما ميكن أن يُكرم به :من البِشْر ،وطالقة الوجه ،وبذل
الندى ،وكف األذى ،وحتمّل ما فرط منه ،وحنو ذلك ،ومل يقل مثالً( :فليكرمه
بإعطاء الدراهم ،أو الصدقة ،أو اللباس) ،أو ما أشبه هذا ،وكل شيء يأتي
مطلقاً يف الشريعة فإنه يرجع فيه إىل العُرف ،كما قال الناظم:
305
قـــواعــد نبويــــة
فاإلكرام إذاً ليس مُعيَّناً ،بل ما عدّه الناسُ إكراماً ،وخيتلف من جار إىل
آخر ،فجارك الفقري رمبا يكون إكرامه برغيف خبز ،وجارك الغين ال يكفي هذا
يف إكرامه ،وجارك الوضيع رمبا يكتفي بأدنى شيء يف إكرامه ،وجارك الشريف
()1
حيتاج إىل أكثر.
وقد جاء يف بعض طرق هذا احلديث عند اإلمام مسلم« :فليحسن إىل
جاره»( ،)2ويقال يف هذا اللفظ ما قيل يف سابقه :إن النيب × مل حيدد صورةً
معينة من صور اإلحسان؛ فيدخل يف ذلك كل ما ميكن أن يُحسن به إىل اجلار:
من بذل املعروف ،وقضاء الدين ،وإعانته يف ضوائقه ،والوقوف معه يف مصائبه،
وتفقد حوائجه ،وغري ذلك.
وتأمل – أيها املؤمن املوفق – هذا احلديث العظيم الذي يؤكد هذا املعنى
الشرعي الكبري ،ففي الصحيحني من حديث عائشة قالت :قال رسول اهلل ×:
«ما زال جربيلُ يوصيين باجلارِ حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه»(.)3
ومن املعلوم أن جربيلَ عليه السالم إمنا فعل ذلك بأمرٍ من اهلل تعاىل ،وقد
وقع التكرار بالوصية إىل احلدّ الذي توقع النيب × أن يكون للجار نصيبٌ من
إرث جاره!
قارن هذا بأحوال بعض اجلريان اليوم؛ جتد ما يؤسَف عليه :مِن بُعد عن
احلفاوة بهذه الوصية النبوية الكرمية!
306
قــواعد نبـــوية
إن قوله × يف هذه القاعدة« :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم
جاره» يدل على أن هذا من خصال اإلميان ،واألعمال اليت تقوي اإلميان.
وأعمال اإلميان تارة تتعلق حبقوق اهلل :كأداء الواجبات وترك احملرمات،
ومن ذلك :قول اخلري ،والصمت عن غريه ،وتارة تتعلق حبقوق عباده :كإكرام
()1
الضيف ،وإكرام اجلار ،والكف عن أذاه.
وتأمل قوله × يف هذه القاعدة« :فليُكرم جارَه»؛ وهذا طلب شيءٍ زائد
عن كفّ األذى ،وحفظ أسرار اجلار ،وحب اخلري له! يتبني لك بذلك كلّه
حرص اإلسالم على حفظ حق اجلوار.
يقول بعض أهل العلم :ومجلة حق اجلار على اجلار :إن استقرضَك
أقرضتَه ،وإن استعانك أعنتَه ،وإن مرض عدتَه ،وإن احتاج أعطيتَه ،وإن افتقر
عدتَ عليه ،وإن أصابه خري هنيّته ،وإن أصابته مصيبةٌ عزَّيته ،وإذا مات اتبعتَ
جنازته ،وال تستطل عليه بالبناء فتَحجُب عنه الريحَ إال بإذنه ،وال تؤذه بريح
قِدرك إال أن تغرف له ،وإن اشرتيتَ فاكهة فأَهدِ له ،وإن مل تفعل فأدخلها سراً
وال تُخرج بها ولدَك ليغيظ بها ولدَه( ،)2وتهَنِّئَه يف الفرحِ ،وتُظهِر الشَّرِكَةَ فِي
السرور معه ،وتصفح عن زالته ،وال تطلع مِنَ السَّطح إىل عَورَاتِهِ ،وال تضايقه
فِي مصب املاء يف ميزابه ،وال يف مطرح الرتاب يف فنائه ،وال تضيق طرقه إىل
الدَّار ،وال تُتْبِعه النَّظَرَ فِيمَا يَحْمله إىل داره ،وتسْتُر ما يَنْكَشِف له من عَوْرَاتِهِ،
307
قـــواعــد نبويــــة
()1
وتقف معه إِذَا نابَتْه نَائِبَةٌ ،وَلَا تغْفل عن تفقد حاجة أهله عند غَيْبَتِهِ.
شكا بعضُهم كثرة الفأر يف داره! فقيل له :لو اقتنيت هراً؟ فقال :أخشى
أن يسمع الفأرُ صوتَ اهلر فيهرب إىل دور اجلريان؛ فأكون قد أحببتُ هلم ما ال
()2
أحب لنفسي!
وإذا كان حسن اجلوار يدعو إليه ويتخلق به نفرٌ من أهل اجلاهلية؛ فألن
يدعو إليه ويتخلق به املسلم بربه أحق وأوىل ،هذا قائل اجلاهلية يقول:
وإليـــه قبلـــي ينـــزل القِـــدرُ نـــاري ونـــارُ اجلـــار واحـــدةٌ
أن ال يكــــون لبابــــه ســــرت مــا ضــر جــاري إذا أجــاوره
وقال آخر:
حتــى يــواري جــارتي مأواهــا وأغــض طــريف إن بــدت لــي
ونالحظ من نصوص الشريعة وإطالقاتها ،ومن تطبيقات النيب ×
وأصحابه رضوان اهلل عليهم أن هذا احلق يشمل املسلمَ والكافرَ ،والعابدَ
والفاسقَ ،والصديقَ والعدوَ ،والغريبَ والبلديَ ،والنافعَ والضارَ ،والقريبَ
واألجنيبَ ،واألقربَ داراً واألبعدَ ،وله مراتبُ أعلى من بعض ،فأعالها :من
اجتمعت فيه الصفات األُ َول كلها ،ثم أكثرها ،وهلم جراً إىل الواحد ،وعكسه:
()3
من اجتمعت فيه الصفات األخرى ،فيُعطى كلٌ حقه حبسب حاله.
فإن قلتَ :ما حدّ اجلريان الذين جيب هلم هذا احلق الذي عظّمه الشرع؟
308
قــواعد نبـــوية
واجلواب :أن يف ذلك اختالفاً بني أهل العلم ،وأصح األقوال يف هذه
املسألة :أن ذلك يرجع إىل العرف ،فما تعارف عليه الناس أنه من اجلريان فهو
كذلك إن شاء اهلل تعاىل ،وهذا اختيار ابن قدامة – رمحه اهلل (.)1
قالت عائشة رضي اهلل عنها :يا رسول اهلل! إن لي جارين ،فإىل أيهما
أُهدي؟ قال« :إىل أقربهما منك باباً»( ،)2أي :أشدهما قرباً ،قيل :احلكمة فيه أن
األقرب يرى ما يدخل بيتَ جاره من هدية وغريها؛ فيتشوف هلا ،خبالف
األبعد ،وأن األقرب أسرع إجابة ملا يقع جلاره من املهمات ،وال سيما يف أوقات
()3
الغفلة.
