Professional Documents
Culture Documents
مجزوءة المعرفة
مجزوءة المعرفة
تقديم
يتميز اإلنسان عن كائنات أخرى بكونه ال يكتفي فقط بأن يعيش ،وأن يكون موجودا فقط ،وإنما يسعى أكثر من ذلك إلى محاولة معرفة هذا الوجود في كل أبعاده،
وذلك لكونه كائنا ممتلكا لملكة المعرفة.
والمعرفة من حيث التعريف هي ذلك النشاط أو تلك الفعالية العقلية التي تمارسها الذات العارفة بطريقة منظمة من أجل الوصول إلى موضوع المعرفة وإدراكه
وفهمه.
ويثير موضوع المعرفة باعتباره مبحثا فلسفيا قضايا كثيرة للنقاش ،من بينها تلك التي تتعلق بالنظرية والتجربة ،وبالحقيقة...
مفهوم النظرية
مقدمة
إن العالم حينما ينجز معرفة بظاهرة ما أو واقعة ما ،فإنه يستطيع بعد حصول الفهم واإلدراك بناء نظرية علمية .والنظرية العلمية هي ذلك البناء أو النسق من
األفكار المترابطة والمنظمة حول ظاهرة ما والتي تمكن من وصف هذه الظاهرة أو تفسيرها أو التنبؤ بها.
ومن بين أهم اإلشكاالت التي يثيرها موضوع النظرية ذلك المتعلق بكيفية بنائها ،خصوصا أن النظريات العلمية التي يكون موضوعها هو الطبيعة تتأرجح بين
عنصرين اثنين وهما العقل والواقع ،لذلك ينبغي التساؤل عن أيهما يعتبر أساسا لذلك البناء .هذا من جهة ،ومن جهة ثانية ،التساؤل حول طبيعة العقل الذي ينتج
المعرفة العلمية .وأخيرا التساؤل حول المعايير التي يمكن من خاللها التمييز بين نظرية علمية وأخرى غير علمية.
مفهوم الحقيقة
مقدمة
لعل مفهوم الحقيقة أهم موضوعات الفكر الفلسفي ،فما التفكير الفلسفي ذاته غير بحث ال يتوقف عن الحقيقة ،فمنذ ظهرت الفلسفة وحتى اآلن كان هاجس الفالسفة
األهم هو البحث عن الحقيقة .غير أن الحقيقة كمفهوم توجد متاخمة لمفاهيم أخرى كالرأي ،مما يدفع إلى طرح تساؤالت بخصوص العالقة بينهما .أضف إلى ذلك
أن تمييز الحقيقة عن غيرها يتطلب وجود معايير تسمح بهذا التمييز ،خصوصا وأن عملية بناء الحقيقة تقوم على ثنائية الذات (العاقلة) والموضوع (المادي) .وإذا
كان اإلنسان يرغب في الحقيقة فينبغي البحث فيما كانت هذه الرغبة خالصة أم من أجل منفعة ما.
المحور األول :الحقيقة والرأي
اإلشكال :ما عالقة الحقيقة بالرأي؟ وهل يوجد فرق بينهما؟
موقف كانط :الحقيقة بناء يتأسس على الحساسية والفهم
يقول كانط " :فالرأي تصديق يعي عدم كفايته ذاتيا وكذلك موضوعيا ( ،)...وعندما يكون التصديق كافيا ذاتيا وكذلك موضوعيا يسمى علما (حقيقة)".
يتبين من خالل هذا القول أن صاحبه يميز بين الحقيقة و الرأي ،ذلك أن الرأي ال يقنع ال ذاتيا و ال موضوعيا ،أي أنه ال يقنع ال صاحبه و ال اآلخرين .ولعل
السبب في ذلك هو أنه مجرد انطباع شخصي حسي يتسم بالتسرع والتلقائية ،ويكون سطحيا وعبارة عن معطى جاهز ال يخضع لتفكير متعمق ونظر دقيق ...أما
الحقيقة فعلى العكس من ذلك ليست معطى جاهز ،بل هي عملية بناء .وتبنى الحقيقة حسب كانط من خالل عملي عنصرين اثنين وهما :الحساسية والفهم.
فالحساسية تقدم لنا الجانب المادي للمعرفة والحقيقة ،باعتبار الحساسية هي قاب ليتنا لتلقي معطيات الوسط الخارجي عبر الحواس .أما الفهم فهو قدرتنا على المعرفة،
هذه القدرة التي تعطي لمادة المعرفة صورتها الحقيقية.
