Professional Documents
Culture Documents
الرغبة والإرادة. العدي
الرغبة والإرادة. العدي
تحليل ومناقشة نص باروخ اسبينوزا (ص 32من كتاب اآلداب والعلوم اإلنسانية وص 35من كتاب
الشعب العلمية):
تأطير إشكالي للمحور والنص:
ترد اإلرادة بمعنى التصميم الواعي للشخص على تنفيد فعل معين ،وهي شوق الفاعل إلى الفعل إذا فعله
كف عنه الشوق وحصل له المراد وترتبط اإلرادة بالحرية ذلك أن الشخص يتحدد بكونه ذاتا حرة انطالقا
من إرادته الخاصة التي هي حسب ديكارت القدرة على االختيار في أن يفعل الشخص الشيء أو ال يفعله
استنادا إلى عقله دون خضوع ألي شكل من أشكال الضغوطات الخارجية .كما أن لإلرادة وشائج وثيقة
مع الرغبة ،فالكائن يسعى باعتباره ذاتا مريدة نحو امتالك موضوع رغبته .فهل الرغبة اإلنسانية ميل
ذاتي توجهه إرادة الشخص؟ أم أنها مجرد استجابة النفعاالت نفسية الشعورية ولمحددات خارجية
تتجاوز قدرة هذا الشخص؟
أفكار النص والعالقة الوظيفية بين مفاهيمه :
انتقد باروخ اسبينوزا في كتابه "علم األخالق" الفالسفة والمفكرين الذين عالجوا االنفعاالت اإلنسانية من
جهة كونها أمورا متعالية على الطبيعة ،فاإلنسان حسبه جزء من الطبيعة وينفعل بسببها ،وكسائر
الموجودات إنما تتحدد ماهيته في السعي المتواصل نحو االستمرار في الوجود وحفظ ذاته ،فكل شيء
يسعى بقدر ماله من قوة إلى االستمرار في كيانه ،وال يعدو الجهد الذي يبدله الشيء من أجل البقاء غير
ماهية هذا الشيء الفعلية.
وفي حديثه عن النفس يذهب اسبينوزا إلى القول بكونها تكون فاعلة في بعض األمور ومنفعلة في أخرى،
فهي تكون فاعلة استنادا لكونها تملك أفكارا تامة ،وتكون منفعلة بالضرورة بوصفها تملك أفكارا غير
تامة.
األفكار التامة :هي األفكار التي يعي اإلنسان ماهيتها وعللها بشكل واضح ،واألفكار غير التامة هي :
تلك المختلطة والتي تشوش على نفس االنسان من حيث كونه ال يعي عللها الحقيقية بل يعي فقط عللها
الجزئية والغائية.
ال يقيم صاحب النص أي فصل جذري بين الشهوة والرغبة فكالهما يحفزان الفعل اإلنساني ،والرغبة
من منظوره شهوة مصحوبة بوعي ذاتها ،فالكائن الراغب من حيث كونه يرغب ويشتهي أمورا بعينها له
وعي برغبته وسعيه ويتصرف انطالقا من إرادته الخاصة
فلإلنسان قدرة على االختيار بين أمور عدة ،وعندما يتخيل شيئا ما على أنه ضروري لحياته فهو يثبت
وجوده وبالعكس ينفي وجوده عندما يتخيل أنه ليس ضروريا.
ويری اسبينوزا أننا ال نرغب في األشياء لكوننا نعتقد أنها طيبة في ذاتها ،بل نعتبرها طيبة لكوننا نرغب
فيها ونسعى إليها .ويترتب عن هذا أن الرغبة هي من يخلق تصورنا حول األشياء باعتبارها متجذرة في
طبيعتنا وتدفعنا بموجب انفعال ما إلى فعل شيء ما ،فاألشياء ال قيمة لها في حد ذاتها ،ووحده اإلنسان
انطالقا من رغبته من يمنحها القيمة.
ومنه فصاحبنا يؤكد على كون الرغبة هي عين ماهية اإلنسان ،وأساس وجوده ويربطها بالوعي
واإلرادة ،إال أنه يعتبر أن وعي اإلنسان برغباته ،ال يعني بالضرورة وعيه بعللها وأسبابها الحقيقية.
يتحتم علينا إذن معرفة ما تتصف به طبيعتنا من عجز ،مثلما يتحتم علينا معرفة ما تتصف به من قوة،
حتى نتمكن من تحديد ما يستطيعه العقل وما ال يستطيعه من قهر لالنفعاالت ومنه فاسبينوزا وبالرغم من
تأكيده على جهل اإلنسان بعلل رغباته إال أنه ال ينفي إمكانية معرفته وإلمامه بهذه األسباب ،فمتى أدرك
جهله هذا فإنه بالضرورة سيسعى إلى تجاوزه وبناء معرفة حول ذاته والعالم من حوله.