ويف مقابل ما سبق لنتأمل هذا الوعيد الذي يؤكد خطورة أذية اجلريان:
يقول × – كما يف البخاري من حديث أبي شريح – رضي اهلل عنه:
«واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن!» قيل :ومن يا رسول اهلل؟! قال:
«الذي ال يأمن جارُه بوائقَه»(.)4
ففي هذا دليل على حتريم العدوان على اجلار؛ سواء كان ذلك بالقول أو
بالفعل.
309
قـــواعــد نبويــــة
أما بالقول :فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه ،كالذين يفتحون الراديو أو
التلفزيون أو غريهما مما يُسمَع فيزعِج اجلريان ،فإن هذا ال حيل له ،حتى لو
فتحه على كتاب اهلل! وهو مما يزعج اجلريان بصوته فإنه معتدٍ عليهم ،وال حيل
له أن يفعل ذلك!
وأما بالفعل :فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه ،والتضييق عليه عند مداخل
بابه ،أو بالدق ،أو ما أشبه ذلك مما يضره ،ومن هذا أيضاً :إذا كان له خنلة أو
شجرة حول جدار جاره فكان يسقيها حتى يؤذي جاره بهذا السقي ،فإن ذلك
من بوائق اجلار فال حيل له.
إذن :حيرم على اجلار أن يؤذي جاره بأي شيء ،فإن فعل فإنه ليس
مبؤمن؛ واملعنى أنه ليس متصفاً بصفات املؤمنني يف هذه املسألة اليت خالف بها
()1
احلق.
«قال بعض احلكماء :عجباً من املسيء اجلوار! املؤذي جلاره ،وهو مطلع
على أخباره! وعامل بأسراره ،جيعله عدواً؛ إن علم خرياً أخفاه ،وإن توهم شراً
أفشاه ،فهو قذاةٌ يف عينه ال يَطرَف عنها ،وشجىً يف حلقه ما يتسوغ معه ،فليتَه
إذ مل يكرم مثواه ،كفَّ عنه أذاه ،فإمنا دارُ املرء دنياه! أو مل يسمع قول الشاعر:
كأن جلارنا فضالً علينا؟ ونُكرِم جارَنا حتى ترانا
310
قــواعد نبـــوية
ختاماً ..يقول احلسن البصري – رمحه اهلل – :ليس حُسن اجلوار كفّ
()1
األذى عن اجلار ،ولكن حسن اجلوار :الصرب على األذى من اجلار».
اللهم اجعلنا من احلافظني حلقوق جريانهم ،املتخلقني مبا أمرتهم ،املنتهني
عما نهيتهم.
خالصة القاعدة:
اخرت جارك قبل دارك.
التقصري يف حقوق اجلريان مؤشر خطري على تفكك اجملتمع.
أحسن جلارك وإن جار عليك.
311
قـــواعــد نبويــــة
وكل امرئ يصبو إىل ما يناسـبه وكل امرئ يهفو علـى مـا حيبـه
وهذه القاعدة جاءت ضمن حديث أخرجه الشيخان ،وله قصة ،حدثنا
بها أبو احلسن علي بن أبي طالب – رضي اهلل عنه – يقول :كان رسول اهلل
× لثاني عالمة يف جنازة ذات يوم جالساً ويف يده عود ينكت به ،فرفع
رأسه فقال « :ما منكم من نفس إال وقد علم منزهلا من اجلنة والنار» قالوا :يا
رسول اهلل! فلم نعمل؟ أفال نتكل؟ قال« :ال! اعملوا ،فكل ميسر ملا خلق
له» ثم قرأ :ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [الليل ]6 :إىل
قوله :ﭽﯛ ﯜ ﯝ ﭼ [الليل.)2( ]10 :
إنها قاعدة نبوية ختاطب وجدان كل مسلم ،وتقول له :ال توقُّفَ يف
احلياة ،ليس هناك يف عامل الزمن حمطات وقوف؛ ألن قطار األعمار ليس يف
يد أحد من البشر!
فالعملَ العملَ ،واجلدَّ اجلدَّ؛ فالطريق الذي يوصل إىل اآلخرة ال جتد
فيه متوقفاً ،بل ال ترى فيه إال متقدماً سابقاً ،أو متأخراً متعثراً ،قال اهلل تعاىل:
312
قــواعد نبـــوية
ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭼ [املدثر.]37 :
إنها قاعدة عظيمة تتضمن أصالً كبرياً من أصول اإلميان الستة ،وهو
اإلميان بالقدر خريه وشره ،حلوه ومُرّه ،أوله وآخره ،وهذا ال يتم إال بأن
يعرتف العبدُ أن علم اهلل حميط بكل شيء ،وأنه عَلِم أعمال العباد خريها
وشرها ،وعلم مجيع أمورهم وأحواهلم ،وكتب ذلك يف اللوح احملفوظ ،كما
قال تعاىل :ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [احلجّ ،]7:وأن اهلل تعاىل ينفذ هذه األقدار يف
أوقاتها حبسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته ،الشاملتان لكل ما كان وما يكون،
احمليطتان باخللق واألمر ،وأنه أعطى العبادَ قدرةً وإرادةً تقع بها أفعاهلم
حبسب اختيارهم ،مل جيربهم عليها ،ويقع عليها احلساب واجلزاء.
فإن قلتَ :كيف أفهم ما تقرره يف قضية الق َدر ،وهذه القاعدةُ تقرر أن
كالً منا ميسّر ملا خُلق له؟!
واجلواب :أن أفعالنا وأقوالنا تقع بقدرتنا ومشيئتنا اللتني سيحاسبنا اهلل
عليهما ،وأعطانا – سبحانه – قدرات ومواهب ،نقضي بها ما قُدّر لنا
قضاؤه ،فعلينا الكشف عن هذه القدرات والطاقات ،وأال نتكلّف ما ال
يناسبنا فـ«:كلٌ ميسّر ملا خُلق له».
ومن جهة أخرى :فإن هذه القاعدة النبوية احملكمة تشري إىل معنى آخر؛
وهو أن من وَجَّه وجهه وقصده لربه حبَّب إليه اإلميان وزينه يف قلبه ،وكرّه
إليه الكفر والفسوق والعصيان ،وجعله من الراشدين؛ فتمت عليه نعمُ اهلل
من كل وجه.
ومن وجّه وجهه لغري اهلل ،وتوىل عدوه الشيطان؛ مل ييسره هلذه األمور،
313
قـــواعــد نبويــــة
بل وَالَّه اهلل ما توىل ،وخذله ،ووكله إىل نفسه ،وليس له على ربه حجة؛ فإن
اهلل أعطاه مجيع األسباب اليت يقدر بها على اهلداية ،ولكنه اختار الضاللة
على اهلدى فال يلومن إال نفسه ،قال تعاىل :ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﭼ [الكهف ،]29 :وقال عز
وجل:ﭽﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌ ﮍ
ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕﮖ
ﮗ ﭼ [املائدة ،]16:وهذا القَدَر يأتي على مجيع أحوال العبد وأفعاله
وصفاته ،حتى العجز والكَيْس ،كما يف احلديث« :كل شيء بقَدَر حتى العجز
()1
وهما الوصفان املتضادان الذي ينال باألول منهما :اخليبة والكيس»
واخلسران ،وبالثاني :اجلد يف طاعة الرمحن ،واملراد هنا :العجز الذي يالم
عليه العبد؛ وهو عدم اإلرادة ،والكسل ،ال العجز الذي هو عدم القدرة.
