Professional Documents
Culture Documents
الفارابي
الفارابي
نظرية الفارابي
أول رّد فعل فلسفي قائم على ُأسس عقلية يدحض فيها ركائز التيار اإللحادي داخل المجتمع
اإلسالمي ،جاء على يد أبي نصر محمد الفارابي ( 339-257ه 950-870/م) ،إذ تصدى
له ،وجابهه بقوة عقلية خالصة ،من دون أن يعتمد على نصوص النقل من آيات القرآن أو
األحاديث النبوية ،وبذلك كان عمله بمستوى الحجة ،التي استند إليها جماعة المالحدة في
.جدالهم وأفكارهم
وفي نظريته التوفيقية بين الدين والفلسفة ،يرى الفارابي أن النبوة ليست أمرًا خارقًا يعلو
فوق الطبيعة العادّي ة ،وإنما هي مجّر د ظاهرة مثل باقي الظواهر الطبيعَّي ة األخرى .فالنبي
.إنسان بلغت قوته المتخيلة درجة الكمال ليس إال
وفي كتابه "المدينة الفاضلة" ،يشير الفارابي إلى أن "القوة المتخيلة" إذا كانت في إنسان
ّم ا قوَّي ة كاملة ،وكانت المحسوسات ،التي ترد عليها من خارج ال يستولي عليها استيالء
يستغرقها بأسرها ،وال تسخرها للقوة الناطقة وحدها ،بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل
كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها ،وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة
مثل حالها عند تحّللها منهما في وقت النوم – أقول :إذا حصل ذلك إلنسان ّم ا ،في قوتيه
الناطقة والمتخّي لة ،كان هذا اإلنسان هو الذي ُي وحى إليه بواسطة العقل الفّع ال ،إذ يتلقى
صاحبها في يقظته الجزئيات الحاضرة والمستقبلَّي ة ،أو محاكياتها من المحسوسات ،ويتلقى
محاكيات المعقوالت المفارقة وسائر الموجودات الشريفة في العالم األعلى ،ويراها معاينة
فيكون له بما تلقى من المعقوالت نبوة باألشياء اإللهية ،وإنذار بما سيكون وإخبار بما هو
كائن من الجزئيات .فهذه هي أكمل المراتب ،التي تنتهي إليها القوة المتخّي لة ،وأكمل المراتب
.التي يبلغها اإلنسان بقوته المتخيلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.الفارابي دراسة نصوصه ،جوزف الهاشم ص( ) 138 ،137
:ويمكننا أن نوجز مراحل هذه النظرية على الشكل التالي
تتصل القوة أعاله بالعقل الفّع ال (وهو كرة القمر حيث الفيض الفردي للعقول عبر الفيض 2-
.اإللهي لها) ،فتنعكس عليها صّو ر كمالَّي ة
.تعود تلك الصّو ر الكمالَّي ة لترتسم في الحواس الخمس المشتركة 3-
يمكن للقوة الباصرة ،بعد ذلك ،من مشاهدة الصّو ر اإللهية والوحي على حالتها الراقية 4-
.وحقائقها الشريفة من دون فاصل أو حجاب
إرجاع عكسي لهذه الصّو ر العلوَّي ة لترتسم في القوة الباصرة ،ثم انعكاسها على الحاّس ة 5-
.المشتركة ،ومنها إلى القوة المتخّي لة
وبهذه القوى ،المتصلة مع بعضها البعض ،يكون هناك انشداٌد كلٌي نحو العقل الفّع ال6- ،
.فيكون استقبال الوحي السماوي
هكذا هو رأي الفارابي الفلسفي في تفسير النبوة .فالنبي إنسان ،وهبه هللا وخصه في مخيلة
ذات قوة هائلة لكي يكون بمقدوره االطالع على ّم ا في اّللوح المحفوظ ،وأن تكون له صله
.بالعالم العلوي ،في مختلف الظروف واألوقات
فاإلنسان ،كما جاء في كتابه "السياسة المدنية" ،إنما يوحى إليه إذا كان لم يبق بينه وبين
العقل الفّع ال واسطة ،فإن العقل المّن فعل يكون شبه المادة والموضوع للعقل المستفاد ،والعقل
المستفاد شبه المادة والموضوع للعقل الفّع ال ،فحينئذ يفيض من العقل الفّع ال على العقل
المّن فعل القوة ،التي بها يمكن أن يقف على تحديد األشياء واألفعال وتسديدها نحو السعادة.
