Download ebook pdf of خراب كتاب عن الأمل Mark Manson الحارث النبهان full chapter

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 69

■■■■ ■■■■ ■■ ■■■■■ Mark Manson

■■■■■■ ■■■■■■■
Visit to download the full and correct content document:
https://ebookstep.com/download/ebook-29242702/
More products digital (pdf, epub, mobi) instant
download maybe you interests ...

Modeller 1st Edition Mark Manson

https://ebookstep.com/product/modeller-1st-edition-mark-manson/

Will 1st Edition Will Smith Mark Manson

https://ebookstep.com/product/will-1st-edition-will-smith-mark-
manson/

■■■■ ■■■■ ■■ ■■■■■ Mark Manson ■■■■■■ ■■■■■■■

https://ebookstep.com/download/ebook-29242702/

Pratique Grammaire B1 1st Edition Evelyne Sirejols

https://ebookstep.com/product/pratique-grammaire-b1-1st-edition-
evelyne-sirejols/
A medida B1 guía didáctica 1st Edition Anaya

https://ebookstep.com/product/a-medida-b1-guia-didactica-1st-
edition-anaya/

Filiation du Fils unique et filiation des croyants dans


le quatrième évangile À partir de l étude de Jn 1 1 18
3 19 16b 42 20 11 18 Volume 86 Études Bibliques
Nouvelle Série 1st Edition A. De Lamarzelle
https://ebookstep.com/product/filiation-du-fils-unique-et-
filiation-des-croyants-dans-le-quatrieme-evangile-a-partir-de-l-
etude-de-jn-1-1-18-3-19-16b-42-20-11-18-volume-86-etudes-
bibliques-nouvelle-serie-1st-edition-a-de-lamarze/

Lo straniero A2 B1 Primi Racconti 1st Edition Marco


Dominici

https://ebookstep.com/product/lo-straniero-a2-b1-primi-
racconti-1st-edition-marco-dominici/

L eredità B1 B2 Primi Racconti 1st Edition Luisa Brisi

https://ebookstep.com/product/l-eredita-b1-b2-primi-racconti-1st-
edition-luisa-brisi/

Deutsch intensiv Wortschatz B1 Das Training 1st


Edition Arwen Schnack

https://ebookstep.com/product/deutsch-intensiv-wortschatz-b1-das-
training-1st-edition-arwen-schnack/
‫مارك مانسون‬
‫َخ راب‬
‫كتاٌب عن األمل‬
‫الكتاب‪َ :‬خ راب‪ :‬كتاٌب عن األمل‬
‫تأليف‪ :‬مارك مانسون‬
‫ترجمة‪ :‬الحارث النبهان‬
‫عدد الصفحات‪ 290 :‬صفحة‬
‫الترقيم الدولي‪978-614-472-072-1 :‬‬
‫الطبعة األولى‪2019 :‬‬
‫هذه ترجمة مرخصة لكتاب‬
‫‪EVERYTHING IS F*CKED:‬‬
‫‪A BOOK ABOUT HOPE BY MARK MANSON‬‬
‫‪EVERYTHING IS F*CKED‬‬
‫‪Copyright © 2019 by Mark Manson‬‬
‫‪All rights reserved‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة © دار التنوير ‪2019‬‬
‫الناشر‬

‫منشورات الرمل‬
‫‪An Imprint of Dar Altanweer‬‬
‫لبنان‪ :‬بيروت ‪ -‬بئر حسن‪ -‬بنياية فارس قاسم (سارة بنما) ‪ -‬الطابق السفلي‬
‫هاتف‪009611843340 :‬‬
‫بريد إلكتروني‪darattanweer@gmail.com :‬‬
‫مصر‪ :‬القاهرة ‪ -2‬شارع السرايا الكبرى (فؤاد سراح الدين سابقا) ‪ -‬جاردن سيتي‬
‫هاتف‪002022795557 :‬‬
‫بريد إلكتروني‪cairo@dar-altanweer.com :‬‬
‫تونس‪ ،24 :‬نهج سعيد أبوبكر ‪ 1001 -‬تونس‬
‫هاتف وفاكس‪0021670315690 :‬‬
‫بريد إلكتروني‪tunis@dar-altanweer.com :‬‬
‫موقع إلكتروني‪www.dar-altanweer.com :‬‬
‫مارك مانسون‬