سهم وتوفيقهم
أما أهل السعادة :فييسرون لعمل السعادة ،وذلك بكَيْ ِ
ولطف اهلل بهم.
ومن ثم قال العلماء« :إذا كانت اهلداية مصروفة ،واالستقامة على
مشيئته موقوفة ،والعاقبة مغيّبة ،واإلرادة غري معلومة وال مغالَبَة؛ فال تعجب
بإميانك ،وصالتك ،ومجيع قُرَبك؛ فإنها من حمض فضل ربك وجوده ،فرمبا
سلبها عنك فوق ْعتَ يف هُوّة الندم حيث ال ينفع الندم»(.)2
واألصل يف هذا حديث سهل بن سعد – رضي اهلل عنه – عند
314
قــواعد نبـــوية
البخاري ،قال ׫ :إن الرجل ليعمل بعمل أهل اجلنة – فيما يبدو للناس –
وإنه ملن أهل النار ،ويعمل بعمل أهل النار – فيما يبدو للناس – وهو من
أهل اجلنة»( ،)1فالرياء هو اخلطر املهلك.
إن هذه القاعدة النبوية اجلليلة« :اعملوا فكلٌ ميسّر ملا خُلق له» تُلفت
انتباه اآلباء واملربني ألمر هو يف غاية األهمية ،عليهم مراعاته إلجناح عملية
تربيتهم ،هذا األمر هو :حماولة الكشف عن ميول املرتبي ،ومعرفة جوانب
اإلبداع عنده ،فإذا عرفها املربي سعى يف تطويرها له ،وصرف هلا الوقت
األكرب؛ واالهتمام األبلغ ،وال بد أن لكل إنسان خلقه اهلل تعاىل نفعٌ يف جمال
من جماالت احلياة ،فما خلق اهلل شيئاً عبثاً ،والسعيد من اكتشف جمال إبداعه
وختصصه يف وقت مبكر من العمر؛ ثم سعى يف تنميته وإذكائه.
وهذا هو ما طبّقه النيب × عملياً مع أصحابه رضوان اهلل عليهم،
فجعل للخطابة ثابت بن قيس ،وملنرب الشعر حسان ،وللمعارك سيف اهلل
خالد ،ويف الرتمذي وصححه من حديث أنس – رضي اهلل عنه – قال :قال
׫ :أرحم أميت بأميت أبو بكر ،وأشدهم يف أمر اهلل عمر ،وأصدقهم حياء
عثمان ،وأقرؤهم لكتاب اهلل أُبي بن كعب ،وأفرضهم زيد بن ثابت،
وأعلمهم باحلالل واحلرام معاذ بن جبل ،أال وإن لكل أمة أمينا وإن أمني
هذه األمة أبو عبيدة بن اجلراح»(.)2
» «
315
قـــواعــد نبويــــة
316
قــواعد نبـــوية
()1
مِن الشكر عند الرخاء ،والصرب عند البالء ،واهلل جيازي الفريقني.
مــا يفعــل املــرء فهــو أهلــه كــــلُّ امــــرءٍ يشــــبهه فعلــــه
فيا أيها املوفق! إذا قرأت قول نبيك ׫ :اعملوا فكلٌ ميسر ملا خلق
له» اعمل وال تيأس ،وال تقل :أنا مكتوب يف األشقياء فلمَ العمل! فهل
جاءك مرسوم إهلي أنك يف األشقياء؟ هل اطلعت على امسك يف اللوح
احملفوظ فإذا هو يف زمرة األشقياء؟ هل مسعت وأنت يف بطن أمك املَلَكَ
املوكّل بنفخ الروح فيك يُؤمر بأن تُكتَب شقياً؟!
إذن :كن متفائالً بالنجاح ،حمسناً الظن بربك ،وتقدم إليه مبا تستطيع
من الطاعات ،وجاهد نفسك على ترك احملرمات؛ فال مُكرِه لك عليها سوى
نفسك والشيطان ،فاستعن باهلل عليهما وعلى كل عدوٍ وال تعجز ،فإن اهلل
تعاىل قال :ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﭼ [مريم ،]76 :بل:
ﭽﯵ ﯶ ﭼ [حممد.]17 :
317
قـــواعــد نبويــــة
خالصة القاعدة:
الطريق إىل اهلل تعاىل هكذاِ ﴿ :لمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ َأنْ يََتقَدَّمَ أَوْ
يَتَ َأخَّرَ﴾..فال تتوقف.
حني تُقبل على الطاعة بيسر وحمبة وشوق فأبشر.
قنوطك من رمحة اهلل..من أعظم أهداف إبليس.
318
قــواعد نبـــوية
هذه قاعدة نبوية عظيمة ،تتفقد بيوت املسلمني ودُورَهم؛ لتضع عليها
بصمات السعادة ،وتنفخ فيها روح احلياة الطيبة ،جاءت هذه القاعدة اجلليلة
يتصدرها املدح والتشويق للمجهول! «خريكم»! ومن هذا الذي ال يسعى
ألن يكون من خريِ الناس! إن كنت تسعى لتلك اخلريية فكيف أنت مع
أهلك؟(.)2
واملراد أن حسن العشرة مع األهل من مجلة األشياء املطلوبة يف الدين،
فاملتصف به من مجلة اخليار من هذه اجلهة ،وقد يُوفّق بسبب هذه اخلصلة
()3
لسائر الصاحلات حتى يصري خرياً على اإلطالق.
وللعالمة الشوكاني تعليقٌ قيّم على هذا يقول فيه:
319
قـــواعــد نبويــــة
«يف ذلك تنبيه على أن أعلى الناس رتبة يف اخلري ،وأحقهم باالتصاف
به :هو من كان خري الناس ألهله؛ فإن األهل هم األحقاء بالبِشر وحسن
اخللق ،واإلحسان ،وجلب النفع ودفع الضر ،فإذا كان الرجل كذلك فهو
خري الناس ،وإن كان على العكس من ذلك فهو يف اجلانب اآلخر من الشر!
وكثرياً ما يقع الناس يف هذه الورطة؛ فرتى الرجل إذا لقي أهلَه كان أسوأ
الناس أخالقاً ،وأشجعهم نفساً ،وأقلهم خرياً! وإذا لقي غري األهل من
األجانب النت عريكتُه ،وانبسطت أخالقُه ،وجادت نفسُه ،وكثر خريُه ،وال
شك أن من كان كذلك فهو حمروم التوفيق! زائغٌ عن سواء الطريق! نسأل
اهلل السالمة»(.)1
إن أهلَ الرجلِ أحقُّ بإحسان اخلُلُق؛ ألنهم هم الذين معك ليالً
ونهاراً ،سراً وعالنية ،إن أصابك شيءٌ أصيبوا معك ،وإن سررت سروا
معك ،وإن حزنت حزنوا معك ،فلتكن معاملتك معهم خرياً من معاملتك
()2
مع األجانب.
وقد كان لقمان احلكيم يقول :العاقل يف بيته ومع أهله كالصيب ،فإذا
()3
كان يف القوم ُوجِد رجالً.
وقد كان حممد بن احلنفية يقول :ليس حبكيم من مل يعاشر باملعروف َمن
320
قــواعد نبـــوية
()1
ال جيد مِن معاشرته بُدّاً ،حتى جيعل اهلل له منه فرجًا وخمرجًا.