فهذه اإلفاضة من العقل الفّع ال إلى العقل المّن فعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى القوة المتخّي لة
هو الوحي ،الذي ّم ا يفيض منه إلى العقل المّن فعل يكون حكيمًا فيلسوفًا ومتعقًال على التمام،
وبما يفيض منه إلى القوة المتخّي لة يكون نبيًا منذرًا بما سيكون ،ومخبرًا بما هو كائن اآلن
.من الجزئيات .وهذا اإلنسان هو في أكمل المراتب اإلنسانية وفي أعلى درجات السعادة
معنى هذا ،أن مصدر المعرفة هو واحد لكل من النبي والفيلسوف ،إذ كالهما يتلقى معارفه
من "العقل الفّع ال" .بيد أن الفرق فيما بينهما ،أن النبي يتلقى الحقائق عبر قوته المتخّي لة،
بينما الفيلسوف يستلم معرفته باعتبارها حقائق خالية عن قوة متخّي لة .وحسب رأي
الفارابي ،أن الفيلسوف ال يحتاج إلى القوة المتخّي لة ،ألنه يسعى ويكافح بالعقل الفردي له،
لكي يكشف سبر غور المعارف .أَّم ا النبي فيحتاج لها نظرًا لمخاطبته إلى العامة من الناس،
.وهؤالء يستهويهم االستعارات والتشبيه من خالل الصّو ر المادَّي ة المحّس وسة
صحيح أن الفارابي أقَّر بمنزلة النبي ،كونها أعلى وأكمل من منزلة الفيلسوف ،إال أن تفسيره
العقلي الذي أرضى به الفلسفة ،ال ُي رضي الدين ،ألنه قد جعل النبوة مقتبسة إلنسان ّم ا أكثر
من كونها اصطفاء إلهي خاص .وهذا التقريب أو التوفيق بين الدين والفلسفة ،التي امتازت
بها الفلسفة اإلسالمية تأثرًا باألفالطونية المحدثة .لكن هذا ال يمنع من القول ،أن الفارابي
تناول مسألة معقدة وحساسة ،أال وهي نظرية النبوة ،التي لم يتطرق إليها أي فيلسوف من
َقبله .بل أن هذه النظرية ،التي جاءت ردًا قويًا على التيار اإللحاديُ ،تعّد أجمل عرض عقلي
.ألكبر فالسفة اإلسالم قاطبة
فقد اعتنق الفارابي نظرية أرسطو في األحالم ،وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة
من نتائجها .والبد أن يكون قد لوحظ في التفاصيل والجزئيات تشابه واتصال أكثر من هذا
بينه وبين الفيلسوف اليوناني ،فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في
تكوين األحالم وتشكيلها ،ويرى كذلك أن للطبائع واألمزجة دخًال كبيرًا فيها ،وكل تلك أفكار
.رددها أرسطو ،من قبل
إال أن صاحب ( اللوقيوم ) ــ أرسطو ــ يجهد نفسه دائمًا في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات
الدينية والتعليالت القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة ،ونزعة الواقعية تغلب عليه في
دراساته النفسية ،كما استولت عليه في بحوثه الطبيعية واألخالقية ،لهذا نراه يرفض أن
تكون الرؤى وحيًا من عند هللا ،واليقبل مطلقًا التنبؤ بواسطة النوم .ألن األحالم ليس
مقصورة على طائفة دون أخرى ،وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن
.هذا الطريق ،وهذا اليسلم به أحد
وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن اإلنسان يستطيع بواسطة مخيلته اإلتصال بالعالم
العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي … وإذن متى توفر لدى
شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار والليل ،وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل
.بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم ،بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل
فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على اإللهامات السماوية
في مختلف الظروف واألوقات ) 1 ( .
من يدعي أن خوارق األنبياء من اإلخبار بالغيب ،إنما هي من قوى النفس فهو اليخلو من
أمرين :إما أن يكون مصدقًا للرسل فيما أخبروا به ،وإما أن يكون مكذبًا لهم .فإن كان
.مكذبًا لهم كان الكالم معه أوًال في تثبيت النبوات واإلقراربها
وهؤالء الفالسفة وأتباعهم من الباطنية يعظمون أمر األنبياء ويقرون بصدقهم ،ويدعون أن
ماجاءت به األنبياء اليناقظ أصول الفلسفة ،أي أنهم يتفقون مع سائر أهل الملل على أن
األنبياء من أعلم الخلق بالحقائق ،ومن أبر الناس وأصدقهم .ومن المعلوم أن الرسل
أخبرت بالمالئكة والجن .وأنهم أحياء ناطقون ،وأنهم يأتون بأخبار األمور الغائبة ،وأنهم
يفعلون أفعاًال خارجة عن قدرة البشر ،فيلزم إذن التصديق بكل ما أخبرت به الرسل .ولكن
الفالسفة متناقضون في أمر النبوات ،فالهم كذبوا بهم مطلقًا ،والصدقوهم مطلقًا ،فهم
.يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض
وإذا كان الوحي كما يزعم الفالسفة تخيًال في نفس النبي ،وليس له وجود في الخارج ،
فحينئذ يكون النبي من آحاد المسلمين ،الذين يرون في المنام أنهم في السموات ،وأن
المالئكة خاطبتهم ،ونحو ذلك مما يراه عامة الناس ،وإذن فال يكون للنبي منزلة خاصة ( .
)2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.الصفدية ،ابن تيمية ،ص( 193 /1ـ)216 /2
من المعلوم أن تأثير النفوس مشروط بإرادة هذه النفوس وشعورها ولكن خوارق العادات
التي لألنبياء منها مااليكون للنبي شعورًا بها ،ومنها مااليكون مريدًا لها ،فال يكون ذلك من
فعل نفسه .بل ومنها ما يكون قبل وجوده ،ومنها ما يكون بعد موته ،مثل ذلك قصة
أصحاب الفيل الذين أرسل هللا عليهم طيرًا أبابيل ،وكان ذلك كرامة للنبي ــ صلى هللا عليه
وسلم ــ وكان عام الفيل عام مولده وقد حدثت هذه الكرامة قبل مولده بنحو خمسين ليلة ،
فلم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ،والشعور بما جرى وال إرادة له في ذلك .وكذلك كان
بقاء الكعبة ألوف السنين بعد موت من بناها كرامة إلبراهيم الخليل عليه السالم ( ) 1
أن تعرف أن النبوة التنال باكتساب اإلنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين
المكتسب ،فإن هؤالء القوم ماقدروا هللا حق قدره ،والقدروا األنبياء قدرهم لما ظنوا أن
اإلنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصالحها فاض عليه بسبب ذلك المعارف
من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرآة المصقولة إذا جليبت وحوذي بها الشمس ،
وأن حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه هللا بمشيئته وقدرته ،وإنما حصول هذا الفيض على
.هذا المستعد كحصول الشعاع على هذ الجسم الصقيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.الصفدية ،ابن تيمية ،ص()229