‫َخراب‬
‫كتاٌب عن األمل‬

‫ترجمة‬
‫الحارث النبهان‬
‫(فريق الكتب النادرة)‬
‫من مصر‪(:‬شمس الحياة)(ماجدة علي)(هشام حسني)(م‪ .‬محمد خضر)(ماجد‬
‫حّنا)(أحمد حنفي)(محمد مصطفي كمال)(مروة جمال)(محمد ماهر)(تيسير)‬
‫(اريج)‬
‫ّي‬
‫من السعودية‪(:‬زينه الحربي)(صالح الضويحي)(ن‪ .‬أبو قصّي الراشد )(غدو)(‬
‫‪()The-Inspired‬تميم التميمي)(نجاح السبيعي)(خالد مريع)(سماهر)‬
‫من الكويت‪(:‬منصور التميمي)‬
‫من لبنان‪(:‬حسن العاملي)(أحمد لحاف)(هادي أبراهيم)‬
‫من الجزائر‪(:‬سعدي إلياس)‬
‫من سوريا‪(:‬حذيفة ُم حمد)(رنا وليد)(محمد المقداد)‬
‫من العراق‪(:‬علي الشمري)(محمد باقر)(آيات علي)(الخزرجي)(مصطفى‬
‫الطائي)‬
‫من المملكة المتحدة‪(:‬يزن)‬
‫من المغرب‪(:‬رشيد تاديست)‬
‫مراجعه وتنسيق‪:‬‬
‫(طارق دردوري)‬
‫مكتبة [‪]Telegram Network‬‬
‫إلى فرناندو‪ ...‬بالطب‬
‫القسم األول‬
‫األمل‬
‫الفصل األول‬
‫الحقيقة غير المريحة‬
‫على رقعة صغيرة من األرض في ريف وسط أوروبا ذي الطبيعة الرتيبة‪،‬‬
‫بين مستودعات باقية من ثكنات عسكرية قديمة‪ ،‬سينشأ شٌّر ُم قيٌم في هذا‬
‫المكان‪ ،‬شٌّر أكثر عتمًة وثقاًل من أي شيء عرفه العالم من قبل‪ .‬سيجري‬
‫هناك على امتداد خمس سنين‪ ،‬على نحو منهجي‪ ،‬خزن مليون وثالثمئة‬
‫ألف إنسان‪ ،‬واستعبادهم وتعذيبهم وقتلهم‪ .‬وسوف يحدث هذا كله ضمن‬
‫مساحة ليست أكبر إال قلياًل من حديقة سنترال بارك في مانهاتن‪ ،‬ولن يفعل‬
‫أحد شيًئ ا إليقاف ذلك‪.‬‬
‫إال رجل واحد!‬
‫ًة‬
‫هذا شيء يشبه ما نسمعه عاد في القصص الخيالية والكتب المصورة‪:‬‬
‫بطل يسير منتصب القامة فيدخل بين فكي الجحيم الناريين حتى يواجه‬
‫واحًد ا من تجليات الشر الكبرى‪ .‬فرص النجاح مستحيلة‪ .‬واألساس المنطقي‬
‫يدعو إلى الضحك‪ .‬لكن بطلنا األسطوري ال يعرف التردد أبًد ا‪ ،‬وال يرف له جفن‪.‬‬
‫يقف مرفوع الهامة‪ ،‬ويذبح التنين‪ ،‬ويسحق الغزاة الشياطين‪ ،‬وينقذ الكوكب‪...‬‬
‫وقد ينقذ معه أيًض ا أميرة أو أميرتين!‬
‫ولوهلة من الزمن‪ ،‬يكون األمل موجوًد ا‪.‬‬
‫لكن هذه ليست قصة عن األمل‪ .‬إنها قصة عن كون كل شيء خراًبا في‬
‫خراب‪ ...‬خراب ذو حجم كبير‪ ،‬ذو أبعاد ال نستطيع تخُّيلها‪ ،‬أنا وأنت‪ ،‬بعد أن‬
‫صرنا ننعم باإلنترنت المجاني وببطانيات دافئة وثيرة‪.‬‬
‫كان ويتولد بيلينسكي واحًد ا من أبطال الحرب في بولونيا قبل أن يقرر‬
‫التسلل إلى معسكر أوشفيتز‪ .‬ففي أول شبابه‪ ،‬تلقى الضابط بيلينسكي‬
‫أوسمة في الحرب البولونية السوفياتية التي جرت سنة ‪ .1918‬لقد سّد د‬
‫ركالت عنيفة للشيوعيين حتى قبل أن يعرف أكثر الناس شيًئ ا عن مدى‬
‫سوئهم‪ .‬وبعد الحرب‪ ،‬أقام بيلينسكي في الريف البولوني‪ ،‬وتزوج معلمة‬
‫مدرسة‪ ،‬وأنجب طفلين‪ .‬كان رجاًل يستمتع بركوب الخيل وبالقبعات الجميلة‬
‫وبتدخين السيجار‪ .‬كانت حياته حسنة‪ ،‬وبسيطة‪.‬‬
‫ثم أتى هتلر‪ .‬وقبل أن تتمكن بولونيا من التأهب للمواجهة‪ ،‬كان النازيون‬
‫قد اجتاحوا أكثر من نصفها‪ .‬فقدت بولونيا أرضها كّلها خالل شهر وبضعة أيام‪.‬‬
‫لكن تلك لم تكن معركة منصفة على اإلطالق‪ :‬أتى الغزو النازي من الغرب‪،‬‬
‫وأتى الغزو السوفياتي من الشرق‪ .‬كان ذلك أشبه بأن يجد المرء نفسه‬
‫مسحوًق ا بين صخرتين‪ .‬لكن الصخرة األولى كانت قاتاًل مهووًس ا أصابه جنون‬
‫العظمة فأراد أن يغزو العالم كّله؛ وكانت الصخرة الثانية حالة من اإلبادة‬
‫الجماعية المفتقرة إلى أي معنى‪ .‬ال أزال غير واثق من أي الصخرتين كان‬
‫هذا وأيهما كانت تلك‪.‬‬
‫في أول األمر‪ ،‬كانت وحشية السوفيات أشد كثيًرا من وحشية النازيين‪.‬‬
‫لقد فعلوا ذلك من قبل‪ ،‬كما نعرف‪« ...‬أن تطيح بالحكومة وتستعبد السكان‬
‫بحسب إيديولوجيتك المختّلة»‪ ،‬وكان النازيون ال يزالون «إمبريالية عذراء»‪،‬‬
‫إلى حد ما‪( .‬ليس تخّيل هذا األمر صعًبا عندما ينظر المرء إلى شارَبي هتلر‬
‫في الصور)‪ُ .‬ق ِّد ر عدد المواطنين البولونيين الذين اعتقلهم السوفيات‬
‫وأرسلوهم إلى الشرق بنحو مليون شخص‪ .‬فّكر في هذا لحظة! مليون‬
‫شخص‪ ،‬خالل شهور فقط‪ ...‬اختفوا‪ .‬لم تتوّقف رحلة بعضهم إال في‬
‫معسكرات الغوالغ(‪ )1‬في سيبيريا؛ وُع ثر على جثث اآلخرين في قبور جماعية‬
‫بعد عشرات السنين من ذلك‪ .‬وال يزال مصير الكثيرين مجهواًل حتى هذا‬
‫اليوم‪.‬‬
‫خاض بيلينسكي هاتين المعركتين ‪ -‬حارب ضد األلمان‪ ،‬وحارب ضد‬
‫السوفيات‪ .‬وبعد الهزيمة‪ ،‬شّكل مع عدد من زمالئه الضباط البولونيين حركة‬
‫مقاومة سّرية في وارسو‪ .‬كانوا يدعون أنفسهم «الجيش البولوني السّري»‪.‬‬
‫وفي ربيع سنة ‪ ،1940‬وردت إلى الجيش البولوني السِّري أخبار تقول إن‬
‫األلمان يبنون سجًن ا ضخًم ا بالقرب من بلدة نائية في الناحية الجنوبية من‬
‫البالد‪ .‬أطلق األلمان على هذا السجن الجديد اسم أوشفيتز‪ .‬راح آالف من‬
‫ضباط الجيش ومن الوطنيين البولونيين البارزين يختفون من غرب بولونيا في‬
‫صيف ‪ .1940‬تصاعدت لدى المقاومة الخشية من أن ما جرى من اعتقاالت‬
‫جماعية كبيرة على يد السوفيات في شرق البالد قد بدأ اآلن يجري في‬
‫غربها‪ .‬واتجهت شكوك بيلينسكي ورفاقه إلى أن من المحتمل أن يكون‬
‫أوشفيتز‪ ،‬الذي كان سجًن ا بحجم بلدة صغيرة‪ ،‬على صلة مباشرة بحوادث‬
‫االختفاء تلك‪ .‬ظّنوا أيًض ا أن آالًف ا من الجنود البولونيين السابقين قد يكونون‬
‫محبوسين فيه‪.‬‬
‫ّل‬
‫وعند ذلك‪ ،‬تطوع بيلينسكي بأن يتس ل إلى داخل أوشفيتز‪ .‬كانت تلك‬
‫مهمة إنقاذية‪ :‬سوف يدعهم يعتقلونه أول األمر؛ وبعد أن يصير هناك‪ ،‬سينظم‬
‫الجنود البولونيين اآلخرين‪ ،‬ويقود تمرًد ا في السجن بحيث ينجح الجميع في‬
‫الخروج منه‪.‬‬
‫كانت تلك مهمة انتحارية تكاد تشبه مطالبة قائده بأن يسمح له بشرب‬
‫دلو من مادة سامة‪ .‬ظنه رؤساؤه مجنوًنا‪ ،‬وقالوا له ذلك‪ .‬لكن تفاقم المشكلة‬
‫تواصل على مر األسابيع‪ :‬كان آالف من أفراد النخبة البولونية يختفون؛ وكان‬
‫معسكر أوشفيتز ال يزال سًّرا كبيًرا بالنسبة إلى شبكة استخبارات الحلفاء‪.‬‬
‫لم تكن لدى الحلفاء أية فكرة عما يجري هناك؛ ولم يكن لديهم كبير فرصة‬
‫الكتشافه‪ .‬وافق قادة بيلينسكي آخر األمر‪ .‬وفي إحدى الليالي‪ ،‬ترك‬
‫بيلينسكي نفسه ُيعتقل على يد القوات الخاصة النازية عند أحد الحواجز في‬
‫وارسو ألنه خرق حظر التجول‪ .‬وسرعان ما كان في طريقه إلى أوشفيتز‪،‬‬
‫فكان الرجل الوحيد الذي ُع رف عنه أنه دخل معسكر اعتقال نازًيا بملء إرادته‪.‬‬
‫اكتشف صاحبنا بعد وصوله إلى معسكر أوشفيتز أن الواقع هناك كان‬
‫أسوأ كثيًرا مما ظّنه أي شخص‪ .‬كانوا يطلقون النار على السجناء وقت‬
‫اصطفافهم من أجل التفقد اليومي‪ ،‬وذلك ألسباب تافهة جًّد ا من قبيل أن‬
‫يتململ السجين في وقفته‪ ،‬أو أن يقف غير منتصب القامة‪ .‬كان العمل‬
‫اليدوي المفروض عليهم شديد اإلرهاق؛ وكان عماًل ال ينتهي‪ .‬كانوا يجعلون‬
‫الرجال يعملون حتى الموت ‪ -‬حرفًّيا ‪ -‬ويطلبون منهم أداء أعمال ال فائدة منها‪،‬‬
‫أو ال معنى لها‪ .‬وخالل الشهر األول من وجود بيلينسكي هناك‪ ،‬مات ثلث‬
‫نزالء المبنى الذي كان فيه‪ ،‬ماتوا نتيجة اإلرهاق الشديد‪ ،‬أو االلتهابات‬
‫الرئوية‪ ،‬أو نتيجة إطالق النار عليهم‪ .‬على الرغم من هذا‪ ،‬لم تأت نهاية عام‬
‫‪ 1940‬وإال وكان بيلينسكي (ذلك البطل الخارق العجيب اآلتي من كتب‬
‫القصص المصورة) قد تمّكن من إقامة شبكة تجّس س داخل المعسكر‪.‬‬
‫«أوه‪ ،‬يا بيلينسكي‪ ...‬أنت‪ ،‬أيها العمالق‪ ،‬أيها البطل‪ ،‬يا من يطير فوق‬
‫هاوية الجحيم!‪ ...‬كيف تمّكنت من خلق شبكة استخباراتية ترسل المعلومات‬
‫إلى الخارج عبر رسائل مخبأة في سالل مالبس الغسيل؟ كيف تمّكنت من‬
‫صنع جهاز السلكي مستخدًم ا عناصر من أجهزة مختلفة مع بطاريات‬
‫مسروقة مثلما يفعل بطل مسلسل بوليسي‪ ،‬ثم أرسلت من خالله إلى‬
‫الجيش البولوني السّري في وارسو خطًطا لمهاجمة معسكر السجن؟ كيف‬
‫تمّكنت من إقامة حلقات تهريب تأتي للسجناء بالطعام واألدوية والمالبس‪،‬‬
‫فأنقذت أرواح أشخاص كثيرين‪ ،‬وأنعشت األمل في قلوب البشر التي فقدت‬
‫كل أمل؟ ما الذي فعله هذا العالم حتى يستحق شخًص ا مثلك؟‬
‫وعلى امتداد سنتين‪ ،‬بنى بيلينسكي وحدة مقاومة كاملة داخل معسكر‬
‫أوشفيتز‪ .‬كان لديه تسلسل قيادي‪ ،‬وضباط‪ ،‬ورتب عسكرية‪ ،‬وشبكة إمداد‪،‬‬
‫وخطوط اتصال مع العالم الخارجي‪ .‬ظل هذا كّله جارًيا على امتداد سنتين‪،‬‬
‫ولم يكتشفه عناصر القوات الخاصة النازية‪ .‬كانت غاية بيلينسكي النهائية‬
‫التحضير لتمرد شامل داخل المعسكر‪ .‬رأى أن من الممكن تحرير السجناء‬
‫جميًع ا بالتنسيق مع من هم خارج السجن‪ ،‬وبمساعدة منهم‪ ،‬وذلك بحيث‬
‫يتم التغّلب على العدد القليل من عناصر القّوات الخاّصة‪ .‬وهذا ما سيكون من‬
‫شأنه تحرير آالف من مقاتلي حرب العصابات البولونيين المدَّربين جّيًد ا‪ .‬كان‬
‫يرسل تقاريره وخططه إلى وارسو‪ .‬انتظر شهوًرا‪ .‬واستطاع أن يظل حيًّا طيلة‬
‫تلك الشهور‪.‬‬
‫وعند ذلك‪ ،‬بدأ وصول اليهود‪ .‬كانوا يأتون بهم في باصات أول األمر‪ ،‬ثم‬
‫صارت تأتي قطارات محّملة بهم‪ .‬وسرعان ما باتوا يصلون بعشرات األلوف‪ :‬تيار‬
‫ال ينقطع من بشر وافدين إلى بحر اليأس والموت‪ .‬كانوا يجّردونهم من‬
‫ممتلكاتهم العائلية كّلها‪ ،‬ومن كرامتهم‪ ،‬ويحشرونهم في صاالت «الحمامات»‬
‫المعَّد ة حديًث ا حيث يقتلونهم بالغاز‪ ،‬ثم يحرقون جثثهم‪.‬‬
‫صارت تقارير بيلينسكي الواصلة إلى العالم الخارجي شديدة التوتر‪ .‬إنهم‬
‫يقتلون عشرات اآلالف من الناس كل يوم‪ .‬أكثرهم يهود‪ .‬من المحتمل أن‬
‫تكون حصيلة القتلى بالماليين‪ .‬كان يتوّس ل إلى الجيش البولوني السّري من‬
‫أجل بدء عملية تحرير السجناء على الفور‪ .‬كان يقول لهم‪ :‬إذا كنتم غير‬
‫قادرين على تحرير السجناء‪ ،‬فعليكم أن تفّج روا هذا المكان‪ ،‬بحق الرب‪ .‬دمروا‬
‫غرف الغاز‪ ،‬على األقّل »‪.‬‬
‫كان الجيش البولوني السّري يتلّقى رسائل بيلينسكي‪ ،‬لكنه اعتقد بأن‬
‫فيها مبالغة‪ .‬ففي أذهانهم‪ ،‬ما كان يمكن أن يوجد شيء على هذه الدرجة‬
‫من السوء والفظاعة‪ ...‬ال شيء!‬
‫كان بيلينسكي أول شخص على اإلطالق ينبه العالم إلى الهولوكوست‪.‬‬
‫كانت المعلومات التي يرسلها تصل إلى مجموعات المقاومة المختلفة في‬
‫أنحاء بولونيا‪ ،‬وكذلك إلى الحكومة البولونية في المنفى التي كانت مقيمة‬
‫في المملكة المتحدة‪ .‬وكانت حكومة المنفى تتوّلى بدورها إيصال األخبار إلى‬
‫قيادة قوات الحلفاء في لندن‪ .‬وفي آخر المطاف‪ ،‬كانت تلك المعلومات تجد‬
‫طريقها إلى أيزنهاور وتشرشل‪.‬‬
‫اعتقد الرئيسان أيًض ا بأن كالم بيلينسكي كان مبالًغ ا فيه!‬
‫أدرك بيلينسكي في سنة ‪ 1943‬أن خططه الرامية إلى إثارة تمرد في‬
‫السجن يفضي إلى تحرير السجناء لن تجد طريقها إلى التنفيذ‪ :‬لن يأتي‬
‫الجيش البولوني السّري! ولن يأتي البريطانيون وال األميركيون! االحتمال‬
‫األكثر ترجيًح ا هو أن يأتي السوفيات‪ ...‬وسوف يكون ذلك أسوأ‪ .‬قرر‬
‫بيلينسكي أن خطورة البقاء في معسكر أوشفيتز قد صارت كبيرة جًد ا‪ .‬لقد‬
‫حان وقت الفرار من أوشفيتز!‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬جعل بيلينسكي هذا األمر يبدو سهاًل ‪ .‬تظاهر بالمرض أول‬
‫األمر‪ ،‬وتمّكن من دخول مستشفى المعسكر‪ .‬ومن هناك‪ ،‬تمّكن من خداع‬
‫األطباء عبر إعطائهم معلومات كاذبة عن مجموعة العمل التي من المفترض‬
‫أن يعود إليها‪ ،‬فقال لهم إنه يعمل في النوبة الليلة في المخبز الذي كان‬
‫قائًم ا بالقرب من النهر عند حافة المعسكر‪ .‬اتجه إلى المخبز عندما أخرجه‬
‫األطباء من المستشفى‪ .‬عمل هناك حتى الساعة الثانية صباًح ا‪ ،‬أي حتى‬
‫وقت الفراغ من الدفعة األخيرة من الخبز‪ .‬ومن هناك‪ ،‬صار األمر مقتصًرا على‬
‫قطع سلك الهاتف‪ ،‬ثم التسّلل خارًج ا عبر الباب الخلفي واستبدال مالبس‬
‫مدنية بمالبس السجن من غير أن ينتبه حرس القوات الخاصة‪ ،‬ثم الجري‬
‫ر‬ ‫م‬ ‫رس و‬ ‫ن ن ر‬ ‫س‬
‫تحت إطالق الرصاص صوب النهر الواقع على مسافة ميل واحد‪ .‬وبعد ذلك‪،‬‬
‫يكون عليه أن يسترشد بالنجوم لكي يعثر على طريق العودة إلى المدنية‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬يبدو كثيٌر مما في عالمنا خراًبا‪ .‬ليس خراًبا على مستوى‬
‫الهولوكوست النازي (وال حتى قريًبا منه)‪ ،‬لكنه يظّل خراًبا على الرغم من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫إن قصة بيلينسكي‪ ،‬وما يشبهها من قصص‪ ،‬تثير اإللهام في نفوسنا‪ .‬إنها‬
‫تمنحنا األمل‪ .‬وهي تجعلنا نقول‪« :‬كانت األمور أشد سوًء ا بكثير؛ لكن ذلك‬
‫الرجل تمّكن من تجاوزها كلها‪ .‬فماذا عني أنا؟ ما الذي كنت أفعله في اآلونة‬
‫األخيرة؟»‪ ...‬هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه على أنفسنا في هذا الزمن‬
‫العجيب‪ ،‬زمن التغريدات العاصفة التي يطلقها على تويتر أشخاص خاملون ال‬
‫يكادون يتحركون من أماكنهم‪ ،‬زمن المواد اإلباحية التي صارت مستخدمة‬
‫لزيادة جذب متصفحي االنترنت‪ .‬وعندما نبتعد قلياًل عن حياتنا المباشرة وننظر‬
‫نظرة أكثر اتساًع ا‪ ،‬ندرك أن أبطااًل مثل بيلينسكي ينقذون العالم في حين‬
‫ننصرف عن مشكالتنا الكبرى ونتذّمر من أن مكيف الهواء ال يعمل جيًد ا‪.‬‬
‫إن قصة بيلينسكي أكبر قصة بطولة عرفتها في حياتي كّلها‪ .‬وذلك أن‬
‫البطولة ليست مقتصرة على الجرأة أو الشجاعة أو المناورة الذكية‪ .‬فهذه‬
‫أشياء شائعة وكثيًرا ما ُتستخدم بطرق غير بطولية‪ .‬ال‪ ...‬يكون الفعل بطولًيا‬
‫عندما يتمّتع بالقدرة على اجتراح األمل حيث ال أمل أبًد ا‪ .‬إنه إشعال عود‬
‫ثقاب إلنارة الظالم‪ .‬إنه جعلنا نرى إمكانية وجود عالم أفضل‪ ...‬ليس العالم‬
‫األفضل الذي نريد أن يوجد‪ ،‬بل عالم أفضل لم نكن نعرف أن من الممكن أن‬
‫يوجد‪ .‬إنها االنطالق من حالة يبدو فيها كل شيء خراًبا تاًّم ا‪ ،‬والتمّكن من‬
‫جعلها حالة جيدة‪.‬‬
‫الشجاعة أمر شائع‪ .‬والمثابرة أمر شائع‪ .‬لكّن في البطولة محتًو ى‬
‫فلسفًيا‪ .‬إن فيها «لماذا؟» كبيرة يضعها األبطال على الطاولة ‪ -‬هدف يكاد‬
‫يكون مستحياًل ‪ ،‬أو إيمان ثابت ال يتزعزع مهما حدث‪ .‬هذا ما يجعل ثقافتنا‬
‫اليوم شديدة التلّه ف إلى بطل‪ :‬ال ألن األشياء بالغة السوء بالضرورة‪ ،‬بل ألننا‬
‫فقدنا تلك ال«لماذا؟» الواضحة التي كانت تدفع باألجيال السابقة ُق ُد ًم ا‪.‬‬
‫إننا نعيش في حضارة تجعلنا غير محتاجين إلى رخاء‪ ،‬أو إلى سلم‪ ،‬أو‬
‫إلى زينة جديدة لسياراتنا الكهربائية‪ .‬لدينا هذا كله‪ .‬نحن في حاجة إلى‬
‫شيء أكبر أهمية من هذا‪ .‬نحن حضارٌة وبشٌر في حاجٍة إلى األمل‪.‬‬
‫لم يفقد بيلينسكي أمله أبًد ا بعد عيشه سنوات من الحرب والتعذيب‬
‫والموت واإلبادة الجماعية‪ .‬صحيح أنه خسر بلده‪ ،‬وأسرته‪ ،‬وأصدقاءه‪ ،‬وكاد‬
‫يفقد حياته أيًض ا‪ ،‬لكنه لم يفقد األمل أبًد ا‪ .‬وحتى بعد الحرب‪ ،‬عندما عانى‬
‫الهيمنة السوفياتية‪ ،‬لم يفقد أبًد ا األمل في بولونيا حّرة مستقّلة‪ .‬لم يفقد‬
‫أبًد ا األمل في حياة هادئة سعيدة من أجل أطفاله‪ .‬لم يفقد األمل أبًد ا في أن‬
‫يكون قادًرا على إنقاذ بضع أرواح أخرى‪ ،‬وفي مساعدة مزيد من البشر‪.‬‬
‫ر‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫و ي‬ ‫ع رو ح ر‬ ‫إ‬ ‫ًر‬ ‫و‬
‫عاد بيلينسكي إلى وارسو بعد انتهاء الحرب‪ ،‬وواصل التجّس س‪ .‬لكنه صار‬
‫يتجّس س على الحزب الشيوعي الذي كان قد وصل إلى السلطة آنذاك‪ .‬ومن‬
‫جديد‪ ،‬كان بيلينسكي أول من ُيخِط ر الغرب بما يجري من شرور‪ :‬في هذه‬
‫المرة‪ ،‬كان السوفيات قد تغلغلوا في الحكومة البولونية وصاروا يتالعبون‬
‫بانتخاباتها‪ .‬وسوف يكون بيلينسكي أيًض ا أول من يوّثق الفظائع التي ارتكبها‬
‫السوفيات في شرق البالد خالل فترة الحرب‪.‬‬
‫لكن أمره اكُت شف هذه المرة! لقد تلقى تحذيًرا من أنه يوشك على‬
‫الوقوع في االعتقال‪ .‬وكانت لديه فرصة للفرار إلى إيطاليا‪ ،‬لكن بيلينسكي‬
‫رفض تلك الفرصة‪ :‬فّضل البقاء بولونًيا‪ ،‬والموت بولونًيا‪ ،‬بداًل من الهرب ومن أن‬
‫يعيش حياة تجعله شخًص ا مختلًف ا‪ .‬في ذلك الوقت‪ ،‬كانت بولونيا الحّرة‬
‫المستقّرة مصدر األمل الوحيد عند بيلينسكي‪ .‬لم يكن يعتبر نفسه شيًئ ا من‬
‫غير هذا األمل‪.‬‬
‫نتيجة هذا‪ ،‬كان أمله هو نهايته أيًض ا‪ .‬ألقى الشيوعيون القبض على‬
‫بيلينسكي في سنة ‪1947‬؛ ولم يتساهلوا معه أبًد ا‪ .‬عذبوه قرابة سنة كاملة‪.‬‬
‫وكان تعذيًبا قاسًيا مستمًّرا جعله يقول لزوجته إن «أوشفيتز كان شيًئ ا‬
‫بسيًطا» بالمقارنة مع هذا العذاب‪.‬‬
‫على الرغم من هذا‪ ،‬لم يقبل بيلينسكي التعاون مع مستجوبيه‪.‬‬
‫أدرك المحّققون الشيوعيون آخر األمر أنهم لن يحصلوا منه على أية‬
‫معلومات‪ ،‬فقرروا جعله أمثولة لغيره‪ .‬أقاموا له محكمة صورية في سنة ‪،1948‬‬
‫واتهموه بكل شيء‪ :‬من تزوير الوثائق‪ ،‬إلى خرق حظر التجول‪ ،‬إلى االنخراط‬
‫في نشاطات تجّس سية‪ ،‬إلى الخيانة العظمى‪ .‬وبعد شهر من ذلك‪ ،‬قضت‬
‫المحكمة بأنه مذنب وحكمت عليه بالموت‪ُ .‬س مح لبيلينسكي بالكالم في‬
‫آخر يوم من المحاكمة فقال إن والءه كان دائًم ا لبولونيا وشعبها‪ ،‬وإنه لم يوقع‬
‫أي أذى بأي مواطن بولوني‪ ،‬ولم يخنه أبًد ا‪ ،‬وإنه ليس نادًم ا على أي شيء‪.‬‬
‫اختتم بيلينسكي كالمه‪« :‬حاولت أن أعيش حياتي على نحو يجعلني أقف‬
‫في ساعة موتي مبتهًج ا‪ ،‬ال خائًف ا»‪.‬‬
‫إذا لم يكن هذا شيًئ ا من أشجع ما سمعته في حياتك‪ ،‬فإنني راغب في‬
‫االستماع إلى ما عندك‪.‬‬
‫كيف لي أن أساعدك؟‬
‫لو كنت أعمل لدى ستارَبكس لما كتبت أسماء الناس على الفناجين‬
‫التي يتناولون قهوتهم فيها‪ ،‬بل لكتبت ما يلي‪:‬‬
‫في يوم ما‪ ،‬ستكون قد مّت ‪ ،‬أنت وكل من تحّبهم‪.‬‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬لن تكون هناك أية أهمية ألي شيء مما‬
‫قلته أو فعلته في حياتك إال لفترة قصيرة وضمن نطاق‬
‫مجموعة صغيرة من الناس الذين يعرفونك!‬
‫هذه هي حقيقة الحياة التي ال نستطيع مواجهتها‪.‬‬
‫ليس كل ما تفكر فيه‪ ،‬أو تفعله‪ ،‬إال محاولة مضنية‬
‫لتجّنب هذه الحقيقة‪ .‬لسنا أكثر من غبار كوني ال أهمية‬
‫له‪ .‬لسنا أكثر من غبار يتحّرك ويدور على شذرة زرقاء‬
‫ضئيلة سابحة في الكون‪ .‬لكننا نتخيل أن لنا أهمية‪.‬‬
‫ونخترع ألنفسنا غاية‪ ...‬نحن ال شيء‪.‬‬
‫إًذ ا‪ ،‬استمتع بقهوتك اللعينة‪.‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬ال بد لي من كتابة هذا بحروف صغيرة جًد ا‪ ،‬وسوف‬
‫تستغرق كتابته زمًن ا غير قليل‪ ،‬مما يعني أن صف المنتظرين في ساعة‬
‫الزحام سوف يبلغ باب المقهى‪ .‬ثم إنها لن تكون خدمة عمالء جّيدة! لعّل هذا‬
‫واحد من األسباب التي تجعلني غير صالح للوظيفة‪.‬‬
‫ًّا‬ ‫ًق‬
‫لكن‪ ،‬وبكِّل جّد ية‪ ،‬كيف يمكن لك أن تكون صاد ا حق عندما تقول‬
‫لشخص‪« :‬فليكن يومك جمياًل !»‪ ،‬وأنت تعرف أن أفكاره كَّلها ودوافعه كَّلها‬
‫نابعة من حاجة ال تنتهي إلى تجّنب انعدام المعنى المالزم للوجود البشري؟‬
‫أقول هذا ألّن الكون‪ ،‬في امتداده المكاني‪/‬الزماني الذي ال نهاية له‪ ،‬ال‬
‫يبالي أبًد ا بما إذا كانت عملية استبدال مفصل الورك لوالدتك قد سارت سيًرا‬
‫حسًن ا أو لم تسر سيًرا حسًن ا‪ ،‬وال بما إذا كان أطفالك يذهبون إلى الجامعة أو‬
‫ال يذهبون‪ ،‬وال إذا كان مديرك يرى أنك تنجز عملك جّيًد ا أو ال تنجزه جيًد ا‪ .‬ال‬
‫يبالي الكون إن فاز الديمقراطيون أو الجمهوريون في انتخابات الرئاسة‬
‫األميركية‪ ،‬وهو ال يبالي بأن ُيلقى القبض على أحد المشاهير بتهمة تعاطي‬
‫الكوكايين وهو يمارس العادة السرية (من جديد) في دورة المياه في أحد‬
‫المطارات‪ .‬ال يبالي الكون إن احترقت الغابات أو ذاب الجليد أو ارتفعت مياه‬
‫البحار أو تلوث الهواء‪ .‬وهو ال يبالي أبًد ا حتى إذا أتى جنس فضائي متفّوق‬
‫علينا وقتلنا جميًع ا‪.‬‬
‫أنت هو من يبالي بهذا كِّله‪.‬‬