وإن من املؤمل ما يُقرأ ويُسمع من أخبار أتباع حممد × يف الزمن
املتأخر؛ الذين ما رعوا هذه القاعدة حق رعايتها« :خريكم؛ خريكم ألهله»
بل خالفوا مقصودها ومعناها ،فكم مسع الناس من قصص يندى هلا جبني
املروءة! وتبكي هلا األخالق الفاضلة! من أناس ال خيافون اهلل يف نسائهم،
فيضربونهن بغري حق ،وإن زعموا أن مثة حقاً أباح الضرب مل يقتصروا على
الضرب املربّح ،بل إىل الضرب الذي يُشعِر بأن القصد اإلهانة واإلذالل
واالنتقام! حتى استقبلتْ بعضُ املستشفيات حاالتٍ يشك معها اإلنسان أن
الضارب يف وعيه!
لقد حرم اهلل أذية املؤمنني واملؤمنات بغري ما اكتسبوا ،فكذلك ضربهم
بغري ما اكتسبوا حرام ،يقول تعاىل :ﭽﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﭼ
[األحزاب ،]58 :وسواء كان املضروب امرأةً وضا ِربُها زوجُها ،أو صغرياً
وضارِبه والدُه ،أو وصياً ألبيه عليه؛ ألن اهلل أباح هلؤالء ضربَ من سبق
()2
ذكرهم باملعروف؛ بغية اإلصالح ال اإلتالف.
أال يكفي هؤالء قولُ املصطفى عليه الصالة والسالم« :أال واستوصوا
بالنساء خرياً؛ فإمنا هن عَوانٍ عندكم( ،)3ليس متلكون منهن شيئاً غريَ ذلك،
321
قـــواعــد نبويــــة
322
قــواعد نبـــوية
323
قـــواعــد نبويــــة
324
قــواعد نبـــوية
إذن :فاستمتع بها على ما فيها من عِوَج ،و«ال يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن
كره منها خُلُقاً رضي منها آخر»(.)1
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال املسلمني ،واجعلنا مع أهلنا كما حتب
وترضا ،واهدنا ألحسن األخالق واألعمال ،وجنبنا سيئها؛ إنك مسيع
الدعاء.
خالصة القاعدة:
أهلك هم أحق الناس خبريك وابتسامتك ولطافتك.
تأسيك بأخالق نبيك عليه الصالة والسالم مع أهله؛ جتعلك
أسعد زوج.
اعلم أن حُسن تعاملك مع أهلك عبادة وقربة لك عند ربك.
325
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة نبوية من قواعد بناء اخلري ونشر املعروف ،قاعدة تدعو ألن
يبقى املسلمُ عضواً فاعالً للخري ،متحركاً إىل اإلحسان ،مبادراً إىل الطاعة،
سباقاً إىل الفضائل ،وأن ال يزهد عن خريٍ مهما صغر يف عينه ،ولو كان
بابتسامة يف وجه أخيه ،أو يلقى أخاه بوجهٍ طَلْق ،فإن عجز عن هذه وتلك،
فليكف شره عن الناس! فتلك صدقة ،وكل معروف صدقة.
واملعروف :اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اهلل تعاىل واإلحسان إىل
الناس ،وهو من الصفات الغالبة أي :أمرٌ معروف بني الناس ،إذا رأوه مل
()2
ينكروه.
326
قــواعد نبـــوية
بل قال بعضُ أهل العلم« :املعروف عند العرب ما يعرفه كل ذي
عقل ،وال ينكره أهل الفضل»(.)1
إن مِن كرم اهلل تعاىل أنه يُنيل اإلنسانَ الفوزَ باجلنة والنجاة من النار
بالعمل اليسري ،واملتأمل يف السنة النبوية جيد أن النيب × قد فتح للمؤمنني
آفاقاً رحبة لفعل املعروف ،الذي مثرته جنةٌ عرضها السماوات واألرض،
فلنقرأ شيئاً من هذه األعمال اليسرية ،ذات األجور العظيمة:
-1ثبت يف الصحيح عنه × أنه قال« :بينما رجل ميشي بطريق؛
وجد غصن شوك على الطريق فأخّره فشكر اهلل له فغفر له»(.)2
-2ويف الصحيح أيضاً عنه × يف قصة البغي اليت سقت كلباً أخرب
أن اهلل غفر هلا ذلك ،وأدخلها اجلنة ،ويف عموم اإلحسان إىل
البهائم ،يقول عليه الصالة والسالم« :يف كل كبد رطبة أجر»(.)3
-3ومن ذلك ما ثبت يف الصحيحني أنه × قال« :اتقوا النار ولو
بشق مترة ،فمن مل جيد فبكلمة طيبة»( )4فيا من عجز أو تكاسل عن
الصدقة جبزء من التمرة! هل تعجز عن كلمة طيبة تدخل بها
السرور على أخيك ،أو تدفع عنه بها حزنه ،أو تأمر مبعروف ،أو
تنهى عن منكر؟!
-4ومن النماذج التطبيقية هلذه القاعدة« :ال حتقرن من املعروف
327
قـــواعــد نبويــــة
328
قــواعد نبـــوية
وإن مل يكن له فيه نية ،سئل احلسن عن الرجل يسأله آخرُ حاجة وهو
يبغضه؛ فيعطيه حياء :هل له فيه أجر؟ فقال :إن ذلك ملن املعروف ،وإن يف
()1
املعروف ألجراً.
-6ومن أبواب املعروف :أداء حقوق املسلم على املسلم ،كـ :رد
السالم ،وعيادة املريض ،واتباع اجلنائز ،وإجابة الدعوة ،وتشميت
العاطس ،وإذا استنصحك فانصح له ،وإبرار القسم ،ونصر
املظلوم ،وإفشاء السالم ،وإرشاد الضال ،واملشي حبقوق اآلدميني
الواجبة إليهم ،وإنظار املعسر ،وبر الوالدين ،واإلحسان إىل
الزوجة ،وحسن تربية األوالد ،وبذل النصيحة ،وتعليم اجلاهل،
وقيادة األعمى ،وبذل الشفاعة احلسنة ،والدعاء للمسلمني.
-7ومن األحاديث العظيمة اليت تدل على سعة مدلول هذه القاعدة
– «ال حتقرن من املعروف شيئاً» – ما جاء يف احلديث الصحيح:
«أربعون خصلة أعالهن منيحة العنز( ،)2ما من عامل يعمل
خبصلة منها رجاء ثوابها ،وتصديق موعودها؛ إال أدخله اهلل بها
اجلنة»( ،)3فتأمل – أيها املسلم املبارك – هذا الرتغيب العجيب،
فإذا كانت أعلى هذه اخلصال األربعني هي منيحة العنز ،فما
ظنك مبا دونها؟! فمن حقق الشرط املذكور« :ما من عامل يعمل
خبصلة منها رجاء ثوابها ،وتصديق موعودها؛ إال أدخله اهلل بها
اجلنة» فقد وُفّق خلري عظيم.
329
قـــواعــد نبويــــة
330
قــواعد نبـــوية
خالصة القاعدة:
عطايا الكريم سبحانه ال حدّ هلا؛ فله احلمد.
أهل املعروف يف الدنيا هم أهل عطاء اهلل يف الدنيا واآلخرة.
حتى حني تكف أذاك وشرك عن الناس؛ فهي صدقة تتصدق
بها على نفسك.