موقف ديكارت :الحقيقة بناء عقلي خالص وتجاوز للرأي
يميز ديكارت بدوره بين الحقيقة والرأي ،وذلك من خالل التأكيد على أن الحقيقة تج اوز للرأي ،ألنه غالبا ما يكون مكتسبا اعتمادا على المعرفة الحسية الخادعة.
أما الحقيقة فهي بالمقابل بناء عقلي منهجي منظم يقوم على الشك وعلى أساسين وهما :الحدس واالستنباط ،ومن خالل القواعد األربعة :البداهة ،التحليل ،التركيب،
والمراجعة واالحصاء ...هكذا فالحقيق ة ليست معطى جاهزا أو انطباعا حسيا ،بل هي بناء منهجي عقلي يتأسس على الشك الذي يهدف في نهاية المطاف إلى
التخلص من اآلراء باعتبارها معارف ومكتسبات حسية جاهزة.
المحور الثاني :معايير الحقيقة
اإلشكال :ما معيار الحقيقة؟ وعلى أي أساس يمكن تحديدها وتمييزها عما ليست إياه؟
موقف ديكارت :معيار الحقيقة هو الوضوح والتميز
يعتقد ديكارت بأن معيار الحقيقة هو الوضوح والتميز ،وهذا معناه أن األفكار الحقيقية هي تلك التي تكون واضحة ومتميزة .واألفكار ال تكون واضحة ومتميزة إال
إذا كانت بسيطة ال تحتاج إلى إيضاح وال تختلط في الذهن مع أفكار أخرى .وهذا شرط ال يتوفر في األفكار إال إذا كانت بديهية ال يرقى إليها الشك .واألفكار التي
ال تقبل الشك هي تلك التي تدرك مباشرة بواسطة الحدس .إذن للتمييز بين الحقيقة وما ليس حقيقة ينبغي أن يكون المعيار هو الوضوح والتميز .فالحقيقة هي كل ما
هو واضح ومتميز وال يرقى إليه الشك ألنه معرفة حدسية مباشرة.
موقف اليبنتز :معيار الحقيقة هو البرهنة
يقول اليبنتز " :لقد سبق أن أشرت إلى ضعف القاعدة الشهيرة ...وهي أال أقبل سوى األفكار الواضحة والمتميزة ...إن القواعد التي دافع عنها أرسطو وعلماء
الهندسة أكثر أهمية من السابقة ،مثال ذلك أال نقبل أي شيء ما لم يكن مبرهنا بشكل سليم".
يتبين من خالل هذا القول انتقاد واضح لديكارت ،ألن اعتماد قاعدة الوضوح والتميز يتسم بالضعف .فاألفكار الحقيقية ليست هي األفكار الحدسية ،وإنما تلك التي
تمت البرهنة عليها ،واألفكار ال تكون واضحة ألنها ت درك حدسيا ،بل تصبح واضحة عندما تتم البرهنة عليها .وهكذا فالفكرة ال تكون حقيقية إال إذا أقيم عليها
البرهان وتم إثباتها عبر قواعد المنطق السليم ،ومن خالل مبادئ العقل والتفكير .لذلك يستشهد اليبنتز بأرسطو باعتباره واضع علم المنطق ،كما يستشهد بعلماء
الهندسة على اعتبار أنهم علماء رياضيات يشتغلون وفق منهج برهاني يقوم على االستدالالت المنطقية.
المحور الثالث :الحقيقة بوصفها قيمة
اإلشكال :على أي أساس تقوم الحقيقة؟ وهل هي غاية في ذاتها أم أنها وسيلة؟
موقف وليام جيمس :قيمة الحقيقة نفعية
يعتقد وليام جيمس أن للحقيقة قيمة نفعية ،وذلك ألن الحقيقة ليست فكرة ،بل هي ما يترتب عن هذه الفكرة من نتائج مؤثرة في الواقع .وفي هذا السياق يمكن
استحضار قوله الشهير " الحقيقي هو المفيد عمليا" .أي أن الحقيقة ال تكتسب قيمتها إال عندما ترتبط باإلنجاز والممارسة والتأثير الذي يمكن التحقق منه عبر
تجارب واقعية تغير الحياة وتؤثر فيها .إن الحقيقة حسب هذا التصور ليست غاية في ذاتها ،بل هي وسيلة لتحقيق غايات أخرى ،شريطة أن تكون هذه الغايات
واقعية وملموسة ويمكن االنخراط فيها والمصادقة عليها .إن الحقيقة إنجاز عملي ومردودية ذات نفع وفائدة وحضور فعلي.