‫ًّي‬
‫أنت تبالي؛ وأنت تحاول جاهًد ا إقناع نفسك بأن هناك معًن ى كون ا كبيًرا‬
‫خلف هذا كِّله‪ ،‬ألنك تبالي‪.‬‬
‫ًق‬
‫وأنت تبالي ألنك‪ ،‬عمي ا في داخلك‪ ،‬في حاجة إلى أن يكون لديك شعور‬
‫بأهميتك حتى تستطيع تجّنب تلك الحقيقة غير المريحة؛ أي حتى تستطيع‬
‫تجّنب استعصاء وجودك على الفهم؛ وتجّنب انسحاقك تحت ثقل حقيقة أن ال‬
‫أهمية مادية لك على اإلطالق‪ .‬وأنت تعمد عند ذلك ‪ -‬مثلما أفعل أنا‪ ،‬ومثلما‬
‫يفعل كل إنسان ‪ -‬إلى إسقاط إحساسك المتخَّيل باألهمية على العالم من‬
‫حولك ألن هذا يمنحك األمل‪.‬‬
‫إن كان الوقت ال يزال مبكًرا على الخوض في حديث من هذا النوع‪ ،‬فإليك‬
‫فنجاًنا آخر من القهوة‪.‬‬
‫بل إنني صنعت لك فنجان قهوة بالحليب الساخن وعلى سطحه وجه‬
‫مبتسم يغمز بعينه! أليس هذا شيًئ ا ظريًف ا؟ سوف أنتظر ريثما تضع صورة‬
‫الفنجان على إنستغرام!‬
‫ال بأس اآلن‪ ...‬أين وصلنا؟ أوه‪ ،‬نعم! استعصاء وجودك على الفهم‪...‬‬
‫صحيح! لعّلك تقول في نفسك اآلن «حسًن ا يا مارك‪ ،‬أنا مؤمن بأن هناك سبًبا‬
‫لوجودنا جميًع ا‪ ،‬وبأن ال شيء يحدث مصادفة‪ ،‬وبأن هناك أهمية لكل شخص‪،‬‬
‫ألن أفعال كل منا لها أثر على شخص ما‪ .‬حتى إذا تمّكنا من مساعدة‬
‫شخص واحد‪ ،‬فإن األمر يستحق ذلك‪ .‬أليس هذا صحيًح ا؟»‪.‬‬
‫اآلن‪ ...‬ألسَت شخًص ا ظريًف ا حًّق ا!‬
‫أرأيت؟‪ ...‬إنه أَم ُلَك يتكّلم على لسانك‪ .‬إنها قصة ينسجها عقلك حتى‬
‫تشعر بأن األمر يستحّق االستيقاظ في الصباح‪ :‬يجب أن تكون هناك أهمية‬
‫لشيء ما ألن ما من سبب لمواصلة الحياة إن لم تكن هناك أهمية لشيء‬
‫ما! ثم إن شكاًل من أشكال الغيرية البسيطة‪ ،‬أو تخفيًف ا لمعاناة شخص ما‪،‬‬
‫هو ما يسمح دائًم ا لعقلنا بالبقاء مقتنًع ا بأن هناك قيمة لفعل أي شيء‪.‬‬
‫إن تركيبتنا النفسّية في حاجة إلى أمٍل حتى تستطيع مواصلة الحياة‪،‬‬
‫مثلما تكون السمكة في حاجة إلى الماء حتى تحيا‪ .‬األمل هو وقود محّركنا‬
‫الذهني‪ .‬إنه الزبدة على خبزنا‪ .‬وهو مقدار كبير من المعنى المجازي الّرخيص‬
‫حًّق ا الذي نزّين به حياتنا‪ .‬ومن غير أمل‪ ،‬يتوّقف جهازك العقلي كّله‪ ،‬أو يموت‬
‫جوًع ا‪ .‬إذا لم نكن مؤمنين بأن هناك أماًل في أن يكون المستقبل أفضل من‬
‫الحاضر‪ ،‬وبأن حياتنا سوف تتحّس ن على نحو ما‪ ،‬فإننا نموت من الناحية‬
‫الروحية‪ .‬ففي آخر المطاف‪ ،‬لماذا نعيش إذا لم يكن هناك أي أمل في أن‬
‫تصير األمور في المستقبل أحسن مما هي اآلن؟‪ ...‬لماذا نفعل أي شيء؟‬
‫إليك الشيء الذي ال يدركه عدٌد كبيٌر من الناس‪ :‬ليس الغضب أو الحزن‬
‫نقيًض ا للسعادة(‪ .)2‬إذا كنت غاضًبا أو حزيًن ا‪ ،‬فهذا يعني أنك ال تزال مبالًيا‬
‫بشيء من األشياء‪ .‬يعني هذا أنه ال يزال هناك شيء له أهميته عندك‪.‬‬
‫ويعني هذا أنك ال تزال تملك أماًل (‪.)3‬‬
‫ال‪ ...‬بل إن نقيض السعادة هو انعدام األمل‪ ،‬وهو األفق الالنهائي من‬
‫االستسالم ومن الالمباالة(‪ .)4‬إنه اإليمان بأن كَّل شيء خربان(‪ )5‬وبأن كل‬
‫شيء خراَّب ‪ ...‬فلماذا يفعل المرء أي شيٍء على اإلطالق؟‬
‫انعدام األمل حالة من العدمية الباردة الكالحة‪ ،‬وهو إحساس بأن ما من‬
‫معنى ألي شيء‪ ...‬فإلى الجحيم بكل شيء! فلماذا ال يمضي المرء حياته‬
‫غير مهتم بأي شيء؟ ولماذا ال يضاجع زوجة مديره؟ ولماذا ال يطلق النار‬
‫على مدرسة من المدارس؟ إنها الحقيقة غير المريحة‪ ،‬اإلدراك الصامت‬
‫لحقيقة أن كل ما نستطيع فعله في مواجهة الالنهاية ليس إال صفًرا!‬
‫انعدام األمل هو جذر القلق‪ ،‬والمرض العقلي‪ ،‬واالكتئاب‪ .‬إنه أصل البؤس‬
‫كله‪ ،‬وسبب حاالت اإلدمان كلها‪ .‬ليس في هذا الكالم أّي مبالغة(‪ .)6‬إن‬
‫القلق المزمن أزمة أمل‪ .‬إنه الخوف من مستقبل فاشل‪ .‬االكتئاب أزمة أمل‪.‬‬
‫هو االقتناع بأن المستقبل ال معنى له‪ .‬اإلدمان‪ ،‬واألوهام‪ ،‬والهواجس‪ ،‬كّلها‬
‫محاوالت اضطرارية يائسة يقوم بها العقل لخلق أمل ما‪ ...‬إنها خدعة عصبية‬
‫أو َتوٌق مرضّي (‪.)7‬‬
‫من هنا‪ ،‬يصير تجّنب انعدام األمل (أي السعي إلى بناء األمل) المشروَع‬
‫األّول لدى عقلنا‪ .‬إن كل معنى‪ ،‬وكل ما ندركه عن أنفسنا وعن العالم‪ ،‬مقاٌم‬
‫من أجل المحافظة على األمل‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن األمل هو الشيء الوحيد الذي‬
‫يكون أي واحد منا مستعًد ا للموت من أجله‪ .‬األمل هو ما نؤمن بأنه أكبر من‬
‫أنفسنا‪ .‬ومن غير األمل‪ ،‬نصير مقتنعين بأننا ال شيء‪.‬‬
‫توّفى جدي عندما كنت في الجامعة‪ .‬ثم أمضيت بضع سنوات بعد ذلك‬
‫حاماًل إحساًس ا قوًّيا بأنه ينبغي لي أن أعيش بطريقة تجعله فخوًرا بي‪ .‬كنت‬
‫أحّس بأن هذا أمٌر منطقٌي واضٌح على مستوى عميق في داخلي؛ لكنه لم‬
‫يكن كذلك‪ .‬فحقيقة األمر هي أنه ال معنى له من الناحية المنطقية؛ ال معنى‬
‫له على اإلطالق‪ .‬لم تكن لي عالقة وثيقة مع جّد ي‪ .‬ولم نكن نتحّد ث‬
‫بالهاتف‪ .‬لم نكن نتبادل الرسائل‪ .‬بل إنني لم أره أبًد ا خالل السنوات الخمس‬
‫األخيرة من حياته‪.‬‬
‫وفوق هذا كّله‪ ،‬كان جدي ميًت ا! فكيف يمكن أن يكون ل«عيشي على‬
‫نحو يجعله فخوًرا بي» أثٌر على أي شيء؟‬
‫لقد وضعني موته في لحظة تماس مع الحقيقة غير المريحة‪ .‬هذا ما جعل‬
‫عقلي ينطلق إلى العمل ويسعى إلى بناء أمل انطالًق ا من ذلك الوضع ُبغية‬
‫المحافظة علّي ‪ ،‬وبغية إبقاء أي شعور عدمّي بعيًد ا عني‪ .‬قّرر عقلي أن جدي‬
‫صار اآلن محروًم ا من القدرة على أي أمل أو تطّلع في ما يتصل بحياته هو‪،‬‬
‫فصار أمًرا مهًم ا لي أن أواصل األمل والتطّلع تكريًم ا له‪ .‬كان هذا هو اإليمان‬
‫الذي توّصل إليه عقلي‪ ...‬كان شيًئ ا أشبه ب«دين شخصي صغير» يجعل لي‬
‫غاية في الحياة‪.‬‬
‫وقد نجح األمر! فخالل فترة قصيرة من الزمن‪ ،‬أطلق موته في حياتي‬
‫تجارب لها أهمية ولها معنى‪ ...‬تجارب كان يمكن ‪ -‬من غير ذلك ‪ -‬أن تكون‬
‫رديئة أو فارغة‪ .‬وقد أعطاني ذلك األمل معنى‪ .‬من الممكن تماًم ا أن تكون قد‬
‫أحسست بشيء يشبه هذا عندما توفي شخص قريب منك‪ .‬هذا إحساس‬
‫شائع كثيًرا‪ .‬فأنت تقول لنفسك إنك ستعيش بطريقة تجعل الشخص الذي‬
‫يحبك فخوًرا بك‪ .‬تقول لنفسك‪ :‬إنك ستستخدم حياتك أنت لالحتفاء بحياته‬
‫هو وتكريمها‪ .‬أنت تقول لنفسك إن هذا أمٌر مهٌم ‪ ،‬وإنه أمر حسٌن ‪.‬‬
‫إن ذلك «األمر الحسن» هو ما يحملنا ويحافظ علينا في لحظات الذعر‬
‫الوجودي تلك‪ .‬كنت أتجّول متخِّياًل أن جّد ي يتبعني كأنه شبح فضولي‪ ،‬وأنه‬
‫يراقبني على الدوام‪ .‬هذا الرجل الذي كنت ال أكاد أعرفه في حياته صار اآلن‬
‫شخًص ا شديد االهتمام بُح سن أدائي في امتحان الرياضيات‪ .‬شيء غير‬
‫منطقي على اإلطالق!‬
‫ينشئ عقلنا قصًص ا صغيرة مثل هذه القصة كّلما واجه محنة‪ ...‬إنها قصص‬
‫ما قبل‪/‬ما بعد التي نخترعها ألنفسنا‪ .‬ويكون علينا أن نحافظ على قصص‬
‫األمل هذه حّية طيلة الوقت‪ ،‬حتى إذا صارت غير منطقية وحتى إذا صارت‬
‫مؤذية لنا‪ ،‬وذلك ألنها قّوة التوازن الوحيدة التي تحمي عقولنا من الحقيقة‬
‫غير المريحة‪.‬‬
‫إن قصص األمل هذه هي ما يمنحنا إحساًس ا بأن لحياتنا غاية‪ .‬فهي ال‬
‫توحي لنا بأن المستقبل سيأتي بما هو أفضل فحسب‪ ،‬بل أيًض ا بأن االنطالق‬
‫وتحقيق ذلك الشيء األفضل أمر ممكن فعاًل ‪ .‬عندما يتحّد ث الناس كثيًرا عن‬
‫حاجتهم إلى العثور على «غاية حياتهم» أو «هدفها»‪ ،‬فإن ما يعنونه في‬
‫واقع األمر هو أنه ما عاد واضًح ا في أذهانهم ما هو مهٌّم بالنسبة إليهم‪ ،‬وما‬
‫يستحّق أن ينفقوا عليه الفترة الزمنية المحدودة المتاحة لهم على وجه‬
‫األرض(‪ ...)8‬باختصار‪ ،‬لم يعد لديهم شيء واضح يعّلقون عليه آمالهم‪ .‬إنهم‬
‫يبذلون كل جهدهم حتى يرون كيف ينبغي أن يكون ذلك ال «قبل‪/‬بعد» في‬
‫حياتهم‪.‬‬
‫هذا هو الجزء الصعب‪ :‬أن تعثر على ال«قبل‪/‬بعد» الخاص بك أنت‪ .‬األمر‬
‫صعب ألن ما من طريقة أبًد ا تسمح لك بأن تكون على ثقة أكيدة من أنك‬
‫اخترت ما هو صحيح‪ .‬هذا هو السبب الذي يجعل أناًس ا كثيرين جًد ا يلوذون‬
‫باألديان‪ ،‬ذلك أن األديان ُتقّر بهذه الحالة الدائمة من عدم المعرفة وُتَس ِّلح‬
‫الناس باإليمان من أجل مواجهتها‪ .‬ولعّل في هذا جزًء ا من السبب الذي‬
‫يجعل تعُّرض األشخاص المتدينين لإلصابة باالكتئاب أقل كثيًرا من تعّرض غير‬
‫المتدينين؛ كما أن حاالت االنتحار بينهم أقّل كثيًرا منها بين غير المتدينين‪ :‬إن‬
‫ممارستهم إيمانهم تقيهم من الحقيقة غير المريحة(‪.)9‬‬
‫إال أنه ليس من الضروري أن تكون قصص األمل لديك من طبيعة دينية‪.‬‬
‫يمكن أن تكون هذه القصص أي شيء‪ .‬هذا الكتاب هو مصدر األمل (الصغير)‬
‫الخاّص بي‪ .‬إنه يمنحني غاية‪ .‬وهو يمنحني معنى‪ .‬كما أّن القّصة التي‬
‫أقمُت ها من حول ذلك األمل هي أنني مقتنع بأن هذا الكتاب يمكن أن يساعد‬
‫بعض الناس‪ ،‬مما يعني أنه قد يجعل كاًّل من حياتي والعالم من حولي أفضل‬
‫قلياًل من ذي قبل‪.‬‬
‫فهل أنا متأّكد من هذا؟ ال‪ ،‬لست متأكًد ا‪ .‬لكن‪ ،‬هذه هي قصة «قبل‪/‬بعد»‬
‫الخاّصة بي‪ ،‬وأنا متمّس ك بها‪ .‬إنها تجعلني أستيقظ في الصباح وتجعلني‬
‫متحّمًس ا لحياتي‪ .‬ليست المسألة هنا هي أن هذا شيء غير سّيئ وال ضرر‬
‫منه‪ ...‬المسألة هي أنه الشيء الوحيد لدينا‪.‬‬
‫لدى بعض الناس‪ ،‬تكون قصة «قبل‪/‬بعد» هي تنشئة أطفالهم على نحو‬
‫جيد‪ .‬ولدى أناس آخرين‪ ،‬تكون تلك القّصة هي حفظ البيئة وإنقاذها‪ .‬ولدى‬
‫غيرهم يمكن أن تكون القّصة حيازة مال كثير وامتالك قارب ضخم‪ .‬وقد تكون‬
‫القّصة لدى نفر آخر من الناس أمًرا بسيًطا جًّد ا من قبيل تحسين قدرتهم‬
‫على قذف كرة الغولف‪.‬‬
‫وسواء أدركنا األمر أم لم ندركه‪ ،‬فإن لدينا جميًع ا هذه القصص التي‬
‫اخترناها لسبب من األسباب‪ .‬ليس مهًّم ا إن كنت تصل إلى األمل عن طريق‬
‫اإليمان الديني أو عن طريق نظرية قائمة على األدّلة أو عن طريق الحدس‪ ،‬أو‬
‫حتى عن طريق مناقشة منطقية محكمة‪ .‬تؤّدي هذه الطرق كّلها إلى‬
‫النتيجة نفسها‪ :‬يصير لديك إيماٌن بأن (آ) ثمة إمكانية للنمو أو التطور أو‬
‫الخالص في المستقبل؛ (ب) ثمة سبل نستطيع سلوكها حتى نصل إلى‬
‫ذلك المكان‪ .‬هذا هو األمر‪ .‬يوًم ا بعد يوم‪ ،‬وسنة بعد سنة‪ ،‬تتكّون حياتنا من‬
‫طبقات ال نهاية لها من قصص األمل هذه‪ .‬إنها «الَجَزرة» النفسية المعّلقة من‬
‫طرف العصا‪.‬‬
‫اّل‬ ‫ًّا‬
‫إذا بدا لك هذا طرًح ا عدمي ‪ ،‬فأرجو أ تسيء فهم فكرتي‪ .‬ليس هذا‬
‫الكتاب دفاًع ا عن العدمّية‪ .‬إنه كتاب ضد العدمّية‪ ،‬سواٌء كانت العدمية‬
‫الموجودة في داخلنا أو ذلك اإلحساس العام المتنامي بالعدمّية الذي يبدو‬
‫أنه قد ظهر مع ظهور العالم الحديث(‪ .)10‬حتى تنجح في إقامة الحّج ة في‬
‫مواجهة العدمّية‪ ،‬فإن عليك أن تبدأ بالعدمّية نفسها‪ .‬عليك أن تبدأ بالحقيقة‬
‫غير المريحة‪ .‬انطالًق ا من هذه النقطة‪ ،‬يكون عليك أن تنشئ (ببطء) قّصة‬
‫مقنعة من أجل األمل‪ .‬وحتى يكون مقنًع ا‪ ،‬فإن من الضروري أن يكون أماًل‬
‫مستداًم ا وأن يكون فيه خير لآلخرين‪ .‬يجب أن يكون أماًل قادًرا على تقريبنا‪ ،‬ال‬
‫على تفريقنا‪ .‬يجب أن يكون أماًل متيًن ا قويًّا قائًم ا على المنطق والواقع‪ .‬يجب‬
‫أن يكون أماًل قادًرا على حملنا حتى آخر أيامنا بحيث يكون لدينا أحساس‬
‫بالرضا والعرفان‪.‬‬
‫من الواضح أن فعل هذا ليس باألمر السهل‪ .‬بل يمكن القول إنه صار في‬
‫القرن الحادي والعشرين أكثر صعوبة من أي وقت مضى‪ .‬إن العدمّية‬
‫واالنغماس الصرف في الرغبات التي ترافقها أمران ينطبقان على عالمنا‬
‫الحديث‪ .‬إنها السلطة من أجل السلطة‪ .‬النجاح من أجل النجاح‪ .‬والمسّرة‬
‫من أجل المسّرة‪ .‬ال تعترف العدمّية بأية «لماذا» شاملة‪ ،‬وال تلتزم بأية قضية‬
‫أو حقيقة كبرى‪ .‬إنها مجرد «أفعُل هذا ألنه يعجبني»‪ .‬هذا ما يجعل كل‬
‫شيء يبدو في غاية السوء‪ ،‬كما سنرى في هذا الكتاب‪.‬‬
‫مفارقة التقّد م‬
‫يلفت الزمن الذي نعيش فيه النظر من حيث يمكن القول إن األشياء قد‬
‫صارت‪ ،‬من الناحية المادية‪ ،‬أفضل من أي وقت مضى؛ لكننا نبدو كلنا كما لو‬
‫أننا نعيش حالة جنون عندما نفّكر في أن عالمنا قد صار مرحاًض ا كبيًرا غاًّصا‬
‫بالقاذورات‪ .‬ينتشر إحساس غير منطقي بالعجز في أنحاء العالم الغنّي‬
‫المتقّد م‪ .‬إنها مفارقة التقّد م‪ :‬كّلما تحّس نت األمور‪ ،‬كلما بدا أن الناس يصيرون‬
‫أشّد قلًق ا وأكثر يأًس ا(‪.)11‬‬
‫خالل السنوات األخيرة‪ ،‬عمل عدد من الكّتاب‪ ،‬من بينهم ستيفن بيكر‬
‫وهانز روزلينغ‪ ،‬على البرهنة على أننا مخطئون في إحساسنا بهذا التشاؤم‬
‫كّله؛ وذهبوا إلى أن كّل شيء قد صار في واقع األمر أحسن حااًل من ذي‬
‫قبل‪ ،‬فضاًل عن أن من المحتمل كثيًرا أن يتواصل هذا التحسن(‪ .)12‬مأل‬
‫الكاتبان المذكوران كتًبا كبيرًة ثقيلًة بمخططات ورسوم بيانية كثيرة تبدأ كلها‬
‫من زاوية الصفحة وتنتهي ‪ -‬على نحو ما ‪ -‬في الزاوية المقابلة(‪ .)13‬لقد شرح‬
‫الرجالن شرًح ا مطّواًل الفرضيات الخاطئة ووجهات النظر المسبقة التي‬
‫نحملها جميًع ا والتي تجعلنا نشعر بأن األشياء قد صارت أكثر سوًء ا‪ .‬يدافع‬
‫الرجالن عن فكرة أّن التقّد م ظّل مستمًّرا من غير انقطاع خالل العصر الحديث‬
‫كّله‪ .‬صار الناس أحسن تعليًم ا وأقل جهاًل من ذي قبل(‪ .)14‬كما أن العنف‬
‫يتراجع منذ عقود؛ بل ربما منذ قرون(‪ .)15‬وبلغت العنصرية والتمييز‪ ،‬والتمييز‬
‫الجنسي‪ ،‬والعنف ضد المرأة‪ ،‬أدنى مستوياتها في التاريخ المسّج ل كّله(‪.)16‬‬
‫صارت لدينا حقوق أكثر من أي وقت مضى(‪ .)17‬ويتمّتع نصف سكان األرض‬
‫بالقدرة على النّفاذ إلى شبكة اإلنترنت(‪ .)18‬صار الفقر الّش ديد في أدنى‬
‫مستوياته على امتداد العالم كّله(‪ .)19‬صارت الحروب أصغر حجًم ا وأقل تكراًرا‬
‫من أي وقت مضى في التاريخ(‪ .)20‬انخفضت معدالت وفّيات األطفال؛ وصار‬
‫الناس يعيشون أعماًرا أطول(‪ .)21‬ازدادت الثروة أكثر من أي وقت مضى(‪.)22‬‬
‫كما أننا تمّكنا من التخّلص من جملة كبيرة من األمراض(‪.)23‬‬
‫إنهما محّقان‪ .‬ومن المهِّم أن يعرف المرء هذه الحقائق‪ .‬لكن قراءة هذه‬
‫الكتب شبيهة إلى حد ما بأن تجلس وتستمتع إلى عّمك العجوز يخبرك كيف‬
‫كان كل شيء أكثر سوًء ا عندما كان في مثل سّنك‪ .‬على الرغم من صدق ما‬
‫يقوله لك‪ ،‬فإن هذا ال يعني بالضرورة أن يصير لديك إحساس أفضل تجاه‬
‫مشكالتك أنت‪ ،‬أي تجاه المشكالت التي تعيشها اآلن‪.‬‬
‫فما السبب في هذا؟ على الرغم من كل ما ينشر اليوم من أخبار طيبة‪،‬‬
‫فها هي إحصائيات مفاجئة أخرى‪ .‬في الواليات المتحدة األميركية‪ُ ،‬تواصل‬
‫أعراض االكتئاب والقلق ازديادها بين الشباب منذ ثمانين عاًم ا‪ ،‬وتواصل‬
‫ازديادها بين البالغين منذ عشرين عاًم ا(‪ .)24‬ال يقف األمر عند كون أعداد‬
‫متزايدة من الناس قد صارت تعاني االكتئاب‪ ،‬بل إن هناك تزايًد ا في نسبة من‬
‫يعانونه في مرحلة عمرية تزداد تبكيًرا مع كل جيل جديد(‪ .)25‬فمنذ سنة‬
‫‪ ،1985‬يعّبر الرجال والنساء عن مستوى أدنى من رضاهم عن حياتهم(‪ .)26‬قد‬
‫يكون جزء من هذا األمر عائًد ا إلى أن مستويات الشّد ة النفسية قد ارتفعت‬
‫خالل السنوات الثالثين الماضية(‪ .)27‬لقد بلغ معّد ل تعاطي جرعات زائدة من‬
‫المخدرات أعلى مستوى على اإلطالق؛ وهذه ظاهرة منتشرة في الواليات‬
‫المتحدة وكندا(‪ .)28‬وعلى امتداد الّطيف السّكاني في الواليات المتحدة‪،‬‬
‫تتزايد معدالت اإلحساس بالوحدة والعزلة االجتماعية‪ .‬وفي يومنا هذا‪ ،‬يقول‬
‫قرابة نصف األميركيين إنهم يعانون مشاعر العزلة‪ ،‬ويحّس ون بأنهم منبوذون‪،‬‬
‫أو متروكون وحدهم في حياتهم(‪ .)29‬ثم إن الثقة االجتماعية ليست في حالة‬
‫تراجع فحسب في أنحاء العالم المتقّد م كله‪ ،‬بل هي في حالة انخفاض‬
‫شديد الّس رعة‪ ،‬بمعنى أن عدد من يثقون بحكومتهم‪ ،‬أو باإلعالم‪ ،‬أو‬
‫ببعضهم‪ ،‬قد صار أقل من أي وقت مضى(‪ .)30‬في الثمانينات‪ ،‬وّج ه الباحثون‬
‫إلى المشاركين في أحد االستطالعات أسئلة عن عدد األشخاص الذين‬
‫ناقشوا معهم أموًرا شخصية مهّمة خالل األشهر الستة األخيرة‪ ،‬فكانت‬
‫«ثالثة أشخاص» هي اإلجابة األكثر شيوًع ا‪ .‬وأما في العام ‪ ،2006‬فقد صارت‬
‫اإلجابة األكثر شيوًع ا «صفر»(‪ .)31‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬فإن البيئة في حالة‬
‫تدهور شديد‪ .‬صار المجانين يمتلكون أسلحة نووية‪ ،‬أو صاروا على مسافة‬
‫قريبة من امتالكها‪ .‬يواصل التطرف النمو على امتداد العالم كّله ‪ -‬تطّرف‬
‫بمختلف األشكال‪ ،‬من اليمين ومن اليسار‪ ،‬وتطّرف ديني‪ ،‬وتطّرف علماني‪.‬‬
‫نظرّيات المؤامرة‪ ،‬وميليشيات المواطنين‪ ،‬و«المتأهبون للكارثة» (كأولئك‬
‫الذين يّتخذون احتياطاتهم لنشوب حرب أو كارثة تشمل العالم كله)‪ ...‬صارت‬
‫هذه كّلها ثقافات فرعية أكثر انتشاًرا وشعبية إلى حٍّد يهّد د بأن تصبح تياًرا‬
‫متطّرًف ا سائًد ا‪.‬‬
‫من حيث األساس‪ ،‬فإننا أكثر الناس أماًنا ورخاء في تاريخ العالم كّله‪ .‬لكننا‬
‫نشعر بمزيد من انعدام األمل مقارنة بأي وقت مضى‪ .‬كلما حصلنا على أشياء‬
‫أفضل‪ ،‬كلما بدونا أكثر يأًس ا‪ .‬إنها مفارقة التقّد م‪ .‬ولعل من الممكن تلخيصها‬
‫في حقيقة صادمة واحدة‪ :‬كلما كان المكان الذي تعيش فيه أكثر ثراء وأماًنا‪،‬‬
‫كلما ازداد احتمال إقدامك على االنتحار(‪.)32‬‬
‫إن التقّد م الهائل الذي تحّقق في الثروة واألمن والرخاء الماّدي على‬
‫امتداد بضعة قرون مضت أمر ال سبيل إلى إنكاره أبًد ا‪ .‬لكن هذه كّلها‬
‫إحصائيات عن الماضي‪ ،‬ال عن المستقبل‪ .‬وال مفر من البحث عن األمل هنا‬
‫تحديًد ا‪ :‬في رؤيتنا إلى المستقبل‪.‬‬
‫ال يقوم األمل على اإلحصائيات‪ .‬وال يلقي األمل بااًل إلى ميل عدد حاالت‬
‫الوفاة الناجمة عن إطالق النار أو عن حوادث السيارات إلى االنخفاض‪ .‬وهو ال‬
‫يلقي بااًل إلى عدم وقوع أية حادثة تحطم طائرة تجارية السنة الماضية‪ ،‬وال‬
‫إلى أن منغوليا قد حّققت أعلى مستوى من التخّلص من األمية في تاريخها‬
‫كّله (حسًن ا‪ ،‬إال إذا كنَت من منغوليا)(‪.)33‬‬
‫ال يلقي األمل بااًل إلى المشكالت التي قد وجدت حاًل لها‪ .‬ال يلقي األمل‬
‫بااًل إال إلى المشكالت التي ال تزال في حاجة إلى حل‪ .‬كلما صار العالم‬
‫أحسن‪ ،‬كلما صار أثر أية خسارة أعظم شأًنا‪ .‬وكلما كانت الخسارة أكبر‪ ،‬كلما‬
‫صرنا نحس بأن ما ينبغي أن نحلم به قد صار أقل‪.‬‬
‫ال بد لنا من ثالثة أشياء حتى نبني األمل ونديمه‪ .‬إحساس بأننا في‬
‫موقع السيطرة‪ ،‬واقتناع بقيمة شيء ما‪ ،‬وجماعة من البشر ننتمي إليها(‪.)34‬‬
‫تعني «السيطرة» أننا نشعر بالقدر على التحّكم بحياتنا‪ ،‬وأننا قادرون على‬
‫التأثير في قدرنا‪ .‬وتعني «القيمة‪ ،‬أو القيم» أننا نجد في شيء ما أهمية‬
‫كافية ألن تجعلنا نعمل من أجله ألنه شيء أفضل يستحق العناء‪ .‬وتعني‬
‫«الجماعة البشرية» أننا جزء من مجموعة تجد قيمًة في األشياء التي‬
‫تفعلها‪ ،‬وتعمل في اتجاه تحقيق تلك األشياء‪ .‬فمن غير جماعة بشرية‪ ،‬نشعر‬
‫بأننا في عزلة‪ ،‬وبأن قَيمنا تكف عن أن يكون لها أي معنى‪ .‬ومن غير القيم‪،‬‬
‫يبدو لنا أن ما من شيء يستحق متابعته والعمل من أجله‪ .‬ومن غير‬
‫اإلحساس بالسيطرة أو التحكم‪ ،‬فإننا نشعر بانعدام الَح ْو ل والعزم من أجل‬
‫عمل أي شيء‪ .‬إذا فقدت أي واحد من هذه األشياء الثالثة‪ ،‬فإنك ستفقد‬
‫الشيئين اآلخرين‪ .‬افقد أي واحد من هذه األشياء الثالثة‪ ،‬وسوف تفقد األمل‪.‬‬
‫وحتى نفهم السبب الذي يجعلنا نعاني أزمة األمل هذه التي نعيشها اآلن‪،‬‬
‫علينا أن نفهم آليات األمل‪ ،‬وكيف يجري خلقه والمحافظة عليه‪ .‬ستتناول‬
‫الفصول الثالثة التالية كيفية تنمية هذه المجاالت الثالثة في حياتنا‪:‬‬
‫إحساسنا بالسيطرة على األمور أو على التحكم بها (الفصل الثاني)‪ ،‬وقيمنا‬
‫(الفصل الثالث)‪ ،‬وجماعاتنا البشرية (الفصل الرابع)‪.‬‬