331
قـــواعــد نبويــــة
هذه قاعدة نبوية جليلة القدر ،عظيمة النفع ،تدعو املسلم إىل أن يكون
– أبداً – عزيز النفس ،مرتفع القدر ،قوي الثقة بربه ،دائم االتصال به
سبحانه وتعاىل.
ولقد اشتملت هذه القاعدة العظيمة على مجلتني جامعتني للخري،
نافعتني للخلق:
«إحداهما :قوله« :من يستعفف يعفه اهلل».
والثانية :قوله« :ومن يستغن يغنه اهلل».
وهاتان اجلملتان متالزمتان ،فإن كمال العبد يف إخالصه هلل رغبة
ورهبة ،وتعلقاً به دون املخلوقني ،فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال،
ويعمل كل سبب يوصله إىل ذلك ،حتى يكون عبداً هلل حقاً ،حُرّاً من رِق
املخلوقني ،وذلك بأن جياهد نفسَه عن أمرين :انصرافها عن التعلق
332
قــواعد نبـــوية
باملخلوقني؛ باالستعفاف عما يف أيديهم ،فال يطلبه مبقاله وال بلسان حاله،
وهلذا قال × لعمر« :ما أتاك من هذا املال وأنت غري مشرفٍ وال سائلٍ
()1
فقَ ْطعُ اإلشراف يف القلب والسؤال فخذه ،وما ال فال تُتْبِعه نفسَك»
باللسان؛ تعففاً وترفعاً عن مِنن اخللق ،وعن تعلق القلب بهم؛ سببٌ قويٌ
حلصول العفة.
ومتام ذلك :أن جياهد نفسَه على األمر الثاني ،وهو :االستغناء باهلل،
والثقة بكفايته؛ فإنه من يتوكل على اهلل فهو حسبه ،وهذا هو املقصود،
واألول وسيلة إىل هذا؛ فإن من استعف عما يف أيدي الناس ،وعما يناله
منهم؛ أوجب له ذلك أن يقوى تعلُّقه باهلل ،ورجاؤه وطمعُه يف فضل اهلل
وإحسانه ،ويَحسُن ظنُّه وثقتُه بربه ،واهلل تعاىل عند حسن ظن عبده به :إن
ظن خرياً فله ،وإن ظن غريَه فله ،وكل واحد من األمرين ميُِد اآلخرَ فيقوِّيه،
فكلما قوي تعلُّقه باهلل ضعف تعلُّقه باملخلوقني ،وبالعكس.
ومِِن دعاء النيب ׫ :اللَّهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ا ْلهُدَى وَالتُّقَى ،وَا ْل َعفَافَ وَا ْلغِنَى»،
فجمع اخلريَ كلَّه يف هذا الدعاء.
فاهلدى :هو العلم النافع ،والتقى :العمل الصاحل ،وترك احملرمات
كلها ،وهذا صالح الدين ،ومتام ذلك :بصالح القلب ،وطمأنينته بالعفاف
عن اخللق ،والغنى باهلل ،ومن كان غنياً باهلل فهو الغين حقاً ،وإن ق ّلتْ
حواصِله ،فـ«ليس الغنى عن كثرة العَرَض ،إمنا الغنى غنى القلب»(،)2
333
قـــواعــد نبويــــة
وبالعفاف والغنى يتم للعبداحلياة الطيبة ،والنعيم الدنيوي ،والقناعة مبا آتاه
اهلل»(.)1
واعلم أن مستعمِل العفاف داخلٌ يف زمرة املعاملني هلل عز وجل؛ فإن
التعفف يوجب سرت احلال عن اخللق ،وإظهار الغنى هلم؛ فيصري معامالً يف
الباطن ،ويقع له من الربح على قدر صربه وصدقه(.)2
ومعنى قوله« :يعفه اهلل» أي :جيعله عفيفاً (مِن اإلعفاف) ،وهو :إعطاء
العفة ،وهي احلفظ عن املناهي ،يعين :من قنع بأدنى قوت ،وترك السؤال؛
سهّل عليه القناعة ،وهي كنز ال يفنى(.)3
تُ َ
تأمل معي – أيها القارئ – يف هذه اجلملة اليت صدّرها نبيك ×
بالقسم تنويهاً بشأنها« :والذي نفسي بيده! ألن يأخذ أحدُكم حبله فيحتطب
()4
فأقْسَم مبن على ظهره ،خريٌ له من أن يأتي رجالً فيسأله أعطاه أو منعه»
روحه بيده؛ على أن العمل مهما يكن نوعه فهو أفضل من سؤال الناس،
وإراقة ماء الوجه هلم ،وأنه مهما يكن شا ّقاً عنيفاً فهو أرحم من مذلّة
السؤال.
أي :ألن يذهب إىل الغابة فيقتطع احلطب من أشجاره ،وجيمعه وحيمله
على ظهره حتى يأتي السوق فيبيعه فيه «خري له» أي :أشرف وأكرم ،وأرحم
334
قــواعد نبـــوية
له من أن ميد يده لغريه ،سواء أعطاه أو منعه ،فإن منعه فقد كسر نفسه ،وإن
أعطاه فقد منّ عليه ،وقد قال الشاعر:
ن الرجــال
أحــبُّ إلــيَّ مِ ـنْ مِ ـنَ ِ ل
لَحَمْل الصَخْرِ مِنْ قِمَـمِ اجلِبَـا ِ
335
قـــواعــد نبويــــة
336
قــواعد نبـــوية
مبائة دينار ،فتعبت حتى مجعت مائة دينار ،فجئتها بها ،فلما وقعت بني
رجليها ،قالت :يا عبداهلل اتق اهلل ،وال تفتح اخلامت إال حبقه ،فقمت عنها ،فإن
كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ،فافرج لنا منها فرجة ،ففرج
هلم»(.)1
– ومن قصص العفة املؤثرة اليت ذكرها ابن قدامة – رمحه اهلل – يف
كتابه التوابني :أنه كان بالكوفة فتى مجيل الوجه ،شديد التعبد واالجتهاد،
وكان أحدَ الزهاد ،فنزل يف جوار قوم من النخع( ،)2فنظر إىل جارية منهم
مجيلة؛ فهويها وهام بها عقله ،ونزل بها مثل الذي نزل به ،فأرسل خيطبها من
أبيها ،فأخربه أبوها أنها مسماة البن عم هلا ،واشتد عليهما ما يقاسيان من أمل
اهلوى! فأرسلت إليه اجلارية :قد بلغين شدة حمبتك لي وقد اشتد بالئي بك
لذلك مع وجدي بك ،فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيين إىل
منزلي ،فقال للرسول :ال واحدة من هاتني اخلصلتني ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ [الزمر !]13 :أخاف ناراً ال خيبو سعريها ،وال
خيمد هلبها! فلما انصرف الرسول إليها فأبلغها ما قال؛ قالت :وأراه مع هذا
زاهداً خياف اهلل تعاىل ،واهللِ ما أحدٌ أحق بهذا من أحد ،وإن العباد فيه
ملشرتكون ،ثم اخنلعت من الدنيا وألقت عالئقها خلف ظهرها ،وجعلت
تعبد ،وهي مع ذلك تذوب وتنحل حباً للفتى وأسفاً عليه حتى ماتت شوقاً
إليه ،ثم حلقها بعد سبع ليال رمحهما اهلل»(.)3
337
قـــواعــد نبويــــة
قال ابن القيم رمحه اهلل – تعليقاً على قول بعضهم( :واهلل للذة العفة
أعظم من لذة الذنب)« :وال ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك
فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة اهلوى مبا ال نسبة بينهما ،وهاهنا
ميتاز العقل من اهلوى»(.)1
فيا كل من أساء وأذنب واقرتف؛ عجل بالتوبة ،وأسرع باإلقالع
والندم؛ واستعفف يعفك اهلل ،واستغن مبا آتاك اهلل يغنك اهلل ،لعله يكتب
لك اخلري قبل أن يفجأك املوت ،وتدركك املنية.