موقف كانط :قيمة الحقيقة أخالقية
إن قيمة الحقيقة ليست فما يترتب عنها ،إنما قيمتها في ذاتها ألنها غاية وليست وسيلة .إن قيمة الحقيقة حسب كانط هي قيمة أخالقية ،إنها واجب أخالقي .ويعنى
الواجب حسب كانط " :ضرورة انجاز الفعل – وهنا قول الحقيقة – احتراما للقانون" ،وهو قانون أخالقي يتميز بالكونية والكلية .ألنه ال يرتبط بأية مصلحة أو ميل
شخصي ،فهو يستحضر اإلنسانية ككل ،مهما كانت اإلكراهات والمصاعب ،فالكذب مثال ،حسب كانط ،ليس ضارا بشخص بعينه بل ضار باإلنسانية جمعاء ،لذلك
على اإلنسان أن يعمل بحيث يعامل اإلنسانية في شخصه وفي األشخاص اآلخرين كغاية وليس كوسيلة .كما أن الكذب عل شخص معين دليل على عدم احترامه
وعدم اإلحساس به بكرامته حيث ينظر إليه وكأنه غير أهل لمعرفة الحقيقة .هكذا يضفي كانط على الحقيقة طابعا أخالقيا يتشكل ضمن أبعاد قيمية مطلقة ،يجب
االلتزام بها ،من خالل اإلرادة الطيبة والسعي للفضيلة ومراعاة كرامة اإلنسان وإنسانيته.
تصور برغسون :قيمة الحقيقة في االستفادة من الواقع
يعتبر أن ربط الحقيقة بما هو نافع ومفيد سيسمح بارتكاب الشرور والمظ الم ضد اآلخرين إن كان في ذلك نفع وفائدة .لذلك سيسعى برغسون إلى تقديم بديل
للمفهوم التقليدي للحقيقة ،فالحقيقة عنده هي اختراع لشيء جديد وليست اكتشافا لشيء سبق وجوده ،فكما أن االختراع الصناعي يتقدم بفضل فائدته العملية فقط ،فإن
القضية الصادقة هي التي تزيد من س لطتنا على األشياء ،إننا نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود .إن الواقع بطبيعته عبارة عن تدفق من الظواهر التي هي ديمومة
منسابة ،وإصدار حكم على الواقع معناه تجميده وتثبيته ،ألن من طبيعة العقل التثبيت والسكون ،فالصادق لدى برغسون هو ما يجعلنا نحكم في هذا الواقع المتحرك
باستمرار ،فيوفر لنا أفضل الشروط للفعل والتأثير فيه.
خاتمة:
تميزت رحلة اإلنسان في البحث عن الحقيقة بصعوبتها وتعقيدها ،وهي رحلة لم ولن تنته .غير أن أهم ما ميز هذه الرحلة هو أن اإلنسان لم يستطع أن يصل بصدد
الحقيقة إلى نظرية شاملة وواحدة ،بل إن كل حديث ع نها يكون حديثا متوترا سواء تعلق األمر بطبيعتها كعملية بناء مستمر ،أو معاييرها أو قيمتها...
خالصة عامة:
يشكل موضوع المعرفة محطة أساسية ضمن مسار البحث الفلسفي ،إذ أنه يرتبط بأهم فاعلية إنسانية على اإلطالق .وتشكل موضوعة المعرفة العلمية في ارتباطها
بالحقيقة أر ضية خصبة لتناسل عدد من اإلشكاالت المتعلقة بمصدر المعرفة العلمية ومعايير الحقيقة فيها ،والمنهج المناسب للوصول إلى الحقيقة وقيمة هذه
األخيرة .ويسهم موضوع المعرفة في فهم كيفية بناء النظريات ودور كل من العقل والتجربة في ذلك ،إضافة إلى إدراك نسبية الحقيقة ،سواء تعلق األمر بالحقيقة
العلمية أو غيرها من أنواع الحقائق األخرى.