‫ثم نعود بعد ذلك إلى السؤال األصلي‪ :‬ما الذي يجري في عالمنا فيجعلنا‬
‫نشعر بأننا في حالة أسوأ على الرغم من أن كل شيء يتحّس ن دائًم ا ومن‬
‫غير انقطاع؟‬
‫قد تفاجئك اإلجابة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫التحّكم بالنفس وهٌم‬
‫بدأ األمر كّله بحالة صداع(‪.)35‬‬
‫كان «إليوت» رجاًل ناجًح ا‪ ،‬ويعمل في شركة ناجحة أيًض ا‪ .‬كان محبوًبا بين‬
‫زمالئه وجيرانه‪ ،‬وكان قادًرا على أن يكون شخًص ا ساحًرا ومرًح ا إلى حٍّد كبيٍر‪.‬‬
‫وكان زوًج ا وأًبا وصديًق ا؛ ويذهب لقضاء عطالت رائعة على شاطئ البحر‪.‬‬
‫لكن نوبات من الصداع راحت تصيبه على نحو مستمر‪ .‬لم يكن ذلك صداًع ا‬
‫من النوع الذي يمكن أن يزول بعد تناول الدواء‪ .‬كانت نوبات صداعه نوبات‬
‫عنيفة تسحق دماغه كأن كرة معدنية ضخمة تصطدم بعينيه من الداخل‪.‬‬
‫كان إليوت يتناول األدوية‪ ،‬ويستعين بقيلولة أثناء النهار ويحاول أن يخّفف‬
‫توّتره ويسترخي وينفض الهموم والمشاغل عن ذهنه‪ .‬لكن نوبات صداعه‬
‫ظّلت متواصلة‪ .‬الحقيقة أنها ازدادت سوًء ا‪ .‬سرعان ما صارت نوبات الصداع‬
‫عنيفة إلى حد جعل إليوت عاجًز ا عن النوم لياًل ‪ ،‬وعن العمل نهاًرا‪ .‬وفي آخر‬
‫المطاف‪ ،‬ذهب إليوت إلى الطبيب‪.‬‬
‫فحصه الطبيب وأجرى له اختبارات وتحاليَل‪ .‬وبعد تلّقي نتائج االختبارات‪،‬‬
‫أبلغ الطبيب إليوت باألخبار السيئة‪ .‬إنه مصاب بورم دماغي في الفص‬
‫الجبهي من دماغه‪ .‬ها هو‪ .‬هل تراه؟ إنه تلك البقعة الرمادية في األمام‪ .‬إنه‬
‫ورم كبير‪ .‬أظّنه في حجم كرة البيسبول‪.‬‬
‫استأصل الجراح ذلك الورم‪ ،‬وعاد إليوت إلى بيته‪ .‬عاد إلى عمله أيًض ا‪ .‬عاد‬
‫إلى أصدقائه وأسرته‪ .‬بدا أن كل شيء قد صار جيًد ا‪ ...‬لقد عاد رجاًل طبيعًيا‪.‬‬
‫ثم ساء كّل شيٍء بشكٍل فظيٍع‪.‬‬
‫تراجع أداء إليوت في عمله‪ .‬وصارت المهمات التي كانت في غاية‬
‫السهولة بالنسبة إليه تتطّلب جبااًل من الجهد والتركيز‪ .‬وصارت قرارات‬
‫بسيطة‪ ،‬من قبيل تقرير استخدام القلم األزرق أو األسود‪ ،‬تستلزم ساعات‬
‫من وقته‪ .‬كان يرتكب أغالًطا في أمور أساسية‪ ،‬ثم يتركها على حالها أسابيع‬
‫كثيرة‪ .‬بدأ يهمل االجتماعات والمواعيد النهائية إلنجاز العمل كما لو أنه‬
‫شخص ال عالقة له بالزمن أبًد ا‪.‬‬
‫تعاطف زمالؤه معه أول األمر‪ ،‬وحاولوا التغطية على تقصيره‪ .‬ففي آخر‬
‫المطاف‪ ،‬أصيب هذا الرجل بورم دماغي كبير في حجم كرة البيسبول مما‬
‫أدى إلى استئصال جزء من دماغه‪ .‬لكن‪ ،‬سرعان ما صارت التغطية عليه عبًئ ا‬
‫كبيًرا بالنسبة إليهم؛ وصارت أعذار إليوت غير منطقية على اإلطالق‪ .‬هل‬
‫تخّلفَت عن اجتماع مع أحد المستثمرين حتى تذهب لشراء ثّقابة ورق‬
‫جديدة‪ ،‬يا إليوت؟ هل فعلت هذا حقًّا؟ أين كان عقلك(‪)36‬؟‬
‫وبعد شهور من االجتماعات الكثيرة التي تخّلف عنها إليوت‪ ،‬وبعد األغالط‬
‫الكثيرة التي ارتكبها‪ ،‬صارت الحقيقة أمًرا ال سبيل إلنكاره‪ ،‬لقد خسر إليوت‬
‫في تلك العملية الجراحية ما هو أكثر من ذلك الورم الذي كان في رأسه‪.‬‬
‫ومن وجهة نظر زمالئه ورؤسائه في العمل‪ ،‬كان ذلك الشيء الذي خسره‬
‫يعادل كمية كبيرة من أموال الشركة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد ُف صل إليوت من عمله‪.‬‬
‫لم تكن حياته المنزلية في حال أفضل في تلك األثناء‪ .‬تخيل أن تأخذ أًبا‬
‫مفلًس ا فتضعه ضمن شخصية رجل شديد الخمول‪ ،‬وتضيف إليه مشاجرات‬
‫عائلية متكررة‪ ،‬ثم تدخله إلى فرن حرارته ‪ 180‬درجة مئوية‬
‫أربًع ا وعشرين ساعًة ! هكذا كانت حياة إليوت الجديدة‪ .‬صار يتخّلف عن‬
‫حضور المباريات التي يشارك فيها ابنه‪ .‬كما تغّيب عن اجتماع أولياء األمور مع‬
‫المعّلمين لكي يجلس ويتابع برنامًج ا سخيًف ا في التلفزيون‪ .‬ونسي أن زوجته‬
‫تحّب أن يتحّد ث معها أكثر من مرة واحدة في األسبوع‪.‬‬
‫بدأت المشاجرات تحدث في حياة إليوت الزوجية نتيجة أشياء جديدة غير‬
‫متوّقعة‪ ...‬إال أن اعتبارها «مشاجرات» كان أمًرا غير دقيق في حقيقة األمر‪.‬‬
‫تتطّلب المشاجرة وجود شخصين مختلفين على أمر ما‪ .‬كانت زوجته تغضب‬
‫غضًبا شديًد ا‪ ،‬في حين يظل إليوت عاجًز ا عن إدراك سبب غضبها‪ .‬وبداًل من‬
‫اتخاذ إجراءات سريعة من أجل تغيير مسار األمور‪ ،‬أو من أجل إصالحه‪ ،‬حتى‬
‫ُيظهر أنه يحب األشخاص الذين هم أفراد أسرته وأنه مهتم بهم‪ ،‬ظل إليوت‬
‫منعزاًل غير مباٍل بشيء‪ .‬كان ذلك كما لو أنه يعيش في مكان آخر‪ ،‬في مكان‬
‫ال يستطيع أحد على وجه األرض أن يصل إليه‪.‬‬
‫وفي النهاية‪ ،‬لم تعد زوجته قادرة على احتمال المزيد‪ .‬لقد خسر إليوت ما‬
‫هو أكثر من الورم!‪ ...‬هكذا كانت تصيح‪ .‬وذلك الشيء هو قلُبه! طّلقته زوجته‪،‬‬
‫وأخذت األطفال‪ .‬صار إليوت وحيًد ا‪.‬‬
‫بدأ إليوت‪ ،‬المنبوذ‪ ،‬المشَّوش‪ ،‬يبحث عن سبل للعودة إلى العمل من‬
‫جديد‪ .‬توّرط في مشاريع أعمال فاشلة‪ .‬وسلبه أحد المحتالين القسم األكبر‬
‫من مّد خراته المالية‪ .‬ثم أغوته امرأة سيئة النية فأقنعته بأن يتزوجها‪ ،‬ولم‬
‫تلبث أن طّلقته بعد سنة وأخذت نصف ما بقي لديه‪ .‬صار إليوت يسكن هنا‬
‫وهناك في شقق ال تنفك تزداد رخًص ا وبؤًس ا إلى أن صار متشّرًد ا حقيقًيا بعد‬
‫بضع سنوات‪ .‬آواه أخوه وبدأ يساعده مالًيا‪ .‬كان أصدقاؤه وأقاربه في حالة‬
‫ذهول ألن هذا الشخص الذي كان موضع إعجابهم في ما مضى قد انقلب‬
‫رأًس ا على عقب خالل سنوات قليلة فقط ورمى بحياته كّلها إلى الخراب‪ .‬لم‬
‫يستطع أحد فهم هذا‪ .‬لم يكن ممكًن ا إنكار أن شيًئ ا في إليوت قد تغّير وأن‬
‫نوبات الصداع الفظيعة تلك قد سّببت له ما هو أكثر من األلم‪.‬‬
‫وكان السؤال‪ :‬ما الذي تغّير؟‬
‫بدأ أخوه يرافقه في زيارات إلى أطباء ُك ُث ر‪ .‬كان يقول‪« :‬إنه ليس هو‬
‫نفسه‪ .‬لديه مشكلة‪ .‬يبدو على ما يرام‪ ،‬لكنه ليس كذلك‪ .‬أنا متأّكد من‬
‫هذا»‪.‬‬
‫فحصه األطباء كثيًرا‪ ،‬وأجروا له اختبارات كثيرة‪ .‬لكنهم قالوا آخر األمر إن‬
‫إليوت في حالة طبيعية تماًم ا‪ ...‬أو إن حالته ‪ -‬على األقل ‪ -‬واقعة ضمن‬
‫تعريفهم لما هو «طبيعي»؛ بل حتى أحسن من ذلك قلياًل ! كانت نتائج‬
‫التصوير المقطعي الُم َحوَس ب جيدة‪ .‬وكانت نتائج اختبار معدل الذكاء مرتفعة‪.‬‬
‫ظلت قدرته على المحاكمة العقلية متينة‪ .‬وظلت ذاكرته في حالة ممتازة‪.‬‬
‫كان قادًرا على إجراء مناقشة مطولة لتداعيات خياراته السيئة ونتائجها‪ .‬وكان‬
‫قادًرا أيًض ا على التحدث في جملة واسعة من الموضوعات مع المحافظة على‬
‫ما كان لديه من سحر وحّس بالفكاهة‪ .‬قال طبيبه النفسي إنه ليس مصاًبا‬
‫باالكتئاب؛ بل على العكس من ذلك‪ :‬إن لديه تقديًرا مرتفًع ا لنفسه‪ ،‬وال تظهر‬
‫عليه أّي عالمات تشير إلى القلق المزمن أو الشّد ة النفسية ‪ -‬كان في حالة‬
‫هدوء شديد في مواجهة اإلعصار الذي نتج عن إهماله وتقصيره‪.‬‬
‫لم يستطع أخوه قبول هذه النتائج‪ .‬ثمة شيء خاطئ! لقد فقد إليوت‬
‫شيًئ ا ما!‬
‫وفي محاولة أخيرة‪ ،‬جرت إحالة إليوت إلى طبيب أعصاب شهير اسمه‬
‫أنتونيو داماسيو‪.‬‬
‫كان ما فعله د‪ .‬أنتونيو داماسيو في البداية مثلما ما فعله بقية األطباء‪:‬‬
‫أجرى إلليوت مجموعة اختبارات من أجل فحص قدراته اإلدراكية‪ .‬الذاكرة‪،‬‬
‫والمنعكسات‪ ،‬والذكاء‪ ،‬والشخصية‪ ،‬وإدراك المكان واألشكال‪ ،‬والمناقشة‬
‫األخالقية‪ ...‬فحص الطبيب كَّل شيء‪ .‬وكانت نتائج إليوت ممتازة في كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫عندها‪ ،‬فعل داماسيو شيًئ ا لم يفكر أي طبيب قبله بفعله إلليوت‪ :‬لقد‬
‫تحّد ث معه!‪ ...‬أجرى معه حديًث ا حقيقًيا! أراد أن يعرف منه كل شيء‪ :‬كل‬
‫غلطة‪ ،‬وكل زّلة‪ ،‬وكل ما ندم عليه‪ .‬كيف فقد عمله؟ وكيف فقد أسرته؟ وكيف‬
‫فقد بيته؟ وكيف فقد مدخراته؟‪ ...‬اجعلني أرى خطوات اتخاذ كل قرار‪ ،‬واشرْح‬
‫لي عملية التفكير آنذاك (أو‪ ،‬عدم وجود عملية التفكير‪ ،‬في هذه الحالة)‪.‬‬
‫استطاع إليوت أن يشرح القرارات التي اتخذها شرًح ا تفصيلًيا‪ ،‬لكنه لم‬
‫يستطع شرح ما جعله يّتخذ تلك القرارات‪ .‬كان قادًرا على تذّكر الحقائق‬
‫وتسلسل الحوادث بدّقة تاّمة‪ ،‬بل إنه تذّكر ذلك كله بصورة حيوية نشطة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما طلب منه الطبيب تحليل قراراته وكيفية اتخاذها‪ :‬لماذا قّرر أن‬
‫شراء ثّقابة جديدة للورق كان أكثر أهمية من االجتماع مع المستثمر؟ ولماذا‬
‫قّرر أن متابعة ذلك البرنامج التلفزيوني كان أكثر أهمية من أطفاله؟‪ ...‬عند‬
‫ذلك لم يعرف إليوت شيًئ ا‪ .‬لم تكن لديه أية إجابات‪ .‬واألغرب من هذا هو أنه‬
‫و‬ ‫ن‬ ‫و ر‬ ‫إ‬ ‫م ن‬ ‫م ر إ و‬
‫لم يكن منزعًج ا على اإلطالق نتيجة عدم وجود أية إجابات لديه‪ .‬حقيقة األمر‬
‫أنه كان غير مباٍل بذلك‪.‬‬
‫كان إليوت رجاًل خسر كل شيء بسبب أغالطه وخياراته الخاطئة‪ ،‬رجاًل‬
‫لم يظهر أي قدر من القدرة على التحّكم بنفسه‪ .‬كان رجاًل يدرك تماًم ا حجم‬
‫الكارثة التي أصابت حياته‪ ،‬لكن من الواضح أنه غير آسف على اإلطالق‪ .‬لم‬
‫يكره نفسه‪ ،‬بل لم يظهر عليه أي قدر من الحرج‪ .‬وصل ما ال حصر له من‬
‫األشخاص إلى االنتحار نتيجة أشياء أقل كثيًرا مما أصاب إليوت! إال أن إليوت‬
‫لم يكن مرتاًح ا فحسب إزاء ما أصابه‪ ،‬بل غير مباٍل به أبًد ا‪ .‬عند ذلك‪ ،‬توصل‬
‫داماسيو إلى فكرة ذكية‪ :‬لقد كانت االختبارات النفسية التي خضع لها إليوت‬
‫مصّممة من أجل قياس قدرته على التفكير؛ لكنها لم تكن اختبارات مصّممة‬
‫لقياس قدرته على اإلحساس‪ .‬كان كل طبيب من األطباء الذين فحصوه معنًيا‬
‫بالتحّقق من القدرات المنطقية لدى إليوت؛ ولم يتوقف أحد منهم للتفكير في‬
‫احتمال أن تكون قدرات إليوت العاطفية واالنفعالية هي موضع المشكلة‪.‬‬
‫وحتى لو أنهم أدركوا ذلك‪ ،‬فما من طريقة معيارية لقياس ذلك الضرر‪.‬‬
‫وفي يوم من األيام‪ ،‬قام أحد زمالء داماسيو بطباعة مجموعة من الصور‬
‫المثيرة للفزع‪ .‬كان في تلك الصور ضحايا حروق شديدة‪ ،‬ومشاهد قتل‬
‫ُم رّوعة‪ ،‬ومدن دمرتها الحرب‪ ،‬وأطفال جائعون‪ .‬جعل إليوت يرى تلك الصور‪،‬‬
‫واحدة بعد أخرى‪ .‬ظل إليوت غير مباٍل على اإلطالق‪ .‬لم يشعر بأي شيء‪.‬‬
‫كان عدم اهتمامه أمًرا صادًم ا إلى حد جعله‪ ،‬هو نفسه‪ ،‬يعّلق على مدى‬
‫سوء حالته‪ .‬لقد أقَّر بمعرفته األكيدة بأن تلك الصور كانت ستسّبب له اضطراًبا‬
‫شديًد ا في الماضي‪ ،‬وقال إن قلبه كان سينفطر ألًم ا وذعًرا وإشفاًق ا‪ .‬قال إنه‬
‫ما كان يستطيع النظر إلى تلك الصور‪ ،‬وإنه كان سيدير وجهه حتى ال يراها‪.‬‬
‫وأما اآلن؟!‪ ...‬لقد ظّل جالًس ا هناك ينظر إلى أكثر ما يعرفه البشر قسوة‬
‫وظالًم ا‪ ،‬لكنه لم يشعر بأي شيء‪.‬‬
‫اكتشف داماسيو أن هذه هي مشكلة إليوت‪ :‬بقيت معرفته وقدرته على‬
‫المحاكمة المنطقية سليمة‪ ،‬لكن الورم (أو العملية الجراحية التي أجريت من‬
‫أجل استئصال ذلك الورم) أدى إلى إلحاق ضعف شديد بقدرته على الشعور‬
‫والتعاطف‪ .‬لم يعد في عالمه الداخلي ظلمة ونور‪ ،‬بل صار مستنقًع ا رمادًيا‬
‫من غير نهاية‪ .‬صار ذهابه لرؤية ابنته واالستماع إليها وهي تتمّرن على عزف‬
‫البيانو ال يثير في نفسه فرحة واعتزاًز ا أبويين بأكثر مما يثيره فيها شراء زوج‬
‫جديد من الجوارب‪ .‬صار إحساسه بخسارة مليون دوالر كما لو أنه يمأل خزان‬
‫سيارته بالوقود‪ ،‬أو يأخذ بياضات السرير إلى الغسيل‪ ،‬أو يشاهد برنامًج ا‬
‫تلفزيونًيا تافًه ا‪ .‬لقد صار أشبه بآلة قادرة على الكالم والمشي‪ ،‬لكنها غير‬
‫مبالية بأي شيء‪ .‬لم تعد هناك أهمية لمستوى ذكائه بعد أن فقد القدرة‬
‫على الحكم على قيمة األشياء وعلى التمييز بين الجّيد والسّيئ‪ .‬لقد فقد‬
‫إليوت تحكمه بنفسه(‪.)37‬‬
‫لكن هذا أدى إلى طرح سؤال كبير‪ :‬إذا كانت قدرات إليوت المعرفية‬
‫(ذكاؤه‪ ،‬وذاكرته‪ ،‬وانتباهه) في حالة جيدة جًد ا‪ ،‬فما الذي جعله غير قادر‬
‫على اتخاذ قرارات صحيحة فعالة؟ حّير هذا األمر داماسيو وزمالءه‪ .‬يمّر كٌّل منا‬
‫بحاالت يتمّنى فيها لو أنه كان من غير مشاعر‪ .‬وذلك ألن مشاعرنا تقودنا‪،‬‬
‫في حاالت كثيرة‪ ،‬إلى القيام بأفعال غبّية نندم عليها في وقت الحق‪ .‬ظل‬
‫الفالسفة وعلماء النفس قروًنا يظنون بأن التخّلص من مشاعرنا وانفعاالتنا‪ ،‬أو‬
‫كبتها هو الحل لمشكالتنا كّلها‪ .‬لكن‪ ،‬ها هو رجٌل ُج ّرد تجريًد ا تاًم ا من‬
‫مشاعره وانفعاالته وقدرته على التعاطف‪ ،‬رجٌل ما عاد لديه شيء غير ذكائه‬
‫وقدرته العقالنية على المناقشة المنطقية‪ ،‬فتدهورت حياته تدهوًرا سريًع ا‬
‫إلى أن صارت كارثة حقيقية‪ .‬لقد كانت حالته مخالفة لكل ما هو معروف عن‬
‫السيطرة على النفس واتخاذ القرارات العقالنية‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كان هناك سؤاٌل ثاٍن يثير قدًرا من الحيرة ال يقل عما يثيره السؤال‬
‫األول‪ :‬إذا كان إليوت ال يزال حاّد الذكاء‪ ،‬وال يزال قادًرا على التفكير العقالني‬
‫في المشكالت المطروحة عليه‪ ،‬فلماذا شهد أداؤه في العمل ذلك الترّدي‬
‫الكبير؟ لماذا تحّولت إنتاجيته المرتفعة إلى أداء في غاية السوء؟ ولماذا أهمل‬
‫أسرته إهمااًل أدى إلى انهيارها على الرغم من معرفته التاّمة بالعواقب‬
‫السلبية التي ستنتج عن ذلك؟ حتى إذا كففت عن االهتمام بزوجتك‪ ،‬أو‬
‫بعملك‪ ،‬فمن المفترض أن تظل قادًرا على إجراء المحاكمة العقلية التي تقول‬
‫لك إن من المهم أن تحافظ عليهما‪ .‬أليس هذا صحيًح ا؟ أعني أن هذا ما‬
‫يستطيع المعتّلون اجتماعًيا التوصل إليه في آخر المطاف‪ .‬إًذ ا‪ ،‬لماذا لم‬
‫يستطع إليوت التوصل إلى هذه النتيجة؟ وكم تبلغ صعوبة الذهاب إلى مباراة‬
‫رياضية لألطفال‪ ،‬ولو مرة واحدة كل بضعة شهور؟ على نحو ما‪ ،‬فقد إليوت‬
‫قدرته على اتخاذ القرارات مع فقدانه قدرته على اإلحساس بأية مشاعر‪ .‬لقد‬
‫فقد قدرته على التحكم بحياته نفسها‪.‬‬
‫يمّر كل واحد منا بحاالت يعرف فيها ما ينبغي عليه فعله‪ ،‬لكنه ال يفعله‪.‬‬
‫ويحدث لنا جميًع ا أن نؤّج ل أعمااًل مهمة‪ ،‬ونتجاهل أشخاًص ا يهّمنا أمرهم‪،‬‬
‫ونتقاعس عن القيام بأمور من مصلحتنا الواضحة أن نقوم بها‪ .‬وعندما نمتنع‬
‫عن فعل األشياء التي ينبغي علينا فعلها‪ ،‬نفترض أن هذا يحدث ألننا غير‬
‫قادرين على التحكم بمشاعرنا وانفعاالتنا بالقدر الالزم‪ .‬نقول إننا غير‬
‫منضبطين‪ ،‬أو إننا مفتقرون إلى الفهم الكافي‪.‬‬
‫إال أن حالة إليوت وضعْت هذا كّله موضع التساؤل‪ .‬لقد وضعْت فكرة‬
‫التحّكم بالنفس موضع التساؤل‪ ،‬أي الفكرة القائلة بأننا نستطيع بالمنطق أن‬
‫نرغم أنفسنا على فعل أشياء جيدة لنا على الرغم من دوافعنا ومشاعرنا‬
‫التي تجعلنا ننفر منها‪.‬‬
‫حتى نتمّكن من خلق األمل في حياتنا‪ ،‬ال بد لنا أو من اإلحساس بأننا‬
‫اًل‬
‫قادرون على التحّكم بحياتنا‪ .‬يجب أن نشعر بأن التصرف وفًق ا لما نعرفه أمر‬
‫صحيح‪ ،‬وبأنه أمر حسن؛ أي أن يكون لدينا شعور بأننا نسعى إلى «شيء‬
‫أفضل»‪ .‬لكن أشخاًص ا كثيرين منا يعانون عدم القدرة على التحكم بأنفسهم‪.‬‬
‫وسوف تكون حالة إليوت سبًبا في اكتشاف شديد األهمية في ما يخص فهم‬
‫سبب حدوث هذا األمر‪ .‬هذا الرجل الفقير‪ ،‬المعزول‪ ،‬الوحيد‪ ...‬هذا الرجل‬
‫الذي ينظر إلى صور أجساد ممزقة وصور أنقاض خلفتها هزة أرضية‪ ...‬ينظر‬
‫من غير أي مشاعر إلى صور يمكن أن تكون تعبيًرا عن حياته هو‪ ...‬هذا الرجل‬
‫الذي فقد كَّل شيء‪ ،‬فقد كَّل شيء بالمطلق‪ ،‬لكنه ال يزال قادًرا على‬
‫االبتسام عندما يتحّد ث عن ذلك‪ ...‬سيكون هذا الرجل مفتاح ثورة حقيقية‬
‫في فهم العقل البشري‪ ،‬وفي فهم كيف نتخذ القرارات ومقدار ما نملكه فعاًل‬
‫من تحّكم بأنفسنا‪.‬‬
‫االفتراض التقليدي‬
‫قال الموسيقي توم ويتس عندما سئل عن سبب إكثاره من تناول‬
‫الشرب‪« :‬أن تكون أمامي زجاجة شراب أفضل من أن يكون أمامي ‘َبْض ُع‬
‫الَفّص ’!»‪ .‬يبدو أنه كان في حالة سكر شديد عندما قال ذلك‪ .‬والمشكلة هو‬
‫أنه كان يقوله على شاشة التلفزيون الوطني(‪.)38‬‬
‫إن «بضع الفص» جراحة دماغية يجري فيها إحداث ثقب في الجمجمة‬
‫عن طريق األنف‪ ،‬ثم يتم إحداث قطع في الفص الدماغي الجبهي باستخدام‬
‫إزميل(‪ .)39‬ابتكرت هذه العملية الجراحية في سنة ‪ 1935‬على يد جراح‬
‫أعصاب اسمه أنطونيو إيغاز مونيز(‪ .)40‬اكتشف إيغاز مونيز أنك إذا أخذت‬
‫شخًص ا مصاًبا بحالة شديدة من القلق‪ ،‬وباكتئاب انتحاري‪ ،‬أو بغير ذلك من‬
‫األمراض العقلية (من بينها ‘أزمات األمل’)‪ ،‬و«جرحت» دماغه بطريقة صحيحة‪،‬‬
‫فسوف تتحّس ن حالته‪.‬‬
‫كان إيغاز مونيز مقتنًع ا بأن إجراء جراحة بضع الفص يمكن أن يشفي‬
‫األمراض العقلية‪ .‬وقد سّوق هذه الجراحة في العالم استناًد ا إلى تلك‬
‫القناعة‪ .‬صار إجراء هذه العملية أمًرا واسع االنتشار في أواخر عقد األربعينات؛‬
‫وقد أجريت على عشرات آالف المرضى في أنحاء العالم‪ .‬كما فاز إيغاز مونيز‬
‫بجائزة نوبل لقاء اكتشافه هذا‪.‬‬
‫لكن الناس بدأوا في الخمسينات يالحظون أن حفر ثقب في وجه شخص‬
‫ما وإزالة جزء من دماغه مثلما تزيل الجليد عن زجاج السيارة األمامي يسبب‬
‫بضعة آثار جانبية سلبية‪ .‬أعني بتعبير «بضعة آثار جانبية سلبية» أن المرضى‬
‫يصيرون في حالة مزرية‪ .‬صحيح أن هذه العملية الجراحية «تشفي» المرضى‬
‫من مشكالتهم االنفعالية العنيفة (تشفيهم أكثر األحيان)‪ ،‬إال أنها تجعلهم‬
‫غير قادرين على التركيز أو اتخاذ القرارات‪ ،‬أو وضع خطط بعيدة المدى‪ ،‬أو‬
‫التقّد م في العمل‪ ،‬أو التفكير في أنفسهم تفكيًرا مجّرًد ا‪ .‬من حيث األساس‪،‬‬
‫يصير أولئك الناس كائنات «زومبي» راضية عن أنفسها كل الرضى كأنها من‬
‫غير عقول‪ .‬أي أنهم يصيرون مثل إليوت‪.‬‬
‫كان االتحاد االسوفياتي (االتحاد السوفياتي دوًنا عن أي مكاٍن آخر)‪ ،‬البلد‬
‫األول الذي يعتبر هذه العملية الجراحية في الدماغ مخالفة للقانون‪ .‬أعلن‬
‫السوفيات أنها عملية «مخالفة للمبادئ اإلنسانية»‪ ،‬وزعموا أنها «تحّول‬
‫الشخص المصاب بالجنون إلى شخص معتوه»(‪ .)41‬كان هذا بالنسبة إلى‬
‫بقية العالم أشبه بانطالق جرس الساعة المنّبهة‪ .‬فعندما يلقي عليك جوزيف‬
‫ستالين محاضرة في األخالق وفي المبادئ اإلنسانية‪ ،‬فإن هذا يعني أنك‬
‫في حالة ُيرثى لها‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬بدأت بقية العالم (بدأت ببطء) تحّظر تلك الجراحة بحيث لم يأت‬
‫عقد الستينات إال وقد صارت مرفوضة لدى الجميع‪ .‬أجريت آخر عملية «بضع‬
‫الفص» في الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬وكان ذلك في سنة ‪ .1967‬ولم يلبث‬
‫وم‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ص ي و‬
‫المريض أن مات بعد العملية‪ .‬قال السكير توم ويتس جملته الشهيرة على‬
‫شاشة التلفزيون بعد عشر سنين من ذلك‪ .‬وأما البقية فقد صارت تاريًخ ا‪ ،‬كما‬
‫يقولون‪.‬‬
‫كان توم ويتس مدمًن ا على الكحول‪ .‬وقد أمضى عقد السبعينات كّله‬
‫محاواًل أن يبقي عينيه مفتوحتين وأن يتذّكر أين وضع علبة سجائره(‪ .)42‬لكنه‬
‫استطاع خالل تلك الفترة أن يعثر على الوقت الالزم لتأليف سبعة ألبومات‬
‫غنائية المعة وتسجيلها‪ .‬كان شخًص ا عميًق ا خصب اإلنتاج؛ وفاز بعدة جوائز؛‬
‫وباع ماليين النسخ من أغانيه التي اشتهرت في العالم‪ .‬كان واحًد ا من أولئك‬
‫الفنانين العالميين الذين يتمّيزون بنظرة ثاقبة مدهشة إلى الشرط البشري‪.‬‬
‫لعل جملة ويتس عن عملية «بضع الفص» تثير ضحكنا اآلن‪ ،‬لكن فيها‬
‫حكمة خفية‪ :‬إنه يفّضل أن يعاني مشكلة الضعف العاطفي أمام زجاجة‬
‫الشراب على أن يفقد كّل عاطفة على اإلطالق؛ بمعنى أن العثور على األمل‬
‫في أماكن وضيعة يظل أفضل من عدم العثور على أي أمل‪ .‬هذا يعني أيًض ا‬
‫أننا نصير ال شيء إذا فقدنا اندفاعاتنا المجنونة الجامحة‪.‬‬
‫لقد كان هناك على الدوام افتراض ضمني مفاده أن مشاعرنا وانفعاالتنا‬
‫هي السبب في مشكالتنا كلها‪ ،‬وأنه ينبغي على عقلنا أن يتدّخ ل لكي يزيل‬