اللهم إنا نسألك اهلدى والتقى ،والعفاف والغنى ،اللهم أغننا حباللك
عن حرامك ،وبك عمن سواك ،وقنا وأهلينا واملسلمني الفنت ما ظهر منها
وما بطن.
خالصة القاعدة:
من جاهد نفسه على خلق طيب..فهو معان من اهلل.
استغن باهلل حيبك اهلل ،واستغن عن ما يف أيدي الناس حيبك
الناس.
العفة والقناعة كنزان ال يُقدران بثمن.
338
قــواعد نبـــوية
هذه قاعدة نبوية قيمة من القواعد اليت يربي املسلم عليها نفسه وهو
حيث اخلطى يف مسالك احلياة ،اليت يالقي فيها من هو أفضل منه يف شأن
الدنيا ،كما يالقي فيها من هو أقل.
وقد جاءت هذه القاعدة ضمن قول النيب « :انظروا إىل من أسفل
منكم وال تنظروا إىل من هو فوقكم» ،ثم علّل ذلك فقال« :فهو أجدر أن ال
تزدروا نعمة اهلل عليكم»(.)1
يا هلا من وصية نافعة! وكلمة شافية وافية! تدعو إىل شكر املنعم
املتفضل ،وتدعو إىل االعرتاف بنعمه ،والتحدث بها ،واالستعانة بها على
طاعته ،وفعل مجيع األسباب املعينة على الشكر.
وقد أرشد النيب × إىل هذا الدواء العجيب ،والسبب القوي لشكر
339
قـــواعــد نبويــــة
ِنعَم اهلل ،وهو :أن يلحظ العبدُ يف كل وقتٍ من هو دونه يف العقل والنسب
واملال ،وأصناف النعم ،فمتى استدام هذا النظر اضطره إىل كثرة شكر ربه
والثناء عليه؛ فإنه ال يزال يرى خلقاً كثرياً دونه بدرجات يف هذه األوصاف،
ويتمنى كثريٌ منهم أن يصل إىل قريبٍ مما أوتيه من عافيةٍ ومالٍ ورزق ،وخَلْق
وخُلُق؛ فيحمد اهللَ على ذلك محداً كثرياً.
ينظر إىل خلقٍ كثريٍ ممن سُلِبوا عقوهلَم ،فيحمد ربه على كمال العقل،
ويشاهد عاملاً كثرياً ليس هلم قوت مدّخر ،وال مساكن يأوون إليها ،وهو
مطمئن يف مسكنه ،مَوسّع عليه رزقه.
ويرى خلقاً كثرياً قد ابتُلُوا بأنواع األمراض ،وأصناف األسقام ،وهو
مُعافى من ذلك ،مُسَرْبل بالعافية ،ويشاهد خلقاً كثرياً قد ابتُلوا ببالء أفظع
من ذلك :باحنراف الدين! والوقوع يف قاذورات املعاصي! واهلل قد حفظه
منها أو من كثريٍ منها.
ويتأمل أناساً كثريين قد استوىل عليهم اهلم ،وملكهم احلزن
والوساوس ،وضيق الصدر ،ثم ينظر إىل عافيته من هذا الداء ،ومِنّةَ اهلل عليه
براحة القلب ،حتى رمبا كان فقرياً يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة
القلب – كثرياً من األغنياء.
ثم مَن ابتلي بشيء من هذه األمور جيد عاملاً كثرياً أعظم منه وأشد
مصيبة؛ فيحمد اهلل على وجود العافية ،وعلى ختفيف البالء؛ فإنه ما من
مكروه إال ويوجد مكروه أعظم منه.
فمن وُفِّق لالهتداء بهذا اهلدي الذي أرشد إليه النيب ×؛ مل يزل شكرُه
340
قــواعد نبـــوية
يف قوة ومنو ،ومل تزل نعمُ اهلل عليه ترتى وتتواىل ،ومن عكس القضية! فارتفع
نظرُه ،وصار ينظر إىل من هو فوقه يف العافية واملال والرزق وتوابع ذلك؛
فإنه ال بد أن يزدري نعمة اهلل ،ويفقد شكرَه ،ومتى فقد الشكر ترحَّلت عنه
النعم ،وتسابقت إليه النقم ،وامتُحن بالغم املالزم ،واحلزن الدائم ،والتسخط
ملا هو فيه من اخلري ،وعدم الرضى باهلل رباً ومدبراً ،وذلك ضررٌ يف الدين
والدنيا ،وخسرانٌ مبني.
واعلم أن من تفكَّر يف كثرة نعم اهلل ،وتفطن آلالء اهلل الظاهرة
والباطنة ،وأنه ال وسيلة إليها إال حمض فضل اهلل وإحسانه ،وأن جنساً من
نعم اهلل ال يقدر العبدُ على إحصائه وتعداده – فضالً عن مجيع األجناس،
فضالً عن شكرها – فإنه يضطر إىل االعرتاف التام بالنعم ،وكثرة الثناء على
اهلل ،ويستحي من ربه أن يستعني بشيء من نعمه على ما ال حيبه ويرضاه،
شعَب اإلميان؛ فاستحيى من
وأوجب له احلياء من ربه الذي هو من أفضل ُ
ربه أن يراه حيث نهاه ،أو يفقده حيث أمره ،ولقد اعرتف أعظمُ الشاكرين
بالعجز عن شكر نعم اهلل؛ فقال ׫ :ال أحصي ثناء عليك ،أنت كما أثنيت
على نفسك»(.)2(»)1
يقول الغزالي – رمحه اهلل – :وعجباً للمرء كيف ال يساوي دنياه
بدينه! فهو ينظر أبداً يف الدين إىل من هو دونه ال ملن فوقه! أفال يكون يف
الدنيا كذلك؟!
341
قـــواعــد نبويــــة
وقال احلكيم :ال يزال اإلنسان يرتقى يف درجات النظر علواً علواً،
كلما نال درجة مسا به حرصُه إىل النظر إىل ما فوقها ،فإذا نظر إىل من دونه
يف درجات الدين اعرتاه العُجْب فأعجب بنفسه؛ فطال بتلك الدرجة على
اخللق واستطال! فرُمي به من ذلك العلو فال يبقى منه عضوٌ إال انكسر
وتبدد!(.)1
قال عون بن عبداهلل :كنت أجالس األغنياء؛ فلم أزل مغموماً! كنت
أرى ثوباً أحسن من ثوبي! ودابة أفره من دابيت! فجالست الفقراء
فاسرتحت.
وحكي أن املزني :خرج من باب جامع الفسطاط( ،)2وقد أقبل ابنُ
عبداحلكم يف موكبه ،فبهره ما رأى مِن حسن حاله وحسن هيئته! فتال قوله
تعاىل :ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴﭼ ثم قال« :بلى
أصرب وأرضى» وكان فقرياً ُم ِقالً ،فالذي هو يف بيته ال يُبتلى مبثل هذه الفنت.