أطروحة النص:
الرغبة هي عين ماهية اإلنسان ،وهي نابعة من إرادته من حيث كونه يسعى نحو تحقيقها انطالقا من
وعيه الخاص إال أن وعيه برغباته ال يعني وعيه بعللها الحقيقية.
البنية الحجاجية للنص:
ألف باروخ اسبينوزا كتاب "علم األخالق" وضمنه أفكاره معتمدا على أسلوب التحليل الرياضي –
الهندسي ،حيث نجده ينطلق من تعريفات دقيقة للمفاهيم وبديهيات ثم يمر للبرهنة على القضايا ،وغرضه
من هذا الحرص على طلب الوضوح بما هو مطلب فلسفي بامتياز .واستهل نصه هذا المقتطف من "علم
األخالق" بتحديد ماهية النفس ،وإعطاء تعريفات لمفاهيم اإلرادة والشهوة والرغبة وتحديد العالقة التي
تربطها بالنفس (حجة التعريف) .وقد زواج في تحليله بين اإلثبات واالستنتاج ،ويظهر هذا في النص
انطالقا من مجموعة من المؤشرات اللغوية ) ولما كانت النفس .فهي إذن إذا تعلق هذا الجهد ...فالشهوة
ليست إذن ،لقد غدا من الثابت إذن).
وفي األخير قدم مثاال توضيحيا (مثال السكن بين من خالله أن اإلنسان بما هو رغبة في الوجود يعي فقط
رغبته المتمثلة في السعي نحو األشياء إال أنه يجهل األسباب األولى والخفية التي توجهها.
+مناقشة النص قيمة النص واالنفتاح على تصور التحليل النفسي):
تتجلى قيمة النص في تعريفه لإلنسان انطالقا من الرغبة اإلنسان كائن راغب وعرضة للشهوات
واالنفعاالت وتحديد ماهيته وربطها بطبيعته األصلية .وبهذا يكون صاحبه قد تجاوز التصورات الفلسفية
التقليدية ،التي كانت تحصر ماهية اإلنسان في البعد العقلي المتعالي عن الطبيعة .كما تكمن أهمية أطروحة
صاحب النص في التنبيه إلى وجود دوافع وانفعاالت خفية ومجهولة من طرف الذات ( غريزية وطبيعية،
وهي الدوافع التي سيثبت فرويد تحكمها في البنية النفسية للفرد انطالقا من أعماله اإلكلينيكية ،وسيذهب
إلى القول هو وجاك الكان من بعده بأن الرغبة اإلنسانية ال تعبر عن إرادة الشخص مادام هذا األخير ال
يتصرف انطالقا من وعيه الخاص ولكن تحت تأثير الالشعور الذي له بنية نفسية ال سلطة للذات عليها.
فالرغبة حسبهما نشاط الشعوري يعمل على تحويل اللذة المتعذر تحقيقها على أرض الواقع نتيجة تعارضها
مع المعايير األخالقية وأعراف المجتمع ،إلى منطقة الالشعور أو العقل الباطن.
وبرجوعنا إلى صاحب النص اسبينوزا نجده يعتبر أن للنفس قدرة على السيطرة على انفعاالتها ،وندرك
من خالل هذا أن الجهل بالذات وبالعالم الخارجي هو الذي يجعل اإلنسان تحت نير شهوته وانفعاالته ،في
حين أن الذي يمتلك المعرفة فاالضطراب لن يعرف إلى قلبه منفذا وسينعم براحة النفس ،ومنه فاألول تقوده
رغبته الالعاقلة نحو العبودية بينما الثاني يعيش في كنف الحرية كنتيجة ضرورية لمعرفته ،فتكون بالتالي
رغبته مرتبطة بالفضيلة وال تطلب إال ما هو خير ومفيد لذاته ولبقية الناس من حوله.
استنتاج عام :
يمكن القول انطالقا مما سبق أن الرغبة هي ما يشتهيه اإلنسان ،ويبذل جهدا في سبيل تحقيقه وامتالكه.
وقد تكون هذه الرغبة نابعة من صميم إرادة الشخص ووعيه الخاص ،كما قد تمارس نشاطها داخل منطقة
الالشعور ،تحت تأثير االندفاعات الجنسية والضغوطات النفسية التي تنفلت من سلطة الذات ووعيها .وهذه
المفارقة الحاصلة على مستوى الرغبة التي قد تكون وليدة اإلرادة أو ضدها ،هي مفارقة يمكن تفسيرها
استنادا إلى الطابع المركب للذات اإلنسانية المنقسمة على نفسها ،فهي نفس وجسد ،عقل وغريزة واعية
وعرضة لالنفعاالت حرة ومريدة وخاضعة للحتمية في نفس الوقت.