‫تلك الفوضى! يرجع هذا المنهج في التفكير إلى عهد بعيد‪ ،‬إلى زمان سقراط‬
‫الذي أعلن أن العقل هو منبع الفضائل كلها(‪ .)43‬وفي أوائل عصر األنوار‪ ،‬ذهب‬
‫ديكارت إلى أن عقلنا مستقل عن رغباتنا الحيوانية‪ ،‬وإلى أن عليه أن يتعّلم‬
‫كيف يسيطر على تلك الرغبات(‪ .)44‬قال الفيلسوف كانط أيًض ا شيًئ ا يشبه‬
‫هذا(‪ .)45‬ثم جاء فرويد وكّرر الفكرة نفسها‪ ،‬لكنه أضاف إليها بعًد ا جنسًيا‬
‫طاغًيا(‪ .)46‬وأنا واثق من أن إيغاز مونيز كان يظن بأنه اكتشف طريقة فعل ذلك‬
‫عندما ثقب جمجمة مريضه األول في سنة ‪1935‬؛ وذلك أن الفالسفة ظّلوا‬
‫أكثر من ألفي سنة يؤّكدون على ضرورة فعله‪ :‬جعُل العقل مهيمًن ا على‬
‫العواطف الجامحة من أجل التوّصل أخيًرا إلى مساعدة اإلنسانية في إحراز‬
‫قدٍر من التحّكم بنفسها‪.‬‬
‫لقد ساد هذا االفتراض عبر قرون من الزمان (افتراض أن علينا استخدام‬
‫عقلنا الواعي للهيمنة على عواطفنا وانفعاالتنا)‪ ،‬وهو ال يزال يحّد د قسًم ا‬
‫كبيًرا من ثقافتنا اليوم‪ .‬سنطلق على هذا االفتراض «االفتراض الكالسيكي»‪.‬‬
‫يقول االفتراض الكالسيكي إنه إذا كان لدينا شخص غير منضبط‪ ،‬أو جانح‬
‫الطباع‪ ،‬أو شرير‪ ،‬فهذا ألنه مفتقر إلى القدرة على ضبط مشاعره وإخضاعها‪،‬‬
‫مما يعني أنه شخص ضعيف اإلرادة أو معتوه تماًم ا‪ .‬يرى االفتراض التقليدي‬
‫أن العواطف والمشاعر واالنفعاالت ليست إال اختالالت أو عيوًبا في النفس‬
‫البشرية ال بد من التغلب عليها وإصالحها في تلك النفس‪.‬‬
‫وفي أيامنا هذه‪ ،‬عادة ما نطلق أحكامنا على الناس استناًد ا إلى هذا‬
‫«االفتراض الكالسيكي»‪ .‬يسخر الناس من الشخص البدين ألنهم يعتبرون‬
‫بدانته ناتجة عن فشله في السيطرة على نفسه‪ .‬فهو «يعرف» أن عليه أن‬
‫يكون رشيًق ا‪ ،‬لكنه يستمر في األكل‪ ،‬فلماذا؟ ال بد أن لديه شيًئ ا غير‬
‫صحيح‪ ...‬هذا ما نفترضه‪ .‬والمدّخ ن‪ :‬الحكاية نفسها‪ .‬وبالطبع‪ ،‬نجد تلك النظرة‬
‫نفسها تجاه مدمني المخدرات‪ ،‬لكن ذلك غالًبا ما يترافق مع وصمة إضافية‬
‫تعتبرهم نوًع ا من المجرمين‪.‬‬
‫يجري إخضاع األشخاص المكتئبين‪ ،‬وذوي الميول االنتحارية‪ ،‬إلى‬
‫االفتراض الكالسيكي بطريقة خطيرة إذ يقال لهم إنهم يتحّملون مسؤولية‬
‫عدم قدرتهم على خلق المعنى واألمل في حياتهم‪ ،‬وإنهم قد يتخّلصون من‬
‫ميلهم إلى شنق أنفسهم إذا بذلوا جهًد ا أكبر إلصالح حالهم‪.‬‬
‫إننا نعتبر خضوع المرء لدوافعه االنفعالية والعاطفية نوًع ا من الخلل‬
‫األخالقي‪ .‬ونرى في االفتقار إلى القدرة على التحّكم بالنفس عالمة داّلة‬
‫على الشخصية الفاشلة الَمعيبة‪ .‬وبالعكس‪ ،‬فإننا نحتفي باألشخاص الذين‬
‫يهزمون مشاعرهم ويجعلونها تستسلم إلرادتهم‪ .‬نصّفق جميًع ا للرياضيين‬
‫ورجال األعمال والقادة متحجري القلوب الذين يتمّتعون بكفاءة روبوتية‪ .‬إذا صار‬
‫واحد من المديرين التنفيذيين ينام في مكتبه وال يرى أطفاله إال كل ستة‬
‫أسابيع‪ ...‬فنعم‪ ،‬هذا هو التصميم! هل رأيتم؟ يستطيع أي شخص أن يصير‬
‫ناجًح ا!‬
‫من الواضح أن ما من صعوبة أبًد ا في رؤية كيف يمكن أن يؤّدي االفتراض‬
‫الكالسيكي إلى بعض «االفتراضات» الضارة‪ .‬إذا كان االفتراض الكالسيكي‬
‫صحيًح ا‪ ،‬فإن علينا أن نكون قادرين على التحكم بأنفسنا وعلى الحيلولة دون‬
‫االنفجارات االنفعالية والجرائم النابعة من العاطفة‪ ،‬فضاًل عن التخلص من‬
‫اإلدمان ومن الموبقات األخرى‪ ،‬وذلك من خالل الجهد العقلي وحده‪ .‬وكل‬
‫فشل في فعل ذلك يعكس وجوًد ا أصياًل لشيء َمعيب أو معطوب في داخلنا‪.‬‬
‫هذا ما يدفعنا‪ ،‬في أحيان كثيرة‪ ،‬إلى التوّصل إلى إيمان زائف بأن علينا أن‬
‫نغّير طبيعة أنفسنا‪ .‬فإذا كنا غير قادرين على تحقيق أهدافنا‪ ،‬وإذا كنا عاجزين‬
‫عن تخفيف أوزاننا‪ ،‬أو عن الحصول على ترقية في العمل‪ ،‬أو عن اكتساب‬
‫هذه المهارة أو تلك‪ ،‬فإن هذا يشير إلى خلٍل داخلي فينا‪ .‬وهكذا نقّرر‪ ،‬حتى‬
‫نحافظ على أملنا‪ ،‬أن علينا أن نغير أنفسنا بحيث يصير الواحد منا شخًص ا‬
‫جديًد ا مختلًف ا تماًم ا‪ .‬وعند ذلك‪ ،‬تشحننا هذه الرغبة في أنفسنا باألمل‪ .‬لم‬
‫يستطع «أنا القديم» التخّلص من عادة التدخين الفظيعة؛ لكن «أنا الجديد»‬
‫قادر على ذلك‪ .‬ثم ننطلق إلى السباق من جديد‪.‬‬
‫وعند ذلك‪ ،‬تصير هذه الرغبة الدائمة في تغيير النفس نوًع ا قائًم ا بذاته من‬
‫أنواع اإلدمان‪ :‬تؤّدي كل دورة من دورات «تغيير النفس» إلى حاالت مماثلة‬
‫من الفشل في السيطرة على النفس مما يدفعك إلى اإلحساس بأنك في‬
‫حاجة إلى «تغيير نفسك» من جديد‪ .‬إن كل دورة من هذه الدورات تعيد‬
‫تغذيتك باألمل الذي تبحث عنه‪ .‬وفي أثناء هذا‪ ،‬يظل االفتراض الكالسيكي‪،‬‬
‫الذي هو جذر المشكلة‪ ،‬من غير أن يقترب منه أحد‪ ،‬ومن غير أن يضعه أحد‬
‫موضع التساؤل‪ ،‬ناهيك عن أن يتمّكن أحد من التخلص منه‪.‬‬
‫إن هذا يشبه قصة َحب الشباب الذي نشأت بسببه‪ ،‬خالل القرنين‬
‫الماضيين‪ ،‬صناعة كاملة تمحورت حول «تغيير الذات»‪ .‬إن هذه الصناعة مليئة‬
‫بالوعود الكاذبة التي ترشد المرء إلى أسرار السعادة والنجاح والتحّكم‬
‫بالنفس‪ .‬إال أن كل ما تفعله تلك الصناعة يظل منحصًرا في تعزيز الميول التي‬
‫تدفع الناس إلى اإلحساس بالنقص(‪.)47‬‬
‫الحقيقة هي أن العقل البشري أكثر تعقيًد ا من أي «سٍّر»‪ .‬أنت غير قادر‬
‫على تغيير نفسك؛ وليس عليك أن تشعر دائًم ا بأنه ينبغي لك فعل ذلك!‬
‫إننا متعّلقون بهذه الحكاية عن السيطرة على النفس نتيجة اعتقادنا بأن‬
‫سيطرتنا التاّمة على أنفسنا منبٌع كبيٌر من منابع األمل‪ .‬ونحن «نريد» االقتناع‬
‫بأن تغيير أنفسنا أمٌر بسيٌط مثل معرفة ما ينبغي تغييره‪ .‬نحن «نريد» االقتناع‬
‫بأن القدرة على فعل شيء ما أمر يعادل في بساطته اتخاذ القرار بفعله‬
‫وحشد قوة اإلرادة الكافية لفعله‪ .‬ونحن «نريد» إقناع أنفسنا بأننا سادة‬
‫مصيرنا‪ ،‬وبأننا قادرون على فعل كل ما نحلم به‪.‬‬
‫ًف‬
‫هذا ما جعل اكتشاف داماسيو عندما حاول معالجة إليوت اكتشا ا كبيًرا‬
‫بالفعل‪ :‬لقد بّين هذا االكتشاف أن االفتراض الكالسيكي غير صحيح‪ .‬فإذا كان‬
‫االفتراض الكالسيكي أمًرا صحيًح ا‪ ،‬وإذا كانت الحياة أمًرا بسيًطا مثل تعّلم‬
‫المرء السيطرة على انفعاالته وعواطفه واتخاذ القرارات استناًد ا إلى العقل‪،‬‬
‫فهذا يعني أن إليوت كان شديد القوة‪ ،‬مجًّد ا في عمله‪ ،‬يتخذ القرارات من غير‬
‫أية مشكلة‪ .‬وعلى نحو مماثل‪ ،‬إذا كان االفتراض الكالسيكي صحيًح ا‪ ،‬فإن‬
‫من يخضعون لعملية بضع الفص يجب أن يكونوا أكثر الناس نجاًح ا‪ .‬لو كان األمر‬
‫كذلك‪ ،‬الندفعنا جميًع ا إلى توفير المال من أجل إجراء هذه العملية كما لو أنها‬
‫عملية لتجميل األنف أو الثديين‪.‬‬
‫إال أن عملية بضع الفص غير ناجحة؛ وحياة إليوت قد صارت خراًبا!‬
‫الحقيقة هي أننا في حاجة إلى ما يتجاوز قوة اإلرادة حتى نتمكن من‬
‫التحّكم بأنفسنا‪ .‬لقد اتضح أن عواطفنا وانفعاالتنا أمر ذو أهمية كبرى في‬
‫اتخاذ القرار وفي اإلقدام على الفعل‪ .‬لكننا ال ندرك هذا األمر دائًم ا‪.‬‬
‫إن لك دماغان وهما ليسا على وفاق في ما بينهما‬
‫فلنتظاهر بأن دماغك سّيارة‪ .‬ولنعط هذه السيارة اسًم ا هو «سيارة‬
‫الوعي»‪ .‬تسير سيارة الوعي في طريق الحياة‪ .‬وفي هذا الطريق تقاطعات‪،‬‬
‫ومداخل‪ ،‬ومخارج‪ .‬تمّثل هذه الطرق والتقاطعات القرارات التي يتعّين عليك‬
‫اتخاذها أثناء القيادة؛ وهي التي ستحّد د مصيرك‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬هناك شخصان في سيارة الوعي هذه‪ :‬الدماغ المفّكر‪ ،‬والدماغ‬
‫الذي يشعر(‪ .)48‬يمثل الدماغ المفكر أفكارك الواعية وقدرتك على إجراء‬
‫الحسابات وقدرتك على الموازنة المنطقية بين خيارات متعّد دة والتعبير عن‬
‫األفكار من خالل اللغة‪ .‬ويمثل الدماغ الذي يشعر دوافعك وحدسك وغرائزك‪.‬‬
‫في حين يكون دماغك المفكر منهمًك ا في حساب المدفوعات في سجل‬
‫بطاقتك االئتمانية‪ ،‬يكون دماغك الذي يشعر راغًبا في بيع كل شيء والفرار‬
‫إلى تاهيتي‪.‬‬
‫ّك‬
‫إن لكل واحد من دماغيك نقاط قوٍة ونقاط ضعٍف ‪ .‬فالدماغ المف ر دماغ‬
‫دقيق غير متحّيز‪ ،‬وهو صاحب ضمير أيًض ا‪ .‬إنه دماغ منهجي عقالني‪ ،‬لكنه‬
‫بطيء أيًض ا‪ .‬إنه في حاجة إلى طاقة كبيرة وإلى جهد كبير؛ كما أنه في‬
‫حاجة إلى التكوين والبناء على مر الزمن (مثل العضالت)‪ ،‬ويمكن أن يصاب‬
‫بحاالت من اإلرهاق وفرط اإلجهاد(‪ .)49‬لكن الّد ماغ الذي يشعر يصل إلى‬
‫استنتاجاته بسرعة ومن غير جهد‪ .‬إال أن مشكلته هي أنه غالًبا ما يكون غير‬
‫دقيٍق وغير عقالنٍّي‪ .‬ثم إن الدماغ الذي يشعر مولع بالدراما‪ ،‬ولديه عادة‬
‫سيئة أال وهي عادة المبالغة في ردود األفعال‪.‬‬
‫عندما نفّكر في أنفسنا وفي الطريقة التي نتخذ بها قراراتنا‪ ،‬فإننا نفترض‬
‫عادة أن الدماغ المفّكر هو الذي يقود سيارة الوعي‪ ،‬وأن الدماغ الذي يشعر‬
‫يكون جالًس ا إلى جانبه وهو يصيح ويخبر السائق بالوجهة التي يريد الذهاب‬
‫إليها‪ .‬نمضي في قيادة السيارة‪ ،‬وننجز أهدافنا ونبدأ طريق العودة إلى البيت‪،‬‬
‫عندها يرى الدماغ الذي يشعر شيًئ ا المًع ا أو مغرًيا أو مفرًح ا فيمّد يده ويدير‬
‫عجلة القيادة في اتجاهه فيجعل السيارة تندفع في مواجهة سيارات قادمة‪،‬‬
‫ويوقع األذى بسيارات الوعي الخاّصة بأشخاص آخرين‪ ،‬وأيًض ا بسيارة الوعي‬
‫الذي هو جالس فيها‪.‬‬
‫هذا هو االفتراض الكالسيكي‪ ،‬أي االعتقاد بأن عقلنا المنطقي يمارس‬
‫التحّكم النهائي بحياتنا‪ ،‬وأن علينا تدريب مشاعرنا وانفعاالتنا بحيث تظل‬
‫جالسة مطبقة فمها بينما يتوّلى الدماغ المفّكر القيادة‪ .‬ونحن نهّلل لهذا‬
‫االختطاف ولهذا الظلم الواقعين على مشاعرنا ونهنئ أنفسنا على نجاحنا‬
‫في التحّكم في أنفسنا‪.‬‬
‫لكن سيارتنا‪ ،‬سيارة الوعي‪ ،‬ال تعمل بهذه الطريقة! عندما أزيل الورم من‬
‫ُأ‬
‫رأس إليوت‪ ،‬فقد لقي بدماغه الذي يشعر من نافذة سيارة وعيه‪ ،‬ولم يعد‬
‫لديه من يقوم بمهّمته‪ .‬الحقيقة هي أن سيارة وعيه قد توقفت‪ .‬ما يتعّرض له‬
‫األشخاص الذين يجرون هذه العملية هو أن أدمغتهم التي تشعر تصير مقَّيدة‬
‫ومرمية في صندوق األمتعة في السيارة‪ ،‬فيجعلهم هذا مخَّد رين‪ ،‬كسالى‪،‬‬
‫غير قادرين ‪ -‬معظم الوقت ‪ -‬على النهوض من السرير‪ ،‬وال حتى على ارتداء‬
‫مالبسهم‪.‬‬
‫وأما توم ويتس فكان‪ ،‬في معظمه‪« ،‬دماًغ ا يشعر» طيلة الوقت‪ .‬وكان‬
‫يتلقى مااًل كثيًرا مقابل ظهوره ثماًل في البرامج التلفزيونية‪ .‬إًذ ا‪ ...‬هذا هو‬
‫األمر!‬
‫هذه هي الحقيقة‪ :‬إن الدماغ الذي يشعر هو من يقود سيارة الوعي‪ .‬ال‬
‫يهمني كم تظن نفسك شخًص ا من أهل العلم؛ وال يهّمني عدد األلقاب التي‬
‫تضعها إلى جانب اسمك‪ ...‬فأنت تظّل واحًد ا منا‪ ،‬يا صاحبي‪ .‬أنت روبوت‬
‫مصنوع من اللحم يقوده «دماغ يشعر» مجنون تماًم ا مثل الدماغ الذي يشعر‬
‫عند أي واحد منا‪ ،‬فاحتفظ بأفكارك لنفسك‪ ،‬من فضلك!‬
‫يقود الدماغ الذي يشعر سيارة الوعي ألننا‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬نتحّرك‬
‫في اتجاه الفعل نتيجة مشاعرنا وانفعاالتنا فحسب‪ .‬فالفعل مصنوع من‬
‫مشاعر(‪ .)50‬إن مشاعرنا وانفعاالتنا هي النظام «الهيدروليكي» البيولوجي‬
‫الذي يدفع أجسامنا إلى الحركة‪ .‬ليس الخوف بشيء سحري يخترعه عقلك‪.‬‬
‫ال‪ ...‬إنه شيء يحدث في أجسامنا‪ .‬إنه تقّلص المعدة‪ ،‬وتوتر العضالت‪،‬‬
‫وإطالق هرمون األدرينالين‪ ،‬والرغبة الجارفة في أن يكون جسدك غير مقَّيٍد‬
‫بشيء‪ .‬وأما الدماغ المفّكر فهو موجود‪ ،‬حصًرا‪ ،‬ضمن التشابكات العصبّية في‬
‫جمجمتك؛ في حين أن الدماغ الذي يشعر هو كل ما في جسدك من حكمة‬
‫ومن حماقة‪ .‬يدفع الغضب بجسدك إلى الحركة‪ .‬ويشّد ه القلق إلى االنزواء‬
‫والتراجع‪ .‬تضيء الفرحة عضالت الوجه‪ ،‬في حين يحاول الحزن حجب وجودك‬
‫عن األنظار‪ .‬المشاعر واالنفعاالت هي ما يدعوك إلى الفعل‪ ،‬كما أن الفعل‬
‫يثير فيك مشاعر وانفعاالت أيًض ا‪ .‬ال سبيل إلى الفصل بين االثنين‪.‬‬
‫يقودنا هذا إلى إجابة بسيطة شديدة الوضوح عن السؤال األزلي‪ :‬لماذا ال‬
‫نفعل أشياء نعرف أن علينا فعلها؟‬
‫األمر واضح‪ :‬ألننا ال نحّب أن نفعلها!‬
‫ليست أية مشكلة من مشكالت التحّكم في النفس مشكلة معلومات أو‬
‫انضباط أو منطق‪ ،‬بل هي مشكلة مشاعر وانفعاالت‪ .‬التحّكم في النفس‬
‫مشكلة انفعالية‪ .‬والكسل مشكلة انفعالية‪ .‬والتسويف مشكلة انفعالية‪.‬‬
‫وانخفاض األداء مشكلة انفعالية‪ .‬والتهّور مشكلة انفعالية‪.‬‬
‫وهذا أمر سّيئ! هذا سّيئ ألن التعامل مع المشكالت االنفعالية أصعب‬
‫كثيًرا من التعامل مع المشكالت المنطقية‪ .‬هناك معادالت تساعدك في‬
‫حساب دفعاتك المالية الشهرية‪ .‬لكن‪ ،‬ال وجود لمعادالت تساعدك في إنهاء‬
‫عالقة عاطفية فاشلة‪ .‬وكما أظنك صرت تدرك اآلن‪ ،‬فإن الفهم العقلي لكيفية‬
‫تغيير سلوكك ال يؤّدي في حِّد ذاته إلى تغيير ذلك السلوك‪( .‬صدقني‪ ،‬لقد‬
‫قرأت نحو اثني عشر كتاًبا عن التغذية‪ ،‬لكني ال أزال أقضم المقرمشات‬
‫اللذيذة وأنا أكتب هذه الكلمات)‪ .‬نعرف أن علينا الكف عن تدخين السجائر‪ ،‬أو‬
‫الكف عن تناول السكر‪ ،‬أو الكف عن ذكر أصدقائنا بالسوء من خلف ظهورهم؛‬
‫لكننا نواصل فعل ذلك كِّله‪ .‬ال نواصل فعل ذلك ألننا ال ندرك أنه سّيئ‪ ،‬بل ألنه‬
‫يعجبنا!‬
‫المشكالت االنفعالية مشكالت غير عقالنية‪ ،‬بمعنى أنها غير قابلة‬
‫للمناقشة المنطقية‪ .‬هذا ما يصل بنا إلى أخبار أسوأ مما تقّد م‪ :‬ليس‬
‫للمشكالت االنفعالية إال حلول انفعالية‪ .‬واألمر كله متعّلق بالدماغ الذي‬
‫يشعر‪ .‬إذا كنت قد رأيت كيف تكون قيادة الدماغ الذي يشعر عند معظم‬
‫الناس‪ ،‬فأنت تعرف أنها شيء مخيف فعاًل !‬
‫في هذه األثناء‪ ،‬وبينما يحدث هذا كله‪ ،‬يكون الدماغ المفِّكر جالًس ا إلى‬
‫جانب السائق متخّياًل أنه مسيطر على الوضع تماًم ا‪ .‬إذا كان الدماغ الذي‬
‫يشعر هو سائقنا‪ ،‬فإن الدماغ المفِّكر هو الماّل ح الذي يتوّلى تحديد االتجاه‪.‬‬
‫إن لديه أكداًس ا من خرائط الواقع التي استنتجها وراكمها خالل الحياة‪ .‬يعرف‬
‫هذا العقل كيف يعود أدراجه وكيف يبحث عن طرق بديلة للوصول إلى الهدف‬
‫نفسه‪ .‬وهو يعرف مواضع المنعطفات الخطيرة‪ ،‬وأين يجد طرقات مختصرة‪ .‬إنه‬
‫يرى ‪ -‬محًّق ا ‪ -‬أنه الدماغ العقالني الذكي؛ ويؤمن بأن هذا يعطيه أفضلية‬
‫لقيادة سيارة الوعي والتحُّكم بمسارها‪ .‬لكن هذا ال يحدث‪ ،‬لألسف! وكما‬
‫عبر دانييل كاهنيمان عن هذا األمر ذات مرة‪ ،‬فإن الدماغ المفكر هو‬
‫«الشخصية الثانوية التي تتخيل أنها بطل المسرحية»(‪.)51‬‬
‫وحتى في األحيان التي ال يطيق فيها أحد الدماغين اآلخر‪ ،‬فإن كل واحد‬
‫منهما غير قادر على االستغناء عن رفيقه‪ .‬يقوم الدماغ الذي يشعر بتوليد‬
‫المشاعر واالنفعاالت التي تحّد د الهدف‪ ،‬ويقترح الدماغ المفِّكر وجهة ذلك‬
‫الفعل‪ .‬الكلمة المفتاح هنا هي «يقترح»‪ .‬في حين ال يستطيع الدماغ المفِّكر‬
‫أن يتحَّكم بالدماغ الذي يشعر فإنه يظّل قادًرا على التأثير عليه؛ ويكون هذا‬
‫التأثير كبيًرا بعض األحيان‪ .‬يستطيع الدماغ المفِّكر إقناع الدماغ الذي يشعر‬
‫بسلوك طريق جديد إلى مستقبل أفضل‪ ،‬وباالستدارة والعودة حيث يرتكب‬
‫غلطة‪ ،‬أو بإعادة النظر والتفكير في طرق جديدة أو مناطق جديدة كان‬
‫يتجاهلها قبل ذلك‪ .‬إال أن الدماغ الذي يشعر عنيد؛ وإذا أراد مواصلة المضي‬
‫في اتجاه ما‪ ،‬فسوف يتابع القيادة في ذلك االتجاه مهما يكن حجم‬
‫المعلومات والبيانات التي يقّد مها الدماغ المفِّكر‪ .‬يشّبه اختصاصي علم‬
‫النفس األخالقي جوناثان هيدت هذين الدماغين بفيٍل وراكبه الذي يقوده‪:‬‬
‫يستطيع من يقود الفيل أن يوجهه برفق وأن يدفعه إلى السير في وجهة‬
‫بعينها؛ لكن الفيل سيسير ‪ -‬في نهاية المطاف ‪ -‬في الوجهة التي يحّب‬
‫السير فيها(‪.)52‬‬
‫سيارة المهّرجين‬
‫إن للدماغ الذي يشعر‪ ،‬مهما تكن عظمته‪ ،‬جانًبا مظلًم ا‪ .‬ففي سيارة‬
‫الوعي‪ ،‬يكون الدماغ الذي يشعر أشبه بشاب مزعج كثير الشتائم مسافر مع‬
‫صديقته‪ .‬إنه يرفض التوّقف لكي يسأل أحًد ا عن االتجاهات‪ ...‬يكره أن يقول له‬
‫أحد أين يذهب‪ ،‬وسوف يجعل حياة صديقته بائسة إذا أبدت أية مالحظات في‬
‫ما يتعّلق بقيادته السيارة‪.‬‬
‫بغية تجّنب هذه المشكالت النفسية‪ ،‬وبغية المحافظة على األمل‪ ،‬ينشأ‬
‫لدى الدماغ المفِّكر َم ْي ل إلى رسم خرائط قادرة على إيجاد المبّررات الالزمة‬
‫التخاذ الوجهة التي قّرر الدماغ الذي يشعر اتخاذها‪ .‬إذا كان الدماغ الذي‬
‫يشعر راغًبا في تناول اآليس كريم‪ ،‬فإن الدماغ المفِّكر يمتنع عن مخالفته‬
‫وتذكيره بمساوئ السّكر المعاَلج والحريرات الزائدة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فهو يقول له‪:‬‬
‫«هل تعرف؟‪ ...‬لقد تعبت اليوم كثيًرا‪ .‬أستحق تناول اآليس كريم»‪ ،‬فيستجيب‬
‫الدماغ الذي يشعر لهذا الكالم بأن يصير راضًيا متساهاًل ‪ .‬إذا قرر دماغك الذي‬
‫يشعر أن صديقتك سيئة وأنك لم تفعل شيًئ ا خاطًئ ا‪ ،‬فإن ردة الفعل المباشرة‬
‫لدماغك المفِّكر ستكون محاولَة تذّكر الحاالت التي كنت فيها شديد الصبر‬
‫والتواضع في حين كانت صديقتك تنسج المكائد وتثير المشكالت من أجل‬
‫تخريب حياتك‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬تنشأ بين الدماغين عالقة غير صحية أبًد ا‪ ،‬يمكن أن‬
‫تشبه ما لعله كان يجري بين أمك وأبيك في سفرة بالسيارة عندما كنت‬
‫صغيًرا‪ .‬يصنع الدماغ المفِّكر كالًم ا فارًغ ا يعرف أن الدماغ الذي يشعر راغب في‬
‫سماعه‪ .‬وبدوره‪ ،‬يعّد ه الدماغ الذي يشعر بأاّل يسيء قيادة السيارة من‬
‫جديد‪ ،‬وبأاّل يسّبب األذى ألحٍد ‪.‬‬
‫يصعب تصديق سهولة سماح دماغك المفّكر لنفسه بالسقوط في الفخ‬
‫الذي هو تقديم الخرائط التي يرغب الدماغ الذي يشعر في اتباعها‪ .‬هذا ما‬
‫يدعى «االنحياز للذات»(‪ .)53‬إنه أساس قدر ال يستهان به أبًد ا من كل ما هو‬
‫سّيئ لدى البشر‪.‬‬
‫ًك‬
‫عادة ما يجعلك انحيازك لذاتك متمِّس ا بأفكارك المسبقة بعض الشيء‪،‬‬
‫ومتمركًز ا حول نفسك إلى حِّد ما‪ .‬فأنت تفترض أن ما تحّس ه صحيًح ا هو أمر‬
‫صحيح‪ .‬وأنت تطلق أحكاًم ا سريعة على الناس والجماعات واألفكار‪ ،‬لكَّن كثيًرا‬
‫من تلك األحكام يكون غير منصٍف ‪ ،‬بل حتى إنه يحمل قدًرا من التعصب بعض‬
‫األحيان‪.‬‬
‫وأما في حالته القصوى‪ ،‬فإن من الممكن أن يصير االنحياز للذات وهًم ا‬
‫خالًص ا فيجعلك مؤمًن ا بواقع ال وجود حقيقًيا له‪ ،‬ويشّوش ذكرياتك‪ ،‬ويضّخ م‬
‫بعض الحقائق‪ ...‬وهذا كّله من أجل إرضاء متطّلبات ال نهاية لها عند الدماغ‬
‫الذي يشعر‪ .‬إذا كان الدماغ المفِّكر ضعيًف ا و‪/‬أو قليل الحظ من التعليم‬
‫والثقافة‪ ،‬أو إذا كان كان الدماغ الذي يشعر في حالة غضب وإثارة شديدين‪،‬‬
‫فإن الدماغ المفِّكر يخضع للنزوات النارية لدى الدماغ الذي يشعر ولقيادته‬
‫المتهّورة الخطيرة‪ .‬إنه يفقد القدرة على التفكير المستقّل أو على مخالفة ما‬
‫يتوصل إليه الدماغ الذي يشعر‪.‬‬
‫هذا ما يحّول سيارة الوعي إلى سيارة مهرجين لها عجالت حمراء كبيرة‬
‫تنطنط على الطريق بينما تصدح موسيقى السيرك من مكبر الصوت أينما‬
‫ذهبت تلك السيارة(‪ .)54‬تصير سيارة وعيك سيارة مهِّرجين عندما يستسلم‬
‫دماغك المفِّكر لدماغك الذي يشعر استسالًم ا تاًم ا‪ .‬أي عندما تتقّرر مقاصدك‬
‫في الحياة بفعل الحاجة إلى إرضاء النفس من دون أي شيء آخر‪ ،‬فتتحّول‬
‫الحقائق إلى صوٍر هزليٍة لجملة من االفتراضات المّتجهة إلى خدمة الذات‪،‬‬
‫وتضيع المعتقدات والمبادئ كّلها في بحر من العدمّية‪.‬‬
‫تسير سيارة المهرجين‪ ،‬ال محالة‪ ،‬صوب اإلدمان والنرجسية واالندفاعات‬
‫التي ال يستطيع صاحبها مقاومتها‪ .‬يسهل التالعب بالناس الذين تكون‬
‫عقولهم سيارات مهرجين من جانب أي شخص (أو أية مجموعة أشخاص)‬