ومن شاهد زينة الدنيا :فإما أن يقوى دينُه ويقينُه؛ فيصرب اىل أن يتجرع
مرارة الصرب – وهو أمَرّ من الصَّبِر – ،أو تنبعث رغبتُه فيحتال يف طلب
الدنيا؛ فيهلك هالكاً مؤبداً ،أما يف الدنيا :فبالطمع الذي خييب يف أكثر
األوقات؛ فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له ،وأما يف اآلخرة فإيثاره متاعَ
الدنيا على ذكر اهلل تعاىل والتقرب إليه.
ولذلك قال ابن اإلعرابي:
مسوت إىل العلياء من جانب الفقر إذا كان باب الذل من جانب الغنى
342
قــواعد نبـــوية
343
قـــواعــد نبويــــة
خذ مين هذه احلادثة اليت وقفت عليها :رجلٌ زرتُه يف أحد املناطق يف
السعودية ،وقد أقعده حادث سيارة بسبب شلل رباعي ،أقعده يف املستشفى
عشرة أشهر ،وبقي يف بيته حنواً من مخس سنوات أو تزيد ،دخلتُ عليه ،وهو
ال يفرت عن ذكر اهلل ،ومحده وشكره ،ويردد :أنا أحسن من غريي ،اللهم لك
احلمد ،وأخذ حيدثنا عن السعادة القلبية اليت جيدها ،وأنه ميارس الدعوة إىل
اهلل مع األطباء واملمرضني الذين يرتددون عليه!
لقد رأيت يف هذا الرجل – الذي أسأل اهلل له شفاءً من عنده – تطبيقاً
عملياً هلذه القاعدة« :انظروا إىل من هو أسفل منكم».
اللهم قنعنا مبا رزقتنا ،وزدنا من فضلك ،وارزقنا شكر نعمك ،وحسن
عبادتك ،اللهم ال جتعل الدنيا أكرب همنا ،وال مبلغ علمنا ،وال غاية رغبتنا،
واجعل اللهم اجلنة دارنا ومأوانا.
خالصة القاعدة:
هكذا الشرع يدلك على ما فيه راحة بالك وطمأنينة نفسك.
لن تنزل بك مصيبة إال وقد نزل بغريك ما هو أفظع منها.
لو جلست تعد نعم اهلل عليك..فلن تتفرغ لرؤية ما حُرمت
من متاع الدنيا.
344
قــواعد نبـــوية
345
قـــواعــد نبويــــة
واملؤمن حني يسمع ويقرأ هذا احلديث العظيم ،وهو أصلُ كبري،
وقاعدة عظيمة يف باب األعمال ،فإنه ينبغي له أن يبحث عن أكرب نصيبٍ له
من هذه األسهم الثالث :الصدقة والعلم والذرية الصاحلة ،اليت منّ الكريم
الوهّاب ببقاء أثرها بعد فراق هذه احلياة.
واملالحظ أن هذه األسهم بتنوعها؛ تكشف عن جانب عظيم يف
اإلسالم ،وهو الشمول والتنوع:
ففي ذكر «الصدقة اجلارية» دعوة الكتساب املال من طرقه املباحة،
وثناء على الباذلني ،ال كما يفهم بعض الناس مسألة الزهد بطريقة منكوسة!
ويف التعبري بـ«اجلارية» إشارة إىل أهمية العناية باملال الذي يتعدى نفعه،
ولعل األوقاف من أظهر هذه الصور ،سواءُ بوقف العقارات اليت هلا مصرفٌ
وغلّة ثابتة ،أو بوقف السالح لنفع اجملاهدين يف سبيل اهلل ،أو وقف األجهزة
الطبية لعالج املرضى الذين قد ال يطيقون تكلفة العالج ،أو وقف الكتب –
وأشرفها كتاب اهلل – اليت ينتفع باستعماهلا واالنتفاع بها ،أو بناء املساجد
واملدارس ،وغريها من صور الوقف اليت تعددت يف عصرنا احلاضر ،وقامت
احلاجة إليها.
فمن وفّق لذلك ،فأجرُها جارٍ على العبد ما دام ينتفع بشيء منها.
ويف ذكر «العلم» وتقييده بالنافع ،حثٌ على طلب العلم الذي ينفع
العباد يف دينهم ودنياهم ،سواءٌ كان يف علم الشريعة – وهو أشرف العلوم –
أم يف علوم أخرى حيتاجها الناس ،كالطب واهلندسة وحنوها.
ومما يدخل حتت العلم النافع الذي يرتكه اإلنسان بعده :ختريج طلبة
346
قــواعد نبـــوية
العلم ،الذين يهيأون ليكونوا علماء املستقبل ،فإن لكل من ساهم يف بنائهم
العلمي أجراً ،وهو مشمول بهذه الغنيمة العظيمة« :أو علم ينتفع به».
وكم عاملٍ من علماء األمة الكبار ،إذا نظرتَ يف سريته ،وجدت أن من
شيوخه فالناً وفالناً من غري املشهورين ،لكنهم ساهموا يف بنائه وهو صغري،
فنفع اهلل به ،فال حتتقر – أخي طالب العلم – أي معلومة أو منتٍ توضّحه ،أو
داللة لطالب علمٍ مبتدئ على عامل يتعلم منه ،فإنك ال تدري ما الذي خيبئه
الغيب هلذا الشاب الصغري.
وواهلل إني ال أغبط أحداً يف هذه احلياة ،ال ملكاً مللكه ،وال تاجراً
لتجارته ،وال وجيهاً لوجاهته ،كما أغبط عاملاً ينتفع الناس بعلمه وهو يف
قربه منذ مئات السنني! فيا هلل! كم جرى هلم وعلى أيديهم من اخلري؟ ذلك
فضل اهلل يؤتيه من يشاء ،واهلل ذو الفضل العظيم.
ويف هذه اجلملة« :أو علم ينتفع به» تنبيه على البعد عن االشتغال
بالعلوم اليت ال تنفع ال يف الدنيا وال يف اآلخرة ،بل هي مضيع ُة وقت ،ورمبا
عادت عليه بالضرر ،وما أخبار العلماء الذين دخلوا يف علم الكالم
والفلسفة ،ثم ندمهم يف أواخر حياتهم ،إال منوذج لذلك.
ويف عصرنا احلاضر ،انفتحت على الشباب نوافذ فكرية كثرية،
وتنوعت عليهم مصادر املعرفة ،فصار بعضهم ال مييز ،فيقرأ كلّ ما وقعت
عليه يده ،فأثّر هذا يف إميانهم ،وتزعزع اليقني عند بعضهم يف عقائدهم اليت
رضعوها صافية نقيةً صفاء املاء النازل من السماء ،فتكررت مشاهد احلرية
اليت عانى منها العلماء الذين أشرتُ إليهم آنفاً ،فهل من معترب؟!
347
قـــواعــد نبويــــة
348
قــواعد نبـــوية
خترجوا بتعليمه ،وهدايته وإرشاده ،أو من أقاربه وأصحابه احملبني ،أو من
عموم املسلمني ،حبسب مقاماته يف الدين ،وحبسب ما أوصل إىل العباد من
اخلري ،أو تسبب به ،وحبسب ما جعل اهللُ له يف قلوب العباد من الود الذي ال
بد أن ترتتب عليه آثارُه الكثرية ،اليت منها :دعاؤهم ،واستغفارهم له ،وكلها
تدخل يف هذا احلديث الشريف.