‫يعرف كيف يجعلهم مسرورين على الدوام‪ ...‬سواء كان ذلك الشخص‬
‫سياسًيا أم زعيًم ا دينًيا‪ ،‬أم واحًد ا من مرشدي المساعدة الذاتية‪ ،‬أم منتدى‬
‫من تلك المنتديات الخبيثة على اإلنترنت‪ .‬تكون سيارة المهرجين سعيدة‬
‫باجتذاب سيارات الوعي األخرى (أي األشخاص اآلخرين) بعجالتها الكبيرة‬
‫الحمراء‪ ،‬وذلك ألن دماغها المفّكر سوف يبّرر هذا بالقول إنهم يستحّقون ذلك‪:‬‬
‫إنهم أشرار‪ ،‬أو أقل شأًنا‪ ،‬أو جزء من مشكلة مصطنعة‪.‬‬
‫يّتجه قسم من سيارات المهرجين في اتجاه المتعة والمرح‪ ...‬إنه‬
‫االهتمام بالشرب والجنس والحفالت‪ .‬لكن هناك قسًم ا آخر يّتجه إلى أشكال‬
‫مختلفة من ممارسة السلطة‪ .‬هذا هو القسم األكثر خطورة‪ .‬سيارات‬
‫مهرجين تنَكُّب فيها األدمغة المفِّكرة على العمل من أجل تبرير اإلساءة إلى‬
‫اآلخرين وإخضاعهم من خالل نظريات ذات مظهر عميق‪ ،‬نظريات في االقتصاد‬
‫والسياسة واألعراق والجنس والجينات والبيولوجيا والتاريخ‪ ،‬وهلم جًّرا‪ .‬ومن‬
‫الممكن أيًض ا أن تّتخذ سيارة المهرجين وجهة الكراهية‪ ،‬ألن الكراهية توّفر‬
‫ألصحابها نوًع ا غريًبا من الرضا واالطمئنان‪ .‬تكون العقول التي من هذا النوع‬
‫َم ّيالة إلى الغضب الراضي عن نفسه ألن وجود هدف خارجي لديها يطمئنها‬
‫إلى تفّوقها األخالقي‪ .‬وال مفر من أن تنطلق تلك السيارات صوب تدمير‬
‫اآلخرين ألن دوافعها الداخلية التي ال نهاية لها ال تعرف الرضا واإلشباع إال من‬
‫خالل إخضاع العالم الخارجي وتدميره‪.‬‬
‫من الصعب إخراج شخص ما من سيارة المهرجين بعد أن يصير جالًس ا‬
‫فيها‪ .‬ففي سيارة المهرجين‪ ،‬يكون الدماغ المفِّكر قد اعتاد اإلساءة والتنمر‬
‫من جانب الدماغ الذي يشعر‪ ،‬وذلك على امتداد فترة طويلة‪ ،‬فينشأ عنده‬
‫نوع من أنواع متالزمة استوكهولم‪ ،‬ويصير غير قادر على تخّيل أي شيء في‬
‫الحياة غير إرضاء الدماغ الذي يشعر والعمل على تقديم المبررات إليه‪ .‬يكون‬
‫الدماغ المفّكر عاجًز ا عن سبر تناقضات الدماغ الذي يشعر‪ ،‬وال يستطيع‬
‫معارضة الوجهة التي يّتخذها؛ ثم إنه يكره من يشيُر عليه بوجوب فعل ذلك‪.‬‬
‫ففي وجود سيارة المهرجين‪ ،‬ال يوجد تفكيٌر مستقٌّل وال قدرة على قياس‬
‫التناقضات أو على تغيير اآلراء أو المعتقدات‪ .‬وبمعنى من المعاني‪ ،‬فإن‬
‫الشخص الذي يكون عقله سيارة مهّرجين يصير من غير هوية مستقّلة على‬
‫اإلطالق‪.‬‬
‫هذا هو السبب الذي يجعل القادة ذوي األطوار الغريبة يبدأون دائًم ا‬
‫بتشجيع الناس على إسكات أدمغتهم المفِّكرة إلى أقصى حٍّد ممكٍن ‪ .‬في‬
‫البداية‪ ،‬يبدو هذا األمر للناس جّيًد ا ألن الدماغ المفِّكر غالًبا ما يعاني ويبذل‬
‫الجهد حتى يصحح مسار الدماغ الذي يشعر‪ ،‬ويجعله يرى أين خطا خطوة‬
‫خاطئة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن إسكات الدماغ المفّكر يمنح المرء إحساًس ا طيًبا جًد ا‬
‫لفترة قصيرة من الزمن‪ .‬لكن الحقيقة المحزنة هي أن الناس يخطئون دائًم ا‬
‫في التمييز بين ما يمنحهم إحساًس ا جيًد ا وبين ما هو جّيد‪.‬‬
‫إن سيارة المهّرجين المجازّية تلك هي ما دعا الفالسفة القدامى إلى‬
‫التحذير من فرط االنغماس في المشاعر ومن فرط تقديرها(‪ .)55‬لقد كان‬
‫الخوف من سيارة المهرجين هو ما دعا اإلغريق والرومان إلى تعليم الفضائل؛‬
‫وهو ما جعل الكنيسة المسيحية توصي بالتقّش ف وإنكار الذات(‪ .)56‬لقد رأى‬
‫كل من الكنيسة والفالسفة الكالسيكيون الخراب الذي سّببه أشخاص‬
‫نرجسيون أو مصابون بجنون العظمة بعد أن صاروا في السلطة‪ .‬وكان‬
‫الفالسفة والكنيسة مًع ا مقتنعين بأن ما من سبيل إلى ضبط الدماغ الذي‬
‫يشعر إال بحرمانه وبإعطائه أقل قدٍر ممكٍن من «األوكسجين» بحيث يظّل غير‬
‫قادر على االنفجار وتخريب العالم من حوله‪ .‬هذا التفكير هو ما أّدى إلى ظهور‬
‫االفتراض الكالسيكي‪ :‬السبيل الوحيد إلى أن يكون اإلنسان شخًص ا جيًد ا هو‬
‫أن يهيمن دماغه الذي يفِّكر على دماغه الذي يشعر‪ ،‬أي أنه تفّوق العقل‬
‫على المشاعر‪ ،‬وتفوق الواجب على الرغبة‪.‬‬
‫على امتداد الشطر األعظم من تاريخ البشرية‪ ،‬كان الناس قساة‪ ،‬مؤمنين‬
‫بالخرافات‪ ،‬وجاهلين أيًض ا‪ .‬كانوا في العصور الوسطى يعّذ بون القطط كنوع من‬
‫التسلية‪ ،‬ويأخذون أطفالهم لرؤية اللصوص يعاقبون بالخصي في ساحة‬
‫البلدة(‪ .)57‬كان الناس ساديين‪ ،‬وكانوا يتصّرفون من غير تفكير‪ .‬وعلى امتداد‬
‫القسم األكبر من التاريخ‪ ،‬لم يكن العالم مكاًنا يطيب العيش فيه ألن الدماغ‬
‫الذي يشعر كان مسيطًرا لدى الجميع(‪ .)58‬وغالًبا ما كان االفتراض‬
‫الكالسيكي هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الحيلولة دون وقوع المدنية‬
‫في حالة فوضى شاملة‪.‬‬
‫ثم حدث شيء جديد في القرنين األخيرين‪ .‬صنع الناس قطارات وسيارات‪،‬‬
‫واخترعوا التدفئة المركزية وأشياء كثيرة‪ .‬تجاوز الرخاء االقتصادي الدافع‬
‫البشري إلى التهّور والجنون‪ .‬لم يعد لدى الناس قلق من أن يعجزوا عن‬
‫الحصول على الطعام أو من أن ُيقتلوا ألنهم أهانوا الملك‪ .‬صارت الحياة أكثر‬
‫راحة وأكثر سهولة‪ .‬وصار لدى الناس اآلن قدر كبير من الوقت الحر لكي‬
‫يجلسوا ويفكروا ويقلقوا بشأن أمور وجودية لم يفكروا فيها من قبل‪ .‬نتيجة‬
‫هذا‪ ،‬ظهرت حركات كثيرة في القرن العشرين ُتعلي من شأن الدماغ الذي‬
‫يشعر(‪ .)59‬والواقع أن تحرير الدماغ الذي يشعر من اضطهاد الدماغ المفّكر كان‬
‫سبياًل ناجًح ا جًّد ا لمعالجة ماليين األشخاص (وهو ال يزال هكذا إلى اآلن)‪.‬‬
‫المشكلة هي أن الناس قد ذهبوا في هذا االتجاه إلى أبعد مما ينبغي‬
‫لهم الذهاب‪ .‬فقد انتقلوا من االعتراف بمشاعرهم وتقديرها حّق قدرها إلى‬
‫حالة متطّرفة من االعتقاد بأن مشاعرهم هي الشيء الوحيد الذي له‬
‫أهّمية‪ .‬يصّح هذا خاّصة على المترفين من أبناء الطبقة الوسطى البيضاء‬
‫الذين نشأوا على االفتراض الكالسيكي‪ ،‬ثم صاروا يشعرون بالبؤس‪ ،‬ثم التقوا‬
‫بأدمغتهم التي تشعر في سن متأّخ رة بعض الشيء‪ .‬بما أن أولئك الناس لم‬
‫يواجهوا أية مشكالت حقيقية في حياتهم باستثناء إحساسهم الذاتي‬
‫بالبؤس‪ ،‬فإنهم يتوّصلون إلى قناعة خاطئة مفادها أن المشاعر هي كّل ما له‬
‫أهمية وأن الخطط والخرائط التي يضعها الدماغ المفّكر ليست إال ابتعاًد ا خاطًئ ا‬
‫عن تلك المشاعر‪ .‬يشير كثيرون من أولئك الناس إلى هذا «اإلسكات» لصوت‬
‫الدماغ المفّكر في صالح الدماغ الذي يشعر باسم «التطّور الروحي»‪،‬‬
‫ويقنعون أنفسهم بأن تحّولهم إلى أشخاص بغيضين منشغلين بأنفسهم‬
‫يجعلهم أقرب إلى االستنارة(‪ ،)60‬في حين أنهم ال يفعلون في حقيقة األمر‬
‫شيًئ ا أكثر من إبداء تساهل مفرط إزاء الدماغ الذي يشعر‪ .‬إنها سيارة‬
‫المهّرجين القديمة نفسها‪ ،‬لكن بعد طالئها بلون جديد يمنحها مظهًرا‬
‫«روحانًيا»(‪.)61‬‬
‫يؤّدي فرط التساهل مع المشاعر واالنفعاالت إلى أزمة األمل‪ ،‬لكن هذا ما‬
‫يفعله أيًض ا كبت تلك المشاعر واالنفعاالت(‪.)62‬‬
‫عندما ينكر اإلنسان دماغه الذي يشعر‪ ،‬فإنه يخّد ر نفسه تجاه العالم‬
‫الذي من حوله‪ .‬ومن خالل رفضه مشاعره وانفعاالته‪ ،‬فهو يرفض أن تكون‬
‫لديه أحكام القيمة التي بواسطتها يقّرر أن شيًئ ا من األشياء أفضل من شيء‬
‫آخر‪ .‬نتيجة هذا‪ ،‬يصير ذلك اإلنسان غير مباٍل بالحياة وال بنتائج قراراته‪ ،‬ويصير‬
‫مضطًرا إلى بذل جهود كبيرة حتى يستطيع مخالطة اآلخرين‪ ،‬فتتدهور‬
‫عالقاته‪ .‬وفي آخر المطاف‪ ،‬تأخذه ال مباالته المزمنة في زيارة مزعجة إلى‬
‫الحقيقة غير المريحة‪ .‬فبعد كل حساب‪ ،‬إذا لم يكن هناك شيء أكثر أهّمية‪،‬‬
‫أو أقل أهمية‪ ،‬فما من سبب يدعو إلى فعل أي شيء‪ ،‬وإذا لم يكن هناك‬
‫سبب يدعو إلى فعل أي شيء‪ ،‬فلماذا يعيش المرء أصاًل ؟‬
‫إاّل أن من ينكر دماغه المفّكر يصير شخًص ا أنانًيا طائًش ا ينكر الواقع حتى‬
‫يستطيع أن يعمل وفق نزواته وأهوائه التي تصير عصية على اإلشباع‪ .‬أزمة‬
‫األمل لديه هي أنه مهما أكل أو شرب أو تسلط أو مارس الجنس فإنه ال‬
‫يشعر بأي اكتفاء‪ ...‬ولن يكون لذلك كله داللة أو أهمية كافية عنده‪ .‬وسوف‬
‫تطحنه دائًم ا رحى القنوط فيجري باستمرار من غير أن يتحّرك من مكانه أبًد ا‪.‬‬
‫وإذا توّقف في لحظة ما‪ ،‬فإن الحقيقة غير المريحة تطبق فّكيها عليه من‬
‫فورها‪.‬‬
‫أعرف أنني أطرح األمر على نحو درامي‪ .‬لكن علَّي أن أفعل هذا‪ ،‬أيها‬
‫الدماغ المفّكر‪ ،‬وإال فإن الملل سيصيب الدماغ الذي يشعر فيكّف عن قراءة‬
‫هذا الكتاب‪ .‬هل فّكرت يوًم ا في السبب الذي يجعل المرء يستمر في قراءة‬
‫كتاب من الكتب؟ لست أنت من يستمر في قراءة الكتاب‪ ،‬أيها األحمق‪ ...‬إنه‬
‫دماغك الذي يشعر‪ .‬إنه الترّقب والتشويق‪ ...‬متعة االكتشاف والرضا عند‬
‫الوصول إلى نتيجة‪ .‬الكتابة الجيدة هي الكتابة التي تستطيع مخاطبة كل من‬
‫الدماغين وتحريضه في وقت واحد‪.‬‬
‫هذه هي المشكلة كلها‪ :‬مخاطبة كل من الدماغين وجعل دماغينا‬
‫يجتمعان في كّل موّح ٍد منسٍق متعاوٍن ‪ .‬فإذا كان التحّكم بالنفس وهًم ا من‬
‫أوهام اإلعجاب المتضّخ م بالنفس لدى الدماغ المفّكر‪ ،‬فإن قبولنا ألنفسنا كما‬
‫هي سيكون قادًرا على إنقاذنا‪ :‬قبولنا لمشاعرنا وانفعاالتنا والعمل معها بداًل‬
‫من العمل ضدها‪ .‬لكن‪ ،‬ال بد لنا من بذل بعض الجهد حتى نطّور لدينا قبول‬
‫الذات‪ ،‬أي ال بد لنا من تدريب الدماغ المفّكر‪ .‬سوف نتحّد ث عن هذا األمر في‬
‫وقت الحق‪.‬‬
‫رسالة مفتوحة إلى دماغك المفّكر‬
‫مرحًبا أيها الدماغ المفّكر‪.‬‬
‫كيف حالك؟ وكيف العائلة؟ وكيف هي أحوالك المالية؟‬
‫أوه‪ ،‬انتظر‪ .‬ال تهتّم ‪ .‬أووف‪ ...‬لقد نسيت‪ ...‬إنني ال أهتّم أبًد ا‪.‬‬
‫انظر‪ ،‬أعرف أن الدماغ الذي يشعر يفسد عليك بعض األمور‪ .‬لعّله يفسد‬
‫عالقة عاطفية مهّمة‪ .‬لعله يجعلك تجري مكالمات هاتفية محرجة في‬
‫الساعة الثالثة صباًح ا‪ .‬لعله يحاول معالجة نفسه عن طريق تعاطي مواَد ال‬
‫يجدر به تعاطيها‪ .‬أعرف أن هناك شيًئ ا تريد أن تكون قادًرا على ضبطه‬
‫والتحكم فيه‪ ،‬لكنك ال تستطيع‪ .‬وأظن أن هذه المشكلة تجعلك تفقد األمل‬
‫أحياًنا‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬اصغ إلَّي أيها الدماغ المفّكر؛ فتلك األشياء التي تكرهها كثيًرا في‬
‫الدماغ الذي يشعر‪ ...‬االندفاعات المتهِّورة‪ ،‬والرغبات المفرطة‪ ،‬والطريقة‬
‫المرعبة في اتخاذ القرارات!‪ ...‬عليك أن تجد سبياًل إلى تفهمها كّلها‬
‫والتعاطف معها‪ .‬أقول هذا ألن تلك هي اللغة الوحيدة التي يستطيع الدماغ‬
‫الذي يشعر فهمها‪ :‬لغة التفهم والتعاطف! فالدماغ الذي يشعر مخلوق‬
‫حساس؛ وال تنس أنه مصنوع من مشاعرك‪ .‬ليت هذا لم يكن صحيًح ا‪ ،‬وليتك‬
‫كنت قادًرا على جعل الدماغ الذي يشعر ينظر إلى ورقة تحتوي الحقائق كلها‬
‫فيفهم!‪ ...‬يفهم مثلما نفهم نحن‪ .‬لكنك غير قادر على هذا‪.‬‬
‫بداًل من إمطار الدماغ الذي يشعر بالحقائق وبالمنطق‪ ،‬ابدأ بأن تسأله عن‬
‫شعوره‪ .‬قل له شيًئ ا من قبيل «مرحًبا‪ ،‬أيها الدماغ الذي يشعر! ما هو‬
‫شعورك تجاه الذهاب إلى الصالة الرياضية اليوم؟»‪ .‬أو «كيف تشعر تجاه‬
‫االنتقال إلى عمل جديد؟»‪ .‬أو «كيف تشعر تجاه بيع كل شيء واالنتقال‬
‫للعيش في تاهيتي؟»‪.‬‬
‫لن يستجيب الدماغ الذي يشعر بكلمات يقولها‪ .‬ال‪ ،‬فالكلمات وسيلة‬
‫بطيئة بالنسبة إلى ذلك الدماغ الذي يشعر‪ .‬بداًل من ذلك‪ ،‬يستجيب من‬
‫خالل المشاعر‪ .‬صحيح‪ ...‬أعرف أن هذا أمر واضح جًد ا؛ لكنك تكون في غاية‬
‫الغباء أحياًنا‪ ،‬أيها الدماغ المفّكر!‬
‫قد يستجيب الدماغ الذي يشعر من خالل إحساٍس بالكسل‪ ،‬أو من خالل‬
‫إحساٍس بالقلق‪ .‬بل يمكن أيًض ا أن تظهر مشاعر متعّد دة‪ ...‬قليل من اإلثارة‬
‫مع لمسة من الغضب ضمن هذا المزيج‪ .‬مهما تكن استجابته‪ ،‬فإن عليك ‪-‬‬
‫أيها الدماغ المفّكر (أيها الدماغ العاقل المسؤول في هذه الجمجمة) ‪ -‬أن‬
‫تتحاشى إطالق أي حكم على المشاعر التي تظهر‪ .‬هل تشعر بالكسل؟ ال‬
‫بأس بهذا؛ إننا نشعر بالكسل أحياًنا‪ .‬هل تشعر بأنك تكره نفسك؟ لعل هذه‬
‫دعوة إلى مزيد من الكالم بيننا‪ .‬تستطيع الصالة الرياضية أن تنتظر!‬
‫من المهم أن نترك الدماغ الذي يشعر ينّفس عن مشاعره السيئة‬
‫المزعجة‪ .‬وما عليك إال أن تأخذ تلك المشاعر إلى حيث تصير قادرة على‬
‫التنفس‪ ،‬فكلما تنفَس ْت أكثر‪ ،‬كلما تراخت قبضتها على عجلة القيادة في‬
‫سيارة الوعي(‪.)63‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وعندما تشعر بأنك قد بلغت نقطة التفاهم مع دماغك الذي‬
‫يشعر‪ ،‬يكون وقت مخاطبته بطريقة يفهمها قد حان‪ :‬مخاطبته من خالل‬
‫المشاعر‪ .‬لعل من الممكن أن تفكر في المنافع التي تنتج عن سلوك جديد‬
‫مرغوب فيه‪ .‬وقد تحكي له عن األشياء البّراقة‪ ،‬الجّذ ابة‪ ،‬الممتعة التي تنتظره‬
‫في آخر الطريق‪ .‬ومن الممكن أيًض ا أن تذّكر الدماغ الذي يشعر باإلحساس‬
‫الطّيب الذي يكون لدى المرء بعد ممارسة التمرينات الرياضية‪ ،‬أو باإلحساس‬
‫الجميل الذي سيكون لديك عندما تظهر رشيًق ا في ثوب السباحة هذا‬
‫الصيف‪ ،‬أو بمقدار ما تحّس ه من احترام لنفسك عندما تحّقق األهداف التي‬
‫وضعتها نصب عينيك‪ ،‬أو بالسعادة التي تنالها عندما تعيش بما ينسجم مع‬
‫ِقَيمك وعندما يتخذك األشخاص الذين تحبهم مثااًل لهم‪.‬‬
‫من حيث األساس‪ ،‬يتعّين عليك إجراء مساومة مع دماغك الذي يشعر‬
‫مثلما تساوم بائع سجاد مغربي‪ :‬يجب أن يقتنع دماغك الذي يشعر بأنه‬
‫يحصل على صفقة جيدة‪ ،‬وإال فلن تكون النتيجة غير صياح حانق وتلويح‬
‫باأليدي من غير التوصل إلى أّي نتيجة‪ .‬قد تقبل بأن تفعل شيًئ ا يحّبه دماغك‬
‫الذي يشعر لقاء قبوله بأن يفعل شيًئ ا ال يحب فعله‪ .‬تابع برنامجك المفضل‬
‫على التلفزيون شرط أن تتابعه في الصالة الرياضية وأنت تتمّرن على جهاز‬
‫الجري‪ .‬اخرج للسهر مع أصدقائك‪ ،‬لكن بعد أن تكون قد سَّد دت فواتيرك لهذا‬
‫الشهر(‪.)64‬‬
‫اجعل البداية سهلة‪ .‬وتذّكر أن الدماغ الذي يشعر شديد الحساسية‪ ،‬وأنه‬
‫دماغ غير منطقي على اإلطالق‪.‬‬
‫عندما تقترح فعل شيء سهل يحقق مكتسبات لها عالقة بالمشاعر‬
‫(الشعور الطيب الذي يكون لدى المرء بعد ممارسة التمرينات الرياضية‪ ،‬أو‬
‫العمل في وظيفة تمنح إحساًس ا باألهمية‪ ،‬أو أن يكون المرء موضع إعجاب‬
‫أطفاله واحترامهم)‪ ،‬فإن الدماغ الذي يشعر سيستجيب بمشاعر أخرى قد‬
‫تكون إيجابية أو سلبية‪ .‬إذا كانت المشاعر إيجابية‪ ،‬فمعنى هذا إن الدماغ‬
‫الذي يشعر مستعد للمضي مسافة إضافية صغيرة في ذلك االتجاه‪ ...‬لكنها‬
‫مسافة صغيرة فقط! تذّكر‪ :‬المشاعر ال تدوم أبًد ا! هذا ما يجعل البدايات‬
‫الصغيرة أمًرا مستحسًن ا‪ .‬يا دماغي الذي يشعر‪ ،‬ما عليك اليوم إال أن تضع‬
‫حذاء الرياضة‪ .‬هذا كل شيء‪ .‬فلنَر ما يحدث بعد ذلك(‪.)65‬‬
‫إذا كانت استجابة الدماغ الذي يشعر سلبية‪ ،‬فما عليك إال أن تعترف بتلك‬
‫المشاعر السلبية‪ ،‬ثم تعرض تسوية أخرى وتنظر كيف تكون استجابة دماغك‬
‫الذي يشعر‪ .‬وإذا لم تحصل على االستجابة المطلوبة‪ ،‬فإن عليك أن تكّرر‬
‫المحاولة وتبدأ من جديد‪.‬‬
Another random document with
no related content on Scribd:
solistes ou sur la valeur de l’opéra en cours de représentation.
J’argumentais avec feu, selon ma nature. Lui gardait toujours un ton
calme, selon la sienne. Et nous allions, discutant, jusqu’au débouché
dans la plaine calcaire où nous faisions la manœuvre. Alors M. de
Condat lançait un commandement pour faire passer le peloton de la
formation en colonne par quatre à la formation en bataille. Il
redevenait le chef avisé qui, tenant ses hommes bien en main, leur
enseignait les évolutions les plus compliquées. Les connaisseurs
apprécieront sa maîtrise par ce détail qu’il nous faisait exécuter des
conversions à pivot mouvant au galop sans que l’alignement fût
rompu. Mais aussi quelle ardeur à le contenter nous y mettions !
Ce sont là de petits faits. Je les crois significatifs, comme tout ce
que je viens d’écrire sur nos officiers dans leurs rapports avec la
troupe. J’ai pris d’autant plus de plaisir à les assembler qu’ils se
réfèrent à une époque où l’armée n’était pas encore stupidement et
odieusement calomniée. Alors, tout le monde était patriote même,
sauf quelques disciples du Juif bochisant Karl Marx, les socialistes.
Depuis, nous avons assisté à l’éclosion d’un clan d’écrivains
antimilitaristes qui décriaient l’armée parce que, durant leur
volontariat, ils n’avaient pas été traités — estimaient-ils — avec la
considération que réclamaient leurs hautes capacités intellectuelles.
Si je ne me trompe, ce fut ce tarabiscoteur plombagineux d’Abel
Hermant qui donna le signal avec son Cavalier Miserey. Il reçut, du
reste, une verte leçon de M. Anatole France. Je citerai un fragment
de cette critique, ne fût-ce que pour montrer à quelle distance du
bolchevisme l’auteur de Sylvestre Bonnard se tenait alors. Après
avoir blâmé le fiel recuit dont s’imprègnent maintes pages du roman,
M. Anatole France conclut :
« Ce serait me flatter, sans doute, que de croire que l’honorable
colonel du 12e chasseurs s’inspirait de ces idées quand il rédigea
l’ordre du jour par lequel il interdisait à ses hommes la lecture du
Cavalier Miserey. En ordonnant que tout exemplaire saisi au quartier
fût brûlé sur le fumier, le chef du régiment avait d’autres raisons que
les miennes, et je me hâte de dire que ses raisons étaient infiniment
meilleures. Je les tiens pour excellentes : c’étaient des raisons
militaires. On veut l’indépendance de l’art. Je la veux aussi ; j’en suis
jaloux. Il faut que l’écrivain puisse tout dire ; mais il ne saurait lui être
permis de tout dire de toute manière, en toute circonstance et à
toutes sortes de personnes. Il ne se meut pas dans l’absolu. Il est en
relations avec les hommes. Cela implique des devoirs. Il est
indépendant pour éclairer et embellir la vie ; il ne l’est pas pour la
troubler et la compromettre. Il est tenu de toucher avec respect aux
choses sacrées. Et s’il y a, dans la société humaine, du
consentement de tous, une chose sacrée, c’est l’armée. » (La Vie
littéraire, tome I, page 79).
Toutefois, la lourde diatribe de M. Hermant doit être considérée
comme assez anodine si on la compare à ce que nous avons lu hier
sous la signature de pacifistes enragés. Par leur fait, beaucoup se
sont accoutumés à entendre traiter les officiers de soudards
ignorants, de braillards qui ne rêvent que massacres et pillages, de
brutes inhumaines tenant leurs subordonnés pour un bétail bon à
mener à la boucherie à coups de plat de sabre.
Aujourd’hui — à peine sortis de cette guerre où l’armée donna
tant d’exemples d’héroïsme et d’abnégation — des communistes,
opérant dans des feuilles où l’on vénère Lénine et Trotsky,
resservent ces infâmes sottises. Il n’est donc pas inutile qu’un vieux
soldat dise, après d’autres, l’influence salutaire que l’armée exerça
sur lui [7] …
[7] Certains rappelleront peut-être que moi-même,
vers 1894-95, j’ai bafoué l’armée. C’est exact. Je dirai
plus loin comment et pourquoi. Et je ne dissimulerai rien.

Maintenant, pour terminer cette esquisse de mon existence au


régiment, je donnerai trois croquis. Ils achèveront, je l’espère, d’en
susciter nettement l’impression chez le lecteur.

De 1883 à 1885, Jules Ferry, président du Conseil, persécute


l’Église, soutenu par la Chambre où la majorité républicaine partage
sa phobie antireligieuse. C’est le temps des décrets chassant les
congrégations non autorisées. C’est le temps où la maçonnerie fait
rage contre les « ensoutanés » dans les provinces. C’est le temps
où, au témoignage de Taine, caractère droit, incapable d’un
mensonge, un très haut fonctionnaire s’écrie : « Le socialisme, c’est
la gale ; mais le cléricalisme, c’est la peste. J’aime mieux la gale ! »
Cléricalisme lisez catholicisme. Car la prétendue Libre-Pensée,
au XIXe siècle, n’a cessé de jouer la comédie du respect pour la
religion et de soutenir, avec effronterie, qu’elle n’en poursuit que les
abus. Mais ce subterfuge hypocrite ne donne de change qu’à ceux
qui ont intérêt à simuler l’aveuglement. Et malheureusement, il dupe
aussi les libéraux, alliés inconscients de la Révolution au pouvoir.
Or, la plupart de nos officiers possèdent la foi. Catholiques
fervents, ils vont à la messe, s’approchent des Sacrements, sans
ostentation mais sans respect humain. Au quartier, ils s’abstiennent
de prosélytisme. Seulement, ils ne tolèrent pas qu’on blasphème
devant eux. Ils ne punissent pas les coupables puisque les
règlements gardent le silence sur ce délit. Toutefois, ils les
reprennent de telle sorte qu’aucun d’eux n’ose tenter une récidive.
Cette fidélité à Dieu et à son Église chagrine et courrouce les
Vénérables des Loges acharnés à détruire la croyance séculaire des
Français. Ils mouchardent avec persévérance, mais ils n’obtiennent
pas encore les répressions iniques dont ils rêvent. Patience, le règne
des fiches approche…
En l’une des années du ministère Ferry, des expulsions de
Religieux et de Religieuses ont lieu à Angers. Le préfet, un sectaire
qui porte le nom élégant de Jabouille, acquiert, par son zèle en la
circonstance, l’estime de la Maçonnerie et le mépris des honnêtes
gens qui n’attendaient qu’une occasion de le lui manifester.
Voici le 14 juillet, fête de Marianne-des-Athées. Comme de
coutume, il y a au programme une revue de la garnison : 12e
cuirassiers, 2e d’artillerie-pontonniers, un régiment de ligne, dont je
ne me rappelle pas le numéro, une compagnie de remonte, des
tringlots.
Le général commandant la subdivision étant indisposé, notre
colonel, M. de Bouligny, le plus ancien en grade, le remplace.
Sur l’esplanade, entre le Mail et le faubourg Saint-Michel, on a
élevé une tribune où, vis-à-vis des troupes alignées, Jabouille se
pavane, entouré de Compagnons de la Truelle, d’agents électoraux
et d’un choix de mastroquets, soutiens indispensables de la
démocratie. Leurs épouses et leur progéniture les accompagnent.
Mais, pour marquer son blâme des mesures prises contre les
congrégations, la société catholique d’Angers, importante par le
nombre et l’influence, n’est pas venue.
Je ne sais si M. de Bouligny a prémédité de s’unir à cette
protestation et s’il s’est concerté à cet effet avec les autres chefs de
corps. Toujours est-il que, sur son ordre, le défilé de l’infanterie
s’exécute sans musique et au seul roulement des tambours. Notre
tour approche quand Jabouille — qui devine de quoi il retourne —
délègue à notre colonel un quelconque attaché pour le prier de nous
faire passer devant lui au trot et en musique, comme les années
précédentes.
Mais M. de Bouligny, colosse d’un mètre quatre-vingt-quinze en
hauteur, large à proportion et campé sur un cheval lui-même
gigantesque, aplatit d’un regard écrasant le chétif envoyé du préfet.
Et, d’une voix de tonnerre, il répond : — Mes chevaux sont fatigués ;
le régiment défilera au pas…
Puis il appelle le trompette-major et lui commande de faire
souffler à sa fanfare le morceau le plus lugubre de son répertoire.
C’est donc, à une allure d’enterrement et au son d’une marche
funèbre que nous défilons. Plus encore, au lieu de tourner la face
vers l’autorité civile, ainsi que le prescrit le règlement, chacun de nos
officiers baisse le nez jusque sur le garrot de son cheval, tandis que
la crinière de son casque, ramenée en avant, s’éparpille sur sa
cuirasse comme une chevelure éplorée.
Sur l’estrade, Jabouille se démène ; il échange avec ses acolytes
des propos irrités. M. de Bouligny n’a pas même l’air de s’en
apercevoir. La revue terminée, négligeant de saluer le préfet, il prend
la tête du régiment et le conduit au quartier sans paraître se douter
qu’il vient de léser gravement la majesté du régime.
Pour nous soldats, tenus à l’écart de la politique, ce que nous
distinguons de plus attrayant dans cette manifestation, c’est qu’elle
nous épargna de la poussière et que, grâce à la brièveté de la
cérémonie, nous pourrons prendre du loisir une heure plus tôt. Ce
pourquoi nous bénissons M. de Bouligny.
Quant aux chevaux — reposés comme par miracle — le
lendemain matin, ils manœuvrent jusqu’à midi, aux allures les plus
rapides, devant le général-inspecteur, survenu à l’improviste, suivant
son habitude.
Les feuilles locales ne font à l’incident que des allusions
détournées — sourdement approbatives dans le journal
conservateur, fielleuses, comme il sied, dans le papier que
subventionne la Maçonnerie.
Jabouille s’est-il plaint au ministère ? Il se pourrait, car, de
plusieurs jours, nous n’avons pas vu le colonel. Ce qui donne à
supposer qu’on lui a infusé des arrêts. Mais nos officiers gardant un
mutisme total sur ce point — du moins en notre présence — nous ne
pouvons former que des conjectures.

Peut-être que, lorsqu’ils voient un régiment de cavalerie évoluer


à toutes les allures en gardant un alignement irréprochable et
modifier ses formations avec une régularité parfaite, certains
« civils » sont enclins à se figurer que ces mouvements s’opèrent
d’une façon toute naturelle ou comme par inspiration.
Or, il n’en va pas ainsi. Pour obtenir cette aisance et cette
précision, il a été nécessaire d’éduquer lentement les chevaux aussi
bien que les recrues.
Pour ceux-là comme pour ceux-ci, besoin fut de procéder à un
travail minutieux.
Les jeunes chevaux, arrivant du dépôt de remonte, ne savent
obéir ni aux quatre rênes de la bride, ni aux pressions variées des
jambes de celui qui les enfourche. Il y en a de rétifs ; il y en a de
chatouilleux qui ne supportent la selle qu’après de vives défenses. Il
y en a de patauds à qui l’on doit faire répéter cent fois le même
exercice avant qu’ils parviennent à le comprendre. Tous ont une
tendance à se dérober, si on les amène devant un obstacle. Chacun
d’entre eux marche au pas, trotte ou galope selon son caprice ou
ses aptitudes.
Il faut donc leur apprendre une foule de choses. Par exemple, à
rester immobile quand le cavalier se hausse sur l’étrier, à ne pas
s’affoler quand on met le sabre à la main, ni quand la lame
miroitante passe tout près de leurs yeux ou siffle à leurs oreilles ; à
entendre sans broncher les sonneries de trompettes ou les coups de
feu ; surtout à discipliner leur fougue de façon à acquérir tous le
même pas, tous le même trot, tous le même galop.
Faire des jeunes chevaux, maladroits de leurs membres, raides
d’encolure, aussi peu dégourdis que des campagnards à la ville, de
bonnes montures de campagne, c’est un labeur qui demande de la
patience et de l’ingéniosité. C’est le dressage.
Au 12e cuirassiers, les chevaux de dressage des cinq escadrons
étaient réunis en une reprise — terme technique — commandée par
un officier, deux brigadiers, un sous-officier et comprenant de quinze
à vingt hommes choisis parmi les cavaliers les plus alertes et les
plus intelligents.
Je fus désigné pour diriger l’équipe sous le lieutenant de
Gastines, qui était considéré, non sans raison, comme le plus habile
écuyer du régiment. J’ai passé dans cet emploi mes deux dernières
années de service.
Tantôt en groupe, au manège ou sur le terrain, tantôt isolément
sur les routes, nous étions en selle six à sept heures par jour.
Chacun des gradés avait deux chevaux à dresser. Comme c’était
une besogne absorbante, nous étions dispensés de nous occuper
de notre peloton et nous ne prenions ni garde ni semaine. En outre,
on nous octroyait quelques privilèges : celui de monter notre cheval
d’armes le dimanche et les jours de fête pour aller en promenade où
bon nous semblait, celui de n’assister qu’aux manœuvres de
régiment. Enfin nous jouissions de la permission permanente de
minuit.
Ces avantages étaient équitables. En effet, nous avions la
responsabilité de la reprise et, de plus, montant les chevaux les plus
difficiles, nous risquions parfois notre peau. Même avec les bêtes
d’un caractère docile, tout danger n’était pas aboli. Par exemple, au
saut d’obstacles, il y avait encore assez souvent des membres
rompus et des têtes meurtries. Moi-même, j’y fis de fortes culbutes,
mais sans autre dommage que quelques contusions.
Une fois, pourtant, j’ai vu la mort de près.
Je dressais la jument Idole, bête magnifique et sauteuse hors
ligne.
Il y avait sur le terrain une série d’obstacles : douves, haies,
barrières et enfin le plus scabreux de tous, celui qu’on appelle la
banquette irlandaise. Voici en quoi il consiste : un fossé profond et
plein d’eau puis, tout contre, un remblai que domine une plateforme
juste de la longueur d’un cheval, puis un talus à pic qui dévale sur un
autre fossé plein d’eau également.
Il faut que d’un élan unique le cheval franchisse le premier fossé,
retombe droit sur la plate-forme, puis franchisse le second fossé.
On se rend compte du péril : un faux-mouvement du cavalier, une
hésitation du cheval — c’est la chute.
Cette après-midi-là, le temps n’était nullement favorable aux
exercices de sauts d’obstacles. Il avait plu toute la nuit précédente et
encore le matin. La terre en restait détrempée. Venu seul avec ma
jument, je me contentai de lui faire exécuter des figures de haute-
école aux endroits où il y avait le moins de boue.
Survient M. de Gastines, accompagné d’un officier étranger — un
Russe, si j’ai bonne mémoire — depuis quelques semaines en
subsistance au régiment. M. de Gastines me fait signe d’approcher
et détaille avec complaisance à son interlocuteur les belles qualités
d’Idole.
— Je regrette, conclut-il, que le terrain soit trop glissant ; nous
aurions fait sauter les obstacles à cette bête… Elle n’y a pas de
rivale.
Sur ce propos, je me permets d’intervenir
— Oh mon lieutenant, dis-je, si vous y tenez, je puis essayer. Je
crois que maintenant le sol s’est assez raffermi pour qu’on tente le
coup. D’ailleurs, je suis sûr d’Idole.
On devine que j’éprouvais un grand désir d’épater le Slave et je
soupçonne que mon lieutenant nourrissait la même arrière-pensée
que moi, car, après avoir un peu hésité, il reprit : — Eh bien, allez-
y !… Seulement, vous laisserez de côté la banquette irlandaise ; elle
est trop dangereuse aujourd’hui.
Je ne réponds rien, fort décidé, in petto, à franchir la banquette
comme le reste. Après je dirai, pour m’excuser, qu’Idole s’était
emballée. Je prends du champ ; je pars au grand galop.
Ma bonne bête vole par-dessus barrières, haies et douves, murs
en pierres sèches, etc. Puis, quand j’arrive, à toute vitesse, sur la
banquette, au lieu de la doubler, je lance la jument droit dessus au
train de charge. Elle s’enlève d’une façon superbe. Mais au moment
où elle pose les quatre pieds sur la plateforme, celle-ci, imbibée de
pluie et peut-être mal entretenue, s’écroule. Nous glissons, nous
perdons l’équilibre, et, roulant pêle-mêle sur le talus, nous tombons
dans le second fossé dont l’eau fangeuse jaillit de toutes parts. Tout
cela, qui est si long à raconter, n’a pas duré trois secondes.
En tombant, j’ai lâché, d’instinct, les étriers et la bride. C’est ce
qui me sauve. La jument, indemne, s’est déjà relevée ; elle file à
travers la plaine en hennissant, en pétaradant et en décochant des
ruades prodigieuses.
Moi, pendant ce temps, étourdi, moulu, trempé jusqu’aux os, je
me suis assis sur le revers du fossé.
Les deux officiers accourent, me croyant broyé.
Voyant qu’il n’en est rien, M. de Gastines s’écrie : — Dieu soit
béni ! Il n’est pas mort !… Mais qu’est-ce qu’il fait donc ?…
Ce que je fais ? Portant un binocle à cause de ma myopie, je
m’occupe à vérifier si les verres n’en sont point cassés.
— Ça, par exemple, continue le lieutenant, c’est un peu fort !
Bougre d’animal, regardez plutôt si vous n’avez pas une patte en
capilotade.
Cette bourrade — tout affectueuse — me fait reprendre mes
esprits. Je me dresse, je sors du fossé, je me secoue, j’esquisse
quelques gestes.
— Je n’ai rien, mon lieutenant, dis-je.
En effet, quoique assez fortement froissé et courbaturé par la
chute, je n’ai ni fracture, ni plaies. Et je me trouve même assez
dispos pour appeler Idole qui, bien dressée, vient à moi aussitôt, et
pour me remettre en selle.
M. de Gastines, tout en me félicitant de ma chance, me
gourmanda pour lui avoir désobéi. Il eût été inutile de lui servir
l’excuse que j’avais préparée, car il m’avait très bien vu pousser la
jument sur la néfaste banquette. D’ailleurs il n’insista pas, content,
au fond, d’avoir montré au Russe que son sous-ordre avait du
ressort.
Je dus garder le lit pendant vingt-quatre heures. Et ce fut tout ce
qui résulta de ma culbute…
Plus tard, causant avec des psychologues professionnels, je leur
ai souvent cité ce premier mouvement tout instinctif qui me fit
d’abord m’inquiéter de l’état de mon binocle, comme un exemple de
réflexe caractéristique.