وقد جيتمع للعبد يف شيء واحد عدةُ منافع :كالولد الصاحل العامل،
الذي سعى أبوه يف تعليمه ،وكالكُتُب اليت يقفها ،أو يهبها ملن ينتفع بها.
ويُستدل بهذا احلديث على :الرتغيب يف التزوج ،الذي من مثراته
حصول األوالد الصاحلني ،وغريها من املصاحل ،كصالح الزوجة وتعليمها
ما تنتفع به ،وتنفع غريها»(.)1
وههنا رسالة عظيمة! يرسلها ابن حجر اهليتمي – رمحه اهلل – لكل
كاتب وناسخ فيقول ـ عن حديث «من سنّ سنة حسنة ،أو سنّ سنة سيئة»:
«بشرى عظيمة ملن نسخ علماً نافعاً ،وهي أنه يكون له أجرُه وأجرُ من
قرأه أو نسخه ،أو عملَ به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به ،وإنذارٌ عظيم
ملن نسخ علماً فيه إثمٌ؛ وهو أن عليه وزرُه ووزرُ من قرأه أو نسخه أو عملَ
به بعدَه ما بقي خطُّه والعملُ به»(.)2
وحنن اآلن يف عصر اجلوال واإلنرتنت والفيسبوك وتويرت – وغريها
من مواقع التواصل االجتماعي – فقبل أن تكتب شيئاً لتنشره يف الناس
تأمل :هل فيه خريٌ وحق وصواب أو داللة إليه؟ أم فيه شرٌ وتضليلٌ وإفسادٌ
349
قـــواعــد نبويــــة
أو داللةٌ إليه؟ فإن كان األول؛ فأصلِح النية واعلم أن لك أجرُه وأجر من
قرأه أو نسخه أو عمل به ،وإن كان الثاني – عياذاً باهلل – فاعلم أن عليك
وزره ووزر من عمل به أو نسخه أو دعا إليه ،جيلي هذا املعنى حديث
املصطفى عليه الصالة والسالم« :ال تُقتل نفسٌ ظلماً إال كان على ابن آدم
األول كفلٌ من دمها؛ ألنه كان أول من سنَّ القتل»(.)1
كِتابتــــهُ وإن فنيــــت يــــداه ومــا مــن كاتــب إال ســتبقى
يســـرك يف القيامـــة أن تـــراه فــال تكتــب بكفــك غــري شــيء
خالصة القاعدة:
حتى بعد موتك أيها املؤمن..وعطايا الرب ال تنساك!
عود نفسك على الصدقة ولو بالقليل.
بلّغ من العلم ولو آية أو حديثاً.
إن حُرمت من العلم الشرعي فاغتنم الفرصة يف ولدك.
350
قــواعد نبـــوية
351
قـــواعــد نبويــــة
352
قــواعد نبـــوية
353
قـــواعــد نبويــــة
354
قــواعد نبـــوية
فهرس الفوائد
الصفحة الفائدة م
355
قـــواعــد نبويــــة
356
قــواعد نبـــوية
357
قـــواعــد نبويــــة
358
قــواعد نبـــوية
359
قـــواعــد نبويــــة
360
قــواعد نبـــوية
361
قـــواعــد نبويــــة
362
قــواعد نبـــوية
363
قـــواعــد نبويــــة
364
قــواعد نبـــوية
فهرس املوضوعات
القاعدة النبوية الثانية :من أحدث يف أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد 18..........................
القاعدة النبوية احلادية عشرة :من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها
بعده 76.........................................................................................
القاعدة الثانية عشرة :كل مسكر مخر ،وكل مخر حرام 82.......................................
سبُه 90...............................
القاعدة النبوية الثالثة عشرة :مَن بطّأ به عملُه مل يسرع به َن َ
365
قـــواعــد نبويــــة
القاعدة النبوية اخلامسة عشرة :إمنا الناس كاإلبل املائة 107 ....................................
القاعدة النبوية السادسة عشرة :الظلم ظلمات يوم القيامة 115 ................................
القاعدة النبوية السابعة عشرة :وأتبع السيئة احلسنة متحها 123 .................................
القاعدة النبوية الثامنة عشرة :ما أُعطي أحدٌ عطاءً خرياً وأوسع من الصرب130 .................
القاعدة النبوية التاسعة عشرة :من حسن إسالم املرء ترْكُه ما ال يعنيه 137 .....................
القاعدة النبوية العشرون :احرص على ما ينفعك ،واستعن باهلل وال تعجز 144 ...............
القاعدة النبوية احلادية والعشرون :من تشبه بقومٍ فهو منهم 151 ..............................
القاعدة النبوية الثانية والعشرون :ال يُلدغ املؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتني 160 ..................
القاعدة النبوية الثالثة والعشرون :من عادى لي ولياً فقد آذنته باحلرب 166 ...................
القاعدة النبوية الرابعة والعشرون :من غشنا فليس منا 172 ....................................
القاعدة النبوية اخلامسة والعشرون :إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء 178 .................
القاعدة السادسة والعشرون :ما أنزل اهلل داءً إال أنزل له شفاءً 184 ............................
القاعدة النبوية التاسعة والعشرون :وليأتِ إىل الناس الذي حيب أن يؤتى إليه 202 .............
القاعدة النبوية الثالثون :كن يف الدنيا كأنك غريب ،أو عابر سبيل 209 .......................
القاعدة النبوية احلادية و الثالثون :إن اهلل طيب ال يقبل إال طيباً 217 .........................
366
قــواعد نبـــوية
القاعدة النبوية الثانية والثالثون :مثل اجلليس الصاحل واجلليس السوء :كحامل املسك ،ونافخ
القاعدة الثالثة والثالثون :ما زاد اهللُ عبداً بعفو إال عزاً 230 ....................................
القاعدة النبوية الرابعة والثالثون :نعمتان مغبونٌ فيهما كثري من الناس :الصحّة والفراغ 237 ..
القاعدة النبوية اخلامسة والثالثون :املسلم من سلِم املسلمون من لسانه ويده 244 .............
القاعدة النبوية السادسة والثالثون :كلكم راعٍ ،وكلكم مسئولٌ عن رعيته () 251 ...............
القاعدة النبوية الثامنة والثالثون :ال يأتي على الناس زمانٌ إال والذي بعده شرٌ منه 265 ......
القاعدة النبوية احلادية واألربعون :كل الناس يغدو فبائع نفسه :فمعتقها أو موبقها286 ........
القاعدة النبوية الثالثة واألربعون :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فلْيقل خرياً أو ليصمت 298
القاعدة النبوية الرابعة واألربعون :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليُكرم جارَه 305 ........
القاعدة النبوية اخلامسة واألربعون :اعملوا فكلٌ ميسّر ملا خُلق له 312 ........................
القاعدة النبوية السابعة واألربعون :ال حتقرنّ من املعروف شيئاً 326 ...........................
القاعدة النبوية الثامنة واألربعون :من يستعفف يُعِفَّه اهلل ،ومن يستغن يُغنِه اهلل 332 ...........
367
قـــواعــد نبويــــة
القاعدة النبوية التاسعة واألربعون :انظروا إىل من هو أسفل منكم 339 ........................
القاعدة النبوية اخلمسون :إذا مات اإلنسان انقطع عملُه إال من ثالث345 .....................
368