Infuser sa volonté au cheval qu’on dresse, le rendre si maniable


qu’on ne fait qu’un avec lui, c’est réaliser la fable du Centaure, c’est
passionnant. Je m’adonnais à cette tâche d’une façon tellement
assidue qu’on pourrait croire qu’elle suffisait à m’absorber. Certes, je
m’y intéressais beaucoup mais les soins qu’elle exigeait ne me
rendaient pas indifférent aux occupations d’ordre intellectuel. C’est
encore une des inepties calomnieuses chères aux pacifistes, que de
prétendre que le métier militaire abrutit son homme. Ceux qu’il
hébète, on peut être sûr qu’ils se seraient hébétés dans n’importe
quelle autre profession.
Sauf la première année, où, comme il est compréhensible, le
souci de m’adapter rapidement à des conditions d’existence
nouvelles et les fatigues qui en résultaient ne me laissèrent pas le
loisir de penser à la littérature, j’eus bientôt assez de temps pour lire
et même écrire.
Au quartier, ce n’était guère possible. Mais, dès que mes
fonctions à la reprise de dressage m’eurent dispensé du service
ordinaire, je louai une chambre en ville pour m’y cultiver sans être
dérangé par le va-et-vient des camarades et les bruits du quartier.
Avoir un pied-à-terre dehors, ce nous était défendu. Mais je sus
choisir un logis assez éloigné et assez discret pour ne pas craindre
de surprise.
Soit dit en passant, j’avais encore un autre motif d’enfreindre de
la sorte le règlement. Une paire de beaux yeux noirs, dont il m’était
permis d’admirer de près le sombre éclat, venaient de me conquérir.
J’aimais mieux les voir scintiller dans une chambre bien à moi, parmi
des meubles à peu près convenables, que de leur fixer des rendez-
vous en l’un de ces hôtels sordides et malfamés où mes collègues
menaient à dénouement leurs aventures galantes. D’autant que,
pour moi, il s’agissait d’un mariage qui se conclut un peu plus tard.
J’organisai mon temps libre de la façon suivante. Tous les jours,
après avoir surveillé le pansage de nos jeunes chevaux et transmis
à mes hommes les ordres pour le lendemain, vers quatre heures, je
quittais le quartier pour n’y rentrer qu’à minuit sonnant.
Le jeudi et le dimanche, j’allais au théâtre ou au concert, comme
je l’ai dit plus haut. Parfois — assez rarement, car il fallait prendre
des précautions à cause d’une patronne grondeuse —
j’accompagnais les yeux noirs à la musique sur le Mail. Mais, le plus
souvent, je restais à la maison pour y noircir beaucoup de papier et
pour y dévorer les volumes que me prêtait une bibliothèque
municipale ou ceux que me fournissait un cabinet de lecture assez
bien au courant des nouveautés.
C’est alors que Balzac me fut révélé. Je le lus tout entier, d’un
seul trait et, quand j’eus fini, je le relus encore et encore. Balzac, ce
géant dont l’œuvre domine le XIXe siècle, me fit comprendre la
société contemporaine en ses origines, sa structure, ses vices et ses
avortements. Comme il insuffla une vie intense à tous les
personnages de la Comédie humaine, ceux-ci m’apparaissaient
aussi réels que si je les avais coudoyés dans la rue ou fréquentés à
domicile. Littéralement, Rastignac, Rubempré, Pons, Nucingen,
Philippe Bridau, Hulot, Esther, Eugénie Grandet, Madame de
Mortsauf, Jenny Cadine et tous les autres, respiraient, agissaient
autour de moi. L’empire du génie balzacien sur mon imagination fut
extraordinaire.
J’étais trop jeune, j’ignorais trop complètement la religion, la
politique, la sociologie pour saisir toute la portée de ces romans — si
l’on peut appeler « romans » de pareilles anatomies du Vrai. C’est
seulement des années plus tard que j’ai perçu la sagesse incluse
dans des livres comme le Médecin de campagne et le Curé du
village et que j’ai admis les principes qui coordonnent toutes les
parties du monument élevé par Balzac à l’Église et à la Monarchie.
Mais, dès cette époque, tout ce qu’il grava de son burin
irrésistible aux profondeurs de mon être contribua, sans doute, à
former quelques-uns des éléments de ma réaction future contre la
folie révolutionnaire.
Immédiatement, je reçus de lui des enseignements précieux pour
ma formation littéraire.
Sous son influence j’écrivis un conte, bien entendu plein de
gaucherie et de réminiscences ingénues, dont je n’ai gardé qu’un
souvenir très vague, l’ayant détruit presqu’aussitôt, tant il me parut
au-dessous de mon modèle. Tout ce que je me rappelle, c’est que j’y
racontais, à travers force descriptions prolixes, les avatars d’un
disciple de Pythagore voué à la métempsycose. Voilà le thème ;
quant aux développements, je les ai oubliés.
Peu à peu, le démon de la littérature me posséda de nouveau et
d’une façon si entière que je fus obligé d’abandonner les projets que
j’avais conçus pour mon avenir. Naguère, encouragé par mes
supérieurs, je méditais d’entrer à l’École de Saumur, puis, une fois
officier, de poursuivre ma carrière dans l’armée d’Afrique.
L’idée n’était pas déraisonnable. Mais, de par Balzac, de par
quelques autres livres aussi — les poèmes et les proses de
Baudelaire, les romans de Barbey d’Aurevilly — elle fut emportée,
balayée comme au souffle d’une rafale brûlante. La fièvre littéraire
se ralluma dans mes veines. Mille sujets de livres me
tourbillonnaient dans la cervelle. Selon cette infatuation juvénile qui
gonfle les débutants, je me voyais entassant volume sur volume, à
l’exemple du Maître, acclamé par une multitude de lecteurs,
couronné d’un laurier d’or par la Gloire !…
Ah ! comme la vie et les dures expériences qu’elle implique se
chargent d’émonder ces rêves exubérants. « La gloire est le soleil
des morts », a dit magnifiquement Balzac lui-même. Mais je n’étais
pas encore apte à retenir cette maxime si profonde en sa concision.
Le sens philosophique du livre amer d’où je l’extrais et qui s’intitule
la Recherche de l’Absolu m’échappait. Et mon esprit devait bien des
fois se fracasser les ailes avant d’en réaliser la vérité…
Toutefois, durant mes six derniers mois au régiment, je ne
négligeai pas trop mon service. Mais le feu sacré n’y était plus. Il
flambait ailleurs — à Paris, où je me voyais déjà installé, en train de
polir les livres dont je ne cessais plus de rêver.
Cette hantise, je l’emportais dans mes promenades solitaires, à
la Roche-d’Érigné, sur le chemin du Lion d’Angers, aux ardoisières
de Trélazé, comme sur cette rive de la Maine où de sveltes peupliers
frémissants reflètent leur feuillage délicat dans les moires et les
remous de l’eau qui fuit sans trêve.
Plus de galops bien rassemblés, plus de trots rythmiques. J’allais
au pas, les rênes flottantes, laissant mon cheval faire ce qu’il voulait.
Je vivais dans le monde féerique des images et des formes, et je les
entendais bourdonner en moi comme une grappe d’abeilles
impatientes d’essaimer.
Ainsi absorbé, j’atteignis le jour de ma libération. Ce fut le 1er
septembre 1886…
En quittant le quartier, je n’éprouvai pas du tout cette sensation
de délivrance qui m’avait rendu si joyeux lors de mon départ du
collège. Au contraire, prenant congé de mes chefs qui me
témoignèrent leurs regrets que je n’eusse pas rengagé, je me
sentais le cœur passablement serré. C’est que l’armée m’avait
inculqué le goût d’une vie régulière, pleine d’occupations bien
déterminées. Là, sous une discipline bienfaisante, j’avais appris à
réfréner ma nature impétueuse. Enfin j’avais trouvé une sorte de
famille remplaçant celle qui m’avait fait défaut. Bref, je tiens à le
souligner, au régiment, j’avais été heureux parce que j’avais appris à
obéir.
Maintenant qu’il me fallait affronter, seul, sans foyer, sans
fortune, sans relations ni indices d’une réussite, les hasards de la
carrière des lettres, je me reprochais presque d’avoir pris ce parti.
Mais la vocation me sollicitait d’une façon trop impérieuse pour que
je revinsse sur ma décision. Si je l’avais fait, je crois qu’au bout de
très peu de temps j’en aurais été au désespoir.
Les écrivains, qu’un appel irrésistible força de suivre la Muse,
malgré tous les obstacles, me comprendront.
Du moins, j’emportais avec moi la notion que, comme l’a si bien
démontré Alfred de Vigny, la servitude militaire a sa grandeur.
Gardienne de la civilisation française, l’armée suscita en moi le
sentiment de la solidarité nationale et y enracina l’idée de patrie. Par
la suite, sous l’action de circonstances déplorables, l’illusion
humanitaire m’égara pendant quelques années. Mais, par la grâce
de Dieu, je retournai assez vite au bon sens. C’est pourquoi, en ces
jours de réflexion mûrie par l’épreuve, où je récapitule les
vicissitudes de ma jeunesse, je me félicite, j’aime à le redire, d’avoir
été — un bon soldat.
CHAPITRE VI
LE SYMBOLISME

Dès les premiers jours de janvier 1887, je me suis fixé à Paris.


J’habite une mansarde au septième étage d’une maison du
boulevard Saint-Marcel et j’y grimpe par l’escalier de service.
Mon mobilier est plutôt rudimentaire : en guise de lit, un sommier
posé à même le carreau et sur lequel ne pèsent pas bien lourd une
galette de varech, deux couvertures de coton, un traversin
rembourré de paille. D’édredon, aucun. S’il gèle, je le remplace par
mes vêtements étalés sur mes pieds. Un tout petit poële dont le long
tuyau zigzaguant contribue à me donner quelque chaleur. Deux
chaises et une table de bois blanc, peintes en noyer. Une malle qui
me sert d’armoire à linge et dont le couvercle supporte mes
ustensiles de toilette. Des rayons de sapin où s’alignent trois
douzaines de livres. Sans cadre et fixés à la muraille par des clous,
un portrait de Baudelaire et une mauvaise gravure d’après la Ronde
de nuit de Rembrandt.
C’est qu’il n’y a pas lieu de faire du luxe. Mon revenu fixe se
monte à soixante-six francs par mois que me verse fort exactement
une tante cossue mais qui entend trop ne pas favoriser ce qu’elle
nomme « ma folie de littérature » pour y ajouter le moindre subside.
Elle espère que je ne tarderai pas à me décourager et que
j’accepterai l’emploi qu’elle me réserve chez un notaire de ses amis.
Or je n’ai jamais rien voulu savoir. Je me suis donné ma parole
d’être un homme de lettres et pas autre chose. Je n’en démordrai
pas.
A cette époque, le coût de la vie n’est pas excessif. Pourvu que
l’on possède bon estomac, il est facile de se nourrir à peu de frais.
Ayant réduit mon entretien au strict nécessaire, portant avec sérénité
des frusques achetées chez le revendeur et des chaussures souvent
percées je m’offre donc des festins de charcuterie et de pain rassis
arrosé d’eau fraîche. Des fruits, selon la saison, de loin en loin un
œuf, complètent mes menus. Il y a aussi le café que je prends très
fort, car je passe la plupart des nuits à travailler. Quoique j’aie
supprimé le sucre, c’est ma dépense la plus onéreuse avec le
pétrole dont je m’éclaire.
J’accepte cette gêne avec la plus parfaite insouciance. Je vis
d’une existence si exclusivement cérébrale que je ne donne aucune
attention à ce que je tiens pour de vaines contingences.
Mais j’ai beau pratiquer l’ascétisme pour l’amour du Beau,
soixante-six francs mensuels, ce n’est tout de même pas suffisant.
Afin de grossir mon budget, je me mets en quête de besognes
alimentaires. J’en trouve parfois de bien cocasses. Par exemple, un
commis d’architecte, mon voisin de palier, m’abouche avec le
propriétaire de plusieurs maisons situées dans le quartier des
Gobelins. Cet homme cultive une marotte assez bizarre : il voudrait
obtenir l’entreprise de construction du Métropolitain dont on
commence à parler. Des projets grandioses l’obsèdent, mais comme
le style lui manque aussi bien que l’orthographe, ce bourgeois
babylonesque me propose de lui écrire une brochure qu’il signera,
fera imprimer et distribuera aux conseillers municipaux, à tous les
sénateurs, à tous les députés. Il y aura un tirage de luxe destiné aux
« grosses légumes » tels que le préfet de la Seine, les ministres et le
Président de la République.
Mon Mécène me demande surtout du lyrisme et des phrases
pompeuses. Qu’à cela ne tienne, je lui servirai autant d’emphase
qu’il lui plaira. En huit jours, j’expédie la chose suivant les notes
informes qu’il m’a confiées. J’y ai fourré à foison toutes les couleurs
de l’arc-en-ciel et de l’érudition pillée dans les dictionnaires
techniques — voire des citations cueillies dans les Fleurs du Mal,
entre autres, cette apostrophe à la grand’ville :

Fourmillante cité, cité pleine de rêves


Où le spectre, en plein jour, raccroche le passant…

et ce distique :

Et le sombre Paris, en se frottant les yeux,


Empoignait ses outils, vieillard laborieux.

L’impression produite fut extraordinaire. Lorsque, comme


possédé d’une fureur pindarique, j’eus déclamé cet étrange
dithyrambe au bonhomme, il se prit d’un tel enthousiasme qu’il me
compta mille francs, séance tenante. Or, nous n’étions convenus
que de cinq cents à payer en deux fois. Quel succès — et quelle
aubaine !…
On découvre ainsi quelquefois de ces bourgeois chez qui un
« poète mort jeune » ressuscite soudain, après qu’ils ont fait fortune,
pour s’extravaguer en conceptions délirantes. Ce n’est pas fréquent,
mais cela se rencontre. Et ma bonne étoile m’avait amené l’un d’eux.
Je déniche d’autres tâches moins lucratives mais encore
appréciables. Je rédige des fragments étendus de monographies sur
les métiers parisiens pour un compilateur qui, mal doué quant aux
facultés inventives, ne déteste pas de publier, sous son nom, le
travail d’autrui. Ce parasitisme lui rapporte, paraît-il, beaucoup et il
paie assez bien.
De passage à Paris, il m’arrive, flânant sur les quais de la rive
gauche, d’apercevoir dans les boîtes des bouquinistes quelqu’un
des volumes en question. Alors je ris dans ma barbe et je me
remémore, avec un certain attendrissement, cette période de ma
jeunesse où j’avais le droit de m’appliquer le Sic vos non vobis de
Virgile…
Je fais aussi des recherches à la Nationale pour un historien
amateur qui s’est imaginé de refondre, en les rectifiant, les Récits
mérovingiens, d’Augustin Thierry.
Je place, çà et là, sans trop de peine, des articles de reportage
pris dans des milieux picaresques et je les signe de divers
pseudonymes.
Pour mon labeur personnel, je n’en veux rien livrer à la publicité
tant que je ne serai pas sûr de mon instrument.
Je me romps au métier avec patience, avec persévérance.
Empruntant des livres à des amis, en achetant d’occasion,
fréquentant les bibliothèques, je me tiens au courant de l’actualité
littéraire. J’étudie les philosophies et l’histoire, surtout celle de notre
pays. J’aborde l’anglais — toutefois d’une façon superficielle. Je
m’imprègne de Dante, de Shakespeare, de Goethe, des Maîtres de
la littérature française au XVIe et au XVIIe siècle. Je fais du latin ; et je
constate que, malgré une interruption de cinq années, je n’ai nulle
peine à m’y remettre, ce qui est à l’éloge des méthodes
d’enseignement en usage dans l’Université, au temps de mes
études.
Je traduis, pour mon plaisir, le De rerum natura, de Lucrèce, et le
Satiricon, de Pétrone. — Tous ces travaux me forment un fond solide
de culture générale. Pour me récompenser moi-même de mon
activité intellectuelle, je versifie, je prosifie à outrance. Que de
poèmes j’ébauche qui ne réussissent pas à me satisfaire. Que de
romans rêvés à loisir, esquissés dans la fièvre, jamais amenés à
réalisation totale ! N’importe, je ne gaspille pas les heures ;
j’apprends à bien manier la langue et les rythmes. Tout cela servira
plus tard…
Cette formation solitaire a duré deux ans au cours desquels je
vécus entièrement détaché du monde. Ce n’est pas à moi de dire si
ce travail d’assimilation et de préparation m’a profité.
Au commencement de 1889, je publiai mon premier livre. C’était
un recueil de vers qui me fit classer parmi les poètes de l’école
symboliste. A la même époque, je descendis de ma mansarde pour
m’installer en un autre logis, en plein quartier du boulevard Saint-
Michel et pour nouer des relations avec quelques-uns des initiateurs
de ce mouvement littéraire : Moréas, Paul Adam, Gustave Kahn,
Henri de Régnier, Stuart Merrill, etc. Je collaborai au Mercure de
France, qui est devenu, sous la direction judicieuse d’Alfred Vallette,
le meilleur périodique de notre temps avec la Revue universelle ; à la
Plume, disparue, où je fis la critique des livres pendant six ans ; à
l’Ermitage, disparu, dont j’assumai, un peu plus tard, le
gouvernement avec René Boylesve et Henri Mazel.
Ces trois revues étaient, au même degré, idéalistes et
combatives. On y guerroyait surtout pour la liberté du vers et contre
le naturalisme. On y martelait d’immuables têtes-de-Turc : Zola pour
toute son œuvre ; Sully-Prud’homme pour son didactisme visqueux ;
Doumic qui, incarnant le Rien-en-Soi, prétendait nous morigéner ;
Brunetière, à cause de son pédantisme pseudo-classique et de ses
diatribes ineptes contre Baudelaire… d’autres encore, tout à fait
oubliés depuis les cinq premières minutes qui suivirent leur décès.
Je ne parlerai pas longuement du symbolisme. Je l’ai fait dans de
nombreux articles et dans deux ou trois volumes où, si je ne me
leurre, ceux qui entreprendront son histoire complète trouveront des
renseignements exacts. Je n’en rédigerai donc qu’un résumé assez
bref où je m’efforcerai de noter impartialement le bien et le mal qu’il
produisit dans les lettres françaises à la fin du XIXe siècle et au
commencement du XXe.
D’abord le mal.
Un accueil trop complaisant aux influences étrangères. Au
détriment de la tradition nationale, on exaltait, sans mesure, Ibsen,
Tolstoï, Schopenhauer, Nietzsche. L’apologie de ces Barbares allait
souvent jusqu’à l’extravagance. Encore, chez nous, Français,
l’engouement pour ces deux derniers s’expliquait jusqu’à un certain
point : ils réprouvaient le germanisme et se manifestaient tout
pénétrés de culture latine. Mais le Norvégien et le Russe, quels
génies fumeux remâchant les thèses les plus éculées du
romantisme, quels dissolvants dans une brume corrosive, leurs
doctrines !
C’étaient, les dieux de la Revue blanche, périodique inspiré,
subventionné, enkahalé par des Juifs polonais qui menaient de front
les opérations de Bourse et les menées anarchistes. Diverses tribus
hébraïques opéraient en cet endroit : les Bernard Lazare, les Cohen,
les Léon Blum, les Ular, sous une trinité de Natanson.
Henri de Bruchard a, naguère, fort bien décrit ce milieu. Il a
croqué sur le vif « ces juifs boursiers, assoiffés de boulevard, portant
dans les lettres, avec de fausses apparences de mécénat, ce goût
malsain de parodier et de parader qui est le propre de leur nation
haïssable. Ils traînaient derrière eux toute une équipe de ghetto dont
ils infligeaient le style, les images, les dégénérescences à une
jeunesse, sans guides, sans appuis, que l’anarchie littéraire attirait
en réaction contre les bassesses et les médiocrités de la salonnaille
opportuniste ou radicale. Telle était cette officine où les esthètes
coudoyaient les usuriers et les lanceurs de bombe où se tutoyaient
et s’associaient bookmakers et auteurs dramatiques ».
De Bruchard donne ensuite un aperçu fort véridique du salon des
Natanson : « Chaque jour, ils s’attachaient à couvrir d’un mauvais
vernis boulevardier la crasse importée du Ghetto de Varsovie. Ne
s’avisaient-ils pas de protéger les peintres ! On devine quelle
peinture était prônée par ces affolés de modernisme. Ils se lançaient
aussi dans leur monde et donnèrent des soirées. Ce fut même assez
comique. Évidemment, on ne pouvait avoir d’emblée l’élite
parisienne. Aussi se contentait-on de la famille Mirbeau et de Marcel
Prévost. Puis, pour faire nombre, quelques gens de lettres naïfs et,
obligatoirement, les collaborateurs de la revue…
« Paris s’amusa fort des glorioles que les Natanson affichaient.
Dès leur second bal, la Pologne délégua tous ses Juifs, traducteurs
de romans étrangers, rédacteurs d’agences de presse allemandes,
correspondants des gazettes sémitiques. Puis apparut l’armée des
traducteurs. Un vol d’Anglais, d’Américains, de Suédois, de Danois,
de Teutons s’abattit sur nos libraires. Dans la presse, c’était l’âpre
concurrence des petits juifs, si humbles la veille, la monopolisation
du théâtre, le boycottage pour tout ce qui portait un nom
français [8] . »
[8] Henri de Bruchard : Petits Mémoires du temps de
la Ligue, 1 vol. à la Nouvelle librairie nationale. — Henri
de Bruchard aurait pu ajouter que parmi les gloires de la
firme Natanson, il y avait Nordau, juif-boche qui venait de
traîner dans la boue la littérature française, et Brandès,
juif-danois qui, pendant la guerre, exalta le
pangermanisme et insulta notre pays.

Voilà qui est fort bien dit. Toutefois, il faut émettre la restriction
que nous, symbolistes d’origine française, nous nous cantonnions
sur notre chère Rive Gauche et que nous ne nous laissions pas
contaminer jusqu’aux moelles par les miasmes d’outre-Rhin et du
Ghetto. Pour ma part, je n’ai jamais mis les pieds dans les salons
Natanson, et c’est tout au plus si j’ai donné deux fois de la copie à
leur revue.
Mais il est vrai que nous faisions beaucoup trop facilement un
sort aux produits de l’étranger. Plusieurs métèques abusaient de
notre courtoisie pour prendre des airs arrogants vis-à-vis de nous.
L’un d’entre eux, venu du Wisconsin ou du Connecticut, en trois
bateaux, pour réformer la prosodie française, se distingua par son
outrecuidance. Ce n’est pas la peine de le nommer ; ses
élucubrations, sans rythme, ni rimes ni raison, n’ont jamais réuni
qu’une douzaine de prosélytes obscurs. Et nul ne se souvient de son
passage dans nos revues.
Un autre défaut des symbolistes, c’était un individualisme si
accusé, si ombrageux qu’il en résultait que chacun suivait sa voie
sans adhérer à une doctrine commune. Nous savions ce que nous
ne voulions pas ; nous ne savions pas trop ce que nous voulions.
Au point de vue de la technique, tous s’appliquaient à libérer le
vers des chaînes excessives dont les Parnassiens l’avaient
surchargé. Mais où l’on n’était plus d’accord, c’était sur les limites

You might also like